أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - شعوب محمود علي - ذهب ولم يعد















المزيد.....



ذهب ولم يعد


شعوب محمود علي

الحوار المتمدن-العدد: 4457 - 2014 / 5 / 18 - 00:22
المحور: الادب والفن
    


ذهب ولم يعد

في ليلة من الليالي الطويلة جلس احمد سارحاً وحزيناً عمًا يدورمن حوله وكانّما كان وحيداً, او في بقعة معزولة عن العالم .
كان المذياع يبث نشرة الاخبار , ويتحدّث عن السلام , ونعم الخلاص والخروج من خانق الحرب العالميّة الثانية والتي ارشفها التاريخ في صفحاته الدامية , وكيف ان الشعوب خرجت من ذلك الدمار, وتجاوزت
تلك المحن السود لترسم قوس قزح سلام زاهي وابداعي , ولتقف على اقدامها المرضّضة , ولتطلق في سماء العالم حمامها المميّز والرامز لمعنى الاستقرار بشكل جدّي . وها هي الآن تتحرّك بشكل دائب على تعويض ماهدر من اموال , ولتكن هذه الحرب الممقوة , والكريهة ,
الى البشريّة جمعاء لطخة عار في جبين المهوسين والمهرجين والداعين للحرب . ولتنهض البشريّة , لتبني مدنها على انقاض الكارثة , الى جانب بناء الانسان بعيداً عن محيط الخوف , والتوجّس . كان أحمد غارقاً في
دوّامة من الافكار دون ان يلتفت لمن يجلسون بقربه . عاد لحالته الطبيعيّة .
همس مهنّد وكان يبغي ان يسحب احمد لمدار مجرّته , وليشدّه لمن حوله عمّي مالي اراك مكفهرّاً وحزيناً . احمد بالعكس : حاول ان
يغلّف عزلته , ويذهب بعيداً عن واقع الحال وهو يشتط في حديثه بعيداً عمّا
يعاني من امور الحياة , وما يترتب عليه من معاناة يعيشها , وتعيشها البشريّة في الركض لعودة الاشياء الى مكانها , ثمّ عقّب منذ جئنا الى المدينة لم يعكّر صفونا احد من الناس , وهذا حالي . لاحظ مهنّد عدم الرضاعلى وجه احمد , عمّي انت لست على حماسك القديم , ولا ادري هل انطفأت جذوة الشوق, وبهت بريق العشق , والهيام الطافح بغلو ذلك الحب المقدّس لهذه المدينة الاسطوريّة التي كانت سقف امنياتك , وموضع حلمك الاوّل والاخير , والمحطّة الاجمل لقطار سنواتك الذابلة .
اتعجّب كيف تكون في جفوة مع ذلك الفردوس المرسوم على شاشة الاحلام ؟. هل حصل النفور من يوتوبيا استراتيجك , وتكتيك توحدك لهذه المدينة التي مثّلت , بوّابة شمسك , المشرقة ؟ . فانا اطالعك مثل كتاب لا
يفوتني منه ما نقشت الاحزان على صفحاته .
احمد اخشى ان ارجّح وجودي في القرية على وجودي في المدينة الزائفة
وهي تغطّي عوراتها , وتحجب العيون عن البيوت الطينيّة.. ولو وضعنا المدينة على طاولة التشريح فسيتغيّر كلّ شئ , وتتكشف المظاهر رغم مساحيقها الى جانب الحرمان الذي تعاني منه الاكثريّة من عيالها .
هي نفسها انقسمت على ذاتها بانقسام سكّانها الى اغنياء وفقراء منعمين ومحرومين . وفي نقطة التقاطع الحاد تظهر اكثر فاكثر على خشبة مسرح
الزمان والمكان الذي تترجمه القهقهات والتنهدات في مدن , وقرى , وقصبات خارطة ارض السواد . فالكثافة السكّانيّة والحشود الهائلة من سكّان البيوت الخاوية تمثّل مركز الثقل . امّا الغنى الفاحش الذي تتميّز به الاقلّيّة قد احدث شرخاً في جبين المدينة الفاضلة , والمحتشمة ,
بل المدينة العارية من الجوهر الانساني , العابثة التي لا تستر عريها من الشره الذي ينتابها وهي تفتقر الى المسواة , ولمستلزمات البقاء والديمومة , حيث تنمو الطفيليّات على السحت من المال الحرام دون ان تكد , وتعرق, وقد تمارس دوراً ثانويّاً في عمليّة البناء , والحصاد وهي تستولي على حصّة الاسد بموجب القوانين التي انفردت بصياغتها وهي تشذّ عن مثيلاتها , وقد
تتجاوز كل الخطوط الحمر دون ان تلتفت لاستغاثات المعدمين في ارض السواد , وستبقى هذه المخلوقات تمارس هذا النهج الى ان تُسمع صرخة الصور , ويظهر على الارض من يملؤها قصطاً وعدلا كما ملئت ظلماً وجورا . منذ فجر التاريخ : كان الاقوى يتخطّى الاعراف , والتقاليد الانسانيّة , وهو يعمل على تجفيف منابع الرحمة حيث يعطي قفاه لكلّ ما هو حضاري , وانساني و ينفرد بالمواقف التي تتكشّف عن مصالحه النهمة .
وهو يلجأ الى العصا الغليظة , والسوط المنقوع بالزيت داخل اقبية الظلام
خوفاً من ضربة شمس الحقيقة , وهو يمشي متمايساً , ومتلبّساً هيئة الطاووس في اروقة النفوذ الموروث بصولجان القوّة منذ خطا قابيل متجاوزاً هابيل لعقد لسانه , ولتدجين القطعان من لا لها حول , ولا قوّة . ولكن حين يعجز السوط عن ترسيخ مفاهيمه , يجابه
برفض فصول تلك المسرحيّة الدامية : وفي المقبل من الايّام قد يعمد الى القاء حبال الحواة في ساحة الفراعنة , واذا لم تكن ذات نفع . ففوهة البندقيّة بعد دخول السيف الى متحف التاريخ .
مهنّد : ماذا تريد بقولك هذا ؟ اريد اعصاراً يقتلع الاشجار غير المثمرة من جذورها كما ينتزع الشوك عن قارعة الطريق . مهنّد لم يحن وقت العاصفة بعد . بل نحن قريبون منها , وسنقطع الدرب في مسيرة من القطب الى القطب . مهنّد انا لا اوافقك وانت تطالبنا بشكل غريب . احمد وما الغرابة ؟
مهنّد : انت تطالبنا بالقفز من فوق الوديان السحيقة الغور لنتجاوز مركبة الليل , وخيول النهار , ونتحوّل الى جنود ك(آصف بن برخيا) , ولا نلتفت
للتدرّج المرحلي والتاريخي , وعبور المحطّات دون التوقّف , ولو لنتزوّد
لسفرنا الذي لا يوجد اطول منه في الارض .
احمد على مهلك : وقبل ان تسكب الالوان بشكل عشوائ على لوحة مستقرة
في ابعادها , وهي معروضة بالوانها , ومقاساتها في الطول والعرض.
اقول لك فقط : انتم تنظّرون اكثر مما تعملون , وتتحسّبون اكثر مما نحن عليه . مهنّد انت تريدنا ان نحرق المراحل , والّا ما معنى ان ننظّر اكثر ما نعمل ؟ ونتحسّب اكثر مما نحن عليه ؟
اليست هذه الافكار ترفع اقدامنا عن الارض لنحلّق بلا اجنحة ؟
في فضاء ليس له صوى , ولم يقتحمه عرّاب إإ حتى في حكايات الف ليلة
وليلة . احمد كيف نحقّق تغير اللوحة بدل تفسرها ؟
مهنّد في رأي انّ جميع هذه الافكار طوباويّة , كما انّي لا اراها تقر التحرّك خطوة خطوة كي نضع اقدامنا على الطريق الصحيح .
فاطمة ابي كفاكما جدلاً , وارى ان يترك الجدل الى جلسات قادمة . احمد ولكن اود ان ااكد قولي كوني لا اطالب في ان نقفز قفزة اسطوريّة ولكن اتمنّى ان تضيق المساحة , الشاسعة , وتختزل الطريق واودّ ان اقارب بين العلامتين , اي بين الحلم واليقظة لعبور البرزخ عند نضوج الثمرة , وايصال القطار مبكّراً للمحطّة بالروح التفاؤليّة دون ان تأخذنا سبة نوم. ثمّ عاد ليعّقب فقال استغرب واتعجّب مما
يحصل هنا , وفي العالم اذ تستطيع مثل هذع الفلسفات ونظمها العيش بسلام
داخل مدنها , وبين شعوبها وهي معلّمة بالشبهات, والتحرّك الآثم والذي تشير اليه اصابع الاتّهام , وتضعه بين هلالين من الفضائح التي تزكم الانوف والاحاديث غير السارّة , بل الاساطير التي تدورحول تلك الامبراطوريّة الشمطاء , وقوانينها التي تبيح سرقة الانسان لاخيها الانسان تحت مظلّة مملكتها الى جانب سرقة شعوب مستعمراتها, ووضع يدها على كلّما تملك تلك الشعوب من خيرات على وجه الارض , وما في جوفها من معادن نادرة .
هكذا كان صوت احمد يهدر , ويركّز حديثه مثل من يركز فوهة البندقيّة
باتّجاه الخصم , ثمّ يضع المقارنة بين نضال الشعوب , وما طرحه البلاشفة
الى جانب طروحات المهاتماّ غاندي وهو يقود الشعب الهندي .
وبودي ان اشبع الموضوع اكثر لتتراءا الحقائق امام عيون حبيبي مهنّد .
واقول كلّ حزب له فلسفته, ونظريّته , ونحن نناضل باستماتة ضدّ اللصوص الاجانب الذين تسلّطوا على مقدّرات شعبنا . امّا البلاشفة فقد ناضلوا ضد لصوصهم في الداخل من خلال الصراع بين من يبيع قوّة عمله
, ومن يشتري قوّة عمل الآخر .
فالبلاشفة عجّلوا بتفجير الثورة عبر عمليّة حرق المراحل من خلال ماراثون الحرب, واختزلوا الطريق , وكسروا صولجان المدعو بظل الله في الارض : كما ادّعى هو نفسه كونه هو الظل في الارض : كذلك بقيّة الملوك , والاباطرة , والخلفاء ..
فالبلاشفة نفّذوا الطفرة , وعبروا الموانع والاسلاك , وركضوا في مضمار ذلك الماراثون , وحلّقوا لاعلى الذرى, ومسّوا باعقابهم قمّة (افرست) في سلسلة جبال هملايا الف باء المعركة من اجل تنفيذ مشاعيّة الحقول , والمعامل, وتوزيع الريع بشكل منصف , وعادل لشعوب روسيا من العمّال , والفلّاحين وبقيّة جماهير شعوبها . ومع تقديسي لدور المهاتمناً غاندي , ولدورته الرائعة في الماراثون الّا انّه لم ينجز سوى حلقة من سلسلة الصعود .. من اجل الانسان . وفي الغد القريب سنرى الشعب الهندي كيف سيعمل على تصفية حساباته , ويضع حدّاً لمرحلة اللصوص في بلاده .
هؤلاء الذين يظهرون على مسرح العمليّة هم النكرات , وسيتلاشون كما يتلاشى الوميض في الظلام .
مهنّد انا معك : ولكن علينا ارتقاء السلّم دون اختزال الخطى . ذلك لكي لا نسقط عن السلّم .
احمد الحروب هي الحروب لاستنزاف الموارد , والطاقات البشريّه.
يجب ان لا نراوح .., او نقف عند محطّة من محطّات العالم المعلّمة بعلامات الاستغلال , وقبل ان يستدرك الوحش ليعود للعبته .. الجديدة . علينا قطع الطريق عليه قبل ان يدفع بفقراء العالم حطباً لنيران جديدة ومهلكة . ما زالت شاخصةامامنا حربان عالميّتان جعلت (هيروشيما) و (نكزاكي) طعاماً لموقدها الذرّي ايّام هزيمة النازيّة والفاشيّة امام زحف القوّات السفوياتيّة , وجيوش الحلفاء, وتلاشي قوس قزح عن سماء اليابان .
ولو التفتنا الى الوراء قليلاً لتراءت لنا الحروب الدينيّة منذ العهود الاقطاعيّة
والتي تفجّرت بين الاديان , وبين المذاهب المسيحيّة. على وجه الخصوص
ضمن الدين الواحد . وكذلك الحروب الصليبيّة وغيرها كانت لها
بواعث اقتصاديّة , وجغرافيّة ترتكز على ازاحة الآخر عن المكان , وجعل موضع قدم المهزوم موضعاً لقدم الفاتح : ذلك لكي يتم الاستحواذ عبر القوّة , ولا بدّ للجواد الشوط الاطول على مساحة الآخر. هذه هي الممارسات على قاعدة اللعبة , ولو حصلت المشاركة داخل البيت , وتحت مظلّة القانون الانساني وليد الحضارة, والذي تشارك في وضعه الاغلبيّة لما حصل الذي يحصل في كلّ بقاع الارض . فالدعوات كانت تحاكي الانسان بصوت الانبياء والمصلحين في ان يقف الى جانب الاضعف , بوجه كل اشكاليّات الظلم الاجتماعي الذي يمارسه الاقوياء , والعمل على وضع الصورة داخل الاطار الطبيعي اصبح ضرورة ملحّة : وذلك لكي تكف التماسيح عن المخلوقات الضعيفة في البحيرة الراكدة .
على اثر هذا الحوار المحتدم نصبت المائدة .
والتفّت العائلة حولها مثل طوق الياسمين وهم على عتبة يوم تسقط اكثر الاوراق الذابلة عن الاشجار التي تتدرّع بالشوك القاروني , والنهم الذي ينمو تحت شغاف القلوب , ويمنع عنها النور , والتسامح , والمحّبة .الناس ينتظرونه على احرّ من الجمر , لترفع فيه الصلوات ,
والتكبير على جبل عرفة .
في تلك الليلة الساحرة للاطفال , والمقدّسة للمؤمنين . وحيث يحلم الاطفال بالملابس الجديدة , وقد لا يأخذون قسطاً من النوم .
بعد الانتهاء من وجبة العشاء , وارتشاف قدح من الشاي .
قال مهنّد ارجو ان تسمحوا لي بالانصراف .
احمد ولم هذه العجالة ؟ خاصّة الليلة , ليلة عيد والناس تسهر حتح منتصف الليل . عمّي : الشوارع الآن مكتظّة بالناس , خاصة الذين سيرهنون عقولهم في حانات بغداد , والحصول على السيّارات سيكون صعباً جدّاً وانا اتجنّب الشر , واتوخّى الخير , لذلك تراني في عجالة من امري .اذا كان هذا قصدك فلتذهب في حفظ الله , ولتصحبك السلامة يا ولدي .نهض مهنّد , وصافح الجميع , وقبّل ولده كاظم, وخرج مسرعاً, وراحوايودّعونه عند باب البيت وهم ينظرون اليه حتى غاب في المنعطف من الزقاق 000
بات السيّد طهر قلقاً تلك الليلة الليلاء وهو يستقرئ النجوم , ويمتطي موجة قلقه ليطمئن نفسه فيميل الى السكينة وهو يهلّل , ويحوقل ,ويضفي على مجتمع المدينة اجنحة الملائكة مرّة , واخرى يضعهم في طوابير الشياطين , والمردة . ركب رأسه القلق لاجل مهنّد .
الساعات تمضي بطيئة : هو يريدها تركض مثل خيول السباق .
جفونه كانت تشاكسه ولا تنطبق وكأنّما ذرّ فيها الملح .
صمت الليل يضيف الى خوفه الرهيب حزناً مكثّفاً واقدامه تخفق على الارض في الظلام , والصمت المشوب بالوحشة , والوحدة القاتلة .
حاول السيّد طاهر ان يوقظ زوجته . اقترب منها , وهي مستغرقة في نوم
عميق. مدّ يده الى ذراعها وقبل ان يلمسه عاد , وقال في نفسه ربّما هي في رحلة حلم جميل : لماذا انغّص عليها حلمها وحياتها
كلّها معاناة , ومرارات , وتعب, وكدح , وحركة لا
تنقطع توازي حركة الزمن الذي لا يتوقّف ,
اذاً فلاصبر للصباح . وفي الصباح رباح والله هو الحافظ . وبينما هو يجول بافكاره , وباقدامه وقد اخذ منه التعب , والارهاق النصيب الاكبر .
وبعد ان دارت به دواليب الهموم , وغلقت عليه كل النوافذ , وجعلته
ضحيّةالقلق . بوغت بهتاف بشير الغبش في الجوار فحمد الله , واستبشر
لقرب الصح القادم وهو في تصوّراته , وهواجسه , سمع تسبيحات الديك للمرّة الثانية . بصوت كان اقوى من الصوت الاوّل , قال في نفسه كم احسده على جرس حنجرته وجمال صوته . على وجه السرعة هزّ يد زوجته وهو يقول ام مهنّد , ام مهنّد , ولمّا رأى انّها غارقة في النوم
عاد ليوقظها . فتحت عينيها فرقّ لحالها وعدل عن اخبارها بحقيقة هواجسه , واضطرابه , وما ينتابه من المخاوف وقال الصلاة , الصلاة قبل طلوع الشمس . ابتسمت في وجهه فعاد ليقول لها الصلاة خير من النوم, ولفرط الاحساس بالتعب عادت من الى النوم .
راح يقرأ ما حفظ من سور القرآن الكريم , ويكثر من الحوقلة , والبسملة ويردد بهدوء اللهمّ اعنّي على الصبر , والهمّني من صبر عبدك ايّوب , وبعد ان تجلّى الصباح بوجهه المنير , وهو ينفتح على العالم .
خرج السيّد طاهر هائماً على وجهه و في الطريق .
التقى بصديق مهنّد , وبعد ان سلّم الشاب على السيّد طاهر قال له كان في نيّتي زيارتكم الآن لكنّي التقيتك والحمد لله . بهت السيّد طاهر ولم يفهم ما
كان يعني ذلك الشاب بالزيارة . السيّد طاهراهلاً وسهلاً بك لو شرّفتنا الآن لكنت محل ترحيبنا . الشاب ولكن : ارجو ان تفتح صدرك لى ولا تسأل عن غرض الزيارة . السيّد طاهراجهل ما وراء لسانك , , وما تكتمه عنّي , فقل ما يدور في خلدك , وما يعتمل في صدرك .
عمّي العزيز , قلت لك ابغي زيارتكم ولكنّي التقيتك والحمد لله ولا حاجة للزيارة مادمت ساصطحبك معي .
الى اين . الى ولدك مهنّد وانا رسوله اليك . ارتبك السيّد طاهر وقال اين مهنّد .؟ حاول الشاب انهاء الحديث , وهتف باحد سوّاق سيّارات الاجرة , وما ان وقفت السيّارة حتى فتح الباب للسيّد طاهر . وجلس الشاب الى جانب
السائق وهمس بصوت خفيض . فهم السائق , وفي الطريق كان السيّد طاهر نهباً للهواجس والمخاوف وهو لا يعلم الى اين سيذهب , اخيراّ توقّفت السيّارة امام مستشفى المجيديّة . دفع الشاب الاجرة وهبط من السيّارة وتبعه السيّد طاهر وهو في دوّامة من القلق , وقلبه تزداد ضرباته .
شعر كانّما يساق الى حفرة قبره وهما يسيران بخطوات سريعة ومرتبكة .
السيّد طاهر الا تريحني , وتشرح لىي ما تكتمه عنّي ؟
الشاب لو كنت اروم الكتمان ما اتيت بك الى هذا المكان.
تجاوز الشاب ابواباً عديدة ثمّ ادخله الى صالة كبيرة , ومن هناك قاده الى السلّم , ومنه الى الطابق الثالث والى احدى الغرف : وما ان دخل السيّد طاهر وقد التقت عيناه بعيني مهنّد. طفرت الدموع وهي تتساقط على لحيته وقد غمرته غمامة سوداء , ودارت به الارض, وكاد يسقط وهو يهتف مهنّد , مهنّد والقى بنفسه على سرير ولده وهو يشمّه , ويقبّله من رأسه , ومن جبينه
ووجنته والدموع تنهمر ما بك ؟ لم انت هنا ؟ كيف جئت ؟ ومن جاء بك الى هنا. ؟ مهنّد حظّي العاثر . ولدي كنت اعتقد انّك في بيت عمّك احمد ومع انّي بت ليلة ليلاء , ليلة مشحونة بالقلق , والارق المر ولكن قلّي ما الذي حصل لك وانت تدثّر صدرك بالضماد بدل ملابسك.؟ هل دهست؟
هل حصلت عندك كسور ؟ كلّا لم ادهس انّما تعرّض لي احد الشقاة ممن يسرقون الناس في العلن وليس في الغفلة, وطلب منّي ما احمل من نقود ,
وقبل ان التفت اليه رفع خنجره وقال الك رغبة في الحياة , وقبل ان انطق انهال عليّ طعناً بخنجره من الخلف وعلى اثرالنزيف , وقبل ان اغيب عن الوعي تجمهر الناس فلاذ بالفرارغير آبه لفعلته الشنيعة وانا لم اعد الى وعي الّا وانا على السرير .
كان احمد قد سبق السيّد طاهر . وهو ينصت الى حديث مهنّد
ثمّ قال دفع الله ما كان والحمد لله كونك نجوت من موت محقق ثمّ
نهض وانهال على جبين مهنّد يمطره بالقبل وودع السيّد طاهر ليلتحق بعمله . بعد وقت طويل جاءت فاطمة وعلي ومحمّد لزيارة مهنّد وهي خائفة , ومغتمة وقد اسودّت الدنيا في عينيها , واصبحت مشوّشة لا تعرف ما تفعل , وقد تلاشى عن عيونها كلّ شيء مشرق , ولا شيء امامها سوى نفق
مظلم ليس له نهاية . تناولت كف مهنّد واغرقتها بالدموع وهي تمسكها بقوّة واصرار مثل من يمسك طيراً ويخشى ان يفرّمن بين يديه وقلبها مثل سعفة نخلة طريّة ضربتها ريح مجنونة , وكاد يغمى عليها من فرط المفاجئة وهي مصابة بالذهول تنظر الى مهنّد , والى الاربطة البيضاء التي تشبه كفن الاموات , وكلّما حدّقت في ملامحه غمرتها موجة من الزعفران , ومهنّد يطل من وسط تلك الموجة بالجذور البشريّة التي تتجانس مع تخيّلات , وتصوّرات فاطمة .
تجاوز الوقت المحدّد لزيارات المرضى , الدقائق انطلقت في الماراثون الزماني مثل قطيع من الغزلان الهائمة في البراري .
سمع صوت احد المسؤلين في المستشفى طالباً من الزوّار مغادرة المستشفى .صعقت فاطمة وقالت كيف لي ان اعود ومهنّد يبقى وحيداً. ؟
كان صوتها يسمع من خلال النشيج الذي بدأ يزرع السكون بالعويل .
قال مهنّد لم تبكين؟ : الا تريني امامك بوضعي الطبيعي , وقد اغادر سريري خلال ايّام قليلة, وربّما لا تتعدّى عدّ اصابع اليد.
فاطمة ارجوك كفّي عن البكاء المكتوم وقد تعكسين عليّ حالة تؤرّقني وتحزنني . تحمّلي وضعي وسترين في الوقت القريب جدّاً , وستفاجئين حين اطرق عليك باب البيت. تدرّعي بالصبر. الله يحب الصابرين . وبينما
مهنّد يحدّثها جاء الرجل المسؤول عن اخراج الزائرين , والاعلان عن انتهاء الزيارة.
تجاوزت عقارب الوقت المحدّد والمرسوم للزيارة .
نظرت فاطمة , وكادت الدموع تحجب عن عينيها صورة مهنّد .
جفّفت دموعها . مهنّد , عزيزتي اذهبي في حفظ الله , ورعايته .
خرجت فاطمة وكأنّها فسيلة انتزعت عن جوار امّها , وكانواآخر عائلة
تنسحب من المستشفى , وفي البيت قالت فاطمة لوالدها . واللص هل سيفلت من العقاب , ويذهب سالماً ومهنّد يرقد في المستشفى . عزيزتي من مساويء
المدينة يستطيع اللص , والقاتل الافلات من قبضة العدالة والقانون, في مثل هذه الظروف الشاذة خاصة والليلة كانت ليلة , وفي وقت متأخّر من الليل , وذلك يعود لكثرة سكّان المدينة وفي مثل هذه الظروف . ومن محاسن القرية ان لا احد يستطيع ان يضرب , او يقتل ويتوارى عن الانظار ولا يناله عقاب.
بينما في المدينة يضرب ويهرب تحت جلد الحرباء . وفي مثل هذه الظروف قد تتفوّق القرية على المدينة , ومع هذه المقارنة بين السلبي والايجابي ستبقى القرية هي المفضّلة , والمرشّحة لضوابط الامان , ولا يمكن لايّ كان ان يرتكب جريمته دون ان تسلّط عليه الاضواء .

000


هديّة رأسي يضجّ بالالم وانا بحاجة ماسة الى الراحة والشاي , ولن استطيع تحمّل صور الرعب , والطعن بالخناجر .
نهضت فاطمة على الفور . بعد قليل جهّزت لهم الشاي . اجتمعت العائلة , وتحلّقت حول فاطمة وهي تسكب ذلك السائل الاحمر الشهي في الاقداح, وتقدّم لهم على مهل مع ارغفة الخبز والجبن .
احمد ما اطيب الطعام الذي تلمسه انامل فاطمة الجميلة . هذه مجاملة ام ؟إإ.
ابنتي مجرّد وجودك في بيتنا يجعل كلّ شيء مميّزاً. هديّة تناولوا ما شئتم
من يد فاطمة المباركة عندنا الكثير والحمد لله . احمد بورك فيك من امرأة كريمة لا تضاهيها امرأة من بنات حوّاء , لافي القرية , ولا في المدينة لقد منّ الله علينا بك , يا حمامتنا المطوقّة بالعفّة والكرم , يا ركن بيتنا , وحجره الاساس والله ليجدر بنا ان نفخر بك كنخلة معطاء من نخيل الفردوس تظلّلنا بسعفها في البستان البشري والذي بدونك يصبح بلا ثمر , وبلا سقف ولا اساطين . هديّة تفيض بالفرح , وتشكر الرب في نفسها على هذا التقويم الذي جعل جهدها وكفاحها مثل نقش على حجر, عكس قريناتها حيث يتبرّمن , ويتذمّرن من ضيق صدر الرجال, وانقطاع حبل الصبر .
بعد مضي ايّام قليلة خرج مهنّد وقد شفي من تلك الطعنات , وعمّ الفرح العائلة فدعا السيّد طاهر اصحاب ولده مهنّد على وليمة بمناسبة شفاء مهنّد
كان من ضمن المدعوّين عمّه احمد, وجمال , ومنير , وآخرين . بعد العشاء انفرد مهنّد , واحمد , ومنير, وجمال . في البداية كانت الاحاديث هاديئة مثل جدول ينساب ليسقي النبات وهو يوحي بانّ العالم تحيطه الاساطير الجميلة , وتحرسه الملائكة , ومن ثمّ حصل الالتفاف على تلك الانسيابيّة الناعمة , والمبطّنة بزغب الطيور, ولون الطاوس. في تلك الجلسة الربيعيّة حيث يدثّرها الحنان, ودفء العواطف , والتقلّب على الحرير في عالم يزهو بالورد والزهور في روضة من رياض الجمال
ومن ثمّ حصل االانجرار والهبوط للواقع المزري , وصيغ القمع , والكبت , وتعميق الجراح , ووضع المشرط المتصوّر على موقع التعفّن لاستأصال الداء المزمن , والملازم لتاريخ الشعوب المغلوبة على واقعها المدمّر . هكذا اعقب العشب ألسنة اللهب , وجرى التصعيد من السفح لقمّة الهرم . قال جمال ايّها الرفاق اخاطبكم وكلّي امل في تقحّم العقبات
. اتصوّر , واجزم, بكلما يشدّني الى المستقبل , ومن خلال الوجه المضيء
للقمر ستظهر افكار واقعيّة تسلّط الضوء بشكل راصد, وقد تحقّق
البديل لما يجري في ارض السواد, لاقامة المدن الفاضلة في مديات الاعوام
القادمة , اعوام التمرّد والثورة . ان تلك الافكار كثيراًما تداعب مشاعر المحيطين بنا , وهي شبية بتغريد البلابل , ورقص الفراشات في الحدائق حيث تغري , وتجلب المظلوم والمحروم الذي لا يستطيع الاقتراب من الفردوس , وفي مثل هذا العالم لمطوّق بالقوانين الجائرة في وطن قيّدت فيه الكلمة الى جانب تحسّب الكاتب من انزلاق القلم على القراطيس لما هو ابعد من قامته . ثمّ راح يأكّد باصرار ويقول كنّا ومازلنا نضع بضعة خطوات على سفح جبل اسمه العراق باقدام واثقة للعبور من ضفة العالم القديم لضفة العالم الجديد الذي مازال نصفه تحت المجهر, والنصف الآخر يقع على الجانب المظلم من سطح القمر تحت رعاية الحرس القديم الذي يموّه , ويجدّف , ويفتري, ويقلب الحقائق , ويطلق النباح من الحناجر المسعورة : ويعتمد اكذب اكذب حتى يصدقك الناس , وهو يدفع بالخنازير لتخريب الحقول , ويعيث باعماله التخريبيّة فساداً في الارض . وهو مثل من يسكب الحبر على الملابس البيضاء , ويكثر من صنع التوابيت , ويوسّع حدود المقابر, ويزيد اعداد لاعبي السرك , وينتشي بعرض القرقوزات لاصحاب العروش المهزوزة , ويمد الاسلاك لمكبّرات الصوت التي نسمّيها التنظيرت عبر العالم ليضخ سمومه .
لقدعمل ويعمل لارتكاب ايّة موبقة تشم عفونتها بشكل فاضح .
احمد الشعب صار يدرك , وخاصّة جماهير المدن تلك الالاعيب, للسياسات وما يدور خلف الستار . انتم تعلمون ما نحن عليه وما يعانيه
شعبنا المضطهد : فشتاؤنا الجليدي اقسى وصيفنا اكثر حرارة , ونحن في المدار الفلكي لمسار الوطن . فلماذا نكثر من البخور , ونقدّم القرابين ونحن بانتظار التحوّل؟ وجراحاتنا تنزف , والذئاب تلعق منها الدماء ونحن نغرق بالتنظير, والجدل دون ان تحصل الطفرة .
منير : جسر الشهداء لابدّ من تفعيله هل سمعتم ؟ ام قرأتم عن دعوة اصلاحيّة , او حركة سياسيّة وقفت على اقدامها دون االبذل والتضحية .
ذلك لابد منه, والتحرّك الى جانب البوصلة التي نسمّيها التنظير , والتنظير لابد منه , والخبب افضل من الركض السريع , وفي حالة الحصار تدخل النهارات في الليالي الطويلة , ويستهويني الركض ولكنّي اعود فاحتكم الى
البوصلة ليسكن روعي , ويتلاشى المرض الطفولي ..
احمد نحن على تماس للحدود المتاخمة للوطن والتي نتأثّر بها وهي تأثّرفينا
وقد تتسع مديات , وساحات التأثير المنعكس علينا, وعلى العالم حيث
يتطلّب منّا التقليل من الاحلام , والاكثار من التحرّك .
انا احس انّنا نطرق على حديد بارد وقضيّتنا تشبه امنية (ماجلّان) حينما انطلق برحلته الطويلة وقد اكتشف بطريقته الانسيابيّة جزر الهند الشرقيّة . ومع هذا الشوط الهائل والمهول . كان قد ادّى الى الكشف عن كرويّة الارض . وقد عادت احدى سفنه منزلقة ومتهادية على صفحات الماء لتدخل, ولتسجّل فتحه االجديد , ومن الجانب الآخر حدّدت نقطت الهدف للثابت في كتاب الجهول . وبغض النظر عن الاهداف والغايات : فرحلة ماجلّان
لم تغيّر شيءاً ولكنها ازاحت الغبار عن الطلّسم , واعطت نتائج غير التي
قصدها امير البحار. وها نحن نفسّر اللوحة في الوقت الذي يتطلّب منّا تغيرها . عند ذاك : بهت ظافر واعجب بوجهة نظر احمد وقال لاحمد
انّك الوحيد من بيننا تملك الحقبقة . ابتسم احمد وقال مع كوننا نعيش
الحقيقة بعمق وانسيابيّته متساوقة علينا ان نخضع عملنا بشكل مرن لديالكتيك التحرّك والابتعاد عن الجمود, وتعجيل مسير القطار البطيء , لمن ينتظرونه في المحطّة التي تأدي الى تغير السكّة , وتعديل المسار تحت سماء جديدة , وعلى ارض جديدة ولا شيء يحصل بالتمنّيات , والانسان بعقله الواعي , وتجاربه التي اكسبته المعارف من خلال الكبو والنهوض . كل ذلك الجهد المتواصل يصب في ايقاف العقد
بين البائع والمشتري , وحسم ما لصالح الاكثريّةعلى حساب الاقلّيّة ,
وقلب قرص (القوان) لسماع سمفونيّة الحياة الخالية من التصوّرات المشوّشة , والضبابيّة , والوقوف تحت الشمس . فلو ركّزنا على مدن ارض السواد للاحت لنا مثل قوارب مهجورة في محيط يلوح على افقه
اليأس , والاحباط واهم من المهم فتح عيون الشعب . وبشكل خاص من عمّال , وفلّاحين وكسبة والاخذ بأيدهم , وانتشالهم من دوّامة الفقر والمرض والجهل ذلك الثالوث السرطاني الذي وجد له الارضيّة الملائمة, والخصبة في العراق . واذا ما بقي هولاء على سباتهم تحت خيمة ذلك الثالوث اقرأ عليهم , وعلى مستقبل الوطن الفاتحة . سكت الجميع اتجاه منطق احمد لكونه يستند على ادق التفاصيل التي يعاني, ويكابد منها الشعب
واخيراً نطق مهنّد قائلاً مع كونك تمسك بخيوط الحقيقة , وتنهج نهجاً واعياً
يقود القوافل , ويخرجها من ارض الظلمات الى منابع النور في وطن المعارف والحضارة يتطلّب منك , ومنّا جميعاً معرفة الارض التي نسير عليها لكي لا ننزلق , فنكسر. ابتسم احمد وقال منذ ثورة العشرين ومواكب
الشهداء تتقدّم , وطلائع ارض السواد تواصل الليل بالنهار لقيام الفردوس على الارض . وهاهي تمد الجسور للعبور الى نقطة الهدف . ان وعي شعبنا كفيل بكسر القيود , وتحقيق السعادة ففي فترة مابعد الحرب الكونيّة الاولى تعمّق الوعي الثوري لشعوب العالم , وكذلك شعبنا خاصّة بعد حصول
الثورة الاشتراكيّة في روسيا , والتي تزامنت مع انهيار دول المحور بقيادة
المانيا البروسيّة ومن خلفها قاعدة الشر ايطاليا الفاشيّة الى جانب اليابان ,
وغياب الامبراطوريّة العثمانيّة.
تنفّس العالم برئتيه مع قطع اذرع الاخطبوط الرباعي .
وعاش العالم عيداً جديداً مزحوماً بالافراح حيث انتهى الى الابد يوم قرعت اجراس كنائس العالم , وصدحت المآذن بالشكر الى الله العلي القديرعلى نعمة السلام بانتهاء الكارثة ومحارقها حيث استنشقت الشعوب نسيم الحرّيّة , وصعّدت الوتائر الديمقراطيّة .
كان للعراق نصيبه : وان جاء يعرج , وبعد ان ذهبت نزوات المعتوهين من صنّاع الموت بعشرات الملاين من البشر , واعداد هائلة من العراقيّبن .
مرّت الشهور , والسنون في ماراثون المطالبة للتغير , وبعد ضغط الشعب
على حكّامه المتسوّلين على ابواب السادة الجدد اجيزت بعض الاحزاب
وليست جميعها , وكذلك النقابات , والجمعيّات وقد استثني من ممارسة
العمل الحزب الشيوعي واحزاب اخرى احتسبت على جبهة اليسار .
ثمّ استطرد قئلاً علينا ان لا نبالغ في مستوى الوعي . هناك فرق بين ابناء المدن , وابناء القرى . فاين القرية من المدينة ؟ .
فابن المدينة قد يتمتّع بنسبة قليلة بالقياس الى العالم المتحضّر حيث تتاح له فرص قراءة الصحيفة , والمجلّة , والكتاب بالاضافة لسماعه نشرات الاخبار عن طريق المذياع في بعض المقاهي , ولا ازعم جميعها الى جانب احتكاكه ببعض المثقّفين في المدينة .
امّا ابناء القرى فليس لهم سوى فلح الارض , وغرس البذور, والحصاد .
تلك همومهم . وما عدى ذلك فالجهل , والمرض, والفقر.


000








وصلت الاشارةلاحمد من رفاقه للخروج بمظاهرة حاشدة , وسريعة فرضتها الاحداث المتلاحقة من خلال الصراع على مستوى بلدان المنطقة .
كانت ايران هي الارض التي اهتزّت تحت عرش الشاه : كان المد العارم
للمحيط الثوري يدفع بامواجه الى شواطئ البلدان المتاخمة للبراكين المكبوتة تحت صدور الثوريّين للدول التي اجبرت على الركوع في حضرة العم سام . كان الجمر تحت الصقيع , ولسان البركان اوشك على الخروج , وفي لحظة من اللحظات العاصفة , خطا المارد , وتململ التاريخ , وفرّطائر السعد عندما سمع قرع الاجراس على عتبة امبراطوريّة محمد رضا بهلوي . فرّ قبل ان تغلق النوافذ ,وقد فتحت الشوارع ذراعيها للثوّار في جميع المدن الايرانيّة . كانت الدوّامة تدور بعنف لكسح كلّ تراكمات,
وقذارات تاريخ اصحاب التيجان المشبوهة بعمالتها.. كانت الايّام التي سبقت الاشارة من الايّام البيض . قبل ان يعقبها انفلات المارد من قمقمه . الخطوات تزداد تسارعاً لكنس آثار الهيمنة , ونزع المسامير التي تغرز في حدوة الحصان, حصان عربة العم سام المفتوحة لقراد المال اصحاب العيون الزرق, العائمون على البحيرات المقببة .. و في غفلة من الشعب الايراني تحقّقت الهيمنة والتسلّط باقبح صورها يوم حصلت على عقود كريمة وحاتميّة, وذلك يعود لجهل الجانب الايراني في كيفيّة استخراج ذلك الفيض من الذهب الاسود, وتصديره , فحصل الاجحاف والغبن الذي لحق بالشعب الايراني .
كانت الحكومة الوطنيّة قد تسنّمت الموقع الثاني في حق التصرّف في ملكيّة الشعب ومواجهة العرش المهزوز , واشتداد الازمة , وتصعيد الصراع
في برزخ يقع بين الجحيم وافردوس , فحصل الذي حصل بعد فرار الوطواط وقدحصلت قناعات لاصحاب المهام القياديّة , ولاطياف واسعة من قبل اليسار, وقوى وطنيّةاُخرى , في مواقع برلمانيّة , وزعامات حزبيّة لمختلف التيّارات الحريصة على مصلجة الوطن امام تعنّت وغطرسة شركات غير مالكة لخزين الثروة الايرانيّة, وعلى اثر الشد حصل القرار الخطير لوضع القضيّة المختلف عليها على كف عفريت, وعند توتر الاعصاب اهتزّت الارض الايرانيّة من تحت الاقدام.
كان الثور يجول في ساحة الملعب , وقبل ان يهاجم كان الشعب يتوقّى ضربة قرنيه بقطعة القماش الحمراء . بعد الاصطفاف على ضفّتي الغليان
غرّد طائر التأميم خارج قفص الشركات المغتصبة , وعلى اثر تلك العمليّة
تضامنت شركات الشيطان الاصفر واعلنت رفضها لتسويق النفط الى خارج المحيط الايراني . في تلك الموجة العارمة اصطدم الجبلان وهرب ببغاء العرش , والحارس الامين لمصالح شركات البترول الاجنبيّة , ولجأ الى ارض السواد , واختار المدينة المدوّرة التي اغتصبها (الجنرال مود)
وعلى اثر هذه الازمة قال الرفيق جمال بعد شرح الموقف , والاضطراب
الدولي قرر حزبنا النزول للشارع بمظاهرة تهدف الى طرد الشاه الايراني
من عاصمة ارض السواد . ثمّ عقّب ان حزبنا في حالة انذار قصوى وعلى الرفاق الحضور في المكان والزمان.
بعد ذهاب الرفيق جمال . كان احمد ينتظر مثل هذه المناسبة على احر من الجمر , وبشوق عارم كونه لم يشترك بأيّة مظاهرة طيلة ايّامه في التنظيم. هو يسمع من الرفاق عن المظاهرات في بغداد ولم تتاح له فرصة ليجرب .
كان ينتظر والفرصة اقتحمته لتضعه في المكان الذي يريد . ومنذ ان نزح من القرية الى المدينة لم ير غير السلبيّات, واحتجاب ايجابي .
قال في سرّه الحياة مثل مجرى الماء ما ان يتوقّف حتّى يأسن . وكذلك وضع الناس في المدينة الراكدة . وفي زاوية من زواياالتاريخ المهمل , والفاقد الديناميّة الثوريّة .
استحسن احمد تلك الاشارة واهمّيّتها وقال ان الحزب في عافية عكس ما كنت اتصوّره وانا لم المس مثل هذا التوجّه حيث كانت القرية حدودي الجغرافية والتي هي بعيدة عن اجواء الدخول في مواجهة تضعنا على محك
المجابهة, والاصطدام ايّام زمان كنت اسمع من استاذي وعرّابي فاضل العاني يوم كان يروي لي ما يدور في المدينة عن نضالات العمّال من اجل تحسين ظروف عملهم ولكن بشيء مختصر, وباشواط قد تقصر كثيراً عن نهوض العمّال في اوربّا كون الحركة النقابيّة جديدة علينا نحن عمّال الوطن العربي في مصر , والعراق والمغرب العربي وغيرها من الدول ذات النهج الرأسمالي وشبه الاقطاعي المتخلّف في وطننا العربي الرازح تحت الهيمنة الاجنبيّة .
كان احمد يفكّر بالمظاهرة بعقل متفتّح , وعاطفة جامحة تشبه حالة المخاض لامرأة على ابواب ولادة جديدة , ومن ثمّ يتساءل في سرّه : هل ستكون المظاهرة فاعلة بحيث ستأثّر على وضع الامبراطور محمّد رضا بهلوي ؟ ثمّ يكرّر سأشترك مهما تكون النتيجة , واود ان ارى بعيني ماذا
سيحصل ؟ وكيف ستتعامل معنا النعجة الجرباء والتي نسمّيها حكومة العراق .
ربّما ستكون في موقف حرج في حالة يستضيف التاجُ التاجَ , ويتّسق الصولجانُ مع الصولجان .
في مثل هذا الوضع قد تتظاهر بوضع الحامي , والمدافع عن التراث الملكي المقدّس , وقد تكون شديدة معنا لاجل سواد عيون شرطي الخليج محمّد رضا بهلوي , واشعاره بالقرابة السياسيّة , ولكون البلدين ينتميان لام واحدة . اعود فأسأل نفسي عن ذلك الخنزير الطريد وهو يلقي بنفسه الى مزرعة في الجوار ,؟ وعن احراج اصحاب الحل , والربط , والبروتوكولات الملكيّة امام ملك لم يخلع عنه التاج . لا ادري لماذا افكّر اكثر مما ينبغي.
اانا خائف ام متحسّب؟ ولماذا اضع الحكومة في الموقف الحرج .وهل عندنا ملك يتصرّف بارادته ؟ لا اعتقد . فالذين يتصرّفون باسمه لو وقعوا في الحدث , بالتأكيد لما وجدوا غير طريق الفرارمذعورين مثل الفئران طالما هم في واد والشعب في واد آخر. هذا هو بيت القصيد . فلماذا اللف والدوران من جانبك احمد :
نعم هكذا كان احمد يناقش احمد وهو يريد ان يقع على الخارطة الخفيّة للاحداث . والّا ما معنى ان يفر ملك دون ان يطالب بالخروج وهو يتسلّل
كالافعى المنسابة على الرمال الفاصلة بين بفداد , وطهران دون الاعلان , او طلب الموافقة قبل الولوج , وخرق حدود الآخر.
هو لم يفر من ملوك النفط , ولا من الاخطبوط النفطي
بل فرّمن حكومة شعبه الغاضبة : ولو لم يكن صنيعة ؟ لضمّ قبضته لقبضة الشعب المناويء لدكتاتوريّة , وتعسّف الشركات النفطيّة .
الآن يجب ان اكف عن الانسراح كقارب يعوم في بحر يغمره الضباب .
سأخرج في المظاهرة حتى لو كانت المظاهرة تحسب على كفّة التطرّف اليساري. الوقت يزحف صوب جرس الانذار .
كان احمد يسأل وهو في الطريق الى الهدف عن الساعة, وتصوّر عقاربها
الحرّة والطليقة كيف تتحرّك ؟. ربّما هي قلقة مثلي
كيف ساتعرّف على الرفاق ؟
كيف سنشكّل رافداً بشريّاً في احد شوارع المدينة المدوّرة ؟ , واسمها المدوّي الذي اكتسب الهيبة من هيبة الدولة العباسيّة آنذاك .
لم يقل جمال كيف سنجتمع .؟ لقد حدّدالمكان والزمان .
غاص احمد في المجهول , وتوقّف قبل حلول الموعد قرب احد الباعة وطلب منه قنّينة كوكاكولا مثلّجة وعيونه تتحرّك مثل رادار وهو يمسح المنطقة يميناً وشمالاً .
كم تمنّى ان يحصي العدد الذي سيهز اساطين النظام قبل ان يكون وكراً آمناً لببغاء عصر جديد .
انّها صدفة , بل مفارقة غريبة . والّا كيف يحتمي شرطي الخليج إإ؟ بالبلد الاضعف, والملك الاقل شأناً , وكما يقال للضرورة احكام , وقبل ان تنفد زجاجة الكوكوكولا من محتوايتها سمع احمد صوت المارد ليخرج شاه ايران من بلادنا : وعلى وجه السرعة مثلما يلمع البرق في السماءالى جانب صرخة جمال انطلقت الحناجر , ورفعت الّلافتات وكأنّ جموعاً من الجن خرجت من تحت الارض . ترك احمد مابقي من السائل في الزجاجة , واعطى للاقدام حرّيّتها, وهرول باتّجاه الجماعةالذين شكّلوا رافداً قويّاً وكانت الهتافات حادّة وعنيفة تأميم النفط الايراني خطوة عادلة وجريئة . الخزي والعار للعملاء . لتعش ايران حرّة وبلا قيود . ليخرج شاه ايران من بلادنا.
المجد لخطى الدكتور مصدّق . لتتألّق جذوة النضال الايراني . لتعش وحدة النضال الايراني العراقي. ليسقط محمّد رضا بهلوي الخادم الامين, وراعي مصالح الاستعمار.. هذا ولم يطل الوقت بالمظاهرة , وقد داهمتها قوّة شرطة مقاومة قمع المظاهرات كما يسمّونها هم واسيادهم .
كانت القوّة بكامل معدّاتها العسكريّة , وقد حصل اشتباك دموي : كانت نتائجه قتلى , وجرحى من المتظاهرين . كان رنين القبّعات الحديديّة يسمع عن قرب جرّاء اصطدام حجارة الابابيل حين تقع على الرؤوس.
اخيراً تمّ تفريق المظاهرة .
كانت الحصيلة اعتقال عدداً كبيراً من المتظاهرين . من بينهم احمد .
كان رأسه ينزف دماً غزيراً من جرح بليغ احدثته ضربة هراوة وحشيّة من احد طابور القمع , نقل الجرحى الى المستشفى بينهم احمد وقد عولجوا
, ثمّ اوقفوا داخل المستشفى .
منعت الزيارة عنهم , وبدأ التحقيق معهم بعد ان عادوا الى وعيهم .
عند الاستنطاق كان احمد لحسن حظّه ما زال ببدلة الجباة المقرّر ارتداءها
من قبل مديريّة مصلحة نقل الركّاب.
قال ضابط الامن المحقّق المناطة به عمليّة التحقيق لاحمد ماشاء الله ابن الدولة يعمل على تخريب الدولة .
احمد سيّدي انا اجهل ما تقصد .
كيف تجهل وقد قبض عليك متلبّساً بجريمتك ؟
ايّة جرتمة ؟.
الا ترى : كانت بدلة احمد ملطّخة بالدماء وقد تجمّد الدم على كتفه
احمد سيّدي حين انتهاء الدوام الرسمي سلّمت ما بذمّتي من المبالغ , وكذلك سلّم السائق الحافلة بعد ان ركنها في المكان المقرّر لها, وسلكنا الطريق المؤدي لكلّ منّا الى بيته فحصل الذي حصل في الطريق وانا اجهل بواعث ما يحصل . الضابط الم تعتقل سابقاً بتهمة سياسيّة .؟
سيّدي انا اجهل ما تتحدّث عنه , وعن مغزاه : انارجل فلّاح وقد تركت قريتي واتيت الى المدينة بحثاً عن العمل , لا بحثاً عن المشاكل , واقول لك بحق انا اجهل ما حصل وما يحصل في المدينة , وحتى الاعمال التي تسمونها مظاهرة لا اعرف فحواها ....
بل تعرف كل شيء , وكذلك تحاول خداعنا , والمصيبة انّكم تطمعون في رأفتنا , وسعة صدورنا , وتسامحنا ومثلك رجل قروي يلعب معنا لعبة القط
والفئر , ومع هذا يبقى صدر النظام رحباً لمن يصحو على زمانه , ويقف
عند حدود الندم , والنظام يبقى الاب الرحوم الى من تورّط , وركبه الشيطان . نحن لا نريد لك شرّاً , وما دمت جديداً على القضيّة .
يمكنك ان تطفر النهر قبل ان تلطّخ فميصك الابيض بالحبر الاحمر, وتخرج من تحت خيمة من يظهرون الحمام على الصدور ومن تحت الابط
يستلّون الخناجر والسكاكين, ويطلقون الصقورلافتراس حمام الدولة وهم لا يألفون الدعة والاستقرار , وينعقون مثل الغربان على الخرائب .
واذا كانوا رجالاً يتّصفون بالقوّة والبأس فلماذا لا يظهرون على المسرح ..؟
وهم دائماً يعيشون في الظلام تماماً مثل الخفافيش . قلّي انت الفلّاح المغمور
كيف يتحرّك لسانك بهذ التسلّط , والطامّة الكبرى.... إإ؟ ضدّ من تخرجون من جحوركم , و بطريق من جعلهم الله هبة للبشريّة , واعطاهم ما اعطى للمصلحين في الارض إإ؟ . فكيف تقفون سدّاً منيعاً بوجه من يهتزّكل العالم لهيبته ولمقامه , ولاسمه الكريم ؟.
ومثلك انت الفلّاح الرقيع التافه , واصحابك من صعاليك المدن .
اتصوّرك , وانظر بعين الغيب حينما تصرخ واوداجك تنتفخ , وتحتقن الدماء في شرايينك , وتبحّ حنجرتك بالهتاف المتجاوز حدود المواطنة, والتحلّل الذي تسمّونه بالدمقراطيّة .
كلّكم لا تزيدون عن قطعان من الكلاب المسعورة وهي تعوي ليخرج الشاه
محمد رضا بهلوي من بلادنا .
انا اسأل من يملك البلادان ومصائر اهلها غير ملوكها ....؟
ان موعد قيام الساعة يقترب لما تبتدعون , والدين يأمركم بالخضوع لملوككم , وليس التمرّد , والخروج عليهم .
منذ متى تقف انت وامثالك حجر عثرة في طريق الدولة ؟ وانت مازلت نصف قروي متخلّف وبليد , ونصفك الآخر نيادرتال . ام انّك نزحت للمدينة لترى نفسك امام المرايا المكبّرة وقد تحوّلت من قزم الى عملاق.
اعترف قبل ان اتحوّل من اب رؤوف الى وحش كاسر , ومن رجل رقيق
شفّاف حريري الملمس , ناعم في التعامل الى بربري ومغولي .
اسمع ابني : عليك ان تستفاد من طول صبري, قبل نفاده ..,
وقبل قطع حبل البئر وانت تقترب من القعر ,
وبالمناسبة نسيت ان استوضح منك من ايّة قرية انت ؟
قرية المكاسب .
اذن كانت قريتك قرية المكاسب .
نعم سيّدي
الضابط يتجاهل انسيابية احمد عندمجرى التحقيق .
احمد انا اسألك لم هجرتها وانت تكسب .؟
سيدي المكاسب بالاسم فقط .
اذن دع هذه وتلك واعطني اسماء اصدقائك الذين هجروها .
ليس لي اصدقاء اغتربوا عنها . يستحيل . اسمع ابني احمد . لا تجعلني اخرج عن طوري, ولا تحوّلني من انسان وديع الى نمر افريقي شرس غير مدجّن . ارى انّ الوقت لم يحن بعد الى اسلوب التعليق على المروحة السقفيّة , مثل من يلعبون معك (الجوبي) , وكذلك اللعب بعصي الخيزران مثل ما كان اجدادنا يلعبون بالسيوف .
اسمع احمد لم ولن يحصل لنا ان التقينا بضيف مثلك يدخل ويخرج
دون وشم يلوح على جلد المومياء , ورجايء ان لا تستفزّني بأجوبتك
التي تستند الى الحروف النافية من ابجدية اللعبة .
اطالبك ان تكون معي ايجابيّاً , ولا تثر غضبي باجوبتك السلبيّة . اعود فاقول لك اجب بدون مماطلة , ولا تسويف : اعطني اثنين من اصدقائك في القرية سابقاً , وفي المدينة لا حقاً . ليس لي اصدقاء .اعطني اصدقاءك حتى لو كانوا من الموتى .
فكّر احمد طويلاً وقال في وجدانه وما يهمّني ان فاز بمعرفة اثني من الموتى .
قال للضابط اعطني فرصة لاتذكّر , ولاستحظر ما غاب عنّي في غابر
الايّام لعلّي اعثر على احد في جدول المنسيّين ممن تتشوّق لمعرفتهم .
الضابط لك من الوقت ما شئت , وبعد برهة نطق احمد راضي مريوش. الاخرمحيسن الفطن . الضابط نعم احمد كم عمر راضي مريوش ,؟ واين يسكن ؟ عمره يزيد قليلاً على الستّين . اين يسكن؟ ليس له سكن . كيف ليس له لسكن؟, وهل يوجد انسان في الارض ليس له سكن ؟ سيّدي ان اصررت على معرفة سكنه فهو يسكن مقبرة المكاسب منذ زمن بعيد . تأفّف الضابط بضجر وقال ومحيسن الفطن سيّدي يسكن بجواره ولم يلتحق به الا بعد ثلاث سنوات . نظر الضابط بعينين خارقتين وهو يستشف ما وراء اللسان ولكنّه تمسّك بالصبرمع هذا القروي الغريب الاطوار ثمّ سحب نفساً عميقاً وقال لاحمد انّك الآن في المستشفى وليس لنا ان نعاملك المعاملة التي تستحقّها وانت تحت اشراف اطبّاء المستشفى وكذلك ليس لنا
الادواة المناسبة لاجراء التحقيق الاصولي . وهكذا انسحب الضابط , ضابط الامن والمناط به اجراء التحقيق مع احمد , وبقيّة الرفاق من ضحايا النظام الملكي . قال لاحمد في القريب سنجلبك الى دائرتنا فكن على بيّنة
من امرك, وقبل ان اغادرك تذكّر نحن لا نظلم احداً من الناس , وبعد ان تشفى جراحك سيكون لك معنا حوار قد يجعلك تنبذ حماقاتك . اعود لاقول ان حملك ثقيل , وراتبك راتب جابي في مصلحة نقل الركّاب لا يساوي
دخل حمّال من الحمّالين في سوق الشورجة , واجزم انّك ستتعقّل , وتخضع
للامر الواقع , وارى انّك طيراً بلا جناح , وتحتاج للدعم المادي والدولة لا
تبعثر نقودها هنا وهناك ولكنّها تنظر بعين العطف لمن يخدمون الوطن وفي تقديري ستكون واحداً ممن يحبّ الله ورسوله , والملك .
اسمع ابني لا احب احداً يقاطعني . نسيت ان اقول لك انّ الدعم الذي تقدّمه
الدولة سيكون مضافاً الى راتبك الذي تتقاضاه من مديريّة مصلحة نقل الركّاب . هناك مثل واقعي يقول العين التي لا تراني لا اراها وما اقدّمه لك من عروض هي فرصة لا تتاح لغيرك إإ؟ فاقطف الثمرة من الغصن ولا تنتظر
بستاناً من الوعود الخلّب في صيف قائظ يظعك في مدينة من سراب .
انا ساغادرك الآن فاعتمد على ابن عمّك , وستخرج من بئر يوسف قبل ان يأكلك الذئب . اوصيك ان لاتفشي ما يدور بيني وبينك لانّي لا استطيع ان
اقدّم للآخرين مثلما ساقدّم لك في قادمات الايّام .
بعد ان غادرالضابط المحقق وترك احمد .
اقتاده احد افراد الشرطة الى خارج تلك الغرفة التي التقى بها احمد على انفراد بالضابط المحقّق , وهي غير بعيدة عن غرفة المعتقلين الجرحى.
كان المعتقلون ينظرون الى احمد الذي غاب عنهم وقتاً طويلاً وهم بين الريبة منه .. , وبين العطف عليه . جلس احمد على سريره وهو غارق في هواجسه , وفي لجّة مخاوفه , ولحظات قلقه .
كان يستعيد , ويستحظر ما دار بينه وبين الضابط المحقّق الماكر الذي ابحر في محيط احمد , وحاول ان يخلخل جذوره , ويزحزحه ليسقط
ما في الرأس ما انضجته سنوات العذاب والمعاناة العاصفة فوق ارض الرماد . انّها المحنة والامتحان . عاد احمد ليقول لنفسه ما ذا تصوّرني هذا الذئب . والله ما كنت يوماً حملاً وديعاً يذهب الى القصّاب برجله ليكون فريسة جاهزة لقطيع من الكلاب المسعورة .
والله انّ لحمي لامرّ من الحنظل . هكذا كان يفكّر ويخاطب نفسه في السر. ثمّ قال احمد قل لاحمد اسأل نفسك , واغطس الى قاع البحر
لتصل الى القرار . دقّق جيّداً , وافتح عينيك في طبق من اللبن , لتكتشف ما وراء الكلم المعسول , والمداف بالسم القاتل : لماذا تظاهر بالعطف عليّ بالذات دون بقيّة المعتقلين ؟ وهو يعرض مساعدته على فلّاح قروي متخلّف
في نظره : نصفه نياندرتال على حد قوله ولم يعرض مساعدته الى من هم
اقرب اليه كونهم من ابناء مدينته .
ربّما تصوّرني رجلاً لا يفقه , ولا يجيد قواعد اللعبة .
كان المعتقلون الذين هم معه كلّهم من ارباب الجرائم السياسيّة
كما يحلو للضابط ان يسمّيهم , ثمّ يعقّب انّ سراديبنا , واقبيتنا محجوزة
لهم سلفاً مع هبوب كل عاصفة تهب في شوارع بغداد.
اظن ان هؤلاء في نظر الضابط لا يرجى منهم خيراً فهم كالاغصان وقد تخشّبت , واغلبهم قد تعرّض لممارسة الترويض , وقد دمّرت اعصابه دون جدوى, وربّما كانت تراوده صورهم في احلامه وهو يتذكّر تلك الحزمة من الشباب وقد سقط من سقط , وبقي من بقي شامخاً شموخ القمم .
امّا انا فربّما كنت وما زلت في نظره طيراً جديداً قد يقع في الفخ , او يُستدرج للبرج . كان البعض من المعتقلين قد همس.. عند غياب احمد واقتياده للتحقيق .
منهم من قال هذا الجابي لم تكن له بيننا سابقة .
وقال آخر : ربّما كان لاقطة دسّت بيننا .
همس آخر رفاق تريّثوا في حكمكم على الرجل .
الا ترون ملابسه الملطّخة بالدماء.
آخر : لنضعه تحت المجهر.
وقال الآخر : لنمسح خارطة ارضه قبل نهوض العمارة ,
ونستلهم ما بين السطور , ولنكون دقيقين , وبحذر نتعامل معه .
آخر ننسف السكّة , ونعطّل القطار .
اجابه صاحب التريّث ما معنى ان نعطّل القطار؟
اعني منعه من الاختلاط معنا , والدخول في حواراتنا اليوميّة .
هذا ضرب من الخيال , فهو معنا , يسمع كلامنا اوّلاً باوّل
آخر : نعزله كايّة نعجة جرباء وبذلك نضمن خصوصيّتنا , ولا نسمح
بخرق درعنا السميك. وبذلك نمنعه , ونمنع اسياده من ان يدسّوا بيننا جهاز انصات بشري . آخر رفاق ارجو ان لا تصدروا احكامكم جزافاً : تريّثوا وستظهر العلامات عاجلاً او آجلاً : من خلال حديثه , تحرّكه , علاقته معنا , ومع سجّانيه . كلّ هذه الاحاديث تدور همساً واحمد يغطّ في نومه جرّاء مناورات ضابط الامن معه .
فكّر احمد كيف سيخرج من هذه المحنة , والمصير الغامض وما يترتّب عليه من احتياجات اقتصاديّة لسد الثغرات , والايفاء بالتزاماته اتّجاه العائلة. ومع هذا كان احمد يفوج في دوّامة من الصراع الذاتي , وصورة هذا الصراع تعرض على شاشة مخاوفه في الليل والنهار .
كان يمرّن نفسه على الصبر , وما يلوح امام عينيه اكثر قتامة , وسوداويّة.
حاول السيطرة على هواجسه لكي لا يكون اقلّ توازناً , وليجسّد الآمال الكبيرة والخلاص من هذا الوضع, والالتجاء الى الثقة بالنفس , وشد العزيمة , واعطاء المستقبل اولويّات الفسحة الاوسع, والاعتماد على الارادة القويّة , والعزيمة الراسخة , والايمان بالله في تذليل الصعاب, وعدم التهويل لقلب الصورة وتحويلها من صورة زاهية الى صورة مأساويّة , وبائسة .
كان يخاطب نفسه ويقول: يجب ان ابحث عن كلّ زاوية تفضي الى الخلاص . ومنذ وطأت قدماي هذه الدائرة المشؤومة صار هاجسي القلق
الابدي , والكابوس الذي يجثم على صدري ويستفرغني مما احتوي من اشراق , وتفاؤل , ويسقط كلّ مرتكزات الامان , وقد كنت اسمع البشاعة والخسّة عن هذه الدائرة , وشياطينها , وهي تستقر بكلّ ثقلها في هواجس ,
وجماجم المناضلين . كما انّها تحتوي على الثلج والنار في ترويض وسحق
قلوب زوّارها من القاطنين في جحيمها دون رغبتهم , وزبانيتها تحتقن بالحقد , والبغض , والكراهية لمن تلقي بهم الاقدارالى جحيمها , وبشكل خاص الذين يزرعون الافكار الهدّامة على حد زعم رؤوسها العفنة .
التعامل قد يكون اقلّ وطأة مع الجماعات التي ترد اليهم كالجثث الطافية
على الامواج ابّان اشتداد الازمات , ورياح المظاهرات الطلّابيّة , وزلزال الاضرابات العمّاليّة . وتحليق الصحافة باجنحة العنقاء , والحاضنات المليئة بعناصر شتّى , ومن احزاب متعدّدة الموارد .
فالقائمون على شؤون الدائرة .. يكرهون الجميع , وبلا استثناء واُكاد اقسم
على تلك الكراهيّة وهم يدفعون بلا تروّي الرياح الهوج المنبثقة من رئاتهم
العفنة لاغراق كل السسفن السياسيّة العملاقة , بل وحتّى القوارب الصغيرة التي تُصبغ بلون يقترب من الوانهم يضمرون اتجاهها نوعاً من
الحسّاسيّة النرجسيّة. هم يحرقون البخور ليل نهار , ويزرعون القلق , ويكشفون عن وجوه متجهّمة تنطوي على اعطاء ظهر المجن وذلك لكي
لا يقترب احد من رأس التنّين ويقدّم له بعض المهدّئات خوفاً من ان تصل قبضته لتمسك صولجان المنافسة , واقتسام النفوذ , والتصرّف بمصير الناس في ارض السواد . فهم دائماً وابداً يرومون الاحتفاظ بمفاتيح صالة
متحف الشمع العراقي , وجعل الناس كلعب من العاج يحرّكونها متى شاؤا , ويتحكّمون بها عندما يكون التحكّم مطلوباً , وشد القبضة يصبح ظروريّاً فضابط الامن المحقّق , واقزام الدائرة يتحسّبون يوماً قد تقع تماسيحهم في شبكة صيد حديديّة , ومن ثمّ تصبح اسماكنا حرّة في تحرّكها بعد صيد تماسيحهم وفي اقل تقدير هو ارسالهم طوابير صوب بوّابات السجون التي يحجر فيها غيرالاصحّاء عقليّاً , وجسديّاً مثلما يحجر بائع القرود قروده في الاقفاص , ويتحكّم بها كما يشاء . امّا الذين انحدروا من الطبقات المسحوقة فهم من يخشونهم حتّى في احلامهم .
كان احمد مشحوناً بتلك التصوّرات, وكيف عومل في الستشفى من قبل ضابط الامن المحقّق وهو جريح وسابح في دمه, وقد ضيّق الخناق عليه ذلك الضابط المحقّق الممتعض , والذي يغلي حقداً بسبب كوني قروي .
ظلّ احمد اسير تصوّراته , وهو يردّد مرّات ومرّات كيف اصبحت قطعة من القماش الاحمر لهذا الثور القابيلي؟ والذي يستعجل دخول المستشفى ليرى القروي الذي قطع شوطه في المتاه الصحراوي .
انهكت تلك التصوّرات احمد , وعند الظهر هتف به احد الشباب وقال له
استيقظ للذهاب الى المغاسل , وقضاء الحاجة, لقد حانت ساعة الغداء .
كان احمد مطبق الاجفان ولكنّه كان كجرم يدور في محور معاناته التي هي وسادته الشوكيّة والتي حرمته من النوم . رفع جفنيه ونهض ليذهب الى المغاسل وفي الطريق ارتطم بجبل احلامه وكان وجهاً لوجه امام ناصر , وناصر يحمل للمعتقلين الطعام . طاش عقله , وغرق في لجّة من الفرح ,
وشعر كأنّه ولد من جديد, وقد تحدّثا بلغة العيون , واخذت رسالته طريقها
على جناح السرعة المحاطة بالسرّيّة , والكتمان . كان ناصر يسابق عقارب
الساعة وهو في الطريق الى البيت باسرع ما تسعفه قدماه وقد تحوّل عن طريقه القديم الذي يسلكه بشكل يومي . اتّجه الى ضفة النهر كون الدائرة
تقع على الضفة للنهر . كانت الافكار تاخذ عليه مجامع بصيرته وهو يعوم في بحيرة من الفرح . نزل الى المنحدر للشريعة التي تمتد , وترتبط بماء النهر الصافي والذي شهد تاريخ المدينة الخالدة : اميرة مدن ارض السواد حيث عزم ابو جعفر المنصورعلى اقامتها , وتثبيت قواعدها بشكل راسخ , وقد صرّالدانق على الدانق وكأنما جهل قاعدة ما يحرص عليه الآباء يبدّده الابناء . وقد ذهبت مرحلة صرّ الدانق على الدانق وحلّت
من بعده مرحلة الترف العبّاسي خلال امسيات الانس ساعة اطلاق الجوائز كبساتين , وبسط تنثر عليها الدنانير , والمصوغات , واعطاء الاراضي الزراعيّة الصالحة للزراعة ,واهداء الاماء , والجواري , والمسكوكات الذهبيّة , والفضّية, وكلّما له قيمة في ذلك العصر .
الهدايا تهبط كبرد من السحب العبّاسيّة لترجم بها القيان , والمغنّين والشعراء كهبات ليس لها انقطاع وهي كافق مفتوح على مرمى البصر ,وامتداد الاعوام وذلك ليثبتوا تفوّقهم في البذخ على من سبقهم في امتلاك التاج والصولجان , وليغذّوا نرجسيّتهم ولياليهم تعج برنين الكؤوس , واقامة الحفلات الصاخبة والاكثر انغماساً : في اللذّات حتى وصل الامر في بسط
السلطة, وامتّداد الارض لتخوم الامبراطريّة العربيّة الى مالا يحلم به ملك, اوقيصر وقد وصل الامر بمخاطبة السحابة _ بصوت يتجاوز حدود العقل _
اينما تهطلين فلن تتجاوزي حدود ممالكي , وما يفيض من خير , وبركة
فهي لا تتجاوز بسط الخارطة العربيّة .
كانت القوارب تصطف على الضفة وهي تنتظر من يرومون عبور النهر.
صعد ناصرالى احد القوارب , وجلس بجوار من سبقه . وما ان تحرّك القارب , فوق الامواج , وهو يتمايل بدلال وغنج مثل مخمور في ذروة نشوته . كان الرجل الذي يقود القارب متعباً تلوح على وجهه الغضون , وقد جالت عليه خيول الايّام , وناصر يستعجله العبور ولكن ليس باللسان , وانّما بالايحاء , ولغة الوجدان والتي تنتسب الى لغة التخاطر .
ناصر يتمنّى لو تنبت له قوادم , نسر ليحلّق , وينطلق بسرعة قصوى
الى بيت احمد ليزف لهم البشرى السارة بعد ان استسلموا لما رسمته الاقدار
من مصائر للناس . هناك الكثير ممن ذهبوا ولم يعودوا وقد ختمت يوميّاتهم بالشمع الاحمر, ولا يعرف تاريخ توقّفهم في ايّ مكان من ارض الله الواسعة ....
ذلك في حكم الغيب , وفي تلافيف المجهول. وقد ظهر احمد .
وكان ظهوره بمثابت المعجزة بعد ان صفا عليه الماء , ولا احد يستطيع
خرق ستارة الغيب .
نظر ناصر باتجاه جانب الكرخ من المدينه فلاحت امامه بناية كبيرة تحيطها الاشجار العملاقة والبيوت التي تحاذي النهرمتواضعة , بل واغلبها كاقفاص لا تليق بالحيوانات سكناً , وليس بالبشر .
كانت البناية تطل بهيبتها على النهر وكانّها سفينة تنشر اشرعتها العملاقة, واشجار النخيل تخفق بسعفها الاخضر كمراوح الهيّة . القارب يمتاز بخفّة وحركة مرنة . طيلة وجود ناصر في بغداد لم يصادف ان عبر النهر بقارب من هذه القوارب ذات المجاذيف , وسرعة انطلاق القارب تعتمد على
قوّة سواعد الرجل الذي يقود القارب . استفسر ناصرمن الرجل الكهل عن صاحب تلك البناية القائمة على الضفة .
ابتسم صاحب القارب , وقال هل انت جاد في استفسارك, وعدم معرفتك صاحب البناية الذي كما يقال هو اشهر من نار على علم , لا اعتقد يوجد في بغداد من يجهل البناية وساكنها , ثم قهقه الرجل بصوت اجش
وقال احسبك من اهل الكهف ..
قال ناصر ولم تحسبني من اهل الكهف وانا من سكنة المدينة؟
اجابه الرجل الكهل : هل سمعت الاغاني العراقيّة من دار الاذاعة ؟
لم تسألني هذا السؤال . ستعرف . وانا بدوري وصلت لما اُريد
واقول لك هل سمعت البلبل وهو يغرّد ؟
ناصر ايّ بلبل .؟
الذي يغنّي (مختار ذاك الصوب صلّوا على النبي)
حديثك بالنسبة لي مثل اللغز, فلو اعربت عمّا تريد.
اجاب الرجل الكهل اتريد ان تدخلني في المحذور .
ولماذا ادخلك في المحذور ؟
اجل ادخلتني حتى يافوخي : وليكن ما يكون :
انّه هو الذي يقصده البلبل .
من هو ؟ ومن البلبل ؟
هم يسمّونه بسفير الامبراطوريّة التي لا تغيب عنها الشمس .
اذاً انت تتحدّث عن السفير الانجليزي .
نعم وهذا برجه , برج الغراب الاسود على تربة اميرة ارض السواد .
وعندما تصل الضفة , وتصعد الى الطريق ستمر بسور المقاطعة, والمدينة المصغّرة فيما لو قيست بالاقفاص المجاورة للبناية, والتي يسكنها الاحياء الاموات, وستمر بالسور المحاذي للطريق : ربما ستفاجأ بالحصان , وصاحب القبّعة المدوّرة الذي يسمّونه بالفاتح ..
ذلك هو الكابوس الذي يجثم على صدر المدينة الفاضلة .
تسمّيه الكابوس وقد كنت قبل لحظات تقول لي لا تدخلني في المحذور. غادر السهم المنزع , ولا سبيل الى الرجوع , او المراوغة .
لقد انغمست فيما يسمّونها بالدائرة السياسيّة , او احدى مربّعات اللعبة
فهي بالنسبة للعراقيين يعتبرونها كابوس من كوابيس التاريخ الشنيع ,
والذي قد يمتد لسنين سود قادمة .
قال ناصر في وجدانه : كيف لى وقد عشت هذه الايّام الطويلة ولم اتعرّف على ملجأ هذا الكبش النمرودي الذي تحتل سفارة اسياده هذه المساحة الكبيرة من العاصمة بالقياس الى بقيّة سفارات العالم .
اذاً انا كنت ومازلت اعيش في العزلة. ثمّ عاد وقال لنفسه ولماذا يفترض فيّ ان اعرف كلّ شيء , وخاصة مثل هذه الامور . كنت ومازلت انا ابن القرية الذي عاش وسيعيش على الهامش,
وهل انا غير ناصر يا ناصر؟ وقد تغيّرت بعض الشيء عندما اشتغلت كمتعهّد لاطعام المعتقلين , وقد تعرّفت على بعض الناس ممن ينعتونهم باليساريّين وغيرهم ممن يشتغلون
بالسياسة . انا مثل نجم متوحّد يعيش خارج جميع المدارات : فلماذا ادس انفي في المكان غير المناسب . انا القروي الجاهل الذي لا يجيد غير الفلاحة , وعمل التعهّد لاطعام المعذّبين والمظلومين في هذه الارض التي اجهل ما يجترح على سطحها , وما يمارس من اعمال بربريّة , مدنّسة , ومرفوضة . تسمّرت عينا ناصر على تلك البناية الشامخة , والمستقرّة على الضفة في جانب الكرخ من المدينة التي يشطرها النهر.
غادر ناصر القارب , وغاص في حوار داخلي وقال علىّ ان اتعلّم من هؤلاء الذين صقلتهم الحياة , وجعلتهم التجارب بجوار الحكمة : في صراع دائم من اجل تثبيت قواعد العدل. ان هؤلاء قد صممواعلى خوض هذا الاوقيانوس, واقسموا على المواصلة حتّى اكتمال الدورة الفلكيّة.. وكانت امنياتهم, جعل الناس شركاء بهبات الارض , ومردود العمل لمن ولدوا تحت خيمة واحدة تحت رعاية آدم , وحضانة امّنا حوّاء .اخيراً حاول ناصر طردهذه التصوّرات المخيفة, والهواجس المرعبة كون مثل هذه التصوّرات والهواجس لا احد يستطيع البوح بها. انّ هؤلاء الذين اقدم لهم الطعام هم ضحايا تلك التصوّرات والهواجس .
. كانت هذه الدوّامة تدور في رأس ناصر وهو يحاذي جدار السفارة.. الى ان وقع نظره على صاخب القبّعة المدوّرة . وقف ناصر قبالة ذلك الفاتح وحصانه الطروادي, وقال انا لست رجل سياسة ولكنّي استطيع ان اضع السهم في مكانه المناسب , وارى انّ وجود هذا التمثال خارج حدود سفارته هو التجاوز الصارخ . والوقح على ارض الاجداد فيما لو قيس بساكني الاقفاص البشريّة من منطقة الكريمات ,ومنطقة الشوّاكة حيث تتوسّط هذه البناية الشامخة المسمّاة بالسفارة بين هذه المقبرة المسكونة بالاموات الاحياء
وتلك المقبرة .... رجع ناصر الى ما وراء الوراء وهو يتذكّر هجرته يوم كانوا ينغّصون عليه هجرته
من العمارة الى بغداد وهو ينغرس في ذلك الكوخ الطيني . كانواينغّصون عليه سكنه وهم يزبدون , ويرعدون , ويهدّدون بطردي . اعود لاخاطب الفاتح من تحت سنابك حصانه البغيض . بما انّكم اتيتم محرّرين حسب ما اعلنتم, وبقدرة ساحر انقلبتم الى مستعمرين .
ربّما انا اقفز من فوق الاحداث , وكذلك اجهل كيف دخلتم؟
وكيف استقررتم على هذه الارض؟
كان ناصر محدود المعارف , وقليل الثقافة وضسّق الافق يجهل تاريخ العراق , ومع ذلك يضم تحت الصدر قلباً كبيراً قد يسع العراق واهله .
تحرّك ناصر وقد تذكر اهمّيّة الوقت, وقطع المسافة الطويلة : وذلك لتضيّيق مساحة الحزن و محقها .
وصل ناصر الى بيت احمد . طرق الباب فخرجت هديّة وفتحت له الباب ,
وقالت اهلاً تفضّل. دخل ناصر البيت فوجد فاطمة وعلى ومحمد .
قال جئتكم بخبر حبيس الجب الذي لم يأكله الذئب .
فاطمة افصح , واوجز اكاد اُجن وقد اخذتها رعشة فرح يتجاوز
شوط الصبر, ودارت بها الارض , وقد فقدت السيطرة
وهي تعطي الواناً . عقّب ناصر قائلاً ظهر المفقود وقد حدّ ثني وحدّثته . فاطمة ماذا قال لك .؟
وما قلت له؟ وقد نبت الفرح على السنة الجميع , واطلقت هديّة زغاريد
الحبور وكانّها في ليلة عرسها , والكل عاموا على محيط نبتت على جزيرته شجرة الامل المفتوح , والافق المنقوش بالنجوم الخضر , وقد التفّواحول ناصر, ودموع الفرح تتساقط على الخدود , هم ينتظرون
سحبه التي تلوح في الافق لتروي حقولهم العطشى
اخيرا نطق الهدهد الذي جاءهم بنبأ من سبأ .
لمحتهُ في موقع عملى , وفي الدائرة عينها .
فاطمة ايّة دائرة ؟
دائرة المصائب ....
ماذا تقول ؟
اقول كلّمني بلغة التخاطر .
بهت الجميع وقالوا كيف .؟
قال تحدّثنا بلغة غير مسموعة على صفحات كتاب الحضور,
والسطور الفسفوريّة الممتدّة
بين انصات شهريار الدموي
وسرديّات شهرزاد في ليلتها الاخيرة .



#شعوب_محمود_علي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رؤيا مشوشة
- لسلام للسيّد العراق
- في غرفة مغلقة
- رواية) ذهب ولم يعدإإ ؟الجزءالخامس 4
- بين الماضي والحاضر
- رواية) ذهب ولم يعدإإ ؟ الجزء الخامس 3
- بأنتظار التحول
- رواية) ذهب ولم يعدإإ ؟ الجزء الخامس 2
- رواية) ذهب ولم يعدإإ الجزء الخامس
- رواية) ذهب ولم يعدإإ ؟ الجزء الرابع
- ذهب ولم يعد إإ ؟
- رواية : ذهب ولم يعد إإ؟ 2
- ذهب ولم يعدإإ ؟
- الملك
- الصعود لبرج بابل
- (بانتظار القصاص)
- (جولة في حقول النوّاب)
- بين المسرح والقضبان
- مولد الرسول الاعظم
- الرحمن


المزيد.....




- وفاة الفنان المصري المعروف صلاح السعدني عن عمر ناهز 81 عاما ...
- تعدد الروايات حول ما حدث في أصفهان
- انطلاق الدورة الـ38 لمعرض تونس الدولي للكتاب
- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - شعوب محمود علي - ذهب ولم يعد