أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - عدنان عباس علي - من تاريخ الفكر الاقتصادي - التحليل الاشتراكي للأزمات الاقتصادية الدورية في المجتمعات الرأسمالية - الحلقة الخامسة والأخيرة: نظرية كروسمان وماتيك















المزيد.....

من تاريخ الفكر الاقتصادي - التحليل الاشتراكي للأزمات الاقتصادية الدورية في المجتمعات الرأسمالية - الحلقة الخامسة والأخيرة: نظرية كروسمان وماتيك


عدنان عباس علي

الحوار المتمدن-العدد: 4442 - 2014 / 5 / 3 - 23:42
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


الحلقة الخامسة والأخيرة: نظرية كروسمان وماتيك

هنريك كروسمان (Henryk Grossmann) وباول ماتيك (Paul Mattick) اقتصاديان ماركسيان قدما خدمات جليلة للفكر الماركسي. فهما ساهما في تطوير نظرية ماركس القائلة إن ميل معدل الربحية للانخفاض هو السبب الجوهري لاندلاع الأزمات في المجتمعات الرأسمالية.

وكروسمان اقتصادي ومؤرخ ألماني ماركسي، ولد في مدينة كراكوف (Krakó-;-w) البولندية عام 1881، وتوفي في مدينة لايبزغ (Leipzig) الألمانية عام 1950. ودرس القانون في جامعة كراكوف وأكمل فيها الدراسة العليا ونال منها شهادة الدكتوراه في القانون عام 1908. وانتقل في ذات العام إلى فينا لدارسة الاقتصاد. في عام 1922 منحته جامعة وارسو الحرة درجة الأستاذية واختارته لتدريس السياسة الاقتصادية والتاريخ الاقتصادي ومادة الإحصاء. في عام 1925، انتقل إلى فرانكفورت، وعمل في جامعتها أستاذاً للاقتصاد السياسي بدءً من عام 1929. وبصفته باحثاً في "معهد الأبحاث الاجتماعية" (Intitut für Sozialforschung) التابع إلى مدينة فرانكفورت، نشر كروسمان، في عام 1929، وضمن إصدارات المعهد المذكور، مؤلفه الرئيسي الموسوم "قانون التراكم والانهيار المتحكم بالنظام الرأسمالي"(Das Akkumulation- und Zusammenbruchsgesetz des kapialistischen Systems). وهاجر عام 1933 إلى باريس وانتقل عام 1936 إلى لندن وعاش من عام 1937 وحتى عام 1948 في نيويورك، وعمل، خلال هذه السنوات، باحثاً في "معهد الأبحاث الاجتماعية" (Institute of Soyial Research)، أي في المعهد، الذي كان ماكس هوركهايمر قد أعاد تأسيسه، في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1931، أي بعد مغادرته فرانكفورت بفترة وجيزة. بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وبسبب الحملات الإرهابية، التي شنها السناتور مكارثي، على رموز الفكر التقدمي، غادر كروسمان الولايات المتحدة وعاد إلى ألمانيا [الشرقية]، حيث عمل، حتى وفاته في العام 1950، أستاذاً للاقتصاد السياسي في جامعة لايبزغ.

أما باول ماتيك، فإنه اقتصادي ألماني ومناضل ماركسي، وقائداً عمالياً، ولد في مدينة شتولبه الألمانية (Stolpe/Pommern)، عام 1904، ونشأ وترعرع في عائلة عمالية كانت قد نذرت نفسها للدفاع عن المبادئ الماركسية. من هنا، لا غرو أن ينتمي ماتيك إلى عصبة سبارتاكوس وهو فتى لا يزيد عمره على 14 عاماً. ولأنه كان عاطلاً عن العمل، لذا هاجر إلى الولايات المتحدة الأمريكية في عام 1926، وسرعان ما أصبح هاهنا، عضواً فاعلاً في التنظيمات النقابية عامة، والأممية منها على وجه الخصوص. وانكب، في الولايات المتحدة، على صياغة نظرية تحلل أسباب تعرض المجتمعات الرأسمالية للأزمات الدورية، وهاجم نظرية جون ماينارد كينز، وتصوراته بأن السياسات الحكومية النشطة قادرة على حل معضلة الأزمات الاقتصادية. كما خصص جل وقته للتعمق في دراسة التراث الماركسي. وترك كتاب كروسمان، الصادر في عام 1929، بعنوان "قانون التراكم والانهيار المتحكم بالنظام الرأسمالي"، أثراً عميقاً على أفكار ماتيك. فبمؤلفه هذا، كان كروسمان قد أعاد إلى الأذهان نظرية ماركس في التراكم الرأسمالي، وساهم في أن تركز الحركة العمالية منظورها ونقاشاتها على هذه النظرية. وبالنظر لأهمية هذا الكتاب، آثر ماتيك أن يثري طبعته الثانية؛ فقد نشر في نهاية الكتاب، فصلاً أكد فيه على صواب النتائج التي توصل إليها كروسمان، وأشار من خلاله إلى انسجام هذه النتائج مع التحليل الماركسي. وانطلاقاً من النظرية الماركسية وأفكار كروسمان، صاغ ماتيك في عام 1933، برنامجاً جديداً للحركة العمالية الأممية وكتب بحثاً عنوانه: أزمة النظام الرأسمالي ومهام الطبقة البروليتارية. وتوفي ماتيك عام 1981، في كمبردج بولايات ماتشوستس الأمريكية.

وللوقوف على مغزى الإضافة، التي يقدمها كروسمان وماتيك للفكر الماركسي، لا مندوحة لنا من أن نعيد إلى الأذهان، النقد الذي وجهه بعض المفكرين الماركسيين إلى نظرية ماركس في انخفاض معدل الربحية.

لقد عاب هؤلاء على ماركس أنه لم يعر الصراع الطبقي أهمية أساسية في نظريته في الأزمة وفي آرائه بشأن انهيار المجتمع الرأسمالي وانتقاله إلى النظام الاشتراكي. فقد كان تحليله، بحسب ما قاله بعض خصومه من الماركسيين، تجريدياً صرفاً، قائماً على أساس وجود قوانين موضوعية تتحكم في مسيرة المجتمعات الرأسمالية وتحد، بشكل أو بآخر، من فاعلية الإرادة البشرية في التأثير على مسيرة ومستقبل هذه المجتمعات.

يرفض كروسمان وماتيك هذا النقد ويؤكدان على أن تحليل ماركس، لانخفاض معدل الربحية ولأسباب الأزمة، لا يعني، بأي حال من الأحوال، أن ماركس لم يعر أهمية ذات بال لضرورة توافر وتبلور الوعي الطبقي لدى الطبقة العاملة، وبوجوب تعميق الصراع الطبقي. فالأزمة، بحد ذاتها، هي "حالة ثورية موضوعية" كما يعتقدان. ولذا، فإن توضيح ماركس، لحتمية الأزمة في النظام الرأسمالي، يعني، في الوقت ذاته، الكشف عن هذه الحالة الثورية الموضوعية، وعن ضرورة التهيؤ لها ومحاولة الاستفادة منها في تأجيج الصراع الطبقي. وانطلاقاً من هذا المبدأ العالم، يربط كروسمان بين النظرية والواقع، إذ يقول حرفياً: مهما كان النظام الاقتصادي ضعيفاً، فإنه لن ينهار بصورة ذاتية وتلقائية أبداً، وإنما لا بد، أيضاً، من تدخل الإرادة البشرية في عملية سقوطه.

وكان الدافع الرئيسي الذي حفز كروسمان وماتيك للدفاع عن ماركس، يكمن في مقولة أوتو باور (Otto Bauer) أن حالة الاستخدام الكامل لعناصر الإنتاج تتسم، عادة، بانخفاض معدل الربحية، أي تتسم بما كان ماركس قد أكده في سابق الزمن، بيد أن هذا الانخفاض لن يؤدي إلى انهيار النظام الرأسمالي أبداً، وذلك لأن كافة القيم الأخرى، بما في ذلك فائض القيمة، ستستمر في الارتفاع، في المنظور المطلق. ويمضي آوتو باور في تحليله، فيقول: إن كل ما في الأمر هو احتمال أن تواصل هذه القيم ارتفاعها بمعدلات نمو متناقصة. فالطبقة العاملة ستحصل على المزيد من الأجر، والطبقة الرأسمالية ستكون قادرة على استهلاك المزيد من السلع، وعلى تحقيق المزيد من فائض القيمة، وعلى استثمار رؤوس أموال أكثر. من هنا، فإن النظام الرأسمالي يسقط، فقط، في حالة رفضه من قبل المواطنين. فلا وجود لقوانين اقتصادية تدفعه، بصورة حتمية، نحو السقوط النهائي والانهيار التام.

وأوتو باور أحد أقطاب "الماركسية النمساوية (Austromarxism)، أي التيار النظري الماركسي، الذي قاده أعضاء الحزب الديمقراطي الاشتراكي النمساوي فيكتور أدلر وأتو باور وكارل رينر وماكس أدلر، بالإضافة إلى رودولف هيلفردنغ. وساد هذا التيار، في العقود الأخيرة من حكم الإمبراطورية النمساوية المجرية، وفي عهد الجمهورية النمساوية الأولى (1918-1934). وحاول هذا التيار التوفيق بين الروح القومية من ناحية والعقيدة الاشتراكية من ناحية أخرى.

وأسس هؤلاء الماركسيون النمساويون عام 1921 "الاتحاد الأممي للأحزاب الاشتراكية" (المعروف باسم الأممية الثانية والنصف) على أمل توحيد الأممية الثانية والثالثة. إلا أن هذا الأمل باء بالفشل في نهاية المطاف. وترك هذا التيار بصماته على الحركة الاشتراكية الأوربية واليسار الجديد، ومكنها من العثور على أرضية اشتراكية ديمقراطية تتخذ موقعاً وسطاً ما بين الحركة الشيوعية والديمقراطية الاشتراكية. فالماركسية النمساوية قدمت برنامجاً عملياً للإصلاح الجذري في أوربا. فقد تطلع كل من حزب العمال البريطاني والأحزاب الاشتراكية الاسكندينافية إلى ما حققت فيينا من إصلاحات اجتماعية متقدمة، في مجال الرعاية الصحية والسكن والتعليم، أي الإصلاحات التي دفعت الكثيرين لأن يطلقوا لقب "فيينا الحمراء" على العاصمة النمساوية.

وكيفما كان، ففي سياق دفاعه عن تداعيات نظرية ماركس في انخفاض معدل الربحية، انطلق كروسمان من حقيقة أن الإنتاج يخصص لإشباع:
طلب الطبقة العاملة على السلع الاستهلاكية
وطلب الطبقة الرأسمالية على البضائع الإنتاجية
وطلب الرأسماليين على المنتجات الاستهلاكية.

وفي هذا السياق يتبنى كروسمان فرضية كارل ماركس في ميل التكوين العضوي لرأس المال إلى الارتفاع، مستنتجاً، من هذه الفرضية، أن استقرار النظام الرأسمالي يفترض نمو الإنتاج المخصص
لاستثمارات الرأسماليين
بنحو أسرع من الإنتاج المخصص لإشباع
طلب الطبقة العاملة على السلع الاستهلاكية.

فطبقاً لهذه الاستنتاج، يستطيع الرأسماليون زيادة الإنتاج السلعي بمعدلات أكبر من المعدلات التي سيكون بمستطاعهم تحقيقها فيما لو زادوا طلبهم على الأيدي العاملة والبضائع الاستثمارية بنفس المعدل. ومعنى هذا، هو أن طلب الرأسماليين على السلع الاستثمارية يجب أن ينمو بمعدل يفوق معدل نمو الإنتاج الكلي. ولا غرو في أن تطوراً من هذا القبيل، أمر يمكن تحققه، فقط، في حالة نمو طلب الطبقة الرأسمالية على السلع الاستهلاكية بسرعة أدنى، أي طالما ظل طلبهم الاستهلاكي يسجل معدلات نمو متراجعة.

وكان أوتو باور قد صاغ نموذجاً رياضياً لتتبع معدل الربحية وإثبات أن انخفاض هذا المعدل لا ينفي أبداً ارتفاع المقدار المطلق لفائض القيمة. بيد أن باور، اكتفى في نموذجه هذا بتتبع السنوات الأربعة الأولى. ولم يقتنع كروسمان بصواب النتائج التي استخلصها باور من نموذجه، لذا فأنه صاغ نموذجاً رياضياً خاصاً به، الغرض منه تبيان ما سينشأ في الأعوام التالية على السنة الرابعة. لقد أبان نموذج كروسمان أن المقدار المطلق لفائض القيمة سيتلاشى شيئاً فشيئاً، أي سيبلغ مقداره صفراً، بعد مضي 35 سنة على السنوات التي انطلق منها نموذج باور. فمن هذا التاريخ فصاعداً سيتوقف تراكم رأس المال، من الناحية الرياضية، بصورة تامة، أو لنقل بصورة شبه تامة.

ويلخص ماتيك هذا الاستنتاج فيؤكد: إن القول بأن سبب الأزمة في المجتمعات الرأسمالية يكمن في إفراط الرأسماليين في إنتاج البضائع الاستثمارية، يفترض، ضمنياً، ثبات درجة الاستغلال. فلو ارتفعت درجة الاستغلال إلى مستوى يلبي طموحات الرأسماليين، فستتواصل عملية التراكم من جديد، فهي لم تتعثر إلا لأن الرأسمال المتراكم قد كان (مقارنة بمعدل الربحية) أكبر من اللازم. فالرأسماليون لا يستطيعون المحافظة على رؤوس أموالهم وليس بمستطاعهم زيادتها إلا من خلال التراكم الرأسمالي. وهكذا، فإنهم يستثمرون بصورة عمياء، أي دون إعارة أي اهتمام لتطور متوسط معدل ربحية الرأسمال الكلي، أي تطور معدل الربحية على صعيد المجتمع ككل، متجاهلين أن هذا المتوسط، يحدد بدوره معدل ربحية رأسمال كل واحد منهم.

وهكذا، فإن انهيار النظام الرأسمالي ينشر ظلاله على المجتمعات الرأسمالية، حلما لا يكون في الإمكان زيادة الاستثمارات بأسرع من زيادة الإنتاج الكلي. فعندئذ سيندلع صراع بين الرأسماليين على توزيع الإنتاج الكلي وسيحاول كل واحد منهم إقصاء الآخر والسيطرة على نصيبه المحتمل من هذا الإنتاج، كما سيحتدم الصراع بينهم من ناحية والطبقة العاملة من ناحية أخرى، من أجل إحراز نصيب أكبر من الإنتاج الكلي. فهذا الرأسمالي أو ذاك، سيفلح في زيادة استثماراته بأسرع من الآخرين، وذلك لأنه نجح في إزاحة الآخرين من سوق البضائع الاستثمارية. ويعني تحقق هذه الحالة، أن الخاسرين في حلبة هذه المنافسة، لن يستطيعوا تحقيق الاستثمارات المنشودة بالمقدار الضروري. ومعنى هذا الفشل هو أن هؤلاء الرأسماليين سيتخلفون عن منافسيهم تكنولوجياً وسيخسرون أسواقهم شيئاً فشيئاً.

على صعيد آخر، لا غرو أن الرأسماليين سيحاولون خفض أجور العاملين، وسيسعون إلى التوسع في استثمار فائض القيمة، المتزايد لديهم، بفضل خفضهم أجور العاملين. بيد أن الأجور لا يمكن خفضها إلى ما لا نهاية، بحسب ما يؤكده كروسمان وماتيك. ولذا فإنهما يفترضان أن الرأسماليين سيحاولون تعزيز قدراتهم التنافسية، وذلك من خلال قيامهم بخفض أعداد العاملين لديهم بهدف خفض كمية رأس المال المخصص لتشغيل الأيدي العاملة. وغني عن البيان أن إجراءاً من هذا القبيل سيؤدي، إن عاجلاً أو آجلاً، إلى انتشار البطالة بين العاملين، وحدوث نقص في الأيدي العاملة الضرورية لتشغيل الطاقة الإنتاج المتاحة. ولسنا بحاجة هاهنا، للتنبيه إلى أن ما يقوله كروسمان وماتيك هاهنا، أعني إشارتهم، من ناحية إلى انتشار البطالة بين العاملين، ومن ناحية ثانية إلى انخفاض درجة تشغيل الطاقة الإنتاجية، إنما هي من جملة التناقضات، التي أسهب كارل ماركس في تحليلها في الفصل الخامس عشر من الجزء الثالث، من مؤلفه رأس المال.

ويواصل كروسمان وماتيك، من ثم، تحليلهم مؤكدين، على أن الصراع على توزيع الإنتاج الكلي بين الرأسماليين سيتخطى الحدود الوطنية، وسيعزز الاتجاهات الإمبريالية والميل إلى شن الحروب على الشعوب الأخرى. ولن تنخفض درجة تشغيل الرأسمال المستثمر في الآلات والمعدات فقط، بل وستتراجع، أيضاً، فرص استثمار الرأسمال المالي، أي ستحدث ذات الظاهرة التي نعاصرها في اليوم الراهن. وهكذا، فإن النتيجة التي تترتب على تطور من هذا القبيل، والتي تفضي في يوما ما إلى انهيار النظام الرأسمالي، يمكن اختصارها بعبارة واحدة فحواها: أن الفرص الاستثمارية المجزية لن تكون موجودة بالنحو المنشود.

ويفرز هذا التطور تناقضاً يكبد المجتمعات الرأسمالية خسائر مادية فادحة: ارتفاع متواصل في معدلات تضخم قيم الثروات النقدية („asset inflaion!“)، أي تضخم في أسعار الأسهم والعمارات والأراضي وما شابه ذلك، بالرغم من تعرض الاقتصاد الحقيقي إلى ركود خطير. وحين تتضاءل الربحية في عموم الاقتصاد، وتتناقص، أكثر فأكثر، الفرص المتاحة لتحقيق ربحية مجزية، تزداد المضاربة اتساعاً (فقاعات المضاربة) في أسواق المال بكل تأكيد.

لقد نشر كروسمان الطبعة الأولى من مؤلفه الذكور أعلاه عام 1929، أي قبل فترة وجيزة من تعرض الاقتصاد العالمي إلى أكبر أزمة عرفها التاريخ وقتذاك. ولا مراء في أن كروسمان وماتيك قد رأوا في هذه الأزمة دليلاً قاطعاً على صواب تحليلهم وتحليل كارل ماركس. إلا أن من غرائب الأمور هو أن تحليلهم هذا قد تعرض، من أول وهلة، إلى نقد شديد وجهته أطراف ماركسية وغير ماركسية.

والأمر الذي أثار امتعاض هؤلاء النقاد هو أن كروسمان وماتيك يعيرون طلب الرأسماليين على البضائع الاستهلاكية أهمية لم تخطر على بال ماركس أبداً. ففي النماذج الماركسية يجري، عادة، تجاهل هذا الاستهلاك، وذلك لأن حجم هذا الطلب لا قيمة له مقارنة بأرباح الطبقة الرأسمالية. حقاً تنفق هذه الطبقة مقادير معتبرة، على البضائع الكمالية الفاخرة، إلا أن هذا الإنفاق لا تأثير له على مستوى النشاطات الاقتصادية التي تمارسها الطبقة الرأسمالية. أضف إلى هذا أن المنافسة بين الرأسماليين تحتم عليهم، أصلاً، أن يقتصدوا في بذخهم على السلع الكمالية، لصالح نشاطاتهم الاستثمارية.

ولا غرو، أن بوسع المرء أن يحور نموذج كروسمان بنحو يجعله أكثر واقعية. فالمرء يستطيع أن يفترض أن ذلك الجزء من فائض القيمة، غير المخصص للاستثمار في الآلات والمعدلات، لا يُنفق بالضرورة على الأغراض الاستهلاكية، بل يمكن أن يُخصص لتشغيل المزيد من الأيدي العاملة. أي أن جزءاً من فائض القيمة، سيخصص لزيادة كثافة رأس المال في خلطة عناصر الإنتاج، وأن الجزء المتبقي يخصص لتشغيل أيدي عاملة إضافية، تدر على الرأسماليين المزيد من فائض العمل، وتساهم في التخفيف من تداعيات انخفاض معدل الربحية.

وكيفما اتفق، فإن إشارتهم إلى أن النظام الرأسمالي "لن ينهار بصورة ذاتية وتلقائية أبداً، وإنما لا بد، أيضاً، من تدخل الإرادة البشرية في عملية سقوطه" عززت القناعة لدى النقابات العمالية في أن حصة كل من الطبقة العاملة والطبقة الرأسمالية، لا تتوقف على معطيات موضوعية، بل على القوة، التي تستطيع الطبقة العاملة حشدها، في خضم الصراع الطبقي، وعلى قدرتها على تنظيم نفسها، وقيادة حركة عمالية، قادرة على رفع الأجور، بما يفوق مستوى ارتفاع الإنتاجية؛ فبهذا النحو، وإذا ما واصلت الطبقة العملية نضالها، ونجحت في تخفيض درجة الاستغلال، وفي تدهور معدل الربحية، فإنها ستنجح، إن عاجلاً أو آجلاً، في دفع النظام الرأسمالي نحو الانتكاسة. وعلى خلفية هذا المنظور، ما عاد العمال الطبقة المغلوبة على أمرها، بل أصبحوا قادرون على إشعال فتيل الأزمة في المجتمعات الرأسمالية.

وإذا كان بمستطاع الطبقة العاملة أن تقود هذه المجتمعات إلى الانتكاسة، وذلك من خلال كفاحها من أجل رفع الأجر الحقيقي، فلا غرو أن بإمكانها، أيضاً، الوقوف ضد أية محاولة لخفض هذا المستوى من جديد. وغني عن البيان، أن نجاح الطبقة العاملة في رفع مستوى أجورها الحقيقية، بنحو دءوب، سيعيق النظام الرأسمالي من الخروج من الأزمة. ولو تحققت هذه الحالة فعلاً، فسيعاني النظام الرأسمالي من ركود مزمن، وسيتعرض للانهيار كلية.

والملاحظ هو أن غالبية الماركسيين يرفضون هذه النظرية المتفرعة عن نظرية كروسمان وماتيك، باعتبار أنها تهمل القوانين المتحكمة في حركة المجتمعات الرأسمالية، أي أنها تهمل القوانين التي استخلصها كارل ماركس من نظريته في المادية الجدلية. علاوة على هذا، يرفض هؤلاء الماركسيون، اعتبار نسبة الأرباح إلى الأجور قيمة تعبر عن درجة الاستغلال، وذلك لأن فائض القيمة أشمل، لديهم، من مفهوم الربح.



#عدنان_عباس_علي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- من ناريخ الفكر الاقتصادي - التحليل الاشتراكي للأزمات الاقتصا ...
- من تاريخ الفكر الاقتصادي - التحليل الاشتراكي للأزمات الاقتصا ...
- من تاريخ الفكر الاقتصادي - التحليل الاشتراكي للأزمات الاقتصا ...
- من تاريخ الفكر الاقتصادي - التحليل الاشتراكي للأزمات الاقتصا ...
- منطقة التجارة الحرة الأورو-أمريكية
- أسباب وأبعاد الأزمة الناشرة ظلالها على أسواق العملات في العد ...
- أساليب كبرى المصارف المركزية في التعامل مع الانهيار الكبير ف ...
- القرن القادم: هل هو قرن صيني أم أمريكي؟
- العملة الصينية تسير بخطوات مترددة ووئيدة صوب التحول إلى عملة ...
- الاتجاهات المثالية والمادية في الفلسفة الأوربية الحلقة الثان ...
- الاتجاهات المثالية والمادية في الفلسفة الأوربية (الحلقة الأو ...
- آفاق التعاون بين الاتحاد الأوربي ودول المغرب العربي في مجال ...
- الصناديق السيادية - وأهميتها في النظام المالي الدولي
- النشاط الاقتصادي الصيني في أفريقيا: أهو استعمار جديد أم منهج ...


المزيد.....




- غايات الدولة في تعديل مدونة الاسرة بالمغرب
- الرفيق حنا غريب الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني في حوار ...
- يونس سراج ضيف برنامج “شباب في الواجهة” – حلقة 16 أبريل 2024 ...
- مسيرة وطنية للمتصرفين، صباح السبت 20 أبريل 2024 انطلاقا من ب ...
- فاتح ماي 2024 تحت شعار: “تحصين المكتسبات والحقوق والتصدي للم ...
- بلاغ الجبهة المغربية لدعم فلسطين ومناهضة التطبيع إثر اجتماع ...
- صدور أسبوعية المناضل-ة عدد 18 أبريل 2024
- الحوار الاجتماعي آلية برجوازية لتدبير المسألة العمالية
- الهجمة الإسرائيلية القادمة على إيران
- بلاغ صحفي حول اجتماع المكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية ...


المزيد.....

- مساهمة في تقييم التجربة الاشتراكية السوفياتية (حوصلة كتاب صا ... / جيلاني الهمامي
- كراسات شيوعية:الفاشية منذ النشأة إلى تأسيس النظام (الذراع ال ... / عبدالرؤوف بطيخ
- lمواجهة الشيوعيّين الحقيقيّين عالميّا الإنقلاب التحريفي و إع ... / شادي الشماوي
- حول الجوهري والثانوي في دراسة الدين / مالك ابوعليا
- بيان الأممية الشيوعية الثورية / التيار الماركسي الأممي
- بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة ف. آي. لينين (النص كاملا) / مرتضى العبيدي
- من خيمة النزوح ، حديث حول مفهوم الأخلاق وتطوره الفلسفي والتا ... / غازي الصوراني
- لينين، الشيوعية وتحرر النساء / ماري فريدريكسن
- تحديد اضطهادي: النيوليبرالية ومطالب الضحية / تشي-تشي شي
- مقالات بوب أفاكيان 2022 – الجزء الأوّل من كتاب : مقالات بوب ... / شادي الشماوي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - عدنان عباس علي - من تاريخ الفكر الاقتصادي - التحليل الاشتراكي للأزمات الاقتصادية الدورية في المجتمعات الرأسمالية - الحلقة الخامسة والأخيرة: نظرية كروسمان وماتيك