أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعيم إيليا - حدث في عرس رنيم. الحلقة السادسة















المزيد.....


حدث في عرس رنيم. الحلقة السادسة


نعيم إيليا

الحوار المتمدن-العدد: 4455 - 2014 / 5 / 16 - 14:31
المحور: الادب والفن
    


حطّت نيران السماعة من يدها على الجهاز قبلي؛ أقفلت الخط. لم تنتظر أن أقفل الخط قبل أن تقفله هي. إنها تدري بأنني لن أقفل الخط قبل أن تقفله هي.
لبثتُ في مكاني هنيهة كالمخدَّر دون حراك، أتنفس بأذني تنفساً عميقاً آخرَ ترددات صوتها العطري المنغَّم عبر سماعة الهاتف الملتصقة بخدي، وهي تستوعدني برجاء حلو المذاق أن أنكفئ عن عزمي على السفر. خدر شهي ناعم طريء ينساب في دمي انسياب الحرير في الملمس، أحسه شبيهاً بذاك الخدر الحريري اللذيذ الذي تسترخي منه الأوصال غبَّ وصالٍ اشتفَّه حريق.
ارتميت على أقرب أريكة مني مستسلماً للخدر اللذيذ مستمتعاً بشمّ لحظة النشوة العابرة في دمي. حواسي كلها منغمسة في نشوة الخدر اللذيذ، وذهني غافل عما حولي. مرت دقائق وذهني غافل عما حولي؛ دقائق مرت بي كأنها خفقة جفن في سرعتها، وانقضت. فلم يلبث ذهني إثر انقضائها أن هبَّ من غفلته المسحورة الحالمة، وبدأ يتحسس صخب النهار، ويتلمس خيوط الواقع الثخينة الملتفة حوله.
أمي منهمكة بطهو وجبة الغداء، وإعداد ما تستلزمه سهرتي مع صحبي. تتسرب رائحة الطعام من المطبخ إلى منخري محرضة جوعي أن ينشط من أساره، أسمع صوت الماء ينهمر من صنبور المجلى، أسمع قرقعة أوانٍ، وموسيقى أغنيةٍ لمطربتها المفضلة، تتدفق برخاء من آلة التسجيل المثبتة على الرفّ فوق المجلى. آلة التسجيل التي في المطبخ جلودة مثل أمي، تظل مثابرة على أداء وظيفتها لا تتوانى ما ظلت أمي تشتغل في المطبخ.
من الخارج، من النافذة التي تركتها أمي مفتوحة للتهوية بعد أن رفعت ستائرها كي تدخل إليها الشمس؛ تتناهى إلي ضجة أطفال الحي الذين اعتادوا في هذا الوقت أن يلعبوا فوق رصيف الشارع تحت ظل الشجرة الغريبة التي أجهل اسمها؛ الشجرة التي ما فتئت صورتها تصاحب ذاكرتي أينما حللت... شجرة أحبها؛ لأنها – ربما – غريبة وحيدة منبوذة مقصية عن بيئتها. مرآها يعكس في بصري انفعالات ومعاني ترتدي مسوحاً من شجا منكسر. شجرة معتدلة القوام نحيلة الجذع، بحساب عمرها، غير وارفة الظل، تتعرى في الشتاء، تثمر في الصيف عناقيد من حبات مستديرة دقيقة أدقّ من حبات العنب صفراء اللون تشوبها حمرة حائلة ولا تؤكل؛ واقفة وقفة حارس أنهكه السهر على يمين بوابة دارنا الخارجي بعيداً عنه زهاء مترين، لم أنس أن أحملها معي في لوحة صغيرة إلى الشام، وأن أعلقها على جدار من غرفتي الصغيرة المستأجرة في حي (باب شرقي).
ومن النافذة المفتوحة ينصبُّ الآن في أذني صوت بائع المازوت وهو يعبر شارعنا منادياً على بضاعته نداء متقطعاً ولكن قوياً جهورياً ضخماً كضرب المطارق في المنطقة الصناعية المنفية على حافة المدينة الشرقية.
لم أفكر، بعد أن ثاب ذهني من غفلته، بما استوعدتني نيران في كلماتها الأخيرة، لم أحفل بما استوعدتني به كما أحفل عادة بما يكون منها من قول أو فعل. بدا لي ما استوعدتني به، شأناً غنياً عن التفكير فيه لضآلة مغزاه. إن نيران إذ لا توافقني على فكرة السفر؛ فإنها لا تنهاني عن السفر، وإن رجتني أن أعدها بألا أسافر. إن طلبها هذا في حقيقته لا يعني أكثر من أنها لا تحب لي أن أسافر؛ لأن السفر في رأيها مشقة عقيمة، ومضيعة للوقت، وربما يكون سبباً في تأخري عن لقائها غداً، هذا كل ما في الأمر. ولو أنها كانت انتظرت جوابي، لكنت أجبتها، أغلب الظن، بأن السفر - مهما يكن - لا بد أن تتحصل لي منه فائدة. فيكفي، مثلاً، أن أرى بدور رؤية العين، فتستقر صورتها الحقيقية في ذاكرتي بأحسن مما استقرت صورتها المتخيلة في ذاكرتي من خلال قراءتي لحكايتها، فيسهل علي بذلك رسمها واستنطاقها بالمعنى المرتجى منها. فأما مسألة الأخلاق التي نوهت نيران بها، فقد استبعدتها من دائرة اهتمامي، لم أدع لها أن تشغل حيزاً في ذهني، بحجة أن بدور قد لا تنظر إلى المسألة كما تنظر إليها نيران. وهي حجة أراها مقنعة، فما يدرينا أن بدور ستنظر إلى المسألة هذه النظرة، ونحن لم نلتق بها بعد؟ ألا يمكن أن تبدي الموافقة على رسمها بطيبة خاطر خلافاً لتوقعات نيران؟ إن أبا سليمان جار نيران، على سبيل المثال، لم يتردد في قبول عرضي أن أرسمه؛ بل إنه سرّ بعرضي وتناول زجاجة الويسكي التي قدمتها له بيد قفّت شعيرات سلامياتها من الشره، مع أنه دميم الخُلق ينطبق عليه قولهم "ديك يلتقط الحصى" (هو كذلك في نظري ونظر نيران ونظر الذين يعلمون حقيقته، ولكنه في نظر أهل بيته عزيز لا تُقرع له عصا) أبو سليمان هذا لم يحتجَّ، ولم يتأثر، ولم يغضب، ولم يتألم لأني جسدت النميمة برسمه، لماذا؟ لأنه ، بكل بساطة، لم ير النميمة كما جسدتها في رسمه. وعلى كل حال فإن السفر إلى شمخا لن يأخذ من وقتي أكثر من ساعتين: ساعة للذهاب، وساعة للإياب في أبطأ حالات السرعة المسموح بها على طريقها المعبد الممتد على مسافة لا تتجاوز ثمانين كيلومتراً، بحسب علمي المستقى من جغرافية المحافظة. وعلى هذا، فإذا انطلقت قبل طلوع الشمس في الخامسة والنصف، فسأبلغ شمخا في السادسة والنصف على أبعد تقدير. وإذا أمضيت ساعةً فوق ذلك للبحث والاستعلام والتعارف ومحادثة بدور، ثم ثلاثاً منها للتصوير؛ بلغت حصيلة الساعات التي سأنفقها خمس ساعات؛ مما يعني أنني سأكون في الثانية عشرة والنصف، قد عدت إلى البيت. ولأن دوام نيران اليومي في المدرسة ينتهي في الساعة الرابعة عشرة وعشر دقائق، سيتسع لي الوقت لكي أتدوّش وأتخلص من أوضار السفر وألتقي بها في الموعد المحدد، وأنا في هيئة لا تشي بأنني أقدمت على سفر.
نهضت مريداً الدخول إلى المطبخ كي أطبع قبلة على خد أمي وأداعب حنانها وأبدي لها استعدادي لتقديم خدماتي غير المرغوب بها عادة، وأطلعها على نيتي المعقودة على السفر غداً. ولكنني بدلاً من أن أذهب إلى المطبخ كما أردت، وجدتني أتجه نحو مرسمي. رغبة أقوى دفعتني إليه، رغبة مفاجئة ملحة دفعتني أن أجهز أدواتي وأن أضع خطة العمل لنهار غدي في أوانها؛ فعدت إلى مرسمي، جمعت اللوازم المادية من ألوان، ولوحات، وحامل لوحات، وفرش، وغيرها مما سأحتاج إليه غداً، ثم حزمت الجميع ونقلته إلى حجيرة الأدوات والأشياء المهملة في الحوش قرب الباب الخارجي.
أشعر بالرضى، أطوف ببصري في أنحاء مرسمي وقلبي مفعم منه بنعمة الجمال والأمان. مرسمي أحب الأمكنة إلي! كان قبل أن يضحي مرسمي، غرفة أخي (صليبا) الأكبر مني بستة أعوام، فأخلاها لي بعد أن لم يعد بحاجة إليها؛ إذ انتقل مع زوجته سميراميس بنت عبد الأحد صاروخان الموظفة في مصرف التسليف الشعبي، عقب زواجه منها بعد مرور شهر على تسريحه من خدمته العسكرية برتبة رقيب مجند، انتقل معها إلى السكن في شقة واسعة تتكون من ثلاث حجرات تطل نوافذها الشمالية من بعيد على محطة قطار حلب - بغداد القديمة، اشترياها بالتقسيط في حي المساكن الشعبية.
ولأنه لم يكن طبيعياً أن أبقي غرفة أخي على حالها كما ورثتها عنه، بادرت فأحدثت فيها تبديلاً من الداخل يلائم ذوقي المختلف عن ذوقه تبديلاً جذرياً تمظهر باللون والترتيب والأثاث. كانت مبادرتي طبيعية جداً، حتى إن أمي التي لا يرضيها عادة أن يقوم شخص منا بتغيير شيء ما داخل مملكتها، وجدتها طبيعية. صمتت أمي وهي تراني أحدث التغيير فيها؛ لم يندّ عنها قط ما يدل على أنها تعارض التغيير.
وهكذا من دون عوائق استطعت في غضون أسبوعين بمساعدة نيران أن أحوِّل غرفة أخي إلى مرسم يليق بفنان يظن أن له مزاجاً متفرداً، وتطلعات وأحلاماً، ويخال في نفسه شغفَ الابتكار والمغامرة في ألوان الحياة.
طليت جدران الغرفة بألوان من الطلاء متعددة متنوعة جمعت بينها بأسلوب متفرد.. ألَّفت منها خطوطاً ومنحنيات ودوائر ومثلثات وبقعاً ومنمنمات من ألوان أحادية وأخرى ممتزجة. وكنت حريصاً على ألا تتشارك غرفتي في هذا الطلاء مع غرف أخرى في أي مكان من الأمكنة؛ أردتها أن تكون نسيج وحدها؛ فليس هناك ما هو أبغض إليّ من التقليد ومحاكاة الآخرين في أذواقهم وأفعالهم؛ ولهذا فلا عجب أن أراني أغرب في ابتداع ألوانٍ واختراع أشكال فنية، ما أحسب أن أمهر دهَّاني البلد وأكثرهم ميلاً إلى الابتكار اهتدى إلى ما يماثلها.
واشتهر بين هذه الألوان لونٌ لاح كأنه قبس من لهيب نجم قريب، غلب بفتنته القرمزية الساطعة وارتعاشاته المتوهجة على سائر الألوان وكاد يخملها. ولقد تعلق بصري بهذا اللون المبتكر البديع الأخاذ، فصرت أتأمله مفتوناً به، وأطيل في مدح مزاياه الرائعة أمام أنظار الجميع. غير أن نفراً من أصحابي لم يرق لهم هذا اللون؛ إذ رأوه يصدم العين بتوهجه، ويبعث فيها الكلال والسأم، ورأوه متنافراً لا ألفة بينه وبين بقية الألوان ولا سيما اللون الأزرق المتطرف في زرقته، واللون البني المحترق من كمده. ولكنهم سرعان ما اعتادوا عليه وألفوه؛ بل سرعان ما أحبوه كما أحببته.
وزينتها.. وزيَّنتُ سقفها بالمصابيح الكهربائية ذوات الأضواء المشعة القوية المبهرة، وذوات الأضواء الخاملة الخافتة الضعيفة بشتى ألوانها وأنواعها وأحجامها وطرائق لفظها للشعاع، ونفثها للضوء. وعلقت على ثلاثة جدران منها، لوحات مختارة من صنعي، شاركتني نيران في اختيارها. فأما على الجدار الرابع الذي يقابل الصوفا الطويلة التي أتمدد عليها - وذلك عندما ينال التعب أو الملل من ريشتي، فأستريح فوقها مغمضاً عيني نصف إغماضة، أو أقرأ كتاباً، مجلة، جريدةً، أو أحلم وأنا أصغي إلى أغانيَّ وموسيقاي المفضلة - فعلقت ثلاث لوحات رسمتُها لنيران في ثلاثة أوضاع بمعان أشرقت رزانة وجمالاً وحبوراً: الأولى تمثلها في حالة التأمل الصامت المدثر بغلالة من الأسرار الغامضة خلعت عليها جاذبية عقلية رصينة. والثانية تمثلها فتاة لاهية موردة الخدين من خمرة الصبا. فأما الثالثة فتمثلها طفلة تألَّق براءة، منحنية على قطتها ميمي تداعبها بأصابع طويلة نحيلة تتوجس خرمشة أظافرها الحادة المبرية. وتعمدتُ تعليقها على هذا الجدار لكي تظل صورها الثلاث في مواجهة بصري فلا تغيب عنه وأنا مستلق على الصوفا.
في صدر الغرفة إلى يمين الصوفا، ربَّضتُ المكتبةَ، وطاولة الكتابة إلى جانبها، وطاولةً ثانية أنيقة زجاجية السطح ذهبية القوائم في منتصف الغرفة غايتها الأولى أن تفي بمستلزمات الضيافة وحاجاتها، التفَّت حولها أربع كُنُب صغيرة وثلاثة كراسيّ من الجلد الوثير. وفي الزاوية التي على يمين الباب تحت قدمي الصوفا، ثبّتُّ البرَّاد (الثلاجة) استجابة لاقتراح نيران. وهو براد صغير كان أبيض اللون؛ فأزلت بياضه الممل ورشقته بثلاثة ألوان: أحمر، أصفر، بنفسجي. وأنا سعيد بوجوده في مرسمي؛ لأنه يبعث في نفسي، كلما نظرته، إحساساً لطيفاً منعشاً باللذة المعبأة داخل زجاجات البيرا والعرق والكونياك والمياه الغازية وعصير الفواكه المتراصة فوق رفوفه. ونصبت، باقتراح منها أيضاً، حامل اللوحات مع عدة الرسم في الزاوية اليسرى التي يأتيها صبيب غزير من الضوء من النافذة الوحيدة التي تقابلها، والتي تطل على حديقة الدار وتقع فوق رأسي مباشرة بما لا يتجاوز نصف المتر عند استلقائي على الصوفا. ولم يفت نيران أن تبعثر الأشياء الصغيرة تلك التي تستخدم عادة في تزيين الغرف: كالتحف المقلّدة، والشموع، والتماثيل النحاسية، والصور الفوتوغرافية، و أصص الزهر المنزلي القرميدية، والمرايا، ورقعة الشطرنج، وطاولة الزهر (النرد) في زوايا وأنحاء من الغرفة، هنا وهناك، بفوضى مدروسة مستحبة؛ فصارت الغرفة بهذا الطراز من التأثيث والتزيين والترتيب، طيبة المجلس، تشيع الألفة بين جلاسها، وتهمس إلى قلوبهم وأبصارهم بإيحاءات فنية رومانسية ماتعة؛ مما أغرى أصدقائي بأن يؤثروا أن تعقد فيها اجتماعاتنا ولقاءاتنا وسهراتنا، وأن تفضَّ فيها منازعاتنا ومشاجراتنا الفكرية التي لا تنتهي. وقد أطلق عليها صديقنا كاتب المسرحيات اسكندر هومه اسم (الوكر) في يوم الاحتفال بتدشينها؛ فلصق هذا الاسم بها من ذلك اليوم، ولم يفارقها.
ونيران عندما تزورني، تفضل أن تمضي وقت زيارتها لي داخل المرسم بدلاً من أن تمضيه معي في غرفة نومي التي تصفها، عندما تقارنها بمرسمي، بأنها كئيبة فقيرة عارية من الزينة ومن الجمال ومن العاطفة. وربما كانت نيران على حق؛ فإن غرفة كغرفة نومي لا تشتمل على غير سرير للنوم خشبيّ، وخزانة ملابس، ومنضدة صغيرة لصق السرير ينتثر فوقها مصباح وكتب وراديو صغير وكراسة مذكرات؛ لا يصح أن توصف إلا بالفقر والكآبة مقارنة بالوكر.
وفي صيف العام الماضي، عندما كان والداي يمضيان إجازتهما السنوية في مصيف (كَسَب) استأذنتني هيفال في الاختلاء بخطيبها قاسم شمدين في (الوكر) مرات للتباحث معه في أمر زواجهما. وقاسم شاب من جيلنا دمث الطباع، شديد التواضع، محدّث لبق – وإن كان لسانه أحياناً يتعثر بالعربية – يلعب الشطرنج بمهارة وذكاء لا يجاريه فيهما لاعب منا، ويجيد الروسية، يتحدث عن بوشكين وتشيخوف بطلاوة ونقاوة، ولا يحول شعوره بالامتنان لروسيا السوفيتية (سابقاً) التي تخرج من إحدى جامعاتها بتخصص في مجال (هندسة التوربينات) دون أن ينتقد مذهب الواقعية الاشتراكية، ويندّدَ بغباء هذا المذهب إذ قهر حركاتِ الإبداع على الخضوع للسياسة؛ مما أدى إلى طمس ومضة الإشراق الإبداعية في الفن والأدب. وما زال قاسم ينتظر، ولكن بأمل واهٍ، تعيينه في الوظيفة الشاغرة في حقل (كراتشوك) التي تقدم لها مع عدد من المتسابقين، أو تعيينه في الوظيفة الثانية من مشروع سد (الطَّبْقَة) على الفرات التي تقدم لها أيضاً. ولأن أمله في التعيين ضعيف واهٍ، فقد قرر أن يعمل سائقاً على شاحنة صغيرة لنقل الركاب يملكها عمه على طريق رأس العين؛ وهي بلدة صغيرة تاريخية قديمة مشهورة بينابيعها الكبريتية تدعى بالكردية (سَرِيْ كانيِي) وبالسريانية (ريش دْ عَيْنا).
وما اختارت هيفار أن تختلي بخطيبها في الوكر؛ لأن ظروف بيئتها لا تجيز لها أن تختلي به فاضطرت إلى البحث عن مكان آمن بعيد من الأنظار المتطفلة المترصدة، كلا!... بل لأنها كانت راغبة في أن يكون اختلاؤها بقاسم خطيبها في الوكر (تحديداً) دون سواه من الأمكنة لحسن مزاياه.
بيد أنني، بخلاف الآخرين، حين أفكر في (الوكر)، حين أتملّى علاقتي الملتحمة به، لا أفكر في مزاياه الفنية الجميلة، وفي ما يستولده في نفسي من المشاعر فحسب، وإنما أفكر فيه إذ بات جزءاً من مكاني الكلي الذي لولاه ما كنت.. مكاني الكلي الذي ليس شيئاً آخر غير وجودي ذاته. فإني لو لم يكن لي مكان في رحم أمي، ما كان لي أن أولد، ولو لم يكن لي مكان على الأرض، ما كان لي وجود على الأرض.
للمكان شأن في حياتنا وأي شأن! (أفكر) إنه الذرات العجيبة التي تتكوّن منها أجسادنا، إنه الطلاء الذي يلون جلودنا، إنه الميسم الذي يسم طبائعنا وصفاتنا النفسية، إنه نحن في رخائنا وشقائنا وأفراحنا وأتراحنا وأشواقنا ومخاوفنا وإبداعنا. وحتى الموت فإنه مكان؛ فإذا جزع أحدنا لفقيد، فإنما يجزع لمكانه الذي أخلاه وارتحل عنه. وحتى الزمن برهبته وجبروته، فإنه مكان؛ لأننا إذا أزلنا المكان، فقد أزلنا الزمان.
كنت تركت مجموعة (الكلب العقور) فوق الحشية التي أسند إليها رأسي على الصوفا، فأخذتها ثم جلست على الكرسي خلف مكتبي. نظرت من جديد إلى صورة الغلاف نظرة سريعة في البداية، ثم ما لبثت أن رحت أتأملها، وجدتني أتأملها تأملاً عميقاً؛ أتأملها طويلاً ولا أدري لماذا! ثمة شيء في صورة الغلاف يجتذب نظري إلى التأمل العميق، أشعر بوجوده ولكن شعوراً غامضاً لا يمكِّنني من أن أستبينه على حقيقته.
إني أعرف صاحب الصورة من توقيعه؛ إنه الرسام (عمانوئيل سارة) الذي كان محاضراً في كلية الفنون الجميلة، ثم هاجر إلى السويد عندما كنت طالباً في السنة الأولى، وأعرف أنه يجيد التعبير عن أفكاره بريشة متميزة، والحق أنه قد أجاد هنا التعبير عن معنى الشراسة والضراوة؛ عن معنى التهديد بالعضّ والافتراس من خلال هذه الصورة التي تمثل كلباً عقوراً قميئاً وسخاً هائجاً يرشّ اللعاب بغزارة من أنيابه الحادة الطويلة في كل اتجاه، متحفزاً للانقضاض على مجموعة من الأطفال في حديقة الألعاب، ولكن معنى الشراسة ومعنى العض من كلب عقور، ليسا من المعاني التي يوقف عليهما وقفة تأمل طويلة، فلماذا أجدني أقف عليهما وقفة تأمل طويلة؟
لم أفز بجواب على سؤالي، فتنحيت بذهني عن التفكير به وبالصورة التي أثارته، وانصرفت إلى وضع خطة سير العمل. فتحت الكتاب على قصة العرس، أخذت ورقة بيضاء وقلماً، ثم بدأت أخطّ أسماء الأشخاص الذين وردت أسماؤهم في القصة؛ الأشخاص الذين سيتعين عليّ أن أسائل الناس عنهم في شمخا كي يدلوني عليهم، والذين متى استدللت عليهم، فلا بد أن أستدل منهم على بدور وأصل إليها؛ فأصل بوصولي إليها إلى غايتي من الوصول إليها.
بدأت باسم بدور، جعلته في أول القائمة. بدور هي الشخصية الأولى، هي موضوعي الأول، فلا غرو إذاً أن يأتي اسمها في رأس القائمة. ولكنْ ولأن بدور قد لا تكون متفردة بهذا الاسم في شمخا، ولأنها قد لا تُعرف إلا باسم عائلتها؛ وجب علي أن أسجل اسم والدها مع كنيته (أبو وهيب شمعون دلالة) هكذا كما ورد في القصة. وأهملت اسم جارها المكنى عنه (بأبي جبرا) فلم أسجله رغم كونه شخصية رئيسة من شخصيات القصة؛ لأنه كان توفي في سياق الأحداث، وهاجر أبناؤه ولم يبق منهم من يخلفه في سكنى داره التي تستقبل دار أبي وهيب . ثم سجلت اسم السيد سولاقا برخو شكوانا، صديق الكرباشي، واسم زوجته رنيم موسى مقدِّراً أنهما لا بد من أن يكونا من الذين لا يجهلهم أحد من سكان شمخا.
طويت الورقة، ثم نهضت واتجهت نحو البراد، أترعت كأساً بعصير البرتقال. الساعة الآن الرابعة عشرة. أسمع نحنحة والدي على الباب. عاد والدي من دوامه ليتناول غداءه ويستريح، انتهت مناوبته، وحلّ أخي صليبا محله. إنهما يتناوبان البيع في المحل. خرجت لاستقباله، ربت على ظهري مشجعاً بحنان:
- أرى البشاشة في وجهك، لا بد أنك أنجزت شيئاً.
ثم خلع حذاءه، وأفرغ جيوبه من المفاتيح، وعلبة سكَائره، ومحفظة نقوده، ثم ناولني رسالة ومضى إلى الحمام. كانت الرسالة من (تورونتو) من خالي بهنان دكْرَمَنْجي. أخرجت الرسالة من ظرفها المفتوح، قرأتها، ليس فيها من جديد: أشواق، سلامات، تطمينات، استعلامات عن أحوال الجميع، أدعية، تمنيات، حنين، وصورة جديدة له مع زوجته الآشورية العراقية وهو يبتسم ابتسامة واسعة مسنداً مؤخرته إلى مقدمة سيارته.
كان خالي موظفاً في دائرة المساحة في البلدية، ولأنه كان يمارس نشاطاً سياسياً سرياً، اعتقل - أمي ما تزال تتهم أبا سليمان بأنه هو الذي وشى به - وزُجّ بخالي في سجن صيدنايا دون محاكمة، ثم أفرج عنه بعد خمس سنوات من اعتقاله فخرج محطماً. ومع أن والدي يحبه ويعجب لشجاعته، فقد كان شديد القسوة عليه بسبب أفكاره وطبعه المتمرد.. لم يفهم والدي قط لماذا يرمي امرؤ عاقل نفسه طوعاً في فم أسد متوحش جائع. ونيران حين يُذكر خالي في محضرها تؤيد موقف والدي منه وتتعجب مثله متسائلة: " أليس من الغباء أن يضحي المرء من أجل فكرة!؟ هل الفكرة حقيقة مطلقة لا تقبل التغير، ليضحّي المرء لأجلها؟ بأية مشاعر سيواجه المضحي نفسَه، إذا ما تغيرت فكرته التي ضحى لأجلها، وتحولت إلى نقيضها مع الزمن ؟" غير أنني لا أكاد أصدق أن نيران تؤمن بصحة ما تقول، يخيل إلي حين أسمعها تتساءل على هذا النحو، أنها تستعرض على تلميذاتها بحيادية أفكار فيلسوف ليس في معجمه الفلسفي مفردة "الظلم".
ولم يأل والدي، رغم قسوته عليه، جهداً في إنقاذه، سعى له عند أحد أقربائه في تورونتو، وتكلل سعيه لديه بالنجاح؛ فأضحى خالي مهاجراً، وصار يكتب رسائل شوق وحنين.
حملت الرسالة إلى أمي في المطبخ، فلما رأتها أسكتت صوت المسجلة.. قرأتها، وعاينت الصورة؛ طفرت الدموع من عينيها، ثم ما لبثت أن غالبت حزنها، وكفكفت دموعها، وقالت بصوت أجش:
- أنت جائع، أعلم هذا.. الغداء جاهز، قل لوالدك أن يحضر إلى المطبخ.
ولكن والدي الذي كان خارجاً من الحمام مرتدياً بيجاما، مبتلّ الشعر، منتعلاً (شحاطة) قال إنه يفضل أن يتناول الطعام في غرفة الجلوس أمام التلفزيون إذ حان موعد مسلسله، وهو لا يحب أن يفوته مشهد منه. فنقلنا الطعام، أمي وأنا، من المطبخ إلى غرفة الجلوس.
سكبت له عرقاً في كأسه، وكسرته بقليل من الماء وأضفت إلى الماء قطعتين من الجليد، وفق ذوقه تماماً، ثم قدمته له؛ فاعتدل في جلسته وسألني:
- ما الحكاية ؟
لفظها وهو لا يخفي ارتيابه، كأنه ود أن يقول: إنك لا تقدم لي خيراً إلا إذا كانت لك منفعة ترجوها من تقديمه لي.
- لا شيء. أجبت متضاحكاً، ثم قلت:
- السيارة.
- وفيم حاجتك إليها؟ أوتنوي من جديد أن "تهدم بيتنا" ونحن في هذه الظروف الصعبة، ألا ترى حالة السوق؟
- يااا أبي العزيز، كم مرة علي أن أقول لك إنني بريء مما حدث! لماذا لا تريد أن تصدقني؟ (بنت الجحجاح) هي المذنبة. لقد شهد الجميع على أنها هي التي استفزتني، فلماذا تُبرَّأ هي من ذنبها، وأعاقب أنا؟
وقع الحادث الذي يومئ إليه أبي – هذا إن جاز أن يسمى حادثاً – على طريق الحسكة. كنا في طريقنا ذاهبين إلى قرية دمخية الصغرى، نيران وهفال وأخوها فَرَزَنْده الطالب في كلية الطب بجامعة حلب، وصديقنا الممثل شابو عمسيح، بدعوة من صديقنا الشاعر صبري إيلو الذي ألح علينا أن نزوره ليقرأ لنا قصيدته الجديدة التي أُلهمها بعد اعتكاف دام أسبوعين في القرية. وكنت أقود السيارة، فرأيت من خلفي سيارة تتقدم بسرعة جنونية تبغي أن تتجاوزني. حذرتني نيران، هتفت " هذه ميادة الجحجاح" دعها تسبقك! ولكن العناد والزهو ركباني في تلك اللحظة، فلم أدعها تسبقني.. أطلقت عنان السرعة لسيارة والدي النظيفة الجديدة؛ فسبقتُ (بنت الجحجاح) وتركتها خلفي بعيدة عني بمسافة خمسة كيلومترات تقريباً. ولكن، في صباح الغد جاء والدها بسيارته ذات النمرة الخضراء إلى المحل، فشكاني إلى والدي، زعم أن ابنته بسببي انتابتها حالة من الاكتئاب ومن القرف من سيارتها، وأنها أقسمت، إن لم يشتر لها سيارة جديدة، فلسوف تحرد وتغلق على نفسها باب غرفتها. فهم والدي المعنى. وكان معنى باهظاً، كلفه أرباح ثلاثة أشهر من مبيعاته في أحسن الأحوال.
- كان عليك أن تتجنب "الشر" (قال والدي) ولكنك لم تتجنبه.. السائق العاقل لا يتورط في خطأ يرتكبه سائق أرعن؟ لا بأس على كل حال، ما حدث قد حدث، ولا مردّ لما حدث. وأنا الآن لا رغبة لي في تعكير مزاجي بتذكر ما حدث، فلننس ما حدث..! قل لي: فيم حاجتك إلى السيارة؟
- بابا؟ أتعرف رجلاً من شمخا اسمه شمعون دلالة؟
سألته بدلاً من أجيب سؤاله.
- شمعون، شمعون.. (يحاول أن يتذكر) لا، لا أعرف رجلاً بهذا الاسم من شمخا.. أعرف واحداً من عائلة (دلالة) يدعى عيسى دلالة. ولكن لماذا تسألني عنه؟
- يجب أن أسافر غداً صباحاً إليه، للتباحث معه حول عرض لوحاتي في المركز الثقافي.
- أهو مدير المركز؟
- نعم.
- لهذا.. لست أعرفه.
صدَّق والدي كذبتي، ومن أين لوالدي ألا يصدق كذبتي؟ من أين له أن يعلم أنني أكذب عليه؟ ولكن الغريب أنني لا أشعر، وأنا أكذب عليه بحضور أمي، بتأنيب الضمير! لم يخالجني أي شعور بالذنب، وأنا أكذب عليه، بل إنني أشعر الآن وقد انطلت عليه كذبتي بفرحة الفوز بمراد مشوق محبوب عظيم. ترى أكان أبي سيرفض طلبي ويمنعني من السفر، لو أنني صارحته بالحقيقة؟ لست أدري! ولكنني أدري أنني بكذبتي تخطيت جميع العوائق المحتملة، ووصلت إلى مبتغاي بأخصر السبل.
جرع والدي من كأسه جرعة من العرق، هز رأسه معبراً عن رضاه بمذاق الجرعة، مسح شاربه، ثم قال:
- لن أوصيك بالحذر، بت تعلم عواقب الاستهتار والرعونة.. ولكن (سأل فجأة) أين نيران؟ لم أرها من أكثر من أسبوع، هل تخاصمتما؟
- لا، إنها مشغولة بتصحيح أوراق الاختبارات التحريرية لتلميذاتها.
قالت أمي:
- ولكنها ستأتي مساء، ألن تأتي؟
جوعي الذي استيقظ بعنفوان شره على رائحة الطعام الشهي، فرض عليّ أن أملأ فمي بلقمة عظيمة؛ لذا لم أستطع أن أجيب عن سؤالها إلا بحركة مغلقة مبهمة من رأسي ومن تقاطيع وجهي.



#نعيم_إيليا (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حدث في عرس رنيم. الحلقة الخامسة
- حدث في عرس رنيم. الحلقة الرابعة
- حدث في عرس رنيم. الحلقة الثالثة
- حدث في عرس رنيم. الحلقة الثانية
- حدثَ في عرس رنيم (1). رواية قصيرة
- محاورة الربضي
- مسألة الضرورة والحرية، بما هي مسألة وجودية
- وصيد المعنى
- محاورة رمضان عيسى
- ما العلة الحقيقية في انهيار سوريا
- معضلة الروح
- في رحاب المطلق
- أنتي مالوم أبو رغيف. أو فلسفة التغيير
- شبح الطحان شمس الدين الكردي
- إلى السيدة الفاضلة الأديبة ليندا كبرييل
- مشكلة الوجود الإنساني
- خلق العالم . 3- الحياة
- خلق العالم 2- المغزى
- خلق العالم
- إيميل من صديقته السورية


المزيد.....




- فنانون أيرلنديون يطالبون مواطنتهم بمقاطعة -يوروفيجن- والوقوف ...
- بلدية باريس تطلق اسم أيقونة الأغنية الأمازيغية الفنان الجزائ ...
- مظفر النَّواب.. الذَّوبان بجُهيمان وخمينيّ
- روسيا.. إقامة معرض لمسرح عرائس مذهل من إندونيسيا
- “بتخلي العيال تنعنش وتفرفش” .. تردد قناة وناسة كيدز وكيفية ا ...
- خرائط وأطالس.. الرحالة أوليا جلبي والتأليف العثماني في الجغر ...
- الإعلان الثاني جديد.. مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 الموسم ا ...
- الرئيس الايراني يصل إلي العاصمة الثقافية الباكستانية -لاهور- ...
- الإسكندرية تستعيد مجدها التليد
- على الهواء.. فنانة مصرية شهيرة توجه نداء استغاثة لرئاسة مجلس ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعيم إيليا - حدث في عرس رنيم. الحلقة السادسة