أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - القومية , المسالة القومية , حقوق الاقليات و حق تقرير المصير - مهند البراك - هناك . . عند الحدود (10)















المزيد.....



هناك . . عند الحدود (10)


مهند البراك

الحوار المتمدن-العدد: 4456 - 2014 / 5 / 18 - 20:58
المحور: القومية , المسالة القومية , حقوق الاقليات و حق تقرير المصير
    


حين تتوالى المفاجآت السارّة . .

بعد محاولات لم تنقطع لتكوين صلات تؤمن حاجات الطبابة، وكتابة العديد من القوائم عمّا تحتاجه و بعدة لغات لمن وعد بجلب ادوات و مواد طبية، و محاولات متنوعة اخرى للحصول على ادوية من المدن، و التي كانت محفوفة بمخاطر كبيرة، لتكوين طبابة حقيقية للأنصار . . .
وصلت في أمسية من خريف ذلك العام رسالة الى قيادة القوة سلمها آمر القوة " ابو جوزيف " الى صاحب. افادت الرسالة بوجود كمية كبيرة من الأدوية، حددتها بحدود الطن، وانها محفوظة في الثلوج المحيطة بـقرية تسمى "أحمد بريو". و اشارت الرسالة الى امكانية الأستفادة من تلك الادوية ان كان بالإمكان نقلها ! اضافة الى تكرار شكرها للطبيب الذي عالج " جرحانا "، وافادت بأن " مام حاجي ينتظركم في القرية" ، توقيع " حسن بيوراني" . .
قدّر صاحب بأن ذلك ما وعد به دكتور قاسملو، حين كان يعالج البيشمركة و الأهالي الجرحى بسبب قصف المقاتلات الجوية للقرى بشكل متواصل، و حيث انقذ حياة احد كادر مهم عندهم كانت اصابته مميتة بسبب اصابته بشظية قذيفة استقرت على قلبه !!
بعد محاولته تقدير نوعية تلك الكمية الكبيرة هتف بصوت لم يستطع كتمانه : " أخيراً . . سنستطيع بناء مستشفانا !!
و نام تلك الليلة عميقاً على أصوات خرير المياه المحيطة بقرية توزله التي حملت الكثير من حكايات البطولة وتحديّ المجهول، وروايات الحب والكراهية ومغامرات المهربين . . توزله التي تعيش على السفح الآخر لجبل "مامنده" العملاق الذي يحتضن مدينة " قلعة دزه" . .
و بعد انقضاء الليلة ذاتها و فيما بدأ يلوح ضوء الفجر، صاح الحرس الصباحي الرابض قرب الطبابة : " قف !! " وسحب اقسام سلاحه خالقاً ضجة عالية في سكون ذلك الفجر الذي بدأ يطلّ على الشق الصخري حيث كان موقع الأنصار آنذاك، الذي غمره بنفس الوقت ضجيج و وقع حوافر بغال محمّلة، لأنه كان بإيقاع بطئ .
استيقظ صاحب كالملدوغ متناولاً سلاحه وهو يسمع وكأنه في حلم :
ـ استطعنا الحصول على تجهيزات تعادل تجهيزات سيارة اسعاف ، ذات غرفة عمليات جراحية !
ـ انها مجهّزة بكل شيء لأنقاذ الجرحى !
ـ لاخوف من الأصابات بعد اليوم !!
ـ انها هدية "ملا جوانرويْ " لكم !! (1)
وسط تلك العاصفة من الحماسة و الأصوات العالية . . تجمّع الأنصار في ذلك الفجر لتفريغ حمولة الأثني عشر بغلاً بالسرعة الممكنة ، ليرجع بها اصحابها الى قراهم سريعاً كي يبدأوا اعمالهم بها قبل شروق الشمس . وفي غمرة التفريغ كان د.صاحب يتمتم :
ـ ويلك ، ويلك . .عندنا الآن صالة عمليات تقريباً. كل المفاجئات الجميلة تأتي في يوم واحد !!
فيما صاح آمر القوة "ابو جوزيف" وكان قد خرج من خيمته :
ـ دكتور ، لاتنسى موعدكم في قرية "احمد بريو"، بالذهاب مع مام توفيق !
كان نقل ادوية تزن بحدود طن على وصف الرسالة، من منطقة غير مستقرة امنياً، تكللها الثلوج طيلة العام و من قرية جبلية نائية منقطعة فيها، أمراً صعباً حقّاً . فأضافة لمعارك أقتتال الأخوة الضارية التي كانت تدور في قرى وقصبات كردستان ايران الحدودية، واعمال القنص والكمائن التي قُتل جرّائها العشرات . . تطلّب الأمر ايجاد حيوانات نقل، وجرار زراعي اوسيارة ، الأمر الذي يتطلب ضرورة توفير البنزين الذي لايُحصَل عليه هناك الاّ بمعجزة !!
ولم يكن أختيار مام توفيق لتلك المهمة، الاّ لأنه استطاع بناء صداقات وعلاقات وثيقة مع عدد من أهالي القرى هناك، من المتعاطفين مع البيشمركه والمتحمسين لمساعدة الثورة الكردية وخدمتها . . . من خلال جهوده في مجال توفير المواد الأدارية التي كان يكلّف بها آنذاك .
بعد ان اكتمل تفريغ احمال الحيوانات، و بعد الفطور تحرّك د. صاحب رفقة مام توفيق الشخصية المعروفة في عشائر السورجي، نحو سردشت مشياً، وكان يُشترط ان يكون ذهابهما دون أسلحة ـ وفق بطاقة عدم التعرّض الذي زوّدا بها من آمر القوة، لأحتمال الذهاب عبر سيطرة بيوران ـ سردشت العائدة للجيش الإيراني الذي يمنع مرور مسلحين وفق الهدنة بينه و بين البيشمركة وقتذاك . . وبلا عدد كبير كيلا يثير الأمر أنظار و انتباه انواع المترصّدين في القرى . .
سار الأثنان صعوداً من موقع البيشمركه في شقّ الجبل البركاني السفلي، نحو اطراف قرية "توزله". و كان الاثنان مرحين ، فكلّ حركة الى خارج الموقع كانت تثير الفرح والحبور، لأنها تُبعد الإنسان عن الروتين اليومي الطاغي على حياة المقرات الأولى للأنصار الذين كانوا في طور التجمع في الغالب هروباً من ملاحقات الدكتاتورية في المدن. كان صاحب متشوّقاً لرؤية مدينة سردشت التي كان قد مرّ بها مروراً سريعاً في السابق لقضاء اشغال كما مرّ . .
كان متشوّقاً لرؤية مدينة، اية مدينة ! بناسها، رجالها ونسائها وحركة وفوضى اطفالها، وأضوائها ، الى سماع اغاني و موسيقى اذاعية او من تسجيلات . . و رؤية واجهة محلاتها وسياراتها، الى قضاء وقت في لجّة ضجيج الحياة اليومية ونبضها في مدينة فيها . . كهرباء!!
لفحتهما ريح الخريف الباردة ، وكانا قد لبسا ملابس سميكة استعداداً لمواجهة البرد الذي قد يخيّم فجأة من جديد ، فمراّ بموقع كان كمخيّم صغير لبعض عوائل البيشمركة، حيث شاهدا أمرأتين دلّت ملابسهما المرتّبة النظيفة على انهما من اهل مدينة و ليستا قرويتين . . كانتا تغسلان اواني عند نبع القرية، بين عدد من نساء القرية بملابسهن المهلهلة الخشنة القذرة . . لابد انهما كانتا من عوائل رجال البيشمركة في زيارة لأخوانهما او ازواجهما ، او كانتا من عوائل البيشمركة التي تعرضت الى المطاردة و هربت تخلصا من انتقام اجهزة الدكتاتور صدام . .
ثم . . و بمسيرة جاوزت الساعة شعر فيها صاحب و كأنه من اهل المكان و زال شعوره السابق بالغربة و بكونه لايتفاعل مع حياة الجبال . . شاهد في الأعالي وهما يسيران اثراً او خطّاً داكناً عالياً، يتواصل و كأنه اثر لطريق يلتوي التواءً افعوانياً لا ينقطع على امتداد سلاسل متصلة بكتف "مامنده" الشاهق، و فيما هو يقلّب الفكر بماذا يمكن ان يكون، هل هو شارع ؟
اوضح له مام توفيق بانه فعلاً شارع شُقّ حينه لمرور السيارات، كطريق عسكري يربط " قلعة دزه " بـ "سردشت" الذي كان خط تموين وحركة . . ثم خط انسحاب احدى جبهات مقاتلي الثورة الكردية ايام المرحوم الملا مصطفى البارزاني عام 1975 ، حيث يتوغّل الطريق غرباً نحو جهة العراق في منطقة هالشو التي صارت تضم معسكر هالشو المتكوّن من ستّ ربايا عسكرية كبيرة !
و بعد ان سارا حتى الضحى في شبه هضبة مرتفعة، نزلا منحدراً صخرياً حاداً ، واستمراّ سيراً على الطريق الموصل الى قرية "بنو خليف" التي بانت لعينيه بعد ان نزع الخريف اوراقَ اشجارها، و كأنها قرية لم يمرّ بها قبلاً، حيث كانت تغطيّها اشجار وارفة الظلال حين مرّ بها اكثر من مرة في الصيف الفائت . . سارا على الدرب الذي يمرّ بها و الذي امتلئ هو والسواقي بأوراق الخريف ، فيما كانت الشمس ترسل اشعاعات ضحى يوم خريفي بدا مشمساً .
و فيما كان مام توفيق مستغرقاً في احاديثه مع صاحب هتف بهما صوت ينادي عليهما، فاستدارا نحو جهة الصوت فشاهدا وجه د. فارس رحيم يطلّ من شباك غرفة مرتفعة مبنية على زريبة حيوانات، لبيت بدت واجهته نظيفة . . و ظهر الى جانبه الصحفي هوشنك بقبعته الجيفارية و الربطة الثورية التي اعتاد على لفّها حول رقبته، تشبّهاً بما كان يرتديه الثوريون اللاتينيون ، فيما كانت أمرأة شابة نظيفة الملابس تنزل درجات سلّم المنزل قائلة بمودة و بصوت مسموع :
ـ دُختور ، به فرمو ! أوا مالي ايمه ! ! (2)
قال مام توفيق بخبث مرح و هو يحدّق و يبتسم للمرأة محيياً :
ـ دكتور فارس يقوي العلاقات بالقرى !!
فيما استدار صاحب نحوها مبتسماً وقال لمام توفيق :
ـ انها "زُلفى" ، التي كانت تشتكي من آلام شديدة في المعدة بسبب الالتهابات البالغة في الفم و البلعوم . . و كان قد اتى بها زوجها الطيّب الى طبابتنا على ظهر حيوان حين سدّت ثلوج السنة الماضية الكثيفة كل الطرقات، لقد استطعنا معالجتها رغم ادويتنا الشحيحة ؟! و لم ينسيا جميلنا !
كانت "زلفى" بشبابها ولطفها وابتسامتها، بملابسها الكردية الزاهية الألوان النظيفة ، و بزنّارها المذهّب الملفوف و المرتّب بعناية على وسطها ، في ظروف البيشمركة والقتال والكبت والحرمان تلك . . كانت تُخَيَل للرائي، وكأنها ممثلة سينمائية من هوليوود . . و فيما كان يبلعان ريقهما و هما يشاهدانها . . كانت تنزل من الطابق العلوي بدلالٍ، وبثقة العارف بالتزام انصار، تلك المنظمة التي ضمّت نصيرات نساءً كنّ قد ساعدنها عند مرضها و هي حامل في تلك الظروف القاسية التي اضطرتها للنوم قليلاً في الطبابة، عند قيام زوجها على خدمتها.
قالت بوجه مشرق :
ـ تفضلوا ، اتفضلوا ! دكتور ، صحتي اصبحت جيدة جداً ! معدتي لم تعد تؤلمني عند البرد كما كان يحدث لي في السابق. و قد ولدت ولداً جميلاً اسميته "صاحب" وهو نائم الآن ، لولا المصطفى و لولاك لكان قد مات ! اهلا وسهلاً ! زوجي حسين يشتغل الآن، لقد ذهب بحمل بغل . . صار عندنا بغل ثاني بقدرة القادر القدير !
صعد الأثنان بفرح وهما تعبين من المسير والبرد، و دخلا الى البيت الدافيء وحيث كان د. فارس جالساً عند منقلة (3) يتحدث لها عن قضايا تحرر المرأة ، كما اوضح لهما، بينما استمر هوشنك على انشغاله بالكتابة بعد ان حيّاهما صامتاً و حيث كان يكتب شيئاً بين حين و آخر في دفتر صغير، بعد تحليق في خيال عالمه. وكان الزوج "حسين" قد دعاهما ـ د. فارس و هوشنك ـ للطعام والمبيت ان بقيا في القرية، بعد ان صادفهما في مسجد القرية و كانا يحاولان ان يتدفئا قرب المدفئة، بعد ان علم انهما من فصيل البيشمركة الذين انقذوا حياة زوجته وابنه . . كما قال د. فارس رحيم .
و فيما كان الحديث يدور حول شؤون متنوعة، استمر صاحب بتأمّل المكان و هو يجيل بنظره و يردد لنفسه . . " يبدو ان ربّ البيت نشيط وقوي ومتمكّن فعلاً ، فذلك واضحاً من كمية الحطب الكبيرة المرصوفة في رفوف متناسقة حسب حجومها تحت سقيفة الدار. حطب من كل الأنواع ؛ للطهي ، للخبز وللتدفئة . البيت نظيف من الخارج والداخل، و كان فوق سقف الزريبة الذي يمكن مشاهدته من الشباك "باكردانان" لامعان من النوع الجيد، كانا مشذبين بعناية . و اسفل طابق غرفة السكن حيث جلسوا، كانت سقيفة لمربط حيوانات واسع . . كان تحتها بغل بادي القوة والنشاط يعلف بنهم، كما شاهد صاحب من خلال شباك جانبي، اضافة لقطيع من الوز الأبيض الذي كان يصيح عند صعودهم صياحاً لاينقطع، حيث لم يستطع تمييز الداخلين بعد ، هل هم اصدقاء أم اعداء . . كما قال د.فارس عند احاديثه عن الوزّ .
فكّر صاحب و هو يتأمّل المكان " ماذا يحتاج الأنسان من أدوات في هذه الحياة الساحرة القاسية والصعبة، و ماهي مؤهلاته لمواجهتها؟ يبدو انها الأساسيات فقط ؛ الصحة ، الشجاعة ، القوة البدنية ، شيء من العقل . . وتذكّر زوجها حسين الذي حملها على بغله الوحيد في العام الماضي وسط عواصف الثلج حين كان الثلج مستمراً بالسقوط لأيام طويلة، حتى وصل حد الحزام كما يقال . . بعد ان قطع مسافة لاتقل عن ستّ ساعات تحت وابل الثلج الكثيف المتساقط . . محافظاً على توازن زوجته الحامل التي امتطت ذلك البغل البني القوي العضل ، الذي يذكّر بقرقعته على الصخور المدفونة تحت الثلج، و بذيله الأسود الطويل، بكائن خرافي يصارع الكون ليحافظ على سيدته المترنّحة المتمسكة بمقوده و رقبته.

قدّمت"زُلفى" الطعام لهم بعد ان فرشت نايلون السُفرة على الأرض ، وتكوّن الطعام من بيض وز مقلي بالدهن ، لبن ، عسل ابيض طازج ، زبده ، جوز مقشّر ، شاي . . اضافة الى طبق كبير من الخبز الرقيق . وبعد ان تبسمل الجميع بشهادة بسم الله . . ابتدأوا بتناول الطعام والحديث .
و لاحظ صاحب مجدداً و هو يختلس النظر اليها غير شاعرة . . " كم اضافت ابّهة الملابس الجميلة ، الى جمالها مظهراُ اكثر جاذبية، و هي ترفل بثوب ازرق من الساتان اللماع الذي كان يلامس الأرض بطوله، وبزُنّار اسود نظيف كثير اللمعان، تتدلى منه ظفائر صغيرة مذهّبة شبه متراصفة احاطت بوسطها الجميل ، و بمنظر حركة ردائها الذي غطىّ ثدييها المنتصبين الرجراجين عند مشيتها، اضافة الى ابتسامتها العذبه الصافيه التي كان يلحظها للمرة الأولى . . اضاف كلّ ذلك عليها جاذبية امرأة رائعة عند غدوها ومجيئها، محاطة بمفاتنها التي تبرز من بين تلك الظفائر . .
قالت زلفى لدى استفسار د. فارس لها، الا تخاف من البقاء لوحدها مع رضيعها في الدار عند غياب زوجها، والمنطقة تعجّ بأشكال العصابات :
قالت بحزم : "انا لا أخاف وسلاحي جاهز دائماً ". ورفعت احد الأغطية القريبة لتكشف عن كلاشنكوف مظليّ ثمين كان يبدو مزيّتاً بعناية . " جميع اهل القرية اقاربي ، وقد قٌدتهم في القتال عدة مرّات !! "
بلع د. فارس ريقه وقال :
ـ تقوديهم ؟ !
ـ نعم !! انا البنت البكر لوالدي . . والدي رئيس العشيرة هنا !
اعتدل د.فارس بجلسته وخفف كثيراً من ضحكاته الواسعة التي تحوّلت الى ابتسامات احترام .
وتنهدت زُلفى بحزن و هي تقول :
ـ لا أدري الى اين يمكن ان اذهب فيما لو فقدت زوجي وأهلي ، لاضمان لنا في حياتنا سوى صحتنا وقوتنا وشرفنا، كل مالنا وحلالنا يمكن ان ينتهي بقذيفة مدفع او بقذيفة طائرة مقاتلة وبلحظة واحدة !!
واخذ صاحب يتأمل و يردد مع نفسه :
" ماهذا العالم ؟؟ هل الحياة فعلاً بهذه القساوة اينما تذهب ؟ هل الموت باطلاقة او بقذيفة مدفع امر قريب منّا الى هذا الحد و بهذه البساطة المأساوية، حتى في هذا الصقع الجليدي الواقع في اقصى انحاء كوردستان العراق وقرب اقصى الحدود الشمالية الشرقية لكل البلاد ؟ هل يمكن ان تعاني امرأة شابة جميلة لديها كل ذلك الموقع الأجتماعي وذلك الزوج القوي الذي يحبّها بجنون و وفاء، كل تلك المعاناة . . امرأة كـ " زُلفى " ذات العشرين عاماً ، التي تطرح الموت و كأنه أحتمال يومي بكل تلك البساطة "
وقال لها :
ـ لماذا تحملين كل هذا الحزن ؟
ـ لأني لا أعرف لماذا يتقاتل الأخوة، الجميع كورد و الجميع يواجهون دولاً وحكومات وجيوشاً متوحشة ، الا يكفي ذلك العذاب لنتقاتل فيما بيننا ؟! و نتقاتل قتالاً لاينتهي . .
قال و كان يتصوّر ان مايحدث، هو ليس اكثر من احتكاكات يومية متفرقة :
ـ ايّ قتال ؟!
ـ دكتور انت لاتزال جديد في المنطقة ! واتمنى من كل قلبي ان تعود لأهلك سالماً بعيداً عن هذا القتل اليومي ؟!
و فيما كانوا يتناولون الطعام اللذيذ بلهفة و يتحدثون بأصوات خافتة ، اكملت زلفى تهيئة قوارير الشاي !! و جهّزت قطع السكّر الدشلمة . . حيث تناولوا الشاي المنعش الذي استعادوا بشربه نشاطهم و دفئهم . . و جلبت لهم افرشة اضافيه، داعية ايّاهم الى ان يستريحوا ويستلقوا عليها بعد شرب الشاي، استعداداً لأكمال سيرهم، واستأذنتهم وخرجت لأتمام بعض الأعمال كما قالت .
و فيما كان هوشنك ذو القبعة الجيفارية الجالس بجانب د. فارس يبتسم و هو يحدّق الى الخارج من نافذة الغرفة، قال مام توفيق قاطعاً الصمت :
ـ يالها من امرأة باسلة . . زوجتي وابنتي هكذا ايضاً .
وبعد ان تمدد الجميع على الأفرشة النظيفة، مادّين ارجلهم و اقدامهم الى قرب المدفئة ، تبادلوا الحديث و اشار د.فارس الى ان هوشنك لابد و ان اتمم قصيدة جديدة ! واضاف بعربيته و هو يستدير الى د. صاحب :
ـ دكتور عاش ايدك !! سيكون كسباً عظيماً لنا ان استطعنا الفوز بصداقتها لنا . . ستكون محطة وركيزة قوية لمساعدة البيشمركة !! و اضاف " علىّ ان اقوم بجولة للتعرّف و لتقوية العلاقة مع اهالي المنطقة وسأذهب في البداية معكم الى بيوران و نقضي وقت بشراء بعض الحاجات انا و هوشنك !! أتعرف دكتور ان هوشنك شاعر مبدع و معروف في مناطق هورمان ؟
قال مام توفيق :
ـ نعم و الله ماموستا هوشنك معروف و اشعاره مؤثرة فعلاً بين الشباب خاصة ! . . و همس بأذن صاحب قائلاً : و لكنّ هوشنك لا يريد الإلتزام بحزب ما او بمنظمة ما. انه نشيط متعدد المواهب و القابليات، شجاع و لكن كثيرين لا يعرفون ماذا يريد ؟!! و اضاف بصوت عال :
ـ امّا بالنسبة لنا فسيكون طريقنا اطول فعلينا الذهاب الى سردشت اولاً، و بلا تضييع وقت في بيوران .
بعد ان ارتاحوا بحدود النصف ساعة مسترخين في الدفء، بدأوا بالنهوض و تفحّصوا جواربهم السميكة والزنكالات (4) ان كانت قد جفّت، بعد ان علّقوها و هي رطبة، قرب المدفئة. و بعد ان اكملوا تجفيفها بنشرها قرب المدفأة المحمّرة باشتعال قطع الأخشاب التي وضعت فيها . .
عدّلوا ملابسهم واحكموا اربطتها وبدأوا يتهيّأون للمغادرة، وهم يتنحنحون و يضربون الأرضية باحذيتهم بلطف، لأشعار ربة البيت التي استضافتهم وغابت عنهم بانهم مغادرون . . حتى بدأوا بالنزول الى باحة المنزل، الاّ انهم و قبل وصولهم الى الباب وفتحها، اقبل الوزّ راكضاً عليهم وقطع عليهم الطريق بصياحه و فحيحه و هو يستعد للمواجهة، فجاءت زلفى سريعاً و رضيعها مربوطاً بظهرها، فابعدت الوزّ عنهم، و سلّمتهم اربعة لفائف في اكياس وهي تقول :
ـ هذا زاد الطريق . .
وسلّمتهم لفائف طعام للطريق وفيما شكروها بعمق وذهب د. فارس و مام توفيق و هوشنك، استبقت صاحب بنظراتها، فلمّا تأخّر عنهم و بقي قربها، اضافت قائلة له :
ـ دكتور انت عربي لاتعرف الجبال، الشمس بدأت تختفي خلف الغيوم و ستهب عاصفة ثلجية !! وانت بدون قمصلة، جئتك بفروة زوجي . . البسها وارجعها متى تستطيع، سيفرحه ذلك كثيراً. البسها وليحرسكم الله ومحمد المصطفى !
سلّمته الفروة ، واضافت :
ـ بحق النبي لا أعرف الى اين تذهبون بدون سلاح !! هناك معارك دموية بين البيشمركة في سردشت !!
دكتور لانريد ان نخسرك في حياتنا الدموية هذه !!
استلم صاحب الفروة الدافئة و هو كثير الإمتنان لها، و كان لا يعرف ايضاً حقيقة ما يدور في المنطقة المتوجهين اليها . . ويمكن انه لم يكن يريد ان يعرف، بسبب شعور الفرح الذي كان طاغياً عليه، و لثقته بأنه مع رجال بيشمركة اكراد مجربين . . و اضاف مكررا :
ـ زور سوباس، جزيل الشكر ! و اتمنى لك الصحة و العافية، سلامي الى كاك حسين !!
علت الحمره وجهها وقالت بابتسامتها الجميلة :
ـ اشكرك . . الله يوفقكم و النبي المصطفى يحرسكم !!
بعد ان تبادلا السلام .. نزل من باحة المنزل المرتفعة قليلا و المطلة على طريق جبلي واضح المعالم . . و وصل الى رفاقه الذين كانوا ينتظرونه عند مرتفع قريب . . كان يصعب عليه او كان لا يستطيع تقدير موقف عسكري ما في المنطقة، فهو لايزال لايعرف بالكامل عن منطقة و ريف واسعين و جبال شاهقة، مرّ بها في السابق مروراً فقط . . و لكنه لم يرها بتفاصيلها كما يراها الآن، بل و لم يقرأ او يسمع عنها شيئاً تفصيلياً في السابق . . كان الوضع بأكمله و بتفاصيله الجديدة . . لايزال خيالياً امامه، و لكنه بدأ يجد طريقاً اليه .
لم يكن يفكّر بالموت الذي افلت باعجوبة منه بعد اختفاء وانقطاع تام عن حياة الناس العادية لمدة اكثر من سنة كاملة بلياليها و نهاراتها، و بعد سنوات حياة مريرة قاسية كان يعيش فيها حياتين، حياة طبيب اقدم يسكن المستشفى و ينام يومياً في سكن الأطباء العائد لها من جهة، و حياة سياسي بنشاطات لم تعرف الهوادة من جهة اخرى . . اضافة الى قيامه بكثير من النشاطات السرية التي كانت في عداد المحرمات في زمان الدكتاتورية . . كان يشعر بفرح عارم، فرحاً لايهمه معه الموت، مادامه يعيش الحياة بنبضها مع اناس، الذين جمعته بهم نفس الأهداف في الحرية و السعي المنشود الى العدالة الإجتماعية .
كانوا مرتاحين، شبعين، ومستعدين لمواصلة السير . . فيما استدار صاحب لاارادياً نحو نافذة البيت عندما وصلهم . . شاهد زلفى تلوّح لهم بيدها من خلف الستارة و هي تبكي . . ولم يفهم لمَ كانت تبكي ؟؟ يمكن لأنه لم يكن يعرف حجم الخطر الذي يواجهوه ابداً وهم بدون سلاح، وكان يقول لنفسه :
" عند رجوعنا سنمر ببيتها حتماً وسنسلّم عليها وعلى زوجها " حسين " و اعيد اليهما الفروة الدافئة التي اعارتني ايّاها زلفى . . وحتى ذلك الوقت ، الله كريم !! "
. . . .
. . . .
بعد مسيرة ساعتين . . اخذ الطريق يتّجه تدريجياً نحو الأعلى، وسط جو امتلأ بروائح الرطوبة . . و روائح خشب اشجار " الجنار " و " القوغ " العملاقة المبلله و المستمرة بنفض اوراقها . . اضافة الى روائح أشجار البلوط الرطبة المختلطة بروائح ادخنة مدفئات الحطب المنزلية، الأدخنة التي كانت ترتفع من مداخن المنازل القروية الجبلية من جهات متعددة . .
وسط ضجيج و طقطقات تكسير وتقطيع الحطب المتداخلة مع صيحات فلاح و هو يصيح على بغله الحارن، علّه يسمع صوت صاحبه فيقف او يعود اليه . . اضافة الى صيحات الرعيان على قطعان ماعز كانت تديرها كلاب الرعاة وتنظّم سيرها معاً في قطيع كبير مكوّن من مجاميع اصغر، تفرّقت بفعل انقطاع الطريق الواسع و وصوله الى تشعب و تعدد ممرات الحيوانات، التي كانت تغذّ السير و هي تقطع سفوحاً تناثرت على سطوحها صخوركبيرة، اضطرت القطيع الى ان ينقسم الى طوابير اخرى و هو يجتازها . .
بعد قطعهم ذلك الطريق تعبين لاهثين، وصل الأربعة الى قمة رابية كانت تطلّ على منطقة واسعة كساها الثيّل و حشائش خضراء، و بانت وكأنها سجاد متنوع الخضرة تخللته الوان مالت الى الصفرة، كخطوط او بقع او باشكال كثيرة التنوع . . بفعل الخريف.
و فيما استغرق هوشنك بالغناء . . وصاحب ينصت اليه بكل عواطفه التي اهاجتها طبقات صوته الجميلة المؤثرة، التي ذكّرته بلوعات الحب المحرّم التي عاشها، متذكراً قولها الحنين الحزين " و لكن . . ولكن . . انت مسلم و انا مسيحية . . " . . و لم يعرف لماذا مرّ عليه ايضاً طيف بنت الهوى التي كانت اول امرأة ضاجعها، و تعلّم منها كيف و كيف . . . و هي تخاطبه بلطف لم يألفه . .

قال د. فارس بصوت اجش :
ـ هذه الهضبة هي مفتاح المنطقة كلّها. والذي يستطيع السيطرة عليها . . يعني انه يستطيع السيطرة على : سردشت ، بانه ، ربط (5)، و حتى قلعة دزه . .
و قال مام توفيق :
ـ ما هذا الكلام دكتور ؟ كيف تتم السيطرة على سردشت وقلعة دزه من هنا ؟ !
ـ نعم !! ذلك اكّده الذين سيطروا على هذه الهضبة . . حيث التقيت بهم وحدثوني بذلك، وحدّثوني كيف انهم حققوا بذلك انتصارات هائلة !!
ـ من هم ؟ و مع من التقيت ؟
ـ الروس !! عدد من عسكرييهم استقروا في مناطقنا في السليمانية، في الحرب العالمية الأولى . . تزوجوا و انجبوا و تحدثوا لنا بروايات لا تصدّق بسهولة . .
ـ على حد معرفتي، انهم توقفوا هنا . . بسبب اندلاع ثورة اكتوبر عام 1917 حيث وصلتهم اوامر بايقاف التقدّم . . فلم يتقدّموا اكثر و انسحبوا .
ـ عزيزي ، انت غلطان !! لقد تقدّم الجيش الروسي بجبهات متعددة منها الى اطراف قلعة دزه . . واستمرت قطعات اخرى بالتقدّم عبر خنادق متنوعة، حتى وصلت " رواندوز " وخانقين ، الم تسمع بحكاية وادي الموت في رواندوز؟ (6) . . و حين حدثت ثورة اكتوبر و ثار الجنود ايضاً، هرب عدد منهم تاركين جبهة الحرب، وصار قسم منهم مع الجيش الأبيض لمحاربة الجيش الأحمر في مناطق القفقاس و شمال ايران . .
و بسبب المرض و الإصابات و التعب او . . الخوف من الحرب، استقر قسم منهم في المناطق التي هربوا اليها او اختفوا فيها. قسم منهم كانوا مسلمي الديانة، و الامر الذي ساعد على تعاطف الناس معهم لأنهم مسلمون و وافقوا على بقائهم في القرى التي آوتهم و عالجت جرحاهم، حيث عملوا معهم و ساعدوا من آواهم في اعمال الحقول، وهكذا استقروا في مناطق منها مناطقنا في شهرزور . . وفي مناطق اخرى استقرت عوائل بكاملها بعد هروبها من المذابح الرهيبة في روسيا و القفقاس، المذابح التي اقترفتها الأطراف المتقاتلة بالمدنيين العزّل، وكان من بين المدنيين اغنياء ايضاً و بعد هروبهم بأموالهم صاروا من الآغوات عندنا .
كان " صاحب " يسمع اشياءً جديدة غير معروفة لديه عن البلاد، حيث لم يسمع بها قبلاً ولم تتناولها الكتب المدرسية و هو القارئ النهم و المتطلع لمعرفة كلّ شئ عن العراق . . بينما يجري النقاش بها بشكل عادي و تروى كذكريات و قصص و روايات، في تلك الأصقاع التي كان مألوفاً فيها حتى رؤية و معرفة اشخاص عاشوا تلك الأحداث بأنفسهم . .
في حين انها لم تكن من الذكريات المألوفة بين الناس في بغداد والمنطقة العربية من العراق ولايجري فيها حديث او ذكريات لأهالي عاشوا احداثها، لأنها احداث لم تمرّ بهم و لم يتوارثوها ذكريات او قصصاً و حكايات .
كانت ذكرياتهم و رواياتهم تدور عن سلاطين و ولاة و عن القوات المتنوعة لآل عثمان و مدى قسوتهم و قسوة فرماناتهم ـ قوانينهم و أوامرهم ـ ، و عن الإنكليز المحتلين و بضائعهم العالية الجودة . . و بقي يتساءل، هل وصل الروس فعلاً الى هناك . . وهل ان بلدهم قريب الى هذا الحد من روسيا سيراً على الأقدام ؟ !
تذكّر حكايات الجد كرّومي الذي اشتهر بمغامراته مع النساء عندما كان ضابطاً شاباً في الجيش العثماني، وعرف بعدئذ انه اقتيد للخدمة العسكرية في الجيش العثماني ضمن من اقتيدوا من مناطق الفرات، باشارة من ابن عمّه شيخ العشيرة، اثر غضبه عليه لمغامراته المجنونة مع صغرى زوجاته التي لُقّبت بـ " الشقرا " لبياض بشرتها، بعد ان انتبه ناطور الفجر الى تسلل حذر لرجل ملثم و هو يخرج من كوّة سريّة في الجدار لايعرفها الاّ اهل الدار، وامتطى حصانا اصهباً اذهلته سرعة عدوه فاطلق النار عليه فوراً كما امره سيدّه ان يفعل في حالة كتلك، عند غيابه عن الدار .
و عندما علم شيخ العشيرة بما اخبره الناطور سراًّ ، ابقى الأمر سراًّ الاّ انه تابع القصة، و حَسَبَ و ربطَ و شمشَم و حلل . . و توصّل الى ان المتسلل هو ابن عمّه كرّومي وليس غيره. فابقى الأمر سراّ للحفاظ على وحدة العشيرة، الاّ انه قرر التخلص من كرّومي بارساله الى الجيش ضمن عداد العدد المطلوب منه توفيره للعثماني. فالحق كرّومي بالجيش كجندي، والذي لمعرفته بالقراءة الكتابه عيّنوه كضابط صف بداية، ولشجاعته في مواقف مهمة منها انقاذه حياة آمر وحدته، عُيّن ضابطاً في وحدة المشاة .
و تذكّر صاحب كيف كان الجد كرّومي يجمعهم ليقص عليهم بطولات و مآثر العشيرة و رجالها الذين خاضوا حروباً و حروب و مما قاله :
ـ و بعد مسيرات طويلة على الأقدام مات فيها كثيرون من المرض، و من خوض معارك مع رجال عشائر لم تنضبط و معارك مع قاطعي طرق و " سلاّبة ". . استقريت في وحدة عسكرية عسكرت عند بحر الروم (7) لحماية الشاطئ من غارات الكفار المسقوف، و هناك تعرفت على الشابة الكورجية نينا اخت ضابط من فرقة الخيالة القوزاق، التي وقعت مع اهلها اسيرة بيده، و قد احبها و احبته، و صارت مسلمة على يده، فاسلمت و تزوجتها كمسلمة، و هي زوجتي الآن . . هل انتبهتم الى عيونها الخضراء الجميلة التي لاتوجد عندنا مثلها ؟!!
كما كان يروي تفاصيل عن المعارك التي دارت بين الجيش العثماني و الجيش القيصري الروسي . التي كانت توضح كم هي صغيرة دنيانا و كيف عاشت و تعيش الحضارات و الديانات القديمة التي قاومت مقاومة باسلة عبر التأريخ و . . دامت . .

وبينما كانوا يستريحون محتمين بكومات حجرية من الرياح الباردة التي اشتدت على تلك الرابية . . لاحظ صاحب انها كومات من الحجر العاري الخالي من الأتربة ، و بدت له انها قد نُضّدت بانتظام في زمان مضى، و تشكّل صفاً منتظماً يلتوي كالأفعى ليصل الى نهاية الرابية .
واستكمل د. فارس :
ـ . . شفت مام توفيق ؟! هذه الكومات الحجرية هي مواقع بطاريات المدفعية الروسية
فيما كان صاحب يردد مع نفسه :
ـ اذن لم يكن الأنكليز وحدهم من الأوربيين، الذين جاءوا الى بلادنا غازين !! كما هو منتشر بين الناس . . و تلك التفاصيل قد لا توجد على الأطلاق في اي كتاب تعليمي او مدرسي . .
كان دكتور فارس رحيم رجلاً في العقد السابع من العمر، مضمداً متمرساً و علّم اجيالاً من المضمدين الريفيين . . احب الفلاحين و شارك في انتفاضاتهم ضد الأقطاع و الأغوات، فاحبوه بدورهم و حقد عليه الاقطاعيون. كان رجلاً فكهاً ومؤدباً في الوقت نفسه، و متواضعاً . . و رغم معاناته الكبيرة في حياته، فأنه عاش مهتماً بمظهره و حسن هندامه . .
وفيما تجمّع الأربعة حول نار اشعلوها بصعوبة كبيرة بسبب الرطوبة التي غزت المكان اثر المطر الذي تساقط و توقف . . ابتدأ المطر بالتساقط مجدداً واشتد بسرعة، حتى صار امطاراً لاتعرف الرحمة، و هم بلا سقف و لا جدار و انما في عراء كامل . .
فقرروا السير نحو قرية بيوران الكبيرة التي صاروا قريبين منها رغم الأمطار، لأنهم في كل الأحوال سيبتلّون . . فاستمروا في السير عبر الرابية حتى وصلوا الى حافتها الشرقية و اخذوا ينحدرون منها نحو اشجار الأسبندار العالية التي بدت و كأنها تنبع من جوف وادي عميق، خافية القرية وراءها، التي احتاجوا ثلاث ساعات تقريباً للوصول اليها سيراً على الأقدام .
كان المطر قد توقّف عند وصولهم القرية . . فذهب د. فارس على عجل الى مقر البيشمركة الكورد الإيرانيين، الذين كانوا يشكّلون السلطة القائمة في القرية وقتذاك ، فعرّفهم بنفسه و بأن المهمة التي يأتون من اجلها هي " جلب ادوية " للدكتور الذي يرافقهم . و بعد اسئلة و اجوبة معقولة ، وافق المقر على منحهم تأشيرة مرور الى مدينة سردشت مع تحذير مفاده، ان في المدينة صراع دموي سياسي عشائري . .
و في الواقع فإن الوضع المعقّد الذي نشأ بعد انتصار الثورة الإيرانية، تمخّض عن تكوّن حالة معقّدة بين قوى الشاه التي انتهت سلطتها السياسية و من نشأ و احتمى بها، و بين قوى الثورة و الجماهير المنتفضة التي لم تستكمل مقومات سلطتها بعد. اضافة الى شيوع الفوضى بسبب غياب سلطة حكومية واضحة مستقرة . . الامر الذي ادىّ الى اندلاع ثارات و احقاد ارتدت طابعاً مسلحاً بسبب انهيار المعسكرات و دوائر الشرطة و المرافق المسلّحة، وانتشار اسلحتها بين خليط من الناس، من ثوريين و ذوي مصالح، الى سرّاق و مهرّبين . .
. . . .
. . . .
كانوا في المقهى عندما شاهدوا عولا الذي اختفى من الطبابة كما مرّ . . الذي شاهدهم و ذهب اليهم محيياً و جلس عندهم، و من الحديث معه صار واضحاً لديهم انه ترك البيشمركة نهائياً و قرر الإستقرار في بيوران، بعد ان افتتح له عيادة كطبيب في بيوران !! و صار مستعداً للزواج، حيث سيتزوج قريباً، و انه يدعوهم للمبيت في بيت عمه ابو خطيبته حيث يسكن، حيث لا يتحرك باص الى سردشت بعد الظهر، بسبب القتال الناشب فيها.
و فيما قرر د. فارس الذهاب مع هوشنك للتأكد من ذلك و لإتمام عدد من الأشغال، بقي صاحب و مام توفيق جالسين مع عولا الذي دعاهما لمشاهدة عيادته ؟! و ذهب الجميع الى العيادة . كانت عبارة عن محل يشبه محلات الباعة بواجهة نظيفة، تغطي ستارة طويلة نصف واجهته، و النصف الآخر يحتوي على مقعدين و منضدة صغيرة و على جانبها دولاب مفتوح يحتوي على علب و قناني طبية حديثة و نظيفة، وكان يجلس هناك صبي هو اخو خطيبته، للعناية بالمكان في غيابه.
و شاهدا لوحة معلقة على الجدار، مكتوب عليها " دكتور عبدالله البشدري " و كتب تحتها "مساعد دكتور صاحب " و قال صاحب لنفسه " والله معقول . . هنا كل من يزرق ابرة يسمى دكتور، اما كونه مساعدي فذلك صحيح ايضاً، و الشطارة هنا ان مرضاه هم نفس المرضى الذي يراجعون طبابتنا طيلة السنتين الماضيتين . . يعرفوه و يعرفهم " . .
بعد ان هنّأه صاحب على عيادته، ذهب مع مام توفيق يتمشيان لإنشغال عولا بمريضً بعد ان وعداه بالعودة . و تحدثا عن العيادة و عن ان ماروي عنه كان صحيحاً، و التقيا بدكتور فارس و هوشنك اللذين اكدا انه فعلا لايوجد باص الاّ غدا صباحاً . . و عادوا بعد ان تمشّوا في القرية التي توسعت كثيراً عن الماضي الى عيادة عولا . . و بعد ان قضّوا الليلة عند عولا، ذهبوا صباحاً الى موقف الباص الاهلي الذاهب الى سردشت.
(يتبع)



ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1. وهو السيد ابراهيم صوفي احمد من اهالي حلبجة، و الذي اشتهر بأسم "أبوتارا" ؛ و كان من ابرز كوادر العمل العسكري الأنصاري، اصيب اصابة بليغة في ساقه التي انقذت من البتر في معارك الحركة الكردية التحررية آنذاك . عضو م. س لحزب حشك .
2. وتعني بالعربية ( دكتور ! تفضّل ! هذا بيتنا ! ! ) .
3. آنية معدنية يوضع فيها الجمر، لعمل الشاي و للتدفئة .
4. المفرد زنكال، الربطة الصوفية الجبلية التي تدفئ الساق من اسفل الركبة الى حد الحذاء.
5. ربط (ربت)، مدينة في اطراف سردشت، اشتهرت بمجمع اللاجئين الكورد العراقيين، الذين هاجروا اثر انتكاسة ثورة ايلول الكردية عام 1975 .
6. وادي الموت في رواندوز، هو الوادي الصخري العميق الذي يقوم فوقه مركز قضاء رواندوز، و لأن الوادي عبارة عن شق طولي هائل في الأرض الصخرية المستوية التي تقوم عليها المدينة، فأنه لايظهر للعيان من بعد، و من ينظر الى المدينة يتصور انها قائمة على ارض مستوية متصلة. وذلك ماحدث لكتيبة من الخيالة القوزاق التي هجمت تسابق الريح على مدينة رواندوز و وجدت نفسها امام قطع صخري لوادي عميق، و لما لم يستطع الخيّالة التوقف، سقطوا جميعاً الى هاوية الوادي الصخري فقتلوا بعد ان تهشمت عظامهم، و سميّ منذ ذاك بـ " وادي الموت " .
7. لم يُعرف بالضبط اي بحر . . هل هو البحر الأسود ام بحيرة رضائية .



#مهند_البراك (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هناك . . عند الحدود (9)
- هناك . . عند الحدود (8)
- هناك . . عند الحدود (7)
- اين -الدولة الجديدة- بديل الدكتاتورية ؟
- هناك . . عند الحدود (6)
- للإسراع باعلان نتائج الإنتخابات !
- هناك . . عند الحدود (5)
- هناك . . عند الحدود (4)
- هناك . . عند الحدود (3)
- ما معنى الإنتخابات و الى اين ؟
- هناك . . عند الحدود (2)
- هناك . . عند الحدود (1)
- ثمانون عاما من اجل قضيتنا الوطنية . .
- الشعب بين حقوقه و بين تقاعد الرئاسات
- 8 آذار و مخاطر مصادرة حقوق المرأة . .
- الى من يحاول تجميل جرائم 8 شباط الاسود (2)
- الى من يحاول تجميل جرائم 8 شباط الاسود (1)
- اصلاحات الكنيسة الكاثوليكية و احزابنا الثورية (2)
- اصلاحات الكنيسة الكاثوليكية و احزابنا الثورية (1)
- المالكي يراهن على موقف المرجع الأعلى / 2


المزيد.....




- -بعد فضيحة الصورة المعدلة-.. أمير وأميرة ويلز يصدران صورة لل ...
- -هل نفذ المصريون نصيحة السيسي منذ 5 سنوات؟-.. حملة مقاطعة تض ...
- ولادة طفلة من رحم إمرأة قتلت في القصف الإسرائيلي في غزة
- بريطانيا تتعهد بتقديم 620 مليون دولار إضافية من المساعدات ال ...
- مصر.. الإعلان عن بدء موعد التوقيت الصيفي بقرار من السيسي
- بوغدانوف يبحث مع مدير الاستخبارات السودانية الوضع العسكري وا ...
- ضابط الاستخبارات الأوكراني السابق يكشف عمن يقف وراء محاولة ا ...
- بعد 200 يوم.. هل تملك إسرائيل إستراتيجية لتحقيق أهداف حربها ...
- حسن البنا مفتيًا
- وسط جدل بشأن معاييرها.. الخارجية الأميركية تصدر تقريرها الحق ...


المزيد.....

- الرغبة القومية ومطلب الأوليكارشية / نجم الدين فارس
- ايزيدية شنكال-سنجار / ممتاز حسين سليمان خلو
- في المسألة القومية: قراءة جديدة ورؤى نقدية / عبد الحسين شعبان
- موقف حزب العمال الشيوعى المصرى من قضية القومية العربية / سعيد العليمى
- كراس كوارث ومآسي أتباع الديانات والمذاهب الأخرى في العراق / كاظم حبيب
- التطبيع يسري في دمك / د. عادل سمارة
- كتاب كيف نفذ النظام الإسلاموي فصل جنوب السودان؟ / تاج السر عثمان
- كتاب الجذور التاريخية للتهميش في السودان / تاج السر عثمان
- تأثيل في تنمية الماركسية-اللينينية لمسائل القومية والوطنية و ... / المنصور جعفر
- محن وكوارث المكونات الدينية والمذهبية في ظل النظم الاستبدادي ... / كاظم حبيب


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - القومية , المسالة القومية , حقوق الاقليات و حق تقرير المصير - مهند البراك - هناك . . عند الحدود (10)