|
قصة قدموس مثالاً للملحمة التاريخية / 3 - الأخيرة
حسين علوان حسين
أديب و أستاذ جامعي
(Hussain Alwan Hussain)
الحوار المتمدن-العدد: 4460 - 2014 / 5 / 22 - 13:42
المحور:
الادب والفن
. قتل الوحش مثلما لا توجد جماعات بشرية بلا أساطير بطولية تؤرخ لمرحلتها الطفولية ، كذلك لا توجد أساطير بطولية بدون أوضح مصدر للبطولة ، ألا وهو ذلك المتمثل بقتل الوحش الفتّاك و الحارس الأمين المقدس لكنز ما من طرف البطل الأسطوري . و من هؤلاء الأبطال الأسطوريين : أنكي-إنليل-مردوخ و گلـگـامش و انكيدو و فيشنو و شيفا و ميكائيل و فرساوس و هرقل و بلوروفن و ثيسيوس و الإسكندر و القديس جرجيس و بهرام و رستم و بيولف و سيغفريد و بولاد و سوسانو و يي و دوبرينيا .. و مثلما تفعل الأساطير في كل العالم ، تروي لنا هذه القصة تفاصيل قيام قدموس بقتل الوحش الرهيب المتمثل بالأفعى المقدسة عند الإله آرِس ( إله الحرب الأغريقي ، و يقابله الإله مارس عند الرومان ) و الحارسة لنبعه القشتالي . و مثلما تفعل غيرها من الأساطير ، فإن بطولة قدموس هنا - و مرجعها شجاعته ، و قوته الجسمانية ، و مهاراته القتالية ، زائداً ذكاؤه باصطناعه الأسلحة المتميزة و أهمها درعه المصنوع من فروة الأسد - يصار إلى تلميعها عبر تضخيم قوة الوحش-الأفعى بتصويره ككائن متعدد الأسلحة و شديد الفتك بحيث أنه يبيد كل رجال قدموس . فِعْلُ إبادة هؤلاء الرجال لدخولهم الغابة البكر و إنتهاكهم حمى النبع يستبطن ، أولاً ، مبدأ القصاص النازل بالمغتصب الذي يتجاوز الخطوط الحمراء و المقدسة التي يضعها الآخر تحكماً أو عرفاً لضرورات حماية مصالحه و نفسه . كما يستبطن ، ثانياً ، مبدأ ضرورة دفع الإنسان ثمن استكشافه و اكتشافه للمعرفة و لأسرار تطويع الطبيعة ؛ علاوة على إستبطانه بعدئذٍ لمبدأ الإنتقام من القاتل عندما يقدم قدموس على قتل الأفعى ؛ و كذلك مبدأ إستخدام المواد التي توفرها عناصر الطبيعة ( الدرع و الأسلحة و جذع الشجرة العملاقة ) لقهر الطبيعة نفسها من طرف الإنسان الصانع للأدوات . و أخيراً ، لدينا في هذه القصة فكرة خلق الإنسان من أجزاء الوحش القتيل عندما يزرع قدموس أنياب الأفعى القاتلة لخلق أعوان له . هذه الفكرة الأولية توحد بين أصول كل المخلوقات في الطبيعة : النبات و الحيوان و الإنسان و التربة . كما تعكس هذه الفكرة - التي تربط بين الإنسان و الخطيئة المتأصلة فيه بالوراثة ، و بالتالي ضرورة قيام الإنسان بالتكفير عن ذنوبه و شكر الآلهة و التقرب منها لعطاياها و لحفاظها على حياته - واحدة من أقدم التصورات البشرية حول ربط عبادة الإنسان للأرباب بالطبيعة الخطاء لهذا لإنسان المذنب بالوراثة و الملعون للأبد ؛ مثل قصة قابيل و هابيل و انتسال كل البشر من أبيهم قابيل قاتل أخيه ، و من أبي قابيل ، آدم العاصي لأوامر ربه و المستعارة من قصة خلق إنكي-إنليل-مردوخ للبشر من دم الإله النجس القتيل كنغو في قصة الخليقة السومرية . مثل هذه القصص تفسر كيف أن الإنسان - على الأقل في أعماق أحلام اليقظة لديه ، إن لم يكن بأفعاله الواعية - يتوق لإغراء حلاوة و جائزة إنتهاك شرعة الحرام كمصدر للإشباع و لتوكيد الذات . أما الفائز باللذات فهو ذلك الجسور على حقوق الغير و المغتصب لها ، و من ثم الشاكر للرب على عطاياه بتكفيره عن الذنوب لتجاوز اللعن . و لذلك نجد أن النسخ الأوسع للقصة تفصل في إضطرار قدموس لخدمة الإله آرس طوال ثمان سنين للتكفير عن الذنب و طرد لعنة قتل الأفعى ، ليُكافأ من بعدها بالزواج من هرمونيا إبنة زوس ( قارن قصة زواج موسى في القرآن الكريم ، سورة القصص ، الآية 22-28 ) . كما تروي النسخ الأخرى من القصة كيف أن لعنة قتل الأفعى قد بقيت تطارد قدموس إذ نمت الحراشف على جلده ، و التي لم يتخلص منها إلا بعد تضرعات زوجته للآلهة . كما تبين نسخ غيرها مطاردة اللعنة له حتى بعد مماته بتحوله هو و زوجته إلى أفعوانين لمدة معينة قبل مباركة الآلهة لهما بنقلهما إلى "أرض المباركين" . المبدأ هنا هو : أن لا إثم بلا عقاب بالمثل - إما عقاب داخلي بالشعور بالذنب و تبكيت الضمير أو الإصابة بالمرض ، أو عقاب خارجي بفعل إنتقام الغير و حكم التاريخ . هذا هو المبدأ السامي العراقي الذي خلدته ملحمة گلـگـامش عندما قضت الآلهة بموت أنكيدو جزاءً على قتل خمبايا ، و الذي خلده بعدئذً حمورابي ( توفي حوالي عام 1750 ق م ) في شريعته ، لينتقل منها للعالم أجمع . أما المبدأ العراقي الأقدم - و يعود للسومريين - فيقضي بالتعويض بالمعادل عن الإثم ، و ليس بالعقاب بالمثل . ففي شريعة إشنونا ، العائدة لحوالي 2040 ق م ، نجد أن فاصم الأنف ، مثلاُ ، يُعاقب ليس بفصم أنفه بالمقابل ، و إنما بدفع ما زنته مَنِّ مِنَ الفضة للمجني عليه . و هذا ما يبين مدى تقدمية الحضارة السومرية العراقية على الحضارة السامية اللاحقة عليها ، و في هذا درس بليغ في علم الديالكتيك . و تتعمق فكرة الشر المتأصل عند البشر بفعل قيام الإخوة المولودين تواً من أنباب الأفعى بقتل بعضهم البعض ، لتبقى منهم صفوة الصفوة لقدموس . الحراب و القتل هنا ، مثل غالبية الحروب ، يحصلان لأتفه الأسباب ، باستثناء الرغبة في إزاحة الغير و توكيد الذات . القصة أيضاً تشير بوضوح إلى المصير المأساوي لملايين البشر المقاتلين الذين قضوا في الحروب مع أخوتهم من بني البشر كما لو كان الغرض الوحيد و المغزى الأساسي من ولادة هؤلاء ليس هو التمتع بالحياة ، و انما لكي يتم قتلهم من طرف أخوتهم لأتفه الأسباب . 6. وعد الإله بالأرض ( أرض الميعاد ) يعود فعل التسترب مرة أخرى في نص الجملة الختامية لهذه القصة : " و أخيراً إنتهى القتال ، و حصل قدموس على هؤلاء المقاتلين الخمسة كمرافقين له ، شاركوه في تأسيس المدينة التي وعدهم بها وحي فويبس " . و لقد مر بنا من قبل دأب البشر في كل زمان ومكان على التذرع بالتسترب كحيلة لإضفاء صفة القداسة على ألزين و الشين من أفعالهم . هنا ، لدينا أحد الأمثلة الأسطورية لفرية : " أرض الميعاد " التي نعلم علم اليقين أن الزاعم بها كانت كاهنة تهذي و هي واقعة تحت تأثير عامل مهلوس ، لكي يترجم لها "الأنبياء" إرادة الرب على هواهم ، و من ثم ليصبح هذا الهوى البشري على الأرض هو نفسه أرادة الرب في السماء و التي تستوجب الطاعة البشرية العمياء . هكذا هي حقيقة كل أراضي الميعاد التي عرفها تاريخ البشرية ، سواء كان أسمها بيوشيا أم فلسطين أم آيسلندا أم غرينلند أم الأمريكتين أم أوقيانوسيا - و مثلها سيكون ما سيشهده التاريخ مستقبلاً بخصوص استعمار الأقمار و الكواكب - مجرد حيلة لأقوام متستربة بغية إحتكار الأرض لأنفسهم ، و التسويغ للإحتلال و الإغتصاب . لم لا ، ما دامت الحيل المؤسطرة من شأنها في النهاية إكساب القوم الحق في أراضي الغير مجاناً ؟ أمّا وقائع التاريخ ، فهي تثبت لنا المرة تلو الأخرى كيف أن كل الحروب الصليبية و حروب الفايكنغ و الإستعمار الإستيطاني لقارات العالم من طرف جيوش النهب الأوربية و الإحتلال الصهيوني لفلسطين لم تقم و لا تقوم إلا على حيلة التسترب بأرض الميعاد بغية إغتصاب أراضي الغير بإبادة أهلها و تشريدهم و نهب خيرات بلادهم . تمت .
#حسين_علوان_حسين (هاشتاغ)
Hussain_Alwan_Hussain#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أم آسيا
-
قصة قدموس مثالاً للملحمة التاريخية / 2
-
كارل ماركس و بيرتراند رَسْل / 5
-
كارل ماركس و بيرتراند رَسْل / 4
-
حكاية الكلب المثقف :- سربوت -
-
قصة قدموس مثالاً للملحمة التاريخية / 1
-
كارل ماركس و بيرتراند رَسْل / 3
-
كارل ماركس و بيرتراند رَسْل / 2
-
كارل ماركس و بيرتراند رَسْل / 1
-
هيجل و رَسْل : الأسد يُعرف من فكيه
-
عودة إلى خرافات يعقوب إبراهامي بشأن قوانين الديالكتيك / 2 و
...
-
حكاية الطَّبْر و الهَبْر
-
الفتى صالح و السبحة الكهرب
-
عودة إلى خرافات يعقوب إبراهامي بشأن قوانين الديالكتيك /1
-
الحمار و عبد الكريم
-
قوانين الديالكتيك و ظواهر فيزياء علم الكم / 7 - الأخيرة
-
قوانين الديالكتيك و ظواهر فيزياء علم الكم / 6
-
قوانين الديالكتيك و تخريفات أبراهامي بصدد عدم وجود الصراع دا
...
-
قوانين الديالكتيك و تخريفات أبراهامي بصدد عدم وجود الصراع دا
...
-
ألحمار المناضل
المزيد.....
-
الإعلان عن وفاة الفنان المصري صلاح السعدني بعد غياب طويل بسب
...
-
كأنها من قصة خيالية.. فنانة تغادر أمريكا للعيش في قرية فرنسي
...
-
وفاة الفنان المصري الكبير صلاح السعدني
-
-نظرة إلى المستقبل-.. مشاركة روسية لافتة في مهرجان -بكين- ال
...
-
فادي جودة شاعر فلسطيني أمريكي يفوز بجائزة جاكسون الشعرية لهذ
...
-
انتهى قبل أن يبدأ.. كوينتن تارانتينو يتخلى عن فيلم -الناقد ا
...
-
صورة فلسطينية تحتضن جثمان قريبتها في غزة تفوز بجائزة -مؤسسة
...
-
الجزيرة للدراسات يخصص تقريره السنوي لرصد وتحليل تداعيات -طوف
...
-
حصريا.. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 المبارك وجميع القنوات ال
...
-
الجامعة الأمريكية بالقاهرة تطلق مهرجانها الثقافي الأول
المزيد.....
-
صغار لكن..
/ سليمان جبران
-
لا ميّةُ العراق
/ نزار ماضي
-
تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي
/ لمى محمد
-
علي السوري -الحب بالأزرق-
/ لمى محمد
-
صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ
...
/ عبد الحسين شعبان
-
غابة ـ قصص قصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
اسبوع الآلام "عشر روايات قصار
/ محمود شاهين
-
أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي
/ بدري حسون فريد
-
أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية
/ علي ماجد شبو
المزيد.....
|