أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - آمال وشنان - المجتمع المدني في الفلسفة السياسية الغربية















المزيد.....



المجتمع المدني في الفلسفة السياسية الغربية


آمال وشنان

الحوار المتمدن-العدد: 4447 - 2014 / 5 / 8 - 14:59
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


المجتمع المدني في الفلسفة السياسية الغربية
آمال وشنان*

شهدت العقود الأخيرة من القرن العشرين تطورات كثيرة على كافة الأصعدة السياسية، الاجتماعية، الاقتصادية والثقافية، كان لها بالغ الأثر في بلورة عدد كبير من المفاهيم، ومنها مفهوم المجتمع المدني، إذ سعى الباحثون في تلك الفترة إلى دراسة هذه الظاهرة – الجديدة القديمة- في المجتمعات والدول الحديثة وما عرفته من تحولات، فقد كان للمجتمع المدني دور مهم في عملية التحول الديمقراطي لأنظمة الحكم الاستبدادية على ضوء ما حدث من تطورات في شرق أوروبا على وجه الخصوص، وكذا كوريا الجنوبية، الفلبين وعدد من دول أمريكا اللاتينية، خاصة مع بزوغ نجم حركة التضامن البولندية سنة 1980، ورغم محاولات بعض الباحثين التأسيس لفكرة المجتمع المدني زمنياً مع انهيار المنظومة الشيوعية إلاّ أنّ ذلك لا يعني بالضرورة أنّ فكرة المجتمع المدني بدأت من هناك، إذ يؤصل لها منذ القدم... إنّ شيوع الدراسات عن المجتمع المدني وكذا الحديث عنه بكثرة في علاقته بالسلطة والدولة في وقتنا الحالي تجعلنا نتساءل عن طبيعة هذا المفهوم وحدود تأثيره وتأثره – تفاعله- مع مجموعة أخرى من المفاهيم الحديثة وعلى رأسها مفهوم الدولة لاسيما في الفكر الغربي الحديث، لذا تحاول هذه الدراسة الموجزة أن تتتّع ظاهرة المجتمع المدني في المجتمعات الغربية مستقرئة تاريخها، محاولة استخلاص العوامل الأساسية التّي أدّت إلى تبلور هذا المفهوم إلى أن أخذ دلالاته الحديثة .
المجتمع المدني في الفلسفة السياسية الليبرالية:
لقد ظهر مصطلح المجتمع المدني مع تطور الفكر الغربي الذي أنتجه، وكان (طوماس الأكويني) في تعليقه على كتاب السياسة ل (أرسطو) يدافع عن المكون الجماعاتي للتجمع السياسي، معتبرا المدينة مجالا للتواصل، وأن الإنسان حيوان سياسي وأهلي بطبيعته1، أي أنه اجتماعي، وهي المعاني التي تشكل منها مفهوم(Communicatio Politica)، وعندما ترجم (Leonardo Bruni) كتاب (أرسطو) المذكور في القرن الخامس عشر، بدأ انتشار مفهوم ((Societas Civilis والانتقال من مفهوم (Communicatio) إلى مفهوم (Societas) لما يمثله من إشارة واضحة لانبثاق النزعة الإنسانية المدنية التي شهدتها مدن إيطاليا2.
وانشغل بمفهوم المجتمع المدني فلاسفة التنوير في مرحلة مقاومة أنظمة الحكم المطلق، ولم تحل النظرة الفلسفية دون إضفاء الطابع السياسي على هذا المفهوم، إذ جعلوه مقابلا للدولة الاستبدادية، وانتشر تداول هذا المصطلح في أوربا في القرن السابع عشر مع نشوء الديموقراطيات التي أقيمت على أنقاض الأنظمة السياسية التي كان يسودها الحكم المطلق، ونفوذ الكنيسة، وهيمنة الإقطاع؛ وفي هذا السياق يأتي كتاب المفكر السكوتلاندي (آدم فرجسون) حول تاريخ المجتمع المدني الصادر سنة 1767، والذي أثار فيه تساؤلات حول تمركز السلطة السياسية، واعتبر أن الحركة الجمعوية هي النسق الأفضل للدفاع ضد مخاطر الاستبداد السياسي؛ وفرق (توماس هوبز) بين الدولة والمجتمع المدني في كتابه حول حقوق الإنسان الصادر سنة 1791، ودعا إلى حكومة محددة الوظائف ومجتمع مدني حر وسام، غير أن هذه الدعوة لم تجد صداها مع نمو المجتمع الرأسمالي3.
وتطور مفهوم المجتمع المدني في الفكر الليبرالي بالموازاة مع التطورات السياسية والاقتصادية التي عرفها العالم الغربي وبروز نزعة الدفاع عن المصالح المشتركة للطبقة البرجوازية؛ وبدأ يتبلور المفهوم الحديث للمجتمع المدني من خلال ما كتبه (هيجل) في مؤلفه (مبادئ فلسفة الحق) الصادر سنة 1812، حيث أشار فيه إلى أن « المجتمع المدني يقع بين الأسرة والدولة، وأنه يتكون من الأفراد والطبقات والجماعات والمؤسسات، وتنتظم كلها داخل القانون المدني»4 أما في الفكر الماركسي فإن مفهوم المجتمع المدني ظل يستعمل كسلاح في مواجهة السلطة الشمولية، واعتبر (كارل ماركس) أن المجتمع المدني هو « ساحة الصراع الطبقي» وعالج المفكر الماركسي الإيطالي أنطونيو غرامشي (1891-1937) موضوع المجتمع المدني من منظور جديد، فاعتبره ليس ساحة للتنافس الاقتصادي، وإنما ساحة للتنافس الإيديولوجي، منطلقا من التمييز بين السيطرة السياسية، والهيمنة الإيديولوجية، فمع نضج العلاقات الرأسمالية في أوربا في القرنين السابع عشر والثامن عشر، وانقسام المجتمع إلى طبقات ذات مصالح متفاوتة أو متناقضة، واحتدام الصراع الطبقي كان لابد للطبقة الرأسمالية السائدة من بلورة آليات فعالة لإدارة هذا الصراع واحتوائه بما يضمن حماية مصالحها، وتحقيق الاستقرار في المجتمع5، ويقول (غرامشي) أن المجتمع المدني هو مجموعة من البنى الفوقية، مثل النقابات، والأحزاب، والصحافة، والمدارس، والكنيسة، ويعتبر أن الفاتيكان أكبر منظمة خاصة في العالم، ويفصل بين أدوار ومهام المجتمع المدني ووظائف الدولة، ويفسر ذلك المفكر الألماني المعاصر (يورفن هابرماس) بقوله إن وظائف المجتمع المدني في مفهوم (غرامشي) تعني الرأي العام غير الرسمي، أي الذي لا يخضع لسلطة الدولـة.6
ومع اتساع دور المجتمع المدني وتزايد أهميته في المجتمعات الديموقراطية، فقد أصبح يحظى باهتمام الكثير من المفكرين والباحثين المعاصرين في الغرب وفي العالم العربي، ولذلك نجد أن هناك عدة تعاريف للمجتمع المدني، من بينها التعريف الذي يقترحهDominuque Colas)) ويعتبره عمليا فيقول بأن المجتمع المدني « يعني الحياة الاجتماعية المنظمة انطلاقا من منطق خاص بها وبخاصة الحياة الجمعوية التي تضمن دينامية اقتصادية وثقافية وسياسية»7 ، ويعرفه (برتراند بادي) بأنه « كل المؤسسات التي تتيح للأفراد التمكن من الخيرات والمنافع دون تدخل أو وساطة من الدولة» ، ويعرفه (وايت جوردون) بأنه « مملكة توسطية تقع بين الدولة والأسرة، وتقطنها منظمات منفصلة عن الدولة، وتتمتع باستقلال ذاتي في علاقتها معها، وتتشكل طوعا من أفراد يهدفون إلى حماية مصالح أو قيم معينة» ، ويعرفـه عبد الغفار شكر بأنـه «مجموعة التنظيمات التطوعية الحرة، التي تملأ المجال العام بين الأسرة والدولة، لتحقيق مصالح أفرادها، ملتزمة في ذلك بقيم ومعايير الاحترام والتراضي والتسامح، والإدارة السلمية للتنوع والاختلاف»8ويعرفه سعد الدين إبراهيم بأنه: « المجال الذي يتفاعل فيه المواطنون، ويؤسسون بإرادتهم الحرة، تنظيمات مستقلة عن السلطة، للتعبير عن المشاعر، أو تحقيق المصالح، أو خدمة القضايا المشتركة»، ويفيد مصطلح المجتمع المدني في التداول السوسيلوجي المعاصر، أو بتعبير آخر في الأدبيات السياسية الحديثة، معنى «الوسائط المبادرة»9.
المجتمع المدني في الفلسفة السياسية الليبرالية:
يسود الإجماع بين اختلف الباحثين في مجال الفكر السياسي، على اعتبار التجربة التاريخية التي مرت بها المجتمعات الأوروبية في القرنين 17 و18، خاصة في فرنسا وإنجلترا، وكذا الأفق الثقافي والفكري الجديد الذي ساهم فلاسفة عصر الأنوار في رسم معالمه الأساسية، بمثابة الإطار العام الذي احتضن ظهور فرضية المجتمع المدني لأول مرة، بكيفية واضحة ومتميزة ومن المعلوم أن أهم نتيجة تمخضت عن هذه التجربة التاريخية، على المستوى الفكري، وعلى مستوى فلسفات الحكم السياسية، هو ما يعرف بنظرية التعاقد. وهي نظرية قعد لها، وأرسى مبادئها الأولى، مفكرون كبار، أهمهم: توماس هوبز وجون لوك في إنجلترا، وجان جاك روسو في فرنسا.
أهم ما حاولت هذه النظرية أن تقوم به، هو نقد وتجاوز نظرية الحق الإلاهي للملوك، التي كانت تستمد مشروعيتها من حقل القداسة (الدين المسيحي والمؤسسة الكنسية). وبطبيعة الحال، فإن هذه النظرية كانت تمثل إلى حدود الفترة التي ظهرت فيها فلسفة عصر الأنوار أساس الحكم بالنسبة للدولة الأوروبية. غير أن الأطروحة الأساسية التي ستدافع عنها نظرية التعاقد، هي أن انتقال المجتمعات المتحضرة من "حالة الطبيعة"، كيفما كانت الفرضيات الفلسفية الواصفة لها، إلى "حالة المجتمع" أو "الثقافة" أو "الدولة"، تم بموجب اتفاق حر وإرادي بين الناس، من أهم نتائجه التوقف عن الاحتكام إلى قانون "الحق الطبيعي"، الذي يتأسس على مبدأي القوة والشهوة. لأنه لا يحضر على الشخص إلا الأشياء التي لا يرغب فيها، أو لا يستطيع القيام بها. فالنزوع إلى الكراهية والغضب، والخداع والنفاق، والقوة والاستبداد، أمور مبررة بحكم القواعد التي تنتظم وفقها طبيعة كل فرد، بل نظام الطبيعة في حد ذاته والدعوة إلى ممارسة الحكم، على أساس الإرادة العامة أو إرادة الكل، التي يمكن أن تتجسد على شكل مجالس منتخبة، خاصة في المنظور الذي دافع عنه جون لوك10
إن هذا التصور الأولي لنظرية التعاقد، لا ينفي وجود بعض الاختلافات بين منظريها الثلاثة فلقد كان الهم الأساسي عند توماس هوبز، هو الإسراع بتجاوز حالة الطبيعة كيفما كان الثمن، خاصة وأن الشرور الناتجة عنها، تهدد السلم الاجتماعي، والاستقرار السياسي، الضروريان معا، لكل نشاط اقتصادي وعمران بشري أكثر من اهتمامه بمساءلة نموذج التعاقد الذي يجب أن يسعى إليه الأفراد لذلك سيعتبر أن تنازل الإرادات الخاصة والمتعددة عن حقوقها الطبيعية إلى طرف ثالث يمثله شخص واحد أو جمع من الناس، تنتج عنه سلطة كاملة مطلقة، لا يمكن ولا يجوز الاعتراض عليها بأي شكل من الأشكال. فهو يشبه هذه السلطة تارة بالتنين، ذلك الحيوان الأسطوري الضخم، وتارة أخرى بالساعة الكبيرة التي تسعى إلى التحكم وضبط سلوك الأفراد…الخ وهي كلها مجازات القصد منها ترسيخ الصورة الجديدة لمفهوم الدولة هذا في الوقت الذي حاول فيه كل من جون لوك وجان جاك روسو التركيز بالخصوص على الغايات والأهداف البعيدة لفلسفة التعاقد، وهي الحماية والمحافظة والدفاع عن الحقوق الأساسية للفرد المواطن، خاصة حق الحياة، وحق الحرية، وحق الملكية الفردية لذلك فإن السلطة السياسية للدول والحكومات الناشئة عن نظرية التعاقد، ليست سلطة مطلقة في نظر الفيلسوفين، بل هي مقيدة بشرط أساسي، وهو استخدامها من أجل خير وأمن واستقرار المجتمع الجديد، الذي لم يقبل أفراده التخلي عن سلطتهم الطبيعية، لطرف ثالث محايد، إلا به.11
في هذا المناخ الفكري العام إذن، وفي هذه المساءلة الفلسفية للنماذج والتجارب التاريخية في الحكم، ظهر مفهوم المجتمع المدني، وانتشر استعماله حتى أضحى بديهية من بديهيات المعجم السياسي فلقد استخدمه جون لوك على الأقل في الموضعين التاليين من كتابه رسالة في الحكم المدني: "حيث يؤلف عدد من الناس جماعة واحدة، ويتخلى كل منهم عن سلطة تنفيذ السنة الطبيعية التي تخصه، ويتنازل عنها للمجتمع، ينشأ عندنا آنذاك فقط، مجتمع سياسي أو مدني".
"إن الذين يؤلفون جسدا واحدا، ويمتلكون قانونا عاما، ويمكنهم العودة إلى قضاة يمتلكون السلطات الضرورية لرفع المظالم ومعاقبة المجرمين، هؤلاء يشكلون مجتمعا مدنيا". كما استخدمه جان جاك روسو في كتاب العقد الاجتماعي بارتباط وثيق مع مفهوم الملكية الفردية حين تحدث عن الواقعة الافتراضية التالية: "في اليوم الذي عن فيه لإنسان ما أن يسور أرضا ويقول: هذا لي. ثم إنه وجد أناسا كانوا من السذاجة والبساطة بحيث أنهم صدقوه. في ذلك اليوم كان ذلك الإنسان هو المؤسس الفعلي للمجتمع المدني". أما عند هوبز فإننا نجد الإشارة التالية التي تؤكد ربما ارتباط المفهوم بل وتداخله مع نظرية التعاقد ذاتها. فهو يعتبر أن "أصل المجتمع المدني هو ضرورة الخروج من الصراع اللامتناهي الذي يتولد عن قانون "حالة الطبيعة" أي عن حق كل شخص في أن يفعل ما يظهر له أنه مناسب لحماية نفسه". وهكذا يتبين أن دخول الأفراد تجربة المجتمع المدني، دخول طوعي هدفه الأساسي الحفاظ على حقوقهم المتساوية، التي كانوا يتمتعون بها في ظل القانون الطبيعي. على أن تتكلف سلطة قوية تتموقع فوق الجميع بحماية هذه الحقوق وتسهيل ممارستها. فيكون بذلك التزام الأفراد بطاعة هذه السلطة والخضوع لها بمثابة المقابل الضروري لنجاح السلطة (الدولة) في القيام بوظيفتها.12
فما هي الدروس والخلاصات الأساسية الناتجة عن هذا التصور التعاقدي لمفهوم المجتمع المدني، سواء على المستوى الفكري أو السياسي؟
أول هذه الدروس، هو إلحاح أغلب فلاسفة عصر الأنوار على ارتباط الظاهرة المدنية بمبدأ الملكية الفردية، الذي كان يدافع عنه في نفس الفترة تقريبا، المنظرون الأوائل للاقتصاد الليبرالي، والبورجوازية الصاعدة، خاصة آدم سميث في كتابه بحث في أسباب ثروات الأمم. وهذا يعني أن المجتمع المدني، كممارسة يومية، وكخيار اجتماعي ورهان سياسي، ضد الدولة الشمولية، الدولة الراعية والموجهة لفعاليات البشر. كما يعني أن دور القطاع الخاص المنظم والقوي، كحام فعلي لهذا المجتمع، دور حاسم وأساسي.
وثاني هذه الدروس، هو المنظور الاستثنائي الذي عبر عنه هوبز، بكيفية ميزته عن باقي فلاسفة عصر الأنوار ففي التحليل الأخير الذي تبناه، يمكن القول إنه طابق في النهاية بين الدولة والمجتمع المدني. بحيث يستحيل الفصل بينهما وهذا ما يقلل من إسهامه في بلورة الحقل الخاص بهذا المفهوم أما الدرس الثالث، فهو اغتناء المعجم السياسي، بمفاهيم حديثة، لم يطرأ على استعمالها أي تغيير جوهري يذكر إلى الآن، كمفهوم المواطن في الصياغة الإسبينوزية له، وكمفهوم الديموقراطية وحقوق الإنسان، والسيادة والإرادة العامة والحقوق المدنية، والاجتماع المدني…الخ.
يمكن إذن، أن نلخص إسهام نظرية التعاقد الاجتماعي في التأسيس لمفهوم المجتمع المدني، في ذلك التركيز على ثلاثة حدود أو قيم كبرى، حولت بكيفية جذرية آفاق التفكير في مسألة السلطة وفي السياسة، وفي أنظمة الحكم التي تبنتها الدول الأوروبية. هذه القيم هي:
ـ قيمة الفرد المواطن: وهي قيمة عليا مطلقة، لأن حقوق الفرد في الفلسفة والمنظور التعاقدي حقوق مقدسة، خاصة حق الحياة وحرمة الجسد والملكية، وحرية التفكير.
ـ قيمة المجتمع المتضامن: المتميز بقدرة أفراده على الالتزام بالمقتضيات الأخلاقية والقانونية الضرورية لتأسيس الجماعة المدنية.
ـ قيمة الدولة ذات السيادة: وهي سيادة لا يتم بلوغها إلا إذا اعترف المجتمع بها، واعتبر السلط والحقوق الناتجة عنها حقوقا مشروعة مقبولة.13
إن توفق نظرية التعاقد مع فلاسفتها الثلاثة الكبار في رسم المعالم الأساسية لمفهوم المجتمع المدني، سيكون له الأثرالعميق فيما بعد في تحول بعض المفكرين للانشغال كلية بقضايا المجتمع المدني وحقوق الإنسان. بحيث سيظهر في إسكتلندا مثلا، سنة 1767 كتاب مقال في تاريخ المجتمع المدني لآدم فريجسون تتلخص أطروحته الرئيسية في اعتقاد صاحبه بأن كل المجتمعات البشرية مرت بمسار حضاري طبيعي، يتجلى في ذلك الانتقال التدريجي من الأشكال الخشنة للحياة الوحشية البربرية إلى مجتمع متحضر متمدن أهم علامات تحضره، انتشار المبادلات التجارية، وتطبيق مبدأ تقسيم العمل، وظهور التكثلات الصناعية الحرفية واليدوية… كما سيظهر في نفس السياق، كتاب توماس بين حقوق الإنسان Rights of Man سنة 1791، حاملا لدعوة تقليص هيمنة الدولة لصالح المجتمع المدني، الذي يحب أن يدير بنفسه شؤونه الذاتية. مدافعا في نفس الوقت، عن مبدأ حكومة بسيطة غير مكلفة، ولا تقتضي فرض ضرائب كثيرة، تصبح فيما بعد سببا في تفجير ثورات وحروب غير مجدية.
إلا أن المثير للانتباه حقا في هذا الصدد، هو أن كل المجهود التنظيري الضخم الذي بذله فلاسفة عصر الأنوار، لن يجد له صدى في التفكير السياسي الهيجلي والماركسي، خاصة ما يتعلق منه بفرضية المجتمع المدني. ففي كتاب مبادئ فلسفة الحق، سيعتبر هيجل أن مفهوم المجتمع المدني في صياغته التعاقدية قاصر على تحقيق أمن الأفراد وعلى حماية مصالحهم الخاصة، فضلا عن المصالح العامة للدولة. ولعل السبب في ذلك يرجع حسب هيجل إلى ما تتميز به مكونات هذا المجتمع من تمزق شديد، وتناقض في المصالح المادية والطبقية، وتصارع في الرؤى والغايات. بحيث يستحيل الوصول إلى استقرار سياسي ضروري لتحقيق التقدم والتطور الحضاري اعتمادا على هذا المجتمع. لذلك سيميل هيجل إلى تفضيل الدولة على المجتمع المدني، بل وسيذهب إلى تبني مفهوم خاص لها، بموجبه ستمثل ذلك الجوهر والأصل، وذلك المنبع والمصدر الذي يكاد يتحكم تحكما شموليا في جميع الفعاليات الإنسانية، سواء كانت اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية، بل وحتى ثقافية.14 ..هناك من يفسر هذا الميل الهيجلي بالسياق الخاص بهذا الفيلسوف الذي كان منشغلا بالبحث عن دولة قوية قادرة على تجاوز التأخر التاريخي والهوة الفاصلة بين الدولة الألمانية ومثيلاتها من الدول الأوروبية، التي كانت قد أنجزت ثوراتها الأولى، خاصة في فرنسا وإنجلترا ولكن هذا الاعتراض لا يمنع مع ذلك من ملاحظة وتسجيل التصور السلبي والنظرة المتعالية التي استقبل بها مفهوم المجتمع المدني في الفلسفة السياسية الهيجلية.
على أن هذه النظرة لا تعني التهميش الكلي والرفض المطلق للمفهوم فمن المعروف أن هيجل جعل المؤسسات المدنية تحتل موقعا وسطا بين مؤسسة العائلة من جهة أولى، ومؤسسة الدولة من جهة ثانية تتركز وظيفتها الرئيسية في الإنتاج الاقتصادي وإشباع الحاجيات المادية وتبادل الخيرات والمنافع على أن تتحمل ذلك طبقة بورجوازية صاعدة، يجب تشجيعها باستمرار ولم يفت هيجل أن يلاحظ ما يمكن أن ينتج عن هذا التوجه الليبرالي من آثار سلبية، كإنتاج التراتبيات الطبقية، والتهميش الاجتماعي والفقر. لذلك سيلح على دور الدولة في مراقبة وضبط جموح المجتمع المدني، في نفس الوقت الذي يجب عليها أن تساعد على خلق تكثلات واتحادات وطوائف تعمل دائما على مقاومة هذه النتائج السلبية، وذلك بتقديمها لخدمات اجتماعية في مجال التعليم والصحة والعمل. بحيث نعود هكذا إلى أطروحة الدولة المطلقة،
الدولة المثل الأعلى، ذلك الثابت الروحي والعقلاني، الراعي للنظام والانسجام، والمحافظ عليه.


- المجتمع المدني في الفلسفة السياسية الماركسية.

أما بالنسبة لماركس، فقد استعمل هذا المفهوم لأول مرة سنة 1843 في مؤلفات الشباب، وذلك بمعنى قريب من المعنى الذي استعمله به هيجل. وذلك راجع لتأثر ماركس الشديد في هذه الفترة بهذا الفيلسوف. على أن الموقع الأخير لهذا المفهوم في المنظور الماركسي الناضج، لن يتحدد إلا بعد تمكن ماركس من بناء نسقه النظري بكيفية تامة مع كتاب رأس المال. ففي هذا الكتاب، وفي ذلك التمييز الكلاسيكي بين البنية التحتية والبنية الفوقية، سيعتبر المجتمع المدني مكونا أساسيا من مكونات البنية الأولى، وذلك لأنه يمثل القاعدة المادية للدولة خاصة على المستوى الاقتصادي والإنتاجي. ومن ثمة فدوره حاسم في تحديد طبيعة البنية الثانية بما فيها من نظم وحضارة ومعتقدات وأنظمة حكم هذا فضلا على أنه يمثل إحدى أهم مستويات وتمظهرات الصراع الطبقي الذي تحدث عنه ماركس طويلا، وذلك بسبب التناقضات التي تميز المصالح المادية لمكونات هذا المجتمع عادة.
إن الشائع بالنسبة للدراسات والأبحاث التي حاولت تقييم الإسهام الماركسي بخصوص فرضية المجتمع المدني، هو التركيز على ضعف هذا الإسهام وتواضعه. ولعل هذا الحكم صحيح إلى حد ما، إذا ما استحضرنا الآفاق الفكرية والإشكالات الفلسفية والسياسية التي كانت توجه التفكير الماركسي. ففكرة المجتمع المدني، في نهاية الأمر، فكرة تطورت في حضن الفلسفة السياسية الليبرالية. وماركس نفسه فضل استعمال مفاهيم أخرى، ارتأى أنها أقدر على تحليل المجتمع وفهم آليات ومنطق اشتغالهغير أن هذا التوجه لم يمنع مع ذلك مفكرين آخرين تبنوا التحليل الماركسي جملة وتفصيلا من إعادة الاعتبار لهذا المفهوم، بل ومن إعطائه أبعادا جديدة ودلالات مغايرة. وهذا بالضبط ما سيقوم به الفيلسوف والمفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي، ابتداءا من سنة 1920.15
لقد تصدى ماركس لمُنَظِّري الإصلاح الاجتماعي(*) في عصره، "الذين نظروا الى الجماهير الأوروبية البائسة والمعدمة بصفتها موضوع الإصلاح والتغيير الذي سيتم لمصلحتها ولكنه لن يأتي أو يتم على يدها أو بفعلها، إن هذه الجماهير، موضوع الإصلاح والمستفيد منه، ولكنها ليست الذات الصانعة للثورة أو التغيير، لقد رفض ماركس هذه الصيغة الفوقية، وتجاوزها جدليا الى ما هو أرقى، أي الى تأكيده المعروف بأن المهمة الإصلاحية والثورية إياها غير قابلة للإنجاز إلا على يد أصحابها الذين سيحولون أنفسهم ووعيهم ومجتمعهم (المدني) من خلال الصراع الطبقي

إن وضوح هذه الرؤية "استند في الواقع الى المفاهيم العلمية الاستراتيجية الجديدة التي أشاد عليها ماركس المادية التاريخية، ومن أهمها"
1- "مفهوم البنية الفوقية، الذي تطور عند ماركس وتبلور نتيجة النقد الراديكالي الذي وجهه ماركس الى ظواهر مثل الدين والحق والفكر والثقافة والدولة.. الخ وبخاصة الى الفلسفة السائدة وقتها في ألمانيا التي كانت ترجع تلك الظواهر الى مصادر إلهية أو روحية متعالية".
2- "مفهوم قوى الإنتاج، وهو أهم أداة معرفية-علمية حاسمة قدمها ماركس الى علوم الأفعال، وقد استخدم هذا المفهوم الجديد، كأساس علمي لنقد سجالي شديد ومدمر وجهه الى تلك النظريات والفلسفات السائدة يومها، القائلة بأن الحياة الاجتماعية بمؤسساتها هي نتاج لروح تاريخية معينة أو لقيم ثقافية أو تأملات ميتافيزيقية مثالية شائعة بكثرة في تلك الأيام في ألمانيا (وهي ما زالت شائعة -وفاعلة- في بلادنا ونحن في القرن الحادي والعشرين!!؟)
إن ماركس بتقديمه لفكرته عن قوى الإنتاج، ومضامينها، أكد أن الحياة الاجتماعية بمجمل تجلياتها وظواهرها، لا تتكون في الأساس عشوائيا أو تتشكل روحيا، أو تتطور ذاتيا وإراديا، بل ترتكز الى قاعدة موضوعية محددة ومتحركة يلخصها نوع معين من قوى الإنتاج المادية".

3- "مفهوم علمي استراتيجي آخر قدمه ماركس، هو مفهوم علاقات الإنتاج، وقد نشأ هذا المفهوم نتيجة استيعاب ماركس ونقده وتجاوزه لفكرة المجتمع المدني التي استخدمها هيجل، فقد أحل ماركس مفهومه العلمي الجدي، ليس محل فكرة المجتمع المدني فحسب، بل محل فكرة "العلاقات الاجتماعية" أيضا، وعبر النقد المستمر، تجاوز ماركس مفاهيم مثل "المجتمع المدني" و"العلاقات الاجتماعية" و"علاقات التبادل الاقتصادي" لصالح مفهوم علاقات الإنتاج. كذلك تجاوز ماركس عبر مفهومه الجديد، أفكارا شائعة ومتداولة حول خصائص المجتمع المدني وتفسير نشأته"16

"لقد تجاوز ماركس نقدياً النظرية الأقوى يومها التي ردت المجتمع المدني الى" ميل الإنسان الطبيعي الى المقايضة والمبادلة والتجارة على حد قول "آدم سميث"، وبذلك أصبح مفهوم علاقات الإنتاج (الرأسمالية) تأكيدا للمنشأ التاريخي "للمجتمع المدني"، الى جانب الدور الحاسم لقوى الإنتاج في تحديد طبيعته وخصائصه المميزة، يتجلى ذلك في قيام ماركس، بإعادة زرع رأس المال ذاته في بنية علاقات الإنتاج الاجتماعية-التاريخية، بحيث لا تتميز به إلا تشكيلة اقتصادية تاريخية معينة ومحددة لا أكثر -المجتمع البرجوازي أو التشكيلة الرأسمالية- وبذلك تتكشف -عند ماركس- حقيقة رأس المال كمركز لبنية من علاقات الإنتاج الرأسمالية، التي يرى بحق، أنها تشكل في الوقت ذاته علاقات إنتاج استغلالية أيضا، كما يبين -من ناحية ثانية- أن "الذات الاقتصادية" البرجوازية قد بنيت تاريخياً وصُنعت مرحلياً، ولم تكن دوماً
موجودة أو مهيمنة(*).17

المراجع المعتمدة :
1-محمد الغيلاني، محنة المجتمع المدني، مفارقات الوظيفة ورهانات الاستقلالية، دفاتر وجهة نظر، رقم (6)، ط1، 2005 مطبعة النجاح الجديدة بالدار البيضاء، ص: 5 و6.
2- لمرجع السابق، ص: 49
3-محمد شخمان، جريدة الصحيفة، 26 فبراير-4 مارس 1999، ص:12.
4-أنظر عبد الغفار شكر، المجتمع الأهلي ودوره في بناء الديموقراطية، سلسلة حوارات لقرن جديد، دار الفكر، ط:1 دمشق 2003، ص:176.
5-عبدالغفار شكر، نشأة وتطور المجتمع المدني، (http://www.pyd.be/pyd/arabic
6-لحبيب الجنحاني، المجتمع المدني وأبعاده الفكرية، سلسلة حوارات لقرن جديد، دار الفكر، ط: 1، دمشق 2003، ص 18.
7- مصطفى أعراب ومحمد الهلالي، ماهو المجتمع المدني، ط 1، الرباط 1999، ص 5.
Glossaire-société civile, (http//www.wolton.cnrs.fr/glossaire/fr
8-ناجح شاهين، المجتمع المدني والديموقراطية، شبكة الأنترنيت للإعلام العربي
9-عبد الغفار شكر، المجتمع الأهلي ودوره في بناء الديموقراطية، مرجع سابق، ص:37.
10-جميل هلال،حول اشكاليات مفهوم المجتمع المدني،ندوة المجتمع المدني ،بيروت 2004،ص.15.
11-جميل هلال،مرجع سابق.
12-المرجع نفسه.
13-المرجع نفسه.
14-المرجع نفسه.
15-علي الدين هلال.مرجع سابق.
(*) يقابلهم في بلادنا دعاة اللبرالية وحقوق الإنسان في إطار المنظمات غير الحكومية.
16-د.صادق جلال العظم-دفاعا عن المادية والتاريخ-دار الفكر الجديد-بيروت-1990-ص131

(*) وهنا تتجلى بوضوح مقولة أن المجتمع المدني هو وليد المجتمع البرجوازي، وهو أيضا أحد شكليه الأساسيين في إطار ثنائية: الدولة-المجتمع المدني، وليس له أي وجود سابق على التشكيلة الرأسمالية كما يزعم البعض من مثقفينا.
17-غازي الصوراني:"تطور مفهوم المجتمع المدني،"6-11-2011.

آمال وشنان*: باحثة مهتمة بالدراسات الدولية، دراسات الطاقة والموارد والنزاعات الدولية، دراسات عليا/تخصص دراسات إفريقية قسم العلوم السياسية والعلاقات الدولية بجامعة الجزائر 3.



#آمال_وشنان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- أحد قاطنيه خرج زحفًا بين الحطام.. شاهد ما حدث لمنزل انفجر بع ...
- فيديو يظهر لحظة الاصطدام المميتة في الجو بين مروحيتين بتدريب ...
- بسبب محتوى منصة -إكس-.. رئيس وزراء أستراليا لإيلون ماسك: ملي ...
- شاهد: مواطنون ينجحون بمساعدة رجل حاصرته النيران داخل سيارته ...
- علماء: الحرارة تتفاقم في أوروبا لدرجة أن جسم الإنسان لا يستط ...
- -تيك توك- تلوح باللجوء إلى القانون ضد الحكومة الأمريكية
- -ملياردير متعجرف-.. حرب كلامية بين رئيس وزراء أستراليا وماسك ...
- روسيا تخطط لإطلاق مجموعة أقمار جديدة للأرصاد الجوية
- -نتائج مثيرة للقلق-.. دراسة تكشف عن خطر يسمم مدينة بيروت
- الجيش الإسرائيلي يعلن استهداف أهداف لحزب الله في جنوب لبنان ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - آمال وشنان - المجتمع المدني في الفلسفة السياسية الغربية