أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - عدنان عباس علي - الأزمة المالية والاقتصادية العالمية وانعكاساتها على النظرية الاقتصادية















المزيد.....


الأزمة المالية والاقتصادية العالمية وانعكاساتها على النظرية الاقتصادية


عدنان عباس علي

الحوار المتمدن-العدد: 4459 - 2014 / 5 / 21 - 12:33
المحور: العولمة وتطورات العالم المعاصر
    


الأزمة المالية والاقتصادية العالمية وانعكاساتها على النظرية الاقتصادية


حينما كان النظام المالي العالمي على وشك الانهيار في خريف العام 2008، شعر بول كروغمان (Paul Krugman) وقرينته الأستاذة روبين ويلز (Robin Wells) بحرج كبير. فالاقتصاديان الأمريكيان كانا، وقتذاك، يعتزمان إعادة طبع مؤلفهما الموسوم "الاقتصاد الكلي" (Macroeconomic). وبحسب ما رواه كروغمان في المؤتمر، الذي عقدته الرابطة الاقتصادية الأمريكية (American Economic Association, AEA) في مدينة أتلانتا في كانون ثاني/يناير من عام 2010، فإنهما أمعنا النظر في الفصل الخاص بالسياسة النقدية والمصارف ولاحظا أن ما كتباه في ذلك الفصل ما عاد شيء منه يتصف بالصواب، وبالتالي فقد توجب عليهما إعادة كتابة هذا الفصل بنحو جذري.

على صعيد آخر، كانت الملكة البريطانية أليزابيث الثانية، قد تساءلت، في خريف عام 2008، بنبرة مشوبة بحيرة مصطنعة: "ولكن، لماذا لم يتنبأ بها أحدٌ؟" (But why did nobody forsee this?).

وكيفما كانت الحال، فإن ما رواه كروغمان في رحاب رابطة الاقتصاديين الأمريكيين - هذه الرابطة التي تعد أهم الروابط الاقتصادية في العالم قاطبة - كان، في حقيقة الأمر، تأكيداً قوياً على أهمية السؤال الذي طرحنه الملكة البريطانية، ودليلاً واضحاً على أن الأزمة الاقتصادية الأخيرة قد زعزعت بنيان النظرية الاقتصادية الكلية من أساسه. فخلال بضعة شهور فقط، فقدت أهميتها وخسرت مغزاها نماذج اقتصادية كانت تحظى بالقبول العام حتى ذلك الحين. فالاقتصاديون، لم يتنبئوا، أبداً، بأن الاقتصاد الأمريكي سيتعرض إلى أزمة كادت أن تكون قاتلة، إلى أزمة سرعان ما نشرت ظلالها على الاقتصاد العالمي أيضاً. من ناحية أخرى، ما كانت لدى النظرية الاقتصادية لا نماذج متخصصة في تبيان مسيرة الأزمة، ولا نماذج قادرة على رسم صورة لها. وهكذا، لا غرو أن تسيطر على الاقتصاديين أزمة شعورية عميقة، نشرت ظلالها على المؤتمر الدوري للرابطة الاقتصادية الأمريكية، وأن يعلن، في أتلانتا، أستاذ الاقتصاد في جامعة برينستون ألان بلايندر (Alan Blinder) بأن عالم الاقتصاديين قد تعرض إلى هزة عظيمة وتغير من أساسه في العامين الأخيرين.

وكان الاقتصاديون المجتمعون في أتلانتا قد ناقشوا على مدى ثلاثة أيام ماهية الدروس، التي ينبغي بالنظرية الاقتصادية أن تستخلصها من الأزمة، وماهية النماذج الصالحة لمواصلة البقاء، وماهية النماذج التي ثَبُتَ زيفها، وما هي خصائص النماذج المستقبلية. كما درس المجتمعون السبل القويمة لإصلاح المناهج الدراسية في كليات الاقتصاد الأمريكية.

ويستطيع المرء الوقوف على عمق الحيرة، التي سببتها الأزمة الأخيرة للاقتصاديين، من خلال الرجوع إلى وقائع المؤتمر الذي عقدته الرابطة الاقتصادية الأمريكية في مدينة نيو أورلينز قبل عامين فقط. فوقتذاك - أي في كانون ثاني/ يناير من العام 2008 - كانت ثقة الاقتصاديين بنظرياتهم قد بلغت قدراً دفعهم إلى أن ينظموا، في إطار مؤتمرهم هذا، سلسلة محاضرات بعنوان "العيش بنحو أفضل بفضل علم الاقتصاد" ("Better Living through Economics")، مؤكدين، على لسان أستاذ الاقتصاد في جامعة فاندربيلت، جون زيغفريد (John Siegfried)، على أن الأبحاث الاقتصادية الحديثة قد مكنت بني البشر، بنحو حاسم، من تحقيق تقدم كبير في حياتهم اليومية في السنوات المنصرمة. وكانت الغالبية العظمى من المجتمعين قد رأت آنذاك، أي في كانون ثاني/ يناير من عام 2008، أن المشكلة الرئيسية، التي تعاني منها كليات الاقتصاد تكمن في أن هذه الكليات لا تُحسن تسويق نجاحاتها بالنحو المناسب.

ويساور الكثير من مشاهير الاقتصاديين، في اليوم الراهن، أي بعد حوالي عامين من انعقاد ذلك المؤتمر، الاعتقاد الأكيد بأن الدراسات الاقتصادية الجامعية لا تعاني من أزمة تسويق، بل تعاني من ضعف جوهري، ضعف يكمن أساسه في النظرية الاقتصادية ذاتها. من هنا، لا غرو أن تتعالى أصوات الباحثين المجتمعين في أتلانتا مطالبة بضرورة إعادة النظر بمحتوى النظرية الاقتصادية وبالأسس التي تقوم عليها هذه النظرية. ويتركز النقد، على وجه الخصوص، على فرضيات كانت، لحد الآن، دارجة في النظرية الكلاسيكية المحدثة، وتعتبر من مسلمات الأمور، أعني الزعم بأن أسواق المال تتسم بالكفاءة في الانتفاع بالمعلومات المتاحة (informational efficiency) وأن التوقعات الرشيدة تهيمن على المتعاملين في الأسواق المختلفة وأن من خصائص اقتصاد السوق أنها تميل، بنحو إلزامي، إلى الاستقرار.

وتأسيساً على هذه الفرضيات كان الاقتصاديون من أنصار الكلاسيكية المحدثة قد دأبوا على مطالبة الحكومات بالتوسع في عملية تحرير الأسواق، وذلك لأن التوسع في عملية التحرير كان يعني، بالنسبة لهم، إضفاء مرونة أكبر على الأسعار في أسواق المال والصرف الأجنبي. فلو اتصفت جميع الأسعار في أسواق المال - سواء كانت هذه الأسعار أسعار أوراق مالية أو كانت معدلات ربحية أو كانت أسعار صرف أجنبي – بالمرونة التامة فعلاً، لعكست هذه الأسعار حينئذ، على نحو دقيق إلى حد ما، جميع المتغيرات الحالية والمستقبلية ذات الأهمية في تحديد هذه الأسعار.

بهذا المعنى، كان هؤلاء الاقتصاديون واثقين من أنه كلما كانت عملية التحرير أكثر عمقاً، كانت أسواق المال والصرف الأجنبي أكثر ميلاً إلى التوازن؛ فهي، وبحسب رأيهم، ليست مصدراً للحالات اللاتوازنية الكلية أبداً، إنها تتكيف مع هذه الحالات فقط، فأي تدخل حكومي في الأسعار المحددة في هذه السوق لا جدوى منه، ذلك لأن هذا التدخل لن يتصف بالكفاءة التي تتصف بها هذه الأسواق. وإذا ما صادف أن مرت هذه الأسواق بأزمة أو بحالة لاتوازنية، فإن مرد ذلك يكمن في قصور مرونة الأسعار، أي أن علاجه يكمن في المزيد من التحرير. وانطلاقاً من وجهة النظر هذه، دأب أنصار النظرية، التي يدرسها طلبة كليات الاقتصاد في شتى ربوع المعمورة، على مطالبة الحكومات بضرورة المضي قدماً بعملية التحرير الكامل لأسواق المال والصرف الأجنبي، زاعمين بأن هذا التحرير هو الضمانة لأن تحقق هذه الأسواق التخصيص الأمثل لرأس المال ولأن تعظم الرفاهية الاقتصادية في كل وقت وعلى المستويين الوطني والدولي.

وكان الاقتصاديون من أنصار الكلاسيكية المحدثة على وعي تام، على ما يبدو، بأهمية ما يمارسون من دور وبفاعلية ما يصوغون من نظريات وبمغزى ما يستنتجون من هذه النظريات. وكان الاقتصادي الأمريكي الحائز على جائزة نوبل بول صامويلصون(Paul Samuelson) قد عبر عن هذا الوعي بعبارة مقتضبة، لكنها عميقة المغزى، حينما صرح لمجلة الإيكونومست (The Economist)، الصادرة في 23 آب/أغسطس من عام 1997، "أنا لا أعير اهتماماً لمن يكتب قوانين الأمة... طالما بوسعي أن أكتب لها كتبها المدرسية الخاصة بعلم الاقتصاد" (I don´t care who writes a national´s laws... if I can write its economics textbooks).

واستجاب القدر، فعلاً، لأمنية صامويلصون: فهو لم يكتب لأمته فقط كتابها المدرسي، بل كتبه لأمم أخرى كثيرة. إذ تُرجم كتابه إلى العديد من لغات العالم وجرى طبع ملايين النسخ منه. وهكذا أصبح مُؤََّلَف هذا القطب الأول من أقطاب النظرية الكلاسيكية المحدثة إنجيل طلبة الاقتصاد وفرقان عالمنا المُعلولم.

من هنا لا عجب أن يدين الاقتصادي الأمريكي، الحائز على جائزة نوبل، جوزيف ستيغلس (Joseph Stiglitz)، النظرية الاقتصادية متهماً إياها بأنها قد ساهمت مساهمة أساسية في خلق الأزمة الأخيرة، وذلك لأنها كانت الأساس الأيديولوجي لعملية تحرير الأسواق من التوجيه الحكومي.

وبحسب تصورات ستيغلس أثارت الأزمة المالية الأخيرة الشكوك حول فرضية أساسية هيمنت على النظرية الاقتصادية لأكثر من قرنين من الزمن وآمن بها أنصار الكلاسيكية المحدثة إيماناً عميقاً: فرضية أدم سمت بوجود يد خفية تدبر عمل الأسواق وتقود - عبر سعي المتنافسين إلى تحقيق مصالحهم الخاصة - إلى تحقيق التوافق والتوازن بين المصلحة الذاتية ومصلحة المجتمع، أي تقود إلى تحقيق أكبر خير ورخاء للمجتمع ككل، وذلك لأن المنافسة بين أفراد المجتمع تؤدي، في نهاية المطاف، إلى استغلال الإمكانيات المادية في المجتمع بصورة رشيدة واقتصادية.

وبهذا المعنى يمكن القول إن فكرة اليد الخفية تقوم على تصور يزعم أن العائد النقدي، الذي يحصل عليه الناشطون اقتصادياً، يناظر النفع الاجتماعي المتحقق بفعل هذا النشاط.

بيد أن ستيغلس ينفي نجاح اليد الخفية في تحقيق النفع الاجتماعي ويؤكد أن اليد الخفية لم تحرك ساكناً في النظام المالي في السنوات السابقة. فالأرباح الهائلة، التي حققها الجهاز المصرفي وقتذاك، لم تدر على المجتمع نفعاً كبيراً. فأنَّى لها أن تدر هذا النفع، إذا كانت اليد الخفية غير موجودة، أصلاً، في الكثير من الأسواق، كما قال ستيغلس بلهجة المستنكر.

وأكد الكثير من الاقتصاديين، المشاركين في مؤتمر أتلانتا، على أن الاقتصاديين الكلاسيكيين لبثوا، على مدى طويل من الزمن، يتحركون في عالم نظري من صنع خيالهم.

وكان أستاذ الاقتصاد في جامعة هارفارد بنيامين فريدمان (Benjamin Friedman) قد أشار، في رحاب مؤتمر الرابطة الاقتصادية الأمريكية، إلى أن الكثير من الاقتصاديين لا يدرسون العالم الذي نحيا في كنفه، بل يصورون العالم الذي يتمنون أن يعيشوا في رحابه. وهكذا، طور هؤلاء الاقتصاديون نماذج نظرية محبوكة الصنعة وغاية في التألق المنهجي، لكنها زائفة في تصويرها للعالم القائم فعلاً. فعلم الاقتصاد ينتمي إلى العلوم الاجتماعية، ولا يمكن فصله عنها والتعامل معه كما لو كان من فصيلة "علوم الفيزياء"، كما لو كان "فيزياء اقتصادية".

على الصعيد نفسه، أشارت نخبة عريضة من الاقتصاديين الأمريكيين إلى أن الأزمة الراهنة ستتسبب في تغيير منظور الدراسات الاقتصادية الكلية بكل تأكيد.

فالمنظور التقليدي في النظرية الاقتصادية الكلية كان، حتى اندلاع الأزمة الأخيرة، يرى أن الصرح الاقتصادي - في الدول الصناعية على أدنى تقدير - يعمل بكفاءة عالية، وأن الاقتصاديين ليسوا بحاجة للاهتمام بجزئيات المسيرة الاقتصادية في هذه الدول.

بيد أن الأزمة المالية بينت بجلاء أن النظرية الاقتصادية الكلية، الدارجة في كليات الاقتصاد، تفتقر إلى نماذج اقتصادية تصور، بدقة وبنحو يسد الحاجة، أهمية المصارف والقروض المصرفية بالنسبة للقطاع الحقيقي، القطاع الإنتاجي. فالملاحظ هو أن هذه النظرية تفضل تركيز منظورها على السياسة النقدية في المقام الأول.

ويرى بنيامين فريدمان أن اهتمام النظرية الكلية، بالسياسة النقدية في المقام الأول، أي تركيزها على مسألة قيمة النقود والأسباب التي تحفز الأفراد للاحتفاظ بها وما سوى ذلك من مسائل أخرى عديدة، قد حجب عن الاقتصاديين حقيقة الخطر، الذي كان يدب في الأساس، الذي تقوم عليها أسواق المال في الدول الصناعية.

إن الواجب يحتم على الاقتصاديين أن يأخذوا بالاعتبار أن الأفراد والمشاريع لا يتخذون القرارات الرشيدة، في الكثير من الأحيان، وأن الأسواق نادراً ما تتصف بالاستقرار والتوازن. فإذا كانت النظرية الاقتصادية قد دأبت على الانطلاق من تصور يزعم أن الأسواق تميل للتوازن في الحالات العامة، فإنها أمست الآن مطالبة بأن تتخلى عن هذا التصور كلية، وأن تأخذ بالاعتبار أن هذه الأسواق نادراً ما تميل إلى الوضع التوازني، وأن فكرة التوازن الدارجة في العلوم الطبيعية لا يمكن، بأي حال من الأحوال، تطبيقها في العلوم الاقتصادية.

فالاقتصاديون من أنصار التحليل الكلاسيكي المحدث، أي الذين حاولوا تقليد التحليل الدارج في العلوم الطبيعية، ارتكبوا خطأً جوهرياً حين اعتقدوا أن فرضياتهم بشأن توازن الأسواق قد جعلتهم قادرين، على تحليل المسائل الاقتصادية تحليلاً دقيقاً، يسري على كافة الأزمنة.

فالكلاسيكية المحدثة انطلقت من فكرة "الإنسان الاقتصادي" (Homo oeconomicus)، الذي يسعى دوماً وأبداً إلى تعظيم منفعته إن كان مستهلكاً وإلى تعظيم ربحه إن كان مستثمراً، وتجاهلت، بالتالي السلوكيات البشرية الأخرى؛ أي أن الإنسان قد أمسى، في النظر الكلاسيكية المحدثة، مجرد إنسان آلي (Roboter)، لا هم له سوى تعظيم المنفعة والربح.

ومن نافلة القول الإشارة إلى إن هذا الإنسان الاقتصادي، الذي دار في خلد الاقتصادي الفرنسي ليون فالراس (Leon Walras)، وهم لا وجود له على أرض الواقع.

إن الجدل الدائر حول أسباب وطرائق حل الأزمة الاقتصادية الأخيرة، يشهد على عمق الاختلافات بين المدارس الفكرية المتعارف عليها في العلوم الاقتصادية. فإذا كان البعض من الاقتصاديين قد أشاروا في سالف الزمن إلى أن نظريات جون ماينارد كينز قد أكل الدهر عليها وشرب وأنها ما عادت ذات نفع يذكر بالنسبة للتحليل الاقتصادي، يرى العديد من الاقتصاديين ضرورة التخلي عن التحليل الكلاسيكي المحدث ويطالبون بالعودة إلى نظريات جون ماينارد كينز (John Maynard Keynes) وهايمان مينسكي (Hyman Minsky)، مؤكدين على أن العودة إلى هذه النظريات تنطوي على فرص ثمينة لتفسير أسباب الأزمة الأخيرة. فهذه الأزمة لا يمكن تفسير أسبابها من خلال فرضية السلوك الرشيد، بل من خلال "الغرائز الحيوانية" "Animal Spirits"، التي يتصف بها، بحسب وجهة نظر كينز، سلوك المستثمرين في أسواق المال.

وأراد كينز، من خلال إشارته إلى الغرائز الحيوانية في مؤلفه الموسوم "النظرية العامة في التشغيل والفائدة والنقود"، المنشور عام 1936، التأكيد على أن الحياة الاقتصادية لا يحركها الإنسان الاقتصادي، بل تحركها الغرائز الكامنة في أعماق المنتجين والمستهلكين، أي في أعماق أولئك البشر الذين نراهم مفعمين بالحيوية والنشوة تارة، ومستسلمين إلى للكآبة والقنوط ثارة أخرى.

إن توقعات أرباب العمل بشأن الفرص المستقبلية، وتأرجح مشاعرهم بين الحيوية تارة والقنوط تارة أخرى، هو الأمر الذي يحدد ما إذا سيشرع أو لا يشرع أرباب العمل بالاستثمار. فكينز يؤكد، في مؤلفه المذكور، على أن أصحاب المشاريع ليسوا أناساً حُصَفاءَ يستخدمون نظرية الاحتمالات للتعرف على احتمال تحقق هذا الحدث أو ذاك. فالمستقبل غير مؤكد أساساً ولا يمكن التكهن به بنحو دقيق، إنه غير مضمون حقاً وحقيقةً. وإذا كان قد صار بوسعنا التكهن بالحالة، التي سيكون عليها الجو غداً أو بعد غد، إلا أننا لا نستطيع، أبداً، التكهن بالحالة الجوية، التي ستسود في العام القادم.

وبهذا المعنى، فإن كل التكهنات بشأن المستقبل نوع من قراءة الفنجان.

ولأن الغالبية العظمى من بني البشر تدرك هذه الحقيقة، لذا نراهم يفضلون اتخاذ قراراتهم بوحي من تصوراتهم الذاتية أو التصرف كما يتصرف الآخرون، أي مجاراة الآخرين في سلوكهم، والتصرف تصرف القطيع. إن هذا هو التصرف الذي أطلق عليه كينز مصطلح "الغرائز الحيوانية".

وكان الاقتصادي الأمريكي، الحائز على جائزة نوبل عام 2002، جورج أكرلوف (George Akerlof) وأستاذ الاقتصاد في جامعة "يال" (Yale) روبرت شيلر (Robert Shiller) قد استعارا من كينز مصطلح الغرائز الحيوانية، وجعلا منه عنواناً لمؤلفهما المنشور عام 2009 بعنوان "Animal Spirits". ويستوحي الاقتصاديان، في مؤلفهما هذا، نظرية كينز في الغرائز الحيوانية، فيؤكدان أن تفسير الأزمة الراهنة يفترض بنا أن ننطلق من المناحي النفسية، التي تسيطر على المتعاملين في الأسواق وأن نأخذ بالاعتبار أن سيطرة التفاؤل على بني البشر، يدفعهم لأن يستثمروا ويقتنوا الأوراق المالية والمساكن، متجاهلين ما إذا كانت هناك أسباب موضوعية تبرر الروح المتفائلة وعمليات الشراء المتزايدة. وإذا ما رأى هؤلاء الأفراد أن الواقع السائد لا يبرر، بأي حال من الأحوال، الأسعار التي اقتنوا بها الأصول المذكورة، فإنهم يحاولون بيع هذه الأصول والتخلص منها بأسرع ما يكون.

وبهذا المعنى، فإن تدهور النشاط الاستثماري لا ينعكس في انهيار النمو الاقتصادي فقط، بل وفي انهيار نفسي عظيم أيضاً.

وهكذا، ومن خلال سلوك القطيع، يظل الوضع الاقتصادي يتأرجح بين التفاؤل والازدهار تارة، وخيبة الأمل والانهيار تارة أخرى.

ففي حقب الازدهار يطرب القطيع للقصص الجميلة، التي تؤكد له، المرة تلو الأخرى، أن الازدهار الراهن ما كان له مثيل في سابق الزمن وأنه سيواصل ديناميكيته بلا انقطاع.

ويستسلم القطيع للفزع حين تتراجع معدلات النمو وتأخذ وسائل الإعلام تروي قصصاً جديدة عن عمليات الاختلاس والرشوة والخداع والتلاعب بالميزانيات، أي حين تأخذ وسائل الإعلام تروي القصص المروعة، التي يتعرض لها الجمهور من حين لآخر، أعني قصص الخداع، التي تعرض لها الجمهور، على سبيل المثال، في ثلاثينيات القرن العشرين عندما تكاتفت المصارف مع السماسرة وساعدتهم على أن يخدعوا الجمهور البسيط ويدفعوه لشراء أوراق مالية مثيرة للريبة ومحفوفة بمخاطر عالية، أو قصص الخداع التي تعرض لها جمهور المواطنين في الولايات المتحدة الأمريكية، في الزمن الراهن، عندما منح سماسرة العقارات قروض عقارية لا قدرة للجمهور على الوفاء بأقساطها، وعندما أغروا المصارف، في شتى ربوع المعمورة، بشراء هذه القروض.

وبالنظر لما خلفت هذه الأزمة من نتائج وخيمة، لا عجب أن تظل تداعياتها ملحوظة في العالم، ولا غرو أن يتطرق لها، في هذه الأيام أيضاً، المدير التنفيذي في المصرف المركزي البريطاني أندرو هالدن (Andrew Haldan)،، ويعلن، في نيسان/أبريل من العام الجاري، وبصريح العبارة وبأسلوب غير دارج في صفوف المسئولين عن إدارة السياسة النقدية، عما يعتمل في خاطره من شكوك حول أهمية النظرية الاقتصادية المدرسية بالنسبة للعالم الحقيقي (real) وبالنسبة للمعضلات المخيمة على عالمنا المعاصر. فهالدن، الاقتصادي، الذي سيغدو كبير الاقتصاديين في المصرف المركزي البريطاني ابتداءً من الشهر القادم، شهر حزيران/يونيو، يرى، أيضاً، أن الأزمة المالية والاقتصادية العالمية قد أبانت للعيان رخاوة الأسس التي تقوم عليها النظرية الاقتصادية، ويذكر بنحو مخصوص فكرة اليد الخفية، ودورها المزعوم في ضمان أن تؤدي النشاطات الاقتصادية الفردية، بلا قصد منها، إلى تعظيم الخير لعامة المجتمع.

فأزمة المالية والاقتصادية الأخيرة، أبانت للعيان، كما يؤكد هالدن، أن غياب القيود والضوابط في القطاع المالي خاصة، وفي المجتمع عامة، كان سبباً رئيساً في أن يؤدي السعي المحموم لتحقيق المصلحة الخاصة، بلا قيود وضوابط، وبجشع لا يعرف الحدود، إلى الإضرار بالصالح العام، وإلى إفقار فئات اجتماعية عريضة. ويواصل هالدن انتقاده، مشيراً إلى أن فكرة آدم سمت بخصوص اليد الخفية، تجاهلت ما سينجم فيما لو شددت اليد الخفية قبضتها على المجتمع. فبفعل قبضتها القوية، تبين بجلاء أن هذه اليد قد كانت كارثة بالنسبة للمجتمع وساهمت منذ ثلاثينيات القرن العشرين في ألحاق أكبر الخسائر بالدخل والإنتاج.

ومن تحليله، يستنتج هالدن، أن الأزمة قد أزاحت، حقاً وحقيقة، الستار عن مناحي القصور في النماذج الاقتصادية الحديثة. ففي الحالات القصوى - في الحالات الشبيهة بالأزمات المالية العالمية وحالات الركود وفي حقب تتسم بتراجع النشاطات الاقتصادية بمعدلات متزايدة – تخيم على توقعات الأفراد والمشاريع مشاعر الفزع والقنوط، والخوف من المجهول ومن سلوكيات الآخرين، أي أن توقعاتهم لا تتسم بالرشاد في مثل هذه الحالات.

وبناءً على التجارب المستخلصة من الأزمة المالية، يرى هالدن ضرورة إعادة النظر في بعض أساسيات النظرية الاقتصادية السائدة حالياً. فهو يقترح، حقاً، العودة ثانية إلى آدم سمث، إلى أنه لا يريد العودة إلى "ثروة الأمم"، المنشور عام 1776، بل يطالب بالعودة ثانية إلى مؤلف سمث المنشور عام 1759، بعنوان "نظرية المشاعر الأخلاقية" (The Theory of Moral Sentiments). ففي هذا المؤلف، يؤكد آدم سمث أن خير المجتمع يكمن في ميل الإنسان – بحكم الطبيعة المجبول عليها - إلى العطف على الآخرين. فهذا الميل هو العامل الذي يراقب الإنسان ويحاسبه فيما لو أن أنانيته وحبه لذاته قد طغت عليه وبلغت درجة تتنافى مع الخير العام وتتعارض مع ما هو أخلاقي.

ويؤكد هالدن هاهنا، أن البحوث التجريبية الحديثة قد أبانت عن أهمية العدل والإنصاف والتكاتف الاجتماعي بالنسبة لاستقرار الأنظمة الاجتماعية-الاقتصادية. وهكذا، وفيما لا تثير النتائج المستخلصة من هذه البحوث التجريبية أية دهشة لعلماء الاجتماع، والباحثين في علم السلالات والأجناس البشرية، تقلب هذه النتائج عالم الاقتصاديين رأساً على عقب.

وكان هالدن قد أذاع تصوراته هذه على الملأ، في المقدمة التي كتبها للمؤلف، الذي نشرته جامعة مانشستر في النصف الأخير من نيسان عام 2014، بعنوان“Economics, Education and Unlearning”. وحظيت هذه التصورات بتأييد الكثير من أساتذة الاقتصاد العاملين في الجامعات البريطانية وجامعات أخرى غير بريطانية، وراحوا، بدورهم، يطالبون بضرورة إصلاح مناهج علم الاقتصاد على ضوء المعارف التي توصلت إليها الفروع العلمية الأخرى. ويشير هالدن، في هذا السياق، إلى "معهد الفكر الاقتصادي الجديد" “Institute for New Economic Thinking (Inet)، أي إلى المعهد المدعوم من قبل رجل المال جورج سورو (George Soros) وبول فولكنر (Paul Volkner)، رئيس الاحتياطي الفيدرالي بين العامين 1979 و1987. فهذا المعهد يطالب، بقوة وإلحاح، بضرورة إعادة هيكلة الدراسات الاقتصادية الجامعية.

ومع اعترافنا بأن وجهات نظر المتمردين على النظرية الاقتصادية بثوبها الكلاسيكي المحدث، لا تشكل نظرية متكاملة بأي حال من الأحوال، إلا أنه لا يجوز أن يغيب عنا أننا إزاء عملية تمرد تزداد اتساعاً من يوم لآخر، وأن عملية التمرد هذه قد وضعت اللبنات التي يمكن أن تعلو فوقها نظرية اقتصادية كلية تفترض أن الإنسان، مخلوق يخضع لغرائز حيوانية، وأن قراراته لا تتصف، دائماً وأبداً، بالرشاد، وأن أسواق المال لا تتسم، أبداً، بالكفاءة والميل إلى الاستقرار، أعني يمكن أن تعلو فوقها نظرية كلية تمتزج فيها العلوم الاجتماعية المتمثلة بعلم الاقتصاد وعلم النفس وعلم الاجتماع. فإهمال علم الاقتصاد الأخذ بما توصل إليه علم الاجتماع وعلم النفس، هو الأمر الذي يفسر لنا سبب عجزه، من ناحية، عن تفسير أزمة الرهونات تفسيراً يحيط بالموضوع من كل جوانبه، ومن ناحية أخرى، عن تقديم العلاج الشافي لهذه الأزمة والأزمات المقبلة.


إلا أن الواجب يحتم علينا، أن نلمح، هاهنا، بأن بول كروغمان - الاقتصادي الأمريكي الحائز على جائزة نوبل – قد نوه عن موقف مخالف بعض الشيء. ففي عموده الصحفي الأسبوعي، أكد كروغمان، قبل بضعة أسابيع، أن الاقتصاديين لم يتنبئوا بالأزمة، ليس لأنهم كانوا يفتقدون النماذج الاقتصادية المناسبة، بل لأنهم لم يركزوا منظورهم على عالم النشاط الاقتصادي الحقيقي، وتجاهلوا، كلية، عالم مصارف الظل. وبهذا المعنى، فإن كروغمان لا يعتقد بأن الاقتصاديين كان ينقصهم الإدراك الذهني المناسب، بل يرى أنهم كانوا قصيري البصر، وارتكبوا خطأً كان بوسعهم تلافيه، فيما لو كانوا قد أمعنوا النظر في الوضع السائد في عالم الظل.
د. عدنان عباس علي
أستاذ جامعي من العراق



#عدنان_عباس_علي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- من تاريخ الفكر الاقتصادي - التحليل الاشتراكي للأزمات الاقتصا ...
- من ناريخ الفكر الاقتصادي - التحليل الاشتراكي للأزمات الاقتصا ...
- من تاريخ الفكر الاقتصادي - التحليل الاشتراكي للأزمات الاقتصا ...
- من تاريخ الفكر الاقتصادي - التحليل الاشتراكي للأزمات الاقتصا ...
- من تاريخ الفكر الاقتصادي - التحليل الاشتراكي للأزمات الاقتصا ...
- منطقة التجارة الحرة الأورو-أمريكية
- أسباب وأبعاد الأزمة الناشرة ظلالها على أسواق العملات في العد ...
- أساليب كبرى المصارف المركزية في التعامل مع الانهيار الكبير ف ...
- القرن القادم: هل هو قرن صيني أم أمريكي؟
- العملة الصينية تسير بخطوات مترددة ووئيدة صوب التحول إلى عملة ...
- الاتجاهات المثالية والمادية في الفلسفة الأوربية الحلقة الثان ...
- الاتجاهات المثالية والمادية في الفلسفة الأوربية (الحلقة الأو ...
- آفاق التعاون بين الاتحاد الأوربي ودول المغرب العربي في مجال ...
- الصناديق السيادية - وأهميتها في النظام المالي الدولي
- النشاط الاقتصادي الصيني في أفريقيا: أهو استعمار جديد أم منهج ...


المزيد.....




- هل تتعاطي هي أيضا؟ زاخاروفا تسخر من -زهوة- نائبة رئيس الوزرا ...
- مصريان يخدعان المواطنين ببيعهم لحوم الخيل
- رئيس مجلس الشورى الإيراني يستقبل هنية في طهران (صور)
- الحكومة الفرنسية تقاضي تلميذة بسبب الحجاب
- -على إسرائيل أن تنصاع لأمريكا.. الآن- - صحيفة هآرتس
- شاهد: تحت وقع الصدمة.. شهادات فرق طبية دولية زارت مستشفى شهد ...
- ساكنو مبنى دمرته غارة روسية في أوديسا يجتمعون لتأبين الضحايا ...
- مصر تجدد تحذيرها لإسرائيل
- مقتل 30 شخصا بقصف إسرائيلي لشرق غزة
- تمهيدا للانتخابات الرئاسية الأمريكية...بايدن في حفل تبرع وتر ...


المزيد.....

- النتائج الايتيقية والجمالية لما بعد الحداثة أو نزيف الخطاب ف ... / زهير الخويلدي
- قضايا جيوستراتيجية / مرزوق الحلالي
- ثلاثة صيغ للنظرية الجديدة ( مخطوطات ) ....تنتظر دار النشر ال ... / حسين عجيب
- الكتاب السادس _ المخطوط الكامل ( جاهز للنشر ) / حسين عجيب
- التآكل الخفي لهيمنة الدولار: عوامل التنويع النشطة وصعود احتي ... / محمود الصباغ
- هل الانسان الحالي ذكي أم غبي ؟ _ النص الكامل / حسين عجيب
- الهجرة والثقافة والهوية: حالة مصر / أيمن زهري
- المثقف السياسي بين تصفية السلطة و حاجة الواقع / عادل عبدالله
- الخطوط العريضة لعلم المستقبل للبشرية / زهير الخويلدي
- ما المقصود بفلسفة الذهن؟ / زهير الخويلدي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - عدنان عباس علي - الأزمة المالية والاقتصادية العالمية وانعكاساتها على النظرية الاقتصادية