أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - القاسم موسى محمد - المُبتسرون الجدد- تأملات فى الثورة والثقافة فى مصر















المزيد.....


المُبتسرون الجدد- تأملات فى الثورة والثقافة فى مصر


القاسم موسى محمد

الحوار المتمدن-العدد: 4457 - 2014 / 5 / 19 - 08:21
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


مرةً وحيدة أذكرها من طفولتى، شاهدت فيها عبدالباسط حمودة فى أغنية مصورة على القناة الثانية، وبعدها لا أذكر أنى رأيته أو سمعته إلا من خلال رائعته
المدوية:أنا مش عارفنى ، حتى سنوات التسعينات لم نكن قد دخلنا بعد إلى عصر ثورة الاتصالات ، فكان ظهور مطرب وانتشاره مرهونا بعوامل كثيرة ،لم يكن من بينها فيما يبدو كونه معبرًا عن قطاعات أوسع من المجتمع أو همومها،ومع ظهور الانترنت اختلف الوضع تماما، ونحن لسنا استثناءًا ،فالمفارقة التى لاحظها علماء الاجتماع أن "العولمة" لم تجعل من العالم قرية صغيرة ولم تنجح-حتى الآن- فى تذويب الفوارق بين الثقافات أو فى السير بالبشر نحو ثقافة كونية واحدة كما تنبأ البعض، بل إن ثورة الاتصالات شهدت بزوغًا لثقافات جماعات عرقية ودينية وسياسية صغيرة ومتناهية الصغر وسعيها للتأكيد على وجودها واستمرارها ،، تلك الظاهرة التى يمكن تفسيرها بكونها رد فعل طبيعى من قبل أناس كانوا يتعرضون دائما لتهميش واستبعاد من ساحات التأثير الثقافى والاجتماعى .ومنذ مطلع الألفية بدأ انتشار سريع وواسع لمنتجات فنية لم تكن متداولة فى نطاق أوسع وإذا أردت أن أكون أكثر تحديدا فأنا أقصد أن أضرب المثال بأغنية عبدالباسط وبأغنيات أخرى مشابهة لم يكن التليفزيون أو أى وسيلة إعلامية فوقية، سببا فى انتشارها، وإنما :الانترنت ، الذى يعطى انتشارًا حقيقيًا تفاعليًا ـ يبدى البعض استغرابه من مغنين مثل أوكا وأورتيجا وقبلهم من انتشار أغانى عبدالباسط وطارق الشيخ والليثى وغيرهم،لكن من الواضح أن تلك الأشكال الفنية"الغناء الشعبى كما نما فى الافراح البلدى او حتى فى الكباريهات، والذى يرتكز على أساسا على تراث موسيقى وشعرى شعبى مصرى كما فى الموالد وموسيقى الصوفية والشعراء الشعبيين ورواة السير الشعبية " كانت موجودة فعليا ومنتشرة جدا قبل أن تصل لآذاننا نحن المثقفين وأنصاف المثقفين .. ولكنها الآن تعيد تأكيد وجودها من خلال فضاءات الانترنت التى سهلت تداولها برغم رداءة وربما تخلف إخراجها التقنى أحيانا إلا أنها تستنبت إرثا موسيقيا له مخزون وجدانى فى ذاكرة المصريين، فيستجيب له قطاع اوسع ولانه يمس معاناة الشريحة الواسعة من الصنايعية والعمال الغير متعلمين من سكان المدن الكبيرة وربما أحيانا الفلاحين و هو رد فعل ينطوى على تمرد ومن الممكن أن نرى فيه وجدان
المعتز بوطنيته والذى يُعيّر فى نفس الوقت بأنه لا يجيد فهم اللغات الاجنبية ولايتذوق الموسيقى الغربية،يعيّر بأنه جاهل وفقير ايضا

هوا احنا يعنى عشان غلابة .. لابتوع قراية ولا كتابة
يهينونا؟ فلتحيا التفانين !

سيد درويش كان منحازا لتلك الفئات لأنه كفنان ثورى كان يعرف أنهم المنوط بهم القيام بالثورة والتضحية فى سبيل تحرير الوطن: أى المصريون أنفسهم والذين كانت النسبة الأغلب منهم أمية .. وعمليا لاتزال كذلك حتى الآن وهو مايعنى حاجتنا إلى أكثر من ثورة ثقافية تظل شرطًا أساسيا فى بناء مجتمع حرّ

، تاريخ هذا الجدل بين الثقافة الشعبية والنخبوية فى مصر- إذن- قديم قدم الحداثة نفسها،يفرق المصريون منذ قرن أو ربما أكثر بين "الحجات" : البلدى والأخرى :الالافرانكا ،بلغة الافلام الابيض واسود .. ويعود هذا التقسيم الأكثر جلاء طبعا إلى عصر أكثر طبقية وهو عصر الباشوات، وقد كان تقسيما حادًا، فالأثرياء من إقطاعيين ورأسماليين هم من فى "استطاعتهم" الدخول فى الحياة الالافرانكا : من مأكل وملبس وأوتوموبيل .. حياة أكثر انفتاحا ولغة أكثر تهذيبا..أما أبناء الريف ،القاعدة الواسعة من شعب مصر فهى تعرف يقينا أن هذه ليست حياتها وبالتالى حتى لا تحلم بها وفى الغالب تهاجم قيمها باسم الاخلاق والتقاليد أو القيم الدينية .. ويبقى الافندية "الطبقة الوسطى"ممزقين بين هؤلاء وهؤلاء، وبغض النظر إن كانت أصولهم ريفية أو مدينية، إن كانوا أبناء فلاحين أو صنايعية وعمال.. فهم يعانون من توقهم للصعود لحياة الاغنياء ومن نفورهم من البذخ والظلم الاجتماعى، وطبعا كانت هناك " القضية الوطنية " ،والتحرر من الاحتلال، وبالتالى كان هذا الجدل الثقافى يستحيل إلى صراعات تتداخل فيها الانحيازات وتكثر فيها التناقضات : فليس كل أنصار التحديث عملاء للاحتلال وليس كل الرجعيين مقاومين له ..لكن التفرقة كما تعكس تمسكا بالمصرية عند البعض تعكس احساسا بالدونية عند الآخرين أو ربما الاحساسان كلاهما متداخلان ومتصارعان خصوصا داخل نفسية المصرى المثقف الذى يرى محاولات السيطرة على مقدرات بلده وشراء حكامه وافقاره وفى نفس الوقت يرى الحالة المزرية للقاعدة العريضة من الشعب، رمزا لتلك الحياة البلدى البائسة، التى يبدو الخلاص منها اصعب من طرد الاحتلال/الثورة، ومرهونا أحيانًا ببيع قضية الوطن أو
بالقفز من سفينته والهرب منه كما كانت الهجرة ولا تزال عنوانًا لأزمة الانسان المصرى المثقف المقموع/الخائف.

ومن الواضح جدا أن مسارات نظام يوليو ليست إلا تأكيدا على هذا التخبط الذى تعانيه الثقافة المصرية لدى الطبقة الوسطى المثقفة وبعد ان انتقلت القيادة إلى فئات العسكريين وهم يحسبون على الطبقة الوسطى أيضا ،ثم مشاركة أوسع للرأسماليين منذ عصر السادات .. فمصر التى كان زعيمها يتبنى خطابا عروبيا ذا نزعة ماركسية، أصبح زعيمها بزبيبة صلاة ويدعو لجمهورية العلم والإيمان، ثم أصبح زعيمها بكرش متعاظم وابتسامة فاترة، ولا يدعو لأى شىء على الإطلاق ،وعند سقوطه ترددت الزعامة من أكاديمى رجعى يجيد فقط الكلام بالقرآن والسنة فإلى عسكرى طامح يحاول بائسًا إحياء روح الأبوية عبر خطاب مبالغ فى انفعاليته .
طبقة الحكم اليوم من الصعب مقارنتها بطبقة الأمس قبل يوليو وربما هذا سبب أساسى فى حالة الحنين الزائفة لمصر ماقبل الخمسينات حيث الاهتمام بالفنون الجميلة وبالاداب وحيث كان للطبقة الحاكمة الاقطاعية وقتها رؤى جمالية وفكرية ووعى بأهمية الفكر فى حياة الإنسان"النبيل فقط بالطبع" بعكس رأسمالية اليوم بأطيافها المختلفة فلا فرق كبيرًا بين فرع شركة متعددة القومية فى مصر، وبين مكتب لاستيراد البضائع الصينية وتوزيعها ، فكلاهما بعيد عن إنتاج
أى رؤية جمالية لواقعه وإذا فهم ماذا نعنيه حقًا :بالفن .. أصلا ،فسيعتبره سلعة قد تكون ذات قيمة، لكن ليس هنا بالطبع ،حيث لا طلب عليها فى مدن الفقراء المليونية ، وكلاهما فى النهاية جيران فى نفس الكومباوند السكنى القمىء، وإن امتلأ بمظاهر البذخ ووسائل الرفاهية الغير فنية واللا إنسانية قطعا.
الطبقة الوسطى المثقفة فشلت فى أن تكون قائدا وبالتالى اكتفت بدور المحلل للحكم العسكرى المتحالف مع الرأسمالية والثوريون منهم انقسموا على أنفسهم وقد رزحوا عقودا تحت نير القمع الذى لاهوادة فيه والواضح جدا أن هذه الطبقة المثقفة تجيد خلق الانقسامات فيما بينها وتكريسها وهنا يمكن أن نضرب مثالاَ بتيارات ثلاثة فى الفكر *الثورى* المصرى إذ كوننا منحازين لفكرة الثورة واعتقادنا أنها كانت مخرجًا أوحد لوطن منهوب فقير ،وأنها تأخرت سنين طويلة ،يجعلنا نهمل الأفكار الغير ثورية على الاقل منذ أواخر عصر السادات وأن نضع مثقفيها جميعا فى سلة واحدة تضم من يمكن أن نسميهم بلارحمة :المثقفون الخونة .. وللإيضاح فإننا
نصمهم بخيانة أبناء طبقاتهم المحرومين من أبسط حقوقهم المادية والسياسية ولا نستخدم لفظ الخيانة كما يستخدمها العسكر فالوطن يعنى لنا أكثر بكثير مما يعنى لهم .. والوطن لمن يُترعون من خيراته ليس كما هو لمن ينزفون الدم من أجله أو يصيبهم الجنون -حقيقة-فى حبه .. وللإيضاح أكثر يمكننا أن نسمى أغلب رجال الدين الرسميين ضمن هذه الفئة إلى جانب مثقفى السلطة وهم جميعا دافعوا عنها دائما وجميعا أيضا قبضوا ثمن
دفاعهم عنها فى مختلف الفترات .

التيارات الثلاثة التى نعنيها هى : التيار الاسلامى ، والتيار الليبرالى ،والتيار الاشتراكى بجناحيه الناصرى والماركسى .. يعكس وجود هذه التيارات مواقف متمايزة من السؤال القديم الجديد.
كثيرا ماسمعت من أنصار التيار الاسلامى اتهامهم ل"النخبة"المصرية أنها تعانى من "الاستلاب"ووفقا لفهمهم فإن هذا يعنى أنها تعانى من عقدة الخواجة"نفس مركب النقص" ولا نحتاج فى الرد على هذا سوى أن نُعرّف من لايعرف أن هذه الكلمة وجدت طريقها للثقافة العربية ربما حين ترجمت كتابات هرمين من أهرام الفكر الغربى هما : هيجل وماركس .. وهى ترادف كلمة اغتراب وربما يجهلون أيضا أن الإنسان المغترب ليس سوى هارب بإنسانيته من واقع غير إنسانى ! وهو مايصح على العلمانيين وعليهم أيضا وعلى إنسان العصر الحديث عموما، وربما عصور أقدم ! فهى ليست شتيمة فى كل الأحوال كما اعتقدوا من صدى الكلمة لديهم !فإن كان العلمانيون مغتربين عن بيئتهم الجيوثقافية فإن الاسلاميين مغتربون عن زمانهم ! فهؤلاء يبحثون عن إجابات لأسألة محلية خارج حدود جغرافيا الوطن وأولائل يبحثون عن إجابات لنفس الأسألة عبر السفر فى الزمن إلى زمن الخلافة الإسلامية وننوه للإسلاميين أيضا أن مفهومهم للنخبة إذا كان يشمل سلامة موسى وطه حسين وغالى شكرى ونجيب محفوظ وحتى علاء الاسوانى مثلا ،فإنه لابد أن يشمل محمد رشيد رضا وحسن البنا وسيد قطب وحتى فهمى هويدى ! وإن كان حظ نخبتهم من التعليم والثقافة قليلًا، كما أن إسهاماتهم الإبداعية فكرا وفنا نادرة أو منعدمة، ولو كان مفهوم النخبة اقتصاديًا فسأكون معهم وبشدة فى لعن كل النخب المتخمة بالأموال سواء كانوا فنانين أو لاعبى كرة أو خيرت الشاطر وحسن مالك! وتقف محاولة بائسة فى التوفيق بين الاسلاميين وخصومهم مثل كتابات الدكتور حسن حنفى وهى تستحق ان توصف بالبؤس ليس فقط لأنها لم تجد من يسمع لها بين الفريقين ولكن لأنها وبسبب إدراكها، عدم قدرة المعارضة على إزاحة الدكتاتورية، دون أن تتوحد، تغاضت عن إدراك عدم قابلية الفريقين لتقبل كل منهما الآخر خاصة أن احدهما يعتبر الآخر كافرا والآخر يعرف أنه يعتبره كافر
االانقسام الحاد يعكس طفولة فكرية لدى الفريقين والفكر لايتطور إلا من خلال الممارسة ولأن التيارات الثورية بالذات عانت من القمع الشديد وبالتالى ظلت أفكارها تحت الارض فلا تواجه التحديات الحقيقية للواقع ،بل تنكفىء على أوهامها المثالية أو على "سردياتها الكبرى" ، ولهذا نجد مرونة أكبر من الإخوان-مثلًا- كلما فتح لهم طريق لممارسة السياسة لكن ولأن بذور الوهم مازالت قابلة للاستنبات فإنهم يعودون للانكفاء سريعا كلما عاجلهم النظام بضربة كبرى من مثل ماحدث فى الأزمة الأخيرة ..
واليسار الماركسى مثال واضح أيضا لهذا الانكفاء وليس غريبا أن لازال الشباب الماركسى يتناقش حول ديكتاتورية البروليتاريا بينما المجتمع على حواف الانفجار وبينما تتشكل القوة الثورية الفعلية البائسة من الشباب والطلبة أنفسهم الذين يصرخون فى وجه غموض مستقبلهم وانسحاق فرديتهم فى زحام توظفه الرأسمالية لصالح أرباحها عن طريق خلق جيش عمالة احتياطى والإبقاء عليه عاطلًا ،أما البروليتاريا فهى بعيدة عن ذلك الأثر السياسى الحرج الذى تصفه كلاسيكيات الماركسية فحتى الحركات العمالية ذات الخبرة فى الممارسة ورغم أننى - كماركسى!- أؤكد بنفسى على أهمية الدور الذى يلعبونه فى إزعاج السلطة وتقويضها، حين يحتجون أو يضربون لكنهم وحتى الآن لا انتظموا فى نقابات ولا فى أحزاب ثورية أو غير ثورية فهم مثل كل المواطنين المصريين كانوا
ممنوعين من مجرد الكلام فى السياسة ولايزال الطريق أمامهم كما هو أمامنا طويل

انا بعت الدموع الدموع والعمر
طرحت جناينى فى الربيع فى الربيع الصبر
وقلت انا عاشق،سقونى كتير المر
ورا الشبابيك !


لقد ماتت الأيدلوجيا -حقًا -ولكن لم يمت ولع الإنسان بالحرية، وبإيجاد حقيقته ومعنىً لوجوده ،فإذا فرضنا أن بعض البشر قد يرفض فكرة التضحية -بالوقت والفكر والشعور أو حتى بالدم : بالروح " من أجل الآخرين أو مبدأ موضوعى ما متسام عن ذواتهم ،" وبالبلدى :-فكك من الشعارات -وكل عيشك -وفى سياق جيلى:- آخر احنا عاوزين نربى عيالنا "، فهناك أيضًا البعض الآخر ممن يستطيع ويفعل ذلك دون أن يملك صكا لجنّة ما، أو صكًا بأى حقيقة كانت، وفى المقابل هناك من يتمتع بحاسة الشر بدرجات أعلى والانسان أى انسان من الملاحظ أنه يمتلك الحاستين ويتشكل تكوينه الروحى " لو أردنا أن نسمى الدوافع الوجودية للسلوك البشرى وللوعى .. للثورة أو للجريمة فلنتسامح مع الكلمة _الروح_ولنتشبث باستخدامها طمعا فى الإمساك بها يومًا ما !" ،هذه الروح تتشكل من عوامل موروثة ومكتسبة من الجينات كما من المدارس والشاشات، الأرواح الإنسانية هائمة، وإذا كان الصراع من أجل الاحتياجات الأولية للحياة البشرية يبلغ مداه ويلبس كثيرا ثيابا جهنمية فكيف بعالم منفلت قد تنمو وسط مساحات الجهل فيه ملاحم صغيرة يقودها المغامرون المجانين والأنبياء المراهقون ويقودون الجوعى : للانفجار بعبوات ناسفة حول خصورهم
أو قتل إخوانهم بالرصاص لأنهم يخونون الوطن !

"فلنحذر إذن من أن فوضى الأفكار، ومزيد من انكفاء الناس على ذواتهم فى مدن الزحام القاتم تلك، من الممكن أن تولد جيوشًا بالغة التشرذم من المؤمنين ب"كيتش وهمى وممن لم يرق إلى تفكيرهم أن السرديات الكبرى قد سقطت عنها كل قداسة وتعرت لتفضح ميولا انتهازية لدى البشر لاستخدام سلطة قداستها للسيطرة على قطعان بشرية وتسخيرهم حتى لإشباع جنون فرد يعانى من مركب نقص ..

نحن هنا نقدم الصياغة -الأصيلة- للخوف على -سفينة-الوطن من الغرق ،بديلا عن الوطنية الزائفة التى تتاجر بها دعاية السلطة العسكرية فالقمع هو ما صنع ويصنع الإرهاب، والعدالة العرجاء هى ما ملأت صدور البشر بالغل والإحباطات ، والإفقار والتهميش هو ما يدفع بالناس فى مستنقع يشربون فيه خراء الأفكار الإنسانية التى ولدت فى مستنقعات أخرى فى عصور بشرية أخرى، والمثال الواضح فى حالتنا: هو كتاب "معالم فى الطريق"لسيد قطب ،الأديب الرقيق الذى اغترب فى تراث فكرى مهمل وعظيم ،وبدا أن وأده مستهدف ـفتحول مدافعًا عنه إلى نبى من أنبياء القرن العشرين، الذين يدعون إلى القتال من أجل كيتش قديم، ويبشر بزمن إنسانى جديد تحت راية جيل قرآنى فريد، ولا بد أنه فى السجن تعمق فى اغترابه أكثر ،وقد ألف أثناء سجنه تفسيرًا أدبيًا وصوفيًا للقرآن الكريم فى عشر مجلدات من الممكن أن تطالعه وستعرف أن الشعراوى-مثلًا- محدود الموهبة الأدبية جدا !ومن المؤكد أن سيد قطب لم يكن إذا اختبر أفكاره فى الممارسة سيقدر على ذبح فرخة ولكن تراثه بنيت عليه تنظيمات مسلحة فى شتى بقاع الأرض ، من مصر ، كما انتشرت المسيحية من مصر للعالم وكما عمت موجة الثورة كل بلدان العرب حين مرت على مصر!


لقد كان ميدان التحرير نموذجا لتجاوز كل الحواجز المقسمة للبشر ولاسيما سياسيًا تحت راية مبدأ إنسانى واحد، وهدف يبدو أنه سامٍ جدًا ،لكن ما إن بدأت اللعبة تحتدم، حتى ظهر الواقع بقساوته، وعندما اتسعت الرقعة بدأ العساكر يطيحون كالمجانين ،هنا وهناك ،ووقف الملك وسدنته يتفرجون ،ويأمرون باصطياد الشهداء شهيدًا تلو شهيد ،والهدف السامى لايزال واضحًا وضوح الشمس : إنه ليس كيتشا أيدلوجيا ،لكنه ببساطة حياة أفضل لنا ولكل من يحيون وسيحيون فى هذا البلد .صحيح أن ملامح الفكرة فى الممارسة مبهمة لكنها تبدأ وبدأت باستحالة الاستكانة لسلطة كانت خصمًا لهذا الحلم وكافحت لكى تأده فى المهد إن السادة لن يرغبوا حتى فى تغيير شروط العبودية ،أما الأحرار فإنهم يسعون لانتزاع مزيد من حريتهم المسلوبة المسلوبة من سلطة الدولة القمعية التى تعجز أن تفهم أن المحكومين بشر لهم كرامة وأنهم لا يعيشون فى قطيع بهائم



* : "المثقف المتعالى رغما عنه أم بإرادته"


رغم أن عزلة المثقف عن الجماهير قد تؤدى إلى إعدامه مثل سقراط إلا إنها تبدو أحيانًا لامفر عنها عندما يكون المفكر استثنائيا وسابقا لعصره الفكرى ولكن هذا قد يصح على الفيلسوف- وربما على الفنان ولكنه لا يمكن أن
يصح لأى مثقف ،أو بتعبير أشمل لأى إنسان -مواطن "ناشط" ، يدعو إلى تغيير سياسى ..فبينما نبعت تلك الأفكار جميعا من انحطاط يعم واقعنا المادى والروحى .. ورغبة فى تغيير جذرى يبعث الحياة من جديد فى هذا الموت الشامل .إلا أن الآفة التى جمعتها جميعا هى عزلتها عن وعى القطاعات الاوسع من جماهير الشعب انها عزلة لم يخترها هؤلاء الثوريون وإن كانو قد استمتعو بها بشكل أو بآخر من حيث أنها تضعهم فى موقع متعال وتشعرهم
بحالة تسام خاصة تميزهم عن بقية أبناء الشعب كان هذا حال الدايرة المقطوعة لثوريى المحروسة المخلصين منهم الذين تشهد عليهم دماؤهم والانتهازيين منهم الذين يقبلون مساومة السلطة فى لحظات الاتضاع الإنسانى قد تتحول الفكرة السامية إلى "أكل عيش" أيضًا



وماذا عن المبتسرين الجدد ؟ هذا الوصف أخلعه على نفسى وأراه مناسبا جدا لوصف حالة جيلنا ممن كانو فى مقدمة الصف الثورى ضد نظام مبارك والذين لايزالون فى مقدمته حتى الآن ضد الحكم العسكرى .. والفارق الجوهرى بيننا وبينهم أننا جئنا فى زمن مابعد موت الايدلوجيا /مابعدمابعد الحداثة ! فقد رأى البعض أن الأيدلوجيا ماتت بينما لاتزال حية عند مجموعات اليسار الماركسى الصغيرة ،وقطعا هى لم تعانى من( تجربة الموت) أصلا عند الإسلاميين لأن فكرهم يمكن اعتباره يتحرك خارج الحركة العامة للتاريخ فهم مستلبون زمانيا ! كما أسلفنا
وبين اليسار الماركسى والتيارات الاسلامية يقف غالبيتنا دون عقيدة جامدة على ارض واقعية ليست صلبة ودون أن يقبلوا أن يسموا أنفسهم مثقفين ولا طليعة ثورية باختصار دون أن يكونوا هدفا سهلًا لأى قولبة أو تصنيف جاهز، ولكن يبدو أنها متهمة -مبكرًا-بأنها ورثت آفة أسلافها فى تعاليها أو ربما تقوقعها ..البعض ينتقد جيتو الثوار -المثالى المتعالى .. والحقيقة أنه ليس سوى مجموعات من الأصدقاء القريبين روحيًا أكثر من أى شىء آخر كان لميدان التحرير دور أساسى فى ربط دوائر متداخلة من الشباب والطلاب المهتمين بالفكر والسياسة أو الأدب والفنون والذين صاروا جميعًا مسيسين رغمًا عنهم عندما اندلعت الثورة،ومن الأصدق أن نعتبر أنفسنا مغتربين أيضًا بدلاً من أن نؤكد تهمة التعالى ، ولا أجد مثالا أوضح من هذا البوست المعبر
Ahmed El Bahar May 7 · Edited تخيل كدة أنت مسحول في تجهيزات فرح كبير على وضعه والفرح لواحد من أصحابك القريبين اللي بتقرر انك لازم تتعبله، وفي يوم الفرح لما يتنصب تيجي تدخل الصوان تلاقي أن الفرح أكبر ما كنت متخيل والمجالات فيه اكتر ما كنت متخيل، وكل مباهج الحياة وبضانها موجودة جوا، وكله مسحول، بس النبطشي منطقش اسمك ولا حد جه يحييك ولا يقعدك، بل أن صحابك مش موجودين ولا العريس، فبتضطر تستنى لغاية متفهم، لغاية متلاقي الليلة والمجالات شغالة ومحدش جابلك قعدة ولا ترابيزة حتى ولا مزاجك، فأنت بتعد على كرسي لوحدك لغاية ما يبانلها صاحب، وساعة ورا ساعة والفرح ينفض وكل واحد يروح لحال سبيله وأنت لوحدك مش لاقي اللي تعرفهم ولا خدت مزاجك ولا أتقدرت واتعمل معاك الصح.. تخيل كدة وبعدين أبقى تعالى قولي اليأس خيانة
لشاب ثورى تميزه لغته النقدية الحادة قد تصدم بعض الكبار، متعالية كونها واعية بذاتها، وضاربة عرض الحائط بمفاهيم الزيف الأبوية، عن الوطن الأم " بالأحرى الكسم" أو عن العدالة العرجاء أو الخوف المقدس الذى يلبس ثوب الاحترام..

يمتاز غالبية الثوار من جيلنا أنهم لايدّعون امتلاك أى نوع من الحقائق وربما كان هذا إدراكًا ، لدروس القرن العشرين ،للسقوط الكبير للأنظمة الاشتراكية القمعية وتهرأ ما تبقى من نظم استبدادية تدعى التمسك بأيدلوجية ثورية، وللتداعى الاخلاقى لفكر الصحوة الإسلامية كما نراه عند القاعدة وطالبان أو عند إخوان السودان أو بوكو حرام أو المحاكم الإسلامية وكافة التجارب الأخرى التى شاركت فى الحكم أو اقتربت منه ومارست العنف من أجله .. ويمتازون بعلاقة أكثر توزانا وصحية بين الذات والآخر بين التراث والمعرفة الغربية الحديثة، فربما لم يكن متاحًا لجيل قبلنا هذا الاحتكاك بالأفكار وأنماط الحياة الغربية حتى دون السفر إلى الغرب وهو ما وفر معرفة أشمل وإن كانت لم تزل أقل من أن تنتج مشروعا فكريا كاملًا لحضارة مصر، ولواقعها ،ولكنها تضع يدها على الأولويات المتمثلة: فى الحريات السياسية والحقوق الاقتصادية، ضد القمع، وضد الإفقار ، ضد السلطة الأبوية والهيمنة الذكورية، ومع إعادة بناء أجهزة الدولة وفق معايير إنسانية مبدأية .. ضد توحش سلطة القمع المسلح متمثلاً فى الشرطة والجيش وضد ابتزازهم للشعب بقوة السلاح وباسم الوطنية الزائفة الجوفاء

من انكسار الروح ف دوح الوطن
يجى احتضار الشوق ف سجن البدن
من اختمار الحلم يجى النهار
يعود غريب الدار لاهل وسكن

فى طفولتى كنت أسمعها وأفهمها:يعود غريب الدار لا اهل وسكن ،يعنى يعود النهار غريب الدار بلا اهل ولا سكن ،ربما كان المعنى أكثر اتساقا لدىّ حينها مع الحزن الغير المبرر الذى كان يصيبنى مع الكوبليه التالى : ليه يازمان ماسبتناش ابرياا !
كتبت هذا المقال تحت وطأة تلك الذكرى الطفولية الحافلة بالدهشة إزاء حُلم كان غامضًا فى وجدانى وحين بدأت أعيه أكثر واندفعت خلفه، بدا أن هذا النهار لايزال غريبا حين جاء ولم يجد له اهلا وسكنا حولنا تماما كما أحسست فى طفولتى، لكن إيمانى -الغير مبرر ربما أيضًا-بالحلم ،يدفعنى إلى ترديد الأبنودى بدلا من سيد حجاب:أبدا بلدنا ليل نهار.. بتحب موال النهار لما يغنى ف الدروب ويعدى قدام كل دار !وأتفاءل بتلك الأغنية فى امتداح النكسة التى أسقطت صنم آخر زعيم صنعه المصريون،فلم يقدسوا بعده فرعونًا ،فقد انتهى الآن حكم الزعيم الفرد فى مصر وبقى أن نبنى مجتمعًا حرًّا لا يقيدنا فيه أى نموذج ولانص مقدس أو مدنس ،لايقيدنا سوى تطلعنا لمزيد من الحرية ولبراح متسع للحب، فدعونا نسهر على الحلم حتى يختمر ، نختبر أفكارنا ،نقرأ ، ونكتب،ونمسح ماكتبنا ونعيد كتابته،نردد الأغنيات ونسمعها للناس جميعا فى كل مكان حتى يغنى معنا الجميع ،جميع المُستغَلين ضد المُستغلِين جميع الفقراء ضد سارقيهم،الأحرار ضد سجانيهم ،الشعراء والرسامون ضد قوات مكافحة الأحلام


وعَودًا على بدء ..يبدو أن أمامنا مشروع طويل معرفى كى يعيد اكتشاف الرموز الراسخة لهوية الشعب المصرى وكى يصوغ من واقعه رؤى تترجم لخطط عملية تخلق تكتلًا وطنيًا فعليًا بين عمال مصر وصنايعيتها وفلاحيها وعموم مهمشيها المتعلمين منهم وغير المتعلمين ، دون أن يوجد انقسام زائف بين الاشياء " البلدى" وتلك الآخرى "الآلافرانكا " أو (النضيفة) على حد تعبير برجوازية العصر الراهن ال"غارقين فى الجهل"الذين عليهم أن يشرفوا ب"وساخة" ماضيهم -قبل الطفيلى- مقابل "
نضافة" واقعهم الخالية من أى روح أو فكر أو مبدأ إنسانى نبيل "


..................


إشارات : المبتسرون - أروى صالح ،مستقبل الثقافة فى مصر -طه حسين ، فى ظلال القرآن -معالم فى الطريق-سيد قطب، الثورة المضادة فى مصر - غالى شكرى، المحاورات - أفلاطون

سيد درويش التحفجية
سيد حجاب أغنية تتر مسلسل ليالى الحلمية
الأبنودى : أغنية عدى النهار



#القاسم_موسى_محمد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- صراع الأسود والثعالب .. ومواقف القوى الثورية
- اليسار المصرى - الخروج من النفق المظلم


المزيد.....




- سلمان رشدي لـCNN: المهاجم لم يقرأ -آيات شيطانية-.. وكان كافي ...
- مصر: قتل واعتداء جنسي على رضيعة سودانية -جريمة عابرة للجنسي ...
- بهذه السيارة الكهربائية تريد فولكس فاغن كسب الشباب الصيني!
- النرويج بصدد الاعتراف بدولة فلسطين
- نجمة داوود الحمراء تجدد نداءها للتبرع بالدم
- الخارجية الروسية تنفي نيتها وقف إصدار الوثائق للروس في الخار ...
- ماكرون: قواعد اللعبة تغيرت وأوروبا قد تموت
- بالفيديو.. غارة إسرائيلية تستهدف منزلا في بلدة عيتا الشعب جن ...
- روسيا تختبر غواصة صاروخية جديدة
- أطعمة تضر المفاصل


المزيد.....

- في يوم العمَّال العالمي! / ادم عربي
- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - القاسم موسى محمد - المُبتسرون الجدد- تأملات فى الثورة والثقافة فى مصر