أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فوزية المرعي - هديل على مقام النوى















المزيد.....



هديل على مقام النوى


فوزية المرعي

الحوار المتمدن-العدد: 4447 - 2014 / 5 / 8 - 22:41
المحور: الادب والفن
    



كأنكَ: قد جلست َعلى وهـــدة البـــوح وحيـــــــــداً
تقشرُ جسد الخطيئة وتعّري الروح عن آثامها..
والغيم الغسقي يتهاشل مطراً أحمــــــــــــر
فتذوي ورود آمالك , وتصّوح أغصان عهودك ..
عيناك تتواشلان هتلى بدموع النــــــــــــــــدم
تغزل من وشائع الغـــــــــــروب رداءً
لجسـد قصائدك المارقة عن نقاط حروفهــــا..
وتهيم على شرفة الليل, كفراشة ضلت ضياء فتيلها ..
وحدكَ كنت.. لا أحد يقبس من موقد بوحك جمرة
لسعار الألم اللاهب في الأحشـــــــاء ..
قدماك تنتعلان الصمت في ترنحها , وأنت تسعـى
بين صفا التـوق , ومروى الوله الهائم بالحكايات
الوسـنى على زنـد الانتظـــــــار..
والريـــــح غادرت المكــــــان ..
لا نسمـة من صبـا تداعب وجه مرآتك
لتزيل قذىً تراكم على عيون رؤاك ..
ولا دبور تتلصّص من شقوق عتمتك الثملى بالآلام ..
وحدها النجمة أماطت خمارها وتمطت توارب سجوف الظلام
وتسدل خيوط ضيائها ليتسنـّى لها قراءة ما سطرته على
صفحات الليل من ترانيم وجـــدك ..
أصغى إليك الصدى جافـــلا ً : ياليتنى .. ياليتهـا ..
وتراتلت عن شفاه جوفك حكاية يزمزمها الولــــه
قائلا:

كنتُ وإياها نقطنُ في أرجاء حـيّ , تشابكت فيه أصابع الــــعادات
والأعراف جســـراً, نعدو عليه بلا اكتراث, فلم تستوقفنا المسافات
يوما لتسأل ,بأيّ منعطف سترسو خطانا ..
وبتّ أرقبها في كل يوم وهي تترهدن في مشيتها كقطاة يجفلها
رفيف أجنحة الريح, فتحثّ الخطو إلى مدرستها , ورحـــــت أتبعها
بخطىً وئيدة. فانبرى قلبي ريشة ً يرسم قسماتها بكل ألوان الطيف ,
ويؤطرها لوحة مرصعة بجمان اللهفة , فتصدرت شرفة روحــي
أيقونة من تبر وطهر لا تريم ..
مضت السنون وأنا أتعوسج على دربها نخلة , تهذي عذوقها للريح
قصائد حبّ وهيـــام ..
تجاهلتني كثيراً , لكنني لم أتوانى عن ملاحقتها حتى أضحيـــــت
كظلـّها , وبـتّ أبري من أغصـــــان روحي رماحاً لأقذفها بهــــــــا
حتى وقعت بشباك صيدي كرئم عابث في فخ الحب ..
وبعد لأيّ تبسمت .. فرنقت حمائم روحي عن أغصانها وتوضأت
أوصالي بأمواه الأمل ..
التقيتها ثانية , ضحكت..فارتوت شرايينـــي الغرثى من نطف لماها
اللاثغة بالفرح ..
وفي لقاء أخير بادرتها بطلب الزواج , وحين وافقت , ترامحت
أفكاري كمهر جامح , وهاأنذا أذرع مسافات القـــــــرار
تتصحر أمامي سهوبها تارة , وأخرى تزهر بالأمل..
ناجيت روحي الساهمة بألم : من أين لي لأتوج رأس مليكتي بتاج
يلهث بالماس والذهب ومنجم حبي يعروه الخواء من ثروة تبددت
بأصابع الإهمال وعدم التأهب لمثـل هذه اللحظة والتحسّـب لمدّ
وجزر الأيام...

رهنتُ روحي مطية للصديق والقريب والغريب , حتى حصلت
على مال يسـدّ رمق الحكايــة ..
تزوجتها وعشنا كنحلتين نرتشف من تويجات السعادة رحــــيقها ..
ونذوب في شهد الليالي قصائد ,عـزّ علــــى العاذل اقتحــــــــام
مفرداتهــــا, وفـكّ طلاسم رموزها..
ناجيتها والقلب يأسره وجيبُ ُ : أنا لك ..وأنت لي وما نحن سوى
طائرين ينصهران في بوتقة الحب , وعلى تسابيح التوحد يورق
جسدينا بأرياش الرغبة للانبعاث من جديد ..
حبيبتي .. لقد أثـقـلتني الديون وقد قطعت على نفسي وعداً أن أبني
لك قصراً بين صبوات النـدى .. قصراً يليق بحبك أبهى وأجمل من
عرش بلقيس ..
لا أريد أن أقول وداعاً , لأنني لن أغيب عنك .. عفواً بل لأقول
بشكل أدق أنك لن تغيبي عني لحظة واحدة , وقد عقدت العزم على
السفـــ ر بعيداً, لا تيأسي إن طال الغياب .. فأنت لي وأنا لك مهما
نأت بنا المسافات , أليس كذلك ؟
كأني رأيتها ساهمة ترنو إلى المجهول بعينين تراهمت رموشـــها
بالدمع, وفمٌ سُدّتْ مساربه عن أي بوح صخرة من وجوم.
فانبجست عن مسامات صمتها عبارة تسللت بإيقاع نئيــم :
- أمعقول ؟
- ضممتها إلى صدري طويلا .. وعلى إيقاع الوداع والنشيج أسعفتني
مجا مر روحي الموهرة بجمر الوداع بالكلمات التالية:
"قبلتها ودموعي مزجُ أدمعهـــا وقبلتني على خوف فماً لفــــــم "
قد ذقت ماء حياة من مقبلهــــــا لوصاب ترباً لأحيا سالف الأمم
ترنو إلي بعين الظبي مجهشــة وتمسح الطل فوق الورد بالعنم "

حملتُ حقيبتي وغادرت , بعد أن أوصدتُ شغاف قلبي وجميع أروقة
حبي وألقيت بالمفاتيح في نهر حبها, وحين وصلت إلى خليج الغربة
رحت أسعى في مناكبها حتى حصلت على عمل انخرطت فيــــــــه
بالسعي الدؤوب..
مضى عام وكفيّ قابضة على جمر وعودي , كقابض النار وافـــى
قابض اللهب.
..
نغيط الحبارى يحاصرني بأنغام وأشكال وأعمار مختلفة , لكنني لم
أصغ إلا لليمامات التي ترنق على أغصان نجوايّ فتناغمها أورا د
روحي بالهديل..
مضت سنتان .. كلما ها تفتها أو ها تفتني تبثـني لوعة الفراق وتطلب مني العودة , فأعتذر لها بأنّ المال الذي جنيته لم يرتق إلى ســــدة الطموح بعد ..
وفجأة ساقت لي الأقدار أنثى , شهقت روحي لمرآها وكادت أيادي
لهفتي أن تُطبق عليها , إنها تــشبه حبيبتي بجمالها ..بمشيتها ..
بالتفاتتها , لجمتُ أفواه كل رغبة واكتفيت بالرد على تحيتهـــــا.
توالت اللقاءات بعد ذلك , ثم دعتني ذات مساء إلى مطعم فاخــر
وجلسنا تحت سقف تومض نجومه بالضوء الأحمر الخافـــــــت
أما الجدران فكانت تهمس بموسيقى هادئة تغلغلت إلى شغـــاف
روحي فأوقدتْ فتيل عتمتها.. أحضر النادل الطعام وزجاجة خمر
سكبت لي بكأس طفحت بهمسات تسللت عن مبسمها: اشرب انـــــه
نبيذ معتـّق , الليلة باردة ولا يذيب ثـلوجها سوى هذا الشراب..
شربت الكأس الأولى دفعة واحدة , فأصغيت لصراخ روحـــــي
وهي تتشظى بين حنايا وعـــودي ..
وتأملت عبارات تومض على جدار صمتي , هل أنا مازلــت فـي
أنايّ, أم الغواية أنشبت أظفارها وراحت تجرجرني إلى تخـــوم
لايُدرك مداهــا ؟
أما الكأس التالية , فقد سلبتني بقايا وعيـّي ورحت أناشدها المزيد
لأغرق في نهر الغيبوبة , كي لا أراني وأنا أبصم بإبهام روحي
على أوراق خيانتي .. وبعد آخر كأس وجدتني أتمطـّى على شرفة
الصبح فوق سريرها...
فهربت مذعوراّ كي لا يرسمني الضوء على مرايا فجر تسلل إليّ
عبر نوافذ بيتها ..
وبعد مدة , تلاقينا بين يديّ صدفة , عاتبتني , دعتني إلى بيتها ,
رافقتها , جلستُ أمام طاولة تتوسطها شمعة كبيرة , أشعلتهـــــا
وعلى هالات وميضها أبصرت الشراب يتماوج في كأسي وكأسها
وقبل أن أغرق في يـّم النبيذ, استجمعت قوايّ وبادرتها ,بأننـــــي
متزوج وأحب زوجتي بجنون..
- قالت : فليبارك الله حبكما, وكل ما أطلبه أن نبقى صديقين..
قلت : فلنبقى على هذا العهد ونشرب نخب صداقتنا..
قرعت ُكأسي بكأسها بقوة كادت تطيح به..
- صاحت: ويحك ! لقد جرّحتَ بلــّور كأسي , بل أوشك الكأس أن
يتصدع ..
قلت : ليكــن ..فلتتصدع وتتشظى كل الكؤوس, أريد أن أشهد على
انتصار الذات على الذات في حلبات الإغواء , قولي ما تشــــائين
انبهري , اندهشي ,ودعي الكأس تتشظى لئلا أغدو حســـــــــوة
ثملى بكأس النــدم ..
قالت: لا تبالي .. فالليل حين يجنّ يغدو كأساً تتسع لنزيف آلام البشر.
ودعتها شاكراً حفاوتها .
ضاعفت جهودي في العمل ,وبعد مضي أربع سنوات تكاثـفت غيوم
الحنين على سماء غربتي وراحت تمطرني بوابل الشوق ,وفي
العام الخامس حزمت الأمر بالعودة إلى الوطن .
- كأنني نسيت الاتصال بها في الشهور الأخيرة ..؟
- وكأنها نسيت كذلك...؟
- كأنني سهوت أو تعمدّت ألاّ أهاتفها..؟
- وكأنهـا تعمدت هي ذلك.. ؟
أحسست في نهاية الأمر بالانهيار وأنني عن بعدها لم أعد أطيق صبراً ..فعقدت العزم على الرحيل والعودة إلى الحبيبة تسحبنـي
هواجس جمـّة تشابكت فيها خيوط الحنين والشوق مع خيوط الشك
والغيرة , الحب والكراهية, الملل , الندم.. وهمست لروحي بنميمة
تباً لي , كيف استطاعت أسوار الغربة أن تكبلني وتغويني للنــــأي بهـا, وتنهدت بأنفاس مديدة :
يا ليتني ..
يا ليتهـا...

أنهيت إجراءات السفر , اشتريت لها هدايا نادرة تليق بها , صعدت
إلى سلم الطائرة وقررت ألا أتصل بها , أحببت أن أفاجأها..
وصلتُ مساءً , بات نبضي أسرع من خطواتي , فتحت باب البيــت
كان معتماّ, أضأت المصابيح في أرجائه , تفقدت الغرف والشرفات
فلم أجد لها أثراً , أفادني غبار الأرائك أنّ البيت مهجور من زمـــن
طويــل , فتذكرت في آخر اتصال بها أنها تقيم في دار أهلها ..
دخلت إلى غرفة النوم , وضعت حقائبي ، تخلصت من ثياب السفر ، استوقفتني الدهشة أمام المشجب ، إذ وجدت بيجامتي معلقة عليه ، وحين مددت يد ي لأتلمسها ، فرّت عنها فراشة أجفلتني ، وتابعت حركتها ، فرمقتها تحط على خزانة ثيابي ، اقتربت منها ، فتحتها ، وجدت ثيابي محنطة على عمود الانتظار ، تلمستها لأمنحها روح وجودي وحرّكتها فاهتزتْ وتراقصتْ ، فأحسستُ أن الحياة دبّت في نسيجها...
اقتربتُ من خزانتها ، هممتُ بفتحها ، لكن كفي تحجّرت على المفتاح ، فتساءلتُ في سري :
- هل تكهربت أصابعي بملمس المفتاح .. أم شـلـّـت مع الأصابع كفها .. ؟
أم أن صورتها التي تهيكلت بيني وبين خزانتها سربلتني بخشوع بألا أقتحم بوابتها ؟
- كأنّ صوتها انبجس من رحم الصمت نا ئحاً : .
- أتفتشُ عني بين الثياب وتنسى بأني فراشة تلوب على أغصان الإياب بين واو العطف ولاءات التمني ؟
تسمرتُ في مكاني لا ألوي على حلّ . يشفي غليل حيرتي ، فألفيت الدهشة والخشوع والندم ، والحزن ، والفرح .. تطوقني بأذرعها وتلقي بي على فرا شي كومة من هذيان ..
.
بين الوعي واللاوعي .. بين النوم واللانوم هل ثمة حاسة تربصت لتدوين الشجار الحائم في ملكوت هذياني ؟ .
هل دونته أنامل الذاكرة .. .
أم أنه تلاشى كلهوة في رحى النسيان ؟ .
أم ..
أم .. ؟
تسللت ْ إلى عيني خيوط ضياء عن مسارب النافذة ، حاولت النهوض ، لكن عبق الشوق الغائف على فرا شي يغويني للنوم أكثر ..
غمرتني نسمة عبقت بشذى قهوتها ، فحدثت ُ نفسي أنني ما زلت أحلم .. .
وأصختُ السمع إلى ترانيم ذكرتني بهديل صوتها ، فذعرتُ إذ دنا الصوت أكثر ، وركعتُ بمحراب الغيبوبة في صلاة ، لم أع عدد ركعاتها ..
أفقتُ ورأسي تطوقه يداها ، ألساني غارق في كهف صمتي أم جسدي تلاشى ، أم أنها حقيقة انبثقت أمامي مع هالات الفجر الندي ؟ نهضت كالمجنون مدوياً : حبيبتي .. فرددت الجدران أصداء صرختي .. ضممتها كالمجنون إلى صدري .. وضمتني فذابت ثلوج تهودجت على صروح دهشتي قبل مرآها . ثم سحبتني من يدي .. وتبعتها كفطيم يرنو لضروع محبتها جلسنا على أريكة في المطبخ العابق بأشداء القهوة . بدأت أرتشف القهوة وعيناي ترقبها بحذر, ترى بأيَّ سؤال وأي عتاب ستبدأ ؟.
لكنني ألفيتها تشرب قهوتها وترمقني بصمت ، تفصل بين رشفة وأخرى ابتسامة تنضح بالدهشة .
-َ بادرتها بوجل :
أحببت أن أفاجئك .. لم أهتف لك ، وصلت متأخراً ولكن ، كيف علمت بوصولي ومن أنبأك ؟
- كأني الآن أصغي إلى روحي وهي تعذلني وتؤنبني أهذا وقت التساؤل ؟ فالتزمت الصمت أرنو إليها في شده وأنتظر إجابتها ..
-َ تثاء بت .. تمطت وابتسمت قائلة :
لم يأتني نبأ الوصول عن فاسق ، بل جاءني عن جدتي .
- جدتك .. ! ؟ .
- نعم .. وهي التي أيقظتني لأعفر ريح اللقاء بأشذاء قهوتنا الصباحية..
ترحّمْ عليها إن شئت .. أو اذكرها باحترام ، فإنها في كلا الحالتين تستحقهما ..
فهي التي مزقت أكفانها لتضمّد جراح قلبي النازف في نهر غيابك وهي التي انسلت من رميم جسدها روحاً تهدهد وجدي ، وترفو أشلاء روحي بتراتيل لا يدرك سرها إلايّ .

- زيارة الجدة الأولى : العام الأول للغياب :

زارتني وأنا في غمرة الحزن على غيابك ، ذهلت من مشهدها وهي مكللة بأوراق الشجر ، مسحت جبيني بكفها ، قبلتني وبادرتني بالكلام , لا تخافي أنا جدتك ..
لم أنبس بكلمة ، لكنها قرأت الحزن والدهشة تتحدران من عيني ، فأمسكت بيدي ، وراحت تطو ف بي على صهوة الريح من ربوة لأخرى ، المساحات تمتد أمام عيني بلا نهاية , شاهدت بحاراً وأنهاراً ، لم أشاهد كائنات حية سوى الأشجار وأسراب الطيور ، وحين أحسست بالجوع والعطش ، قادتني إلى كوخ وسط غابة جدرانه وسقفه من أغصان الأشجار ، افترشتْ الأرض ، فجلستُ أمامها ، سألتها :
- كيف تتدبرين أمرك وحيدة في الكون الفسيح ؟
- لست وحيدة ، غاد رني زوجي ليبحث عن طعام .. لقد تأخر لكنه سيعود ، هو لا يستطيع الحياة بدوني ، وأنا كذلك .


- زيارة الجدة الثانية ، العام الثاني للغياب .

كأنني كنت أتبعها على مروج الرؤى ليلاً .. وفي النهار أثوب إلى رشدي ، كل ما استطعت التقاطه من جسد الحكاية ، هو ارتحالي على براق الحلم وحيدة على مدى عامٍ كاملٍ .
مرّت سبعة أيام من بداية العام الثاني ، عدت وحيدة أثامل الصمت كؤوس نبيذه الطافحة بالوجد .. بالسهد .. بالأرق المرير قلت والوجد يغرقني بمدّ فيضه : أيتها الجدة .. ليتك تأتين, افترشتُ تنهيدة ، والتحفت بأخرى .. وتوسدت هواجس الليلة الثامنة ، ورغم إيقاع الضجيج برأسي ، انسرب إليّ صوتٌ كان إيقاعه أقوى ، نهضت لاستطلاع الأمر ، وإذ بالجدة تتهيكل أمامي بقامة طويلة وعليها ثياب من الجلد ، أومأت لي برأسها ، ففرحت ، مدّت لي يدها وأطبقت بأصابعها الغليظة الخشنة على كفي..
حلّقتُ وإياها على صهوة الريح ، تراءى لي الغيم يزمزم رذاذه من ثغور النجوم اللاهثة بالنور ، مددت يدي لأقطف منها قبضة أرُطب بها شفاه دهشتي ، وإذ بي أمام فوهة كهف يشاطئ بحراً ، تتلاطم عليه الأمواج فيهرب الرذاذ إليه ليغسل وجوه الرسوم المنقوشة على السقف والحيطان , قادتني الجدة إلى أعماقه عبر ممرات لولبية انفرجت على فسحة واسعة ، أرضها مفروشة بالجلود وحيطانها مزدانة بأشكال مختلفة من الفرو ، وعليها أرائك قدت من صخر . يجللها قطع من فرو ، أجلستني عليها , ابتعدت عني فرمقتها تقدح الصوان, فانبجس عنه اللهب , أعدّت وجبة من شواء ، قدمتها لي ، أنهيت طعامي ، داهمني النعاس فتمددت على الأريكة دثرتني بالفرو فاستسلمت للنوم .
هكذا .. بدأت أروّض نفسي على حياة الكهوف ، أو ربما بدأ الواقع
بترويضي رغم أنفي .
عند طلقة كل فجر يلفظني رحم الأرض لأقف بين يدي الشمس ناسكة تسبّح للشروق بابتهالٍ وعند المساء أقطف من الغروب ياقوت دمعه وأنظمها بحبال صمتي الهائمة بين عالمين من وعي ولا وعي .
تابعت الطواف من كهف إلى كهفٍ وناجيت نفسي عن عالمٍ مذهل كأنه لوحة حيّة تبوح عن روحانية العصر الحجري ، وخاصة تلك التي تنبض بروحٍ فنية . وقد تزينت بالرسوم المقدسة للغزلان والثيران والجياد الصغيرة . والصيادين المتنكرين على هيئة حيوانات مع رماحهم ، وهي مصورة بدقة فائقة ومهارة رهيفة في جوف الأرض الص
.
وكلما تغلغلت فيها باحت لي الرسوم والمشاهد المذهلة عن العلاقة الوثقى بين الإنسان والحيوان الشبيه بالإله البدئي .
وذات يوم . استوقفني مشهد طابور من البشر فلذت خلف صخرة أرمقهم عن بعد, كانوا يرتدون ألبسة جلدية .
- سألت الجدة : هل يوجد فرن داخل الكهوف ؟ .
أفادتني بأنهم يتزاحمون لأداء طقس ديني داخل كهف كبير ، أنه ميقات الحج ..
- الحج ؟
سارت جدتي إلى اتجاه آخر ، أحنت ظهرها وانحنيت خلفها عبر ممر رطب ، وبعد بضعة أمتار توقفت وسط ساحة تتدفق عنها آلاء الروعة وحين هممت بالسؤال .
بادرتني الجدة : أنه مكان مخصص للرقص والغناء تتم فيه الطقوس بمشاركة الحيوانات . وفق نظام سحري ينفصل عن العالم الدنيوي.
وفي نهاية المطاف ناشدتها :
- جدتي ... إني أشعر بالحنين لمضارب بيتي .
- قالت : أتدرين كم لبثت بكهفي ؟
فأعربت عن جهلي بإيماءة .. .
قادتني بعد ذلك إلى جدارٍ ، أشا رت بيدها إليه ، فتسمرتُ مشدوهة أمام دوائر متصلة ببعضها وبداخل كل منها سبعة خطوط ، وحين أحصيتها أدركت أني في آخر يوم من عام مضى معها .
ودعتني وأهدتني قطعاً من الفرو قائلة :
تدثري بها تمنحك الدفء وتسربل أنفاسك بعبق الصبر الغافي بين طياتها ريثما يعود زوجك .
فهمست في سرّي بذهولٍ ، يا إلهي كيف عرفت بغيابه رغم أني لم أهمس بحرف عنه وعنيّ ؟ ! .


:



:
زيارة الجدة الثالثة ـ العام الثالث للغياب :

مزقتُ برقعاً تحلزنتُ فيه عاماً آخر ، وخرجت منه حافية الروح أمشط أهداب الحكايا ، فتوغل بي من شجن إلى شجن .
هرعت إلى البيت ، أشعلت ناراً ، نثرت عليها قبضة من بخور وابتهلت لله بنذر كي تبطئ الجدة زيارتها ..
مضت عشرة أيام ولما تأت فشكرت الله وأدركت بأنه قد تقبّل نذري.
وفي الليلة الخامسة عشره ، داهمتني الجدة كعادتها ، فصرخت بها بلا وعّي ، إلى أين ستمضين بي هذه المرّة .
ابتسمت بهدوء وأجابتني : أنا جدتك ( بنلوب ) أسرعي فالمركب بانتظارنا ، إن لم يجد من يمتطيه فإنه يمتطي الموج ويهرب ، هيا لأطوف بك إلى عالم لم تشهديه من قبل ..
جلسات بقربها ، أبهرني جمالها ، بياضها . زرقة عينها اللتين تومضان ببريق لاهث كأنهما فيروزتان ُقد تا من قبة السماء وجسدها الرامح بالأنوثة يستره ثوب وردي , ووشاح مسدول على رأسها يمتد إلى كعبيها .
سرى بنا المركب على سكة معبدة بالأمواج ، وتوقفنا عند الشاطئ ، كان العديد من الحراس في استقبالنا مررنا عبرهم إلى قصر يغفو على تلة تسوره الغابات ومساحات واسعة من الحدائق ، أدخلتني إلى جناح الضيوف ، وبعد استراحة دعتني إلى مائدة مفعمة بأصناف الطعام والشراب وبعد أيامٍ من الراحة بدأت تصحبني كل يوم إلى شرفة الغروب وتسرد على مسامعي تفاصيل قصتها المؤلمة التي تجرعت الصبر فيها على مدى عشرين عام ..
وكانت فاتحة الحديث اسم زوجها وحبيبها آوديسيوس الذي بادلته الحب والإخلاص حتى الرمق الأخير ..








وعن ابنها ( تليما ك ) الذي ترعرع بين يديها يتيماً رغم وجود والده على قيد الحياة وعن المرارة التي كابدتها من جور الخطّاب الذين تمترسوا في ساحة قصرها ليخطبوا ودها , و يخبروها بكل وقاحة أن آوديسيوس أصبح في عداد الأموات وعليها أن تختار أحدهم زوجاً يعوضها عنه .
وحدثتني بمرارة كيف استباحوا المواشي والمحاصيل ولم يتركوا لها ولا لابنها الوحيد شيئاً من ثروة زوجها .
وكيف بقيت على مدى عشرين عاماً تنسج من خيوط الأمل قصائد لعودته .
وفي ختام أحاديثها التي امتدت على مدار عام تضرعت بابتهال وشكر للآلهة التي أنقذتها من براثن الأعداء و عودة آوديسيوس حياً إليها ، وعلى اجتماع شملهما بعد معاناة طويلة دامت عشرين عاماً .
- صرخت بلا وعيّ ، عشرين عاماً ؟

- زيارة الجدة الرابعة , العام الرابع:

لم أفزع ولم أضطرب لزيارتها هذه المرة ، بل أحسست بالخشوع إذ ألفيتها تصلي الفجر ، وبعد أن أنهت صلاتها ، تقدمت نحوي بكل هدوء ، وطبعت على جبيني قبلة ، ومسحت وجنتي بيدها قائلة :
هيا . .. توضئي وصلّي الفجر لأطوف معك إلى الأراضي المقدسة .
وبعد أن امتـثـلت لطلبها ، أصغيت لصهيل حصان خلف بوابة الرؤى أردفتني خلفها على صهوته ، وصلنا إلى الكعبة فأمسكت بيدي في طواف انتهى إلى ربوة تطل على موقع كان لها الريادة فيه للسعي بين الصفا والمروى ، وجلسنا نستظل بجنح غيمة وراحت تشرح لي مشيرة بيدها إلى الموقع الذي تركها فيه إبراهيم وحيدة مع طفلها إسماعيل حيث لا ماء ولا طعام ولا سكن ولا شجرة تكون متكأ لها ، فانبعثت عن جوفها أسراب الأنين ابتهالات حلـّقت نحو خالقهـــــــــا
وبين التضرع والقنوط انبجس عن ضرع الأرض نهر , زمزمته وشربت منه حتى ارتوت شرايينها الغرثى .
اقتربت من الماء ، توضأت وركعت للخالق مسبحّة ومؤمنة بقوله المقدس ( وجعلنا من الماء كل شيء حيّ )
وقفت عن بعد أتأمل الجدة هاجر وأرسم لها صوراً في ذاكرتي عن معاناة لا يستطيع مخلوق أن يحتملها غيرها ، كانت ثيابها طويلة فضفاضة ورأسها تستره ملاءة بيضاء ، ووجهها يطفح بنور لم أشهده على وجوه الجدات الثلاث اللواتي سبقنها ..
أمضيت معها شهوراً طويلة ، وبعد صلاة العشاء من كل يوم, كان الليل يسرج لنا من فتيلة قبسات ضياءٍ نهتدي بوحيها فيتوهج بوح الجدة بتفاصيل قصتها منذ أن غادرت أر ض مصر حتى وقوعها رهينة بأيدي الاغتراب والوحشة والوحدة حتى استقرارها في شعاب مكة التي أصبحت قبلة للمسلمين يؤمها البشر من كل أصقاع الدنيا ويشربون من ماء زمزمها .
هممت لوداعها ، فعانقتني عنا ق أمٍ رؤوم ، وزودتني بإناء من ماء زمزم ، فرجوتها أن تدعوني لزيارتها في كل عام . ودعتها معربة عن سعادتي بلقائها وبأن العام الذي قضيته معها لم أشعر فيه بالملل أو السأم وتمنيت في سرّي أن يمتد إلى أعوامٍ أخر..

زيارة الجدة الخامسة ـ العام الخامس :

انسرب إليّ من نافذة الرؤى صوتٌ .. عرفته وألفته منذ طفولتي ، فنهضت قبل أن تناديني ، شّرعت لها بوابة اللقاء وألقيت بنفسي عليها فأجهشت بنداءات تخالطها الدموع إنها جدتي لأمي ، احتضنتني وعدت بين أحضانها إلى مرابع الطفولة فانهالت على وهج اللقاء ذكريات ، ورحت أقرأ مفرداتها بعيون قلبي ، فهي التي كانت تقف إلى جانبي إذا ما مّسني ضـرّ من أحد أفراد العائلة ، وهي التي تعتني بطعامي وتطوف بي إلى زيارة الأقارب والجوار وإلى الحقول القريبة والبعيدة ، إنها الحضن الدافئ والصدر الحنون الذي يتدفق بصدق يوازي حنان أمي ، ربما يفوقه أحياناً, فتحت لها صدري وما يغفو عليه من ألم ، صارحتها بحبي لزوجي وما أعانيه من مرارة غيابه ، بكيت بين يديها وأفرغت أنهار عيني على صدرها ، فطمأنتني ، واسترسلت في شرح طويل لمعاناة النساء في كل عصر سمعت عنه و عاصرته . وعن معاناتها التي لم اسمع عنها حين كانت تعيش على أرضٍ تركتني عليها ومضت .
وحين أزفت لحظة الوداع . طبعت على وجهي عشــــــــــــــــــرات القبل
وجففت دموعي ، فتحشرج صوتي بكلمات فاستنـــــــــــــجدت بحكمتها
وخبرتها : .
جدتي: ما العمل ، ماذا أفعل الآن وقد شارفت نهاية العام الخامس على غيابه ؟
14

.
تنهدتْ .. مادت برأسها وأمسكت بعود رسمت به دائرة صغيرة على الأرض ثم ابتعدت عني بضعة أمتار ورسمت دائرة كبيرة حولي فتسمرت في وسطها مشكلة سـرّة لها , دهشت ، ترنحت وصرخت بها .:
-جدتي , لا تتركيني لوحدي .. وبينما بدأت تتلاشى عن ناظري ، جلجل صوتها في فضائي قائلة .. وسعي دائرة الفكرة تضيق دوائر العقبات وتتلاشى بها .
وأصغيت لصهيل آخر وصية رددها الصدى .
-أذهبي إلى بيتك فقد عاد زوجك . احتضنيه . واغفري له كي تتسع
دائرة الحب ...
-جدتي ... .
-وسَّعي الدائرة لتغدو باتساع المــــــدى .



#فوزية_المرعي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تهجدات في محراب الألم


المزيد.....




- وفاة الفنان المصري المعروف صلاح السعدني عن عمر ناهز 81 عاما ...
- تعدد الروايات حول ما حدث في أصفهان
- انطلاق الدورة الـ38 لمعرض تونس الدولي للكتاب
- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فوزية المرعي - هديل على مقام النوى