أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - تاجرُ موغادور: الفصل الثالث / 4















المزيد.....

تاجرُ موغادور: الفصل الثالث / 4


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 4460 - 2014 / 5 / 22 - 08:33
المحور: الادب والفن
    


ظهراً، قبيل موعد الغداء، نزل " جانكو " إلى جنينة الدار إثرَ قضائه فرض الصلاة. كان الجوّ ما يفتأ جميلاً، على الرغم من تزاحم السّحُبِ الرماديّة، المُعكّرة قليلاً لون السماء الصافي. على ذلك، فإنّ اختفاءَ الشمس خلفَ السّحُبِ، بين فينةٍ وأخرى، كان يُخلّف تياراتٍ هوائيّة؛ تيارات باردة نوعاً، لم يكن في تفكيرها أن تزعج تاجرنا، الراغب في التنزّه، والهارب أصلاً من انشغالات الفكر. ولكن، لحُسن الحظ، فإنه في هذا الوقت من النهار يخفت صَخَبُ العصافير وغيرها من الأطيار، المُتهاطلة على أشجار الجنينة. على أنّ الضيفَ، المُجتاز اللحظة المَمشى العريضَ، المُتصل بين فناء المنظرة وساحة الحديقة، لم يشأ الاستراحة على أحد المقاعد المُتناعسة تحت ظلال الأشجار. هوَ ذا يَمضي أبعدَ، باتجاه الفسحة المُتوحّدة على طرفِ الحديقة، أين مشتل الصبّار، الذي سبق وتراءى له عَبْرَ نافذة حجرته، الموارَبة المصراعَيْن. ثمّة، تجوّلَ لبعض الدقائق في كرم الصبّار، المتنوّع الفصائل، مُبدياً استغرابه من أحجام أشتاله الكبيرة ذات الهامات الباسقة، مما لم يَعْهَدَ مثلهُ قبلاً في بلاده، البعيدة.
" يا لها من زهرة زاهيَة، مُتفتّحةٍ كالمُعجزة في هذا الفصل الشتويّ.. "
فكّرَ التاجرُ وهوَ يتطلّعُ ملياً إلى زهرة صبّار، كانت تتألقُ ببهائها بين أخواتها الثمار، الناضجة والذاوية. بدا أنّ شجيرة الزيتون، المُخيّمة بظلالها الخضر على المكان، هيَ من كان سبب المعجزة. إلا أنّ مرأى هذه الزهرة، المزهوّة بتفرّدها، عليه كان أن يجعل بتلات قلب " جانكو " تتفتّحُ بدَورها: آه، تلك البنت الفاتنة؛ ربيبة معلّم البحر، التي كان عندئذٍ يَهرُبُ من سطوة طيفها. أيمكن أن تكون مثل زهرة الصبّار هذه، إنما من بذرةٍ شريرة. ثمّة، في حجرة المكتب، كان يرفضُ منذ البدء فكرة أن تكون هيَ عين سيّدها على أهل الدار. حتى حضورها من ثمَّ إلى الحجرة، مُتذرعةً بتقديم القهوة، فإنه أضرمَ أوارَ داخله. إذ ذاك رَمَقها بنظرةٍ مُوارَبة، ما أن انحنتْ كي تناوله الفنجان. غيرَ أنها سرعان ما أسدلتْ رموش عينيها، وكما لو كانت تخفي تحتهم سرّاً ما. فلما همّت الفتاة بمغادرة الحجرة، فإنّ المُضيفَ بادرَ ليطلبَ منها استدعاءَ الوصيف. وتمتمَ على إثر ذهابها " أكادُ أجزمُ بأنها كانت واقفة خلفَ هذا الباب، تحاول التنصّت لما يدور هنا "، قالها ثمّ أضافَ " فلنرَ، إذاً، سببَ قدومها الحقّ ". وقبل أن يركن الرابي للوجوم، كان وصيفه قد أضحى بالباب. دخلَ الرجلُ العجوز إلى المكتب، وقد بدا خليّ البال من القلق، المُساور سيّده. فما لبث أن أجابَ عن موضوع الضيافة: " لقد كلّفتها بتقديم القهوة لكم، وذلك بطلبٍ من مُدبّرة المنزل، التي أرادت اختبار همّتها أو ربما شحذها "، قالها ببساطة وقد التمعت أسنانه البيض في سحنته السمراء والقاتمة.
" لو أنَّ بوعزة قد أرسل الفتاة للتجسس، لدلّ هذا على سذاجة وجهل "
كذلك قال " جانكو " للرابي، ما أن انسحبَ وصيفه من المكتب. وكان ردُّ المُضيف الابتسامَ، المَشوبَ بالسخرية. ثمّ ما عتمَ أن أشارَ إلى اللوحة الفنيّة، المعلقة على الجدار، والتي سبقَ وتحدّثَ عن ظروف رسمها: " وهذا ما خَلُصَ إليه ذلك الفنان الفرنسيّ، دولاكروا، إثرَ احتكاكه بأهل البلد. بل وأكثر من هذا؛ فقد وَصَفهم أيضاً بالمتوحشين، البدائيين ". وأرادَ الاستطرادَ، بيْدَ أنه تمنّعَ بعدما انتبه إلى انصراف نظر الضيف نحوَ اللوحة. هذا الأخير، ومع انبهاره بالألوان المَسكوبة كاللهيب أو الشعاع، إلا أنّ طريقة الفنان في رسم الشخصية، وكأنما هيَ مُنطلسة الملامح، قد أثارت ولا غرو استغرابَهُ. فما يعرفه عن الرسامين الأوروبيين من خلال لوحاتهم، التي كان قد عاين بعضها خلال محطات رحلته البحريّة، هوَ أنهم على درجة كبيرة من الدقة والحذق في تصوير الشخصيات، حتى لو كانت دينيّة وتنتمي لعصور عتيقة.
" لم تبدأ شهرة دولاكروا، حسبما اعترفَ بنفسه، إلا إثرَ رحلته المغربيّة "
عادَ الرابي إلى إكمال حديثه، مُضيفاً وكما لو كان قد قرأ سطورَ باطن الضيف " مذ ذاك الحين، أحدثَ تبنّي الفنان لأسلوبٍ جديد، مُغايرٍ للسائد، ما يُشبه الثورة على تقاليد المدرسة الفرنسيّة، وفي التالي، الأوروبيّة. الواقع، أنّ هؤلاء وأولئك كانوا مُقيّدين بتقاليد مدرسة النهضة، الإيطاليّة، والتي تعتبرُ الوريثَ الشرعيّ لفنون الرومان والإغريق. لم يكن دولاكروا، بطبيعة الحال، هوَ أول أوروبيّ يزور المَشرق؛ إذ سبقه آخرون، فنانون وأدباء ورحّالة، على حدّ سواء. ولكنه كان ذلك الداعيَة المتنوّر، السديدَ الرؤية، المُبشّر بانقضاء أجل التقاليد الفنيّة القديمة، المَوروثة عن عهود النبلاء. لقد كان دولاكروا برجوازياً؛ أجل، برجوازياً بكلّ ما تعنيه الكلمة ". العديدُ من مفردات هذه الخطبة، المُطنبة، كانت قد استعصت ولا مَراء على فهم التاجر. ربما أنّ صفة هذا الأخير، كمُحترف لصنعة الأثاث بما فيها من حفر ونقش وترصيع وتذهيب، قد أوهمَت مُضيفه بكونه على درايةٍ ببعض مذاهب الفنّ. على ذلك، نفهمُ تردد " جانكو " حينما شاءَ التعليق بالقول " أعتقدُ أنك تذهب إلى البرهنة، على أنّ التجديد في الفنّ كان ممكناً، حَسْب، مع انتقال التأثير من الغرب إلى الشرق؟ "
" إلى حدّ ما، تماماً. أعني أنّ بؤرة الإلهام، بحَسَب دولاكروا، أضحى المغرب لا أثينا أو روما، الوثنيتين، ولا أيضاً فلورنسة والفاتيكان، المسيحيتين. بل ذهبَ فناننا في أحد مقالاته حدّ التشبيه الطريف، بتأكيده أنّ رجال روما وأثينا يتجولون بملابسهم البيضاء في طنجة ومكناس؛ وهذه كناية، المقصود بها اللون المفضّل للزيّ المغربيّ. كلتا المدينتين، طنجة ومكناس، كانت محطة للفنان الفرنسيّ خلال رحلته، التي قامَ بها قبل زهاء عقدين من الأعوام "، قالها المُضيف ثمّ أضافَ بنبرةٍ غائبة " ولم تكن هذه رحلة، بالمعنى المجرّد، بل كانت بعثة رسميّة تمّ ضمّه إليها باعتبارها مهمّة وطنيّة ". عندما وصلَ الرابي إلى مُختتم الجملة، فإنه على الأرجح لم يُدرك مبعثَ البريق، المُنبعث فجأة من عينيّ ضيفه.
" ولكن، يبدو أنّ صاحبنا تأثرَ بالطبيعة المحليّة، وفي المقابل، نفرَ من ساكنيها؟ "
قال التاجرُ، مُتهكّماً. وقد فهِمَ الرابي، مثلما عبّرت ابتسامته، أنّ الآخرَ يُحيل إلى مُستهلّ الحديث؛ حول احتقار الرسام لأهل البلد. على أنّ نبرته كانت تشي بالأسف، حينما أجابَ " أجل، لأنّ دولاكروا انطلق في تقييمه لمواطنينا من شعورٍ مُسبق، لا عن تجربة ومعاشرة وخبرة. فهوَ، كمنتمٍ عريق للنبالة الباريسيّة، لم يكن من السهل عليه التخلّص من مخاوفه السخيفة من كلّ مسلم سيصادفه خلال سير البعثة ". ثمّ تابعَ الرابي القول وقد تغيّرت لهجته قليلاً: " الحق، فإنّ الفنان مَحَضَ يهودَ البلد شعور الود والثناء. ذلك، لأنّ معشرَ ملّتنا ليسوا معنيين كثيراً بكراهية الأجانب النصارى ولا الحُكم على رسمهم للشخوص الإنسانيّة من مبدأ التحريم الدينيّ "
" لكنّ ثمّة باعثاً للكراهية لا يقلّ أهميّة، كما أرى؛ وهوَ موضوع احتلال الجزائر وذيوله "
" نعم، بدون شكّ. وأصلاً، كانت بعثة دولاكروا مهتمّة أساساً بإيجاد تسوية مع سلطان المغرب، تتضمن تخليه عن دعم الأمير عبد القادر مقابل تعزيز علاقات التجارة بين البلدين "، قالها الرابي مُشدداً على اسم الأمير. عندئذٍ، عبّرتْ ملامحُ الضيف عن جوارح نفسه، المُختلجة مُجدداً مع ما سلفَ من الهواجس، التي كانت قد تناهبتها خلال النهار.
وإذاً كان " جانكو " يستعيدُ مُلابسات ما جدَّ ثمّة، في حجرة مكتب المُضيف، فيما كان يتجوّل خِلَل مَشتل الصبّار، المُنتحي في الطرف القصيّ للحديقة. وكان يؤوب اللحظة باتجاه الفناء، حينما انتبه على غرّة إلى وجود شبح امرأة، يتربَصُ هناك خلف عمود أحد أقواس المدخل. فما أن خرجَ من المَمشى، مُرتقياً عتبة الدرج المؤدي لباحة الفناء، حتى شخصتْ أمامه هيئة الفتاة تلك؛ ربيبة رئيس مَركب الصيّادين. عندما التقت عيناه بعينيّ البنت، الواسعتين، فإنه لمَحَ فيهما ما رأى أنه توقٌ للإفضاء بأمرٍ ما، مُلِحّ.



#دلور_ميقري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تاجرُ موغادور: الفصل الثالث / 3
- تاجرُ موغادور: الفصل الثالث / 2
- تاجرُ موغادور: مستهل الفصل الثالث
- تاجرُ موغادور: الفصل الثاني / 6
- تاجرُ موغادور: الفصل الثاني / 5
- تاجرُ موغادور: الفصل الثاني / 4
- تاجرُ موغادور: بقية الفصل الثاني
- تاجرُ موغادور: تتمة الفصل الثاني
- تاجرُ موغادور: الفصل الثاني
- تاجرُ موغادور: تكملة الفصل الأول
- تاجرُ موغادور: متابعة الفصل الأول
- تاجرُ موغادور: بقية الفصل الأول
- تاجرُ موغادور: تتمّة الفصل الأول
- تاجرُ موغادور: الفصل الأول
- تاجرُ موغادور: المدخل
- تاجرُ موغادور: المقدمة
- سيرَة حارَة 16
- سيرَة حارَة 15
- سيرَة حارَة 14
- سيرَة حارَة 13


المزيد.....




- أزمة الفن والثقافة على الشاشة وتأثيرها على الوعي المواطني ال ...
- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- مصر.. الفنان بيومي فؤاد يدخل في نوبة بكاء ويوجه رسالة للفنان ...
- الذكاء الاصطناعي يعيد إحياء صورة فنان راحل شهير في أحد الأفل ...
- فعالية بمشاركة أوباما وكلينتون تجمع 25 مليون دولار لصالح حمل ...
- -سينما من أجل غزة- تنظم مزادا لجمع المساعدات الطبية للشعب ال ...
- مشهور سعودي يوضح سبب رفضه التصوير مع الفنانة ياسمين صبري.. م ...
- NOW.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 154 مترجمة عبر فيديو لاروزا
- لماذا تجعلنا بعض أنواع الموسيقى نرغب في الرقص؟
- فنان سعودي شهير يعلق على مشهد قديم له في مسلسل باللهجة المصر ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - تاجرُ موغادور: الفصل الثالث / 4