أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جعفر كمال - عبدالله صخي يُدوَّن تداعيات -خلف السدة- بمعايشة -دروب الفقدان-















المزيد.....



عبدالله صخي يُدوَّن تداعيات -خلف السدة- بمعايشة -دروب الفقدان-


جعفر كمال
شاعر وقاص وناقد

(تôôèô‏ ؤôéôم)


الحوار المتمدن-العدد: 4446 - 2014 / 5 / 7 - 14:02
المحور: الادب والفن
    


تقدمة في رصد التقنية التحولية:
يجب أن أشير هنا إلى أنني احاكي قيمة مديات جاذبية الاتصال، بما يوازي المزج بين طباع الجزئين بالتناظر، وأشْبِعُ استنباط جرأة العرض وفّرَةً من ميزاني النقدي حيادية تامة، واستحصل من هاتين الروايتين هل يتأدى من ذلك المزاج توافق الغرائز والمصائر في ثنائية التثبيت، ببنية تفرز الاتفاق والميل في التمازج والتباين؟ وهل ذلك معمول به في المجاورة المركبة على أساس الصنف المعبر عن بنيته المتحدة؟ حيث أراد صخي أن يحققها بأسلوبية التأثيث المكاني، لكي يقدم تصانيف محاكاته بأسلوبية تداعيات السفر الجدلي المؤرخ، بمساق متواتر يفضي إلى جعل طرف الضد يساقي طرفه الآخر، بما يتفق جوهرياً مع تناص المحاصصة بين الحالتين في التشاور الزمكاني، لتكون المجانسة مدعاة اِنْسِجام لِمكوّن حصيلة إعادة المكيفات المحمولة على التثوير المبرّز، بواسطة العقدة التي يفترض أن لا تكون مضطربة. من أجل تحصيل إثارة الأنجذاب الغريزي في المنشدين، لِلَذَةٍ تكشفُ عن النافض المباح لاشتقاق المساق التحولي، بواقعية الانطباع التخصصي بمظهرية تلوح للفهم الملائم بما نسميه المَاهِيَّة، بواسطة اللزوم الذهني المتحقق من اللغة المحادثة. وهذا ما يجعلني أقتفي مهارة تَصنيف معايشة الجزئين، وأغرفُ من جعبة محاكاة الرائي مدى اشتراكهما تمثيلا من ذات المضمون المقارن بطبعه، هل تَرَقّى الكاتب بالمعاينة تراءيه إلى ما بعد الحداثة في تاريخية سرديتها؟ بتمثيل ثقافي يحكم رؤيته ونسقه الفكري الملزم تجريد ذاتيته العقلانية.
يعتبر التمهيد النفسي المعبر عن السرد الثنائي بين الرواية الأولى "خلف السدة" وهي الأقرب إلى نفسي، خاصة في عفويتها المتشائلة بتماهي شذرات التوليف بين شخصية المثقف الراديكالية، وبين الروح السوداوية التي اِمْتَزَجَ بها الحزن عند أهل السدة. وفي الرواية المتممة "دروب الفقدان"، اختلفت طبيعة صياغة الشكل، في حين أبقت على المضمونية الإيديولوجية التقليدية لسلطة المؤثرات على مستوى التمثيل والأسلوب والمدعاة الذاتية، وهي مرجعية تتناص مع الرواية التاريخية بشكل عام، وهنا أشير إلى أن بورخيس حدد مستوى المنظور التناصي بين الرواية ما قبل الحداثة، والرواية ما بعد الحداثة قائلاً: "سعت الرواية الما بعد حداثية أن تنفتح على مساقات القص التاريخي، مع أن الرواية القديمة أكثر إسهاباً، لأنها مبنية على حقائق تخيلية مزيفة*". ونجد في المعالجة التي اشْتَغَلَ عليها بورخيس مقارنة التوظيف التأريخي بواقع الحاضر، وهي محاسنة شرط القيمة التحولية المعمول بها في عقلانية العبقرية عند تولستوي.
وبسبب اِختلاف العنوان بين الروايتين اللتين امتلكتا رأسين على جسد واحد، ارتبكت الحبكة لما هو مضمر في التراكيب والبناءات والغايات، مع أن صخي أعطى الحالتين تمايزاً في طبيعة المجانسة النفسية، بواسطة تجسيد التشذيب في الخطاب النظري، وبرهانه التطبيقي، مع إنه كان من المفترض أن تسمى الرواية الثانية باسمها الأول، ويشار على إنها: "الجزء الثاني" حتى يكون المكان إسْتَمْزَجَ شأنه من العنوان الأول، مع الحرص على غايته المتبدلة كونها الأقرب عهداً، حتى لا يكون التوظيف إلْتبَس في فنيته المفترض أن يتفاعل بها كلا الجزئين، في حين يفترض أن يتشاغل التفكير بالطرق الممكن أن يسير بها تطور التجانس العضوي بين المنشدين، كون الرواية الثانية أو الجزء الثاني يتصل به السياق السردي بالمضمون ذاته، لماذا؟
لأنه بُنِيَ على أساس ذات الجماعة، ولا خلاف إذا تغير المكان، وفي هذا نفسر:
المنشد* الأول كان أدَقَّ تنظيماً وحبكة وانسجاماً من المنشد* الثاني، الذي أراد له صخي أن يكون وسائطياً، يضئ محاميل السرد عبر تداعيات الممكن الانطباعي، إلاَّ أنَّ القاعدة السردية للأحداث جُعِلَتْ من شكلها لا يتعايش بما يمكن أن نسميه ترابط تداعيات السابق باللاحق، بتحصيل تَمَّ بمقتضاه وضع العنوان لإنتاج معنىً يؤرخُ الأحداث بسياقاتها، كما فعل طه حسين في "الأيام" باجزائها الثلاثة، كذلك فعل الروائي الفرنسي مارسيل بروست "Marcel Proust" في روايته "البحث عن الزمن المفقود" وهي سبعة أجزاء. كما فعل الروائي الإسباني ميغيل دي ثيربانتس "Miguel de Cervantes" وهي "دون كيخوطي" الذي نشر روايته بجزئين، خاصة وأن المكان والأسماء والعادات والنظام السياسي كان متغيّراً في سياق المباني، لكن الحبكة ربطت أسلوبية الأحداث ببعضها، لذا وجب التنظيم في وحدة الأداة المُتَوَازِيَة التي تتحكم في كل ما يجمعها من عناصر تحرض وسائل العقدة ببنية سردية تتحد وتتباين، والمعروف الشائع في فلسفة الحبكة التي تصنع السرد الروائي أن يتحكم بالنهاية في معالجة ما يسبقها من سير الأحداث، سواء أشاعت تركيب الحبكة النمطية النفسية، أو ما يعتنى ب"الحبكة المركبة" على اعتبار وحدة الموضوع، الذي يجب أن يُبَيّنْ لنا تحقيق مسار بيان اللغة المستخدمة في الجزئين من أول الحكاية حتى آخرها، لتكون معطيات التوليف قد أنجزت بعين فنية واحدة، ذات كفاءة تتحد بها الصيّغ والأداة التعبيرية.
ولأنه ومن خلال المقايسة في شكلية السرد تَسَنَّى لنا أن نقرأ ارتباط الزوايا الفنية بناظم متعدٍ نسميه الواسطة، وذا يجعلنا نلتمس وظيفة كل بنية تمارس أسلوبيتها بخاصيتها، حيث يذكرنا بالأرسطية التي تحكم على أن: "قضية تطهير البنية الفنية محسوبة بتمام بعضها البعض، وفصل النواقص منها.*" وهذا ما لم يتفق عند صخي في العرج الذي ينظم بنيوية الوحدات لإيضاح القاعدة بتمام متوازيها، مع أن القياسات يجب أن تأخذ الذروة التصاعدية عبر خصوصية التباعث الأوكسيجينيي في الجسد الواحد، كي تخلق اِتّحاد الصراع المتمم الراد على المنشد الأول، في معالجة الأحداث في المنشد الثاني، لتكون التجليّات القصية واضحة، دون بعثرة في الانتقال القاطع بين مدخل سردي وآخر، تلك التي أسماها صخي ب"المدورات" وهي ليس كذلك، لأنَّ المدور السردي يتحد مساقه مع ما يوالف قبله من روابط الاسْتِطراد المتوازي في المضمون وتسامي الشكل بمساقاته.
وللتوضيح أكثر نوردها كما أتَيْتُها في نقوداتي الصوتية في: الشعر، والقصة القصيرة، والرواية، والتشكيل، وذلك باختلاف تحصيل طبيعة الجنس الفني، فالمدورات هي:
1- البنية المعنوية في الوحدات الصغيرة.
2- بنية تماسك وترابط المحاكاة الحسية.
3- بنية تلاقح الصَّيّغْ بمؤِثّرِ نواقل الأحداث.
في كل هذه المُتَحِدات تتشكل بنية التداخل المعنوي في ميزان الوحدة الكبيرة "الرواية"، التي تؤكد التبليغ الشكلي للتمثيل الذي يوحي إلى:
أولا: ملامسة ركائز التوزيع الوظيفي.
ثانياً: ترتيب صعود الأحداث بواسطة سياقاتها.
ثالثاً: جواب العقدة عندما تتواجد في المناطق التواترية.
فنعلم إذا وقع حدث ما نتصور بما سينتج من تصورات ومرايا تعبر عن بعدها التشويقي الآخر من باعث مدوراتها، لأن البنيوية التحولية تجعل من السياق يكثف حالة الاختصار الموضوعي، وليس كما أكد كايسر: حول انعدام الشكل الروائي في الرواية الحديثة. أمّا أنا فأرى العكس من ذلك، هناك ممن حققوا المهاتفة بين الشكل والمضمون مثل: غائب طعمة فرمان، والشاعرة الروائية الفلسطينية مايا أبو الحيّات، ومارغريت أتوود، وسميرة المانع، وكمال السيد. خاصة في روايته "زينب". وآخرين كثر، حيث حملت أعمال هؤلاء احتدام الذكاء في المتخيل النوعي، بتضامنه مع ترتيب الحكاية، خاصة بعد إزالة التفاصيل المملة من مضمونها، وبهذا يذكرنا آرثر سي كلارك بقوله أن: "الطريقة الوحيدة لاكتشاف حدود الممكن هي تخطي هذه الحدود قليلاً إلى المستحيل.*" وهذ يقودنا إلى القراءة التالية:
إنَّ بمجرد أن يفلت سياق النص إلى اتجاه مغاير خارج ترتيب الأفكار الفاحصة للمفاهيم، تأخذ معالجة الوحدة الداخلية بتفكك معالمها وخواصها وترابطها المنشأ من امتزاج عناصر الحكاية. لأن هذا التماشي يجزئ غايات الرؤية الفنية، في عدم تلاحم الخيط الناظم لوحدات سرد تفاعل الأحداث بصفات شخصياتها، مما لا يُحًسن مزاج إيقاع كل شخصية باستقلالية تطورات الصراع في مفهومها. مع أن الشخوص اِمْتَازُوا بالشخصية المركبة ضمن المفهوم الانتقالي للحكاية. ولو تفحصنا أقوال ديكارت وهو يطرح مفاهيمه التي تعالج ترتيب الأفكار نجد فيها: "المضي بافكاره بالترتيب بدءاً من أبسط المواضيع وأيسرها معرفة، للوصول شيئا فشيئا كما لو كان ذلك على درجات، إلى معرفة أكثرها تركيباً مع افتراض الترتيب، حتى يبيّن تلك التي لا يسبق بعضها بعضاً بشكل طبيعي"*. من كل هذا يمكن أن نستنتج أن النص الروائي يمكن أن يعالج على أوجه مختلفة بقراءات ثلاثة:
1- في القراءة الأولى: محاولة القارئ من خلال ملكة إنجاز نشاطه الفكري، أن يفحص كل خطوة في مسيرة الأحداث المستنبطة من مغايرتها الذاتية، بدءا من جمع الزوايا التي تتحكم بوحدة الحكاية، وتشكيلها على أساس إحالات الحبكة التفاعلية. ومن ثم الحرص على ترتيب الأفكار بالمباينة التصويرية، من لدن رؤيته الناظمة لوظائف النسق، لكي تجعلنا نحس بكل نبضة تتفاعل بنظامها الخاص. وهذه القراءة نسميها بالبداية الفاحصة.
2- في القراءة الثانية: بعد أن يتفاعل القارئ جيداً مع مسيرة الأحداث، والمفاهيم المعدة التي يمكن أن تكشف عن طبيعة مجتمع انهكه الفقر والجهل، يجعلنا نسوق الأحداث كما لو أذن لنا أن نتحكم ببناء أفكارنا، خاصة إذا كان ملمس الراوي يعالج استنباط الأحداث بنظام يقدرها ويزنها هو، من واعز وحدة حيوات الفرد المعني بإرساء الهجين الجيني. وهذه نسميها بالقراءة المحتملة.
وثالثا: محاولة الكشف عن مباينة التحديث في الوحدة المشتركة بين الشكل والمضمون، وصولاً إلى إشراك اعتبارات الرغبة في إعادة محاصلة تثوير الأحداث في تنقل المكان، ودليل القارئ الكاشف أو الناظر هو التحاكي مع التقنية الذكية في معالجة نظام العلامات "الفنية، واللغوية" أن تعاشر الأدوات التي تقفوها قيمتها النوعية، كي تتلاءم مجساتها التوليدية بالتوافق مع دراسة القضايا المتأتية لترتيب أسلوبية منهج المقابلة المعبرة عن معرفة أكثرها احتسابا في وحدات البنية، بدراية علمية تهتم باختلاف الشخصية الروائية، واستنباط مؤثراتها الصوتية والحسية على مسيرة الأحداث، وهذه نسميها بالقراءة: المقنعة.
السفر في المكان المتحول:
ونحن نتقرى مسار التحول الإبداعي عند صخي وهو يحقق منجزاً في الكَيْف الروائي، نشير هنا إلى ولادة تلاقح الثنائية التَّقْرِيبيَة في موازنة الإثبات والتَّكَاثُف بين شاعرية القصة القصيرةِ، وبين معالجات الإجماع المركب في المُحَسْن السردي في سياق الرواية. ومن خلال مخاض هذا التجوال العيني نجده قد أشْبَعَ الأجناس المُختَلِفة الطبائع بمثالية الاستِصحاب، حيث جاءت نظرته للأحداث مبنية بواسطة الطقوس المجتمعية والثقافية المختلفة في عاداتها. الأختلاف الذي مَثَلَ جزءاً مهماً في سياق الطبيعة البشرية في الأحداث البدائية، التي اختصت بعادات الوافدين إلى بغداد. حيث استولد تنسيقَ المزايا المزدحمة بنواياها وطبائعها من جذورها الأولى. وفي هذه المعاينة نجده قد ربط الحبكة ربطاً جدلياً كما هو الحال في مفهوم التعشق الذاتي، وإن أختل عنده التّوليد باعتماده الموصوف سبباً للأطالة، فتعدى إلى الجانب السلبي في تحليل الخطاب كما فعل "ميشيل فوكو". والحقيقة تقول أن الشرح المطول للعناصر المكونة للبنية الفنية أنتهى مع زمن نجيب محفوظ. لأن الحياة مادية تتسم بالتغيير. يقول أنطوني دانجيلو: "لا تخف من التغيير، بل اِعتنقه". فزمننا هو زمن الاختصار التداولي للمفاهيمية المتحركة في سياقات ودفعات استنباطية، تحرك النوايا باتجاه تحقيق غاياتها المتأثرة بالواقع المتحول، لأنه لابد للروائي أن يتفاعل مع ما لديه من الخزين التنويري، لكي يجعله متناصاً مع حاصل التّوجِيه المختلف.
فمن بوابات يتساوى فيها المكان المعنوي جاء عنوان الرواية الأولى "خلف السدة" معبراً عن فرح التوطين، مع اختلاف طبيعة الهجرات منذ القدم وحتى حاضرنا، وحاصله الارتباط العيني بالنظام المجتمعي العراقي المعاصر، ومن خلال توليدية الأختلاف نجده قد حقق ذائقة روائية تحتفي بالمشاعر الإنسانية، مع الإشارة الفاحصة إلى تبيان أسباب تلك الهجرة ودوافعها، ومن ثم عبر عن جدلية القوانين التي من المفترض أن تحكم البشر بالعدل والمساواة، بأسلوبية تبناها فقدمها على أساس تتميم التّوْرِيَة وبعدها الفلسفي للدلالة من جهة نقدية. بمعنى أن هؤلاء النازحين إلى بغداد بينهم وبين أهل بغداد الأصليين سدة أي حاجز، وقصد صخي معالجة توظيف المكان بالاتجاه المجازي بتماهي حساب المعنى، انطلاقاً من استدعاء صيرورة التأويل أن تحاكي الرموز المشكلة لبنيان القصد، لسبب يتوصل إلى مدخل الذات المتحررة. والقرآن يقول: "وتلك حدود الله فلا تعتدوها. - البقرة ص229" إنما المقصود في ما يعنيه صخي هو إنه رسخ قدرته لكي يرسم القول: لا تتجاوزوا ما هو مرسوم لكم، مع أن المكان واقع، ولذا جاء التوظيف يكشف عن الواقعية المحطمة، كما فعل فرويد بفحوصات الأسلوب الفني حيث يقول: " أن الأسلوب الفني الذي سوف أعرضه يختلف اختلافاً جوهريا عن أسلوب القدامى*" ويقصد بالقدامى جيل ابن سيرين، وابن رشد. كذلك فعل طاغور في ازاحات امتداد المعنى باعتماده على الحواس الإبداعية وانفعالاتها. ولذا فالتواصل مع الجزئية الثانية "دروب الفقدان" حقق للروائي انحساراً كونه أهتم بمعالجات الموصوف، ولكنه وفي الوقت ذاته أكتمل التعريض بالارسال، والإنشاد، والتظهير، وأجمعها بتأويل التشكيك بالتقدم والتأخر.
ومتابعة لهذه المقدمة أود أن أوضح أمراً، أن الكاتب في جزئي الرواية وضع الأحداث في متابعة البدء المكاني، مورداً لما يحضره حسب تصرف المبادئ الإنسانية بريادتها، وقد يكون الداعي هو توضيح تاريخ مرحلة مهمة لطبقة الكادحين الذين ينشدون تغيير أوضاعهم المجتمعية، وغفله الكثير من الكتاب لتناول مثل هكذا أعمال، ولذلك نقول أن صخي وجد الحوافز قوية لهذا الإنشاد التأريخي، حين مال إلى رصد واقع شهد مأساة عظيمة، كان قد تحطم الإنسان على صخرتها، فنجده قد وسم عمله الكبير هذا بالمحركات التأريخية، وجعله يقتصر على واقعيته المعاينة، مضيفاً إليها معالجة المفاهيم المتقابلة بين الموروث والمعاصرة وتعريف ميزاتها، ومن أجل هذا أجدني أقارن بين أسلوبي الروايتين، لأحصل على صلة في طبائع الحوار الممكنة، سواء تحددت في الجسم الكلي من الأشكال، أو في أصل الصورة الدالة على ظاهرة جوهر الغاية، ونقول هي حصيلة وقعت ضمن المبصر المكشوف، على المساحة التي تتشكل على واقعها الأحداث، على جهة قيام الفاعل أن يحرض التحليل النقدي على القصد والإرادة، شريطة أن تبين اتجاهات الحوار المُنَقِبَةِ عن سرائر الحالتين، المعبرة عن الضمائر في شكلها وبواطنها، ونقصد تباني الملاءمة في تجذير العلاقة الصوتية بالصورة الحياتية.
معالجة إِشْكاليَّة الفَصْل:
استمراراً للتحول الحاصل في العنوان، نجد صخي قد وضع روايَتَيّهِ بجزئيها كمنظومة تحويلية بواسطة مبدأ مصير التوازن بين:
- الجنس يقابل العرض، يكون إجْرَاؤُهُ على نَمَطٍ واحدٍ في محاكاة مبغى الذات
والقصد دليل عطف مقاربة النص على ماهية المتلقي باختلاف ثقافته، للوصول بهما إلى بيان المحاصلة الإزاحية، عندما أهتم بتنقية صناعة المتوازي اللغوي المتعدي إلى سردية الأدب الواقعي، متخذاً من تهذيب الفصل منطلقاً لإحكام مفاهيم المبغى المُتواتِر في البنية الداخلية التي تحاكي المعاني المشروطة، بمعنى اعتماد اللغة الأدبية التي تمكنها الدلالات من إظهار ما هو ملحمي جمعي، وتبيان متقابلات مصير الأنا العاثرة بغربتها، مصوباً على ارتفاع نبرة السرد المفتوح، خاصة وإنه تناول مجتمعاً مقصوداً بالغربةِ والضياع.
إذن يبدأ الكاتب في عرض فك رموز أمثولية المكان، لتحقيق مقبولية الخطاب كونها تساعد على إبانة معرفة الحلول التي توضح طباق المعاني المركبة، ولهذا السبب خصص للاستعارة "المصطلح الشعبي الموروث" وجعل من الكناية والتضاد مساراً يسهل تجوالات تشريحية لأبراز فاعلية العلوم اللغوية في تحقيق سردية قابلة للقراءة. تتوافق مع السياقات المدركة للأحداث المتصلة باليقين، والظن والشك، والوهم، وتلك تصاريف تُنْشِأ إرادات وأحوال تعبر عن الحسي النفسي بالعوامل المنتجة للنشاط الفكري، وجعل الإدراك يكشف عن بنيته الداخلية التي تحرر إنعكاس النوايا العامة على الذاتوية التي ترسخ المجاهدة التبليغية. وهذا يجعل المبنى يترقى في أطواره بحاصل بعده عن اشكاليات الطباق. وقد عبر ابن خلدون في مقدمته في هذا النحو قائلاً: "إذا وقع تقصير في النتيجة أو خلل، فنعلم أنه إنما أتى من قبل التقصير في الذي قبله*". فليس لِمُحدِثٍ أحق بالتغيير من أحد، إلا إذا بدا عنده مُسَنَّم مباني علم شرائط الألفاظ، لتحقيق:
أولاً: حسن الاستواء.
وثانياً: وحدانية الاعتدال.
وثالثاً: جودة الصنعة.
ومما يؤيد كلامنا كلام علي بن أبي طالب وقوله: " لولا أن الكلام يعاد لنفد*".
ومن معطيات الانْفِراد في الجدل الحاصل الذي بينته هذه المعادلة، نجد صخي قد حقق تفوقه في الجزئية البيانية غير المعلنة، وتلك المعالم أنجزت توريثاً لرواية الهجرة المكانية، وهي توليدية أعطت للسلف السردي تناصاً أشد اختصاراً، وإن اخْتَلَ عنده التتميم في أماكن معينة أستمدت من طبيعة شيوع الحدث، لا سِيَّما وإنه أتخذ من الأدب الواقعي إنبعاثَ التجريد بأسلوبية المكننة الفاحصة، فتبناها من واقع هزات ذات طموح أراد منها أن توجز مصبات الفصل في العلم النحوي التقديري، أي معنوية الترابط العضوي في إنشاد النحويات اللغوية التقديرية، فجعلها تتسق مع ذاتية توازنها الإرادي، لتشكل "ثنائية" طموحة من الاستسقاء المولد للعلاقات المسيّرة للأحداث الكثيرة. وهي توليف إدراك المحادثة بالشك في الأحوال القائمة، في الخواطر النفسانية، والواردات القلبية، وقوله:
" جلست في فراشها تفكر بنجية شياع، أم نايف الساعدي، التي ستفقد ابنها بعد ساعات قليلة، ارتجف قلبها هلعاً عندما خطرت لها فكرة أن تفقد ابنها هي الأخرى" ص8.
هذه المعالجة المتقدمة على الحدث استمالت مدارك الغيب بمصاحبة الحس، لما سوف يحدث لنجية شياع بمقتضى أوضاعها وعيشها، إن أعدم ولدها. وهذه المحاصلة نسميها الظنون الحدسية، الرابط الذي يزاوج الحدث باليقين المكاني المتمثل بزمنيته المعلنة، لتكون الإشارات للذات المحطمة مرصدة أفعالها، بحساب ضياع تلازم الوحدات التي تعتمد التوليف الباطني في الوحدة الكبرى أي الحكاية، على اعتبار الثنائية التي توظف إرشاد القول التتباعي: التأسيس الذي يحقق مفهوم التبليغ من غايات الدلالة، لأن مهمة الكاتب تشذيب وحدات الكلام، وتجميع معانية من الطباع العامة، وتطوعيه للفهم لتكون المعاينة محتملة. ولأن الكاتب استفاد من تنوع المجموعات البشرية الوافدة إلى مدينة "الثورة" حيث استوطنوا، وهم مختلفون في الميول والاتجاهات الأجتماعية، والسياسية، والأثنية، والثقافية، لكنهم اجتمعوا على أساس شعورهم بالاضطهاد الواقع عليهم من قبل السلطات المحلية والرئاسية.
ولكي لا نتضاد في رأينا التحليلي نقول: أن هذه المقدرة المركبة لا يمكن إنكارها، بعد أن خصص الكاتب تقاطعات اختلاف فئات الوافدين حسب تصنيف أهالي العاصمة، فنعتوهم "بالشروكية"، أي أهالي الجنوب من الفلاحين، والكسبة وصغار الأقطاعيين، وبعض الشباب من المثقفين الثوريين، خاصة الشباب الذين حملوا الفكر المعرفي التنويري للتحرر، وهم الذين ساندوا ثورة الرابع عشر من تموز، ممن اندمجوا تحت مسمى سكنة "خلف السدة" ومن ثم انتقل بعضهم إلى مكان ملاصق لخلف السدة اسمه "الثورة داخل" وقد أتفق هؤلاء على بنية مجتمع متآخ تمثيلاً للمستوى الطبقي، حيث تجاوروا منفتحين على آفاق تمثلهم بعاداتهم وتقاليدهم، وبهذا ترك تراثهم الاجتماعي أثراً كبيراً على معتقداتهم، رغم الفوضى الحاصلة بين الأهالي من حيث اختلاف تطورات المكان، أو تخلف هؤلاء الجماعة عن ركب التطور النهضوي التمدني، بمعنى الفارق الطبقي بين أهل المدن، وممن نزحوا من الريف، حين أصبحت تلك المظاهر الخاصة أشبه بالتكتلات التي تعني صراعات الموروث القبلي، على أرض غير أرضها، ومناخ غير مناخها، وكما أراد صخي أن يجعل من الحاضر جزءاً من الذاكرة الجماعية، بحاصل أن يذوب فيها الماضي، نجده قد فَعَلَّ مقدرته الجاذبة ملاحقة مكونات الخطاب السردي، من صلب العلاقات التي تربط ضرورة استمرارية الزمن، فجاء بصراع يهدف إلى التّوظيف الدلالي بشكل مرضي، وهو أن يستبدل الصراع بدلاً من بين قبيلتين، إلى صراع القبائل مجتمعة مع الزمنية الجديدة، فيكون المكان المتجاور وكأنما تفرد بأسلوبيته الخاصة، بحوار مستوحى من سابقه في الجزء الأول من الرواية. ونقرأ ما جاء في قوله:
" كان الجمع يزداد كثافة وتقرباً مع مرور الوقت، إذ حرصت السلطات على تنفيذ عملية الشنق أمام أكبر عدد من سكان المدينة لتكريس هيئة الدولة وسلطتها، ولتذكيرهم أن من يتطاول على مؤسساتها الأمنية عقابه الموت، لهذا اختارت يوم الجمعة، الذي هو يوم العطلة الأسبوعية الوحيد آنذاك، كي يتمكن الجميع من الحضور. ص9"
وفي مكان آخر ملاصق من هذا المقطع، يعيد صخي وصف تجمع الناس، والمشنقة، والحبل، وتجمع الشرطة، والطبيب والخ، الذين يشكلون الفصيل المنفذ لعملية الشنق، وتلك إفاضة غير لازمة لتفويف الحبكة التي تلخص الوصفية، المفترضة لتكثيف الإيحاء وتوليد غاياته المعنوية، في فك رموز تَخَلقْ الأحداث وما يصاحبها من إشارات تفسر الانطباعات العامة عند الناس، ولكي لا تتشابك الأحداث وتدخل في بعضها البعض على هوى غير منظوم، يجب اختصار البنية السردية كي لا نبعد القارئ عن الاستمراية في مواصلة القراءة. إذن دعونا نقف على تقنية المقبوسات المقحمة، تعريفاً في الجزء الذي لا تتلاقى فيه الوحدة العضوية، وهي التي يجب أن تتسم بصوت الحوار المتكوّن في الذهنية التشخيصية، وقوله:
"كانوا يتزاحمون ويتدافعون لالتقاط فسحة أو ثغرة يطلون من خلالها على الموقع الذي نصبت فيه مشنقة خشبية دعمت بمساند من حديد بلغ ارتفاعها 18 قدماً، فيما صنع الحبل من الحرير الممزوج بالكتان، وقد صُمِمَ ليموت المتهم بعد تنفيذ الحكم بدقيقة أو دقيقتين." ويتابع في شرحه: "أبصر على سلمان رجالاً يثبتون أوتاداً خشبية لسياج بلاستيكي سميك سوف يوضع قبل عملية الشنق بلحظات لحجب تفاصيلها عين أعين المتفرجين."ص10.
في الرواية السابقة "خلف السدة" كان صخي مُحدِثاً ضد سلطة المباشرة، باستثمار التوريث الأسطوري في شغلانية ملحمة المكان، أي أنه خصب الواقعية بالخلفية الأسطورية للهجرة، مما جعل الحكاية ينتظمها الموقف، ويربط أبعادها بمسماها الأصلي، متناولاً مسيرة الظهور في اختلاف الوافدين غير المتوحدين، وذلك لتنوع الأمكنة التي جاءوا منها. ورأينا كيف إنه أدخل القراءة التشريحية في سياق الطفرة المختصرة في الحديث. بينما نجده في روايته الجديدة "دروب الفقدان" تراجع إلى الموصوف في شرح الموجودات الحياتية، فاعتمد الموروث الحَدْسيَّ عند سلامة موسى، صائغ تنفس الموجودات الحياتية، وهذا شرح لا يفيد القارئ بشئ، سوى الإطالة الخشنة، حيث يتناول التفاصيل غير الضرورية، بدلاً من لمسة المغايرة: وفي قوله
"حبل المشنقة المصنوع من الحرير والكتان ليموت المشنوق بعد دقيقة أو دقيقتين"
وكأنها وصفة نادرة للموت السريع تفرد بها صخي لوحده، ويقول "نصبت فيه مشنقة خشبية" ويقصد الموقع، بارتفاع كذا، مع أن جميع المشانق خشبية، وإلاّ ماذا تكون؟ وإذا كان يعني الأرضية التي تقام عليها المشنقة فهذا أيضاً طبيعي، وهناك وسط مظاهر الاحتفال بالشنق تجد الناس:
"يتزاحمون ويتدافعون لالتقاط فسحة أو ثغرة يطلون من خلالها على الموقع"
المعروف عن سرد الحكاية الأكثر حداثة المعمولة في مصنع محمد خضير، وعبدالباقي شنان، والطاهر بن جلون، والطاهر وطار. اعتمدوا الموروث المتخيّل ومازجوه بالنتيجة التي تتشكل في السرد تشكلاً معرفياً، لأحكام غاية الدلالة على الفهم، وحرصوا على أن يلاقحوا اللغة ببياناتها الإزاحية لتعميق مفهومية الصورة، وعليه فالانشاد الأكثر حيوية يعتمد اللقطة السريعة المركزة على إيصال المعنى، بدون إعاقة في تطويل الشرح والإعادة مما يوقع القارئ في الملل، وبالتالي طرح الرواية جانباً. ولهذا فأنَّ الأثر عند هؤلاء شَكّلَ الفهم السريع بواسطة مفاتيح المحاكاة التي تتبارى بها المقاربات لتوازن الأفكار، حيث تدلنا على أن نتبيّن مفهومية الكاتب محاولاً أن يثري الشفرات المرمزة، في احتساب بلاغية الجمل المرشدة لمفاتيح النص.
في تحليلنا نشير إلى أن وعي المدلول الضابط لعلم الخواتيم الكاشفة لبيان التقنية التي حققت تواصلاً تشريحياً للمفاهيم الإنسانية والحقوقية والوطنية، وظِفَتْ بتأثير مفاهيم الكاتب الثورية، أي أنه جعل من الكتابة منبراً للدفاع عن حقوق الإنسان. كذلك رؤيته المعمارية المُحْدِثَة في المقاربة بين البطل واللغة البصرية، في التنويهات والإرشادات والوظائف التي تفسر مساق خصائص الطباق، فدلت الكتابة بقلم خبير ومجرب بجوانبه العفوية، لينقل لنا إيراد المجتمع الممزق بقصد واضح، وهو يمنح مباني المدلول نظرة فاحصة توضح طباع التصورات المقنعة للحالة، والمقصود أن تكون محسوبة بدقة تصالحها مع السياق المعاد في الأسلوب التوريثي للشخصيات، ولهذا فالدقة في الانتقال الصياغي يجب أن تأتي بالمتخيل الأنموذجي للتوضيع والاستفادة، لا للضياع في بنية اللا تلاقحي في مواقع الحكاية، خاصة إذا كان المتخيّل النوعي يعتمد البلاغة في حساب المحادثة، التي تعمل على إيضاح سردية التقنية الملموسة، على اعتبار توصيل عمل الفكر الشاق بواسطة تفويف المحاسنة اللفظية، وما تعنية دلالة الصوت بين محاكاة الخاص "الشخصية" مع العام "المجتمع"، هذا إذا قررنا الابتعاد عن اللاّمبالاة الصياغية، التي تكون في كثير من الأحيان ليست بذات فائدة، خاصة في حصول تعثر السياق، ونسميه بالقطع غير الفني. ونسترشد بقوله:
"لا يذكر أي من أتراب نايف الساعدي، أن أحداً تغلب عليه في مصارعة أو عراك في طفولته، أو صباه. ص 10"
نقول أن الربط في تسلسل الأفعال يجب أن يتصل بالنهاية العارفة، وهو أن يجعل الحياة اليومية تتصل ببعضها في صلب الأحداث، كما فعل "الهمداني" في الانتاج السردي في نظام المقامات. وهذا ما أبانه الكاتب في المضمون التراجيدي، بواسطة الذات الأيديولوجية، عندما سَلّطَ الضوء على المشهد التجزيئي عبر المتخيّل المعاد. وبهذا يكون قد اِبْتَعَدَ عَنْ الذاتية السردية. وهو أن ينصت إلى النسق الفني الملازم لجوهر الرؤية الثاقبة لتحصين السياق من الخلل.
لكن ما يبقى في جوهره المعلن عند صخي هو اعتماده الجانب الإنساني الذي أبان جوهر مَآسٍ تعددت أسبابها. كما فعل "جان جينيه" عندما أعطى النص الأخلاقي مكاناً مميزاً للصراع الطبقي على المسرح الشعري الفرنسي. هذا لأن المشهد يضعنا أمام حالة إعدام مكشوفة غايتها: سوف ينال هذا المصير كل من تسول له نفسه مخالفة الحكومة، مع أنّ الإشارة إلى شخصية "الساعدي" تعتبر من الشخصيات النبيلة ومحورها الأساسي الشجاعة، فموته ليس على أساس الأثم الجرمي أو ما شابه، بل مات الرجل موتاً نبيلاً تَحَلَّى بالكبرياء والشجاعة والدفاع عن المضطهدين، وهذا ما يصنف هذه الشخصية على إنها شخصية متمردة كونه لا يهاب احداً، إنما هو رجل يحترم الآخر ويساعد المظلوم والفقير، وهذا المفهوم تعارف أهل العراق على تسميته: ب "الشقاوة".
لكن السلطة لا تريد هكذا شخصية تكون محور اِحتِرام الناس، فيعتبرونها شخصية قيادية، وعليه وجب إعدامه، خاصة وأن صخي رغم التقريرية الحاصلة في روايته "دروب الفقدان" أحال الحبكة الروائية إلى أسلوب نقدي، كما فعل أغلب رسل الأنسانية في العصر المادي، أمثال تولستوي، وحيدر حيدر، وفردريك نيتشه في كتابه "العقول الحرة"، وهيام قبلان، وغائب طعمة فرمان، الذين يعتقدون أن النقد بكل حالاته يمثل الرفض للقوانين المجحفة بحق الإنسان، حيث تجد الكاتب يعالج جملة من المعارف من خلال تواصله مع أفكاره، إلى الحلول التي يظنها تتيح له التصويب على القوانين غير الأخلاقية، المؤسسة للسلطة الدكتاتورية، التي جعلت الناس أدوات منفذة لتعظيم الحاكم وتخليده.
"كانت ملابسه ممزقة دائماً، في أكثر من مكان، وعلى مدار العام ما عدا صباح اليوم الأول للعيد، وفي سنته الثالثة عشرة، ومع ازدياد خصومه، بدأ يحمل سكيناً صدئة مثلمة أينما ذهب. ص10"
قد يثير التساؤل هنا، هل أن صخي أراد أن يضعنا أمام حياتوية الماضي لهذه الشخصية، لكي تحرر منظورية الحاضر؟ ربما، لأن التشكيل في الطاقة التحويلية للزمن أصبحت مكتملة رؤاها عند الساعدي، وأنَّ اعتماد التواترية البحثية المُؤَسِسَةِ لمؤثرات الرمز حاضرة، عبر محاكاة الواسطة التكوينية في حياته، حين وضعنا في صورة أنَّ الصبي كان فقيراً يتأذى، ولم ينتفع بحقوق المواطنة، ولم يُشَاهَدْ يوماً بملابس جديدة سوى في يوم العيد، كانت أحواله دفينة اليأس والحرمان، وههنا نجد المنظومة الثورية في حياة هذه الشخصية رافضة للأملاءات السلوكية، وهذا الرفض حال دونه ودون الحياة، بواسطة القوانين الوضعية التي تخدم جهة معينة من الناس، فضلا عن واقع الحاكم الظالم القمعي من جهة أخرى. وأفكار صخي الراديكاليّة تنحاز إلى طبقية الساعدي. كانحياز الشاعر الهندي طاغور لتحدي النظام الاقطاعي الموروث في الهند وقوله:
" إنني على استعداد لأن أفتح نوافذي في وجه جميع الرياح، لكن شريطة ألا تقتلعني هذه الرياح من مكاني"
وهذا كافٍ لأظهار شخصية الساعدي ولتأكيد هويته، كون تاريخه كان أكثر ملاءمةً لسبب حكم الأعدام عليه، ولا أشك ابداً أن التوظيف الحسي لأمكانات الكاتب الموضوعية جعلته محط استلهام أفكار ينهلها من التراث العربي القديم، أي الجماعة الذين تشكلوا تحت مفاهيم أسلوبية خاصة كحياة الصعاليك، ولهذا فالكاتب ومن خلال تناص القيم الفنية لاعتبارات قراءة الظواهر الاجتماعية المتعلقة بالبنى الذهنية ومعالجاتها المعرفية، ساق المعالجة الذكية تلك إلى اَسْتِحْضَار تمرد الصعاليك، ومطابقة طبيعتها الثورية المشاكسة على شخصية نايف، خاصة في اِتحاد وعيّها المنتج لجلالية القيم الأخلاقية، للدفاع عن القيمة الإنسانية، باعتبارها نتاجاً مرتبطاً بخصوصية وراثية تشيع لدينا ملاقحة قابلة لطبيعة الفصل في عرفانية الموروث المعنوي، لتبيان مشاعر الناس حول تمايز السخط على الحكومة أو عدمه، سواء جاء في العلن أو في السر، فأن النتيجة الحتمية واحدة، أي إنها ستؤدي إلى الثورة القيمية على الاضطهاد القمعي. ومعالجة الواقع المختلف الذي يعيشه الإنسان بين النور والظلمة. وقد عبر الجرجاني في تحليلاته عن الفرق بين النور والظلمة، وصخي يأخذنا إلى واقعية الفرضية المكانية بقوله:
" أجرت مقارنة بسيطة بين حياتين، فوجدت نفسها تفضل الحياة في مدينة الثورة، على الحياة في خلف السدة" ص95.
أن الاتّصال الصوتي في معالجة النص السردي المُحْدِثُ، يتبين من خلال البحث عن الحدث غير المرئي، وفي المشهد تتوضح الإفادة الواعدة، بشفافية تماهي اِتّصَال معالجات المضمون، لكي تكشف عن المعاني المتنقلة، فيكون ثمة توظيف مبتكر للجملة التي تحاكي الشكل العيني، ومن ثم تعيد الإنتاج التصوري إلى مفهومه الدلالي لكي تفرز مجالاً رحباً للحبكة التي تحترم اعتقادات القارئ. كما فعل "جان بول سارتر" بتحولاته النقدية في مسرحه الذي عالج من خلاله: "مفهوم الجماعة، والهدف الجماعي*" بينما نجد صخي جعلها أي الجملة المحاكية مفتوحة على توصيفات تترتب فيها الأحداث بشكلها العام، دون أي معالجة بحثية للمفاهيم الجادة، بين طرائف الحبكة والطرائف التي تختص بتقديم الأفعال بمضمونها لا بشكلها المسهب، كونها تأخذ التصويرية الشكلية المنظورة في سياقها الروتيني، فتكون حالة عادية لا تكثف وحدة المعنى ومكوناته الصوتية التصورية، والحسية، والإشارية، والتثويرية، والمشاعرية. على اعتبارهذه العلوم أدوات تحكم مفردات اللغة التي تقدم المعاني بموصوفية مقنعة، حتى لا يكون الجنس الروائي أشبه بمقاربات اِستشارية، فتبدو الرواية وكأنها صنف تجميعي لعوامل مبعثرة ومقحمة، وهذا يؤدي إلى انفصال واضح في فسلجة الوحدات الداخلية للأحداث، وخاصة في إذكاء مفاتيح سرد الرؤى والتصورات، المفترض أن تتفق مع التطورات المعبرة عن قيام استجابة الأفكار في توليد المخرج الحقيقي لمغزى المعاني، التي تعاين أبرز قضايا النهضة والتطور المعاصر واشكالات التأخر.
تضمين المؤثرات الفلسفية:
لا ننكر أن لصخي مصالحات تنظيرية في تطويع الهواجس المجتمعية إلى التضمين المزدوج، أي التقريب على وجه يفيد المحادثة أن تستلزم المطلوب، حيث إنه جعل من الشخصية المركبة كشخصية البطل، تناشد الواقع الاجتماعي المغاير، الذي هو عُمْرَان التخصيص المكاني المؤدي إلى معرفة الواقع، ذلك العمران الذي يفرز معالجة اختلاف الأحوال وتغلباتها الطبقية، لأنه يداني برمزيته خبر التحويل، وما ينشأ عن ذلك رؤية الكاتب في تشغيل العوامل المبتكرة لفلسفة الإيضاح التخصصي وطرح المقتضيات التالية:
أولاً: إقواء الإستشعار الحلمي لتثبيت محصول المتاع.
وثانياً: النعت المقطوع بين الأشخاص والصّوَرْ.
وثالثاً: إنعاش الممول النظري بين القاعدة والذات .
نستنتج من هذه المحاصلة الفكرية المُنَقِبَة عن نتائج الإدماج العفوي للحكاية، مقاربات تفريع تأثيرات خصوصية المكان، فهذا يدلنا على أنَّ النظرة الفلسفية تعالج تصحيح القريب بالقريب، والبعيد للبعيد. وليس العكس، وقد تعاشر هذه المناقحة تأسيس مؤثرات الفوارق الطبقية. ونحن نتلمس في المقطع التالي من باب الاستطراد لإرشاد التعليل كالتالي:
"في لحظات الغفو الباردة الأولى حملتها أطياف الظهيرة إلى أماكن غريبة نائية. تجولت في حقول النوم السحرية الفسيحة، فرأت سوادي حميد يجلس في حديقة عامة ويتطلع كمن ينتظر احداً، باتجاه باب عريض مفتوح، بدا لها شاباً، دشداشته بيضاء ناصعة ، وشارباه خفيفان مشذبان بعناية، لكنه كان يرتدي طاقية بدلاً من "الجراوية" التي أعتاد ارتدائها"ص99.
وهنا نقرأ المرأى العرفاني أُوتيَّ لأستنطاق معطيات العقل الباطني التصويري للمظاهر الجمعية المحتملة، حيث اِنْطّوَت الصورة على إيقاظ توقعات طاقة الذات المتوجسة، وهذا نسميه بالوتر الذي استثار العاطفي الماضوي، في مفهوم التوريث العلمي الذي تفرزه منبهات ذاكرة التصورات الباطنة. وفي هذا يرى داروين: "أن التصورات الباطنة قد تنعكس بضرورتها الحلمية على حياتنا اليومية*". هي المعاينة التشخيصية إذن، التي أوضحها صخي في معادلة المنكشف الإشاري التخيلي على الواقعي، في انجاح المفاهيم التي تعبر بالضرورة عن السلوك الذاتوي المعلن في إرصاد الآتي بالكيفية التي سوف تميّز إسلوبية تنوع الصورة المبنية بين معلنين أثنين:
أولاً: الرؤيا الإشارية.
ثانياً: التتميم الرضواني.
وتلك مفاهيم بان تمييزها بواسطة التأويل الذي يصاحب التفسير، وحالنا يستشعر وكأن الحلم تتناغم فيه بنية سردية درامية، لا تتنافر مع تواتر العلاقات بل تحكمها، لأن مراوحات الزمن تبقى سبباً للقاء والفراق. أما الواسطة في هذا التوليف الحسي فهو الإشارة إلى الرمز الذي تبطنه: "الخرزتين" في محققات الحلم الذي استدعاه الكاتب لتكثيف إبانة المعتقدات المعاينة في المرويات التراثية، وقد برزت مدونات مهمة في هذا الخصوص مثل: "رسالة الغفران" لأبي العلاء المعري. تناولت الحلم بصياغات مختلفة. كذلك موسوعة: "الف ليلة وليلة". وتأويل رؤيا ربيعة بن مضر وما أخبراه به ملك الحبشة لليمن، وملك مضر من بعده. و"مقدمة ابن خلدون" وشرحها الوافر عن الأقوال بشأن تصورات الخليق حين تتقلب به الأحوال في وقت النوم*، ومقاربات ملاقحة الخوف المعبر عن تصورات المقدس "الإمام" بين الحلم والواقع المتخلف عند الروائي عبدالباقي شنان في تراثيته : "الطنطل" كانت تلك إشارات النبوغ الإبداعي عنده في سن مبكر.
وصخي الكاتب المادي، هو القارئ ذاته، مهمته البحث في بواطن التراث الأدبي، الذي يصاحب مهاتفات تمويل التناص، لأيفاد المعلومة بمزاجها الحياتوي الحيوي، لكي يستخرج منها ما يمتع الجماليات السردية بالمفاهيم الموروثة الملازمة لطرائف البشر.
وفي مخابرة مختلفة أكثر تناسجاً في معالجة ضبط القواعد لتدعيم أثر الإعجاز والبرهنة في تفسير الخطاب، افترض صخي مراعاة تلاقي المقاصد في تقسيمات القول، باستتباعية مركزة على الحدث الذي يصاحب الحياة المرتبطة بالزمن الانتقالي في أوجه تلاقي محاصيل المعنى، أن تلتقي به مصبات مفاهيم المقارنة والتشخيص في البعد غير المعلن للشخصية، وهذا يقودنا إلى أن نتائج التحصيل المنطقية في شرحنا تدل على أن الكاتب له ثقافة واضحة بالبلاغات الثلاثة: اليونانية، والعربية، والهندية. وهذا هو التمايز الذي أهاب نجاح الروائي الذي جعله محط اهتمام الناقد، لأن مفهوم البلاغة لا يختص بالشعر وحسب، بل هو في تناول كل الأجناس الأدبية، حتى النقد. كما يدلنا في هذا الأستاذ عبدالفتاح كيليطو في كتابه "الأدب والغرابة" وقوله: "هذا لأن البلاغة لها ارتباطات بالنحو والتفسير والاعجاز والمنطق وعلم الكلام*" ومن مبدأ بينات هذا الأختلاف نقرأ صخي:
" إنه صوت ابنه بحر، الصوت نفسه الذي سمعه يتردد في الرسائل، التي تصله منه، والتي يقرأها له علي سلمان، آخر رساله وصلت من بحر كان يتوقع فيها المجئ إلى بغداد لزيارته، إذا وافق أخواله، كانت قبل نحو عام، ضاعت الحروف بين شفتي سوادي حميد، فتلعثمت الكلمات، أحس كأن اللهب يشتعل في جوانحه التي اعتصرت الابن وضمته بين أمواجها الخرساء. تعاطفت النسوة معه، فابتسمن ودمعت أعينهن على فوطهن التي رفعنها إلى ما فوق أفواههن. ص104 "
من مبدأ نوعية التطواف الفني الذي أخذنا إليه الروائي للكشف عن الأبنية الكلية المفاجئة في الحكاية. نلتمس تلاقح لغة التنوير الكانطية في مصبات صخي في أماكن معينة قليلة وقوله: "الصوت نفسه الذي سمعه يتردد في الرسائل" المجاز البلاغي في الصياغة التنويرية يحقق فصاحة لغة الوحي، وكما اسماه عبدالله العروي ب "نداء من فوق*" لأنه سمع الصوت يتردد في الرسائل. تلك هي أيضاً الشاعرية السيابية تزدهر في هذه الجملة، خاصة في الفرضيات المتخيلة التي تحرك الذات الفصيحة، باتجاه بسط التواصل المعرفي في أصول الفهم المجتمعي للأعراف العاطفية، ووزنها في كلية النص بقياس أبنية تأويل التقويل. وكأن الحكاية تتفرع اتجاهاتها لتصب في نهر ترتوي دائريته بالعلاقات الناشئة من صيّغ التعارضات المتعددة في معطياتها، حين يورد الكاتب تلك المعالجات الناعمة وقوله: "ضاعت الحروف بين شفتي سوادي حميد، فتلعثمت الكلمات". وكأن الحلم الممتد في الزمن أصبح واقعاً، فالضوء بان في صوت "بحر" هذه الصناعة النوعية في لغة المشاعر حركت الحيث الذي تفرزه الجينات المتلاقحة عضويتها بالعاطفة المحسوسة، التي تقوم على أساسه تأثيرات الطبع الموروث على مستوى التلاقي الروحي بين الأب وولده، بالمساق الذي تمثل باختلاف الأحداث، ضمن مسار ترتب عليه واقع بعينه، مع أن الشرط في فنية متخيل السياق في صناعة الأحداث يقود الكاتب لربط المؤثرات الذاتية ربطاً تناسقياً بوحداتها المعلنة، باعتبارها المحقق العيني للحياة، أي أن تكون الحكاية ملزمة برابط معرفي يحرك: النوايا والميول والطموحات الأيجابية. تتقابل معها ذهنية التخاذل والتراجع والأنكسار، في مستوى مشاعرية مباحة تفرزها الغدة الجينية في تثوير العاطفة بأعلى طاقتها وقوله:
"أحس كأن اللهب يشتعل في جوانحه التي اعتصرت الابن وضمته بين أمواجها الخرساء".
هي الإشارة إذن إلى المعنى الذي يخلق الإثارة في قدسية لقاء الروحين، أن يصب تساقي التمني بين النجوى والشغف الأيجابي، ولكي نؤسس لهذا التميز يفترض أن ننظر في فلسفة التناقض الحاسم للصيغ السردية وطريقة مواصفاتها الذكية. حتى وأن كان هذا التواصل يصب في مجال الذات الميتافيزيقية، كما فعلت سميرة المانع عبر اطلاق مهاراتها الخاصة في تثوير الدفاع عن النظم والثقافات التي اِتَّسَمَتْ بلغتها النقدية التفسيرية في نقد الحالة الموسومة ب "سيد زلف".
التراجع العيني:
مع أن صخي حقق تطوراً واضحاً في توظيف التراث المعاين لارتباط عناصره بالماضي، من نمطية يحققها المشرع الدال على النوايا والاعتقاد بمخلفات العقل الاستهلاكي، على اعتبار أن الواقعية الممكنة تحتمل استمرارية النمطية السائدة في العقل البشري على ضوء تحرير معتقداته بالخرافة، وهو إنتاج للتخلف في بعض حالاته، وما تضمنته هذه الرواية هو تسليط الضوء على مخلفات الواقعية المعقدة، كما فعل هانز جاكوب فون في "Simplicissimus سمبليسوس 1669" عندما حرض على تصنيف المعتقدات على أساس التراث العيني في حرب الثلاثين عاماً في المانيا في ذلك التاريخ. ولذا فإن ما جاء في رواية "خلف السدة" التي حققت المهارة النوعية في صناعة الحدث المركب، المتنقل ببراعة سياقاتها التعبيرية المتصلة بالتقسيمات الفنية، أسست للمخاطبة الانتقالية نموذجَ الحبكة، وهو التحريض القيمي لتوالدية النبض المنتظم في حكائية الرواية العربية، المراد منها توحيد المعنى والهدف لتثبيت الصلاحية السردية، التي تتساوى مع المنظورية الشاملة عند المتلقي.
في حين نجده في "دروب الفقدان" ضياع الشكل في التفاصيل غير المحسوبة بتقنية لا يستطيع بها السيطرة على النمو والنضوج. وهما العاملان اللذان يحققان للسرد التراص والتتابع والكشف الموضوعي عن الخصائص الموروثة والمستحدثة المركبة لسياقات الرواية، وقوله:
"تقدمت لتمسك بشباك ضريح العباس بن علي بن أبي طالب. اجتاحتها نوبة بكاء، وهنت يداها، وانزلق جسدها ببطء حتى تكومت على السجاد المغمور بالأضواء الساطعة المتدفقة من المصابيح والثريات ص72".
عندما يحصل تغيير في تأثيث الخصائص المباشرة المكونة للخلف المجتمعي بايمانه ومعتقداته الموروثة، أي القولبة المنحازة في النفوس إلى الموروث العاطفي، يكون السرد التحديثي قد فقد عقدته، فتميل الحبكة إلى الانحسار، أي أنَّ الكاتب جسد وأرخ النوايا النمطية الطائفية، وهولاء صنف من القوم ينتحلون القدر المعاش من ذلك التوريث، الذي تمثل بتخلفه العيني المقدر له إثبات استمرارية التطرف الأيماني، الذين ولفوا عليه في طبيعتهم الريفية البدائية. مع أنهم جاءوا لتحقيق الحلم المدني، ضمن مجتمع تنويري مرفه، وما بين ثنائية المعتقد والطموح أصيبوا بخيبة أمل قاتلة، حين وجدوا أنفسهم مرميين خلف السدة. مع أن الأنتقال الذاتي إلى "المدينة الفاضلة" لا يعطل التمسك بالتقاليد الفكرية الموروثة أو المستحدثة للفكر الوضعي، بواسطة اختيار طريق التحول نحو التمدن. يقول ابن خلدون في مقدمته:
"ويختلف ذلك باختلاف المقاصد من الخَلَفِ والسَلَفِ منهم فتعسر طاعته لذلك، وتجيء العصبية المُفضية إلى الهرج والقتل وغير ذلك.*"
ومن أجل الإحاطة بهذا لابد وأن يكون هناك من بين القوم مرجعية فكرية، حتى لا تدخل العصبية بينهم فيَتَذامروا، ولذا فتحقيق العدالة والمساواة ملزمة بالتواصل، من حيث كون كل شئ منظوراً به يكون متوافقاً بنفسه، فتكون إما تشريعية يحكمها التناظر، أو تأريخية تشبيهاً بالمثل القائل، "من ليس له كبير ليس له تدبير". ومع هذا نجد الروائي قد ترك الأحداث تتحرك بواعز جزئياتها المعنوية، تحل مشاكلها على هواها، وهذا ما يجعل الوعي الروائي مناقضاً لما يشترط أن يكون الضمير يتفهم قرينه، لأن المكان في هذا الجزء اخْتَلَفَ، بينما السيرورة السردية بقيت كما هي، وكأن مكان الطفولة لا يختلف عن مكان الرشد، ولكي نفهم تأثير المكان على الوعي يجب أن لا نجعله تعليقا "نوستاليجياً"، حتى وأن كان في المكانين "الخارجي" والمكان "الرمزي" قرينة تحقق للشخصيات معالجة مختلفة في الواقع المقصود، العائد على الشواهد الحية للأحداث، وقوله في هذا:
"في المنطقة الجديدة أصبح أولئك الفتية متجهمين نزقين، طباعهم حادة كأسلحتهم، مستلبين مقموعين في البيت والمدرسة والشارع والمقهى والسوق، مما خلق لديهم شعوراً بالتمرد والعصيان فانهمكوا في مواجهة السلطة."
وكأن صخي بتنظيره المحرض أيقظَ في مشاعرالشبح القابع في ظلمة خيبتنا، المتمثل بالشعور الجماعي، ترى أهذا الزمكان يستدعيه الكاتب ليؤسس فيه تأريخاً مختلفاً؟ ربما نحن نعتبره بديلاً عن فابيولات التاريخ الاستبدادي الذي أسطره الطغاة على مر العصور، منذ تاريخ معاوية بن سفيان وحتى يومنا هذا، حيث تأسيس الشعارات السوداء المتوارثة، هي من واعز مفارقات لا تحدد القراءة الواضحة في صفحة المجهول، أو في الزمن اللامكتوب على وجه الحقيقة، لأننا نقرأ ونقرأ وحالنا نسلك الطريق المدورة، فتجدنا نسير وسيرنا أشبه بالمخدر لنوايانا ومشاعرنا وانفعالاتنا، ونقول أنجزنا جهداً لأننا لم نجلس صاغرين. والشبح مازال ينهش فينا سواء كان شبحاً آتياً من السلطة وذراعها الأمني، أو من العدو الأساسي للإنسان وهو الفقر، وهل لتلك الملامح نمطً درامي يحرك العوامل النفسية إلى اتجاهات تفرزها الميول الخاصة؟ كما حرض كلٍ من تولستوي، وغوركي، وبلزاك، وديكنز، وماركيز المجمتع على الوقوف ضد إهانة الأنسان. وفي هذا أين طموح الشباب الغر، لماذا حصره الروائي في دائرة الاتجاه السلبي التقليدي، ونسى معالجة الضد بالضد. ألم يجلس هؤلاء الفتية يحدقون في الظلام الذي صنتعه القوانين الموروثة، ويحركونه للاتجاه البديل، وإلا من يحسب للزمن القادم الطموح التنويري نقلته الايجابية، خاصة ونحن نعيش زمن العولمة الرقمية، ترى هل يستيقظ هذا القابع فينا من سوداويته، وإن طل من نافذة مقنعة يتخيلها الأمل؟
لكن ربما نمنح الكاتب الحق لأنه أتخذ من الأدب الواقعي منجزه المرادف لواقع مجتمعه، وفي الوقت ذاته أغْفَلَ سيرورة المتخيل النوعي، المفترض أن يصنع فنية المتفارقات الجاذبة لتأريخية المعالجة، كي يخلص السرد من الشروحات الموضعنة، بواعز الأختصار الذي أصبح ضرورة موضوعية يبعدنا عن الذات المنسوخة من السياق الخيطي، حتى يقربنا من طموح تقني يعالج عبر سلطة تشذيب قياسات المعاني ومقاصدها. إذن لابد من الإشارة إلى أن الرواية الثانية للقاص والروائي عبدالله صخي "دروب الفقدان". قد تناص بعضها وتلازم مضمونه في الصياغات الشكلية، المتممة للرواية التي سبقتها: " خلف السدة" حيث تتابع أسلوبية الشرح والتضمين بدون تمايز في الذوات النفسية. لأن في هذا المقطع ومقاطع أخرى أجدني محسوبا على أحد الروايتين لأنني أُسَامِرُ القراءة الفاحصة، حتى أنني حسبتُ أنَّ أولئك الفتية الذين لن يظهروا أي ميل للتأمل والطموح، الذي يمكن أن يصبح مرساة لمعطيات إيجابية للتغيير، وهذا تمثيل لقدرة الإنسان على صناعة المستحيل، حتى وإن كانت تلك المعالجة تصاهر التفكير الميتافيزيقي في تحولات الكلام. ولهذا نبين من منظور تحليلنا الخاص بأن مصطلح الاستخدام يصبح مؤشراً نوعياً إذا تنوع المخيال التطوري في الكتابة، فيكون للعامل الذاتي مخرجاً بحقيقتين:
أولهما: يراد للشخصية الفاعلة التي تدور حولها الأحداث، أن تحرك المقاصد والسلوكيات النفسية، إلى فعل مشهود وملموس مع الناس.
وثانيهما: أن يكون ضمير البطل هو المشاهد المجازي التحولي، الذي يناقل الأحداث ضمن مصباتها التشويقية، بواسطة صناعة تناسلية المعطيات المُشَاهَدَة.
وللتركيز نلاحظ أن صخي أبتعد عن نظرية باختين الحوارية، معتمداً الشرح وسيلة بنائية لتحقيق تحولات جدل النص، مع أن كلا الروايتين تناولتا الحكاية نفسها بشخوصها واحداثها وصناعة المكان بين "خلف سدة ناظم باشا" التي هي "على مقربة من ساحة الطيران من جهة الشرق". وبين "الثورة داخل". بعد أن قام عبدالكريم قاسم* ببناء مدينة الثورة وأسكن بيوتها لأهالي خلف السدة. وبين المنطقتين تشكلت تقليبات الحدث، مع أن المصدر في اختلاف الأحداث غير المقترن بالزمان المتغير لم يحدث تصادماً، على حساب المكان الذي هو الفاعل التحريضي لترسيمات أفكار لها تصوراتها ومعتقداتها، خاصة وأن أخيولات بداية نشوء الهجرة من الأرياف العراقية، وبالتحديد من مدن جنوب العراق، وبعض الكرد من شمال العراق، إلى العاصمة بغداد، بنيت على أساس تقلبات الزمن السياسي، الذي خَصَّبَ الشعور الجدلي بالمقارنات الفكرية التطورية. المقرونة بصعود نمو الوعي التمدني الاجتماعي والاقتصادي في الواقعية التمدنية، خاصة وأنّ لزمن ثورة 14 تموز ومفجرها ابن الشعب عبدالكريم قاسم، الدور الأساسي في تعاظم هذا الميل للهجرة، وقد أحدث الولع التحولي ألفةً في تفكير القادمين من القرى والأرياف المحيطة بالعاصمة بغداد، جعل منه مصبَ إغراءٍ ملحٍ للحاجةِ، كي يتخلص الفرد من ثقل الماضي المؤلم، إلى حياة تفضل الرفاهية أقلها، مع أن أغنياء بغداد وحال لسانهم ينبه الوافدين إلى:" لا تقتربوا منا". وفي هذا القول نقرأ تحريض المرأة التي خاطبت سوادي حميد في تمتمتها المعلنة:
"إنهم يكرهوننا ، يريدون إبعادنا عن قصورهم*".
لكن الرغبة قائمة بل ملحة لطرح مشروع التفاهم مع أهالي مدينة بغداد، بواسطة العلاقات الشخصية بين علي سلمان و الفتاة "نادية" التي تعرف عليها بواسطة أخيها "عماد اسماعيل" وهو صديقه المقرب. بعد أن أقام معها علاقة عاطفية صامتة، مع أن نتائج قانون علم الاجتماع لا تتوافق مع ما نسميه بالطفرة المباشرة للزمن الاستقبالي، هذا إذا اعتبرنا أن هذا المنطق التحويلي هو من يحقق أفضل الظروف للبشرية، فتوصف بأنها من أبرز تحديات العامل السيكلوجي في الاستحضار لتحقيق تاريخ الفعل المغاير لتحقيق المواءمة الإنسانية في مواصفاتها الواقعية، بين القادمين من الأرياف وأهل المدينة، وتلك تفاصيل يصعب العناية بها. مع أن الصراع بين عالمي "مركز القرار و المحافظات" يجعلنا نستسلم ونتعايش مع المضمون أكثر مما نتعايش مع الشكل، لأن الشكل هنا استيحاء ملموس لفقراء نعرفهم كما نعرف ثيابنا، ولهذا نقرأ التجريب الوراثي أكثر وضوحاً، مما نقرأ تقنيات فاحصة لحسيات تتوالد من الذات المدركة للتاريخ. في حين جاء المضمون يحرك إشكالية الأجناس التعبيرية بشاعرية تصب سياقاتها بالتلقائية المنصهرة في الذات الجماعية، بعلانية: "يكرهوننا".
من هذا المنظور يثير صخي معالجات المضمون بحيوية تتسم بمصارحة الذات الجمعية، وإن كانت هذه الذات غير مستوعبة لما يجري حولها. وسياقاً للموالفة التي تخضع للوصفة الواقعية، نتلمس سر التوليد الأنتقالي من الشكل التقريري، إلى فلسفة الحدس في شغلانية المعاني المركبة في مجانسة المضمون لغاياته. وقوله:
" بعد أيام أخذه والده سلمان اليونس إلى سوق الشورجة، أوقفه أمام محل لبيع الألعاب، وطلب منه أن يختار واحدة، اندهش الصبي عندما رأى مئات الألعاب المعروضة على تخت خشبي، وفوق رفوف داخلية.*"
جعل صخي من التداعيات الحاسمة مصدرَ إلهام محكيات الزمن الإشكالي، محاولاً أن يعود بالنص إلى مناطق تَراتبيّة قد تخدم تسلسل اتجاه الأحداث، بمقدار التوظيف في تطبيق محاصلة السرد إلى توليف الماضي في محاكاة ارتبطت بالواقع في نهاية الرواية، محاولاً اعتماد التناهي في الكثرة والسعة، فجاز قوله في:
"كان في السادسة من عمره عندما أخذته أمه مكية الحسن إلى الملا عيسى الذي لا يبتعد بيته عن بيتها كثيراً في منطقة خلف السدة. سلمته ابنها وقالت إنها تريده أن يتعلم قراءة القرآن."ص120
وبعد تفوق الصبي يأخذه والده "سلمان اليونس" إلى سوق الشورجة الواقع في مركز العاصمة ليشتري له لعبة، ليؤكد إغناء الصورة الراوية للأفكار الجاذبة في رؤيتها المعبرة عن رمزية الإنشاد، تمتد لتشمل التلاقي بين أفكار سلمان وتحرره باتجاه المدينة من خلال رؤيته الخاصة. إذن ماذا نتبين في مساطر الاتجاهات المتبدلة؟ ترى هل يرتقي بها صخي إلى ملامح تكشف عن تأويل فحص الأثر؟ وحاله معتمداً على حواس البطل وانفعالاته؟ مع أن الصورة الحسية المختصرة للسرد غائبة، لأن الطفل "على سلمان" أحب أشكال موجودات اللُعَب بالنظر، وليس كونه معتادا عليها، وتلك هي اللمحة التي لم يضع الكاتب يده عليها فضاع في التجسيد والمعاينة. وقوله: "اندهش الصبي عندما رأى مئات الألعاب معروضة على منضدة خشبية." ترى هل هذا ينشط وعي ذاكرة الإنسان الشرقي بوعي أنتقالي، وهل الروائي أشتغل على الضغظ التصويري للحالة، كونه روائياً يحاسب الأفكار المطيعة للصيّغ المناسجة للكلام، بحيث تكون اللفظة هي الصورة. وأنا هنا أشير إلى الجانب الشكلي الفني، أما المقصود في مضمونية الإيعاز الدلالي، فتعني القيود المفروضة على الإنسان الفقير أن لا يتساوى مع الأسياد، لأن فهم جوهر الفكر البرجوازي ينبض فيه واقعٌ متعالٍ مختلفٌ يتمثل في اضطهاد الطبقة العاملة وشبيهها، فيبرز الشكل متحداً لما هو مرسوم: "لأهل الثورة داخل". وهو معلوم في ثقافة صخي حين أشار إلى الدهشة التي أصابت الطفل، عندما رأى كل هذه الألعاب، كونه لم يرها سابقاً. وهو الفرق بين ابن المدينة وابن أهالي الثورة داخل، متمثلاً بالصراع المعادل لأزلية الأختلاف بين المرفه مادياً، وبين المحروم من كل أسباب العيش المتواضعة.
المصب الطموح بالاتجاه صوب المدينة:
إذا كانت بغداد هي الجنة الموعودة لهؤلاء النازحين العاشقين للحياة المختلفة، تحقق الرفاهية والتبغدد، باتجاه التساوي الإنساني طمعاً بتحسين قدرهم ومنزلتهم جنباً إلى جنب مع أهل العاصمة، وبتقديرهم فأن المجتمع الذي كانوا يرونه يستحيل الوصول إليه، إلاّ عبر السمع والنظر، الآن وقد صدقوا واعتقدوا أن أحلامهم قد تحققت بمجرد وصولهم إلى جوار العاصمة، تحت عنوان عالجه الكاتب "دروب الفقدان"، ربما أراد أن يمنح النص تسويقاً أوسع، بالاعتقاد بأن الطريق للتساوي غير مباحة في تلك الزمنية، وأفكارهم ما هي إلا خواتم لروتين مسبق، لأن المجتمعات لا تتساوى بالتّرْكِيْب بين إنسان وآخر، ولا بالنية أو الاعتقاد، وقد بحث علي الوردي بشروحات مستفيضة في مثل هكذا مواضيع، شارحاً التَّشخُّص، والتّشكيك، والتفاوت الأقتصادي والثقافي والعقلاني الموروث، ووقوع الشركة بين موصوفيها. لأنه لا يمكن تحقيق التَّصَوّر على أساس الظن، أو التّدَلّي المبتكر. فالتقاطع الذي وصل إليه صخي: إنه أَهَّلَ البطل لكي يسعى لأن يجعل من تفكيره يحارب من أجل أن يأخذ العالم إلى مصاف التحرر من الفقر والعدم، خاصة وأن الإشارة إلى التّشْبِيْه بأن يجعل من طبيعة هذه الهجرة غير متضايفة للمكان، على منوال ما قدمه حليم بركات في سفر التكوين وروايته "عودة الطائر إلى البحر". وثمة فقرة أخرى استفاد منها صخي وهي الفوارق الطبقية، وهنا يتحد الحدث بالفوارق غير الحميدة، مع أن الإنسان لا يختلف مع أخيه إلاّ باختلافه الطبقي، والثقافي، والمشار المعرفي هنا هو أن الكاتب ولج في مشهد يشبه الرفض الأخلاقي عند دانتي، عندما رفض دانتي سلطة الكنيسة، بعد أن رفع شعار "كوثر النهضة" في معالجاته لدرب الفضيلة ولجماله القدساني، ضد الشعارات الدينية المتحجرة. وكما يتحفنا ابن رشيق القيرواني في موضوعة "المنزلة" حيث يقول:
"فإنه إذا بلغتَ بالدنى نفسه وطمحت به همته، تُكَافأ به الأيادي ويُحّل له صدر النادي*".
وفي هذا أيضاً كأن صخي يخاطب شاعرية فاضل العزاوي وهو يدعو إلى حرية الفرد والتساوي شعراً ستينياً، بقوله:
"هذا الواقف عند بيوت المنفيين - تعال إليّ من النافذة الأخرى لتؤلّف جيش العودة - حيث نقاتل في صفّ المنسيين - ونبني عاصمة أخرى للعالم.*"
وصخي ليس بعيداً عن مناكفات الفارس النوعي "فاضل العزاوي" الذي "نسف الشكل التقليدي للقصيدة" كما عبر عن هذا الشاعر الناقد طراد الكبيسي، أو كما قال الشاعر حميد سعيد "الثورة من الداخل". وفي هذا التصالح والتلاقح الفكري بين الشاعر والروائي في كسر الحدود التّقديرية المباشرة، وتجاوز "الكليشيهات" المكرورة حقق صخي للمكان في روايته "دروب الفقدان" رؤيته الأنتقالية إلى خلق لغة قادرة على استعياب التجارب الروائية العراقية السابقة، والخروج منها وعليها بحاصل نوعي حقق قفزة روائية مصيرية للرواية العراقية، حيث منح المضمون التعبيري بعداً مختلفاً، بتوازنات لونيّة أثمرت تطوراً جديداً بين اللغة والحكاية. في قوله:
"كان الليل هادئاً، وليس ثمة احد في شارع النضال المؤدي إلى ساحة الطيران، حيث موقف السيارات الذاهبة إلى مدينة الثورة، فكّر ما إذا كان عليه أن يخبر على سلمان بما جرى خلال الاستدعاء، ومن دون إبطاء قرر إبلاغه كي يكون مستعداً لأي طارئ، وقد تحقق ذلك في أول لقاء جمعهما، لم يفاجأ علي سلمان بما رواه علوان عزيز".
أمّا ما إتَحَدَ في هذه الخاصيّة من مزاوجة تحددت بين رؤيتين تساقت مضامينها، بتحصيل تطور المدارك الفكرية، بمفارق اليقظة التي تغذى رفضها للفوارق الطبقية، لتزداد قوة من نُشأتِها، وذلك باطلاع الذات على المغيبات، التي تحاول البرجوازية وضعها، فيكون الصراع يتمثل في:
أولاً: سردية رؤية الأنا المستقلة الناهضة بالاتجاه الطامع إلى معرفة خصائص التمدن في نشأة النفس الرياضية على الفكر.
ثانياً: الأنا المذابة كلياً في ذات الجماعة، خاصة اطلاق التغذية بالفكر العرفاني، لمعرفة النوايا المذمومة الآتية من الآخر.
ثالثاً: الأنتقال التدريجي في محصولية التغيير، من دائرة محدودية المكان، إلى فضاء المكان.
ومن خلال هذه المعطيات برزت الذات الدرامية الخالقة تأسيسها للخطاب الأيدولوجي، المعبر عن مظلومية الحيث الواقع على هؤلاء الناس، وذلك بتفعيل الأدوات التعبيرية المعلن تشكيلها بواسطة المنطق المعبر عن خصوصية الأحدات المركبة، وتبقى خاصية الجريان السردي في الشكل تستمد مزاجياتها من وجهة القصد والتصرف، ولأن المكان هو الواعز الأساسي لكسر الحدود الفنية عند صخي حيث شاعرية النص الفنية المزاوجة بتقنيتها تشتمل على تعمير التصوير والحوار بشكل واحد، وتلك منعكسة على مخاطبة الروح للوجود الأنتقالي، الذي يمتع الحلم التوليدي تحقيق طموح المبغى. ومن أجل هذا إذا كان للمكان من معنى عند أهل الداخل. حيث تخوم من البشر تكدسوا على قطعة الرمضاء المنسية "خلف السدة"، فتنفسوا الرياح الآتية من قصور وكازينوات وشوارع مركز العاصمة بغداد، ليغتسلوا به من رائحة الهور والصرائف، والأرض النار التي تحرق الأرجل العارية في جنوب العراق، فأنهم لا يعيرون بالاً أن يكون مكانهم ملغياً عند الحكومة. وبحساب المفاضلة فأن المتأمل يتغذى بالصورة المتوجسة، أو بالاحتمال المتقلب حيث تدخلنا الأرض المكروهة في الضيق الحاد، ومن الضيق المعنوي إلى الرفض، فشخصية كاظمية الشيوعية المؤمنة بالحريات العامة والخاصة، جعل من مطاردتها ومحاولة اعتقالها بطلة بنظر أهل الداخل، ولكن كاظمية ضاقت بها الأمكنة العالية، حيث أخذت تقفز المباني من على السطوح التي تفضي إلى النجاة بنفسها، وهاجس يشعرها باجتذاب الموت إليها، لكنها تنجح في الخلاص من رؤية الماوراء، أو موت الغفلة السري. فهروبها شكل حيرة عند أهل الداخل، حتى أنهم ظنوا إنها أعتقلت أو في أسوأ الأحوال ماتت، وقد انعكس هذا النداء الماركسي على: علي سلمان، وعلوان عزيز، ومن ثم إعدام بشار رشيد، وأفكار إقبال خليل الرافضة للتخلف والتعصب، بتأثير الواقع المادي والاجتماعي والثقافي. ربما أراد الكاتب لهذا الأختفاء والتأثر أن لا يقع في ورطة إنقطاع السرد عن ذاتيته، والدخول إلى اختلاف تراكم العقدة في مستوى النهوض المعنوي، إذا كان هذا الجانب يخضع إلى ولادات التوضيع عبر تفرعات ومسالك النص، فذلك أقتضى من صخي أن يثبت اختلاف آراء الشخصيات المعروفه في روايته السابقة "خلف السدة" مثل: علي سلمان، وعلوان عزيز، ومكية الحسن، ونجية شياع، ومديحة سلمان، وبدرية، ونايف الساعدي، وكاظمية محمد، وأقبال، ونادية اسماعيل، وهكذا تأتي الشخصيات تباعاً في الظّاهر البنائي الذي إذا غلب عليه التكرار أصبح مملاً.
لابد من توضيح أمر معين، أن صخي أراد للتشكيل النمطي المجتمعي في روايته الجديدة "دروب الفقدان"، أن يضعه في غربال التقنية الأكثر تجريداً، فهو يدخل الدروب المؤدية إلى احتمالات الكشف، وبلوغ الأختلاف عن المطروح من الرواية العربية، حيث يأخذ السرد إلى مسار بيانات الصراع ووجهات النظر، خاصة وأن الرواية تتحدث في أغلبها عن علاقات مجتمعية، يدرسها علم الاجتماع أكثر ما تكون على إنها استثناء يستبشر الشكل المسرحي الذي يرتئيه الكاتب لتشكيله الروائي، ومن ثمَّ فهو افتراض يختص في معالجة الأحداث ونمط الصراعات المألوفة، لكنني أعترف أن الرواية حتى وأن تمسرحت أحداثها فهي تعتمد الرصد التفاعلي في بنية تمتلك القدرة على الإحاطة بهموم عينة بشرية أختلفت فيها العلاقات والمعيشة والرؤيا الجديدة بمثل الحياة الجديدة، خاصة وأن التفصيل في النظرة الشمولية للأحداث شكلت مفصلاً بوصفه عاملاً يُجَسد المنطق في معالجات بنية الأدب الواقعي، مع احترافية الفنية الممولة لتشعب الأحداث، بدون التقيد الذي يعطي للسرد حرية الأنتشار في الأحداث والوقائع والطبائع والعادات وأزمنة التحول التطوري، اعتماداً على ماضيه المؤلم. وفي هذا نقرأ الحركة السردية السرية تتنوع فيها التفاصيل، خاصة العاطفي منها، فلو عدنا قليلا إلى الوراء نجد في هذه الفقرة العاطفية حالة جذب ومؤانسة تحكم التنويع في محصلات الوقع اليومي.
الحقيقة أن الرواية وأن كثر وطال الشرح للمتناول السردي للحالة، إلاّ إنها تتمتع بجهدٍ ناجح، وعمل مقروء ومتمم للرواية العربية الأكثر رؤية في تناولها للأحداث الواقعية، أرى أن ما حُمِلَ من توليف الإدراك الذي حقق رتبة عالية في المحاصلة الفنية بين السرد، واتجاه التّصاور التقني، بوصفها القائم المشترك بين المتلقي والنص، وهو كذلك تعزيز العذر المُحادِث عند القارئ لنجاح الحكاية أو فشلها.


1- "خلف السدة" رواية القاص والروائي عبدالله صخي، الذي نحن بصدد تناوله في روايته الجديدة "دروب الفقدان التي تتناول ذات الموضوع، ولكن بعنوان مختلف.
2- ديكارت. كتاب "تأملات في الفلسفة الأولى 1641 "
3- خورخي لويس بورخيس. "كتاب الرمل" ص122
4- سيغموند فرويد. " أفكار فرويد"
5- رابندرانات طاغور في مقالات. "أحاديث عائد من الهند".
6- جان جينيه في المسرح الغنائي: مسرحية "الحواجز الواقية"
7- جان بول سارتر في مسرحية: "موتى بلا قبور".
8- اقرأ تشارلز داروين في: "تطور الكائنات"
9- عبدالفتاح كيليطو. كتاب "الأدب والغرابة" - دراسات بنيوية في الأدب العربي.
10- اقرأ مقدمة ابن خلدون ص 108.
11- اقرأ عبدالله العروي في: "من التاريخ إلى الحب" حوار أجراه معه محمد الداهي.
12- مقدمة ابن خلدون. ص190
13- نهج البلاغة لعلي بن أبي طالب. ويقال تجميع أبي الأسود الدؤلي لكلام علي.
14- اقرأ مقدمة ابن خلدون ص 468
15- عبدالكريم قاسم رئيس الجمورية العراقية 1958 - 1963
16- كتاب " العمدة " لأبي على الحسن بن رشيق القيرواني ص32 .
17- دروب الفقدان الفصل السادس. ص104
18- دروب الفقدان ص146 .
19- دروب الفقدان الفصل السابع. ص137
20- فاضل العزاوي - مجلة الآداب اللبنانية، العدد الحادي عشر، والثاني عشر.
21- أقرأ طاغور في محاضرات في الأدب والفلسفة - جامعة أكسفورد 1909
22- دروب الفقدان، ص57



#جعفر_كمال (هاشتاغ)       تôôèô‏_ؤôéôم#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ذاكرة الندم
- الشعر النسوي العربي بين التقليد والإبداع 9
- فَاضَ النِصْفُ
- الشعر النسوي العربي بين التقليد والإبداع : الفصل الثامن
- العرفانية الواقعية، والخيال
- حكاية السنجاب والخنزير
- الشعر النسوي العربي بين التقليد والإبداع 7
- -بصمة- ما كان
- الشعر النسوي العربي بين التقليد والإبداع 6
- التيه بين عشق الوطن وحوار المنفى
- الشعر النسائي العربي بين التقليد والإبداع 5
- التشكيل الجمالي في لغة د.هناء القاضي المجموعة الشعرية -أيلول ...
- الشعر النسائي العربي بين التقليد والإبداع
- صباح الخير
- صاحب الكرسي، والمشاكس
- الشعر النسائي العربي بين التسفيط الكلامي وجمالية الاحتراف ال ...
- متى
- الشعر النسائي العربي بين التسفيط الكلامي وجمالية الاحتراف نت ...
- الشعر النسائي العربي بين -التسفيط- الكلامي وجمالية الاحتراف ...
- الشعر النسائي العربي بين -التسفيط- الكلامي وجمالية الاحتراف


المزيد.....




- السعودية تتصدر جوائز مهرجان هوليوود للفيلم العربي
- فنانون أيرلنديون يطالبون مواطنتهم بمقاطعة -يوروفيجن- والوقوف ...
- بلدية باريس تطلق اسم أيقونة الأغنية الأمازيغية الفنان الجزائ ...
- مظفر النَّواب.. الذَّوبان بجُهيمان وخمينيّ
- روسيا.. إقامة معرض لمسرح عرائس مذهل من إندونيسيا
- “بتخلي العيال تنعنش وتفرفش” .. تردد قناة وناسة كيدز وكيفية ا ...
- خرائط وأطالس.. الرحالة أوليا جلبي والتأليف العثماني في الجغر ...
- الإعلان الثاني جديد.. مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 الموسم ا ...
- الرئيس الايراني يصل إلي العاصمة الثقافية الباكستانية -لاهور- ...
- الإسكندرية تستعيد مجدها التليد


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جعفر كمال - عبدالله صخي يُدوَّن تداعيات -خلف السدة- بمعايشة -دروب الفقدان-