أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خليل فاضل - المَوَّال الحَزين















المزيد.....

المَوَّال الحَزين


خليل فاضل

الحوار المتمدن-العدد: 4462 - 2014 / 5 / 24 - 17:09
المحور: الادب والفن
    


قصة قصيرة لـ خليل فاضل ـ كُتبت عام 1968، نشرت في دمشق في مجلة الطليعة السورية 1971 ـ نشرت ضمن مجموعة (الطير يُهاجر إلى كون سرمدي)، الهيئة العامّة للكتاب ـ القاهرة 1986
-----------------------------------------------------------------------------------------------------------------
عارٍ تمامًا كما ولدتني أمي. واقفٌ بين جدران الحمَّام المظلم الضيق للغاية، المفتوح من أعلى، ذا باب متحرك. حمام معسكر أو معتقل أو ضمن حمامات سُكني جماعية.
كان الماء يندفع من الدُش في قوةٍ وصرير. ينساب على البلاط، ويتسرَّب في البالوعة المسدودة. أحرص بخوف على الابتعاد عن الماء. أتجنب بكل الجهد والقوة، إمكانية إغلاق جفني؛ فهذا يعني ضياعي.
بدأ الخوف يسيطر عليّ تمامًا. ثمة ظلالٍ ترتمي على المكان الهاديء، وصمتٍ قبري يرين على المكان. كلهم نائمون، وأبوابهم مغلقة عليهم، وكأنهم موزعون في توابيت منتظمة مغلقة عليها حجراتها.
تخلَّصت بسرعة من بقايا الصابون المتناثر فوق جسدي العاري. أغلقت الدُش (الرشاش)، واقتنعت تمامًا بأني قد هربت من ذلك الخوف الهائل، رغم الاصطدامات المرتعشة من لقاءات دقات قلبي المضطربة بالحوائط الضيقة المستطيلة.
ارتديت ملابسي على عَجَل. اتخذت زينتي تمامًا. تقدمت قافزًا فوق الدرج حتى بلغت منتهى السور المُقام. فتحت الباب في هدوء. لم يقلق الشرطي النائم الحالم الغبي داخل كشكه الخشبي الملاصِق للسور.
كان الشارع وقتذاك مضاءً بالمصابيح النيون البيضاء. كان مُتسعًا ونظيفًا. تشقه في الوسط حديقة مستطيلة متقطعة، وتمرق خلاله عربات آخر الليل المسرعة، التي تفوح منها روائح الانكسار البشري فوق الحافة الفضية للظلام اللامع. ظللت أسير برفق. صدري يرتَّج، وذكرى الخوف الرهيب تحت المياه داخل الحمام القبري تلاحقني. بدأت في تأليف الموال الريفي الحزين (سافر حبيبي من غير وداع...) بصوتي المشروخ وحلقي الملتهب أشق الفراغ، مقتنعًا تمامًا أنني أفضل مليون مرة من سيِّد البلابل وملك الكروانات، وأنني عديم الحظ، ولولاه لكنت ألمع مُغنِّ في الأوبرا العالمية.
كانت آثار الصداع لم تزل تدغدغني في سقامة، تقلقني وتحشرج من استرسال الموال الحزين. توقفت عن السير لدى محطة (المترو)، ووقفت أرقب شخصية كارتون صابون الغسيل الجديد (سافو). كان يرقص مبتسمًا فوق حافة الإعلان، وعلى رؤوس كل الناس بالمحطة، وكأنه مليك البلاد المحبوب المخلَّد وهذا أحد تماثيله المنتشرة. دارت مشادَّة عنيفة طرفاها مفتش المحطة وبعض الركاب المتذمِّرين، يتهم فيها المفتش الشعب بأنه شعب قواد، وأن الذين يستعجلون (المترو) عليهم أن يستعجلوا نساءهم قبلًا. كان من ضمن الجمع المنتظر (مِنجِّد) مع صبيانه، يتبادلون النكات البذيئة، ممسكون بمذياعٍ صغير مكسور وملصق من جميع جوانبه. امرأة حبلى عيناها منتفختان، وجهها متورد تبدو عليها أمارات الزيادة الهرمونية. ابن بلد سمين على أكبر احتمال أنه جزار. جلبابه الأبيض متسع يبدو واضحًا تحته سرواله. وأخيرًا.. أتي (المترو) متدحرجًا فوق القضبان، ثملًا، مُحتجًا مستكينًا بجوار الرصيف، تنفتح أبوابه في ملل تستقبل الجمع القافز في سرعة. الطريق عاد، و(المترو) يسير. وعند المحطة التي لم يرها أحد، انحنيت على أذن السائق بكلمة السر، فتوقف القطار، ومضيت أنا كالشبح... وهنا لم يلحظ الجزّار سوى معاينة اللحوم البشرية، السمينة البيضاء، وتعديل سرواله الساقط. المرأة الحامل كانت منشغلة بالحديث مع زوجِها، عن لفائف الطفل الجديد وكيفية الولادة. (المنجِّد) وصبيانه كانوا غارقين في الضحك أثر نكتة شديدة الفُجر، خدَّرتهم ولعبت برؤوسهم.
كقردةِ عجوز شمطاء، تساحق إحدى بناتها، بدت عربة (المترو) وهي تلُّم هذا الجمع، وهي تتوقف دون أن يحس أحد، وحيثُما كنتُ في الخارج، أيقنت أن السائق أيضًا لم يفهم ما قلته له، فلقد كانت كلماتي عادية، لكنه أصاخَ السمع، ونفذَّ الأمر وتمت المُهِّمة.
تقدَّمْت نحو قطعة الأرض الخراب المنبسِطة. لم يزل الظلام يلُّف الكون. نهايات أطراف لفافات التبغ المشتعلة، تبدو كلؤلؤاتٍ رخيصة فوق بساطٍ أسود. تقدَّمتُ أكثر نحو قطعةِ الأرض الخراب. علمتُ منذ لحظات أنني قد ورثتُها عن جدِّي الذي مات منذ زمن. كانت مُحتَجَزة لدى الأوقاف. تقدَّمْت أكثر حتى أصبحت وسطهم. كانوا قطعًا منحوتة من الظلام، ملامحها ضائعة تمامًا، يكوِّنون حلقة ناقصة. حيَّيْتهم بصوتٍ عال، فردُّوا في همهمةٍ متآلفة. مضيت أتحدث وأتحدث، وفمي يلوك الكلمات، ويسوق الحجج في سرعة، كأنني محام بارع يدافع عن قضية قتل مع سبق الإصرار. كانت الأرض الخربة ملكي. نعم بشهادة وزارة الأوقاف، ولدىّْ سندات وشهود. كانوا يستمعون إليّ في صمت. كانت تحديقاتهم رغم حلكة الظلمة، تخترقني وتترك فوق جلدي جروحًا تدمي. حاولت جاهدًا رؤيتهم، لكني لم أستطع أن أتبيَّنهم. سادت فترة صمتٍ وجيزة رهيبة، في إثرِها بدأ أحدهم بصوتٍ رفيع حاد يتكلم:
• هذه الأرض موجودة هنا منذ زمن. نحن ملاّكُها الحقيقيون بدون سندات وبدون شهود.
تلاه صوت ضخم خشن:
• ونحن تركناها خرابًا، وكان باستطاعتنا أن نبني فوقها كل ما يمكن بناؤه، لكن لغرض سرِّي لا يعلمه سوانا آثرنا أن تبقى خرِبة.
تلاه صوت متحشرِج منفعِل:
• إذا كنت تريد التحدِّي فقلها علنًا، ولا داعي للمحاورات.
أعقبه صوتٌ يجمع في نبرته كل نبرات السابقين:
• كن رجلًا وأعرِب عن وجهة نظرك في قوة.
أسقِط في يدي. ارتطام مياه الدش بوجهي في عنف، تجنبِّي إمكانية إغلاق عينيّ، تسرُّب المياه في البالوعة، مداهمات الحوائط المستطيلة تهاجمني، تمزقني تهلهلني، وأنا مزقٌ مبعثرة تحاول أن تستجمع ذاتها دون خوف.
حاولت إخراج الكلمات دون تعثر. فعلًا حاولت. محاولة جادَّة. محاولة يائسة:
• سأبني هنا ما سأبنيه، وفيه ستكون لكم السكنى والعيش دون تكاليف.
انطلقت الضحكات الساخرة تسري بينهم، تتواصل، تتحَّد، ترتفع، كقهقهةٍ واحدة محتدمة عالية، تقذف في آذاني بصديدٍ مؤلم وساخن.
قال الصوت الجاد الرفيع:
• أخبرناك أننا كنا نستطيع بناءها، لكننا أردناها خربة. نعم خربة.
رددت. لم أدرِ بعدئذٍ كيف أتتني شجاعة المواجهة والسؤال:
• وما الحكمة في ذلك؟
قال الصوت الخشن الضخم:
- سرٌ لا يعلمه إلاّ سوانا.
كنت واثقًا أنه لا حيلة لدي. حقًا معي الشهود والشهادات والقانون و... و... لكن القطع المنحوتة من الظلام، ذؤاباتها الملتمعة تلسعني، وتحديقاتها تطبع فوقي تقرحات متقيحة... مؤلمة... وحادة.
انسحبت في هدوء. بدأت بالخطو المعتاد، ثم انفرجت الخطوات. تباعدت. اضطربَت. صارت عدوًا. عدوًا لاهثًا مسرعًا، محدثًا إيقاعًا متواليًا فوق الشارع المضاء بالنيون. الشارع النظيف المارقة خلاله عربات آخر الليل، التي تئزّ بجانبي كسهام قبيلة آكلة لحم بشر تلاحقني.
توقفت عند محطة المترو. تيقنت من سر بسمة إعلان (سافو) الخبيثة. كان وضعه الراقص فوق الإعلان، فوق الرؤوس بمثابة تهديد، لأي تفكير جاد من ناحيتي.. بعد حين مرَّ (المترو) أمامي ولم يقف. كان السائق يطالعني من خلال الزجاج. صرخت بأعلى صوتي بكلمة السرّ، لكنه مضى. كان قد فهم، وأنا.. أدركت الأمر بكل أبعاده وحواشيه.. كان على أن أسير. ظللت أتأرجح بجوار الأرصفة، أواصل تكملة موّالي الحزين:
(سافر حبيبي من غير وداع
وسابني تايه في قلب المدينة)
حراس معسكرات الجيش يقفون مدججين محملقين وأنا أغني، مبتعدًا عنهم تمامًا.. حتى انتهيت. توقفت عند الباب الحديدي للسكنى الجماعية. دفعته في هدوء، لكنه أحدث صوتًا أفزع الشرطي النائم الحالم الغبي القابع في كشكه الخشبي. تقدَّم إليّ يمسح عن عينيه آثار النوم. يحملق فيّ في دهشة:
• سيادتك كنت فين ؟!
حقا لم أتوقع السؤال، ففي كل مرة كنت أدخل دونما سؤال.
رددت:
• كنت في حفل عيد ميلاد صديق.
لم يعلق، ولم أطِل النظر إليه. تقدَّمت حتى صرت بالحجرة المظلمة، وكلهم مازالوا نيامًا، كجثثٍ متساوية داخل توابيت محفوظة، مغلقةٌ عليها حجراتها.
عارٍ تماما كما ولدتني أمي. منتصب القامة وسط الحمام الضيق. مياه الدش تهبط عليّ في قسوة، وإيلام، بصوتٍ مفزع، لكني في هذه المرَّة قد بدأت أتعود كيفية إغلاق عيني دونما فزع. أتجرأ على صوت تسريب المياه في البالوعة. أطيل التحديق في مساحات الحمام المستطيلة. ألامس المياه بقدميّ الحافيتين. أنقر على الباب الخشبي في إيقاع جريء جاد متلاحم. استرسل في تكملة الموال الريفي الحزين:
(والصبر ما عاد ينفع
غير كلمة للجبان يغنيها)

خليل فاضل ـ المدينة الجامعية للطلبة ـ جامعة عين شمس ـ مبنى ب ـ الدور الثاني ـ شارع الخليفة المأمون، ناحية العباسية.



#خليل_فاضل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المصريون مُحبَطون
- الزهراء، وسنوات العمر الضائعة
- قصيدة إمرأة تطل من الشرفة
- رائحة الموت.... والحياة
- قصيدة حوار البوعزيزي وبائع البطاطا
- مقتل بائع البطاطا قصيدة
- قصيدة محمد الجندي
- ساعة الحظر
- عصفور البدرشين
- الحُسَيْني أبو ضَيْف
- الشخصية المصرية إبّان ثورة 25 يناير وما بعْدها
- التحليل النفسي للحالة المصرية الآن
- قُبَّعة الخواجة
- سيكولوجية الدم فى مصر الآن
- الفسيفساء في مواجهة الخفافيش ملامح الشخصية المصرية .. في ثور ...
- القلق المستَبِدّ وضراوة الإشاعة
- سيكولوجية رجل الأمن فى جمهورية الخوف (مصر سابقاً)
- مظاهر الاكتئاب في المجتمع العربى
- سيكولوجية المرأة العربية....
- كَرْبْ ما بَعْدْ الصَدْمَة تداعيات ما بَعْدْ الحرب مصر ولبن ...


المزيد.....




- فادي جودة شاعر فلسطيني أمريكي يفوز بجائزة جاكسون الشعرية لهذ ...
- انتهى قبل أن يبدأ.. كوينتن تارانتينو يتخلى عن فيلم -الناقد ا ...
- صورة فلسطينية تحتضن جثمان قريبتها في غزة تفوز بجائزة -مؤسسة ...
- الجزيرة للدراسات يخصص تقريره السنوي لرصد وتحليل تداعيات -طوف ...
- حصريا.. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 المبارك وجميع القنوات ال ...
- الجامعة الأمريكية بالقاهرة تطلق مهرجانها الثقافي الأول
- الأسبوع المقبل.. الجامعة العربية تستضيف الجلسة الافتتاحية لم ...
- الأربعاء الأحمر -عودة الروح وبث الحياة
- أرقامًا قياسية.. فيلم شباب البومب يحقق أقوى إفتتاحية لـ فيلم ...
- -جوابي متوقع-.. -المنتدى- يسأل جمال سليمان رأيه في اللهجة ال ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خليل فاضل - المَوَّال الحَزين