أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - التربية والتعليم والبحث العلمي - كريم اعا - التقييم ودروب الاستمتاع بالحياة.















المزيد.....

التقييم ودروب الاستمتاع بالحياة.


كريم اعا

الحوار المتمدن-العدد: 4456 - 2014 / 5 / 18 - 12:36
المحور: التربية والتعليم والبحث العلمي
    


كلما وقعت عيناي على منشور يحمل التقييم موضوعا له، أو اخترقت مسامعي مناقشات حول ذات الموضوع، إلا وتململت في دواخلي مشاعر يمتزج فيها الفرح العميق وشيء من الأسف الذي لا يصل درجة الندم أو الشعور بالذنب.
مرد الفرح انتزاع عدد من أبناء هذا الأطلس الكبير الشامخ والمعاند، من براثن الأمية وتمكينهم من أولى أدوات الحفر في الثقافة والمعرفة الإنسانيتين. أما الأسف فنتيجة لبقاء العديد من هؤلاء خارج دائرة الانتفاع بخيرات هذا الوطن واضطرارهم لامتهان حرف لا تتطلب تكوينا يذكر، وتستدعي العضلة قبل العقل، والقوة قبل المنطق، والانصياع بدل الحرية، وكل القيم السلبية التي كثيرا ما حاربتها عبر الدروس والواجبات التي أثقلت كاهل تلامذتي لسنين طويلة.
أتذكر جيدا كيف كنت أجهد نفسي في تقديم سور القرآن الكريم لتلامذة السنة الأولى ابتدائي، وكيف كنت أحاول أن أعبر بهم إلى عالم روحاني يخاطب "القلب" أكثر من ارتكازه على العقل المشكك، وكيف كانت الأسر المسكينة تكابد عناء تحفيظ سور عديدة لأبنائها، وتقريب صور الثناء والعقاب لعقولهم الصغيرة، وكيف، وكيف...، وفي آخر السنة الدراسية كيف يفاجئني بعض الصغار بأسئلتهم عن الإله، مكانه، شكله، خلقه، عدله....أسئلة لا تجدها في كتبنا المدرسية ولا في أشكال التقييم المقترحة.
كيف كان الجميع يتنافسون لحفظ واسترجاع جدول الضرب، وإنجاز عمليات الجمع والطرح والقسمة. وكيف كان أنبه تلميذ يعود من مهمة شراء لمواد غذائية فاغرا فاه، غير عارف لماهية عملية يتقنها بالدرهم وتغيب عنه كلما تحول هذا الأخير إلى "الريال". كيف كان التلاميذ يجمعون الألف ومئات الآلاف في حين لا يتجاوز الشجر والحجر والحيوان والإنس المئات بهذه البلدة التي أسقطت من التاريخ. كيف يقيس المتقدمون منهم سرعة الطائرة والصاروخ وهم الذين لم يركبوا عربة يوما ما، وجل معرفتهم بوسائل النقل بغل أو حمار أو ظهر مكابرة وساقان قويتان تدكان الأرض.
تقفز إلى ذهني النقط المتميزة التي يحصل عليها المتعلمون في دروس الإملاء والتعبير وقواعد اللغة. وكيف كانت العربية خجولة ولا تستطيع أن تخرج عن جدران حجرة الدرس. فلا عامية حاضرة هنا، بل لسان أمازيغي يكابد ويصارع لاستيعاب مقررات ومضامين لا يربطها بواقعه، في الكثير من الأحيان إلا إصرار مذكرات وتوجيهات رسمية. مواضيع إنشاء تتحدث عن القطار والبحر والحفلات وعطل الصيف و...و...بينما خارج الفصل شجيرات تقاسي العطش صيفا والصقيع شتاء. امتحانات تعيد اجترار مقررات لا أعلم بالضبط أي تمثلات يكون تلامذتي حول مضامينها. تمارين تضمر المثل الرائج في صفوف عدد كبير من رواد مدارسنا المسكينة "بالتكرار يتعلم ...".
تحضرني التجارب العلمية التي تنجز بالطبشورة على اللوح الأسود، والدارات الكهربائية التي يفلح تلامذتي في فك ألغازها رغم انشغالهم ليلا بتوفير الشمع أو قنينة الغاز لإنارة ظلمة ليلهم الحالك.
كم كانت استجابتهم كبيرة لدروس السلسلة الغذائية، والحيوانات العاشبة واللاحمة، وأنواع النباتات والأشجار والأوراق. كم كانت فرحتهم كبيرة وهم يقضمون قطعا من فواكه لم يسبق لهم أن اكتشفوها. وكم يشعرون بفخر كبير وهم يخبرون أترابهم عن شكل هذه أو تلك من الأدوات المنزلية التي ترسخت صورها المعروضة في أذهانهم.
كانت تقنية سقراط السؤالية دربنا اليومي للعبور نحو عالم آخر، بعيدا عن الهم اليومي الذي يحاصرنا في دائرته الضيقة. كنت دائم السؤال عن قدرة تلامذتي على مجابهة العالم الحقيقي، والاندماج في مسالكه الوعرة. في قريتهم هاته، ليسوا مطالبين باتخاذ الحيطة والحذر وهم يعبرون الطريق، رغم استرجاعهم عن ظهر قلب دلالات الضوء الأخضر والأصفر والأحمر، ومهام شرطي المرور. ليسوا مطالبين بالتوجس من الغرباء، لأن جميع الأبواب تظل مشرعة ومرحبة بكل الغرباء. أتساءل أحيانا عن نوع العالم الذي أريد نقلهم إليه وإكسابهم آليات ولوجه بأقل الأعطاب الممكنة. كيف سيتركون قريتهم الهادئة، غير الملوثة، حيث لا تمايزات اجتماعية واضحة، لا تطاحنات ولا شجارات عنيفة، إلى فضاء يسير بسرعة ضوئية، صاخب ومعقد.
العجائز في هذه القرى النائية سبقت روجرز في التنظير لاكتساب كفايات تمكن المتعلمين من محادثة الغرباء عن المنطقة بعاميتهم أو بفصحاهم الرصينة، أو حتى بلسان فرنسي، إنجليزي أو إسباني أو غيره. تمكنهم من كسب لقمة عيش دون الاضطرار لعبور الصحراء وقدوم خريف العمر دون استئذان وفي غير موعده. تمكنهم من مناولة الأشياء الكثيرة التي سمعن عنها وعن إنجازاتها العجيبة والمريحة. تمكنهم من إنصاف أمهاتهم الغارقات في أعمال سخرة لا تنتهي حتى تبدأ من جديد.
كفايات أساسية، تقييم اكتسابها الأول والأخير هو ما تتيحه من إمكانيات لتحسين ظروف الحياة والارتقاء بمستوى عيش هذه الأسر المتواضعة وأبنائها، وإحداث تغيير في طريقة تفكيرها وفي العلاقات التي تحكم أفرادها وتوجه صلاتها بمحيطها الخارجي.
الكثيرون منا كانوا يرون التقييم سيفا مسلطا على رقاب التلاميذ، وعبء ثقيلا على كاهلهم كممارسين للتدريس، بينما يتحدثون عن التفتيش كلما تعلق الأمر بتقييم أعمالهم الصفية. تحضرني التقارير النمطية التي لا أميز بينها إلا بتواريخها وعناوين الدروس التي كانت موضوعا لها، وكيف كان الاستظهار والاسترجاع عصب الزاوية في توجيهاتها. كنت دائم السؤال عن السر في اعتماد ترسانة من الوثائق لتقييم أدائي المهني، وملاحظات رئيس مباشر يغيب ليحضر، وغير مالك لسلطة غير تحرير التفسيرات والانقطاعات عن العمل، عن السر في مطالبتنا باعتماد مقاربات جديدة دون تكوين يذكر حول مغزاها والقيمة المضافة التي تميزها عن سابقاتها. أسئلة متناسلة تجعل التقييم في صلب التحديات التي تنتصب أمام الممارسين بحب وشغف لهذه المهنة النبيلة التي لن تفقد بريقها رغم كل الصعوبات والتعثرات.
الإيمان بغد أفضل لصغار هذا الوطن وبثقل المسؤولية التي تقع على كاهل كل من اختار(ت) هذا المسار الحارق كالجمر، يدفعنا للتفكير في صيغ مجددة لفعلنا التربوي ولطرائقنا البيداغوجية، وهو ما سينعكس إيجابا على أساليبنا التقويمية، سواء توجهت للتلميذ أو للأستاذ. التربية هي أحد الميادين الرئيسية للخلق والإبداع، وخصوبة التجارب التي تخترقها، بعيدا عن الجغرافيا، واللغة، والعرق، والجنس، والدين – خصوصا مع تقدم وسائط الاتصال والاطلاع- منجم للإرادة الحرة وللعقل الناقد الباحث عن تجويد أدائه التربوي والتعليمي.
التقويم مسألة شمولية تبدأ منذ اللحظة الأولى للتخرج من مراكز تكوين الأساتذة، منذ اليوم الأول لولوج المتعلم المدرسة، ولا تنتهي بتعبئة بيانات النقط، أو بتسلق درجات العلم ومختلف الأسلاك التعليمية. المطلوب جعل التقييم مرادفا للاستمتاع بالحياة، مدرس يتفانى لإعداد جيل يعاكس خيبات نظام تعليمي راكم العديد من الأعطاب، وخلف العديد من الضحايا، وصغار يضمرون قيما نبيلة وعطاءات قمينة بإدخالهم عصر المساهمة الفعالة والكبيرة في تقدم هذا الوطن الرائع.
ربط التقييم بالحياة بكل معانيها وأشكالها هو القادر على جعله نابضا بالحيوية، إذ بتجددها الدائم وتعدد أشكالها وتنوعها يمكن له أن يتجدد ويتطور. التقييم الحقيقي بحاجة لثورة مفاهيمية ولروح شقية قادرة على تجاوز القوالب الجاهزة والأحكام القبلية، إنه مرآة لصدق ممارساتنا الصفية ولنبل وجسامة المسؤولية الملقاة على كاهلنا. الخلاصة النهائية لأدائنا هم الشباب الذين سنضع مصير هذا العالم بين أيديهم، فلنصد باب الندم ما دام بإمكاننا ذلك. وتحية صدق واحترام لكل المدرسين والمدرسات المؤمنين برسالتهم وبغد أفضل للكائن الإنساني.



#كريم_اعا (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- النساء أولى ضحايا صعود الحركات الظلامية الرجعية للسلطة السيا ...
- في موت الذات وانعتاقها.
- البؤس وحده لا يصنع ثورة.
- الثورة المزعومة.
- النسيج المقهوي بالمغرب.
- بنزكري مول
- النسيان هو ضيق المساحات التي نخصصها للآخرين في معيشنا اليومي ...
- الإيديولجيا العمالية المقيتة.
- مواجهة الانتهازية مدخل أساسي لمواجهة الاستبداد والاستغلال.
- هل يستقيم منطق الإصلاح وطقوس البيعة والولاء؟
- الجرأة لدى متعلمي البرجوازية.
- النظام التعليمي والثورة.
- الدولة التي نخشى انهيارها.
- الوطنية البرجوازية وتضليل البروليتاريا.
- الزيادة في الأسعار وثورة جياع المغرب.
- فلسطين المقاومة دوما.
- السلطة إما أن تكون شعبية أو لا تكون.
- الرجعية بالمغرب ترمم نفسها.
- درس عدم انسحاب معالي الوزير من الحكومة.
- الثورة ووهم الإصلاح من الداخل.


المزيد.....




- مراهق اعتقلته الشرطة بعد مطاردة خطيرة.. كاميرا من الجو توثق ...
- فيكتوريا بيكهام في الخمسين من عمرها.. لحظات الموضة الأكثر تم ...
- مسؤول أمريكي: فيديو رهينة حماس وصل لبايدن قبل يومين من نشره ...
- السعودية.. محتوى -مسيء للذات الإلهية- يثير تفاعلا والداخلية ...
- جريح في غارة إسرائيلية استهدفت شاحنة في بعلبك شرق لبنان
- الجيش الأمريكي: إسقاط صاروخ مضاد للسفن وأربع مسيرات للحوثيين ...
- الوحدة الشعبية ينعي الرفيق المؤسس المناضل “محمد شكري عبد الر ...
- كاميرات المراقبة ترصد انهيار المباني أثناء زلازل تايوان
- الصين تعرض على مصر إنشاء مدينة ضخمة
- الأهلي المصري يرد على الهجوم عليه بسبب فلسطين


المزيد.....

- اللغة والطبقة والانتماء الاجتماعي: رؤية نقديَّة في طروحات با ... / علي أسعد وطفة
- خطوات البحث العلمى / د/ سامح سعيد عبد العزيز
- إصلاح وتطوير وزارة التربية خطوة للارتقاء بمستوى التعليم في ا ... / سوسن شاكر مجيد
- بصدد مسألة مراحل النمو الذهني للطفل / مالك ابوعليا
- التوثيق فى البحث العلمى / د/ سامح سعيد عبد العزيز
- الصعوبات النمطية التعليمية في استيعاب المواد التاريخية والمو ... / مالك ابوعليا
- وسائل دراسة وتشكيل العلاقات الشخصية بين الطلاب / مالك ابوعليا
- مفهوم النشاط التعليمي لأطفال المدارس / مالك ابوعليا
- خصائص المنهجية التقليدية في تشكيل مفهوم الطفل حول العدد / مالك ابوعليا
- مدخل إلى الديدكتيك / محمد الفهري


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - التربية والتعليم والبحث العلمي - كريم اعا - التقييم ودروب الاستمتاع بالحياة.