أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صبري هاشم - رقصة التماثيل رواية















المزيد.....



رقصة التماثيل رواية


صبري هاشم

الحوار المتمدن-العدد: 4435 - 2014 / 4 / 26 - 13:01
المحور: الادب والفن
    


***
رقصة التماثيل : رواية
تأليف : صبري هاشم
جميع الحقوق محفوظة
الطبعة الأولى : 1995 دار المدى ـ دمشق
***

الإهداء
إِلى يمامة الخوري

***

1

الوجوهُ التي احْتَفَلتْ بمَوْتي
غادَرَتْني البارِحَةَ


***

سَأَهْجُرُ كَائِنَاتِي المُتَعَفِنَةَ ، المُلْتَفّةَ حَوْلَ عُنْقِ أَيّامِي ، المُخْتَبِئَةَ بِأْكفَانِ خَيْبَتِها .. سَأَهْجرُ التَّنْويمَ القَسْريَّ للبَلادَةِ وَتِلْكَ الأَوْرَاقَ المَنْسِيّةَ الرّثّةَ .. سَأَهْجُرُ غَبَاءَ الأَسَاطِيْرِ وَرَائِحَةَ الأَحْذِيَةِ الثَّقِيِلَةِ للضَحَايَا المَسْجِيينَ عَلَى أَسُرّةٍ مُوْحِلَةٍ تَكَادُ تَرْدِمُ نَفْسَها بِنَفْسِهَا . سَأَهْجُرُ الأَحْلامَ الّتِي نَشَأَتْ عَبَثَاً فِي ثَنَايَا اليَّقَظَةِ أَوْ الّتِي اِلْتَفَتْ مَعَ خُيُوطِ الأَغْطِيَةِ اللَيْلِيَةِ فَصِرْنَا أَسْرَاهَا إِلى أَنْ غَرّبَتْنَا وَتِهْنَا فِي شِعَابِ الوَهْمِ .. تِلْكَ سَأَهْجُرُهَا وَ لْتُنْسَفْ أَدْمِغَةُ العَالَمِ جَمْعَاء .
فَحِيْنَ يَهْجِمُ الظّلامُ جَذِلَاً ، إِبَاحِيَّاً ، مُمْتَطِيَاً صَهْوَةَ عَذَابِنَا أَخُطُّ بِدَايَةً مُغْلَقَةً وَنَزْعَةً مُهَاجِرَةً وَسَتَتْبَعُنِي : رَائِحَةُ المَعَاوِلِ ، نِصَالُ وُجُوهِ القَوْمِ ، عَمَائِمُ سَرَطَانِيّةٌ ، أَوْرَامٌ كَامِنَةٌ كُمُونَ المَوْتِ ، خَنَاجِرُ الدِّيْنِيينَ الصَّدِئِةُ .. سَتَنْحَتُ فِي صَدْرِيَ أَخَادِيْدَ عَذَابٍ مُحَاوِلةً تَسْلِيْمِي إِلى الرَّبِّ فِي دَوْرَةِ الإِبَادَةِ .
انْطَلَقْتُ فِي لَيْلَةٍ فَاحِشَةٍ ، عَظِيْمَةِ السَّوَادِ .. اِنْطَلَقْتُ يُجَابِهُنِي وَجْهُ الزِّنْجِيّ المُتَجَهِّمُ .. تَعَلّقْتُ بِسَاعِدِ الحَيَاةِ.. تَوَغَلّتُ فِي اِحْتِرَابِ الأَسْئِلَةِ . أَسْئِلَةٌ خَاضَتْ غِمَارَ غُبَارِ الوُجُوهِ.. تَدَلّتْ نَاصِيَةُ المَوْتِ .. تَأَرْجَحَتْ مَعَ الهُبُوبِ . تَمَرّدْتُ عَلَى الضِّفَافِ الّتِي عَانَقَتْ أَنْهَارَهَا فِي لَحْظِةِ وَجْدٍ .. تَمَرَّدْتُ عَلَى العَصَافِيْرِ الّتِي هَجَرَتْ دِيَارَهَا وَتَرَاشَقْتْ مَعَ جَهَنّمَ بِأَلسُنَةِ نِيْرَانِ تِنِيْنِيّةٍ .. تَمَرَّدْتُ عَلَى الغَيْمَةِ العَذْرَاءِ حِيْنَ دَخَلَهَا اللهُ فِي السُّرِّ وَأَنْجَبَتْ غَازَ الخَرْدَلِ .. أَنْجَبَتْ شُمُوسَاً سَوْدَاءَ . تَسَكّعْتُ فِي الطُّرُقَاتِ بَحْثَاً عَنْ وَهْجٍ يُلَامِسُ وَجْهَ الزَّمَنِ المُدَثَّرَ بِالعُهْرِ وَالطَّهَارَةِ .. تَمَرّدْتُ عَلَى مِيْلادِيَ المُسَجّلِ بِأَيْدٍ فَحْمِيّةٍ قَذِرَةٍ .. وَلِأَنَّنِي تَمَرَّدْتُ عَلَى كُلِّ شِيءٍ وَلِأَنني قَرّرْتُ وَلِأَنني أَصِبْتُ ، فَسَأَهْجُرُ كُلَّ هذهِ اللَعَنَاتِ الّتِي اِنْسَكَبَتْ عَلَى رَأْسِيَ مِثْلَ حَامِضِ النَّتْرِيْكِ مُنْذُ الوِلَادَةِ المُزَيَّفَةِ لِجِثَتِي .
الطَّرِيْقُ إِلى البَصْرَةِ طَوِيْلَةٌ .. الطَّرِيْقُ مُجَنَّحَةٌ .. الطَّرِيْقُ حَرَائِقُ آثِمَةٌ .. نَجِيْعُ الذُّلِّ وَالمَهَانَةِ ، وَقُبَيْلَ رُكُوبِهَا لَابُدَّ مِنْ مُطَارَحَةِ هذهِ المَرْأَةِ الّتِي قَفَزَتْ أَمَامِيَ كَشَبَحٍ مِنْ نَارٍ .. لَابُدَّ مِنْ الإنْضِوَاءِ تَحْتَ المُلَاءَةِ السَّوْدَاءِ بِأَنِيْنٍ مَشْبُوبٍ وَصُرَاخِ مُغْتَلِمٍ لَاهِثٍ .. لَابُدَّ مِنْ جَيَشَانٍ سِحْرِيٍّ أَوْ حُلُمٍ وَحْشِيٍّ .. لَابُدَّ مِنْ الإصْطِلَاءِ بِنَارٍ مُقَدّسَةٍ مِنْ أَجْلِ أَنْ أَمْحُوَ آخَرَ ذَنْبٍ عَلِقَ بِرَقَبَتِي مِثْلَ طَوْقٍ .. لَابُدَّ .. لَابُدَّ مِنْ اِنْصِهَارٍ تَامٍّ مَعَ هذهِ الغَرِيْبَةِ اللَاهِبَةِ .
الطَّرِيْقُ طَوِيْلَةٌ ، فَلْنَتَزَوّدْ بِنُطْفَةٍ عَابِرةٍ خَارِج الإثْمِ ، خَارِج المَكَانِ المُدَنّسِ ، خَارِج الزَّمَانِ المُلَوّثِ ، خَارِج التَّارِيْخِ المُزَيَّفِ، البَاطِلِ ، خَارِج الأَشْيَاءِ ، خَارِج الأَنَا الّتِي حَبِلْتُ بِهَا أَوْ الّتِي حَبِلتْ بِيَ وَحَمَلَتْنِي عَلَى أَكُفِّ عَارِهَا فَلْتَتَزَوّدْ أَوْ نَتَزَوّدْ سَوِيّةً . دَعَوْتُهَا إِلَيَّ .. دَعَوْتُ الفُجُورَ كُلَّهُ أَنْ يَدْخُلَنِي أَوْ يَدْخُلَها .. دَعَوْتُ المَلَائِكَةَ تَكُونُ شَاهِدَةً عَلَيْها وَعَلَيّ .. دَعَوْتُ نَفْسِيَ إِلَيْهَا .. تَجَرّدْنَا مِنْ آخِرِ قِطْعَةٍ تَسْتُرُنَا ـ هذا العَالَمُ مَبْغَىً كَبِيْرٌ تُدِيْرُهُ الآلِهَةُ فِي العَلَنِ وَتَحْرِسُهُ جُيُوشُ المَلَائِكَةِ . جَذَبْتُهَا إِلَيَّ.. تَدَلّتْ رَقَبَتُهَا إِلى الوَرَاءِ .. هَاجَ بُرْكَانٌ كَوْنِيٌّ .. أَلْقَى حِمَمَهُ إِلى جَسَدِي .. اِصْطَرَعْنَا وُقُوفَاً .. هَاجَتْ بِحَارٌ .. تَدَافَعَتْ أَمْوَاجٌ.. اِرْتَطَمَتْ بِصُخُورِ سَاحِلِي الأَجْرَدِ .. أُقْتِلِعَتْ جُذُورُ وِحْدَتِنَا فَتَهَاويْنَا إَلى اللَاقَاعِ وَمَضَيْنَا.
اللَيْلَةُ المَسْحُورَةُ تُسَلِّمُنِي لبَقَايَا ظَلامٍ مُفْتَرسٍ وَالطَّرِيْقُ إِلى البَصْرةِ مَلْأَى بِالوَحْشِ .. الطَّرِيْقُ أَفَاعٍ سَامّةٌ لَا تَلْدغُ إلاّ لِضَرْبَةٍ قَاِتلَةٍ .. الطَّرِيْقُ هَمَجِيَةُ البَدَاوَةِ الجَبَلِيّةِ الزّاحِفَة إِلى جَسَدِي كَدَاءِ الحَضَارَةِ .
هَأَنَذا أَضَعُ قَدَمَيَّ فِي المُدِنِ المُخَدّرةِ .. هأَنذا أَتَجَاوَزُ جَزْمَةَ الرُّعْبِ .. هأَنذا أُصَلِّي لإبْلِيسَ فِي بَغْدَادَ أَوْ أَسْجِدُ للْمُرْتَدِيْنَ عَبْرَ التّارِيْخِ ، وَبَعْدَ قَلِيْلٍ سَأَمُرُّ بِأضْرِحَةِ العَبَّاسِيين .. سَأَمُرُّ عَلَى أَجَمَةِ الوُحُوشِ الكَاسِرةِ .. سَأُقَاتِلُها بِمَخَالِبَ تَمَرُّدِي وَلْتَنْأَ السَّمَاءُ بَعِيْدَاً.. بَعِيْدَاً .
تُلَامِسُ حُبَيْبَاتُ النَّدَى وَجْهَ الفَجْرِ .. تُدَاعِبُ وَجْنَتَيْهِ فِي حُنُوٍّ إِبَاحِيٍّ .. وَبَغْدَادُ الأُنْثَى نَائِمَةٌ فِي خِدْرِهَا المُسْتَبَاحِ .. بَغْدَادُ كُلُّ المُجُونِ الأَهْوَجِ .. بَغْدَادُ الضَّلَالَةُ أَرَادَتْ الإرْتِقَاءَ إِلى نَجْمَةِ الصُّبْحِ فَتَرَنّحَتْ تَحْتَ ثُقْلِ الأَحْذِيَةِ .
إِلى أَيْنَ أيُّهَا الضَّالُ ؟
وَجْهِيَ حِذَاءٌ قَدِيْمٌ مَا مَسَّهُ مَاءُ وَلَا رَفْرَفَتْ فِي أَعَالِيهِ بَهْجَةٌ . مَنْ أَجْبَرَكَ عَلَى المَجِيءِ إِلى مَسَلّةِ اللَعَنَاتِ وَ المَوْتِ المَجّانيِّ؟ مَا أَغْرَبَكَ مِنْ رِدَاءٍ مَنْفِيٍّ !
تَنَفَسْتُ نَسْمَةَ الصَّبَاحِ .. ثَقِيْلةً كَانَتْ وَكَرِيْهَةً مِثْلَ جَوْرَبٍ قَدِيْمٍ قَذِرٍ .. وَاجَهَتْنِي الصّالِحِيّةُ الثَّمِلَةُ الّتِي رُبَّمَا اِحْتَسَتْ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ بُضْعَةَ بَرَامِيْلٍ مِنْ مَادّةٍ كُحُولِيّةٍ مَمْزُوجةٍ بِسِيَانِيْدِ البُوتَاسْيُوم ، فَنَسَفَتْ أَمْعَاءَ القَوْمِ .
إِلى أَيْنَ يَامِنْقارَ البَطِّ المُتَآكِلَ ؟ وَهذا وَطَنٌ بِرُمَّتِهِ قَاصِرُ التَّكْويْنِ ! هذا وَطَنٌ يَعْزِفُ نَشِيْدَ المَوْتِ الصّامِتَ مُنْذُ انْبِعَاثِهِ . تَنَهّدَ الصَّبَاحُ فِي صَدْرِيَ .. تَنَهّدَتْ أَشْجَارٌ خَلَعَتْ حِلّتَها .. تَنَهّدَتْ أَرْضٌ فِي إثْرِ قُبْلةٍ سَمَاوِيّةٍ .. مَازَالَتْ الصّالِحِيّةُ ثَمِلَةً .. مَازِلْتُ مُضَمّخَاً بِهَمِّ السِّنِيْنِ القَادِمَةِ ، المَجْهُولةِ .. مَازِلْتُ مُثْقَلاً بِرُعُبِ السَّاعَةِ الّتِي نَسَفَتْ ثَلَاثِيْنَ عَامَاً كُنْتُ خِلَالَهَا مُسْتَرْخِيّاً بِيْن جَنَائِنِ الغَيْبُوبَةِ .. مَازِلْتُ فِي خُضَمِّ اللَوْثَةِ.. فِي خُضَمِّ الحَقِيْقَةِ الّتِي سَتُصْبِحُ سِيْخَاً فُولاذِيّاً يَنْغَرِسُ و يَرْتَدُّ ، ثم يَخْتَرِقُني ليَسْتَقرَّ فِي جَسَدٍ خَاوٍ كَخَواءِ الدّيْمُومَةِ الكاذِبَةِ .. كَخَواءِ المُمَارَسَاتِ الفَاجِرةِ .. كَخَواءِ أَحْلامِ اليَقَظَةِ التي ابْتَلَيتُ بِها . مَرَرتُ بِهامِشِ الحَيَاةِ غَيْرَ مُسْتَقرِّ البَالِ وَكانَ القَلَقُ هُوَ المَوْتُ الزُّؤام.. وَكَانَ الإرْتِدَادُ أَعْظمَ مِنْ دَهْشَتِي .. أَعْظَمَ مِنْ شُؤونِ الفِكْرِ والسّيَاسَةِ .
الطّقْسُ أَمْيلُ للبُرودَةِ وَلَابُدَّ مِنْ البَحْثِ عَنْ مُعَادلٍ يَدْخُلُ جَوْفِيَ الجِيفَةَ .. مِعْدَتِي النَّتِنَةَ . عَرَّجْتُ على مطْعَمٍ يَفْتَحُ أَبْوابَهُ تَوّاً .. أَخَذْتُ فُطُورَاً بَائِسَاً كَبُؤسِ الحَقِيْقةِ .. كَبُؤسِ التَّجْربَةِ .. كَبُؤسِ الرُّؤى السِّيَاسِيّةِ و العُنْجَهيةِ الفَارِغةِ للأَدْيانِ قَاطِبَةً .. كَبؤسِ الأحْلامِ الوَرْديّةِ في لَيْلَةٍ تَظنُّ أنَّهَا حَمْراء .. كَبُؤسِ القَرَارِ الّذِي يَصْنَعُهُ البَائِسُون . ماعَادَتْ اللُقْمَةُ تَأخِذُ طَريقَهَا إلى بَلْعُومِيَ .. لُقْمَةٌ مِنْ عَلْقمٍ و نَارٍ .. أَشْعَلْتُ سِيجارةً قاتِلةً.. تَخَيّلتُ اللَهَبَ فِي عُودِ الكِبْريتِ هُوَ اللَهَب الّذِي سَيَحْرِقُ جَسَدِي وَيَنْثرُهُ أَشْلاءً .. تَخَيّلْتُهُ الشَّرَارَةَ التي سَتَحْصُدُ هذا العَالمَ الخَرِبَ و تَلْقِيَ بهِ في اُتُونِ جَحِيمٍ أَرْضيٍّ .
الصَّبَاحُ بِكرٌ .. عَذْرَاءُ مَا حَلَّ ابْنُ عَاهِرةٍ بِكَارَتَها.. خَرَجْتُ مِنْ المطْعَمِ .. ارْتَجَفَتْ عَجِيْزَتِي بَرْدَاً ، خَوْفَاً ، حَيْفَاً ؟ لَا أَدْرِي لَكِنَّني صرْتُ نَزيْفَاً يَغْمُرُ الأَرْصِفَةَ وَوَاحَاتِ النَّدَمِ المَسْحُورَةَ ، المَحْفُورةَ فِي ذَاكِرةِ الأَجْدَادِ .. صرْتُ تَرْنِيْمَةً لعَصَافِيْرَ لَمْ تَتَعَلّمْ بَعْد لُغَةَ التَّغْرِيدِ وَالتَّهَوِّرِ فِي سَمَاءَ أَجْمَل مَا فِيْها قَتَامَتهَا . اِعْتَدَلَ الصَّبَاحُ .. فَاضَتْ الشَّوَارِعُ بِالبَشَرِ .. فَاضَتْ بِرَائِحَةِ النَّحْسِ وَاللُؤمِ وَالشَّرِّ .. إخْتَفَتْ عُذُوبَةُ السَّكِيْنةِ بَيْن الوِجُوهِ المَجْبُولةِ مِنْ عَذَابٍ وَتَمرُّدٍ وَلَا أُبَالِيَّةٍ .. رحْتُ أَتَأَمَلُ الأشْيَاءَ :
الشُّرُفَاتُ التِي لَمْ تَكْتَشِفْ بَعْد حُضُورَهَا فـِي وِدْيَانِ الأَلَقِ الشَّفِيْفَةِ .. الأشْجَارُ الوَدُودَةُ التِي لَاتُصِرُّ عَلَى أَنَّهَا مَلِكَةُ السَّخَاءِ الدُّنْيَويّ .. قَتَامَةُ السَّمَاءِ التِي تَبْدُو أَطْعَنَ مِنْ طَاعُونٍ.. إِنَاثُ العَصَافِيْرِ المَرِحَةُ وَذُكُورُها المُسْتَعِدَةُ لمُطَارَحَاتٍ مُسْتَمِرةٍ مَعَ بَهْجَةِ الظِّلَالِ .. تَأمَلْتُ وِحْدَتِي فِي هذا المَدَارِ المُزْدَحِمِ فِي دَوْرَةِ الأشْياءِ.. تَأمَلْتُ حَلَقَاتِ النُّسْوَةِ وَقَدْ تَجَمّعْنَ عَلَى الأَرْصِفَةِ فِي اِنْتِظَارِ لَعْنَةِ السّمَاءِ أَوْ بَرِيْقِ الأَمَلِ .. تأَمَلْتُ اللائِي بِثِيَابٍ سَوْدَاءَ يَحْمِلْنَ أَكْيَاسَاً وَقدُورَاً إلى أَعْزَاءَ لَهُنَّ فِي غَيَاهِبِ السُّجُونِ أَوْ فِي طَرِيْقِهنَّ إِلى مُدِنٍ مِنْ جُوعٍ وَيَسْتَنْجِدْنَ بالقَدَرِ فَلَا يَسْتَجِيْبُ .. تَأَمَلْتُ أُخْرَياتٍ حَلّقْنَ مَعَ المُوْسِمِ فِي آخِرِ صَرْعَةٍ مِنْ صَرْعاتِهِ يَفْضَحْنَ أَجْسَادَاً رِجْرَاجَةً جِيْلَاتِيْنِيّةً وأَفْخَاذَاً تَصْنَعُ أَرْوَعَ وأَقْوَى القَرَارَاتِ إنْ شَاءَتْ فِي لَيْلَةٍ مُقْمِرَةٍ عَلَى ضِفَافِ دِجْلةَ أَوْ حَمْرَاء بِالشِّيْرَاتُون هذا لَايَهُمُّ.. تَأَمَلْتُ أَطْفَالَاً بِأَسْمَالٍ بَالِيَةٍ وَوِجُوهٍ مَا مَسَّهَا مَاءُ .. تَأَمَلْتُ آخَرِيْنَ فِي أَجْمَلَ المَقَاعِدِ الخَلْفِيّةِ الوَثِيْرةِ لِسَيَّارَاتٍ فَارِهَةٍ .. تَأَمَلْتُ العُمّالَ ـ الطَّبَقةَ ـ الّذِيْنَ لَمْ يَخُونُوا الطَّبَقَةَ رُغْمَ تَبَدُّدِ أَحْلَامِهِم .. تِهْتُ فِي دَهَالِيْزِ اِنْعِدامِ الرُّؤيَةِ .. تِهْتُ مَعَ هذا الضَّبَابِ الكَثِيْفِ الهَابِطِ مَعَ الرُّؤَى العَذْرَاء .. حَاوَلْتُ الخُرُوجَ مِنْ دَوّامةِ التّأَمُّلِ فَمَا اِسْتَطِعْتُ .. لَمْ أَشْعُرْ بِتَنَاغُمٍ مَعَ مَا يَحْدِثُ مِنْ حَوْلِيَ .. هذا ضَياعٌ غَرِيْبٌ .. تِيْهٌ كَابُوسِيٌّ .. هَدَّنِي التَّأَمُلُ .. ضِعْتُ بَيْن هذهِ الوِجُوهِ المُتَجَهِّمةِ وَتِلْك الوِجُوهِ البَشُوشَةِ .. سَحَقَتْنِي الأَحْذِيةُ المُلَمَعَةُ لجُنْدِ السُّلْطانِ .. حَمَلَتْنِي فِي لَحْظَةٍ مُبارَكَةٍ أَجْنِحَةُ السَّمَاءِ .. حَلّقتْ بِيَ بَعِيْدَاً عَنْ هذا الرُّعْبِ .. لَكِنَّنِي ضِعْتُ و ضَيَّعَتْنِي التَّفَاصِيْلُ فِي غَمْرَةِ الصَّباحِ البَكْرِ .
بَدَأْتُ عُبُورَ جِسْرِ الشُّهَداءِ ـ هُنا سَقَطَتْ أَوْلُ امْرَأَةٍ مُضَرَجَةٍ بِدِمَائِهَا مِنْ أَجْلِ الحُرِّيّةِ .. عَاشَتْ كُلُّ النِّسَاءِ.. عَاشَتْ كُلُّ الفُرُوجِ النَّبيلَةِ ، الصَّمّاءِ . تَوَقّفْتُ عِنْدَ مُنْتَصَفِ الجِسْرِ .. ماءٌ غِرْيَنِيٌّ .. أَمْوَاجٌ دَاعِرَةٌ سَأُسَوّيَ مِنْهَا ضَفَائِرَ لِعُرْسٍ قَادِمٍ عَلَى أَيّةِ مَاجِنَةٍ .. دجْلَةُ يَغْلِي شَهْوةً .
ضَاجِعْها أَيُّهَا النَّهْرُ العَظِيْمُ .
بَغْدَادُ تَفْتَحُ فِخْذَيْهَا بِشَوْقٍ وَحْشِيٍّ .
ضَاجِعْهَا وَلْتَنْجُبْ حُوتَاً ضَخِمَاً أَوْ صَارُوخَاً يَهِدُّ الكَوْنَ.. ضَاجِعْهَا وَلْيَحْتَرِقْ هذا الوَطَنُ المُرَصَّعُ بالنّيَاشِينِ وَالخُوذِ الفُوْلَاذِيّةِ . هذا وَطَنٌ أَسْمَيْنَاهُ جَزْمَةً حِيْنَ صَارَ مَرْتَعَاً لِكُلِّ أَحْذِيةِ التّارِيْخِ . ضَاجِعْهَا وَلْتُبارِكِ السَّماءُ مَشِيْئَةَ الرَّبِّ فِي زَمَنِ ارْتِجاجِ العُقُولِ .
إِلى أَيْن يَا فَحْلَ العَنْزِ الأَجْرَب ؟
إِلى أَيْن التَّيَمُمِ وَأَنْتَ فِي قَافِلَةِ التَّوْحِيْدِ المُتَلَاطِمَةِ الهَائِمَةِ فِي عُرْضِ اليَمِّ ؟ إِلى أَيْن ؟
أَتَعْزُفُ أَلْحَانَكَ لِكَي تَرْكَبَ المُوْجَ الصَّحْرَاوِيَّ ثَانِيَةً ؟
لَا .. سَأَدُقُّ عَلَى أَبْوَابِ الرّصَافَةِ .. سَأَنْقرُهَا بَابَاً بَابَاً وَأَصْرخُ : أَنا " عَدْنَانُ الحَسَن ".. أَنَا جَامُوسُ الجُنُوبِ المُتَوَحِشُ .. أَنَا جُرْثُومةُ المُسْتَنْقَعاتِ المُلْتَفّةُ حَوْلَ البُرْدِيِّ .. سَأَنْثُرُ رَمَادِيَ عَلَى كُلِّ الرُّؤوسِ المُوْغِلَةِ بالغَبَاءِ .. سَأُحَلِّقُ حَوْلَكُم وَأَنْشُرُ فِي سَمَائِكُم دِيْدَانَ دَائِي.
عَلَى مَضَضٍ عَبَرْتُ الجِسْرَ ، تَذَكّرْتُ حَانَةَ الزُّعَمَاءِ.. عَكِفْتُ إِلَيْهَا لأَكْرَعَ خَمْرَاً لَاذِعَاً ، مَوْتَاً ، رُبَّمَا عِنْدَ تَذَوِّقِهِ أُصْبِحُ زَعِيْمَاً .. كَيْفَ وَأَنَا إِلى اللَحْظَةِ لَمْ أَقْتُلْ نَمْلَةً وَلَو عَنْ طَرِيقِ الخَطَأِ ؟ كَرَعْتُ مِنِ الزُّجَاجةِ سُمَّاً قَاتِلَاً .. أَتَيْتُ عَليْهَا . تَرَكْتُ الحَانَةَ إِلى حَيْثُ لَا أَدْرِي . طَوَيْتُ شَارِعَ الرَّشِيْدِ . شَمِمْتُ رَائِحَةَ عَمَائِمِ العَبّاسِيِيْن . تَنَفَسْتُ غُبَارَ خُيُولِ مَاضِيهم . دَارَتْ فِي رَأْسِيَ إِبَاحِيَةُ نِسَائِهِم وَكُلُّ اللَغُوِ عَنْ البُطُولَاتِ وَصِنَاعَةِ التَّأرِيْخِ المَجِيْدِ . مَرَرْتُ بِسَاحَةِ " الغْرَيْرِي " : نَمْ قَرِيْرَ العَيْنِ أَيُّهَا السَّفّاحُ وَلْتَحْرُسْكَ آلِهَةُ القَتْلِ .. مَازِلْتُ أَطْوِيَ عَلَى قَدَمَيَّ الوَاهِنَتَيْنِ كُلَّ أَشْبَارِ الأَرْضِ المَلْغُومَةِ بِمُفَرْقِعَاتِ الخِيَانَةِ .
الطَّرِيْقُ إِلى البَصْرَةِ طَوِيْلَةٌ .. مَازِلْتُ أَحْمِلُ فَأْسِيَ بَحْثَاً عَنْ نَاصِيَةٍ هَشّةٍ أَضَعُهَا فِيْهَا .. مَازِلْتُ أَحْمِلُ تَمَرُّدِي بِنَبْضِ قَلْبِي.. لَنْ أَتَوَقَّفَ حَتّى يُفَتَّ كَبِدُ " رُوما" بِـ " البُنْدُقِيّةِ " .. لَنْ أَتَوَقَّفَ حَتّى تَحْبَلَ الوَرْدَةُ بِنُصْفِ رَغِيْفٍ.
لَكِن إِلى أَيْن يَا بَعْضَ ضِفْدَعٍ هَرِمٍ ؟ عَلَيْكَ أَلاّ تَمُوتَ مِيْتَةَ أَرْنَبٍ .. نُبْلٌ مِنْكَ أَنْ تَدُقَّ فَأْسَكَ فِي قَاعِدَةِ الهَرَمِ وَلْتُحْدِثْ زِلْزَالاً يَبْتَلِع كُلَّ هذا البِنَاءِ الضَّخْمِ .. كُلَّ هذهِ المَكَائنَ الجَاهِزَةِ لِتَشْيِيْدِ حَضَارَةٍ زَائِفَةٍ . حَضَارَةٌ زَائِلَةٌ سَوْفَ تُشَيَّدُ بِمِلْيونَ جُمْجُمَةٍ بَرِيْئَةٍ . مَازِلْتُ أَطْوِيَ المَسَافَاتِ.. أَصَابَنِي دُوَارٌ .. أَصَابَنِي غَثَيَانٌ مَرِيْرٌ .. وَدَدْتُ لَوْ تَقَيَأْتُ أَحْشَائِيَ .. لَوْ تَوَقَّفَتْ خُطْوَتِي.. لَوْ تَصَاعَدَتْ أَعْمِدَةُ الدُّخّانِ مِنْ كُلِّ بَيْتٍ .. لَوْ اُسْتُؤْصِلَ العَالَمُ قَبْلَ الطُّوْفَانِ .. لَوْ إِحْتَرَقَ الطِّيْنُ .. لَوْ نَضِبَ المَاءُ .
قَالَتْ لَيْلَى :
لَمْ يَغْلِ بَعْدُ إِبْرِيْقُ الشَّايِّ .. وَالبَرْدُ دَقَّ أَعْناقَ وَرْدَاتِ
الشُّرْفَةِ .
هَذا هُرَاءُ يَا لَيْلَى ، أَطْلِقِي لُحَى الجَحِيْمِ .. أعْتِقِي أَحْلامَ
الوَرْدِ.
لَكِنّ لَيْلَى تُعَانِدُ عَلَى أَنْ تُدْلِيَ بِقصّةِ مَوْتِهَا حَيْثُ لَا شَاهِدَ سِوَاهَا : أُقْتِيْدَتْ لَيْلاً .. نَزَفَتْ حَتّى الصَّبَاحِ بَعْدَ أَنْ تَعَاقَبَ عَليْهَا ثَلَاثةُ أَرْبَاعِ جُرْذَان الوَطَنِ المَحْرُوثِ بِحَوَافِرِ الزَّحْفِ القَاتِلِ لِخُيُولِ الصَّحْرَاء .
تَخَدّرَ وَجْهِيَ .. سَرَتْ فِي بَدَنِي المُمَزّقِ قَشْعَرِيرةٌ.. تَعَثّرَ سَيْرُ دِمَائِي فِي شَرَايينِي المُتَصَلِّبَةِ .. نَهَبَتْنِي الذَّاكِرةُ ، فَكُلّمَا حَاوَلْتُ نَسْفَهَا اِتّقَدَتْ .. مازِلْتُ أَمْضِيَ بِإصْرَارِ تَمَرُّدِي .. تَجَاوَزْتُ قَصْرَ الخِلافَةِ .. بَصِقْتُ عَلَى قَارّةٍ مِنْ الوجُوهِ الكَدِرَةِ.. رَمَيْتُ تِلَالَاً مِنْ البُصَاقِ إِلى وَجْهِ السَّمَاءِ دُوْنَ فَائِدَةٍ . صَرَخْتُ:
مِلْيونُ طَنٍّ مِنِ الدِّيْنامَيتِ فِي إِسْتِكَ يَا وَطَنِي .
الشُّمُوسُ جَمِيعُهَا مُنْطَفِئَةٌ هذا اليَوْم .. الشُّمُوسُ أَضْرِحَةٌ مُتَأَلِقَةٌ فِي مُخَيِّلَةِ المَخْبُولِيْن . نَحْنُ الآنَ نَمُرُّ فِي المَجْرَى التَّنَفُسِيِّ لِخَرِيفٍ أَسْوَد . أَنَا خَيْمَةٌ بِلَا أَوْتَادِ مَنْ يَدْخُلْنِي يُصْلَبْ دَاخِلِي كَالجُرْذِ البَاحِثِ عَنْ جُبْنَةِ المَصْيَدةِ . أَنَا إِعْصَارٌ إنْ تَمَاسَكْت إِقْتَلَعْت كُلَّ أَحْلَامِ الأُمّةِ . سَأَمْضِيَ حَامِلَاً فَأْسِيَ . تَجَاوَزْتُ شَارِعَ الرَّشِيْدِ.. تَجَاوَزْتُ أَكْوَامَ العَمَائمِ وَرَائِحَةَ الأَجْسَادِ النَّتِنَةَ .
اِمْتَدّتْ يَدُ لَيْلَى إِليَّ تَسْتَوقِفُنِي .. وَمَضَتْ عَيْنَاهَا .
قَالَتْ :
وَزّعُوا جَسَدِي عَلَى أَرْجَاءَ مُخْتَلِفَةٍ .. وَزَّعُوهُ خَلِيّةً خَلِيّةً
وكَانَ رَأْسِيَ مُتَدَلِّيَاً مِنْ أَعْلَى مَنَارَةٍ أَوْجَدُوهَا للرَّبِّ القَابِعِ
فِي جُحْرِهِ .
إِرْتَعَشْتُ .. هَلِعْتُ .. تَمَاسَكْتُ . مازِلْتُ مَاضِياً أَكِيْلُ ضَرَبَاتِي المُوْجِعَةَ .. وَجَدْتُ نَفْسِيَ أَمَامَ نُصْبِ الحُرّيَةِ .. هُنا سَأَرْقُصُ .. قَرَّرْتُ أَنْ أَرْقُصَ وَجْهَاً لِوَجْهِ مَعَ النُّصْبِ .
اِعْتَدَلْتُ فِي وَقْفَتِي .. تَنَفَّسْتُ بِعُمْقٍ .. أَسْبَلْتُ جِفْنَيَّ.. نَشَرْتُ إِلى الجَانِبَيْنِ يَدَيَّ كَطَائِرٍ مُتَحَفِّزٍ لِلْطَيَرانِ .. قَدَّمْتُ إِلى الأَمَامِ سَاقِيَ الشِّمَال.. أَعِدْتُهَا مَرّةً أُخْرَى .. قَدَّمْتُ سَاقِيَ اليَمِيْن.. قَفَزْتُ قَفَزَاتٍ بَطِيْئَةً فِي الهَوَاءِ .. أَخْطَأْتُ .. أَعِدّتُ الكَرَّةَ .. ضَمَمْتُ ذِرَاعَيَّ إِلى صَدْرِيَ .. حَرَّكْتُ قَدَمَيَّ .. إِهْتَزَّتْ كَتِفَاي .. إِهْتَزَّتْ وَرِكَاي .. شَبَكْتُ عُشْرِيَ عَلَى رَأْسِي .. دَبَكْتُ دَبْكَاتٍ سَرِيْعَةً مُتَلاحِقَةً .. تَوَازَنْتُ .. أَخَذَ جِسْمِيَ وَضْعَهُ الرَّاقِصَ الطَّبِيْعِيّ .. إِنْفَعَلْتُ .. تَفَاعَلْتُ مَعَ حَرَكاتِي .. تَعَرّقْتُ.. تَجَمّعَ مِنْ حَوْلِيَ :
إغْرِيقيّون .. بَابِليّون .. آشُوريّون .. فَرَاعِنُةُ .. آكادِيّون عِبْرانِيّون .. تَجَمّعَ عَرَبٌ .. أَكْرَادٌ .. تُرْكُمانُ .. أَرْمَنُ.. تَجَمَّعَتْ حُثالاتُ الأُمَّةِ .. تَجَمّعَ أَفَارِقَةُ ، نُذُرُ شُؤْمٍ .. تَجَمَّعَ شَامِيّون .. تَجَمَّعَ قَوّادُون .. تَجَمّعَ قَتَلَةٌ .. تَجَمَّعَ خَلِيْجِيُون .. تَجَمَّعَ تَافِهُون .. تَجَمَّعَ تِجَّارُ رَقِيْقٍ .. تِجَّارُ بُورْصَةٍ .. تَجَمَّعَ سَمَاسِرِةٌ .. أُوْرُبِيون مُتْخَمُون .. تَجَمَّعَ عَاهِرُون .. أَمْرِيكْيُون سَافِلُون .. مُجْرِمُون .. تَجَمّعَ عُرَاةُ المَاضِي .. حُفَاةُ الحَاضِرِ.. تَجَمَّعَ زرَادَشْتِيّون .. يَزِيدِيّون .. تَجَمَّعَ نَصَارى .. صَابِئون.. مُسْلِمُون .. تَجَمَّعَتْ مَلائِكةٌ بَأَجْنِحِةٍ مُتَكَسِّرِةٍ .. صَفّقُوا لِيَ .. تَحَوّلَتِ النَّسَمَاتُ العَلِيْلَةُ إِلى إِيْقَاعٍ مُتَنَاغِمٍ مَعَ دَبَكَاتِي ... رَقَصْتُ .. إرْتَعَشْتُ .. هَزِزْتُ .. هَزَّتْ كُلُّ الأَيْدِي.. كُلُّ البُطُونِ .. كُلُّ الأَجْسَادِ مِنْ حَوْلِي .. كُلُّ النَّسَماتِ .. هَزّتْ الأَرْضُ مِن تَحْتِي .. هَزّتِ السَّماءُ وكُلُّ الشّمُوسِ التِي اخْتَفَتْ خَلْفَ القَتَامَةِ .. هَزَّ النُّصْبُ.. أَغْمَضْتُ عَيْنَيَّ بُرْهَةً .. فَتَحْتُهُما .. وَجَدْتُ نَفْسِي أَمَامَ نَفْسِي مُضَرَّجَاً بِدِمَائِي .. حِيْنَئذٍ فَهِمْتُ أَنّني شَبِعْتُ ضَرْبَاً ، رَكْلاً . صِحْتُ :
أَيْن الجَمْعُ الحَاشِدُ لِكُلِّ سَفَالاتِ الدُّنْيا ؟
لا أَحَدَ يَذُودُ عَنْكَ !
مازِلْتُ مَاضِياً مُتَهَوّرَاً .. مازِلْتُ أَرْقُصُ عَلى جِثَّتِي.. الرَّقْصَةُ لَمْ تَنْتَهِ .. الرَّقْصَةُ المَمْنوعَةُ بالنّسْبَةِ لِيَ ، هِي فَلْسَفَةُ التَّخْرِيْبِ المُنْسَجِمَةُ مَعَ ذَاتِي .. الرَّقْصَةُ لَمْ تَبْدَأْ.. سَأَرْقُصُ فِي مَكَانٍ آخَرَ .. فِي الحُلُمِ إنْ حَرّمُوها ... لكِنّها سَتَبْدَأُ مَرّةً أُخْرَى.

***
2

أَسْتَوْقِفُكُم جَمِيعَاً
حَتّى تَمُرَّ القَافِلَةُ

***

مَضَى شَوْطٌ مِنْ الوَقْتِ وَبَعْدَ حِيْنٍ سَيَهْبِطُ الغَسَقُ كَثِيفَاً . الغَرِيْبَةُ لَمْ تَظْهرْ بَعْدُ ، وَنَحْنُ عَلَى مَوْعِدٍ فِي اليَوْمِ التَّالِي . سَأُطْلِقُ عَلَيْهَا مُنْذُ الآنِ اسْمَ " الرَّبَاب " مِنْ أَجْلِ أَنْ تَعْزِفَ ألْحَانَاً أَجْمَلَ .. لَيْلَى إِلى جِوَارِيَ صَامِتَةٌ.
أَتَحْلُمِيْنَ يَا لَيْلَى .. بِمَ ؟
تَقَاتَلَتْ الأَسْئِلَةُ فِي لَهِيْبِ الوَرَقِ وَكُلُّ الأَوْرَاقِ التِي اِحْتَرَقَتْ جَسَدِي .. جَسَدِي وَثَنُ الصَّحْرَاءِ الّذِي تَعَاقَبَتْ عَلَيْهِ المِحَنُ .. قُلْتُ اِتْبَعِيْنِي وَأَوْقِفْي رَاحِلَتِي .. اِتْبَعِيْنِي قُبَيْلَ صَهِيْلِ الشُّعَاعِ أَوْ فِي خَاتِمَةِ اللَيْلِ وَسَأَمْنَحْكِ نَزِيْفَاً تَعْجَزُ عَنْ إعْتِرَاضِهِ كُلُّ سُدُودِ الكَوْنِ.
أَتَحْلُمِيْنَ وَجَسَدِي وَثَنٌ أُنْثَى تَعَاقَبَتْ عَلَيْهِ الدُّهُورُ ؟
أَصِيْحُ : يَا خَاتِمَةَ اللَيْلِ دَعِيْهَا تُمَزِّقْ الخَرَائِطَ وَالحِدُودَ الضَّبَابِيّةَ.. يَا خَاتِمَةَ اللَيْلِ أَنَّا سَوَّيْنا مِنْ لُحَانَا أَشْرِطَةً لِأَفْرَاحٍ مَوْؤودَةٍ ، وَبُضْعَةَ حِبَالٍ نَشَرْنَا عَلَيْها عَاهَاتِ عَاهِرَاْتِ الكَوْنِ وَمَاءَ الرِّجَالِ السَّفَلَةِ وَ شَرْنَقَةً لِمَوْتِنا .
أَتَحْلُمِيْنَ ؟
اُنْشُرْ شِرَاعَ إِثْمِكَ فِي صَحْرَاءِ أُنْثَاكَ التِي مَادَتْ تَحْتَ حَوَافِرِ خَيْلِ القَبِيْلِةِ لِكَي تُبْحِرَ فِي الرَّمْلِ أَوْ تَحْلُمَ فِي القَصْرِ، فَحِيْنَ ذَبُلَتْ آخِرُ وَرْدَةٍ سَقَيْتَهَا فِي الشُّرْفَةِ وَكَادَتْ أَنْ تَمُوتَ ، رَفَعْتَ أَعْمِدَةَ جَهَنّمِ بِوَجْهِ الوَثَنِ .
لَاْ تَرْحَلِي إِذَنْ ، فَسَوْفَ تُقَاتِلُكِ الأَسْئِلَةُ حَيْنَ تَقْتَفِي خُطَاكِ.. قِفِي هُنَا ، فَهَاهُنَا رَائِحَةُ الأَرْضِ التِي تُرِيْدِيْن.
أَتَحْلُمِيْن ؟
لَكِنّني حَلُمْتُ ذَاتَ يَأْسٍ وَمِنْ بَيْن كَابُوسِ اليَأْسِ نَهَضَ الرَّجَاءُ فَدَعَوْتُهُ لِوَلِيْمَةٍ وَجَلْسَةٍ مَفْتُوحَةِ الحِوَار .
لَيْلَى صَامِتَةٌ .. لَيْلَى لَمْ تَجِبْ .. لَيْلَى لَنْ تُجِيْبَ .. الرَّقْصَةُ مُؤَجَلَةٌ إِلى حِيْنٍ .
هَبَطَ الظَّلَامُ وَمَازِلْتُ مَاضِيَاً ، مُضَرَّجَاً بِدِمَائِي .. هَبَطَ حَنِيْنٌ سَمَاوِيٌّ .. هَبَطَتْ فَظَاعَةُ رُؤى الأَحْلامِ المُكَبَلَةِ بِسَلَاسِلِ القَهْرِ الإلَهِيّ .. هَاجَمَتْنِي الذَّاكِرَةُ المَشْدُودَةُ إِلى حَبْلِ وَرِيْدِ جَدّيَ الهَيْمَان بِالخَيْزُرَانِ وَ جَمْعِ الزُّهُورِ .. هَاجَمَتْنِي عُيُونٌ مُوْغِلَةٌ فِي العَتْمَةِ .. اِسْتَنْفَرَتْ أَهْوَالٌ مُحِيْطَةٌ بِهذِهِ الأَرْضِ التِي أَفْرَزَتْنا مِثْلَما يُفْرَزُ الصَّدِيْدُ مِنْ الجَسَدِ .. مَازِلْتُ هَائِماً ، عَنِيْفَاً، غَاضِبَاً .
إِلى أَيْن يَا نَعْشَ الطِّيْنِ الأَسْوَد ؟
خُطْوَتِي تَجُرّنِي .. خُطْوَتِي تَتَزَحْلَقُ .. نَشْوَةٌ تَشُدُّنِي إِلِى أَبِي نُؤَاس .. سَتَبِيْضُ حَمَائِمُ الشُّعَرَاءِ .. سَتَطْرِبُنا أَلْحَانُهَا .. صِحْتُ : عَاشَ الشُّعَرَاءُ وَ لْتُسْحَقْ هَامُ الأَنْبِياءِ .. دَلَفْتُ إِلى حَانَةٍ مُتَرَنّحَةٍ .. إِلى صَوْمَعَةِ الأَنْخَابِ المَجِيْدَةِ .. اِرْتَشَفْتُ مَاءً مُقَدَسَاً .. كَرَعْتُ كَأْسَاً أُولَى .. وَثَانِية .. وَثَالِثَة .. قَفَزَ الإِنْتِشَاءُ إِلى رَأْسِ الحَقْلِ الجَدِبِ .. تَعَابَثَتْ أَمْوَاجُ حُلُمِي .. نَسَفْتُ أَشْرِعَتِي التِي مَا أَبْحَرَتْ يُومَاً .. اِضْطَرَبَتْ رِيَاحٌ سَاكِنَةٌ.. إسْتَنْجَدْتُ بالوَهْمِ السَّمَاويّ يَحْمِلُنِي بَعِيْداً عَلى أَجْنِحَةٍ مِنْ وَرَقٍ أَوْ مِنْ بَرِيْقٍ .. إلْتَهَبَتْ فِي دَاخِلِي الخَيَارَاتُ المَحْبُوسَةُ مُنْذُ التَّكْوِيْنِ السَّعِيْدِ لِجَسَدِي النَّحْسِ.. تَرَاشَقَتْ فِي صَدْرِيَ نِيْرانُ المَرَارَةِ التِي احْتَفَلَتْ لَحْظَةَ مَوْلِدِي .. دَنَوْتُ مِن الكَأْسِ العَاشِرةِ.. تَطَايَرَتْ أَشْلاءُ الوَطَنِ على الضِّفَافِ المَسْكُونَةِ بِالنَّخْلِ الحَالِمِ بِقِطْرَةِ مَاء .
تَمَايَلَتْ ضَفَائِرُ الصَّبَايَا الْلائِي غَمَرْنَ الأَنْهَارَ ضَجِيْجَاً .. جَاْءَ الصَّحْبُ يَنْثِرُون أَشْوَاقَهُم عَلى هَامَتِي.. جَاءَ " مَاجِدُ " يَحْمِلُ على أَكَفِّهِ حَيْرَةً .. جَاءَ " رِيَاضُ " يُدَاعِبُ الدَّمْعُ جِفْنَيْه.. جَاءَتْ بَاقَةٌ مِنْ زُهُورٍ مَنْسِيّةٍ تَعْزُفُ نَشِيْدَاً مُتَمَرِدَاً .. جَاءَ خَيْطٌ مِنْ وَهْجٍ يَتَرَنَّحُ بَيْنَ مَمَرَّاتِ الشَّرَايينِ النَّازِفَةِ .. جَاْءَت الفَجِيْعَةُ تُنَادِمُنِي أَوْ تَتَلَذَّذ بِلَحْظَةِ مَوْتِي .. إعْتَرَفْتُ لَهَا أَنّني لَنْ أَمُوْتَ بِيَسْرٍ فَمَا زِلْتُ أَحْمِلُ فَأْسِيَ مُتَهَوِّرَاً ، مُتَمَرِدَاً .. دَاْرَتِ الصَّحْوَةُ نَفْسَها فِي كَأْسِيَ .. ارْتَشَفْتُها فِي غَمْرَةِ الوِدَاعِ.. صَرَخْتُ : أَنَا المَسْلَكُ البَوْلِيُّ الوَحِيْدُ لِهذا الوَطَنِ المُجَرْثَمِ فَلأسدّ نَفْسِي وَلْيَمُتْ اخْتِنَاقَاً .
خَرَجْتُ للصَحْوَةِ المُثَمّلَةِ بِلَيْلَةٍ مُهْلِكَةٍ .. خَرَجْتُ للْطُرُقَاتِ المَزْرُوْعَةِ بِالرِيْبَةِ وَأَنْفَاسِ المَوْتِ .. خَرَجْتُ أُعَانِقُ السَّمَاءَ المُلَبَدَةَ بِغُيُومِ الزَّمَنِ المُحَنّطِ .. طَلِيْقٌ فِي دَاخِلِي .. حُلُمٌ فِي رَأْسِي .. مَنْ يَسْتَوْقِفْنِي أَرْششهُ بِدَمِي.
لَكِن إِلى أَيْن يَا لَوْحَ البُرْدِيّ الغَارِق ؟
تَجْذِبُنِي الرِّيَاحُ مِنْ يَدِيّ .. تَجُرُّنِي إِلى غُرْبَتِي .. تَدُلُّنِي إِلى صَلِيْبي .. تُشِيْرُ عَلَيَّ أَنْ أَحْمِلَهُ وَأَرْحَلَ .. حَمَلْتُهُ عَلَى ظَهْرِيَ.. دَاْرَ رَأْسِي .. دَارَتْ الأَرْضُ دَوْرَتَها .. هُوّةٌ سَحِيْقَةٌ تَحْتِي .. فَرَاغٌ مُجَسَّمُ الأَبْعَادِ تَحْتِي .. رِيْحٌ سَوْدَاءُ تَلْفَحُ وَجْهِيَ .. سَمَاْءٌ مُزَلْزَلَةٌ عَلَى هَامَتِي .. حُزْمَةٌ مِن نَارٍ مَجُوْسِيةٍ تَحْرِقُ حَدْقَتَيّ .
هذا النُّصْبُ ثَانِيَةً .. أَغْمَضْتُ عَيْنِيّ .. تَقَيَأْتُ . المُدُنُ الجَذِلَةُ تُضَاجِعُ الأَنْهَارَ بِشَبَقٍ عَارِمٍ ، لَكِن بَغْدَادَ تُضَاجِعُ بِمَرَارَةٍ.. يَخْتَرِقُهَا عنْفُوانُ النَّهْرِ .. يُمَزِّقُهَا تَمْزِيْقَاً .. فَتَحْتُ عَيْنَيّ يَاْئِسَاً ، رَأَيْتُ غِشَاءَ بِكَارَتِها مُعَلّقَاً بِغَيْمَةٍ بَيْضَاء ، مُتَدَلّيَاً إِلى هَامَةِ النُّصْبِ .
خَنَاجِرُ مَعْقُوْفَةٌ تَلْهَبُ صَدْرِيَ .. رَحَى جَائِعَةٌ تَسْحَقُ رَأْسِي.. لَابُدَّ مِنْ جُنُونٍ .. لَابُدَّ مِنْ صَيْحَةٍ تَهزُّ سُكُونَ هذهِ المَقْبَرَةِ .. لابُدَّ مِنْ حَرَكَةٍ اِنْتِحَارِيّةٍ تَقْطَعُ أَوْرِدَةَ هذا الوَطَنِ .. بَرَكْتُ عَلَى رُكْبَتَيّ .. خَلَعْتُ ثِيَابِي.. صرْتُ عَارِيَاً .. لَابُدَّ مِنِ الرَّقْصِ .. سَأَرْقُصُ.. حَاْوَلْتُ .. لَكِن شُلّتْ إرَادَتِي .
إنْتَصَفَ اللَيْلُ وَالطَّرِيْقُ إِلَى البَصْرَةِ طَوِيْلَةٌ .. لَهِيْبِي يُبَدِّد فَزَعِي .. يُبَدّد الجَزَعَ الزَّاْحِفَ نَحْوِي . البَرْدُ جَيْشُ فِئْرَانٍ يَقْرِضُ بَدَنِي المُرْتَجِفَ . سَأَمْضِيَ رَافِعَاً رَايَتِي .. سَأَمْضِيَ غَاْضِبَاً ، حَامِلاً فَأْسِي .. سَأَبُثُّ سُمُومَاً خَلْفِيَ.. مَنْ يَتْبَعْنِي لَا يُسْعِفْهُ وَقْتٌ لِلْنَدَمِ . لَاْ شَيءَ يُقِيْمُ فِي هذا اللَيْلِ حَتّى عَاهِرَاتُهُ تَوَزّعْنَ عَلَى آلامِ الوَسَائِد . لَاْ شَيءَ فِي هذا السُرَادِقَ الضَّخْمِ سِوَايَ .. بَغْدَادُ نَزَفَتْ آخِرَ قَطْرَةِ دَمٍ وَإِلى نَوْمِهَا خَلَدَتْ .. أَنَا وَحْدِيَ أَخُبُّ بِحَافِرَيَّ أَرْضَ هارُون .. أَنَا الزَّانِيَ الأَكْبَر فِي التَّارِيْخِ فَلأُجْلَد كَما تَشَاؤون .. أَنَا خَطِيْئَةُ هذا الجِيْلِ التَّالِفِ ، البَاحِثِ مِثْلَ الهِيْمِ عَنْ قَرَارٍ لَهُ وَلَوْ فِي قَلْبِ العَاصِفَةِ .
قَالَتْ لَيْلى إِنَّها أَمْضَتْ مِنْ الوَقْتِ كَثِيْرَاً تُحَنِّطُ هَزِيْمَةَ الفَرَحِ وَتُعْرِضُها فِي قَالَبِ مَاءٍ .
إرْتَجَفَ اللَيْلُ .. صرْتُ ضَفِيْرَةً مُوزعةً عَلى أَلْفِ كَتِفٍ .. إِلى أَيْن سَأَمْضِي فِي قَافِلَةِ السُّكُونِ المُرِيْبِ ؟ إِلى أَيْن وَلَيْسَ مِنْ سَبِيْلٍ أَتَوَجَسُهَا ؟ مَا العَمَلُ إِذا مَا حَلَّتْ لَعْنَةُ السَّمَاءِ ؟
فَأْسِي مَاضِيَةٌ تَبْحَثُ عَنْ مَوْضِعِهَا .. تَقَدَّمْتُ مُجَحْفَلاً بِقُدْرَةٍ مُتَوَحّشِةٍ عَلى التَّمَرُّدِ .. لاغَاَدَةَ مَسْعُورَةً تُبْعَثُ إِلى وِحْدَتِي التِي دَخَلَتْنِي وَدَخَلْتُها طَوَاعِيّةً .. عَبَرْتُ جِسْرَ الجَمْهُورِيّةِ .. أَنْفَاسِي تُلَاحِقُنِي .. مِعْدَتِي تَلْتَحِفُ جُوْعِي .. أَلْفُ سِكّيْنٍ تُدَاْعِبُ جَوْفِي.. طَرِقْتُ بَابَاً أَعْرِفُهَا .
* مَنْ ؟
* أَنا ضَجِيْجُ الأُمّةِ المَحْبُوسُ فِي غَيَاهِبِ صَمْتِ اللَيْلِ.. أَنا النَّيْزَكُ الذِي سَوْفَ يَتَحَطّمُ فَوْقَ القُبّعَاتِ العَاهِرَةِ .
فُتِحِتْ البَابُ .. فُتِحَتْ جُحُورُ العَنَاكِبِ الصَّمّاءُ .. عَزَفَ البَحْرُ نَشِيْدَ نَحِيْبِهِ الأَزَلَيَّ .. تَمَاوَجَتْ أَحْلَامُ الضِّفافِ فِي رِحْلَةِ السُكُونِ . دِجْلَةُ يَغْلِي شَهْوَةً .. تَتَقّدَمُ الأَوْرَامُ الخَبِيْثَةُ لِبَنِي أُمَيَّةَ، تُلْهِبُ عُرُوقَ عُضْوِهِ التَنَاسُلِيّ .. تَجْتَاحُ جَسَدَهُ .. تَحْصدُهُ كَما يَحْصِدُ الجَرَادُ القَادِمُ عَبْرَ الصَّحْراءِ زُهُورَ التِّيْنِ . أَدْخُلُ .. أَعْبُرُ دَرَجَاتِ السِّلّمِ .. تَصُبُّ المَجَاعَةُ فِي كَأْسِيَ زَيْتَاً حَارِقَاً.. أُرْخِي سَرْجَ وِحْدَتِي .. أَمْضِي إِلى حُجْرَةٍ مُنْتَظِرَةٍ .. إِلى سَرِيْرٍ يَئِنُّ شَوْقَاً .. إِلى الإِبَاحِيّةِ بِكُلِّ مَعَانِيْها .. قُلْتُ فَلْنَتَقَاسَمْ الجُهْدَ . تَقَدّمَتْ رَافِعَةً رَايَةَ اِسْتِسْلَامِها أَوْ نَصْرِها هذا لَاْ يَهُمُّ فَلَيْسَ ثَمَّةَ فَرْقٌ بَيْنَ الخَاسِرِ والفَائِزِ .. بَيْنَ المُفْتَرِسِ والمُفْتَرَسِ .. بَيْنَ المُتَقَدِّمِ والمُتَقَهْقِرِ ، لَاْ فَرْقَ مَا دَامَتِ الطَّرِيْقُ طَوِيْلَةً .
دَخَلَتْ العُذُوْبَةُ الوِسَادَةَ .. ضَحِكَتْ أَنْفَاسُ الحُجْرَةِ .. تَمَايَلَتْ أَوْرَادٌ طَرَبَاً .. سَبِحَ الظَّلَامُ فِي بِرْكَةٍ مِنْ فَحِيْحٍ.. وَ بَعْدَ حِيْنٍ دَبَّ الخَدَرُ جِذِلاً .
النَّافِذَةُ الجَلِيْلَةُ تَمْتَصُّ خَيْبَتِي رُويْدَاً .. رُوَيْدَاً .. النَّافِذَةُ تُعْلِنُ عَن اِشْتِيَاقِها لِمُعَانَقَةِ الفَجْرِ .. أُطِلُّ مِنْهَا.. أَرَى زَحْفَاً نَوْرَانِيَاً يَغِذُّ الخُطَى .. أَرَى الأَمَلَ مُتَرَنِّحَاً ، ثَمِلَاً سَوْفَ يَصْحُو إِذَنْ .. أَرَى نَفْسِيَ أَمَامَ نَفْسِي عَاْرِيَاً كَإِنْسانِ البِدَايَاتِ .. أُلْقِي نَظْرَةً إِلى السّرِيْرِ ، فَأَرَى بَلَاءً بَشَرِيّاً غَارِقَاً فِي لُجَّةِ المُتْعَةِ وَقَدْ سَحَقَنِي قَبْلَ حِيْنٍ .. أَدُورُ فِي الحُجْرَةِ المُبْحِرَةِ عَلى ظَهْرِ الغَيْبُوبَةِ .. لَاْ هَاجِسَ لدَيَّ سِوَى الرَّقْصَةِ العَنِيْفَةِ .. لَنْ أَسْتَطِيْعَ فِي الخُلْوَةِ . أُرِيْدُهَا عَلَناً .
تَدْخُلُ لَيْلى بِمِئْزَرٍ صُوفِيٍّ .. تَشُقُّ طَرِيْقَهَا إِليَّ ..
تَقُولُ :
رَأَيْتُ وُجُوهَ كُلِّ القَارّاتِ وَلَمْ أَتَعَرّفْ عَلَى وَجْهِ الجَرِيْمَةِ.
لَنْ تَفُوتَنِي الرَّقْصَةُ يَا لَيْلَى .
قَالَتْ : إِنَّ رَأْسَاً مَا يَتَدَلّى مِنْ أَعْلَى النُّصْبِ .
إِذاً للجَرِيْمَةِ وَجْهٌ وَاْحِدٌ . سَأَنَامُ مَا تَبَقّى مِنْ الوَقْتِ . نِمْتُ حَاْمِلَاً فَأْسِيَ .. نِمْتُ بِكَامِلِ تَهَوّرِي .


***

3


مَنْ عَلَّمَ الوَرْدَةَ سِحْرَ شَذَاهَا ؟


***

فِي مَقْهَىً عَلَى ضِفَافِ دِجْلَة إِنْتَظَرْتُ " الرَّبَابَ " التِي سَتَجْلِبُ قِيْثَارَةً مِنْ عَبِيْرِ الصَّنْدَلِ الخَالِدِ .. سَنَسْمَعُ مَعَاً مَعْزُوْفَةَ المِحَنِ .. سَتَتَجَلَّى أَكْثَرَ عَلَى أَدِيْمِ المَاءِ حِيْنَ يَصْطَخِبُ وَيَثُورُ. عَلَى كُرْسِيِّ الغَارِقِ فِي لُجّةِ الفَرَاغِ أَنْتَظِرُ وَحِيْدَاً .. رُبَّمَا سَأَشْهَدُ هُرُوبَ الفَرَحِ عَبْرَ بَوّابَاتِ السَّمَاءِ أَوْ مَوْتَهُ عَلَى غُصْنِ الوَرْدَةِ.. أَنَا مُنْتَظِرٌ .. الشَّمْسُ غَارِقَةٌ فِي مُضَاجَعَةٍ قَسْرِيّةٍ مَعَ مَلِكِ الطِّبَاقِ السّبْع .. الإنْتِظَارُ حِمَارٌ دَمِثُ الأَخْلاقِ .. غُيُومٌ جَلِيْلَةٌ تُلَاطِفُ هَامَةَ الشّيْخِ / الوَطَنِ ، البَيْضَاءَ ، الكَثّةَ . الصَّبَاحُ يَمُرُّ مُحْدَوْدَبَ الظّهْرِ مَأْخُوذَاً بِآخِرِ فِخْذٍ نَهَضَتْ تَوّاً مِنْ فِرَاشِهَا، يَمُرُّ جَامِدَ الوَجْهِ مَعَ خَمْسِيْن حِذَاءً دَاْسَتْ عَلَى رَأْسِيَ فَوْقَ أَرْضِ المَقْهَى . لَكِنّ " الرَّبَابَ " تَأَخْرَتْ .. تَمَزّقَتْ اللَحْظَةُ وَتَنَاثَرَ جَسَدُ الوَقْتِ .. فِي المَقْهَى حُرُوبٌ طَاحِنَةٌ .. خُيُولٌ تَصْهِلُ عَلَى هَاْمَتِي .. المَوْجُ جيُوْشُ أَفَاعٍ تَقْرَعُ طُبُولَ الفُرْقَةِ .. قَبَائِلُ أُبِيْدَتْ بِسِيُوفِ قَبَائِلِ .. نَظَرَاتٌ حَاْرِقَةٌ تُمَزِّقُ كُلَّ خَلِيّةٍ حَيَّةٍ فِي جَسَدِي .. سِهَامٌ تَخْتَرِقُ النَّوَافِذَ وَالأَبْوَابَ.. خَنَاجِرُ تُقْطِرُ دَمَاً .. حَوَافِرُ خَيْلٍ تَتَرَاشَقُ بِصَمْتٍ مُخِيْفٍ .. أَنْبِيَاءُ يَحْمِلُونَ رَاْيَاتِ نَصْرِهِم أَوْ عَاْرِهِم .. إِنَّهُم مُنْكَسِرُون .. شُمُوسٌ مُنْكَفِئةٌ عَلَى نَفْسِهَا فِي سَاْحَةِ النَّفَايَاتِ خَلْفَ المَقْهَى .. إِبَادَةٌ مُسْتَمِرّةٌ .. يَزْدَاْدُ عَدَدُ القَتْلَى وَالقَتَلَةِ عَلَى السَّوَاءِ .. اللّهُ يُعْلِنُ عَبْرَ المِذْيَاعِ عَجْزَهُ الإِلهِيّ عَنْ وَقْفِ المَجْزَرَةِ .. دُقّتْ أَعْنَاقُ الوَرْدِ .. صَرَخْتُ : تِلْكَ أَضْحِيّةٌ فَلْتَتَقَدّمْ يَاذُبَاب .
الطَّرِيْقُ إِلى البَصْرَةِ طَوِيْلَةٌ .. مازِلْتُ حَامِلَاً فَأْسِيَ ، مَاضِياً بِإصْرَارِ تَمَرُّدِي .. مازِلْتُ أَحِنُّ للرَقْصَةِ مُتَشَبِثَاً بِهَا حَدّ الجُنُونِ.. " الرّبَابُ " تَأَخَرَتْ لَكِنّهَا سَتَأْتِي فِي كُلِّ الأَحْوَالِ.
مَضَتْ مِنْ الوَقْتِ ثَلَاثَةُ أَجْيَالٍ تَاْلِفَةٍ حِيْنَ جَاْءَتِ "الرَّبَابُ " وَمَازَالَتْ الحُرُوبُ طَاحِنَةً .. دَخَلَتْ مُتَأَنِّقَةً و كانَ جَسَدِي يَشُبُّ حَرِيْقَاً .. لَحْظَةٌ جَدِيْرَةٌ بِالإسْتِمْنَاءِ مِثْلَمَا هِيَ جَدِيْرَةٌ بِالأَلَمِ فِي ظِلِّ هذا الخَرَاْبِ الهَائِلِ .. المُطَاْرَحَةُ فِي سَاحَةِ الوَغَى أَكْثَرُ ثَوَابَاً إِذاً .. سَنَتَجَاسَدُ بِعُنْفُوانِ الشَّيَاطِيْنِ وَلَكِن لَيْس قَبْلَ حِلُولِ الظَّلَامِ . سَوْفَ نُزْهِرُ فِي أَرْضٍ خَرَابٍ .
إِقْتَرِبِي يَاتُفّاحَةً مُرّةً .. إقْتَرِبِي فَمَا تَعِبَ المَوْجُ وَلَا لَهِثَ زَوْرَقٌ.. إقْتَرِبِي فَظَهْرُ جَوَادِيَ لَاْيَمُلُّ . تَقْتَرِبُ مَسْحُورَةً، مُعَتَقَةً ، كَأَنَّها نَبِيْذٌ كَنَسِيٌّ لَمْ يَرَ النُّورَ مُنْذُ بِدَايَاتِ القَرْنِ الثَامِن عَشَر .. تَقْتَرِبُ ، تُلْقِي رَايَتَهَا مَمْزُوجَةً بِالتَحِيّةِ ـ وَكَانَ النَّهَارُ قَدْ مَضَى ـ تَجْلِسُ مَا بَيْن دَوْرَةِ الحَيَاةِ وَدَوْرَةِ الأَلَمِ .. يَنْثَالُ عِطْرٌ فِرْدُوسِيٌّ عَلَى بَقَايَا الوَقْتِ .. اِبْتِسَامَةٌ دَاعِرَةٌ تُصْلَبُ فِي ارْتِجَافِ الشِّفّتَينِ.
تَسَاءَلْتُ :
* أَيْنَ عَبِقَ الشَّذَا فِي اللَيْلَةِ المَاضِيَةِ ؟
* فِي حُجْرَةٍ وَقِحَةِ العَيْنَينِ مَنْصُوبَةِ الوَتَدِ.
صَرَخْتُ :
تَمَوْمَسَ حَمَامُ السُّلَالَةِ يَاوَطَنِي . طَفْرَةٌ وِرَاثِيّةٌ عَن
جَدَتِنَا الأَلْف .
* وَأَنْتَ ؟
* تَنَاكَحْتُ امْتِثَالاً لإِرَادَةِ الشَّهْوَةِ .. سَتُرْزَقُ نَاكِحَتِي ثَوْرَاً هِنْدِيَّاً أَخْرَسَ ، رُبّمَا بِلَا خُصْيَتَيْنِ ، مِثْلَ فُحُولِ الأُمّةِ . صَهَلَتِ "الرَّبَابُ" وَانْتَقَلَ الصَّهِيْلُ فِي أَرْجَاءَ مُخْتَلِفَةٍ لِبُضْعِ ثَوَانٍ ، لَكِنّهُ مَالَبِثَ أَنْ تَقَهْقَرَ مِثْلَ نِهَايِةِ نَشِيْدٍ مَدْرَسِيٍّ .
أَنْدَاءٌ حَالِمَةٌ تُعَانِقُ لُهَاثَنَا فِي طَلَاقَةِ الهَوَاءِ .. بُرُودَةٌ آسِرَةٌ تُدَغْدِغُ جَبْهَةَ الإنْتِشَاءِ الغَضِّ .. إزْمِيْلٌ يَشِجُّ بِتُؤَدَةٍ رَأْسِيَ .. إِلَى أَيْنَ أَيُّهَا العِثُّ البَابِلِيُّ الأَعْمَى؟
خَتَمْنَا بِبَعْضِهِمَا كَفّيْنَا.. سِرْنَا إِلَى نِهَايَةِ " أَبِي نُؤاس " .. حَضَرَتْ سَوْءَاْتُ العَالَمِ الأَرْضِيّ ، التَّحْتِيّ :
* كُلُّ حَاكِمٍ قَاتِل .
لَمْ تَرُدّ
* كُلُّ غَنِيٍّ سَارِق .
لَمْ تَرُدّ
* كُلُّ رَجُلِ دِيْنٍ دَجّال .
لَمْ تَرُدّ
* كُلُّ طَهَارَةٍ عُهْر .
لَمْ تَرُدّ
* كُلُّ نَبِيٍّ مُزَيّف .
لَمْ تَرُدّ
* كُلُّ إِلَهٍ يَحْتَضِنُ مَا سَبَق .
اِرْتَمَتْ عَلَى كَتِفَي ‍!
* أَمُؤْمِنَةٌ يَا " الرّبَاب " ؟
اِبْتَسَمَتْ .
* رَبُّكُم أَرْخَصُ بِضَاعَةٍ مُتَدَاْوَلَةٍ فِي كُلِّ أَسْوَاقِ الأَرْضِ!
غَضِبَتْ .
* لَقَدْ دَخَلَتْ كُلَّ بُيُوتِ المَعْمُورَةِ لِذلِك فَإِنَّ الشَّرَّ مَوْجُودٌ
فِي كُلِّ مَكَانٍ!
إحْتَقَنَتْ أَوْدَاجُهَا .
* أَقِسْمٌ مِنْ وَقْتِكِ لِلْعِبَادَةِ ؟
هَزَّتْ رَأْسَهَا إِيْجَابَاً.
* أَيْنَمَا حَلَّ اللّهُ حَلَّتْ المَصَائِبُ وَانْسَكَبَتْ اللَعَنَاتُ .
ثَارَتْ :
* إِنَّكَ مُلْحِدٌ !
لَمْ أَجِبْ لَكِنّني أَنَا الأَجْمَلُ عَلَى الإِطْلَاقِ .. ثُمّ صِرْتُ أَضْحَكُ .. أَضْحَكُ .. ضَحِكْتُ ضِحْكَاً دَامِيَاً مُوْحِلَاً .. كَانَتْ صَامِتَةً ، غَاضِبَةً ، مَنْفُوْخَةً مِثْلَ بَالوْنٍ رَقِيْقٍ .. سَأُفَجِّرُهَا فِي الحَالِ .. سَأُفَجِّرُهَا بِنُصْفِ كَلِمَةٍ دَاْعِرَةٍ .. أَجَلْ بِوَخْزَةٍ دَاْعِرَةٍ :
لَاتَخَافِي يَا" الرّبَاب " فَكُلّنَا إِلى جَهَنّمَ مَادَامَتْ سِيَاطُ الأَرْضِ تُلَاحِقُنَا .. اتْحِفِيْنِي إِلى أَيْن الآن ؟ إِلى بَيْتِكِ حَيْثُ سَتُزَقِيْنَ مَصْلاً مُرَكّزَاً ، كَثِيْفَاً مِنْ نُخَاعِ اللَيْلِ أَمْ إِلى فُنْدُقِ الخَيَّامِ حَيْثُ يَرْفِدُنَا بِآخِرِ رُبَاعِيّةٍ مِنْ رُبَاعِيّاتِهِ تِلْكَ التِي نَزَلَتْ مِثَلَ نَيَازِكَ جَهَنَمِيّةَ عَلَى رُؤوسِ الأَعَاجِمِ؟
أَشَارَتْ إِلَى بَيْتِهَا .. إِلى مُسْتَنْقَعِ الأَشِنّاتِ الحَالِمَةِ
بِالجَذْرِ المُوْحِلِ .. إِلى مَلْعَبِ الأَفَاعِي فِي صَحْرَاءِ
البَشَاعَةِ المُتَرَامِيَةِ الأَطْرَافِ ، التِي تَمْتَدُّ مَعَ الوَقْتِ ومَازِلْنَا فِي
دَائِرَةِ الوَقْتِ .. مَازِلْنَا نَنْزِفُ آدَمِيْتَنَا .. مَازِلْنَا
نَتَوَسَلُ بِأخِرِ قَطْرَةٍ مِنْ رَحِيْقٍ تَهْجِرُنَا .. مَازِلْنا نَتَبَعْثَرُ
كَالأَشْيَاءِ حِيْنَمَا تَتَعَرّضُ لِغَزْوٍ بَرْبَرِيٍّ .. مَازِلْنَا نُمْنَعُ مِنْ
الكِتَابَةِ عَلى الشَّاهِدَةِ :
مَاتَ شَهِيْدَاً .
مازِلْنَا وَرَبُّكُم مَازَالَ سَاهِمَاً .
اسْتَأْجَرْنَا سَيّارَةً .. إِلى جِوَارِهَا جَلَسْتُ .
قَالَتْ : تَكَلّمْ .
تَرَدَدْتُ .. ثَقُلَ رَأْسِي .. جَاءَ الوَطَنُ مُصْلِتَاً سَيْفَاً هِنْدِيّاً قَطَعَنِي نِصْفَيْنِ .. صَارَ كُلُّ نِصْفٍ لَاْ يَحْلُمُ بِالنِّصْفِ الآخَرِ .

فِي ذلِكَ البَيْتِ المُتَهَالِكِ الأَرْكَانِ ، الّذِي تَمْطُرُ سُقُوْفُهُ نَسَيْتُ صَحْوَتِي .. فِي ذلِكَ البَيْتِ المَلِيءِ بِالأَسْرَارِ وَ الخَبَايَا أَيْقَظَنِي ذَاتَ مَـرّةٍ أَبِي هَاتِفَاً : إِن جَدّكَ مَاتَ . لِيَمُتْ يَاأَبِي فَكُلُّنَا أَمْوَاْتٌ.. وَبَعْدَ حِيْنٍ صِرْنَا نَتَنَاسَلُ المَوْتَ .. وَمِنْ ذلِكَ البَيْتِ اِمْتَدَتْ خِيُوطُ ذُلَّتِي إِلى الطُّرُقَاتِ التِي كانَتْ تَأْلَفُنِي ـ مَا أَلِفْتُهَا يَوْمَاً ـ وَتَغْمُرُنِي بِسَعِيْرِ نَارِهَا وَبِصَرْخَةِ بَرْدِهَا المُوْجِعَةِ مِثْلَمَا تَغْمُرُ أَمْوَاجَ البَحْرِ رَاْئِحَةُ الأَسْمَاكِ وَالأَصْدَافِ . أُنَمِّيَ تَكْوِيْنِي المُقَدّسَ بِوَجْهٍ مُصْفَرٍّ ، مُبَثّرٍ .. أُجَابِهُ كُلَّ الأَيْدِيَ الّتِي نَزَلَتْ عَلى خَدِّيَ بِسَبَبِ اِمْتِنَاعِي عَنْ أَدَاءِ مَاطُلِبَ مِنِّيَ خَارِجَ نِطَاقِ قَنَاعَتِي . حَاْوَلْتُ التّشَبُّثَ بِغَايَتِي . أَلْفُ مُعَلِّمٍ أَفْرَدَ أَصَابَعَهُ عَلى وَجْهِيَ وَ قِفَايَ . تَرَعْرَعْتُ مَا بَيْن عَتْمَةِ أَزِقَتِنَا وَبَيْن النُّوْرِ المُنْسَكِبِ مِنْ شَمْسٍ قَصِيّةٍ.. مَا بَيْن الحُلُمِ المَصْلُوبِ فِي إِطْبَاقَةِ الجِفْنَيْنِ وَبَيْن حَقِيْقَةِ الخُرَافَةِ الّتِي أَلْهَبَتْ ظَهْرِيَ بِسِيَاطٍ نَارِيّةٍ .. صرْتُ خَائِفَاً مِنْ كُلِّ شَيءٍ : مِنْ ظِلِّيَ حِيْنَ يُلَازِمُنِي.. مِنْ أُمّيَ حِيْنَ تَصْطَكّ أَسْنَانُهَا .. مِنْ أَتْرَابِيَ حِيْنَ يَتَهَامَسُونَ لِغَزْوِ جَسَدِي .. مِنْ بَيْتِنَا حِيْنَ يَلُفُّهُ الظَّلَامُ.. مِنْ سَعْفِ النَّخِيْلِ حِيْنَ تَهِزُّهُ الرّيْحُ .
إِعْزُفِي يَا "الرّبَاب" أَنَّ خَدَرَاً مَا أَصَابَ رُوْحِيَ .
تَلْتَفِتُ نَحْوِيَ تَجِدُنِي سَاهِمَاً . قَالَتْ : وَصَلْنَا .
ضَفَائِرُ مُلَوّنَةُ الأَشْرِطَةِ تَسْتَنِدُ إِلى ظَهْرِ الجُنُونِ .. أَشْجَارُ نَارَنْجِ تَضِجُّ بِهَا المَشَارِحُ .. رَنِيْنٌ أَخْرَسُ يُطَارِحُ مُفْرَدَاتِ قَوَامِيْسِنَا .. وَتَدٌ كَوْنِيٌّ يُعَانِقُ عَوْرَةَ الحَقِيْقَةِ .. أَطْيَافٌ تَأْتِي مَنْزُوْعَةَ الأَعْنَاقِ .. تَوْضِيْحٌ سَمَاوِيٌّ ، مُفَرْمَنٌ ، بِرِفْقَةِ المَلَائِكَةِ.. قَاْفِلَةٌ للمُسِنِيْنِ يُلْقَى بِهَا فِي أَحْضَانِ الطُّوْفَانِ .. ذَاكِرَةٌ مُنْفَصِمَةُ الحَنِيْنِ تَمْلَأ الدُّنْيَا تَجْدِيْفَاً .. أَعْنَاقٌ فَتِيّةٌ تَبْتَسِمُ تَحْتَ عَجَلاتٍ مُجَنْزَرَةٍ .. وِلَادَاتٌ فِي بُطُوْنٍ مُجْهَضَةٍ .. بَاقَةُ وَرْدٍ أُزِيْلَتْ بِكَارَتُهَا .. الوَقْتُ مَهِيْضُ الجِنَاحِ . مَازِلْنَا فِي حَوْمَةِ الوَقْتِ رُغْم اِنْقِضَاءِ أَكْثَر مِنْ ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِهِ قَرْضَاً بِأَسْنَانِ الجُرْذِ الفَتّاكَةِ .
دَخَلْنَا بَيْتَاً مُوَرِّدَ الوَجْنَتَيْنِ ، مَشْقُوقَ الفَمِ .. بَيْتَاً لَا تَجِدُ المُخَيِّلَةُ إِلَيْهِ سَبِيْلَاً وَإِنْ تَوَجَسْتُهَا فِي الحُلُمِ .. دَخَلْتُ شِقّاً مِنْ جَنَّتِهِ التِي مَا وَعَدَنِي بِهَا .. أَرْبَعْمَائة رَاْئِحَةٍ مُهَيِّجِة الأَعْصَابِ نَفَذَتْ إِلى أَنْفِيَ .. سِحْرٌ أُسْطُوْرِيٌّ إلْتَفَّ عَلَى شَقَائِي .. مُوْسِيْقَا للْجِنِّ أَلْهَبَتْ أَعْضَائِي .. شُعَاعٌ خَجُوْلٌ عَابَثَ الأَشْيَاءَ اِسْتِدْرَاْرَاً لِفُحُوْلَتِهَا أَوْ أنُوْثَتِها فَالأَمْرُ لَيْسَ مُخْتَلِفَاً .. مَاْءٌ سَمَاْوِيٌّ يَقْطرُ فِي إِنَاءٍ اِمْبِرَاطُوْرِيٍّ .. طَلْعَةٌ مَهِيْبَةٌ لِنَاصِيَةٍ تَمَرَّغَتْ فِي الوَحْلِ.. أَنَا سَيِّدُ الأَشْيَاءِ ! هذا مُحَالٌ .. طَرِيْدُ المُسْتَنْقَعَاتِ يَغْتَسِلُ مِنْ بِئْرٍ مُقَدَّسَةٍ !؟ شَيءٌ مَا خَطَأٌ .. شَيءٌ مَا لَا يَصُحُّ أَنْ يَكُونَ خَارِجَ الإِفْتِراضِ وَمَاعَدَا هذا فَالْدُّنْيَا عَلى مَايُرَامِ .. مَنْ أَنَا ؟ جَاءَ السُّؤَالُ مُعْتَمِرَاً عِمَامَةَ الرَّبِّ بَعْدَ الكَأْسِ الأُوْلَى .. عَزْفَاً شَهْوَانِيّاً تُصْدِرُ "الرَّبَابُ" فِي حُجْرِةِ الزِّيْنَةِ .. امْرَأَةٌ شَقْرَاءُ ـ أَظنُّ أُخْتَهَا ـ تَنْتَقِي كُؤوسَاً لأَنْخَابٍ قَادِمَةٍ .. مَكْتَبَةٌ تُغْوِيْنِي ـ أُسْسّتْ تَرَفَاً ـ تَسْتَفِزُّ فُضُوْلِيَ المُلْجَمَ .. هُدُوْءٌ يُمَاْرِسُ سَطْوَتَهُ فِي حِيِّ الخَضْراءِ وَيَنْشُرُ قَتَاْمَةَ ظِلَالِهِ عَلَى هَيْبَةِ البَيْتِ .. شَيْئَاً مِنْ إحْتِرَاقٍ زَقّتْ إِلى جَوْفِيَ النَّتِنِ .
مِنْ أَيْنَ سَتَأْتِي ؟!
أَبْوَاْبٌ تُفْضِيَ إِليَّ أُحْكِمَتْ فِي دَوْرَةِ الدَّوَائِرِ .. إنْتِشَاءٌ أَخّاذٌ يُطَارِحُنِي الأَطْيَافَ حِيْنَ صَارَ العَاْلَمُ مَقْبَرَةً للحَالِمِيْنَ .
إلْتَهَبَتْ بَابُ الصَّالَةِ شَوْقَاً لِمُعَانَقَةِ جَسَدٍ مُلْتَهِبٍ هوَ الآخَرُ . جَاْءَتْ مَسْبُوقَةَ البَرِيْقِ :
* أَمَا زِلْتَ مُنْتَظِرَاً ؟ سَأَلَتْ .
لَمْ أَجِبْ .
تَقَدَّمَتْ نَحْوِيَ بِجَلَالٍ .. تَقَدَّمَ مَوْكِبٌ بَهِيٌّ .. جَلَسَتْ إِلى جِوَارِيَ .. مَرَاْكِبُنَا رَاْسِيَةٌ .. أَحْلَامُنَا آنِيّةٌ وَالغَيْبُوبَةُ التِي أَوْجَدْنَاهَا سَنُعْلِنُ عَن نِهَايَتِهَا بَعَدَ حِيْنٍ .. اِرْتَشَفْنَا سَوِيّةً مِنْ كُؤوسِ حَيْرَتِنَا .. بَحَثْنَا عَن لُغَةٍ للحِوَارِ بَيْنَنَا فَنَحْنُ غُرَبَاءُ يَجْهَلُ بَعْضُنَا البَعْضَ الآخَرِ .. بِضْعُ كَلِمَاتٍ كَافِيَة لِسَدِّ هذا الفَرَاغِ القَاتِمِ بَيْنَنا .. بِضْعُ أَسْئِلَةٍ تَرِفُّ عَلى الشِّفَاهِ سَوْفَ نَتَبَادَلُهَا عَلى عَجَلٍ حَتّى يَتَصَاعَدَ مَفْعُولُ الخَمْرَةِ مِثْلَ دُخَانٍ كَثِيْفٍ حِيْنَئِذٍ تَقْفِزُ الثَّرْثَرَةُ كَهِرٍّ مَجْنُونٍ لَكِنَّهَا ثَرْثَرَةُ أَنْخَاْبٍ مَثْلُوْمَةِ الأَبْعَادِ ، مُسَطَّحَةِ العُمْقِ .. ثَرْثَرَةٌ تُمْلِيْهَا الحَاجَةُ فِي هذا التِيْهِ المَرْئِيّ المُصَابِ بِالجَرَبِ الآدَمِيّ .. فِي هذا الذَّوَبَانِ المُسَالِمِ ، العِدْوَاْنِيّ ، الفَوّارِ ، الحَذِرِ ، المُتَحَفِّزِ ، الرَّاكِدِ، " وَ للْرَّبِّ جُنْدٌ مِنْ عَسَل " بَيْنَمَا رَاحَتِ الشَّقْرَاءُ تُوْقِدُ شُمُوعَ مَجْدِ اللَيْلِ المُنْصَرِمِ .
قَالَتْ إِنَّهَا أُخْتُها هكَذا مِثْلَمَا تَوَقَعْتُ فِي البِدْءِ .. خُلْوَةٌ مَجِيْدَةٌ تَسْتَهْلِكُ أَجْسَادَنَا المُخَدَّرَةَ وَرُؤوسَنا الثَّمِلَةَ .. رُحْنَا نُدِيْرُ الرّاْحَ وَنُذْكِيَ نَارَ أَشْوَاْقِنَا فِي مَوْقِدِ العَبَثِ الأَرْضِيّ.. نَسْتَمِدُّ مِنْ اللُعْبَةِـ التِي حَرّمَتْهَا الآلِهَةُ وَالأَدْيَانُ والأَعْرَافُ ـ دَيْمُوْمَتَنَـا .. هُنَا خُصِيَتْ العَبِيْدُ لاِمْتِلَاكِهَا سِحْرَ القُوّةِ وَالدَّفْعِ المُحَرَّمِ .. وَهُنَا نُزِعَ أَلْفُ رَأْسٍ إِمْعَانَاً فِي الذُّلِّ .
تَسَاءَلَتْ :
* مِنْ أَيْنَ أَنْتَ ؟
أَجِبْتُ :
* مِنْ رِمْلِ الصَّحْرَاءِ الغَازِيَ لِجَسَدِ الوَرْدَةِ .. مِنْ سُلَالَةٍ مَارَسَتْ القَرْصَنَةَ تَحْتَ جُنْحِ الرَّبِّ .. أَخْرُجُ فِي اللَيْلِ مِنْ مُسْتَنْقَعَاتِ الجُنُوبِ .. مِنْ بَيْنَ أَلْوَاحِ البُرْدِيِّ وَفِي النَّهَارِ أَتَطَهّرُ بِشُمُوسِ خَيْرِ الأُمَمِ المُسْتَعِيْذَةِ بِاللّهِ مِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ ، فَهِيَ اللّهُ وَهِيَ الشَّيْطَانُ وَهِيَ التَآمُرُ المُعْلَنُ تَحْتَ السَّقَائِفِ وَهِيَ الإِرْتِهَانُ لِسِيُوفِ الغَدْرِ وَهِيَ التِي أَذَلّتْ نَفْسَهَا فَأَذَلَّتْنَا مَعَهَا إِلَى أَبَدِ الآ بِدِيْن .
تَوَقَّفْتُ عَنْ الكَلَامِ حِيْنَ وَجَدْتُ جَلِيْسَتِي تُحَمْلِقُ بِعَيْنَيْهَا اِنْدِهَاشَاً أَوْ اِسْتِغْرَابَاً ثُمّ أَضِفْتُ :
* أَنَا مِنْ هُنَا .. مِنْ هذا الطَّمْثِ أَوْ مِنْ ذاكَ البَيْتِ المَلِيءِ بِالأَسْرَارِ لَاْ فَرْقَ .. أَخْرُجُ مِنْ بَيْن ثِيَابِكِ أَوْ مِنْ تَحْتَ إِبْطَيْكِ بِفَأْسٍ حَادَّةِ النَّصْلِ عَظِيْمَةِ الفَصْلِ لِتَهْوِيَ عَلى كُلِّ الرُؤوسِ المُوْغِلَةِ فِي الهَشَاشَةِ .
قَاْلَتْ لَيْلَى :
لَاْ تُسْرِفْ فِي كُلِّ شَيءٍ وَعَلَيْكَ
أَنْ تَمْضِيَ.

اِسْتَأْذَنْتُهَا وَمَازَاْلَتْ تَحْتَ تَأثِيْرِ الحَدِيْثِ .. اِسْتَأْذَنْتُهَا بَعْدَ عُذُوْبَةِ اللَذَّةِ وَسِحْرِ إمْتِصَاصِ رَحِيْقِ الجَسَدِ الرَّخْصِ .
اللَيْلُ قَدْ اِنْتَصَفَ .. ظَلَامٌ هَمَجِيٌّ نَفَثَ سُمُومَهُ فِي سَمَاءِ مَدِيْنَةٍ فَاْغِرَةِ الجُرْحِ .. شُمُوسٌ نَزِفَتْ آخِرَ بَهْجَةٍ وَلَمْ تَتْرُكْ غَيْرَ صَدَى اِنْتِحَاْرِهَا عَلَى الإِسْفِلْتِ .. مَخَالِبُ نِسْرٍ تَتَوَسّدُ رِئِةَ الصَّمْتِ .. أَشْجَارٌ تَشْكُو غُرْبَتَهَا للرِيْحِ الصَّفْرَاْء بِأَنِيْنٍ مَكْتُوْمٍ .. طُرُقَات تَسْكِنُهَا الطَّيْرُ وَقَدْ فَرَّتْ ضَحَاْيَاهَا عَلَى أَجْنِحَةِ الغَيْمِ المُهَاجِرِ .. سَطْوَةُ رُعْبٍ تَنْشُرُ قَتَاْمَتَهَا فَوْقَ أَسْطُحِ المَنَازِلِ الوَاْقِفَةِ عَلَى أَرْضٍ مُزَلْزَلَةٍ .. مَنَاْئِر تَلْوِي أَعْنَاقَهَا سَكَرَاتُ المَوْتِ.. وَجْهِيَ يَلُوذُ بِتَهَوِّرِي فِرَارَاً مِنْ وِحْدَتِهِ .. تِلْكَ بَغْدَادُ المُنْفَرِطَةُ مِنْ مِسْبَحَةِ الرَّبِّ وَالتِي حَطَّتْ عَلَى الكَوْكَبِ بِكَامِلِ سِحْرِهَا .
أَهذهِ بَغْدَادُكَ يَااللّه ؟!
بَغْدَادُ يَابَغْدَادُ قِصِّي عَلَيّ كَيْفَ وِلِدْتِ وَكَيْفَ زَفَفْنَاكِ بِثَوْبٍ مُدَمّى وَكَيْفَ سَنَحْمِلُكِ عَلَى الأَكْتَافِ إِلى مَثْوَاكِ حَيْثُ تُكْمِلِيْنَ مَسْبَحَةَ الرَّبِّ النَاقِصَةَ ؟
بَغْدَادُ أَيَّتُهَا الغَانِيّةُ السَّاحِرَةُ ، الجَمِيْلَةُ ، الرَاْقِصَةُ ، قِصِّي عَلَيَّ مَنْ إقْتَلَعَ حِبَالَكِ الصَّوْتِيَّةَ وَرَمَاهَا فِي بِئْرٍ مَجْهُولَةٍ ؟ قِصِّي عَليَّ أَيَّتُها المَسْبِيَّةُ دَوْمَاً مَنْ اخْتَرَقَ غِشَاءَ عُذْرَتِكِ بِعَمُوْدٍ مِنْ لَهَبٍ ؟ لَكِنَّ بَغْدَادَ صَامِتَة .. بَغْدَاد سَاْكِنَة ، تَلُوْذُ بِمِحْنَتِهَا وَتَفُرُّ مِنِّيَ .
لَيْلَى مِنْ بَيْن ثَنَايَا قَمِيْصِيَ مَازَالَتْ تَسْرِدُ أَحْلَامَ المَوْتِ : ذَاْتَ صَبَاحٍ حَارٍ جَاءَ المَنْفِيُّونَ بِأَكْفَاْنِ نَفْيِّهِم .. اِصْطَفُّواْ طَوَاْبِيْرَ طَوِيْلَةً .. وَقَفْتُ مَعَهُم حَتّى الظَّهِيْرَةِ فَأَتَى عَلَيْنَا الهَوّامُ ، وَعِنْدَ المَسَاءِ كانَتْ سَيَّارَاتُ الحَمُوْلَةِ تَنْقُلُ مِلْيُونَ جُمْجُمْةٍ .
أَجَلْ يَا لَيْلَى . إِنَّها قِيَامَةُ اللَحْظَةِ .
الشَّارِعُ كَنَسَتْهُ رِيَاحٌ سَوْدَاْءُ دُونَ أَنْ تَتَرُكَ أَثَرَاً غَيْرَ مَجْزَرَةِ الوِحْدَةِ .. وَأَنَا وَحْدِيَ أَمُرُّ مُدَجَجَاً بِأَلْفِ عَزِيْمَةٍ.. أَنَا وَحْدِيَ أَشُقُّ بَحْرَ هذا الصَّمْتِ وَأَسْتَنْطُقُهُ .. أَنَا جَلَبَةُ طُفُولَةِ كُلّ هذا الكَونِ المُسَيَّجِ بِالوَقِيْعَةِ .
مَازِلْتُ مَاضِيَاً ، خَاصِيَاً أَلَفَ رُجُولَةٍ مَسْحُورَةٍ ، مَفْتُونَةٍ بِرِجُوْلَتِهَا .. لَكِن إِلَى أَيْنَ اللَيْلَةَ وَقَدْ تَرَكْتُ "الرَّبَابَ" تَتَوَسَّدُ أُنُوْثَتَهَا أَوْ تَهْرِشُهَا حَدّ الإِدْمَاءِ حَتّى يَنْفُقَ رُوْحُهَا ؟ إِنَّها تَمْلُكُ قَبْوَاً مُظْلِمَاً سُدَّتْ مَنَاْفِذُهُ بِوَجْهِ عَاْبِرِي السَّبِيْلِ فَمَا أَجْمَلَنِي حِيْنَ أَضِئْتُهُ وَمَا أَتْعَسَنِي حِيْنَ تَرَكْتُهُ بَاكِيَاً .. إِذَاً لَاْ بَأسَ أَنْ أَتْرُكَ لِغَيْرِيَ إِضَاءَةَ تِلْكَ المَقْبَرَة .. لَاْ بَأْسَ أَنْ يَمْنَحَهَا إِشْرَاقَةً فِي زَمَنٍ كُلّ مَا فِيْهِ مَخْصِيّ أَمَا أَنَا فَسَأَبْحَثُ عَن سَيّارَةِ إِجْرَةٍ تَقِلُّنِي إِلى حَيْثُ يَدِلُّنِي قَدَرِي .
اللَيْلُ تَجَاوَزَ اِنْتِصَافَهُ .. سُحُبٌ دَاْكِنَةٌ ثَقِيْلَةٌ تَدْهِمُ رُوْحَهُ .. الشَّارِعُ المَجْزَرَةُ يُخَاْتِلُ خُطْوَتِي التِي تُسَابِقُ أَشْجَارَاً اِنْتَحَبَتْ عَلَى وِجُوْدِهَا حِيْنَ عَلِمَتْ نِهَايَتَهَا .. لَاْبُدَّ مِنْ رُؤوسٍ خَاوِيَةٍ أَمَامِيَ أَضَعُ فِيْهَا فَأْسِيَ .. لَاْبُدَّ مِنْ سَرَطَانٍ يَرْعَى فِي جَسَدِ هذا العَالَمِ المُوْغِلِ فِي بَلَادَتِهِ .
أَنَا السَّرَطَانُ .
صَرِخْتُ بِوَجْهِ الشَّارِعِ . تَوَقَّفْتْ سَيَّارَةُ إِجْرَةٍ .
سَأَلَنِي السَّائِقُ الأَبْرَصُ : إَلى أَيْنَ ؟
إمْضِ وَسَأَعْلِنُ نِزُولِيَ .. إمْضِ وَلْتَقْدَحِ الظُّلْمَةُ هذا البَرَصَ اللَعِيْنَ . أَيُّها الجِيْفَةُ أَلَا تَدْرِي أَنَّ لَاْ مَحَطَّةَ وَاضِحَة المَعَالِمِ أَمَامِي .. لَا وُقُوفَ لِهَاتَيْنِ القَدَمَيْنِ المُتْعَبَتَيْنِ حَتّى تُزْهَقَ أَرْوَاحُ الكَائِنَاتِ . لَاْ وُقُوفَ حَتّى تَصِيْرَ أَعَالِي المُوْجِ كُثْبَانَ رَمْلٍ أَوْ تَتَفَجْرَ عُيُونُ صَحْرَاء رُوحِيَ .
اِنْطَلَقَتْ تُوْجِزُ الزَّمَنَ أَوْ تَخْتَصِرُ المَسَاْفَةَ .. فَلَيْسَ هُنَاكَ زَمَنٌ مُحَدَدٌ وَلَاْ مَسَافَةٌ مَعْرُوْفَةٌ .. جَاْبَهَتْنِي حِقْبَةٌ بِرُمَّتِهَا اِنْقَطَعَتْ مِنْ حَبْلِهَا السِرِّيِّ وَ مَثَلَتْ أَمَامَ وَجْهِيَ صَارِخَةً بِهِ : أَيّ النَّفَايَاتِ صِرْتَ إِلَيْهَا أَيُّهَا المُجَدَّرُ ؟ أَيُّ المِسُوْخِ تَلَبّسَتْكَ فِي غَفْلَةِ التَّكْوِيْنِ ؟ ذِكْرَى مَغْمُوْرَةٌ فِي أَكْيَاسٍ طِيْنِيّةٍ طَاْشَتْ مِنْ وَحْلِ الذَّاكِرَةِ وَعَشّشَتْ فِي صَلِيْبِ رَأْسِيَ كَمُسْتَعْمَرَةِ دِيْدَاْنٍ قَاْتِلَةٍ. نِصَاْلٌ فَارّةٌ لَاْ تُخْطِئُ سَبِيْلَهَا إِلى صَدْرِيَ المُثْقَلِ بِزَفَرَاتٍ حَاْرِقَةٍ. دُوَارَاً أَفْرَزَ التَّعَبُ المُبَاغِتُ الدُّخُوْل . أَنَا الضَّالُ المُعَانِدُ البَاحِثُ عَنْ شُمُوسِ اللَيْلِ فِي احْتِلَالِ الظُّلْمَةِ للمَسَافَةِ.. أَنَا " عَدْنَانُ الحَسَن " المُدَجَجُ بِحُلُمِي أَبْحَثُ عِن فِرَاشٍ يَنْهِبُنِي مِنْ قَلَقَي حَيْثُ سَأُخَطِطُ لِرَقْصَتِي المَذْبَحَةِ . تَحَسَسْتُ ذِقْنِيَ الّذِي نَبَتَ ، عَلَى حِسَابِ وَجْهِيَ ، مِثْلَ الأَشِنَّاتِ جَذْلَى فَوْقَ صَفْحَةِ الصَّخْرِ وَقَدْ خَالَطَهَا سَوَادُ مَوْتِهَا . طِيْرِي بِيَ أَيَّتُها البَرْصَاءُ فَلَيْسَ بِيَ سِوَى اِشْتِهَاءٍ .. لَيْسَ بِي حَاجَةٌ لِغَيْرِ بَيْتٍ مِنْ صَفِيْحٍ أَكْتَوِي بِحَرِّ شُمُوْسِهِ وَلَحْنِ سَعَفَاتِ نَخِيْلِهِ حِيْنَ يُطْرِبُهَا النَّسِيْمُ وَحِيْنَ يَتَرَخّمُ صَوْتُهَا ، فَأَنَا لَاْ أَطْلُبُ المَزِيْدَ وسأَمْنَحُ تَدْمِيْرَاً هُوَ لُغَةُ العَصْرِ المُبَجَّلَةُ .. سَأَمْنَحُ هَدْمَاً لِكُلِّ صَرْحٍ شُيِّدَ خَطَأً .. لَكِن أَيْنَ أَنْتِ مِنْ هذا التَّحْلِيْقِ المُدْهِشِ أَيَّتُها السُّلْحَفَاةُ ؟ أَيْنَ أَنْتِ مِنْ طَبْعِ الطُّيُورِ الرَّشِيْقِ ؟ الطُّيُورُ مِثْلِي لَاْ قَرَارَ لَهَا ، قَلِقَةٌ دَوْمَاً ، رَاْكِضَةٌ دَوْمَاً ، حَائِرَةٌ دَوْمَاً ، حَائِمَةٌ دَوْمَاً .. أَمَّا أَنْتِ فَلَيْسَ لَكِ إخْتِزَالُ المَسَافَةِ أَوْ إخْتِرَاقُ الزَّمَنِ .. تَعْزُفِيْنَ عَزْفَاً مُسَالِمَاً "كَـالرَّبَابِ" إِلاَّ مَتَى مَا ضَحِكَ فَرْجُهَا ضِحْكَاً نَارِيَّاً حِيْنَئِذٍ تَنُطُّ إِلى السَّمَاءِ وَتَحُطُّ مَشْبُوْبَةً بِبَرِيْقِ سِحْرِ ضِحْكَتِهِ .. فَاضْحَكِي يَاعَيْنَ "الرَّبَابِ" الدَّامِعَةَ .. إضْحَكِي ضِحْكَاً مُتَوَحِّشَاً، هِسْتِيْرِيَّاً ، مُجَسَّمَاً إِنْ شِئْتِ .. إضْحَكْ أَيُّهَا الكَهَفُ وَامْنَحْ الحَيَاةَ سَرَّ خِلُوْدِهَا .. إضْحَكْ فِي السِّرِّ أَوْ فِي العَلَنِ وَامْنَحْنَا القُدْرَةَ عَلَى الإخْتِزَالِ .. إضْحَكْ فَلَيْسِ لَنَا غَيْر الضِّحْكِ مِنْ مَهْرَبٍ.
اِعْتَدَلَتْ فِي جَلْسَتِهَا لَيْلَى .. أَسْبَلَتْ جِفْنَيْهَا لَكِنّها لَمْ تَنْطُقْ هذهِ المَرَّةَ ، رُبَّمَا كَانَتْ تَحْلُمُ أَوْ دَبَّ الدِّفءُ فِي جَسَدِهَا فَاسْتَسْلَمَتْ لِهُدُوءٍ مُمِيْتٍ تَوَاصُلاً لغَيْبُوبَتِهَا .. البَرْصَاءُ مَاضِيَة إِلى مَدَاهَا المَجْهُولِ مُتَعَثِّرَة بِنُعُومَتِهَا . مَازِلْتُ أَعِدُّ نَفْسِيَ لِمُواجَهَةٍ قَادِمَةٍ مُتَزَوِّدَاً بِطَاقَةٍ تَدْمِيْرِيّةٍ هَائِلَةٍ ، حَامِلَاً صَلِيْبِيَ عَلَى ظَهْرِيَ يَئِنُّ ، مُسْتَعِيْنَاً بِكُلِّ تَخْرِيْبِيَ السَّابِقِ : سَنَوَاتٌ عِجَافٌ مَرّتْ أَقْحَلَتْ هذهِ النَّفْسَ ، أَيْبَسَتْهَا حَتّى آخِرَ قَطْرَةٍ يُمْكِنُهَا أْنْ تَدْمَعَ فِي إِنَائِي .. أَيَّامٌ عَاصِفَةٌ عَصِيَّةٌ عَلَى الذَّاكِرَةِ إِقْتَلَعَتْ أَجْمَلَ وُرُودِ العُمْرِ وَأَلْقَتْ بِهَا فِي أَتُونِ جَحِيْمِ صَحْرَاء شَرِسَةٍ.. لَيَالٍ لَمْ يُطْبَقْ فِيْهَا جَفْنٌ وَلَا خَالَجَتْهَا مَسَرَّةٌ فَأَتَتْ كَلَيْلِ العُمْيَانِ .. لَحَظَاتٌ لَا أَدْرِي كَيْفَ تَجَرَعْتُهَا مَمْزُوجَةٌ بِسُمٍّ شَدِيْدِ النَّسْفِ .. مَشَاهِدُ هَائِلَةُ التَّشَوُّهِ كَانَتْ وِبَالَاً وَهَوْلاً وَتَمْزِيْقَاً للإِرَادَةِ تَجُرُّ وَرَاءَهَا مِئَاتِ الصُّوَرِ لِضَحَايَا تَأَلَقَتْ جَمَالِيّةُ وُقُوفِهِم بِوَجْهِ الوَبَاءِ البَدَوِيِّ فَاعْتَلَتِ النِّجُومَ .
إِلْتَفَتُّ إِلَى الأَبْرَص :
* مَاذا يَتَبَقَّى مِنْ العُمْرِ لَوْ تَعَاقَبَ عَلَيْنَا حَاكِمَانِ قَذِرَانِ لِمُدَّةِ عِشْرِيْنَ سَنَةً ؟
اِرْتَجَفَ الأَبْرَصُ ، أَصَابَهُ هَلَعٌ .. تَمْتَمَ بِضْعَ كَلِمَاتٍ
غَيْرِ مَفْهُومَةٍ وَسَكَتَ .. أَعِدّتُ الكَرَّةَ :
* مَاذا لَوْ جَثَمَ عَلَى صِدُورِنَا حَاكِمٌ قَـذِرٌ لِمُدّةِ ثَلَاثَةِ أَجْيَالٍ قَادِمَةٍ ؟

هَزَّ رَأَسَهُ
بِالتَأْكِيْدِ صِرْتُ لَجُوجَاً فِي نَظَرِ هذا الأَبْلَه الجَبَانِ لَكِن لَابُدَّ مِنْ اِسْتِنْطَاقِهِ :
* لَمْ تَجِبْ ، خَائِف ؟
قَالَ : اُتْرُكْنِي وَشَأْنِي يَا رَجُل !
تَنَبَهْتُ إِلَى أَنَّ البَرْصَاءَ عَبَرَتْ دِجْلَةَ إِلى الرَّصَافَةِ .. صِحْتُ بِهِ أَنْ يَتَوَقّفَ وَعَلَى عَجَلٍ تَوَقّفَ .
إِلى أَيْنَ يَاسَيّدَ التِّيْهِ فِي مَلْحَمَةِ اللَيْلِ ؟ إِلى أَيْنَ وَقَدْ اِنْشَقَّ بَطْنُ السَّمَاءِ لِهذا المَطَرِ المُعَافَى ؟ لَا أَدْرِي .. "عَدْنَانُ الحَسَن" لَا يَدْرِي ... شَارِعُ الرَّشِيْدِ صَارَ عِمْلَاقَاً لَايُضَاهَى وَأَنَا أُمْسِكُ بِنِصْفِهِ .. أَحْتَضِنُ خَاصِرَتَهُ وَسَأَقْطَعُ مَا تَبَقّى مِنْه رَقْصَاً ، لَكِن كَيْفَ ؟ الآن .. لَا .. الآن أَحِسُّ بِحَاجَةٍ إِلى دِفْءٍ كَي أَكُونَ مُتَمَاسِكَاً فِي الصَّبَاحِ .. وَفِي الصَّبَاحِ جَوْلَةٌ مَرِيْرَةٌ .. فِي الصَّبَاحِ أُعَانِقُ بَغْدَادَ مُوَدِعَاً إِيَّاهَا .. الآنَ الرَّقْصَةُ مُؤَجَلَةٌ وَطَرِيْقِيَ تُرْشِدُنِي إِلى بَابِيَ الّتِي أَعْرِفُها .. وَمَا خَلْفَ بَابِيَ تَمْكُثُ رَاقِصَةٌ أَفْعَى هَجَرَتْ فَنَّهَا مُنْذُ حِيْنٍ .. مَا خَلْفَ بَابِيَ تَمْكُثُ " فَاطِمَة خَلِيْل " التِي رُبَّمَا آوَتْنِي مَا تَبَقّى مِنْ اللَيْل .. رُبَّمَا مَنَحَتْنِي قَدْرَاً مِنْ دِفءٍ .. عَبَرْتُ جِسْرَ الجُمْهُورِيّةِ .. احْتَرَسْتُ مِنْ الإلْتِفَاتِ صَوْبَ قَصْرِ الخِلَافَةِ .. وَصَلْتُ إِلى بَابِيَ الكَائِنَةِ فِي كَرّادَةِ مَرْيَم بَعْدَ تَعَبٍ .. المَطَرُ مُنْهَمِرٌ .. المَطَرُ يَغْمُرُنِي .. بِحَارُ المَعْمُورَةِ اِنْسَكَبَتْ عَلَى رَأَسِيَ .. جُنُونُ حَالِمٍ يُدَاعِبُ مُخْيِّلَتِي .. نَقَرْتُ عَلَى البَابِ .. لَا أَحَدَ .. نَقَرْتُ ثَانِيَةً وَثَالِثَةً وَرَابِعَةً وَعَاشِرَةً حَتّى لُهَاثِي صَارَ يَدِقُّ بَابَاً مُوْصِدَةً، إِنَّمَا لَا أَحَد يَرُدُّ . لَا أَسْمَعُ غَيْرَ صَخَبٍ وَأَصْوَاتٍ عَابِثَةٍ فِي الدَّاخِلِ . تَرَيَّثْتُ حَتّى تَهْدَأَ الجَلَبَةُ وَ تَسْتَقِيْمَ النُّفُوسُ .
نَقَرْتُ .
أَطَلَّتْ مِنِ النَّافِذَةِ العُليَا ثَمِلَةَ النِّدَاءِ :
* مَنْ ؟
* أَنَا "عَدْنَانُ الحَسَن" .
* مَا الّذِي جَاءَ بِكَ فِي أَسْفَارِ اللَيْلِ ؟
* أَحْكَامُ اللُعْبَةِ وَحُكْمُ الأَحِبَّةِ .
* تَوَسَّدْ خُلْوَتَكَ أَيُّهَا الأَبْلَهُ وَنَاطِحْ مَلَائِكَةَ رَبِّكَ الّذِي أَلْقَى بِكَ إِليَّ .
صَعَقَنِي نَقْرُ الدُّفُوفِ وَرَنَّةُ الخِلْخَالِ .. صَعَقَنِي اِهْتِزَازُ البُطُونِ وَدَوْرِةُ الأَوْرَاكِ .. صَعَقَتْنِي دَوْرَةُ الكَامِيْرَا فِي ظَلَامِ اللَيْلِ وَهِيَ تَلْتَقِطُ أَنْفَاسَ اِجْتِمَاعِ دِيْدَانِ الأُمَّةِ حَوْلَ فَرِيْسَةٍ سَمِيْنَةٍ .. حَوْلَ جَسَدٍ عَارٍ ، شَهِيٍّ .
صِحْتُ : مَا لنَا وَالعُرْي !
رَدَّ نِدَائِي خَائِبَاً خَيْبَةَ لَيْلَتِي هذهِ . نَحْنُ نُقَدِّسُكَ أَيُّهَا العُرْيُ الأُنْثَوِيُّ المُبَجَلُ .. وَأَنْتِ أَيَّتُهَا الأَفْخَاذُ الجِيْلَاتِيْنِيّةُ المُسْتَدِيْرَةُ مِثْل أَعْمِدَةِ قُصُورِ رُومَا ، نَفْتَدِيْكِ بِأَبْنَائِنَا مِنْ أَجْلِ لَعْقَةِ لِسَانٍ أَوْ قُبْلَةٍ مَسْعُورَةٍ تَتَسَامِيْنَ بَعْدَها مِثْلَ كَافُورٍ . أَيَّتُهَا السُّرَّةُ المَلَائِكِيّةُ اللَعِيْنَةُ .. أَيَّتُهَـا العَيْنُ السِّحْرِيَّةُ المُهَيِّجَةُ نُقْسِمُ عَلَيْكِ وَبِكِ إِنَّ لَا كَعْبَةَ سِوَاكِ .
تَعِبَتْ خُطْوَتِي .. أَدْمَتْنِي حَيْرَةٌ نَسَجَتْ خُيُوطَهَا مِنْ لُعَابِ اللَيْلَةِ المُدَثَرَةِ بِعُهْرِهَا .. وَلَيْلَتِي طَوِيْلَةٌ ثَقِيْلَةٌ غَادَرَتْهَا الرِّحْمَةُ مُنْذُ خَفَقَانِ سَطْوَتِهَا الأُولَى .. وَبَيْنِي وَبَيْنَ الصُّبْحِ زَمَنٌ ثَقِيْلُ الخَطَايَا .. زَمَنٌ رُبَّمَا كَانَ كَافِيَاً لاِنْقِرَاضِ مِلْيُونِ سُلَالَةٍ ، تُجَسِّدُهُ تِرَاجِيْديَا هذا العُبُورِ المَرِيْرِ .. إنْهَزَمَ تَجَحْفُلِي حَيْنَ اِرْتَدَدْتُ عَلَى عَقِبَيَّ مِثْلَ كَنْغَرٍ مُنْغَمِرٍ فِي وَحْلِ أَنْفَاسِهِ الأَخِيْرَةِ تَحْتَ مَظَلّةِ اللَيْلِ.. وَلَيْلُ بَغْدَادَ يَشِعُّ أَوْهَامَاً قَاتِلَةً ، قَادِرَةً عَلَى مِسْخِ المَرْءِ فِي أَوّلِ هَزَّةٍ .. فِي أَوّلِ صَدْمَةٍ خَارِقَةٍ للحَوَاسِ .. وَأَنَا وَحْدِيَ أَلُوذُ بِوِحْدَتِي هَرَبَاً مِنْ أَوْتَارِ قِيْثَارَةٍ لَمْ تَعْزُفْ لَحْنَاً وَلَا سَطَّرَتْ تَرْنِيْمَةً .. ذلِكَ هُوَ العُبُورُ الأَخْرَقُ للغِشَاءِ الصَّخْرِيِّ المُتَمَاسِكِ وَتِلْكَ هِيَ الضِّفَّةُ المُسْتَحِيْلَةُ لِوَطَنٍ يَنْأَى فِي الدَّاخِلِ أَوْ يَتَوَغَّلُ فِي أَعْمَاقِ مُحِيْطَاتٍ مَسْحُورَةٍ ، مَسْكُونَةٍ بِالجِنِّ والخُرَافَةِ بِلَا بِدَايَاتٍ لَهَا أَوْ نِهَايَاتٍ فَاسْتَحَالَ إِلى مُجَرّدِ كُتْلَةٍ قَذِرَةٍ مِنْ اِسْتِمْنَاءٍ حَضَارِيٍّ أَفْرَزَهُ الدِّيْنَاصُورُ الأَعْظَمُ الجَاثِمُ عَلَى صَدْرِهِ ، المَاسِك بِتَلَابِيْبِهِ .
نَأَتْ الأَشْيَاءُ بَعِيْدَاً كَمَا الأَحْلَام الّتِي فَرَضَتْ حُضُورَهَا ذَاتَ يَوْمٍ وَعَذَبَتْنَا بِسَادِيّتِهَا حِيْنَ أَلْهَبَتْ أَقْفِيَةَ القَوْمِ بِسِيَاطِ نَارٍ حَاقِدَةٍ.. أَيَّ ذُلَّةٍ يَرْتَضِي المَرْءُ بَعْدَ اِنْكِسَارِهِ ؟ وأَيَّ زَوْرَقٍ يَبْتَغِي للإقْلَاعِ فِي اِهْتِيَاجِ المَوْجِ ؟ فَانْفَرِجِي أَيَّتُهَا السَّاعَةُ كَانْفِرَاجِ فِخْذَيِّ "الرَّبَابِ" أَوْ تَنْطَبِقِي عَلَى رَأْسِيَ كَانْطِبَاقِ فَرْجٍ مُتَعَفِّنٍ تُشْهِرُهُ الرَّاقِصَةُ " فَاطِمَة خَلِيْل " بِوَجْهِ رُوَّادِ المَزَابِلِ .
الطَّرِيْقُ طَوِيْلَةٌ .. أَوّلُ سَاعَاتِ الفَجْرِ تُبَاغِتُ اللَيْلَ بِضَرْبَةٍ مِنْ رَفَّةِ جُنْحٍ لِطَائِرٍ أَغْرَقَتْهُ المَسَافَةُ المُوْغِلَةُ فِي العَتْمَةِ وَمَازَالَ اللَيْلُ يُشَعْوِذُ عَلَى وَرَقٍ أَصْقَلَتْهُ الحَوَافِرُ القَادِمَةُ مِنْ عُمْقِ الرَّمْلِ المُتَسَرْطِنِ .. سَأَسْتَرِيْحُ إذَنْ فِي بِرْكَةِ مَاءٍ آسِنٍ أَوْ أَتَوَسَّدُ صَرَخَاتِ الحَدَائِقِ أَوْ قَدْ أَتَوَجَّسُ سَبِيْلَاً إِلى غُرْفَةٍ حَذِرَةٍ ، قَلِقَةٍ فِي فُنْدُقٍ يَعُومُ فِي بَحْرِ التَّرَقُّبِ .
سَاعَتَانِ مِنِ النَّوْمِ كَافِيَة حَتّى أَلْتَهِمَ بَعْدَهَا الدَّرْبَ المُقْفِرَةَ أَلْفَ مَرَّةٍ .. سَاعَتَانِ مِنِ الدِّفْءِ تَشْحَذُ فِيَّ طَاعُوْنَ الرَّقْصَةِ الدَّفِيْنَةِ ، المَمْنُوعَةِ وَتُحَرِّكُ تِلْكَ الخَلَايَا الّـتِي مَا وِجِدَتْ إِلاّ لِتَحْيَا، رُغْمَ مُوسِمِ حَصَادِ الرُّؤوسِ المُتَأَمْلِةِ ، البَاحِثَةِ عِنْ حُلُمِهَا فِي القَرَارِ .
أَمَامَ المَرَايَا المَرْصُوفَةِ عَلَى جَانِبَيَّ الرِّوَاقِ المُؤَدِيَ إِلى الإِدَارَةِ وَقَفْتُ مُتَأَمِلَاً وَجْهِيَ الّذِي تَشَظَّى إِلى أَلْفِ وِجْهٍ فِي أَلْفِ مَرَّةٍ : فِي المَرَّةِ الأُوْلَى تَرَاشَقَتْهُ لُغَةُ التَّمَرُّدِ.. فِي الثَّانِيَةِ صَارَ مُشَرَّدَاً بَعْدَ أَنْ خَوْزَقَتْهُ أَحْلَامُ الحُرّيَّةِ .. فِي الثَّالِثَةِ وَجَدْتُهُ مُنْدَحِرَ الإِسْتِ .. فِي الرَّابِعَةِ بُنِيَتْ عَلَيْهِ أَسَاسَاتُ حُزْنٍ فَتَغَضَّنَ .. فِي الخَامِسَةِ أُرِيْقَ مَاؤهُ فَتَهَوَّرَ .. فِي السَّادِسَةِ لَازَمَهُ الجُنُونُ فَأُودِعَ السِّجْنَ .. وُجُوهٌ أُخْرَى عَصِيَّةٌ عَلَى الرُّؤْيَةِ .. حَاوَلْتُ اِسْتِعَادَةَ وَجْهِيَ فَمَا اِسْتَطِعْتُ .. سَوَّيْتُ شَعْرِيَ .. أَعِدّتُ تَرْتِيْبَ هِنْدَامِيَ وَتَقَدَّمْتُ نَحْوَ صَاحِبِ الفُنْدُقِ الّذِي مَازَالَ يَقِظَاً .. أَلْقَيْتُ عَلَيْهِ التَّحِيَّةَ وَطَلَبْتُ سَرِيْرَاً لِبُضْعِ سَاعَاتٍ . حِيْنَئِذٍ سَأَلَنِي بِشَيْطَانِيَّةِ رِجَالِ الدِّيْنِ وَقَسْوَةِ رِجَالِ الأَمْنِ:
* الأَخ مِنْ أَيْن ؟
وَبِاسْتِغْرَابٍ مُفْعَمٍ بِالسُّخْرِيَةِ أَجِبْتُهُ :
* عِرَاقِيٌّ ! أَلَسْتُ وَاضِحَاً مِنْ لَهْجَتِي ؟
رَدّنِي بِغَضَبٍ :
* نَعَم وَلَكِن مِنْ أَيِّ مَدِيْنَةٍ ؟
اِسْتَفَزَّنِي السُّؤَالُ حَدّ اللَوْثَة :
* مِنْ العِرَاقِ !
وَكَانَ بَارِدَاً :
* تَقْصُدُ مِنْ الجُنُوبِ .
تَشَظَّى وَجْهُ الوَطْنِ الجَمِيْلُ أَيُّهَا الرَّبُّ الأَخْرَقُ ، اللَعِيْنُ .. تَشَظَّى مِثْلَ وَجْهِيَ وَصِرْنَا نَسْكُنُ المَرَايَا .. سَمْ مَا شِئْتَ أَيُّها الخَنْزِيْرُ المُتَعَفِّنُ وَوَفِّرْ لِيَ سَرِيْرَاً .
السَاعَةُ الثَّالِثَةُ وَالنِّصْف صَبَاحَاً وَيَصْعِبُ عَلَيَّ مُقَاوِمَة هذهِ الأَشْبَاح العِمْلَاقَة .. يَصْعِبُ عَلَيَّ مُرَاوَغَة هذهِ العُفُونَة الطَّاغِيَة فِي رَأْسِي أَوْ حَمْل هذهِ الصَّخْرَة الّتِي هَبَطَتْ عَلَى جُفُونِي فَاسْتَسْلَمْتُ دُوْنَ مُقَاوِمَةٍ بَيْنَمَا إِلَهُ البَبَغَاوَاتِ حَاوَلَ تَلْقِيْنِي دُرُوسَ البَارِحَةِ .. نَهَرْتُهُ بِقَسْوَةٍ يَسْتَحِقُّهَا وَخَلَدْتُ بِنِصْفِ تَهَوِّرٍ وَنِصْفِ اِنْكِسَارٍ .
حَفْلَةُ وِدٍّ عُقِدَتْ بَيْنِي وَبَيْن أَبِي الّذِي مَاتَ مُغْتَرِبَاً وَلَمْ أَقِفْ عَلَى مَوْتِهِ . لَمْ تَكُنْ مُخَيّلَتِي قَادِرَةً ـ فِي اليَقَظَةِ ـ عَلَى الإِتْيَانِ بِمِثْلِ هذا المَشْهَدِ بِالرُغْمِ مِنْ تَفَوُّقِها مِنِ النَّاحِيَةِ الحُلُمِيَّةِ وَلَوْ تَأَلَقَتْ فِي سَمَائِها نَجْمَةُ الحَنِيْنِ وَشَحَذَتْ كُلَّ نِصَالِهَا الحَادَّةِ :
خَرَجَ أَبِي مِنْ بُقْعَةِ أَرْضٍ صَغِيْرَةٍ تُحِيْطُهَا المِيَاهُ مِنْ جَمِيْعِ جَوَانِبِها .. كَانَ أَنِيْقَاً إِلى دَرَجَةٍ كَبِيْرَةٍ .. وَبَدَا لِي سَعِيْدَاً إِلى دَرَجَةٍ أَكْبَر ، حِيْنَمَا عَبَثِتْ أَصَابِعُهُ بِأَوْتَارِ عُوْدٍ رُصِّعَتْ وَاجِهَتُهُ بِقِطَعٍ مِنْ حَجَرٍ نَفِيْسٍ . مَا أَجْمَلَ أَبِي الّذِي مَاتَ حِيْنَ يُرْسِلُ اِبْتِسَامَتَهُ بَعْدَ حِيْنٍ لِتُلَامِسَ وَجْهَ المَاءِ فَتُضْحِك أَمْوَاجَهُ الصَّغِيْرَةَ وَتُرَقِّصُهَا رَقَصَاتٍ عَابِثَةً طُفُوْلِيّةً .
أَنَا خَارِجُ المَاءِ وَأَبِي فِي لُجّةِ فَرَحِهِ .. أَطْلَقَ أَحْلَامَهُ عَبْرَ سَطْحِ المَاءِ الّذِي تَجَمّدَ وَذَابَ ، ثُمَّ تَجَمّدَ وَذَابَ وَكُنْتُ مُتَجَمِّدَاً بِالْقُرْبِ مِنْ صُفْصَافَةٍ مَيِّتَةٍ حِيْنَمَا دَعَانِي إِلَيْهِ وَرَفَضْتُ .. وَظَلَّ يَدْعُونِي وَأَرْفُضُ .. وَفِي غَمْرَةِ النِّدَاءِ .. مِنْ البَعِيْدِ .. رُبَّمَا مِنْ بُعْدٍ قَصِيٍّ ، رَشَقَنِي بِكَأْسٍ مَلِيْئَةٍ بِرَحِيْقِ السَّوْسَنِ ، حَطَّتْ عَلَى كَفِّيَ مِثَلَ نَسَمَاتٍ عَذِبَةٍ ، عَلِيْلَةٍ .. اِرْتَشَفْنَا سَوِيّةً صِحّةَ خُلُودِهِ.. حِيْنَذَاكَ تَأَنَقَ صَوْتُهُ وَتَرَخّمَ وَمَازَالَ يُدَغْدِغُ مَسَامِعِي .. إِلْتَفَتُّ فَلَمْ أَرَ أَبِي الّذِي ظَلَّ صَوْتُهُ مُوَزَعَاً فِي الأَنْحَاءِ .

***

4
***

كُلَّ صَبَاحٍ
تَأْخِذُ وَرْدَةً للنَهْر
تَسْقِي زَهْرَ الشُّرْفَةِ
لَكِنّ هذا الصَّبَاح
كانَتْ وَجْهَاً مَصْلُوبَاً فِي النَّافِذَة

***


ثَلَاثُ سَاعَاتٍ مَضَتْ حِيْنَمَا اِمْتَدَتْ يَدُ لَيْلَى مُدَاعِبَةً رَأْسِيَ.. وَلَيْلَى فِي أُذْنِيَ هَامِسَةٌ : اِسْتَيْقُظْ يَا سَيِّدَ الأَحْلَامِ الوَلِيْدَةِ . ثَلَاثُ سَاعَاتٍ تَعَاقَبَتْ فِيْهَا أَطْيَافٌ مَجْنُونَةٌ لِتَطْرِقَ عَلَى رَأْسِيَ بِمِطْرِقَةٍ دَاعِرَةٍ : أنْ احْذَرْ لَيْلَكَ أَيُّهَا المَعْتُوهُ ، المُتَهَوِّرُ ، العَابِثُ . ثَلَاثُ سَاعَاتٍ بَدَأَتْ بِحُضُورِ أَبِي الّذِي رَحَلَ ، وَكانَ حُضُورُهُ ضَرْبَاً مِنْ مُسْتَحِيْلٍ لَا يُمْكِنُ تَصَوُّرهُ حَتّى لَوْ أُخْتِـرِقَ المَسَامُ ، وَانْتَهَتْ بِمَا هُوَ أَعْنَفُ لَذَّةً وَأَرْخَصُ مُتْعَةً حِيْنَ دَخَلْتُ "الرَّبابَ" بِعُنْفُوانِ قِرْدٍ شَبِقٍ ، فَتِيٍّ ، وَأَفْزَعْتُ اِسْتِرْخَاءَ مُؤَخَّرَتِهَا المُسْتَدِيْرَةِ ذَاتَ التَّحَدُّبِ العَجِيْبِ بِكَرَاهِيّةٍ مُطْلَقَةٍ .. أَعْتَرِفُ أَنَّ لِزُوْجَةً مَا تَكَاثَفَتْ أَمَامِي وَأَنَّ نَدَاوَةً زَحِفَتْ عَلَى جَسَدِي وَغَمَرَتْ شُعُوْرِي ، وَأَنَّ تَفْكِيْرِيَ مَازَالَ يَرْسِفُ تَحْتَ سَطْوَةِ اللَذَّةِ الّتِي مَنَحَتْنِي إِيَّاهَا بِشَهْوَانِيّةٍ عَذِبَةٍ وَأَشْوَاقٍ عَاتِيَةٍ . حِيْنَ وَقَفْتُ الآنَ أَمَامَ بَوَّابَةِ المَحَطَّةِ العَالَمِيَّةِ ـ هَكَذَا أُطْلِقَ عَلَيْهَا جُزَافَاً ـ للسِكَكِ الحَدِيْدِيّةِ ، مُوَزِعَاً أَنْظَارِيَ فِي الأَمْدَاءِ لِعَلَّ سِهَامَهَا تُصِيْبُ نِمْرَاً هَارِبَاً مِنْ حَدِيْقَةِ الحَيَوَانِ أَوْ قَوَّادَاً بِصُحْبِةِ عَاهِرَةٍ أَوْ نَاسِكَاً فَظَّاً .. لِتَكُنْ إِصَابَةً اِسْتِفْزَازِيّةً، قَذِرَةً ، لَا لِشَيءٍ، إِنَّمَا لإِشْبَاعِ غَرَائِزِيَّةِ هذا الطِّفْلِ المُتَهَوِّرِ الرَّابِضِ فِي صَدْرِيَ الّذَي يُحَاكِيْنِي بِلُغَةٍ مُتَسَرْيِلَةٍ ، نَاضِجَةٍ .
جَنْبَاً إِلى جَنْبِ وَقَفْتُ مَعَ لَيْلَى الّتِي خَرَجَتْ قَبْلَ هُنَيْهَةٍ بِثَوْبٍ يُزَقْزِقُ جَمَالَاً وَيَنْسَابُ طَرَاوَةً .. لَيْلَى الّتِي تَزْدَادُ إِشْرَاقَاً وَتَمْتَلئُ حُبَّاً مَعَ الأَيَامِ مَازَالَتْ تَشْحَذُ سَكَاكِيْنَ مَوْتِنَا بِتَؤدَةٍ .. مَازَالَتْ تُخَبِّيءُ فِي صَدْرِهَا فَأْسِيَ وَتَسْتَلُّهَا مَتَى مَا رَأَتْ ضَرُورَةً لِذَلِكَ .
ثَلَاثُ سَاعَاتٍ مِنِ النَّوْمِ مُفْعَمَةٌ بِالحُبِّ وَالْحَيَوِيّةِ اِرْتَقَتْ بِبَأْسِيَ إِلِى ذُرْوَةِ عُنْفُوَانِهِ وَانْقَضَّتْ مِثْلَ عُقَابٍ عَلَى اِرْتِدَادِيَ وَهَشَاشَةِ إِرَادَتِي .. اِنْتَشَلَتْنِي مِنْ تَأَرْجُحِي وَطَارَتْ بِيَ فِي سَمَاءٍ رَمَادِيّةٍ لِتُدَعِّمَ قِدْرَتِي عَلَى مُجَابَهَةِ كُلِّ الخُيُولِ الرَّاكِضَةِ إِلى المَجْهُولِ .. الصَّاهِلَةِ هَلَعَاً أَمَامَ حُلُمِي وَحَرْبِيَ الّتِي أَعْلَنْتُهَا بِلَا هَوَادَةٍ مِنْ أَجْلِ تَدْمِيْرِ كُلِّ التَّرَفِ المَسْعُورِ المُمْتَدَّة خُيُوْطهُ بِدْءَاً مِنْ الأَسُرَّةِ الحَالِمَةِ حَتّى نِهَايَاتِ الطُّرُقَاتِ المُتَثَنِيَةِ فِي مَسِيْرِهَا .
هذهِ إِذَاً المَحَطَّةُ العَالَمِيَّةُ مِنْهَا نَنْطَلِقُ إِلى الشَّمَالِ حَيْثُ يَسْكُنُ الحُبُّ تَلَافِيْفَ الدَّمَاغِ وَيَتْلِفُ الخَلَايَا الّتِي تَنْبُضُ بِالقَتْلِ وَالإِبَادَةِ وَالّتِي رَوَّعَتْ الأَجِنَّةَ ـ فِي أَجْمَلِ النَّهَارَاتِ صَفَاءً ـ بِحَجْمِ الكَارِثَةِ ، أَوْ تَسْكِنُنَا الأَحْلَامُ إِذا مَا طَرِبْنَا لِتَحْطِيْمِ سُوْرِ الوَطَنِ المُقَدَّسِ مِنْ آخَرِ بَوَّابَةٍ شَاهِقَةِ الإِرْتِفَاعِ .. عِنْدَئِذٍ نَرْقُصُ فَرَحَاً ، فِي مِيْدَانِ الإِلهِ العِثْمَانِيّ الأَحْمَقِ ، حِيْنَ نَتَأَكَّدُ مِنْ اِخْتِفَاءِ جَزْمَةِ الرُّعْبِ الثَّقِيْلَةِ فَنَتَنَفَّسُ هَوَاءً مُنْعِشَاً مَمْزُوْجَاً بِحَفْنَةِ خَوْفٍ، رَطِبَـةٍ ، خَانِقَةٍ .. وَمِنْهَا ـ مِن المَحَطَّةِ العَالَمِيّةِ ـ نَنْطَلِقُ إِلَى الجُنُوبِ المُعَذَّبِ ، المُسَيَّجِ بِالْمَاءِ وَالنَّخِيْلِ ، حَيْثُ نَبْحَثُ هُنَاكَ عَنْ خَفْقَةِ مَرْكَبٍ يَنْشُرُ أَشْرِعَةً مُبْحِرةً إِلى المُشْتَهَى وَيَقْرَعُ أَجْرَاسَ اللاعَوْدَةِ .
صَبَاحَاً بَهِيْجَاً كانَ صَبَاحُ المَحَطَّةِ فِي ظِلِّ هذا الإنْتِشَارِ الإحْتِفَالِيّ الرَّائِعِ لِطُيُورِ السَّمَاءِ المُضَبَبَةِ .. جَمْهَرَةٌ وَاسِعَةٌ تَتَنَاوَلُ بَرَكَاتِ الرَّبِّ أَوْ تَغْتَرِفُ مِنْ رَاحَتِهِ المَمْدُوْدَةِ .. عَدَسَاتٌ مُصَوَّبَةٌ نَحْوَ ذُكْرَيَاتٍ قَدْ تَفْنَى لِأَعْرَاسٍ وَلِيْدَةٍ ... مُسَافِرُونَ بِلَا أَهْدَافٍ .. بِلَا طُمُوحَاتٍ .. كُتَلٌ بَشَرِيّةٌ تَمْتَصُّ بُرُودَةَ البِلَاطِ بِأُلْفَةٍ رَتِيْبَةٍ .. حَقَائِبُ مُكَدَّسَةٌ أَوْ مُتَنَاثِرَةٌ .. بَشَرٌ يَأْتُونَ ثِقَالَاً وَخِفَافَاً .. مُوْسِيْقَا صَادِحَةٌ .. أَنْغَامٌ صَاخِبَةٌ .. جَلَبَةُ أَطْفَالٍ تُثِيْرُ فُضُولَ العِبَادِ للتَدَخُلِ .. أَلْبِسَةٌ زَاهِيَةٌ تُـضْفِي قَوْسَ قُزَح عَلَى سَمَاءِ الطُّفُولَةِ .. أَعْجَازٌ أُنْثَوِيّـةٌ دَافِئَـةٌ ، حَنُوْنَةٌ ، شَهِيَّةٌ تَمْلَأُ المَقَاعَدَ .. صُدُورٌ عَاجِيِّةٌ أَوْ رُخَامِيَّةٌ نَافِرَةٌ إِلَى السَّمَاءِ تَقْذِفُ الرَّبَّ بِأَلْفِ شَتِيْمَةٍ أَوْ تَمْسَحُ أَنْفَهُ دَلَالَاً .. قِطَطٌ مُتَوَحِّشَةٌ تَلْتَهِمُ القَامَاتِ .. صَفَاءٌ فِرْدُوسِيٌّ لِأَنْهَارِ نَبِيْذٍ خَالِدَةٍ تَجْرِيَ بَيْن صُدُورِ النِّسَاءِ .. وَفْرَةٌ مِنْ مَجَانِيْنَ هذهِ الأَرْضِ الطَّاهِرَةِ / النَّجِسَةِ .. غَابَةٌ مِنْ لَهِيْبٍ جَسَدِيٍّ تَرْتَجُّ بِهَا النِّفُوسُ المَحْبُوسَةُ الشَّهْوَة .. أَلْسِنَةٌ بُرْكَانِيَّةٌ كَامِنَةٌ ، قَادِرَةٌ عَلَى اِمْتِصَاصِ رَغَائِبِ الكَوْكَبِ .. مِهْرَجَانٌ سَعِيْدٌ لَا يُنْقِصُهُ سِوَى وُجُودِ هذهِ الكَائِنَاتِ الخَرْقَاء ، الرَّدِيْئَةِ ، المُتَخَفّيَةِ وَرَاءَ دَمَامَتِهَا .. لَا يُنْقِصُهُ غَيْر هذا الحُضُورِ الأَحْمَق لِدِيْدَانِ الأُمَّةِ وَخُصْيَانِ السُّلْطَةِ الّذِي يُحِيْلُ جَمَالِيَّةَ الصَّبَاحِ إِلى أَلَقٍ مُقَطّعِ الأَوْصَالِ .
عَاصِفَةٌ دُخَانِيَّةٌ صُرَاخِيَّةٌ مَحْمُولةٌ عَلَى أَلْسُنِةِ لَهَبٍ مَوْجِيّةِ المَسَارِ رُبَّمَا سَتَهُبُّ بَعْدَ حِيْنٍ مِنْ جِهَةِ الشَّرْقِ فَتَحْجُبُ بِاطْلَاقِيَّةِ قَتَامَتِهَا أَيَّةَ مُحَاوَلَةٍ لِمُرَاوَغَةِ الشُّعَاعِ الوَاهِنِ . سَتَقْتَلِعُ هذا المِهْرَجَانَ الأَجْوَفَ وَتَرْمِيَ بِهِ إِلى جَوْفِ طُوْفَانِ الدَّمِ الزَّاحِفِ إِلى مَشَارِفِ المُدْنِ الذَّاهِلَةِ لِجَبَرُوتِهِ أَوْ لِمُفَاجَأَةِ اِغْتِصَابِهَا تَحْتَ جُنْحِ ظَلَامٍ جَنِيْنِيٍّ.. سَتُرْشِدُهُ إِلى حَتْفِهِ المَرْئِيِّ عَبْرَ كُوّةٍ مَفْتُوحَةٍ عَلَى جَحِيْمٍ تُنَاطِحُ الآفَاقَ .. وَنَحْنُ مَازِلْنَا فِي غَمْرَةِ التَّرَصُّدِ .. مَازِلْنَا نَبْحَثُ فِي الوَقْتِ المُؤَجَلِ الضَّائِعِ لِمَجِئِ القِطَارِ ـ الّذِي سَيَحْمِلُنَا إِلى الجُنُوبِ المَعْطُوبِ الجَوَانِبِ ـ عَنْ ذَوَاتِنَا المُنْكَسِرَةِ أَوْ عَنْ سَبِيْلٍ أُخْرَى لِدَعْوَةِ الآلِهَةِ إِلى حَفْلَةِ رَقْصٍ تُنْعِشُ خَمُولَ التَّمَرُّدِ الطِّفْلِيِّ فِي صُدُورِنَا فَتَرْقَى بِهِ إِلى أَعْتَى قِمَّةٍ فِي دَرَجَةِ غَلَيَانِهِ أَوْ تُذْكِيَ شَرَرَاً فِي مَوْقِدِ رَمَادِ الصَّبَاحِ إِيْذَانَاً لِبَدْءِ الحَرِيْقِ المُقَدّسِ .. لَابُدَّ مِنْ حَرِيْقٍ يَلْتَهِمُ ذُنُوبَ العَصْرِ.. لَابُدَّ مِنْ مَوْتٍ جَمَاعِيٍّ تْرَاجِيْدِيٍّ وَلَوْ لِلَحْظَةٍ عَابِرَةٍ ، لَابُدَّ مِنْ وَمْضَةٍ نَاسِفَةٍ تَرْتَجُّ بِهَا العُقُولُ .
مَازِلْنَا نَتَبَرّدُ ـ فِي الوَقْتِ المُؤَجَلِ ـ بِغُرْبَةِ وِجُوهِنَا اللَامُنْتَمِيَةِ لِهذهِ الأَرْضِ اللَعِيْنَةِ الّتِي سَقَيْنَاهَا عَبْرَ تَارِيْخِ الأَجْدَادِ بِالدَّمِ وَبِعَرَقِ أَجْسَادِنَا المَوْشُومَةِ بِالتُّرَابِ وَالمِلْحِ وَالحَجَرِ أَوْ بِالدَّمْعِ المُنَقَّى المُنْهَمِرِ مِنْ أَعْمَاقِ الوِجْدَانِ وَصِدْقِ المَشَاعِرِ .
مَازِلْنَا نَحْتَضِنُ بِشَرَفٍ أُسْطُوْرِيٍّ أَوّلَ بَغِيٍّ تَرَعْرَعَتْ بَيْن جَنَبَاتِنَا وَنُمَجِّدُ أَوَّلَ فَاضِلَةٍ سُجِّلَتْ شَرْعَاً سُحَاقِيَةَ التَّأرِيْخِ ، رُبَّمَا مَارَسَتْ حُلُمَهَا فِي قَصْرِ المُنْذِرِ .. مَازِلْنَا نَقْتَصُّ مِنْ اللُوطِيِّ عَلَنَاً وَفِي السِّرِّ نَعِظُهُ بِالتَمَهُّلِ فِي تَمْزِيْقِ دِبْرِهِ ، ثُمَّ نُسَلِّمُهُ بَعْدَ حِيْنٍ لُحَانَا لِيَقُودَهَا حَيْثُمَا شَاءَ وَمَتَى مَا اِشْتَهَى .
إِذاً مَازِلْنَا عَبِيْدَ الإِنْتِظَارِ حِيْن شَدّتْنِي لَيْلَى إِلَيْهَا بِأُلْفَةٍ حَمِيْمِيّةٍ مُشِيْرَةً إِلى وِجُودِ سُحُبٍ دَاكِنَةٍ مِنْ دُخَانٍ كَثِيْفٍ تَتَصَاعَدُ مِنْ الجِهَةِ الأُخْرَى للْمَحَطَّةِ ، عَتَّمَتْ سَمَاءَ الكَرْخِ خِلَالَ لَحَظَاتٍ وَغَمَرَتْ أَجْوَاءَهُ فَانْدَفَعَ المِهْرَجَانُ صَارِخَاً ، هَلِعَاً، تَائِهَاً ، مُمَزَّقَاً فِي أَنْحَاءَ شَتَّى مِنْ المَحَطَّةِ ، وَفِي غَمْرَةِ اللَاوَعْيِّ اِنْدَفَعْتُ ، خَلْفَ اِنْهِيَارَاتِ الرِّجَالِ وَحَيْرَةِ النّسْوَةِ وَضَيَاعِ الأَطْفَالِ ، رَاسِمَاً عَلَى جَمِيْعِ الوُجُوهِ أَكْبَرَ عَلَامَة اِسْتِفْهَامٍ مَازَالَتْ مُتَجَلّيَةً فِي صَمْتِنَا .. هذهِ العَلَامَةُ الّتِي لَمْ يُبَدِدهَا اِقْتِحَامُ القِطَارِ للمَحَطَّةِ فِي تِلْكَ الأَثْنَاءِ وَإِنَّمَا رَاحَتْ تَكْبَرُ مَعَ الوَقْتِ .
كانَ ـ لَوْلَا مُحَاصَرَة الوَقْتِ ـ لَابُدَّ مِنْ اِسْتِنْشَاقِ الدُّخَانِ المُتَصَاعِدِ مِنْ تِلْكَ السُّحُبِ الدُّخَانِيّةِ بِمِلءِ الرِّئَتَيْنِ وَتَخْضِيْبِ النَّفَسِ بِالأَسْوَدِ ، الرَّمَادِيِّ .. كانَ لَابُدَّ مِنْ اِمْتِدَادِهِ إِلى أَوْسَعَ مَسَاحَةٍ وَلَابُدَّ مِنْ اِنْتِشَارٍ .. وَأَمَام رُؤَى المَوْتِ لَابُدَّ مِنْ رَقْصَةٍ عَنِيْفَةٍ تُشَارِكُ فِيْهَا حَتّى المَلَائِكَةُ .. لَكِنَّ الرَّقْصَةَ لَمْ تَهْجُسْ لِيَ آنَذَاك .. الرَّقْصَةُ مَانَعَتْ .
بَعْدَ دَهْرٍ غَادَرَ القِطَارُ بِحِسِّهِ الحَالِمِ جُنُونَ المَحَطَّةِ ، مُحَمّلَاً بِالأَجْسَادِ الرَّاجِفَةِ ، المُرْتَعِدَةِ .. بِالنُّفُوسِ شُبْهِ المَيِّتَةِ ، المُسْتَسْلِمَةِ لأَقْدَارِهَا . رَاحَ فِي سَيْرِهِ البَطِئِ وَحِيْدَاً يُعَانِقُ أَشْبَاحَاً خَجُوْلَةَ الطَّلْعَةِ بَيْنَمَا التَصَقَتْ الوُجُوهُ بِزُجَاجِ النَّوَافِذِ مِثْلَ حُبَيْبَاتِ نَدَىً حَزِيْنَةٍ تَزْفُرُ حَيْرَتَهَا وَتُتَابِعُ هذا الهَيَجَانَ النَّافِثَ أَلْسُنَةَ نِيْرَانٍ هَمَجِيّةٍ . تَشَبّثَتْ العُيُونُ فِي سَمَاءَ مُنْدَحِرَةٍ أَمَام قَتَامَةٍ ثَقِيْلَةٍ حَتّى اِخْتِفَاءِ أَثَرِ الحَادِثِ فَاسْتَوَى كُلٌّ فِي مَكَانِهِ .
الطَّرِيْقُ طَوِيْلَةٌ وحُبْلَى بِأَمْوَاجٍ أَجّاجَةٍ مِنْ حَذَرٍ دَفِيْنٍ. حَذَرٌ طَغَى فِي عُيُونِي بَعْدَ اِسْتِنْفَادِ دَهْشَةِ الوُجُوهِ التِي طَعَّمَهَا الذُّبُولُ الرَّصِيْنُ بِأَلْوَانِ المَوْتِ ... الطَّرِيْقُ مَمْلَحَةٌ تُذَرُّ فِي العُيُونِ مَتَى مَا خَلَدَتْ فِي اِنْطِبَاقِ الجُفُونِ أَوْ رَفَّتْ فِي اِخْتِلَالِ المَسَافَةِ .. وَهذا العِمْلَاقُ المُحَمَّلُ بِأَنْفَاسِ الطَّوَائِفِ المُسْتَعِيْذَةِ بِدَهْرِهَا سَيَعِدُّ خُطَاهُ بِدَرْبَكَةٍ حِصَانِيَّةٍ ، رَاقِصَةٍ ، مُتَنَاسِقَةٍ وَقَدْ يَأْمُرُنَا بِالهُدُوءِ إِلى حِيْنٍ :
كُونُوا مُؤَدَّبِيْنَ .. كُنْ مُؤَدَّبَاً !
هذا الأَمْر يُصْدِرُهُ الأَبُ وَالسُّلْطَانُ عَلَى السَّوَاءِ .
مُنْذُ ثَلَاثِيْنَ عَامَاً أَجْلِسُ مُؤَدَّبَاً بِمَوْجِبِ هذا الفِرْمَانِ :
كُنْ عَاقِلَاً يَا وَلَدِي .. كُنْ مُؤَدَّبَاً يَا بُنَي .. اِحْتَرِمْ مَنْ كانَ أَكْبَرَ مِنْكَ فِي السِّنِّ وَأَنْ لَمْ يَكُنْ مُحْتَرَمَاً .. مُنْذُ ثَلَاثِيْنَ عَامَاً وَأَنَا أَتَغَوَّطُ بِوَلَهٍ فِي هذا الغَمْرِ المُنْعِشِ دُوْنَ أَنْ أَحْصَلَ عَلَى كَلِمَةِ ثَنَاءٍ وَاحِدَةٍ .. أُمَارِسُ هذا الطَّقْسَ اللَامَعْقُولَ بِأَنْفَاسٍ مُشَبَّعَةٍ بِالذُّلِّ وَالضَّغِيْنَةِ حَتّى لَحْظَةِ تَمَرُّدِي الصَّارِخِ بِوَجْهِ العُفُونَةِ التِي طَغَتْ فِي كُلِّ الزَّوَايَا دُونَ أَنْ أَجِدَ مُبَرِرَاً وَاحَدَاً لِهَذا السُّلُوكِ المُشِيْنِ ، الغَرِيْبِ .. هذا السُّلُوك الّذِي مَا نَفَعَنِي فِي أَيَّةِ لَحْظَةٍ مِنْ لَحَظَاتِ هُيَامِي الجَامِحِ وَلَاعُشْقِيَ المُبَدَدِ وَلَا أَسْنَدّتُ ظَهْرِيَ إِلَيْهِ حِيْنَ قَايَضَتْنِي الأَيَّامُ : خُذْ قَسْوَتِي وَاعْطِنِي وَرْدَتَكَ أَعْتَصرهَا .. وَلَا أَصْدَرَ أَمْرَاً مُضَادَّاً حِيْنَ لَفَظَتْنِي الحَارَاتُ وَالبُيُوتُ وَالطُّرُقَاتُ وَصَارَتْ الأَرْصِفَةُ تَأَنَفُ وَقْعَ خُطَايَ فَوْقَهَا وَتَخْشَى ظِلِّيَ الوَاهِنَ .. حِيْنَذَاكَ نَزَعْتُ مُفَكِرَاً بِالْعَالَمِ السُّفْلِي .. العَالَم الّذِي سَوْفَ نَصَيْرُ إِلَيْهِ وَالّذِي وَحْدَهُ يَعْزِفُ الثُّنَائِيَّـةَ المُطْلَقَةَ : الحَرَكَةُ وَالسُّكُونُ .. عَالَمُ الأَمْوَاتِ .. عَالَمُ المَقَابِرِ الّذِي سَيُعَلِّمُنَا سِرَّ التَّنَاسُخِ فِي أَشَدِّ الظُّرُوفِ ضَرَاوَةً وَأَحْلَكهَا ظُلْمَةً .. كُنْتُ أَنَا "عَدْنَانُ الحَسَنِ" الطَّرِيْدَةَ التِي تَجِدُ أُلْفَتَهَا بَيْنَ هذا الإِكْتِظَاظِ السُّكُوْنِيِّ العَظِيْمِ المَغْمُورِ بِظِلَالِ النَّخِيْلِ وَالمُهَدْهَدِ بِأَلْحَانِ سَعَفَاتِهِ .. المُطَرَّب بِمَسِّ نُسَيْمَاتٍ ثَقِيْلَةٍ مُشَبَّعَةٍ بِالنَّدَى .. كُنْتُ أُعْلِنُ إقْتِحَامِيَ لِهذا الخُلُودِ المُنْشَرِحِ الصَّدْرِ فِي أَيِّ هَزِيْعٍ شِئْتُ مِن لَيَالِي الصَّيْفِ ، فَيُوَفِرُ لِي الأَمَانَ المُطْلَقَ .. الطَّمَأْنِيْنَةَ المُطْلَقَةَ .. الإِحْتِضَانَ المُطْلَقَ.. كَمْ لَيْلَةٍ هَبَّ فِيْهَا إِعْصَارٌ نَاسِفٌ للأَرْوَاحِ الآمِنَةِ .. كَمْ لَيْلَةٍ غَلَى فِيْهَا مَرْجَلُ شَوْقِ البَدَاوَةِ للدَّمِ .. كَمْ لَيْلَةٍ اِرْتَطَمَ فِيْهَا جِبْرِيْلُ المَلِكُ بِالأَرْضِ فَزَلْزَلَهَا إِمْعَانَاً فِي ذُلَّتِهَا أَوْ تَزْوِيْقَاً لأَكَاذِيْبِهِ وَرِكَامِ آيَاتِهِ .. وَكانَتْ المَقْبَرَةُ مَلَاذِيَ الرَّحِيْمَ فِي كُلِّ تِلْكَ اللَيَالِي .. هِيَ العَارِفُ الوَحِيْدُ بِتِلْكَ الأَسْرَارِ سِوَاء كانَتْ خُرَافَةً .. سِرَّ أُسْطُورَةٍ .. لُغَةَ الجِنِّ وَحَنِيْنهَا الجِنْسِيّ .. أَصْلَ تَفَاهَةِ التَّنْزِيْلِ .. أَحْلَامَ الأَنْبِيَاءِ وَالغَيْبِيَاتِ .. وَكُلَّ ذاكَ النَّسِيْجِ الأَهْوَجِ وَالدَّمَامَةِ القَاتِلَةِ عَبْرَ التَّأرِيْخِ المَفْرُوضِ عَلَيْنَا .
فَاتَ عَلَيْكَ أَيُّهـا القِطَارُ المُسِنُّ أَنْ تَأَمَرَنِي بِالهُدُوءِ وَالتَّعَقُلِ.. فَاتَ عَلَيْكَ أَنَّ فِي مِيَاهِ نِسْيَانِكَ الآسِنَةِ أَلْقَيْنَا عِظَتَكَ وَانْفَتَحْنَا لِهَذا المُدَجَجِ بِالنَارِ ، الرَّاعِفِ أَبَدَاً فِي كُلِّ مَسَامٍ وَفِي كُلِّ ثُقُوبِ الجَسَدِ الأُخْرَى ، النَّازِفِ مِنْ كُلِّ شُقُوقِ الكَوْنِ القَارّيِّ وَسَدِيْمِ مُحِيْطَاتِهِ أَوْ قِيْعَانِهَا .
مَضَى القِطَارُ فِي نَحِيْبِهِ الأَزَلِيّ .. مَضَى مُحَمَلَاً بِالدَّمِ السَّاخِنِ المَسْفُوحِ عَلَى سَطْحِ الذَّاكِرَةِ .. بِالدَّمْعِ الرّقْرَاقِ الّذِي طَفَحَتْ بِهِ المَآقِي .. وبِتِلْكَ الأَجْسَادِ المَنْهُوبَةِ التِي عَادَتْ إِلى صَوَابِها بَعْدَ غَيْبُوبَةِ الدَّهْشَةِ فِي النِّقْطَةِ الحَرِجَةِ مِنْ إِنْسِلَاخِ الوَعْيِ .. عَادَتْ لِتُكْثِرَ مِنْ ثَرْثَرْةٍ هِيَ أَشْبَهُ بِهَلْوَسَةٍ عَقْلِيَّةٍ .. مَازِحَةً صَارَتْ .. نَثَرَتْ حُمَّى حَنِيْنِهَا عَلَى جَنَبَاتِ الوَقْتِ وَفَتَتَتْ جَلِيْدَ سَعَادَتِهَا فِي أَعَالِي الشِّفَاهِ . هَمْهَمَاتٌ .. حَمْحَمَاتٌ.. ضُحُكَاتٌ طَافَتْ فِي فَضَاءِ السُّرَادِقِ المَنْقُولِ .. بَرَاءَةٌ صَافِيَةٌ لِعُيُونٍ زَقَّ فِيْهَا الطُّهْرُ مَاءَهُ .. أَنْفَاسٌ عَذِبَةٌ تَنْبُضُ فِي صُدُورِ الجَمِيْلَاتِ .. وَدٌّ نَقِيٌّ كَلَّلَ إِيْمَاءَاتِ الرُؤوسِ .. أَوْهَامِيَ المَسْعُورَة تَنْهَشُ فِي قَلْبِيَ وَتَشْحَذُ نِصَالَ الحِقْدِ ضِدَّ الزَّيْفِ المُسْتَكِيْنِ لِلّذَّةِ .. الطِّفْلُ يَصْرَخُ فِيَّ جَائِعَاً لِاجْتِثَاثِ هذهِ القَامَاتِ الّتِي صَارَتْ كَظِلِّيَ .. لاِقْتِلَاعِ هذهِ العُيُونِ القَادِحَةِ وَقَاحَةً عَلَانيَّةً وَالمَمْهُورَة بِالتَّخَفِّيَ أَحْيَانَاً .. سَأَسْتَعِيْنُ بِحَشْرَجَةِ أَحَابِيْل الأَيّامِ إِذَا إِقْتَضَى الأَمْرُ إِحْرَاقَ هذهِ النَّفَايَاتِ المُنْتَشِرَةِ فِي هذا المَكَانِ أَوْ فِي ذَاكَ أَوْ رَدْمَهَا فِي مُسْتَنْقَعِهَا . القِطَارُ مَاضٍ إِلى مَنْفَاهُ : أَسْرَابٌ مِنْ رِتَبٍ عَسْكَرِيَّةٍ تَوَرَّمَتْ فِي المَقَاعِدِ.. مُجَنَّدُونَ يَسْتَحِثُّونَ طَيْشَهُم إِلى المَذْبَحَةِ .. أَسْئِلَةٌ نَزِقَةٌ تَزَغَّبَتْ بِهَا الأَجْسَادُ رُبَّمَا سَتَبْقَى دُوْنَ إِجَابَةٍ .. لِمَاذَا ؟
لِافْتِضَاضِ أَلْفِ بَكَارَةٍ بِقُبْلَةٍ سَوْدَاءَ .
لَيْلَى إِلى جَانِبِي أَوْ فِي جَنْبِيَ .. لَا أَدْرِي .. آهٍ يَالَيْلَى فَاتَنِي أَنْ أَنْشُرَ شَالَ وَجْدِيَ عَلَى لَدَانَةِ فِخْذَيْكِ .. فَاتَنِي أَنْ أَسْتَحْضُرَ حِكْمَةَ القَوْمِ : للْبَرْدِ لَسْعَتَانِ . كَمَا فَاتَنِي أَنْ أَفْهَمَ لُغَةَ الإِخْتِرَاقِ فِي عَصْرِنَا الدَّافِئِ : تُفْقَأُ العَيْنُ بِسَهْمِ العَيْنِ . لَكِنَّ لَيْلَى تَجَاهَلَتْ هَمْسِيَ .
لَيْلَى صَارَتْ تَحْلُمُ :
فِي اللَيْلَةِ الّتِي دُقَّتْ فَيْهَا أَعْنَاقُ الوَرْدِ هَجَمَ العِثُّ الإِلهِيُّ بِرَشَاشَاتٍ طَبَقِيَّةٍ وَأُخْرَى تَنَاسَلَتْ عَن فُقْرِ الدَّمِ القَوْمِيِّ وَكَانَ عَبِيْرُ الفَجْرِ يَدُرُّ فِي إِنَاءِ اللَيْلِ سَلَامَاً .. وَفِي مَوْضِعٍ مَا بَيْنَ المَاءِ وَالمَاءِ جَرَى التَّسَلُلُ إِلى أَنْفَاسِ الخَمَائِلِ وَحُوْصِرَ النَّسِيْمُ.. حِيْنَئِذٍ إعْتَلَوا أَسْطُحَ المَنَازِلِ وَنَشَرُوا الأَحْقَادَ الّتِي أَطْفَأَتْ وَهْجَ اليَاقُوْتِ فِي أَطْبَاقِهِ السَّمَاوِيَّةِ . فَصَاحَ السَّوَادُ : يَا اللّه مَا فَعَلَ بِنَا جِنْدُكَ !؟ وَقُبَيْلَ الشُّرُوْقِ بِسَاعَةٍ اِنْتَزَعُونِي مِنْ ثِيَابِ عُرْسِيَ وَحُمِلْتُ عَلَى فُوَّهَاتِ البَنَادِقِ فَاخْتَلَطَ عَلَيَّ الزَّمَنُ ، لَكِنّني حِيْنَمَا أَمُرُّ بِحَقْلِ الذُّكْرَى أَرَى أَنّني جُرِّدْتُ مِنْ ثِيَابِيَ وَمَا عَادَ سِتْرٌ لِيَسْتُرَنِي .. أَذْكُر أَنّني كُنْتُ بِكَفَّيْنِ.. كُنْتُ بِعَيْنَيْنِ .
دَعْوَةٌ للْغَثَيَانِ فِي خُضُمِّ هذا الإِنْحِرَافِ الإِنْسَانِيِّ .. دَعْوَةٌ لِتَحْطِيْمِ الجُهْدِ العَضَلِيِّ المِعَوِيّ .. دَعْوَةٌ لِصَيْحَاتِ أَلْقَيءِ المُرِّ.. دَعْوَةٌ اِسْتِلَابِيَّةٌ حَادَّةٌ للْوِجْدَانِ الدُّنْيَوَيّ .. دَعْوَةٌ لإِعَادَةِ الخَلْقِ بِطَرِيْقَةٍ حَيْوَانِيّةٍ بِدَائِيَّةٍ لَوْلَا هذا الهَزَلُ السَّعِيْدُ الّذِي مَارَسَهُ الجُنْدِيُّ الثَّمِلُ فِي لَحْظَةِ تَوَهُجِهِ الرُّوْحِيِّ .. الّذِي تَرَنَّحَ فِي التَّكْوِيْنِ الفَضَائِيَّ مُتَرَنِّمَاً بِالنَّشِيْدِ الوَطَنِيِّ .. فَأَثَارَ فِيَّ فُضُوْلَاً للْسُخْرِيَةِ الحَادَّةِ .. سَخَرْتُ مِنْهُ حَدَّ الجَلْدِ غَيْرَ مُبَالٍ بِعَشَرَاتِ البَهَائِمَ مِنْ أَمْثَالِهِ .. سَخَرْتُ بِعَبَثِيَّةٍ صَادَقَةٍ .. بِضُحُكَاتٍ هِسْتِيْرِيَّةٍ كَادَتْ تَرْقُصُ لَهَا ضِفَافُ العُقْمِ الرِّحْمِيِّ .. اِنْتَفَضْتُ بِاحْتِرَاقِ جَسَدِ غَجَرِيٍّ مُوْلِيَاً وِجْهَتِي صَوْبَ مَقْصُوْرَةِ المَطْعَمِ لِأَعُبَّ مِنْ زُجَاجَةِ بِيْرَةٍ رُبَّمَا سَتُصْبِحُ مَصْدَرَاً لِنَقَاءٍ مُرْتَجَى وَصَفَاءٍ ذِهْنِيٍّ صَعِبِ التَّحْقِيْقِ .. لَكِنّني صُعِقْتُ لِهذا الوَرَمِ الفُجَائِيِّ المُتَكَلِّسِ فِي أَحْشَاءِ الإِنْبِهَارِ . صُعِقْتُ بِشُحْنَةٍ كَافِيَةٍ مِنْ مُرُوقِ الدُّمَى الصِّبْيَانِيَّةِ ، تِلْكَ الشُّحْنَةُ التِي أَوْقَفَتْنِي فِي المُطْلَقِ الجَحِيْمِيّ عِنْدَمَا شَاهَدّتُ "الرَّبَابَ" تَرْفَعُ كَأسَاً مِنْ عَصِيْرٍ فِرْدُوسِيٍّ إِلى فَمِهَا . وَقْفَةٌ تَرَدُدِيَّةٌ هِيَ مَزِيْجٌ بَيْنَ الشَّكِّ وَاليَقِيْنِ دَارَتْ دَوْرَةَ اليْكِتْرُونٍ قَلِقٍ فِي دَمَاغِي وَأَعْطَتْنِي الحَصِيْلَةَ:
يَالِلْهَوْلِ !
أَيُّ مِسُوْخٍ تَتَلَبّسُ البَشَرِيَّةَ ؟
قُلْتُ فِي غَمْرَةِ اِشْتِبَاكِ الأَسْئِلَةِ .
فَاجَأْتُهَا بِقَامَتِي الّتِي اِنْتَصَبَتْ أَمَامَهَا مِثْلَ رِمْحٍ لَاهِثٍ بِالدَّمِ .. آنَذاك نَهَضَتْ تُحَيِيْنِي :
* يَاللْمُصَادَفَةِ .. كَيْفَ يُضَاءُ النَّهَارُ بِغَيْرِ شَمْسٍ !؟
قَالَتْ وَهِيَ تُخْفِيَ مَكْرَ جِنِّيٍّ .
* لَمْ تُخْبِرِيْنِي البَارِحَةَ أَنَّكِ مُسَافِرَةٌ ؟
* مُصَادَفَة .. مَحْضُ مُصَادَفَة ..
سَأَقُصُّ عَلَيْكَ فِيْمَا بَعْد .
لَا أُنْكِرُ أَنَّني مَعَ الكَأَسِ الأُوْلَى تَحَوَّلْتُ إِلى شَيءٍ ضَخِمٍ مُتَوَرِّدِ الشَّرَايِيْنِ وَلأَعْتَرِف أَنَّني أَسْمَعُ لُهَاثَهُ المُؤَجّجَ بِالشِّهْوَةِ وَصِرَاعَهُ مِنْ أَجْلِ الإِنْعِتَاقِ .. وَكَانَتِ "الرَّبَابُ" تُغْوِيه بَيْنَ الحِيْنِ وَالآخَرِ بِدَلَالٍ سَاحِرٍ أَوْ تُعِيْبُ عَلَيْهِ أَسْرِهِ بِغَمْزَةِ عَيْنٍ دَاعِرَةٍ ... ثَمَّةَ عَتَبٌ مَارَسَتْهُ عَلَى تَرْكِيَ إِيَّاهَا فِي اللَيْلَةِ المَاضِيَةِ لَكِنَّهُ بَدَا وَدُوْدَاً مُبَطَنّاً بِالتّوَجُّسِ .
تِلْكَ شَاهِدَةٌ وُضِعَتْ عَلَى هَامِشِ المَقْبَرَةِ نَحَتَتْهَا رَصَاصَةٌ غَادِرَةٌ .. وَهُنَا حَشْوَةٌ أُخْرَى تُخْفِيْهَا المَرْأَةُ الغَرِيْبَةُ "رَجَاء كَامِل" بَيْنَ قَهْقَهَاتِ الفَرْجِ الرَّطِبِ رُبَّمَا سَتُطْلِقُهَا فِي الزَّمَنِ المَجْهُولِ .. أَلْفُ سُؤَالٍ سَقَطَ فِي الوَحْلِ الصَّدِيْدِيِّ للْدَمَاغِ : مَنْ هِيَ ؟ كَيْفَ قَفَزَتْ أَمَامِيَ مُنْذُ الخُطْوَةِ الأُوْلَى ؟ حَاصَرَتْنِي الأَسْئِلَةُ مِثْلَمَا حَاصَرَتْنِي "الرَّبَابُ" بِحِضُوْرِهَا المُثِيْرِ للْرِيْبَةِ . سَطْوَةٌ إِيْمَائِيَّةٌ خَارِج الإِرَادَةِ فَرَضَهَا اللِقَاءُ فِي غَمْرَةِ الإِنْشِغَالِ بِإعَادَةِ هذا التَّشْكِيْلِ المُخِيْفِ لِلوْحَةِ .. حَيْرَةُ تَائِهٍ يَبْحَثُ عَنْ سَبِيْلٍ إِلى قَطْرَةِ مَاءٍ فِي أَرْضٍ يَبَابٍ .. تَوَقَّفَ القِطَارُ هُنَيْهَةً .. بَادَرَتْنِي :
* أَيْنَ نَحْنُ الآنَ ؟
*السَّمَاوَةُ .. هذهِ السَّمَاوَةُ .. إِنَّهَا السَّمَاوَةُ.
كُوْمِيْديا لِخَبَلٍ مَجَرِيٍّ يَسْبَحُ فِي تُخُوْمِ أُفْقٍ اِسْتِوَائِيٍّ ضِمْنَ إِبَاحِيَّةِ العُرْيِّ الكَوْنِيِّ وَمَجَّانِيَّةِ المَوْتِ المُعْلَنِ . عِنَاقٌ شَهْوَانِيٌّ بَيْنَ الكَأَسِ وَاليَدِ يَتَجَلَّى فِي اِخْتِلَاجِ الشِّفَاهِ ، كَأَنّهُ رَقْصٌ هُلَامِيٌّ مَشُوْبٌ بِالحَذَرِ تَمْنَحَهُ الرِّيْحُ للمَطَرِ .
القِطَارُ مَاضٍ إِلى مَنْفَاهُ .. الرَّبَابُ أَوْ " رَجَاء كَامِل " تَسْتَحِثُّنِي للْحَدِيْثِ وَتَسْتَدْرِجُنِي إِلى مَوَاقِعِهَا عَلَى أَمَلِ الإِمْسَاكِ بِخَيْطٍ مُنْفَلِتٍ لَوْلَا أَنَّهَا أَطْلَقَتْ خَيْطَاً حَرِيْرِيَّاً ، وَاهِنَاً مَالَبِثَ أَنْ تَفَتَتَ فِي المَسَافَةِ الفَاصِلَةِ بَيْنَنا :
* كانَ عَلَيْكَ أَنْ تَتَخِذَ سَبِيْلَكَ إِلَيَّ بَعْدَ
إمْتِنَاعِ "فاطمة خليل" البَارِحَةَ .
* مَاذا ؟
* أُقْسِمُ إِنَّكَ سَمِعْتَ مَا قُلْتُ بِمِلءِ أُذُنَيْكَ.
* تِلْكَ مَعْلُومَةٌ خَطِيْرَةٌ .
* رُبَّمَا .
فِي الخَارِجِ تُطْوَى المَسَافَاتُ بِتَقْلِيْدٍ عَادِيٍّ وَلَيْسَ هُنَاك مِنْ شَئٍ سِوَى الخَلَاءِ الرَّاكِضِ إِلى الوَرَاءِ .. سِوَى طُيُوْرٍ هَارِبَةٍ إِلى الفَضَاءِ بِلَا أَجْنِحَةٍ مَرْئِيَّةٍ . المُسْتَنْقَعَاتُ تُشِيْرُ إِلى تَارِيْخِهَا المُوْغِلِ فِي الهَزِيْمَةِ السَّعِيْدَةِ بِصَفَاءٍ أُنْثَوِيٍّ مُوَرَّدٍ .. أَمْرُ "الرَّبَابِ" لَاْ يُخِيْفُنِي أَوْ يَدْحُرُ قِدْرَتَي عَلَى إِبَادَةِ الأَشْيَاءِ فِيْمَا لَوْ تَسَنَّى لِيَ ذلِكَ ، وَإِنَّمَا يُطْرِبُنِي .. يُفَتِّقُ ذَهْنِيّتَي الطَّاعِنَةَ بِالرَّفْضِ وَيَنْأَى بِجَزْمَةِ الخُوْفِ الّتِي رُبَّمَا اِحْتَذَيْتُهَا يَوْمَاً .. فَلَا تُقْهَرُ تِلْكَ المُعَارِضَةُ العَنِيْدَةُ مَعَ الأَيّامِ التِي تَجْرِيَ بِأَعْصَابٍ هَادِئَةٍ أَوْ تُقَوَّضُ الرَّغْبَةُ التَّرْقِيْصِيَّةُ لِمِعْدَةٍ تَسْعَى وَرَاءَ كَسَرَاتِ خُبْزِ القِمَامَةِ مَتَى مَا هَزَّهَا شَوْقُ الإمْتِلَاءِ .. لَسْتُ مِنِ "الرَّبَابِ" وَلَا هِيَ مِنِّيَ .. إِبْتِلَاءٌ قَدَرِيٌّ أَرْخَى عَزِيْمَةَ العَاصِفَةِ فَتَعَثَّرَتْ بَالجُدْرَانِ دُوْنَ إقْتِلَاعِهَا .. هِيَ فَأْسٌ أَوْهَنَتْهَا الكِهُوْلَةُ فَتَلَكَأَتْ بِالجُذُورِ.. سُحَابَةٌ كَثِيْفَةٌ مِنْ دُخَانٍ حَالَتْ بِيْني وَبَيْنهَا .. وَطَرِيْقِي طَوِيْلَةٌ مِنْ وَحْلٍ وَقَيءٍ وَأَوْرَامٍ هَمَجِيَّةٍ .
* أَنْتِ يَا"الرّبَاب" تَتَنَقَلِيْنَ بَيْنَ المُدُنِ كَمَا تَتَنَقَلِيْنَ مِنْ الحَمّامِ إِلى غُرْفَةِ النَّوْمِ .
ضَحِكَتْ .. زُقَّ فِي مِحْجَرَيْ عَيْنَيْهَا بَرِيْقٌ شَهْوَانِيٌّ .
* قُلْتُ فِي البَصْرَةِ أَجِدُ دِفْئاً جَمِيْلَاً .. بُضْعَةَ أَيّامٍ سَأُقْضِيهَا فِي الفُنْدُقِ الدّولِي وَلَا بَأْسَ عَلَيْكَ إِنْ زُرْتَنِي .
* أَرْجُو أَنْ أَجِدَ فُرْصَةً لِزِيَارَتِكِ .
مَايُؤْسِفُنِي أَنَّ لَا مَكَانَ فِي القِطَارِ يَسْمَحُ لِيَ بِمُدَاهَمَةٍ عَنِيْفَةٍ لِهذا التَّرَفِ السُّلْطَوِيِّ وَلَسْتُ قَادِرَاً عَلَى مُمَارَسِةِ مُتْعَةٍ مُعَيْنَةٍ مَعَ هذا الجَسَدِ المُتَهَتِّكِ مِثْلِ الفِطْرِ البَرّيِّ المُسْتَعِيْذِ بِاللّهِ عَلَى اِمْتِدَادِ الرِّحْلَةِ .. وَمَا يُؤْسِفُنِي مَرَّةً أُخْرَى أَنَّ حَالَةَ السُّمُوِّ الذُّكُورِيِّ التِي اِجْتَاحَتْنِي فِي البِدْءِ رَاحَتْ تَخْمُدُ كَأَيِّ نَارٍ لَا تُذْكَى بِزَفِيْرٍ .
لَيْلَى فِيَّ ، تَسْحُرُ جَدْوَلَاً إِلى رَقَائِقَ مِنْ ذَهَبٍ وَضَفَائِرَ عَذْرَاءِ ، أَوْحَتْ لَهَا المَلَائِكَةُ ذَاتَ يَوْمٍ بِالنِّبُوَّةِ فَتَبَوَّلَتْ عَلَى إِيْحَائِيَّةِ السَّمَاءِ وَعَاشَرَتْ غَجَرِيَّاً كَادَ أَنْ يَمُوتَ بِمِحْضِ المُصَادَفَةِ .. وَلَيْلَى تُجَرِّدُ البَحْرَ مِنْ طَاقَتِهِ القُصْوَى فِي التَّعْذِيْبِ فَتُحِيْلهُ إِلى زُرْقَةٍ دَاْكِنَةٍ بِدُونِ سَمَاءِ .
مَا هذا يَالَيْلَى ؟
لِكَي تَتَوَزَّعَ أَرْوَاحُ القَتْلى بِالتَّقْسِيْطِ .

لَسْتُ مُمَانِعَاً يَا"الرَّبَاب" لَكِنّني أَجَّلْتُ إلْتِهَامَ هَاتَيْنِ الشِّفَتَيْنِ ، التِّيْنَتَيْنِ إِلى حِيْنِ عَوْدَتِي مِنْ سَفَرٍ مُبَاغِتٍ حَمَلَتْنِي عَلَيْهِ لُغَةُ التَّخَيُّلِ .. وَلَيْسَ أَمَامِيَ غَيْر المَجِيءِ عَلَى الزُّجَاجَةِ الثَّالِثَةِ قَبْلَ أَنْ تَلْوِيَ المَسَافَةُ عُنْقَ أُوْرٍ .. عِنْدَئِذٍ سَتَكُونُ الرَّقْصَةُ هَشَّةً بِدُونِ إِيْقَاعٍ مَوْجِيٍّ .
إِمْنَحْهَا جُهْدَاً حَرَارِيَّاً .
مَا قِيْمَتُهَا إِنْ لَمْ تَكُنْ عَنِيْفَةً بِطَبْعِهَا .. تُؤَسِسُ فِرْدَوْسَاً غَجَرِيَّاً لَا تَطِئهُ إِلاَّ الأَقْدَام المُوْغِلَة فِي الجُنُونِ ، الحَافِيَة، المَاشِيَة عَلَى مَسَارِبِ النَّارِ .. لَا تَدْخُلُهُ إِلاَّ الدُّفُوف الرَّاعِشَة ، الرَّعْنَاء ، الدَّاعِرَة أَمَام الشُّمُوْسِ ، الظَّافِرَة بِعِشْقِهَا ، المُلْتَهِبَة شَوْقَاً لِعِنَاقٍ وَحْشِيٍّ .. تِلْكَ هِيَ الرَّقْصَةُ المَسْعُورَةُ التِي تَمْنَحُ العَوَاصِفَ والسُّيُولَ وَتُدَمِّرُ الأَشْيَاءَ بِدْءَاً بِصَيْرُورَتِهَا وَاِنْتِهَاءً بِطَحْنِ رَأْسِ العَالَمِ .. تِلْكَ هِيَ الرَّقْصَةُ التِي تَمْنَحُ سِرَّ إِعَادَةِ التَّكْوِيْنِ عَلَى نَحْوٍ جَاحِدٍ بِالآلِهَةِ وَالمُقَدَّسَاتِ وَالنّبُوْءَاتِ وَالإنْبِثَاقِ الجَاهِزِ للْخَلْقِ وَتُدَمِّرُ عُرُوشَ المِلُوكِ وَسَطْوَةَ الأَمْرِ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِّ عَنْ المُنْكَرِ .. تِلْكَ هِيَ الرَّقْصَةُ الصَّارِخَةُ بِوَجْهِ التَّدْمِيْرِ الكَارِثِيِّ للجِنِّيّ الّذِي رَكِبَ الأَدْمِغَةَ وَتَلَبَّسَ الأَرْوَاحَ :
إِنَّا أَوْحَيْنَا لِرَبِّ الفَلَقِ !
تَبَاطَأَ القِطَارُ وَأَمَام مَسْلَكِ تَمَدُّدِهِ الأَرْعَنِ تَأَلَقَتِ الرُّؤْيَةُ : بُيُوتٌ مِنِ الطِّيْنِ تَرَاجَعَتْ إِلى الوَرَاءِ مَطْحُوْنَةَ الرُّؤوسِ .. مَطْعُونَةَ الخَاصِرَةِ .. نِسَاءٌ يَحْمَلْنَ جِرَارَ المَاءِ وَلَمَعَانَ الخَوَاتِمِ وَوِشُومَاً ضَارِبَةً جِذُوْرهَا فِي العَصْرِ الأُمُوْمِيِّ .. أَطْفَالٌ عَفَّرَتِ الرِّيْحُ وِجُوْهَهُم وَهَاجَمَ البَرْدُ جِلُوْدَهُم فَشَقَقَهَـا .. رِجَالٌ مَرَّغَ أَجْسَادَهُم وَحْلُ القَبِيْلَةِ وَأَنْبَتَهُم فِي الخَفَاءِ خَوَاءُ .. صَبَايَا يَمْلأْنَ المَرَاعِيَ ضَجِيْجَاً بِأَجْسَادٍ قِرْمِزِيَّةٍ .. شُبَّانُ يُعَاشِرُونَ البُرْدِيَّ اِسْتِدْرَارَاً لِمُجُونِهِ اللَيْلِيِّ .. "الرَّبَابُ" مَازَالَتْ تَعْبَثُ بِعُشِّ أُنُوْثَتِهَا الخَفِيِّ فَتَطْلِع الحُمْرَةُ فِي غَوْرَيْ عَيْنَيْهَا . تَبَّاً لِعَيْنَيْنِ مُغِيْرَتَيْنِ بَيْنَ الأَحْرَاشِ الصَّرِيْعَةِ المَمْنُوْعَةِ .
اِنْطَفَأَ الوَقْتُ كَشَمْعَةٍ حِيْنَ شَارَفْنَا عَلَى البَصْرِةِ .. وَحِيْنَ دَاعَبَ النَّسِيْمُ أَحْلَامَ السَّنَابِلِ ، تَمَايَلْتُ فَرَحَاً .. اِنْحَسَرَ الزَّمَنُ المَجْبُوُلُ بِالوَقِيْعَةِ فَشُحِذَتْ ذَاكِرَةُ الأَرْضِ العَطْشَى بِرَشْقَةٍ مِنْ رُذَاذٍ مُعَتّقٍ .. وَفِي هذهِ التُّخُومِ طَافُوْا بِالمُرْجَانِ عَلَى ظَهْرِ الغِيْمِ ظَنَّاً مِنْ أَنَّ الحَنِيْنَ يَنْزِلُ مِنْهُ سَائِلَاً لَبَنِيَّاً .
البَصْرَةُ تَقْتَرِبُ فِي عُيُونِي رُغْمَ الوَخْزِ الشَّوْكِيِّ لِأَسْيَجَةٍ أُحِيْطَتْ بِهَا .. وَأَرَى البَحْرَ يَمْتَصُّ زُرْقَةَ أَنْفَاسِ النَّخِيْلِ .
قَالَتْ لَيْلَى :
سَجَّلَنَا السَّبْيَ الثَالِثَ .
وَخَلَدَتْ إِلى صَدْرِيَ .
مَازِلْتُ أَتَسَلَّى بِالشَّمْعِ المُسَالِ مِنْ الوَقْتِ وَأُغْوِيَ الظَّلَّ بِتُخْمَةِ الإِنْصِرَافِ بَعِيْدَاً .
كَانَ عَلَى " رَجَاء كَامِل " أَنْ تَلْتَقِطَ الإِشَارَاتِ المُخِّيّةَ التِي أُرْسِلَتْ عِنْدَ اللِقَاء وَتَتَخِذَ سَبِيْلَاً أُخْرَى رُغْمَ الخُيُوطِ الوَاهِنَةِ التِي نَسَجَتْهَا المُعَاشَرَةُ . تِلْكَ فَضِيْلةٌ نَادِرَةٌ .
مُعَانَقَةٌ حَمِيْمِيَّةٌ بِيْنَ البَرْدِ وَالرُّطُوبَةِ يَعْزُفُ لَهَا البَحْرُ أَلْحَانَ مَجْدِهِ .. سِيَاطُ وَجْدٍ تَلْهَبُ ظَهْرِيَ .. مَوْكِبٌ للْصَحْبِ يَتَقَدَّمُ بِشَوْقٍ مُزْهِرٍ .. أَذْرُعُ مَنْشُوْرَةٌ وَضِيَاعٌ .. وَالمَدَى فِي اِتِسَاعٍ .. المَدَى الطَّرُوبُ بِكُلِّ مَا فِيْهِ سَيَزْدَحِمُ ذَاتَ يَوْمٍ بِهذا الجَسَدِ النَّاحِلِ .. وَعَيْنِيَ لَا تَرَى سِوْى القِفَارِ .. حَتَّى الخُصُوْبَة وَوِفْرَة المِيَاهِ أَجِدُهَا قَفْرَةً.
وَلَجْنَا المَحَطّةَ أَوْ وَلَجَتْنَا .. صِرْنَا عِنْدَ أَزِيْفِ الرَّحِيْلِ .. وَتِلْكَ الصَّيْحَةُ التِي تَتَخِذُ مِنْ الجَوْفِ كُمُونَاً لَهَا ، سَتَجِدُ طَرِيْقَهَا عَبْرَ الجُدْرَانِ الأَكْثَر شُمُوخَاً .. سَتَجِدُ لَذَّتَهَا فِي رَقْصَةٍ مُؤَجَّلَةٍ.
وَلَجْنَا المَحَطَّةَ حِيْنَ حَمَلَ لَنَا الهَوَاءُ رَائِحَةً لِحَامِضٍ بَوْلِيٍّ . قَالَتْ لَيْلَى :
غَادَرَ النَّهْرُ مَكَانَهُ وَجُنَّ جُنُونُ النَّخِيْلِ .
صِحْتُ :
يَا هذا المُتَرَبِّصُ بِالحُلُمِ هَا قَدْ جِئْتُ .
سَأُصَلِّي صَلَاةَ المَاءِ أَمَامَ المَدَى المُرْتَابِ .. سَأُخَضِّبُ وَجْهَهُ الّذِي فِي اِتِسَاعِهِ بِرَشْقَةٍ مِنْ حَنِيْنٍ وَأُخْرَى مِنْ رَحِيْقِ الطَّلْعِ النَّازِفِ مِنْ المَسَامِ المَخْبُولِ عَلَى التِّيْجَانِ .. أَنَا الحَيْرَةُ أَوْ الحَيْرَةُ أَنَا .. تَسَمَّرَتُ فِي المُفْتَرَقَاتِ مِثْلَ نُصْبٍ وَمَا حُمِلْتُ إِلاَّ عَلَى ظَهْرِ سِرْبٍ مِنْ طُيُورِ الهَوَى ، مَرَّ وَفَضَضَ ثَغْرَ المَسَاءِ بِقُبْلَةٍ مُسَافِرَةٍ وَحِيْنَ أَلْهَبَتْنِي حَرَارَتُهَا إِعْتَصَمْتُ بِالأَجْنِحَةِ الخَافِقَةِ أَبَدَاً ، التِي لَمْ تَتَرَيَّثْ أَمَامَ هَوْلِ المَسَافَةِ .
صَرَخْتُ فِي غَمْرَةِ التِيَاعِي :
هُنَا اِنْبَجَسَ عُشْقُ "عَدْنَان الحَسَن" .. وَمِنْ هُنَا أَبْحَرَ أَلْفَ مَرّةٍ فِي سَفَائِنِ الفَرَحِ .. وَهُنَا اِشْتَرَكَ فِي تَطَلُّعَاتِ الزُّنْجِ لِبِنَاءِ مَجْدِهِم .. وَمِنْ هُنَا أَطْلَقَ "رياض سالم" نِيْرَانَ وَجْدِهِ وَقَاتَلَ فِي وَاحَاتِ الثَّوْرَةِ ذَوْدَاً عَنْ الفُقَرَاءِ .. وَهُنَا أُعْتِقِلَ للْمَرَّةِ الخَمْسِيْنِ عَلَى أَيْدِي خُصْيَانِ الأُمَّةِ المُتَعَاقِبَةِ عَلَى الحُكْمِ .. وَهُنَا فِي المَدِيْنَةِ التِي لَمْ تَسْقُطْ مِنْ ثَقْبِ الذَّاكِرَةِ صَدَحَ صَوْتُ "فاضل حيدر" مُجَلْجِلَاً حَتّى سَمَعَتْهُ الأَجِنَّةُ فِي الأَرْحَامِ :
فَلْتَخْرِجُوا أَيُّهَا الغُرَبَاء .
وَهُنَا تَخَضَّبَ أَدِيْمُ السَّمَاءِ بِدَمٍ قِرْمِزِيٍّ حِيْنَ قُطِّعَتْ أَوْصَالُ لَيْلَى النُّوْرِي وَتَزَلْزَلَتْ الأَرْضُ إِحْتِجَاجَاً عَلَى لُغَةِ الصَّمْتِ التِي مَارَسَتْ سَطْوَتَهَا فِي زَمَنِ الغَلَيَانِ .. وَهُنَا بَدَأَتْ ثَوْرَةُ "مَاجِد الحَسَن" ضِدَّ الإِنْحِطَاطِ الدِّيْنِيِّ وَالرَّغْبَةِ الإِلهِيَّةِ فَصَبَّ حَدَاثَتَهُ فِي " إِنْهِيَار مَمْلَكَةِ الرَّبِّ " التِي أُلْقِيْتْ فِي الحَرَمِ الجَامِعِيِّ وَطُرِدَ فِي إِثْرِهَا بَيْنَمَا كَانَ البَصْرِيُّونَ يَنْسِجُونَ مَاضِيَّهِم فِي طَقْسٍ سُكُوْنِيٍّ وَيَلْقَونَ بِهِ إِلى البَحْرِ فَيَلْتَهِمُ البَحْرُ أَعْشَابَ عُشْقِهِم .
الوَقْتُ يَزْحَفُ بِخِشْيَةٍ إِلى ضِفَافِ المَغِيْبِ مِنْ تَحْتِ أَسْلَاكٍ شَائِكَةٍ أَوْحَشَتْهَا الشُّمُوسُ .. الأَرْصِفَةُ سَرَطَانَاتٌ غَازِيَةٌ تُرَاوِدُ الأَلْوَانَ عَلَى اِمْتِصَاصِ قَتَامَتِهَا .. هُنَا لَا تَثِبُ البَرْصَاءُ أَمَامِيَ وَلَا نِفَاقَ أُمْلِيْه عَلَى عَجِيْزَةِ " فَاطْمَة خَلِيْل " : هذهِ أَجْمَلُ دَفَّةٍ خَطَتْ إِلى البَحْرِ فِي أَوَجِ الهَجِيْرَةِ ، أَوْ أَنَّهَا القَوْقَعَةُ المَانِحَةُ لِلْخُلُودِ المَجْبُولَةُ مِنْ إِسْفَنْجٍ جَهَنَمِيٍّ ، أَوْ هِيَ المُقَدِّمَةُ المَهِيْبَةُ لِقُبَّةِ السَّمَاءِ . هُنَا لَوْثَةٌ تَسْتَحِثُّنِي إِلى حَتْفِيَ .. هُنَا الرَّقْصَةُ التِي قَاتَلَتْنِي بِكُلِّ الأَسْلِحَةِ .. هُنَا الصَّيْحَةُ المَخْتُومَةُ بِطَابِعِ المَجْهُولِ .
اِتَّخَذْتُ الغَيْمَةَ وَسِيْلَةً إِلى بَيْتِ "فاضل" وَكَانَ المَدَى الجَلِيْلُ دَلِيْلِي ، فَتَنَاهَبَتْنِي صَيْحَاتُ وَحْشَةِ السَّوَاحِلِ التِي غَادَرَتْهَا المَرَاكِبُ وَصَرَخَاتُ العَذَارَى فِي لَيْلَةِ غَزْوٍ تَتَرِيٍّ.. تَنَاهَبَتْنِي رَائِحَةُ الحِنَّاءِ العَابِقَةُ فِي يَدَيْ أُمِّي وَأَبْخِرَةٌ خَفِيْفَةٌ زَرَعَتْهَا فِي الزَّوَايَا وَأَطْيَافُ أَرْغِفَةٍ أَسْلَمَتْهَا لِجُدْرَانَ مُوْلِعَةٍ بِالسَّحْقِ .. تَنَاهَبَنِي أَنِيْنُ النَّخِيْلِ المُسْتَبِدّ بِهِ الظَّمَأ وَالجُرْفِ المُثْقَلِ بِالْدَمِ . اِرْتَبَكَتْ غَيْمَتِي وَتَعَثَّرَتْ .. تَوَقَّفَ المَدَى .. نَادَيْتُ : يَا أَيُّهَا المَدَى المُبْحِرُ أَقْرَأُ فِيْكَ إِرْتِبَاكِيَ .. أَقْـرَأُ فِيْكَ كُلَّ الحَنِيْنِ إِلى ذُكْرَى قَاوَمَتْ المَوْتَ بِجَمِيْلِ عِطْرِهَا .
لَنْ أُبَدِدَ مُرُوْقِيَ عَلَى وَجْهِ الشَّارِعِ الّذِي إِكْتَسَحَتْ بَرِيْقَهُ الرِّيَاحُ ، الذَّاهِل أَمَامَ عَوْرَةِ الطَّبِيْعَةِ .. لَنْ أُبَدِدَ حَرِيْقِي بِرَشْقَةِ مَاءٍ .. لَنْ أُبَدِدَ شَيْئَاً مِنْ هذا وَأَنَا أَجِدُ فِي النَّفْسِ المُتَمَرِّدَةِ القُدْرَةَ عَلَى تَفْتِيْتِ الأَشْيَاءِ أَوْ تَدْمِيْرِهَا نِهَائِيَّاً ، كَمَا يَجِدُّ "فَاضِل حَيْدَر" القَابِع بَيْنَ جُدْرَانِ الدَّارِ فِي إِعَادَةِ تَشْكِيْلِ الكَوْنِ بِخَبْطَةٍ شُجَاعَةٍ مُتَهَوِّرَةٍ لَكِنّهُ يُضِيْفُ : خَبْطَة عَشْوَائِيَّة تَتْرُكُ لِهذا التَّكْوِيْنِ خَيَارَاً تِلْقَائِيَّاً .
الغَيْمَةُ مَاضِيَّةٌ رُغْم تَرَنُّحِهَا الفُجَائِيِّ وَدَعْوَةٍ قَوِيَّةٍ صَافِيَةِ النَّبْرَةِ هَجَسَ بِهَا طِفْلُ صَدْرِيَ العَنِيْدُ ، لِلْرَقْصِ أَمَامِ الفَضَاءَاتِ الوَاسِعَةِ .. أَصَرَّ بِشَهْوَةِ شَبَقِيٍّ أَمَامَ عَارِيَةٍ وَكَادَ أَنْ يَجُرَّنِي إِلَيْهَا لَوْلَا صَوْتُ لَيْلَى الّذِي جَاءَ لَاْجِمَاً لِتَهَوُّرِهِ وَرُعُوْنَتِهِ .
قَالَتْ : أَلَمْ يَمْضِ زَمَنٌ حَاوَلْتَ فِيْهِ دَحْرَ غُوْلِ اِشْتِيَاقِكَ بِأَسْيَافِ الْلِقَاءِ ؟
قُلْتُ : أَجَل .
إِذاً غَيْمَتُكَ تَجُوْبُ الأَحْيَاءَ فَتَرَجّلْ عِنْدَ هذا الحَيِّ .


***

5
***

فِي اللَوْحَةِ التِي عَلَى الجِدَارِ
نَهْرٌ يَصْهِلُ

***


فَطَنْتُ إِلى أَنَّني فِي تُخُومِ الأَبُلَّةِ أَحُومُ حَوْلَ بَيْتِ "فَاضِل" فَتَرَجَّلْتُ .
سَمِعْتُ مُنَادِيَاً يُنَادِي :
يَا أَهْلَ البَصْرَةِ .. يَا أَهْلَ البَصْرَةِ ، لَقَدْ مَاتَ النَّخْلُ وَزَحِفَ نَحْوَ أُنُوْفِكُم الرَّمْلُ .
سَأَلْتَقِي صَاحِبِي بَعْدَ حِيْنٍ .. سَأَلْتِقِي الرَّجُلَ الّذِي ظَلَّ أَعْوَامَاً يَزْفِرُ خَلَجَاتِهِ عَلَى تَضَارِيْسِ الزُّرْقَةِ المُسَافِرَةِ وَيَسْكُبُ أَفْكَارَهُ عَلَى وَرَقٍ صَقِيْلٍ لَايَلْبَثُ أَنْ يَتَحَوَّلَ إِلى زَوَارِقَ هَائِمَةٍ عَلَى وَجَهِ المَاءِ .. لِلْمَرَّةِ الأُوْلَى حَسْبَمَا تَقُولُ الذَّاكِرَةُ ، إِلْتَقَيْتُهُ فِي "مَقْهَى البَدْرِ" .. بِمُحَاذَاتِ ضَجِيْجِ المَرَاكِبِ وَالْتِمَاعِ مَوْجِ الشَّاطِئِ .. كَانَ ذلِكَ قَبْلَ عَشْرَةِ أَعْوَامٍ وَكَانَ بِصُحْبَةِ "كُوْلُنْ وِلْسُنْ" فِي " اللامُنْتَمي " ، وَرُبَّمَا قَبْـلَ قِرَاءَتِهِ لِكِتَابِ " الثَّامِنْ عَشْر مِن بْرُوْمَيْر .. نَابِلْيُون بُوْنَابَرْت " .
رُبَّمَا اِعْتَقَدَ الغَسَقُ البَصْرِيُّ بِضُعْفِ قُدْرَتِي عَلَى مُجَابَهَةِ الظَّلَامِ فَرَاحَ يَمْتَحِنُنِي بِاطْلَاقِ أَصْوَاتٍ مُخِيْفَةٍ مِنْ وَرَائِيَ .. رُبَّمَا عَبِثَتْ بِذَاكِرَتِهِ السُّنُون وَنَسِيَ "عَدْنَان الحَسَن" ابْنَ الظَّلَامِ الضَّالِّ .
هَلْ نَسَيْتَ أَيُّهَا الظَّلَامُ عُشْقَ المَقَابِرِ ؟
هَلْ نَسَيْتَ مُعَاشَرَتِي لَهَا حِيْنَ يَجُنّ جُنُونُ الغَارَةِ ؟
رُبَّمَا .. لَكِنَّني سَأَمْنَحُكَ فُرْصَةً أُخْرَى .
رَنَّ الجَرَسُ مَرَّتَيِنِ قَبْلَ أَنْ تُطِلَّ قَامَتُهُ المَدِيْدَةُ . فَرَحٌ
طُفُوْلِيٌّ تَجَلَّى فِي وَجْهِهِ وَحَرَكَاتِهِ .
نَشَرَ ذِرَاعَيْهِ بِصَيْحَةٍ : أَنَا مُشْتَاقٌ .
كانَ وَقْعُهَا مِدَوِّيَاً ، مُؤَثِرَاً .. كانَتْ لَحْنَاً حَزِيْنَاً .. دَخَلْنَا سَوِيَّةً.. اِسْتَقْبَلَنِي الأَبُ الَذِي أَحَبَنِي صَادِقَاً : سَأَنْثِرُ عَلَيْكَ وَرْدَ حَنِيْنِي.. دَمَعَتْ عَيْنَا الأُمِّ التِي مَازَالَتْ رَقِيْقَةً مِثْلَ وَرَقِ الجُوْرِيِّ .. اِنْطَلَقَتْ " زَيْنَبُ " صَوْبِيَ تَسْتَبِقُ أُمَّهَا .. إِلى الأَحْضَانِ يَا " زَيْنَب " .. لَقَدْ كَبُرْتِ .
كَبُرَ أَرْنَبُكُم يَا " فَاضِل !".
ضِحَكَ الجَمِيْعُ .
أَقْرَأُ فِي العُيُونِ حِطَامَ رُوْحٍ .. أَقْرَأُ فِي الأَسَى الشَّفِيْفِ بَقَايَا اِنْكِسَارٍ .. أَقْرَأُ فِي النُّفُوسِ حَيْرَةً مَاعَهَدتُهَا مُنْذُ زَمَنٍ .. أَنْتُم مَنْ عَلَّمَنِي كَيْفَ تُقَاتِلُ الصُّقُورُ وَمَتَى تَحِيْنُ سَاعَةُ الرَّقْصِ ، فَمَا تُخْفِي السَّرَائِرُ دُونِيَ مِنْ نَزِيْفِ البَاطِنِ ؟ وَمَا تُضِيْفُ الشِّفَاهُ فِي خَلْوَةِ الحُجُرَاتِ ؟
كَيْفَ أَنْتِ يَا "زَيْنَب" ؟
نَظَرَتْ شَزَرَاً وَلَمْ تَجِبْ المُشَاكِسَةُ .. رَاحَتْ تُدَاعِبُ شَعْرَ دُمْيَتِهَا التِي اِبْتِعْتُهَا لَهَا مِنْ المَحَطَّةِ وَتَرَكَتْنِي أَغُورُ فِي هَوَاجِسِي .. جَعَلَتْنِي أُجَذِّفُ عَلَى بَقَايَا جِذْعٍ تَاهَ فِي لُجَّةِ المَوْجِ.
* هَلْ مِنْ أَخْبَارٍ عَنْ "رِيَاض" ؟
* سَنَزُوْرُهُ مَتَى شِئْتَ .. أَجَابَ "فَاضِلُ" وَلَمْ يَضِفْ .
لَكِنَّهُ بَعْدَ هُنَيْهَةٍ دَعَانِي لِسَهْرَةٍ خَارِجَ البَيْتِ .
تَأَثَّرَتْ أَمْزِجَةُ الأَجْوَاءِ بِمُحِيْطِ الغَرَابَةِ التِي تَكْتَنِفُ الأَشْيَاءَ حِيْنَ تَبَدَدَتْ القَتَامَةُ وَتَنَاثَرَتْ كُتَلُ الغُيُومِ فِي الأَمْدَاءِ وَفَرَضَ صَفَاءٌ أَزْرَقُ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ حُضُورَهُ المُدْهِشَ بِبُرُودَةٍ آسِرَةٍ ، مُنْعِشَةٍ مَرَّتْ عَلَى جَسَدِي مِثْلَ كَفِّ عَذْرَاءَ . الطَّرِيْقُ مَلْحَمَةٌ مِنْ صُلْبَانٍ رَمَّمَتْ نِصْفَهَا العَوَاصِفُ وَأَفْزَعَ الجِنُّ نِصْفَهَا الآخَرَ.. وَمِنْ هُنَا تَرَاجَعَ البَحْرُ لِبِنَاءِ مَجْدِهِ حَامِلَاً صَلِيْبَ جَبَرُوتِهِ .
"فَاضِلُ" يُقَطِّرُ الكَلِمَاتِ عَلَى حَافَّةِ نَصْلٍ حَادٍّ فَتَنْفَلِقُ ثُمَّ تَصْرِخُ هَاوِيَةً إِلى قَاعٍ صُلْبٍ مُضَرَّجَةً بِدِمَائِهَا وَحُمَّى شَدِيْدَة تَطْلِعُ إِلى جَبِيْنِهِ .. يَرْتَعِدُ .. يَثُورُ .. يَخْمُدُ ، كَبَقِيَّةِ جَمْرَةٍ رُشِقَتْ بِحَفْنَةِ رَمْلٍ . تَجَاوَزَتِ السَّيَّارَةُ سَاحَةَ الجُنْدِيِّ المَجْهُولِ .
لَهِثَ "فَاضِلُ" :
* وَزَّعَوا عَلَيْنَا أَلْفَ عَلَامَةِ سُؤَالٍ وَأَجْبَرُوْنَا على تَعْلِيْقِهَا فَوْقَ الصُّدُورِ .
" حَالَةٌ يَائِسَةٌ لِتَرْمِيْمِ الخَوَاءِ .
مُزْحَةٌ تَسْتَنْفِدُ المَجْهُودَ الفِكْرِيَّ .. مُزْحَةٌ يَقِفُ وَرَاءَهَا طَابُورُ الإِبَادَةِ ."
* وَمَاذا بَعْدُ ؟
* تَرَكْتُ الوَظِيْفَةَ .
قَالَ البَحْرُ : أَنَا سَيِّد المَاءِ .. وَمَارَسَ سَطْوَاً .. كانَ هذا قَدِيْمَاً .. فَانْتَزَعَ مِنْ حُضْنِ الأَرْضِ مُدُنَاً وَ سَوَّى مِنْهَا حُوْرِيَّاتِهِ .. آنَذَاكَ كانَتْ الوَطَنِيَّةُ يَافِعَةً لَكِنَّهَا بِلَا وَطَنٍ .. رُبَّمَا كانَتْ أَجْمَلَ المَوْجُودَاتِ عَلَى الإطْلَاقِ .. اِغْتَاظَ الرَّمْلُ مِنْ سَطْوِ البَحْرِ فَأَغَارَ عَلَيْهَا ذَاتَ لَيْلَةٍ صَيْفِيَّةٍ .. حِيْنَئِذٍ كانَتْ بِقَمِيْصِ نَوْمٍ شَفَّافٍ فَسَهُلَتْ عَلَيْهِ مَهَمَّةُ اِغْتِصَابِهَا .. اِغْتَصَبَهَا بِسَيْفٍ مَجْنُونٍ أَسْوَدَ .. يَالِلَوْعَةِ الرَّمْلِ !
مَاَتْت .
حَمَلَهَا بَيْنَ ذِرَاعَيْهِ وَظَلَّ يَطُوفُ بِهَا أَرْجَاءَ المَعْمُورَةِ حَتّى أَنْهَكَهُ التَّعَبُ وَأَدْرَكَهُ العُمْرُ فَحَطَّ رِحَالَهُ فِي البَصْرَةِ.. عِنْدَئِذٍ مَدَّدَهَا وَتَمَدَّدَ فَوْقَهَا .. فَاسْتَطَالَ .. اِسْتَطَالَ .. اِسْتَطَالَ ، حَتّى مَاتَ.. مَاتَ الرَّمْلُ فَصَارَ لِلْبَدْوِ مَزَارَاً .. وَتَعَلُّقَاً بِشَهِيْدِهِم أَطْلَقَوا عَلَيْهِ الشَّارِع الوَطَنِيّ لِمَوْتِهِ كَمَدَاً بِعُشْقِ الوَطَنِيَّةِ .
مَنْ يَدْخُل بَوَّابَاتِهِ لَنْ يَعُودَ بِلَا تَهْوِيْمَةٍ .. مَنْ يَعْرِف خَبَايَاهُ لَنْ يَنْدَمَ عَلَى عُمْرٍ فَاتَ .. مَنْ يُصْلَب فِيْهِ صَارَ شَهِيْدَاً .. مَنْ يَمُرّ نَاشِفَاً أَصَابَهُ بَلَلٌ .. تِلْكَ مُقَدِّمَاتٌ غَيْرُ مُعْلَنَةٍ .. تِلْكَ آثَامُ الرَّغْبَةِ تَدَاوَلَتْهَا الصَّحْرَاءُ وَأَلْقَتْ بِهَا إِلى المَاءِ لِيَنْسُجَ بِشِفَاهِ مَوْجِهِ خُيُوطَ أَسْرَارِهَا .
سَنَطْحَنُ بِرُحَى اللَحْظَةِ رَحِيْقَ الأَيَامِ وَنَنْثُرُهُ عَلَى الوَسَائِدِ التِي سَبِحَتْ عَلَيْها الضَّفَائِرُ .. سَنَبْحَثُ فِي الضُّوْءِ الكَابِي عَنْ أَفْخَاذٍ تَكَلَّمَتْ فِي مَا مَضَى لُغَةً فِرْدُوسِيَّةً .. سَنَجْمَعُ الأَلْوَانَ التِي ضَيَّعَتْنَا فِي ظَلَامِ الحَانَةِ .. سَنَبْحَثُ وَنَجْمَعُ وَنَطْحَنُ كُلَّ الزَّمَنِ الكَافِي لِقَهْرِ هَوَّامِ الكَوْنِ .
أَمَامَ فَضَاءٍ مُدَوَّخٍ تَوَقَّفَ رَحْلُنَا .. عَبَرَنَا النَّسِيْمُ وَأَجَّجَ فِيْنَا شَهْوَةَ الرَّقْصِ .. فِي تِلْكَ الأَثْنَاءِ كانَ الأَطْلَسُ / الحَانَةُ يَرْوِيَ قِصَّةً عَنْ نُبُوءَةِ الغَجَرِ وَيُرَاهِنُ عَلَى أَنَّ سَاحِرَةً اِخْتَطَفَتْ تِلْكَ النُّبُوءَةَ فَمُسِخَتْ الغَجَرُ .
دَخَلْنَا الأَطْلَسَ / الحَانَةَ .. غَمَرَنَا بِابْتِسَامَةِ وَدٍّ .. إِنَّهَا الأُلْفَةُ تَعْبَقُ رَوَائِحُهَا مِنْ هذا الرُكْنِ .. وَفِي هذا الرُكْنِ سَكَبَ اللَيْلُ بَرِيْقَ نُجُومِهِ فِي أَكْؤسِ حَيْرَتِنَا وَ دَعَانَا للإحْتِرَاقِ .. صَبَّ "فَاضِلُ" بَعْضَاً مِنْ عُشْقِهِ فِي جَوْفٍ اِحْتَلَّهُ الخَوَاءُ وَدَعَى أَجْنِحَةَ اللَيْلِ أَنْ تَحْمِلَ ثَوْرَةَ الإِنْتِشَاءِ إِلى سَمَاءِ البَهْجَةِ .. سَكَبْنَا سَوِيَّةً مِنْ زَيْتِ الأَلَقِ الرُّوِحِيِّ .. وَكَانَتْ صَاحِبَةُ الحَانَةِ تُرَاقِبُ بِعُيُونِ جَمِيْعِ البَشَرِ .. قَالَ رَجُلٌ قَاتَلَتْهُ الشَّيْخُوخَةُ بِنِبَالٍ هُلَامِيَّةٍ إِنَّهُ أَدْمَنَ رَائِحَةَ المَكَانِ مُنْذُ ثَلَاثِيْنَ عَامَاً .. وَمُنْذُ ذلِكَ الوَقْتِ يَتَعَطَّرُ بِزُجَاجَةِ طَيْفٍ زُوَّادَةً للْطَرِيْقِ .. كانَ هذا قَبْلَ أَنْ يَصِيْرَ رَمَادَاً .
قَالَ : إِنَّهَا خَرَجَتْ مِنْ كَفِّ عِفْرِيْتٍ . لَمْ أَفْهَمْ مَاقَصَدَ إِلَيْهِ مِنْ رَمْيَتِهِ .. فِيْمَا بَعْدُ عَرَفْتُ أَنَّهَا تُدِيْرُ اللَيْلَ كُلَّهُ وَرَغَائِبُ النَّهَارِ تَسْعَى إِلَيْهَا مَعَ هُبُوبِ الرِّيْحِ عَارِيَةً .
اِرْتَشَفْنَا مِنْ قِعْرِ اللَيْلِ حَنِيْنَاً .. وَمِنْ السُرَّةِ وَجْدَاً .. كُنَّا اِمْتِدَادَاتِ الشِّهَابِ الغَاضِبَةَ التِي لَاتُرَاقُ فَوْقَ اِسْتِوَاءِ الزُّجَاجِ وَبِنَا المَنَايَا لَاتَظْفِرُ .. يَغْتَرِفُ "فَاضِلُ" مِنْ وُعُورَةِ السَّبِيْلِ اِنْدِفَاعَاتِ تَهَوُّرهِ وَأُسَدِّدُ إِلى أَكُفِّ العَفَارِيِتِ طَعْنَاتِي .
حَرَثَ صَخَبُ الطَّبْلِ القَادِم مِنْ مَلْهَى النَّصْرِ وَجْهَ النَّدَى وَمَازَالَ النَّسِيْمُ يَتَرَنَّمُ .. وَمَازِلْنَا نُعَانِقُ الرَّغْبَةَ اللَجُوْجَةَ إِلى نَفْضِ جَلِيْدِ الرُّوحِ حَتّى آخِرِ قَطْرَةٍ فِي قَعْرِ الزُّجَاجَةِ .. وَالمَرْأَةُ مَازَالَتْ تُذْكِي نَارَاً عَلَى تِيْجَانِ الآلِهَةِ حَتّى إِذا مَا سَعَتْ لِشَرٍّ أَلْبَسَتْهَا ـ الآلِهَةُ ـ رِدَاءَ النُّبُوءَةِ . رَغْبَةٌ جَامِحَةٌ تَجْتَاحُ رُوحِيَ إِلى مُزَاحٍ أَسْوَدَ .. رَغْبَةٌ لِلْتَمَرُّدِ وَإِنْ كانَ حِيَادِيَّاً .
إِيْهٍ أَيَّتُهَا البَهْجَةُ المُخْتَالَةُ هَلْ غَادَرْتِ مَجَرَّتَنَا وَاسْتَوَيْتِ عَلَى عَرْشِ الرُبُوبِيّةِ ؟
صَفَاءٌ اُرْجُوَانِيٌّ يُدَغْدِغُ وَحْشَةَ الجُدْرَانِ .. أَنْغَامٌ تَتَرَنَّحُ بَيْنَ الكَرَاسِي .. ثُغَاءٌ قَطِيْعِيٌّ يَحْتَلُّ الهُدُوءَ .. الزَّمَنُ يَدْخُلُ فِي سُبَاتٍ مَهِيْبٍ .
قَالَ " فَاضِلُ " فِي إِثْرِ صُعُودِهِ السَّمَاوِيِّ :
سَأَرْقِصُ عَلَى إِيْقَاعِ أَنْفَاسِيَ التِي يَأَخِذُهَا الغَمْرُ .. سَيَرْقِصُ مَعِي العَالَمُ فَإنْ أَبَى رَقَّصْتُهُ .. سَأَشْطِرُ الرُّوحَ نِصْفَيْنِ نِصْفٌ لِزَيْنَبَ وَالآخَرُ لِخُيُولٍ تَنَازَعَتْ جَسَدِي .. إِعْزُفْ أَيُّهَا " الوَطَنِيُّ " أَلْحَانَ خَيْبَتِكَ ، لِكَي تَهْتَزَّ بُطُونٌ ضَامِرَةٌ .. لِكَي تُرَفْرِفَ أَوْرَاكٌ شَهِيَّةٌ مِثْلَ جَنَاحٍ خَفَّاقَةٍ .. لِكَي تَسْبَحَ صُدُورٌ عَامِرَةٌ بِالحُبِّ كَدَلَافِيْنَ تَتَغَنَّجُ أَمَامَ فُحُولَةٍ جَامِحَةٍ .. انْقُرْ عَلَى شِغَافِ وَهَنِكَ بِأَنَامِلَ عَذْرَاءَ.. اُوْشِمْ جَبِيْنَكَ بِمِسْمَارِ نَعْشٍ .
صَرَخَ بِلَوْعَةِ مُحْتَضِرٍ :
إِعْزُفْ أَيُّهَا القَوَّادُ نَشِيْدَ مَوْتٍ .. اُنْقُرْ عَلَى أَقْفِيَةِ صَبَايَاكَ بِقَبْضَةِ صُعْلُوكٍ .. اِغْرِسْ فِي فُرُوجِ نِسَائِكَ بِذُورَ لَظَىً . إِنْدَفَعَ خَارِجَ الأَطْلَسِ ثَائِرَاً .. إِنْدَفَعَ الأَمَلُ إِلى رِحَابِ اليَأَسِ .. إِنْدَفَعَ التَّمَرُّدُ مُنْكَسِرَاً .. إنْدَفَعْتُ فِي إِثْرِهِ .. صِرْنَا إِلى الشَّارِعِ تَتَرَاشَقُنَا الوُجُوهُ .. تَمَاسَكْ يَاصَاحِبِي فَمَازِلْنَا صَرْعَى الأَحْلَامِ .
هَمَسْتُ :
* لَنْ نَكُونَ أَضْحِيَةً .
تَرَاخَى بَيْنَ يَدَيَّ مُنْغَمِرَاً بِدَمْعِهِ .
سَنَلْجُمُ أَفْوَاهَ النَّوَاقِيْسِ بِعَفَافِ النُّفُوسِ .. سَنَلْجُمُ الهَذَرَ المُطَلَّ مِنْ النَّوافِذِ وَنَسْقِيَ الوَرْدَ المُهْمَلَ فِي الشُّرُفَاتِ .. سَنُقَاتِلُ التَّأَدُّبَ المُبْتَذَلَ فِي حَضْرَةِ الخَلِيْفَةِ وَ نَبْصُقُ فِي ثَنَايَا ذُلَّتِنَا .. سَنَقْطَعُ أَوْرِدَةَ الشَّارِعِ الّذِي خَرَجَ بِرُمَّتِهِ خَلْفَ الهَذَيَانِ المَجِيْدِ لِـ"فَاضِل" وَنَضَخُّ فِي شِرْيَانِهِ مَصْلَاً مُبِيْدَاً مِنْ سُمُومِ وَرْدَتِنَا .. الشَّارِعُ يُحَاصِرُنَا .. الخُطَى تُحَاصِرُنَا .. العُيُونُ تُحَاصِرُنَا .
اضْرُبْ بِقَبْضَتَيْكَ إِعْتِرَاضَ الوُجُوهِ .. اِشْحَذْ سِكِّيْنَ الوَفَاءِ لِلَحْظَةٍ دَانِيَـةٍ .. أُنْثُـرْ بِذُورَ مَوْتِكَ عَلَى الرُّؤوسِ.. انْزَعْ فَتِيْلَ الغَضَبِ المُتَمَتْرِسَ فِيْنَا وَدَعْ أَشْلَاءَ الشَّارِعِ يَتَقَاذَفُـهَـا المَدَى .. مَازِلْنَا فِي مُضِيِّنَا الخَالِدِ نَقْتَحِمُ عَقْلَانِيَّةَ اللَيْلِ وَغَطْرَسَةَ القَوَانِيْنِ.. مَازِلْنَا نَتَشَوَّقُ لِرُؤيَةِ العُهْرِ القَارِّيِّ الّذِي فَرَّ مِنْ الأَسْرِ فِي أَوَاخِرِ عَهْدِ بَنِي عُثْمَانِ وَصَارَ عِرْضَةً لِلْمُلَاحَقَةِ .
أَيْنَ أَنْتَ أَيُّهَا العُهْرُ النَّائِيُّ ؟ تَعَالْ أُنْقُذْ عِفَّتَنَا مِنْ لُوَاطٍ أَسْوَدَ .
لَا تَتَوَقَّفْ يَاصَاحِبِي وَتُحْصِ مَوَاضِعَ الأَلَمِ فِي سِيْقَانِ الشَّجَرِ : هذا نَخْرٌ وَذَاكَ قَـرْضٌ وَتِـلْكَ فَتَكَتْ بِهَا السُّـمْعَةُ .. تَقَدَّمْ فَقَدْ أَتَى عَلَيْنَا الوَقْتُ وَاجْتَاحَتْ لُغَةَ الفَجْرِ رَنَّةُ الخِلْخَالِ ، فَامْتَزَجْتِ "النَّازِعَاتُ" بِأَنْسَامِ الطَّبْلِ . دَعْنَا نَكْتَسِحِ الضَّجِيْجَ المُفْتَعَلَ بِسِكُونٍ مُعَافَى ، طَاهِرٍ وَنُوقِفْ زَحْفَ الرَّمْلِ نَحْوَ تُويْجَاتِ زُهُورِنَا قَبْلَ مَجِئِ الصُّبْحِ .
يَمْضِي "فَاضِلُ" فِي هَذَيَانٍ مُطْلَقٍ .. يُعَانِقُ الْتِحَامَ أَشْبَاحِ اللَحَظَاتِ .. نَزْفُرُ سَوِيَّةً آخِرَ نَسْمَةِ اِخْتِنَاقٍ فِي جَوْفِ الشَّارِعِ.. يَصُبُّ نَدَى الفَجْرِ المُتَبَتِّلُ الشَفَّافُ هَمْسَ وَجْدِهِ فِي إِنَاءِ الحَنِيْنِ، وَفِي وَاحَةِ الجَدْبِ نَبْتَلِعُ رِيْقَاً عَلَى وَهَنِ . تَنَكَّبْنَا الطُّرُقَاتِ التِي رُبَّمَا آوَتْ خُيُولَ المَوْتِ وَعَقَارِبَ الفَجِيْعَةِ ، وَسِرْنَا إِلى نَدَمٍ طَفَحَ أَنِيْنُهُ فِي الصُدُورِ .
آهٍ أَيَّتُهَا النَّهَارَاتُ الهَارِبَةُ مِنْ وِجُوهِنَا مَا قِيْمَةُ الفَيءِ نَسْتَظِلُّ بِهِ بِدُونِ نَفْحَةِ بَرْدٍ .
جَسَدِي يَغْطُسُ فِي الأَعْمَاقِ بَحْثَاً عَنْ سِحْرِ أُنُوثَةِ مَحَّارَةٍ .. وَطِفْلُ رُوحِيَ .. آهٍ .. أَخَافُ أَنْ يَنْتَبِذَ مَكَانَاً وَيَتْرُكُنِي ، حِيْنَئِذٍ لَا فَائِدَةَ مِنْ الأَحْزِمَةِ التِي رَبَطْتُهَا .. غَطَسْتُ وَكانَتْ الزُّرْقَةُ تَفْلِتُ مِنْ أَجْزَاءِ المَاءِ وَتَلْتَفُّ عَلَى شُجُونِيَ .
فِي المَاءِ صَرَخْتُ :
يَا مَلِكَ البَحْرِ سَاعِدْنِي كَي أَمْحُوَ قَهْرَ العَالَمِ . أَفْزَعَتْنِي الزُّرْقَةُ وَكَانَ السِّحْرُ فُحُولَةً .
عُدْنَا إِلى البَيْتِ عَلَى أَمَلِ أَنْ نُرَتِّقَ مَا مَزَّقَهُ الهَذَيَانُ بِنَصْلِ الوَحْشَةِ لَكِنَّ " فَاضِلاً " قَاءَ وَحْلَ الزَّمَنِ عَلَى فِرَاشِ اللَيْلِ وَخَلَدَ إِلى نَوْمِهِ ، بَيْنَمَا كانَ السُّكُونُ صَهِيْلَاً أَسْوَدَ يُصْلِي وَاجِهَاتِ المَنَازِلِ بِحُمَّى الإِبَادَةِ .. تَعَمَّقَتْ وِحْدَتِي فِي هذا الأَسْرِ اللَامَقْصُودِ .. أَرِقْتُ فِي سَعِيْرِ المِحْنَةِ مَاءَ جَهَنَّمِ .. اِسْتَدْرَجْتُ اِمْتِلَائِيَ الذُّكُورِيَّ لِأَطْيَافٍ مَاعَادَتْ تَأْتِي .. أَغْوَيْتُهُ مِرَارَاً بِأَفْخَاذٍ مَصْقُولَةٍ، مَجْبُولَةٍ مِنْ مَاءِ الوَرْدِ .. لَا فَائِدَةَ .. لَيْسَ هذا وَقْتَ الْلَذَّةِ .. تَدَلَّى رَأْسِيَ إِلى الوَرَاءِ .. اِسْتَنْشَقْتُ رَائِحَةَ الصَّفَاءِ الرُّوحِيِّ المُنْبَعِثَةَ مِنْ صُورَةِ العَمِّ "حَيْدَر" المُعَلَّقَةِ أَمَامِيَ عَلَى الجِدَارِ .. اِسْتَشَاطَتْ عُذُوبَةُ اِبْتِسَامَتِهِ فَرَحَاً لِوِجُودِيَ .. اِسْتَجَابَ طَيْفُ "رِيَاضٍ" لِلْحُضُورِ : سَأَلْتَقِيَكُم فِي الضُّحَى حَتّى لَوْ تَكَدَّرَتِ السَّمَاءُ .. سَأَلْتَقِيَكَ يَا "رِيَاض" بَيْنَ جَدْوَلَيْنِ فِي بُسْتَانِ جَدِّكَ ، تَنْشُرُ عَلَى حِبَالِ صَمْتِكَ أَلْوَانَ البَهْجَةِ .. سَأَلْتَقِيَ "مَاجِدَاً" ، رُبَّمَا مَازَالَ أَنِيْقَاً ، الّذِي جَزَّ خُصْلَةً مِنْ شَعْرِ الخُرَافَةِ وَسَلَّمَهَا لِلْأَحْفَادِ الّذِيْنَ مَازَالَوا فِي الطَّرِيْقِ إِلَيْنَا .
مِنْ دَاخِلِي المُتَفَجِّرِ بِكُلِّ شَيءٍ .. مِنْ فَوْرَةِ الغَضَبِ التِي أَجَجَتْهَا سَطْوَةُ الأَسْرِ .. مِنْ بَيْنِ أَصْوَاتِ عَوَاءٍ ، صُرَاخٍ ، ثُغَاءٍ، يَمُوجُ بِهَا صَدْرِيَ ، خَرَجَ هَمْسُ لَيْلَى وَاهِنَاً :
لَمْ تَنَمْ ؟
قُلْتُ : لَا .
قَالَتْ : سَتَجْتَاحُ دِيْدَانُ الأَرَقِ ضِفَافَ الحُلْمِ فَتَزَوَّدْ بِاطْبَاقَةِ جَفْنٍ .
فَهِمْتُ يَالَيْلَى .. فَهِمْتُ التَّرْتِيْلَ الّذِي مَرَّ عَلَى أَنْقَاضِ أَغْصَانٍ كانَتْ خَضِلَةً .. وَتَلْكَ الحُفَرُ التِي تَكَاثَرَتْ فِي جَسَدِي قُمْتُ بِرَدْمِهَا مُذْ قَهَرْتُ القَهَرَ إِبَّانَ اِنْفِلَاتِي ، فَلَا مَكَانَ لِلْدِيْدَانِ تَأْوِي إِلَيْهِ ، وَلَا مَكَان لِكُمُونِهَا .. دَعِيْهَا تَجْتَاحْ أَوْكَارَ الجُرْذِ المَفْزُوعِ أَمّا أَنَا فَسَوْفَ أُقَاتِلُهَا بِمِلْيُون مِخْلَبٍ مِنْ أَجْلِ غَايَةٍ تَعَبّأْتُ لَهَا بِعُنْفُوَانِ الرَّقْصَةِ المُؤَجَلَةِ وَالتِي سَتَكُونُ عَلَى أَضْخَمَ سُحَابَةٍ مِنْ دُخَانٍ يَلْفُظُهَا أَعْتَى اِنْفِجَارٍ ، أَوْ فِي الفَرَاغِ المَهُولِ.. فَبَيْنَمَا اِصْطَادَنِي الأَرَقُ وَاصْطَفَانِيَ شَيْطَانُهُ نَدِيْمَاً ، رَاحَتْ مَلَائِكَتُهُ تَتَجَاسَدُ فِي وَحْلِ الفَجْرِ البَارِدِ .
مَرَّتْ قَافِلَةٌ مِنْ يَتَامَى قَبْلَ اِنْدِلَاقِ الشُّعَاعِ بِزَمَنٍ .. صِبْيَةٌ وَصَبَايَا مَا فَقَّسَتْ بُيُوضُهُم بَعْدُ وَلَا دَارَتْ مِيَاهٌ مُقَدَّسَةٌ فِي ظُهُورِهِم .
صِحْتُ : إِلى أَيْنَ ؟
لَمْ يَجِبْنِي أَحَدٌ وَكُنْتُ أَنَا نَفْسِيَ أُسَاقُ وَالقَافِلَةَ .. فَأَجِبْتُ عَلَيَّ بَعْدَ فَوَاتِ الأَوَانِ : إِلى المَسْلَخِ حَيْثُ سَتُعَدُّ وَلِيْمَةٌ عَلَى شَرَفِ السُّلْطَانِ .
هَلْ سَمِعْتِ عَنْ سُلْطَانٍ بِشَرَفٍ ؟
دَعِيْهَا تَجْتَاحْ أَوْ تُهَاجِمْ فَقَدْ اِحْتَرَقَتْ ضِفَافُنَا وَضَمَرْنَا فِي قُلُوبِنَا اللَهَبَ.
لَنْ أَنَامَ عَلَى أَرَقِ السَّوَادِ وَلَمْ يَبْقَ مِنْ الوَقْتِ مَا يُؤْسَفُ عَلَيْهِ .. لَنْ أَنَامَ قَبْلَ مُلَاقَاتِ أَفْرَاسِ غَزْوٍ وَوُفْرَةٍ مِنْ أَنْذَالٍ سَاجِدِيْنَ .. أَعْتَرِفُ أَنَّ تَعَبَاً يَرْعَى فِي جَسَدي لَكِن لَنْ أَمْنَحَ لِلْغَادِرِ فُرْصَةَ قَتْلِيَ ، فَتَوَسَّدِي أَنْفَاسِيَ عِنْدَ دَعْوَةِ الصُّبْحِ :

إِذَا أَتَيْتَ أَيُّهَا الصُّبْحُ فَاحْمِلْ
بَعْضَاً مِنْ لُقَاحِ الزَّهْرِ
وَزَقْزَقَة إِنَاثِ العَصَافِيْرِ
لِنَنْتُجَ مِنْهَا فُحُولَةً هَجِيْنَةً
لِزَادِ الظَّهِيْرَةِ
إِذَا أَتَيْتَ أَيُّهَا الصُّبْحُ
فَهَدْهِدْ هَامَ النَّخِيْلِ
وَقَبِّلْ وَجْهَ المَاءِ
إِذَا أَتَيْتَ أَيُّهَا الصُّبْحُ فَاكْسُرْ
عُنْقَ غُرْبَتِنَا التِي اِسْتَفْحَلَتْ
وَقُلْ لِلْمُدُنِ التِي بَرَّدَهَا اللَيْلُ :
التَحِفِي دِفْءَ الطُّفُولَةِ
صَبَاحُ الخَيْرِ أَيُّهَا الصُّبْحُ


***

6

***
فِي السَّكْرَةِ
تُفَكُّ أَزْرَارُ الغَابَةِ

***


أَهْمَلَنِي الصُّبْحُ بِمُرُورٍ كَلِيْلٍ فَلَا طَرَقَ بَابَاً وَلَا آنَسَ عَيْنَاً كَلُوءَاً .. أَهْمَلَنِي كَمَا أَهْمَلَتْ نَوْمِيَ الوَسَائِدُ وَكَانَ الخَلْقُ نِيَامَاً .. سَطَّرْتُ وَصِيَّةً وَخَرَجْتُ بَاحِثَاً عَنْ شَمْسٍ اِغْتَالَتْهَا الظِّلَالُ وَأَهْلَكَ البَحْرُ بَرِيْقَهَا .. سَعَيْتُ بِنَوَافِذَ مَفْتُوحَةٍ إِلى حُرِّيَةٍ مُحَاصَرَةٍ بِكُتِلٍ مِنْ غُيُومٍ تَلْهَجُ دَمَارَاً تَسْبِقُنِي اِنْفِعَالَاتِي إِلى خَلْوَةٍ أَسْكَرَهَا النَّدَى وَنَامَتْ عَلَى أَكُفِّ المُدُنِ التِي تَنَازَعَهَا الوَمْضُ / الحَرِيْقُ.
جُرْعَةٌ ، جُرْعَتَانِ هُوَ الأَلَمُ .. وَتَقَدَّمْتُ سَاحِرَاً قِوَايَ بِقُدْرَةِ تَوَاصُلِي مَعَ البَذْرَةِ الأُوْلَى التِي أَلْقَيْتُها مُنْذُ زَمَنٍ فِي رَحِمِ المُرُوْقِ وَتَفَتَّقَتْ عَنْ نَصْلِ إِبَادَةٍ أَضَعُهُ مَتَى مَا شِئْتُ فِي أَيِّ نَاصِيَّةٍ .. سَخِرْتُ مِنْ مُنَاخٍ مُتَقَلِّبِ الهَوَى .
تَقَدَّمْتُ .. هُنَا رَفَّ جَفْنٌ .. وَفِي هذهِ السَّمَاءِ جَرَّدَتْنِيَ الصُّقُورُ ثِيَابِيَ .. وَعَلَى تُخُومِ البَصْرَةِ نَصَبْتُ شِرَاكَاً لِلْجَدَاوِلَ الهَارِبَةِ .. مَرَرْتُ بِأَكَالِيْلَ أَعْرَاسِ النَّخْلِ ، شَكَتْ هَجْرَهَا .. تَوَقَّفْتُ ، طَرَقْتُ بَابَاً فِي " كُوْتِ الحِجَّاجِ " ، لَمْ تَرُدّ .. طَرَقْتُ ثَانِيَةً .. جَابَهَنِي وَجْهُ " كَرِيْمٍ " وَقَدْ أَعْيَاهُ الإِنْتِظَارُ .. صَافَحَنِي.. سَأَلْتُهُ عَنْ " رِيَاض " .. قَالَ بِعَمِيْقِ حُزْنٍ : لَمْ يَعُدْ مُنْذُ البَارِحَةِ . تِلْكَ شَرَارَةٌ قَفَزَتْ مِنْ مَوْقِدٍ وَلَسَعَتْ قَلْبِيَ .
سَأَلْتُهُ :
* أَيْنَ يَنْبَغِي البَحْثُ ؟
أَجَابَنِي :
* لَسْتُ أَدْرِي .
فِي أَيِّ الطُّرُقَاتِ سَأَلْتَقِيَكَ ؟ فِي أَيِّ الإنْحِنَاءَاتِ جَنَحَ زَوْرَقُ الفُصُولِ ؟ رُبَّمَا رَسَتْ سَفِيْنَةُ عُشْقِكَ فِي مِيْنَاءٍ آمِنٍ أَوْ ضَيَّعَهَا البَحْرُ .. مَضَيْتُ مَخْبُولَاً ، أَجُوبُ عَلَى قَدَمَيَّ مَتَاهاتِ المَدِيْنَةِ وَالضُّحَى الرَّمَادِيُّ تَصَدَّرَ المَدَى.. فِي أَيِّ الشِّعَابِ يَا جِلْدَ الأَفْعَى المَنْزُوْعَ تَسْكُبُ صَبَوَاتِكَ ؟ إِلى أَيْنَ تَغْرِفُ بِمِجْذَافٍ مَكْسُورٍ يَا هذا المَلِيءُ بِالأَوْهَامِ المُتَمَرِّدَةِ ؟ مَضَيْتُ ، أَلْفَيْتُ نَفْسِيَ أَمَامَ النَّهْرِ وَكَانَ النَّهْرُ يُرَتِّلُ تَرْتِيْلَاً حَزِيْنَاً .. الأَلْوَان الرَّمَادِيَّة يَتَشَرَّبُهَا المَوْجُ .. وَكَانَ المَوْجُ عَنِيْفَاً .. هُنَا عَلَى ضِفَافِ شَطِّ العَرَبِ سَأَنْصُبُ فِخَاخِيَ "لِرِيَاض" الّذِي بَاتَ مَجْهُولَاً .
خَطَوْتُ بِقَلْبٍ وَاجِفٍ وَأَعْضَاءَ مُرْتَعِدَةٍ إِلى "مَقْهَى البَدْرِ" وَفِي قَرَارَتِي يَقِيْنٌ مِنْ أَنَّهُ سَوْفَ يَمُرُّ .. وَفِي "مَقْهَى البَدْرِ" تَغَيَّرَتْ المَعَالِمُ : الأَشْيَاءُ وَالنُّدْلُ .. الأَلْوَانُ وَالرَّائِحَةُ .. الصَّخَبُ والهُدُوءُ .. وَفِي "مَقْهَى البَدْرِ" كَثُرَتْ العُيُونُ .. رَاقَبْتُ عَنْ بُعْدٍ حَرَكَةَ الشَّاطِئِ المُزْدَحِمِ : سَفَائِنُ ، زَوَارِقُ صَيْدٍ ، زَوَارِقُ نَقْلٍ ، وَالعَبَّارَةُ ذَاهِبَةٌ آتِيَةٌ فِي وَلَهٍ سَعِيْدٍ أَوْ حَزِيْنٍ لَا أَدْرِي . هذا هُوَ الشَّطُّ الّذِي تَآمَرْنَا عَلَيْهِ فَانْحَنَتْ سِيْقَانُ الدُّفْلَى غَضَبَاً وَنَكَّسَ النَّخْلُ تِيْجَانَهُ اِحْتِجَاجَاً . تَحَرَّكَتْ العَبَّارَةُ فِي تَكَوُّرِ المَوْجِ وَفِي أَعْقَابِهَا تَحَرَّكَ زَوْرَقٌ ، قِيْلَ فِيْمَا مَضَى إنّهُ زَوْرَقُ إِنْقَاذٍ .. تَحَرَّكَتْ كُتْلَةٌ سَوْدَاءُ فِي الفَضَاءِ المُدَوَّرِ .. وَفِي مَكَانٍ مَا حَلَّقَتْ فَظَاعَةُ الأَشْيَاءِ التِي رُبَّمَا لَا تُقَاوَمُ .. وَأَمَامِي يَضْمَحِلُّ الفَرَاغُ حِيْنَمَا تَصْطَدِمُ عَيْنَايَ بِالحَرَسِ المُدَجَّجِ بِالحِقْدِ .. يَا هذا الحَارِسُ الحَالِمُ بِخَلْوَةِ لَيْلٍ وَزَوْجَةَ المُحَافِظِ تَجَنَّبْ أَمْرَاضَ العَصْرِ فَسَيِّدُكَ يَحْمِلُ مِيكْرُوبَاً قَاتِلَاً . غُصْتُ فِي الفَرَاغِ . غُصْتُ فِي دَوْرَةِ الكَرَاسِي .. أُحَاصِرُ الضُّوءَ مُحَاوِلَاً اِصْطِيَادَهُ ، يُحَاصِرُنِي الظِّلُّ مُحَاوِلَاً اِصْطِيَادِيَ .. تَأَمَلْتُ نَفْسِيَ ، اِسْتَغْرَقْتُ فِيْهَا طَوِيْلَاً .. اِسْتَنْتَجْتُ أَنَّ الخَيْبَةَ حَجَرٌ مَثْلُومٌ .. تَأَمَلْتُ الشَّارِعَ " الكُورْنِيْش " الّذِي أَدْمَتْهُ حَيْرَةُ العُشَّاقِ .. تَأَمَلْتُ المَارَّةَ.. اِسْتَنْشَقْتُ رَوَائِحَ عَطِرَةً .. تَفَرَّسْتُ سِيْقَانَ بَلُّورِيَّةً ، وَالظِّلُّ يُحَاصِرُنِي .. لَمِحْتُ "فَاضِلاً" يَحِثُّ الخُطَى .. تَقَدَّمَ نَحْوِيَ .
* خَائِرَةٌ قِوَاكَ .
قَالَ "فَاضِل"
أَخْبَرْتُهُ عَنْ اِخْتِفَاءِ "رِيَاض" ، كَادَ أَنْ يَصْرُخَ لَولَا المَحْظُورُ .. إجْلِسْ يَا صَاحِبِي وَتَأَمَلْ مَعِي فَهُنَا كانَ البِدْءُ .. مِنْ "مَقْهَى البَدْرِ" الّذِي سَوْفَ يُمْحَى ، مَدَدْنَا حِبَالَ مَوَدَتِنَا .. وَهُنَا تَتَجَاوَرُ الطَّبَقَاتُ .. اُنْظُرْ فِي هذا الرُّكْنِ يَرْتَدِي المُحَافِظُ جِلْدَ عُفُونَتِهِ وَفِي الرُّكْنِ المُقَابِلِ يَتَقَذَّرُ المِلْيُونَيْرُ بِوَحْلِ تَرَهُّلِهِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَمْتَدُّ شَارِعُ الجَزَائِرِ الّذِي لَهِثَتْ عَلَى جَانِبَيْهِ زَقْزَقَةُ الحَرَائِرِ وَسَالَ لُعَابُ المَسْحُوقِيْنَ مِنْ أَمْثَالِنَا لِأَفْخَاذِ نِسَائِهِ .. هُنَا التَّرَفُ وَالأُبَّهَةُ التِي لَايَحِقُّ لَنَا أَنْ نَحْلُمَ بِهَا .. وَيَمْتَدُّ الشَّارِعُ .. يَمْتَدُّ إِلى أَنْ تَطْعَنَ حَوَافِرُهُ قُلُوبَاً مَسْحُوقَةً تَسْكُنُ الآجُّرَ وَالطَّيْنَ .. نِسَاءٌ يَبِعْنَ الهَوَى رُبَّمَا مِنْ أَجْلِ لُقْمَةِ عَيْشٍ . أَتَذْكُرُ يَا"فَاضِل" حِيْنَمَا تَعْوِي ذِئابُ الجِنْسِ بَيْنَ أَفْخَاذِنَا مَاذا نَفْعَلُ ؟ إِلَيْهُنَّ نَذْهَبُ .. نَنْضَمُّ إِلى طَوَابِيْرَ مُنْتَظِرَةٍ .. حَوْلَهُنَّ نَتَحَلَّقُ .. نُجَالِسُهُنَّ .. نَتَحَدَّثُ إِلَيْهُنَّ .. نَأْتِيَ أَسْمَاءَ مُسْتَعَارَةً .. فَهذا يَتَوَسَّدُ ذِرَاعَ " سَمِيْرة " وَذَاكَ " مَاجِدة " وَآخَرُ "فَاطِمَة" وَأَنْتَ الدَّائِخُ بِرَائِحَةِ "زَهْراء" التِي تَمْزِجُ رَائِحَةَ الفَرْجِ بِقِنِّيْنَةِ يَاسَمِيْن .. أَيُسْتَعَارُ الجَسَدُ ؟ لِعَلَّكَ نَسِيْتَ لُعَابَكَ الّذِي سَالَ عِنْدَ ذكْرِهُنَّ وَظَلَلْتَ تُتَمْتِمُ : مِنْ أَيْنَ أَنْتُنَّ ؟ أَيُّ الجِنْيَّاتِ رَمَتْ بِكُنَّ إِلى هذا الكَوْكَبِ المُخَصَّبِ بِالمُجُونِ ؟ وَلِأَجْلِهُنَّ أَطْلَقَ التَّافِهُونَ أَحْقَادَهُم فَوَسَمُوا الشَّارِعَ الّذِي يَحْتَوِيْهُنَّ بِاسْمِ " بَشَّار بن بُرْد ".. هكَذا دَفْعَة وَاحِدَة ، رُبَّمَا كانَ بَشَّارُ مَاجِنَاً لَاهِيَاً لَكِنَّهُ كانَ أَشْرَفَ مِنْ سُلَالَةِ هذا وَذاكَ عَلَى السَّوَاءِ .. أَلَمْ يَكُن بَشَّارُ سَعِيْدَاً بِاقْتِنَاءِ تِلْكَ الأَجْسَادِ الكَرِيْمَةِ ! ؟
تَأَمَّلْ فَظَاعَةَ المَوْتِ الزَّاحِفِ إِلَيْنَا وَاسْتَقْرِئِ الذَّاكِرَةَ : الغَارَةُ مَعَ اللَيْلِ عَادَةً .. البَحْثُ فِي دَيَاجِيْرَ الفَرَاغِ عَنْ قَصَاصَةِ بُرْهَانٍ أَوْ كُتَيِّبٍ اِسْتَعْصَى عَلَى الحَرِيْقِ .. عُيُونٌ تُعْصَبُ بِجُدْرَانٍ اِسْمِنْتِيَّةٍ .. الأَيْدِي تُكَبَّلُ بِسَلَاسِلِ المَرْسَى .. تَصْرَخُ إِلى أَيْن ؟ وَتُجِيْبُ : فَاتَ الأَوَانُ . إِلى دَهَالِيْزَ مُعْتَمَةٍ ذَاتَ سَبْعةِ أَبْوَابٍ حَدِيْدِيَّةٍ تَفْضِي إِلى أَمْكِنَةٍ قَذِرَةٍ .. لَا تَنْسَ لِكَي لَا أُذَكِرُكَ بِوَشْمِ قِفَاكَ .
هَلْ صِرْتَ زَادَاً لِلْقَمْلِ ؟ أَسُقِيْتَ بَوْلَاً ؟ أَصُعِّقْتَ ؟ أَكُنْتَ نَزِيْفَاً ؟ أَسَرَى فِي عِرُوقِكَ دَبِيْبٌ ؟ إِذَنْ أُطْلِقْ عَلَى الذَّاكِرَةِ رَصَاصَةَ رِحْمَتِكَ .
حِيْنَ أَطْلَقْتَ العِنَانَ لِقَدَمَيْكَ نَذَرُوا أَحْذِيَتَهُم لِحَرْثِ الأَشْيَاءِ .. آنَذَاكَ كانَتْ المَقَابِرُ مَأْوَىً لَكَ ، دَارَاً وَخَيْمَةً.. وَمِنَ التَّمْرِ اِسْتَمْدَدْتَ زَادَاً لِدَيْمُومَةٍ قَادِمَةٍ .. شَرَبَتْكَ السَّوَاقِيَ أَوْ شَرَبْتَهَا .. قِئْتَهَا أَوْ قَاءَتْ الكَتَائِبَ / الحَظَائِرَ القَدِيْمَةَ المُدَجَّجَةَ بِالنَيَاشِيْنِ وَالمَوْتِ .
تَبَدَّدَ يَقِيْنِي .. تَعَالْ يَا صَاحِبِي إِلى الخَلْوَةِ ، فَنَحْنُ فِي حَاجَةٍ إِلى الخَلْوَةِ .. تَعَالْ لِكَي نَلْهُوَ بِالرَّمَادِ فِي غِيَابِ الجَّمْرِ أَوْ نُسَامِرَ الأَرْصِفَةَ التِي بَاتَتْ عَارِيَةً .
أَيْنَ نَبْحَثُ عَنْ "رِيَاضٍ" ؟
سَأَلَ "فَاضِلُ" .
سَنَنْتَظِرُ حَتّى يَشْتَدَّ سَاعِدُ الوَقْتِ وَإِذَا حَلَّ المَسَاءُ عَادَ السَّوَادُ بِخُفّي حُنَيْن ، حِيْنَئِذٍ سَتَصْمِدُ الطَّعَنَاتُ بِوَجْهِ الفَرَاغِ ، فَنَعْرُفُ مَنِ التِي كانَتْ أَقْرَبَ إِلى القَلْبِ .
* هذا جُنُونٌ !
صَرَخَ "فَاضِلُ" .
* لَمْ يَبْقَ سِوَى الجُنُونِ يَا صَاحِبِي .
اِسْتَأْجَرْنَا سَيَّارَةً وَكانَتْ السَّاعَةُ تُقَاوِمُ لُهَاثَهَا المُطْلَقَ بِزَفِيْرٍ حَادٍّ .
* إِلى "كُوتِ الحِجَّاجِ" .
قَالَ "فَاضِلُ" .
وَبَصَقَ السَّائِقُ عَبْرَ الزُّجَاجِ عَلَى دَائِرَةِ الأَمْنِ أَثْنَاء مُرُورِهِ .
* لَقَدْ لَوَّثْتَ بَصْقَتَكَ يَا رَجُل .
قُلْتُ جَادَّاً .
نَظَرْتُ فِي سَاعَتِي فَكانَتْ الرَّابِعَةَ عَصْرَاً .. طَرَقْنَا البَابَ .. اِنْتَظَرْنَا هُنَيْهَةً . خَرَجَتْ "أُمُّ رِيَاضٍ" .
قَالَتْ لَمْ يَعُدْ ، وَكانَ الدَّمْعُ طَوْفَانَاً فِي مَآقِيْهَا .. وَأَرْدَفَتْ: جُنَّ "كَرِيْمٌ" وَرَاحَ يَبْحَثُ عَنْ أَخِيْهِ .
* أَيْن ؟
قَالَتْ : لَا أَدْرِي .
تَبَادَلْنَا صَمْتَاً وَتَشَنَّجَتْ حَيْرَةٌ مِنْ صَرَعٍ .. أُلْقِيَ حَجَرٌ فِي مُسْتَنْقَعِ الدَّهْشَةِ فَخَضَّ مَاءَ الغَرَابَةِ .. عَبَرْنَا سَاقِيَةً اِنْتَحَرَ فِي القَاعِ طِيْنُهَا .. حَمَلَتْ الأَشْجَارُ جُذُورَهَا وَرَحَلَتْ .
قَالَتْ : سَأُقِيْمُ فِي أَرْضٍ طَيَّبَةٍ . كَيْفَ تَسْتَطِيْعُ السَّمَاءُ أَنْ تَهْزِمَ زُرْقَتَهَا ؟ كَيْفَ يُغَادِرُ الظِّلُّ شَمْسَ الظَّهِيْرَةِ ؟ كَيْفَ تَتَخَلّى المَوْجَةُ عَنْ نَهْرِهَا ؟ رُبَّمَا .. رُبَّمَا غَاصَ البَحْرُ فِي أَعْمَاقِهِ بَعْدَ عَنَاءٍ !
الإِنْتِظَارُ شَلَلٌ مُخِيْفٌ .. عَلَى "فَاضِل" أَنْ يَرْحَلَ عَبْرَ عُيُونِ "زَيْنَب" وَيَتْرُكُنِي . تَقَاتَلَ فِي صَمْتِنَا الرَّفْضُ .. أَجَلْ سَتَرْحَلُ عَنْ هذا الغَمْرِ وَسَأَبْحَثُ عَنْهُ .. سَوْفَ أَسْأَلُ الأَنْهَارَ وَالجَدَاوِلَ.. أَسْأَلُ الطُّرُقَاتِ الأَلِيْفَةَ وَالأَزِقَّةَ المُظْلِمَةَ .. أَسْأَلُ الحَانَاتِ وَالسُّكَارَى .. أَسْأَلُ الزَّوَايَا التِي فَتَكَتْ بِنُورِنَا وَالحَدَائِقَ العَطْشَى .. سَوْفَ أَسْأَلُ .. أَبْحَثُ بِكُلِّ مَا أُوْتِيْتَ مِنْ قُدْرَةٍ .
مَضَيْتُ بَاحِثَاً .. صِرْتُ مُخْتَرِقَاً جَوْفَهُ إِنْ مَرَرْتُ بِنَهْرٍ أَوْجَدْوَلٍ .. لَاهِثَاً عَلَى أَبْوَابِ الحَانَاتِ .. صَارِخَاً بِوَجْهِ الحَدَائِقِ.. مُتَشَمِمَاً فِي الزَّوَايَا .. سَامِعَاً أَحَادِيْثَ المَارَّةِ أَوْ لَغْطَهُم .. أَطْلَقْتُ صَيْحَاتِي مِنْ قَلْبِ بَسَاتِيْنِ النَّخْلِ وَرَدَّ صَدَاهَا خَائِبَاً .
أَيْنَ يُمْكِنُنِي أَنْ أُشْبِكَ عُشْرِي عَلَى رَأْسِيَ ؟ أَيْنَ يُمْكِنُنِي أَنْ أَغْتَسِلَ بِمَاءِ الأَمَلِ وَلَوْ لِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ ؟ . تَذَكَّرْتُ مَاجِدَ الحَسَنِ البَقِيَّةَ البَاقِيَة مِنْ عَائِلَةٍ كَبِيْرَةٍ طَحَنَتْها الرُّحَى وَذَرَّتْهَا الذَّارِيَاتُ .. أَدْرَكَنِي الْلَيْلُ .. أَدْرَكَ اِنْكِسَارِيَ .. أَدْرَكَ الخَلَايَا التِي مَازَالَتْ تَحْتَضِرُ فِي جَسَدِ الرَّفْضِ .. تَكَالَبَتْ غُيُومٌ سَوْدَاءُ .. أَمْطَرَتْ السَّمَاءُ .. كُتَلٌ زَئْبَقِيَّةٌ تَتَدَحْرَجُ تَحْتَ قَدَمَيَّ .. هَلْ ضَاعَ "رِيَاضُ سَالِم" فِي غَمْرَةِ الضِّيَاعِ ؟ سُؤَالَاً أَطْلَقْتُ فِي رِحَابِ اليَّأْسِ .
عُدْتُ فِي ضِدِّ المَسَافَةِ تَتَنَاهَبُنِي الجِهَاتُ .. عُدْتُ مَصْلُوبَاً فِي صَحْرَاء الأَسَفِ .. وَعَلَى الأَرْصِفَةِ وَزَّعْتُ جَحِيْمَ أَنْفَاسِيَ .. بَرِيْقٌ غَاضِبٌ مِنْ عَيْنِيَ سَكَنَ اللَيْلَ .. يَدِي تُعَانِقُ فَأْسِيَ : سَأَتَصَدَّى !
إقْتَرَبْتُ مِنْ أَنْجُمِ حَيِّنَا الصَاخِبِ .. مِنْ هُدُوءِ "مَاجِدٍ" حَيْثُ يُقِيْمُ فِي مَنْزِلٍ تَقَاسَمَ سُقُوفَهُ الآبَاءُ وَوَزَّعَتْ أَرْكَانَهُ المِحَنُ .. عَبَرْتُ سَاحَةً سَبَخَاً اِسْتَنْقَعَهَا الذُّلُّ أَعْوَامَاً وَعَاشَتْ قَبَائِلُ الأَشِنَّاتِ عَلَى أَكُفِّهَا دُهُورَاً ، وَكَانَتْ شَاهِدَةً عَلَى نُمُوِّنَا الطُّحْلُبِيّ.. عَبَرْتُ وَكانَ يَقِيْنٌ يَشُدُّنِي إِلى التَّرَاجُعِ .. عَلَى مَضَضٍ نَقَرْتُ البَابَ نَقْرَاً خَفِيْفَاً .. أَطَلَّ "مَاجِدُ" حَذِرَاً .. حَيَّانِي بِحَرَارَةٍ .. فَعَلتُ مِثْلَهَا .. أَطْلَعْتُهُ عَلَى أَخْبَارِ "رِيَاض" فِي الحَالِ.. تَأَسَّى .. أَطْلَقَ زَفْرَةً فِي رَمَادِ اللَيْلِ البَلِيْلِ .. سَأَلَنِي عَنْ وَقْتِ مَجِيْئِي .. كُنْتُ مُتْعَبَاً فَدَعَانِي لِلْجِلُوسِ عَلَى حَافَّةِ سَرِيْرِهِ . أَضَافَ : كُنَّا نَبْحَثُ فِي أَحْوَالِ التَّصَوُّفِ ،
ـ" شَيَّدَتْ يَدَانِ مُرْتَعِشَتَانِ سَافَاتِ مَنْزِلٍ فَمَالَ جِدَارٌ وَانْحَنَى آخَرُ ، سَالَ لُعَابُ الأُخُوَّةِ عَلَيْهِ فَتَعَرَّى وَتَهَدَّمَ ثُمَّ سِوِّيَ وَتَصَحَّرَ ، ثُمَّ قَامَ فَآلَتْ كَتِفُهُ اليُّسْرَى "لِمَاجِدٍ" بَعْدَ إقْتِسَامِهِ كَالغَنِيْمَةِ سَهْمَاً فَسَهْمَاً .. فِي أَوْلَهِ يَضْحَكُ دَهْلِيْزٌ وَعَلَى شَمَالِهِ تَنْتَصِبُ حُجْرَتَانِ رَثَّ مَتَاعُهُمَا .. أَمَّا نِهَايَتُهُ فَهِيَ فُسْحَةٌ تُرَابِيَّةٌ يَجْثُمُ فِي زَاوِيَةٍ مِنْهَا حَمَّامٌ وَمِطْبَخٌ وَمَاعَدَاهُما فَتَصَحُّرٌ مُخِيْفٌ أَتَى عَلَى كُلِّ نَبْتَةٍ حَاوَلَ "مَاجِدُ" غَرْسَهَا .. يُحِيْطُ بِهِ سِيَاجٌ وَاطِيءٌ مُشْتَرَكٌ مَعَ جَارَتِهِ العَجُوز " ـ
وَالدَّعَارَةِ فِي كُلِّ العُصُورِ أَمَّا الآنَ فَسَوْفَ نَبْحَثُ فِي أَحْوَالِ القَتْلِ وَالإِبَادَةِ فِي كُلِّ العُصُورِ .. حَمَاقَة أَنْ تَكُونَ مُسَالِمَاً .. جُرْمَاً تَرْتَكِبُ إِنْ لَمْ تَنْشُبْ مَرَارَتَكَ فِي صَدْرِ القَاتِلِ .. هذا لَيْلٌ يَسْتُرُ زَحْفَ النَّمْلِ إِلى هُدُوءِ المَقَابِرِ وَيُعْلِنُ : حَطِّمُوا القُبُورَ عَلَى رُؤوسِ مَوْتَاهَا .. اِسْتَشَاطَ "مَاجِدُ" غَضَبَاً .. رَاحَ يُوقِدُ مِدْفَأَةً بِيَدَيْنِ مُتَشَنِجَتَيْنِ ، فِيْمَا طَـْرقٌ عَنِيْفٌ عَلَى البَابِ هَزَّ الجُدْرَانَ.. صَخَبٌ عَلَى البَابِ : إفْتَحْ .. إفْتَحْ .. إفْتَحْ يَا ابْنَ القَحْبَةِ .. اِسْتَنْفَرْنَا سَوَيَّةً .
أَوْعَزَ "مَاجِدُ" : إِلى السِّيَاجِ .
وَإِلى السِّيَاجِ صِرْنَا .. أُقْتِلِعَتْ فِي تِلْكَ الأَثْنَاءِ البَابُ.. قَفَزْنَا صَوْبَ جَارَتِنَا العَجُوزِ . لَمْ نُقْلِقْ غَفْوَتَهَا بَلْ وَاصَلْنَا الهُرُوبَ إِلى خَرِبَةٍ وَاسِعَةٍ مُظْلِمَةٍ خَلْفَ الدَّارِ .. لَفَّنَا ظَلَامٌ دَامِسٌ مُخِيْفٌ، وَمِنْ تِلْكَ الخَرِبَةِ قَرّرْنَا الإفْتِرَاقَ .. لَابُدَّ مِنْ إفْتِرَاقٍ لِكَي لَا نَقَعَ سَوِيَّةً فِي شِرَاكِ التَّخَنُّثِ السُّلْطَوي .. رَاحَ كُلٌّ مِنَّا فِي اتِجَاهٍ .. جُبْتُ بِقَدَمَيْنِ مُوْحِلَتَيْنِ أَزِقَّةً لَمْ أَمُرّ بِهَا مُنْذُ الصّغَرِ .
اللَيْلُ بَارِدٌ مُوْحِشٌ .
هَلْ كانَ المَجِيءُ هذهِ اللَيْلَة ضَرُوْرِيَّاً ؟
إِلى أَيْنَ يَا سَرَطَانَ البَحْرِ الأَعْمَى ؟
فِي دَارِ جَدِّيَ المَهْجُورَةِ سَأَحُطُّ الرِّحَالَ .. سَأَفْتَرِشُ حَصَيْرَةً مُتَهَرِّئَةً .. سَأَتَوَسَّدُ حِذَائِيَ المُوْحِلَ .. هَلْ سَتَأْتِيَ الأَحْلَامُ تُلَامِسُ تَعَبِي؟ سَأَضُمُّ خَوْفِيَ إِلى صَدْرِيَ .
لَكِنَّ "مَاجِداً ‍!"
إِبْحَثْ فِي قَلْبِ اللَيْلِ عَنْ مَوْتِ الجُمْلَةِ .. عَنْ قَتْلٍ يُسَطِّرُ تَارِيْخَاً مُشْرِقَاً .. إِبْحَثْ عَنْ بَرِيْقِ أَسْيَافٍ لَهِثَتْ بِهِ أَنْفَاسُ القَبَائِلِ .. إِبْحَثْ فِي جَوْفِ اللَيْلِ عَنْ مَاءٍ جَفَّ .. هَلْ صَارَ الرَّمْلُ بَدِيْلَاً ؟ إِبْحَثْ فِي خَلَايَا الوَطَنِ .. فِي لِحَاءِ الصَّوْتِ .. فِي هُزَالِ الشَّجَرِ .. فِي سُكُونٍ مُطْلَقٍ .. هَلْ صَارَ الحُبُّ خِيَانَةً ؟
سَيَأْتِي الحُلُمُ كَابُوسَاً .. سَيَأْتِي قُطٌّ وَحْشِيٌّ يَنْهَشُ كَبِدَ حَنِيْنِي.. سَأَغْتَرِفُ مِنْ هَوْلِ الوَحْشَةِ لَذَّةً لِتَكْوينِي .. سَتَأْتِي القَوَافِلُ حَامِلَةً رَايَاتِ الهَزِيْمَةِ .. سَتَأْتِي امْرَأَةٌ .. أَجْذُبُهَا فِي السِّرِّ .. أُعَرِّيْهَا .. أُعَرِّي عُرْيَهَا قُطْعَةً قُطْعَة.. أَفْضَحُ النَّذَلَ الكَامِنَ فِيْهَا .. أَنْتُفُ لِحْيَتَهُ .. أُقَبِّلُهَا وَأُرْخِيْهَا .. أُمَدّدُهَا عَلَى حَصِيْرَةٍ مَاتَتْ مَعَ جَدّيَ وَذُكْرَاهُ .. أُسْقِيْهَا .. سَتَلْفَحُهَا بُرُودَةُ الشَّهْوَةِ .. تَتَشَنَّجُ .. تَمُوءُ "كَفَاطِمَة خَلِيْل" أَوْ "كَالرَّبَابِ" .. "الرَّبَابُ" لَا .. "الرَّبَابُ" تُضَاجِعُ بِخَمْسِيْنَ فَرْجَاً .. أُقَرْفِصُهَا تَارَةً، وَتَارَةً أُسْجِيّهَا .. أُقَلِّبُهَا فِي الإِتِّجَاهَاتِ الأَرْبَعَةِ حَتّى نَتَيَمَّمَ قِبْلَةً فَأُرْخِيَ فَوْقَ كَتِفَيَّ سَاقَيْهَا .. سَتَلِجُ حَنْظَلَةُ رُوحِيَ فِي رَحِمٍ شَبِقٍ ، مُفْتَرِسٍ .. أَتْعَبُ .. أَتَوَسَدُهَا .. أَتَوَسَّدُ سِنِيْنَهَـا .. أَتَوَسَّـدُ دِرْعَهَا الإِسْفَنْجِيَّ ، عُذْرِيَّتَهَا ، وَأَصْرَخُ: أَيُّ بَتُولٍ أَنْتِ !؟ إقْتَرِبِي، سَأَقُصُّ عَلَيْكِ مَا دَارَ فِي وَحْلِ الزَّمَنِ .. إقْتَرِبِي ، سَأَلْقِي إِلَيْكِ بِثِقْلِ الكَوْنِ وَسَتَجِدِيْنهَا ثَقِيْلَةً هِيَ الحَقِيْقَةُ .. إقْتَرِبِي وَلَا تَخَافِي كَالآخَرِيْنَ الحَقِيْقَةَ .
أَتَخَافِيْن الحَقِيْقَةَ ؟
إلْقِي بِثِقْلِكِ إِلَيَّ إِنْ شِـئْتِ فَـأَنَا لَا أَخَـافُ مِثْلَكُم الحَقِيْقَةَ .
تَئِنُّ ، تَمُوءُ ، تَصْرَخُ .. إصْمِتِي يَا امْرَأَة لَقَدْ غَادَرْنَا زَمَنَ النُّطْقِ.. مَارِسِي كُلَّ مَا اِشْتَهَيْتِ بِصَمْتٍ : العَمَلُ بِصَمْتٍ .. الحُبُّ بِصَمْتٍ .. الصَّمْتُ بِصَمْتٍ وَهَا أَنْتِ تَرَيْن مَا أَنَا بِكِ فَاعِلٌ .. أَقْتَحِمُ بِصَمْتِ الصَّمْتِ فِي هذهِ الظُّلْمَةِ التِي لَا بَصِيْصَ فِيْهَا سِوَى بَرِيْقِ عَيْنَيْكِ وَشَيءٍ مِنْ غُبَارِ الدَّهْرِ إِبْيَضَّ عَلَى رَأْسِيَ .. إِقْتَرِبِي فَلَسْتُ سَيَّافَاً ، وَلَا أَمْلِكُ سِوَى هذا البَاحِثِ عَمَّنْ يَفْتَرِسُ رُوْحَهُ .. لَا تَقْلَعِي عَنْ هَمْهَمَةٍ وَتَشِيْحِي بِوَجْهِكِ لِلْجِدَارِ، فَالحُجْرَةُ كَمَا تَرَيْن بِلَا جَوَانِبِ .. بِلَا أَرْكَانٍ .. بِلَا مَقَايِيْس .. سَقْفُهَا عَارٍ .. فَقَطْ لَا أَحَدَ يَرَى .. لَا أَحَدَ يَهْتَدِيَ لِهذا المَكْمَنِ الشَّهِيِّ .. إِقْتَرِبِي وَالْتَصِقِي بِيَ كَطُفَيْلِيٍّ ، ثُمَّ اُعْصُرِيْنِي بَدَلَاً مِنْ الهَرَبِ .. تَمَاوَجِي كَلَيْلٍ بَحْرِيٍّ هَادِئٍ .. أَجَلْ هكَذا .. سَعَادَةٌ إِرْتِجَاجِيَّةٌ .. إهْتَزِّي كَسَعْفَةٍ وَارْتَعِشِي كَاللَيْلَةِ ، ثُمَّ إِقْذِفِي آخِرَ بُيَيْضَةٍ زَرَعَهَا فِيْكِ الرَّبُّ فِي مَدَارِ اللَيْلِ.. أَمَّا أَنَا فَسَأُلْقِيَ بِجَرَاثِيْمَ قَتْلِيَ فِي رُكْنِ الدَّارِ وَأَبْصُقُ عَبْرَ شِفَاهِ اللَيْلَةِ وَمِنْ بَصْقَةٍ سَتَحْمِلُ اللَيْلَةُ وَتَنْتَفِخُ .. حِيْنَئِذٍ انْتَظِرِي المُوْلُودَ فِي غِيَابِي .. إقْتَرِبِي وَخِزِي بِنَصْلِ شَعْرَةٍ هَوْلَ اِرْتِعَاشَاتِي حَتّى تَخْمُدَ .. دَعِي رَائِحَتَكِ بِأَنْفِيَ تَمُرّ.. إرْفَعِي يَدَيْكِ لِلْسَمَاءِ ضَرَاعَةً .. عَضِّي عَلَى شِفَتَيْكِ بِنَابِ الأَلَمِ .. نَظِّفِي نُطْفَةَ الحَنِيْنِ بِلِسَانِكِ .. لَكِن بِصَمْتِ الصَّمْتِ .. لَا تَتَأوَّهِي حَتّى لَوْ كانَ التَأَوّهُ فِعْلَاً دَاخِلِيَّاً فَفِي دَاخِلِكِ شَيءٌ أَجْهَلُهُ، يَحْمِلُ إِلَيْهِم ذَبْذَبَاتِ أَفْكَارِكِ .. إِذَنْ لَا تَبْتَعِدِي قَبْلَ أَنْ نُكْمِلَ .. إلْتَصِقِي أَكْثَرَ فَأَنَا فِيْكِ مُنْغَمِرٌ .. شِدِّي عَلَى شَعْرِيَ بِشُعَاعِ مَوْجٍ يَمُرُّ مِنْ الأَسْفَلِ وَدَعِي الأَعْلَى سَائِبَاً .. أَتُوْقُ لِمَوْتٍ يَأْتِيَ مِنْ أَسْفَلَ ..أَجَلْ .. هكَذا .. هكَذا .. آهٍ .
سَتَلِدِيْنَ مَجْنُونَاً بَعْدَ مائَةِ عَامٍ مِنْ المُخَاضِ .. سَتَقْرَعِيْنَ طُبُولَ الرَّحِيْلِ الأَوْلِ .. حِيْنَئِذٍ سَأَدْفَعُ بِكِ إِلى الجَانِبِ الآخَرِ بِلَا اِمْتِنَانٍ مِنْكِ أَوْ إعْتِذَارٍ .. سَأَرْفُسُ فِي بَطْنِكِ الرَّفْسَةَ الأُوْلَى لَحْظَةَ شُرُوْدِكِ .. إبْعِدِي رَائِحَتَكِ عَنِّي فَمَا عُدْتُ أَحْتَمِلُهَا .. إِبْتَعِدِي ، إِبْتَعِدِي يَا امْرَأَةً قَادِمَةً فِي السِّرِّ .. إِبْتَعِدِي فِي عُمْقِ اللَيْلِ .. تَوَغَلِي فِي ظُلْمَتِهِ وَإِلْقِي نَفْسَكِ فِي غَيَاهِبِهَا .. إسْجِدِي لِرَجُلٍ آخَرَ يُمَزِّقُ لَكِ الرَّحِمَ أَوْ يُرِيْكِ الحَقِيْقَةَ . هَلْ تَأْتِيْنَ يَا امْرَأَةً فِي الصَّبَاحِ وَتَخْتَزُلِيْنَ شُؤونَ اللَيْلِ ؟ إِبْتَعِدِي يَا امْرَأَة مِثْلَهُم .. إِنَّهُم اِعْتَادُوا المَجِيءَ لَيْلَاً لِكَي يَحْمِلُونَا .. يُعَصِّبُوا عُيُونَنَا .. يُكَمِّمُوا أَفْوَاهَنَا .. إذْهَبِي وَانْقُذِيْنِي مِنْ طُوْفَانٍ أَهْوَجَ .. إرْحَلِي بِإيْمَانِكِ السِرِّيِّ وَانْدَسِي فِي حَظَائِرِهِم إِنْ شِئْتِ .. وَمِنْ حَظَائِرِهِم تَنْشَئِيْن مَرَّةً أُخْرَى.. لَكِن إِيَّاكِ وَأَنْ تَنْسِيَ اِنْتِظَارَ الوَلِيْدِ المَجْنُونِ فِي المُخَاضِ القَادِمِ بَعْدَ مائَةِ عَامٍ .. إِبْتَعِدِي وَاسْدِلِي سِتَارَ اللَيْلِ بَعْدَكِ .. اُوْصِدِي أَبْوَابَكِ وَنَوَافِذَكِ وَحِكَايَاتِ اللَيْلَةِ.. أزِيْلِي النَّدَى العَالِقَ بَيْنَ فِخْذَيْكِ وَالأَنِيْنَ العَذْبَ فِي اللَحْظَةِ العَابِرَةِ .. إِرْحَلِي بِقَمِيْصِ نَوْمٍ أَسْوَدَ لِرَجُلٍ يَجْذِبُكِ فِي العَلَنِ .. عِنْدَئِذٍ إعْتَرِفِي أَنَّكِ وِلِدْتِ بِقَمِيْصِ نَوْمٍ أَسْوَدَ وَأَنَّ المِيَاهَ السَّابِحَة فِيْكِ قَدْ وَهَبَهَا الرَّبُّ وَالأَشْيَاءُ وَدَوْرَةُ الدَّوَائِرِ .


***
7
***

وَالضُّحَى وَالمُوْتِ إِذَا طَغَى

***


خُذِلَتْ نُبُوءَةُ لَيْلَى فَاحْتَوَاهَا صَمْتٌ وَعَانَقَتْهَا هَجْعَةٌ بَعْدَ حُزْنٍ .. رُبَّمَا إعْتَرَضَتْ رُكُوبَ طَيْشٍ أَسْوَدَ وَسَافَرْتْ إِلى أَعْمَاقِيَ بِقِطَارٍ أَخْرَسَ .. أَسْئِلَةٌ مَخْبُولَةٌ نَشَبَتْهَا فِي رَأْسِيَ أَحْرَاشٌ مَنْسِيَّةٌ إِبَّان وُجُوْمِ اللَيْلِ وَمِنْ وَحْلِهَا صَرِخْتُ لِوَحْشَتِي : أُدْرِكِيْنِي يَالَيْلَى . عِنْدَ هذا أَلْغَتْ رِحْلَتَهَا اِسْتِجَابَةً وَتَصَدَّتِ لِرِيَاحِ التِّيْهِ العَابِثَةِ بِجَسَدِي :
ذَاتَ ضُحَىً مِنْ صَيْفٍ عَصِيٍّ عَلَى الذَّاكِرَةِ طَارَدَ أَطْفَالُ المَدِيْنَةِ ، بِفُضُولٍ ، صُنْدُوقَاً مُسْتَسْلِمَاً لِتَيَّارِ المَاءِ فِي نَهْرِ العَشَّارِ حَتّى أَمْسَكُوا بِهِ .. أَخْرَجُوهُ إِلى الجُرْفِ وَحَاوَلَ بَعْضُهُم العَبَثَ بِمُحْتَوِيَاتِهِ ، لَكِنَّ الصُّنْدُوقَ اِنْفَتَحَ تِلْقَائِيَّاً عَنْ كَفَّيْنِ وَرَأْسِ فَتَاةٍ .. جُنَّ الأَطْفَالُ .. فِي الضُّحَى التَّالِي مِنْ نَفْسِ الصَّيْفِ ، جَزَرَ صُنْدُوقٌ فِي ذَاتِ الجُرْفِ .. حَاوَلَ بَعْضُ الرِّجَالِ اِسْتِخْرَاجَهُ ، فَانْكَشَفَ لَهُم عَنْ جَسَدِ فَتَاةٍ بِلَا كَفَّيْنِ .. بِلَا رَأْسِ. جُنَّ الرِّجَالُ .. آنَذَاكَ ضَاعَتْ شَاهِدَةٌ مِنْ مِحْرَابِ المَاءِ .. هَلْ شَهِدَ المَاءُ ؟
إطْعَنْ بِإِزْمِيْلِ الأَرَقِ ظُهُورَاً سَاجِدَةً لِلْنَارِ وَالنُّورِ .. فَجِّرْ ضَجَّةً فِي بَاحَةِ هذا السُّكُونِ المَقِيْتِ .. إلْهِمْ دُفُوفَ المَوْتِ إِيْقَاعَ رَقْصَةٍ ، لِعَلَّ مُنَاخَاتٍ آدَمِيَّة تَتَدَفَّقُ مِنْ مُنْبَثَقِ الفَرَاغِ .
لَسْتُ أَدْرِي هَلْ مَسَّتْ فُحُولَةُ الفَجْرِ شَرَاسَةَ مُؤَخَّرَةِ اللَيْلِ؟ وَلَسْتُ أَدْرِي أَيَّ النُّوقِ سَيَصْطَفِيْهَا الفَجْرُ لِمَجِيْئِهِ ؟ لَكِنَّ قَوَادِمَ الوَقْتِ اِحْتَرَبَتْ فِي مِيْدَانِ ذُهُولِيَ وَالسَّمَاءُ لَا تَفْضَحُ مَكْنُونَهَا لِضَجِيْعِ اللَيْلِ .. فَلَا غَيْمَةَ نَاحِبَةً وَلَا نَجْمَةَ مُؤَرَقَةً حِيْنَ بَاتَ الظِّلُّ يَنْثُرُ رَمَادَاً عَلَى صُنُوجِ المَدِيْحِ : " وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ".. أَجَل ، لَكِن فِي أَيِّ الأَوْقَاتِ أَنَا إِذَا مَا اِنْتَحَرَتْ أَقْمَارِيَ ؟
مَزَّقْتُ أَغْلِفَةَ خِشْيَتِي .. إعْتَمَرْتُ إِكْلِيْلَ مَصِيْرِيَ .. تَدَرَعْتُ بِنَقَاءِ صَيْحَاتِ الطِّفْلِ ، المَشْدُود إِلى حَبْلِ حَنِيْنِيَ ، المُنْبَعِثَة مِنْ خَلْفِ أَجَمَةِ رُوحِيَ .. تَوَجَّسْتُ سَبِيْلَاً زُقَّ فِيْهَا مِنْ سُمُومِ الهَجْرِ مَا يَكْفِي لِتَرْهِيْبِ كَتَائِبَ الخَيْلِ المُغِيْرَةِ .. وَطَرِيْقِيَ مَا بَيْنَ النَّخْلِ وَبَيْنَ المَاءِ .. لَنْ أُمَارِسَ نَشَاطَاً خَارِجَ قَانُونِ الطَّعْنِ.. لَنْ أَكْتَرِثَ بِذِكْرَى مِهْمَا أَلَحَّتْ .. مَشَيْتُ سَاعَةً اِنْقَشَعَ بَعْدَهَا الظِّلُّ وَشَابَ رَأْسُ الصُّبْحِ :
إِلى أَيْن أَيَّتُهَا النَّفْسُ الجَلْمَدَةُ ؟
رَكِبْتُ خُصُوْبَةَ أَرْضٍ مَازَالَتْ تَتَرَنَّحُ تَحْتَ ضَرَبَاتِ النَّوْمِ الثَّقِيْلَةِ .. طَرَقْتُ بَابَاً ضَاعَ صَاحِبُهَا ..أَطَلَّتْ عَجُوزٌ .. لَمْ تَتَكَلَّمْ .. تَحَجَّرَ الدَّمْعُ فِي مُقْلَتَيْهَا وَأَشَارَتْ إِلى ضَيَاعِ الأُخْوَةِ بِيَدِهَا .. اِنْهَارَتْ عِنْدَ البَابِ .. جَاءَتْ الأُخْتُ الوَحِيْدَةُ ، سَاعَدَتْنِي عَلَى إِدْخَالِهَا .. تَحَوَّلَ دَمِيَ إِلى سَائِلٍ جَحِيْمِيٍّ .. جَهَّزْتُ فَأَسِيَ :
ثَقِّفِي يَا لَيْلَى هذا النَّصْلَ فَقَدْ آنَ أَوَانُهُ .. حَانَ مَوْعِدُ الرَّقْصِ .
عِنْدَ بَوَاكِيْرِ الصَّبَاحِ صِرْتُ هَائِمَاً وَمَازَالَ الخَلْقُ نِيَامَاً : لَا شَيءَ أَفْظَعَ مِنْ شَيءٍ .. سَأَبْحَثُ فِي شُقُوقِ الأَرْضِ .. فِي مَسَارِ الرِّيْحِ .. فِي اِنْتِشَاءِ الشَّوَاطِئِ .. فِي كَبِدِ السَّمَاءِ وَبُطُونِ الحِيْتَانِ . السَّهَرُ يَنْهَشُ جِفْنِيَّ.. النَّدَى يُلَاطِفُ اِحْتِرَاقِيَ مُحَاوِلَاً إِطْفَاءَ جُذْوَة مَوْتِيَ .. تَقَدَّمْتُ .. إقْتَرَبْتُ مِنْ مَبْنَى المَحْكَمَةِ .. شَارَفْتُ عَلَى نَهْرِ العَشَّارِ مِنْ وَسَطِ الجِسْرِ .. لَمَحْتُ مِنْ الجِهَةِ الأُخْرَى لِلْنَّهْرِ رَجُلَيْنِ وَامْرَأَةً أَمَامَ مَبْنَى البَلَدِيَّةِ .. مَازِلْتُ أُحَاوِلُ عُبُورَ الجِسْرِ .. سَمِعْتُ نَحِيْبَاً وَاهِنَاً ..
يَا لِلْفَظَاعَةِ !
تَطَلَّعْتُ أَسْفَلَ الجِسْرِ ، رَأَيْتُ عَلَى الجُرْفِ رَجُلَاً مُنْحَنِيَاً عَلَى جِثَّةٍ .. إرْتَعَشْتُ .. خَفَقَ قَلْبِيَ خَوْفَاً .. إِنْبَثَقَتْ عَيْنَايَ فِي الجِهَةِ الأُخْرَى .. إِنَّهَا قَامَةُ الرَّبَابِ .. يَاإلهِي! لَسْتُ مُتَأَكِدَاً .. نَزَلْتُ إِلى الجُرْفِ .. رَفَعْتُ رَأْسَ الرَّجُلِ .. طَالَعَنِي وَجْهَانِ حَبِيْبَانِ : ـ وَجْهُ رِيَاضٍ الّذِي لَمْ يَعُدْ وَجْهَاً ، وَوَجْهُ كَرِيْمٍ المُخَضَّبُ بِالدَّمْعِ وَالدَّمِ وَالغَضَبِ .. لَمْ أَتَكَلَّمْ رُغْمَ تَعَلُّقِ كَرِيْمٍ بِرَقَبَتِي .. أَزِحْتُ يَدَيْهِ عَنِّي .. فَقَدْتُ صَوَابِيَ .. صَعَدْتُ الجِسْرَ ثَانِيَةً .. يَدِي عَلَى قَبْضَةِ فَأْسِيَ .. تَقَدَّمْتُ .. فِي كُلِّ خُطْوَةٍ تَتَوَضَّحُ لِيَ مَلَامِحُ الرَّبَابِ .. فِي كُلِّ نَفَسٍ أَرَى بَحْرَاً مِنْ المَوْتِ .. أَرَى غَابَةً مِنْ وِجُوهٍ قَاتِلَةٍ .. آلافٌ مِنْ القَتَلَةِ فِي وِجْهَيَّ الرَّجُلَيْنِ .. مَازَالَتْ الغَيْمَةُ البَيْضَاءُ تُدَلِّي إِلى هَامَةِ النُّصْبِ كَرَامَةَ المُدُنِ .. مَازَالَتْ بَغْدَادُ تَحْتَرِقُ .. مَازَالَتْ تُضَاجِعُ النَّهْرَ بِمَرَارَةٍ .. مَازَالَ النَّخْلُ يَمُوتُ وَالرَّمْلُ يَزْحَفُ .. مَازَالَتْ فَاطِمَةُ خَلِيْل مَلْقِيَّةً عَلَى أَسُرَّةِ الشَّهْوَةِ مَنْفُوشَةَ الشَّعَرِ ، هَامِدَةَ الضَّمِيْرِ .. مَازَالَتْ لَيْلَى تَتَذَكَّرُ أَنَّها كانَتْ بِكَفَّيْنِ .. إِصْرَخْ وَمَزِّقْ جِدَارَ غَيْبُوبَةِ الصُّبْحِ .. تَقَدَّمْتُ .. صِرْتُ وَجْهَاً لِوَجْهٍ مَعَ الثَّلَاثَةِ . رُبَّمَا لَمْ يَدُرْ فِي خَلَدِ أَيٍّ مِنْهُم أَنَّ نَصْلَاً مَا سَيَرْقِصُ عَلَى جَبْهَتِهِ !
فِي تِلْكَ الأَثْنَاءِ اِنْطَلَقَتْ مِنْ الجُرْفِ صَيْحَةٌ .


***


تَمَخَّضَ الضُّحَى عَلَى مَشَارِفِ الصَّحْرَاءِ عَنْ لَمَّةِ شَمْلٍ مَهَيْضَةِ الجِنَاحِ ، عَابِرَةٍ .. تَمَخَّضَ عَنْ حُلُمِ الأَجِنَّةِ : إنَّ وَبَاءً مَا سَيَلْتَهِمُ البُطُونَ .. ثَمَّةَ مَا يُوْحِيَ إِلى أَنَّ خُيُوطَ التِّيْهِ وِصِلَتْ بِبَعْضِهَا بِقِدْرَةِ العَمِّ حَيْدَر المُذْهِلَةِ .. بَيْنَمَا خَيَّمَ حُزْنٌ شَفِيْفٌ عَلَى فَضَاءِ البَيْتِ الطِّيْنِيِّ المُلَوّثِ بِأَنْفَاسِ البَدَاوَةِ قَبْلَ الآنِ .. وَإِذَا مَا حَلَّ المَسَاءُ وَخَرَجَ كُلٌّ عَنْ صَمْتِهِ وِانْقَشَعَ الضَّبَابُ عَنْ وَجْهِ الحَقِيْقَةِ ، عَلِمْتُ أَنَّ الغَارَةَ طَالَتْ فَاضِلاً فِي آخِرِ المَطَافِ.
إِلى البِئْرِ ، التِي جَثَمَتْ فِي سَاحَةِ البَيْتِ ، نُلْقِي دَلْوَاً كُلَّ صَبَاحٍ .. تَعْبَثُ فِي أَحْشَائِهَا وَتَخْرُجُ لَنَا بِمَجَّةٍ تَتَبَرَّدُ بِهَا أَفْوَاهٌ مُلْتَهِبَةٌ .. وَفِي البِئْرِ أَلْقَيْنَا لُغْزَاً سَيَبْقَى عَلَى الحَلِّ عَصِيَّاً إِلى حِيْنِ تُغَيِّرُ الأَنْهَارُ مَجْرَاهَا .. وَهُنَا عَادَةً مَا يُبَدّدُ فَاضِلُ أُوْارَ اِشْتِيَاقِهِ لِزَيْنَبَ التِي نَأَتْ ، بِمُتَابَعَةِ سُلُوكِ الطَّيْرِ الغَازِيَّةِ لِبَكَارَةِ أَصْبَاحِنَا قَبْلَ اِنْدِلَاقِ الشُّعَاعِ .
هَلْ سُئِلَتِ الطَّيْرُ عَنْ أَسْفَارِهَا ؟
يَنْزَعُ مَاجِدُ إِلى مُشَاكَسَةِ اللُغَةِ بِتَحْوِيْرَاتٍ لُغَوِيَّةٍ مُضْحِكَةٍ ، مُبْكِيَةٍ .. حَرْبُ إِبَادَةٍ غَيْرُ مُعْلَنَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ المُفْرَدَةِ .. لَوْثَةٌ رَكِبَتْ كَرِيْمَاً تَجَلَّتْ فِي مُحَاكَاةِ النَّفْسِ وَالمَدَى .
مَكَثْنَا زَمَنَاً عَلَى أَكُفِّ المِلُوحَةِ التِي فَضَّضَتْ شِفَاهَنَا بِصَيْحَاتِ الأَسْرِ .. وَمِنْهَا نُرْسِلُ أَدْعِيَةً لِرَمْسِ المَاءِ أَوْ يُرْسِلُ وَهْجَاً حَتّى صَخْرَةِ صَلَاتِنَا التِي سَتُقَامُ ذَاتَ يَوْمٍ بِالقُرْبِ مِنْ فُوَّهَةِ البِئْرِ .. مَكَثْنَا مَا بَيْنَ الحِصَارِ وَبَيْنَ المَصِيْرِ .. نُبَدِّدُ المَلَلَ بِتَوَالِفِ الذُكْرَيَاتِ أَوْ نَنْسِخُ فِي جَسَدِ الشَّمْسِ رُوْحَاً مِنْ رِيَاض .
أَيَّ المَدَارَاتِ تَصْطَفِيْهَا القَدَمُ ؟
أَيُّ الأَخْيِلَةِ تُلْهِبُ هَامَ الرَّحِيْلِ ؟
أَيُّ السَّمَاوَاتِ سَتُصْبِحُ فِرْدَوْسَاً لِجَسَدِ الرَّقْصَةِ ؟
أَيَّ الشُّرُوْدِ تَرْتَضِي إِذَا مَا غَزَا الذُّهُولُ وِجُوهَاً حَالِمَةً؟ قَالَتْ لَيْلَى :
سَتَبْقَى وَحِيْدَاً .. طَرِيْدَاً ، مِثْلَ غَجَرِيٍّ ثَكَلَ مِلَّتَهُ .
***
ذَاتَ صَبَاحٍ مُشْمِسٍ اِجْتَمَعْنَا عَلَى هَدَايَا العَمِّ حَيْدَر : صُحُفٌ ، مَأْكُوْلَاتٌ ، وَبَعْضُ الأَخْبَارِ التِي لَمْ تَجِدْ لِلْنَشْرِ سَبِيْلَاً.. كانَ صَبَاحَاً كَدِرَاً ، فِيْهِ مِنِ النَّكَدِ مَا يَكْفِي لِتَمْزِيْقِ أُمَّةٍ مُؤْتَلِفَةٍ . صَاحَ فَاضِلُ مُلْتَاعَاً : سَأَنْفَكُّ عَنْ هذا الجِسْمِ .. لَسْتُ مُجْبَرَاً عَلَى التَّخَوُّضِ فِي هذا الوَحْلِ إِلى مَا لَانِهَايَةٍ .. سَأَعُودُ وَتَبْقَى فِي هذا البَيْتِ بَقِيَّةٌ مِنْ رَوَائِحِنَا تُعَطِّرُ اللُغْزَ الّذِي اِسْتَعْصَى .. وَصَمَتَ صَمْتَاً قَاتِلَاً .. فِيْمَا رَاحَ مَاجِدُ يُعْلِنُ عَنْ مُقَاتَلَةِ غَيْمَةٍ سَوْدَاءَ دَوَّخَتِ التُّخُومَ .. تَطَلَّعْتُ إِلَيْهمَا بِعَيْنَيْنِ مُنْكَسِرَتَيْنِ .. ثُمَّ تَحَوَّلَ صَمْتِيَ نَحْوَ كَرِيْمٍ الّذِي لَمَّحَ إِلى أَنَّ الجُنُونَ سَيِّدُ البَقَاءِ . عِنْدَئِذٍ نَهَضْتُ .. تَقَدَّمْتُ إِلى السَّاحَةِ .. أَطْبَقْتُ جَفْنَيَّ .. البِئْرُ أَمَامِيَ .. شُمُوسٌ تَسْبَحُ فِي مَدَارِي .. صَفَّقَ الحَشْدُ ، هكَذَا تَوَهَّمْتُ ، نَشَرْتُ ذِرَاعَيْن فِي هَوَاءٍ يَرْفِدُهُ الشُّعَاعُ بَلْسَمَ رُوحٍ .. حَفَرْتُ فِي هَشَاشَةِ الرَّمْلِ نَحِيْبَ ذُكْرَى .. سَتَنْكَسِفُ الشَّمْسُ حِيْنَ تُعَانِقُ رِدَاءَ رِيَاض .. قَفَزْتُ فِي طَلَاقَةِ المَدَى وَقَدْ خَفَّ جَسَدِي حِيْنَ تَقَاسَمَتْ فَأْسِيَ الجِبَاهُ .. قَفَزْتُ .. إرْتَعَشْتُ .. إرْتَعَدْتُ .. تَنَاغَمَتْ أَعْضَائِي .. تَنَاسَقَ الضَّرْبُ .. إِنْسَجَمَتْ حَرَكَةُ الذِّرَاعَيْنِ مَعَ القَدَمَيْنِ.. لَهِثْتُ .. دَبَكْتُ .. لَمْ أَرَ غَيْرَ زُرْقَةٍ تَحُومُ فِي حَدْقَتَيَّ .. تَحْرِقُ حَدْقَتَيَّ ، تَعَرَّقْتُ .. جَاءَ رِجَالٌ عَلَى أَفْرَاسِ المَاءِ .. رَقَصْتُ .. جَاءَتِ الرَّبَابُ بِلَا نَاصِيَّةٍ .. رَقَصْتُ .. جَاءَتْ فَاطِمَةُ خَلِيْل تَتَوَسَلُ نُطْفَةً .. رَقَصْتُ.. جَاءَ الوَطَنِيُّ بِلِبَاسِ البَدْوِ .. رَقَصْتُ .. جَاءَ أَبِي يَرْتَشِفُ كَأْسَاً مِنْ سُوْرَةِ المَاءِ .. رَقَصْتُ .. جَاءَ اللّهُ مُتَنَكِّرَاً .. رَقَصْتُ .. جَاءَ الرَّمْلُ .. جَاءَتْ أَعْنَاقُ النَّخْلِ .. رَقَصْتُ .. رَقَصْتُ .. جَاءَ رِيَاضُ مَذْبُوحَاً .. رَقَصْتُ .. جَاءَتْ أَجْمَلُ ضِفَّةٍ ضَاعَتْ عَلَيْها شَاهِدَةٌ .. رَقَصْتُ .. جَاءَتِ الطَّوَائِفُ .. جَاءَتْ لَيْلَى بِلَا رَأْسٍ .. بِلَا كَفَّيْنِ .. رَقَصْتُ .. رَقَصْتُ .. رَقَصْتُ .. ذُهِلَ الصَّحْبُ .. تَقَدَّمْتُ نَحْوَ البِئْرِ .. أَرْسَلْتُ إِلى قَلْبِهَا دَلْوَاً.. سَأَنْتَزِعُ قَلْبَ البِئْرِ .. جَاءَ الدَّلُوُ فَارِغَاً .. لَقَدْ جَفَّ المَاءُ ! .. إنْدَهَشَ الجَمْعُ .. صَرِخْتُ : لَقَدْ جَفَّ المَاءُ .. ذُهِلَ الصَّحْبُ .. وَدَّعَنِي الصَّحْبُ .
***
مِخْلَبٌ إِنْبَثَقَ مِنْ وَحْلِ الوِحْدَةِ وَقَاتَلَ شَمْسَاً .. جَرَّحَ وَجْهِيَ وَسَادَ ظَلَامٌ .. مِخْلَبٌ إِلْتَفَّ عَلَى فِكْرِ اللَيْلِ كَأَفْعَى ، فَمَارَسَ شَنْقَاً .. عِنْدَئِذٍ صَارَ المُكُوثُ هُيَامَاً .. يَاهذا المُتَوَسِّدُ أَحْلَامَ البَرِّيَّةِ تَمَهّلْ فَإِنَّ المُنْتَهَى ضَلَالٌ.. يَاهذا المَعْصُوبُ العَيْن ، أُنْشُرْ فِي الشَّفَقِ المَصْلُوبِ حِبَالَ المَاءِ .
هَلْ قَاءَ الغَسَقُ طَعْمَ الذُّلِّ ... ؟
هَلْ خَرَقَ نَجْمٌ عَوْرَةَ جُرْفٍ ... ؟
هَلْ جَاءَ الأَمَلُ مِنْ لَوْحِ البَابِ ... ؟
عَم حَيْدَر نَبَّهَنِي : إِنَّ مُلْتَحِيَاً سَيَأْتِيَ ذَاتَ مَسَاءٍ مُمْتَطِيَاً ظَهْرَ جَزِيْرَةٍ . الوَحْشَةُ تَشْحَذُ خَوْفِيَ .. نُبَاحٌ يَنْأَى فِي الآمَادِ .. صَفِيْرٌ يَطْعَنُ قَلْبَ الصَّمْتِ .. كَابُوسٌ يُدَاهِمُ نَوْمِيَ لَيْلَ نَهَار . يَوْمٌ .. يَوْمَانِ .. دَقَّ السَّهْمُ فَجْوَةَ عَيْنِي .. قَلَّ الزَّادُ .. طَفْطَفَ الصَّبْرُ بَيْنَ يَدَيَّ . قُلْتُ : تَجَلَّدْ . فِي تِلْكَ الأَثْنَاءِ جَنَحَتْ جَزِيْرَةٌ .. دَقَّتْ البَابَ .. نَشَرَتْ فِي اللَيْلِ أَشْرِعَةً .

***

آب / اغسطس - 1988
صبري هاشم


***

عِن المُؤلِّف
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صبري هاشم رُوائِيّ وَشَاعرٌ مِن العراق .
وِلِدَ فِي مَدِيْنَةِ البَصْرَة عام 1952
أَصْدَرَ الكُتُبَ التَّالِيةَ :
1 ـ لَيْلَة تَرَخّمَ صَوْتُ المُغَنّي ـ مَجْمُوعَةٌ قِصَصِيّةٌ صَدَرَت عَن دَارِ المَدَى ـ دمشق 1995 .
2 ـ رَقْصَةُ التَمَاثِيْلِ ـ رِوايَة صَدَرَت عَن دَارِ المَدَى ـ دمشق 1995 .
3 ـ خَلِيجُ الفِيْل ـ رِوايَة صَدَرَت عَن دَارِ المَدَى ـ دمشق 1997
4 ـ الخلاسيون ـ رِوايَة صَدَرَت عَن دَارِ الكُنُوز الأدَبِية ـ بيروت 2000
5 ـ أطْيَافُ النّدى ـ شِعْرٌ ـ دَار كَنْعَان ـ دِمَشق 2002
6 ـ جَزِيْرَةُ الهُدْهُد ـ شِعْر ـ دَار كَنْعَان ـ دِمشق 2002
7 ـ حَدِيْثُ الكَمْأة ـ رِوَاية ـ دَار كَنْعَان ـ دِمشق 2005
8 ـ هُوركِي .. أَرْض آشُور ـ رِوايَة ـ دَار كَنْعَان ـ دِمشق 2007
9 ـ قِيْثَارَة مَدْيَن ـ رِوايَة ـ دَار كَنْعَان ـ دِمشق 2009
10 ـ قَبِيْلَة الوَهْم ـ رِوايَة ـ دَار كَنْعَان ـ دِمشق 2012
11 ـ لِنَشْوى مَعْبَدٌ في الرِّيحِ ـ شِعْر ـ دار تموز . دِمَشق 2012
****



#صبري_هاشم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مِن المَتْنِ إلى الهامشِ - 3 -
- مِن المتن إلى الهامش ( 2 )
- الجائزة
- في المدينة
- طائر الأنين
- تلك البلاد التي خذلناها
- شهادة روائية السردية في الرواية الشعرية
- قمّة النسور
- كُنّا عَلى وَشَكِ اللقَاء
- هوركي
- الملكةُ بكلِّ أُبهتها
- سلّةُ الحكايا
- عشقٌ اُسطوريٌّ
- الفراشة والجياد
- لا تغلقْ بوجهِ الريحِ باباً 2
- ساحة الشعراء
- لا تغلقْ بوجهِ الريحِ باباً 1
- مِن المتن إلى الهامش
- ابن الرمال
- لا تَرْمِي كلَّ الأقمارِ


المزيد.....




- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...
- قيامة عثمان حلقة 157 مترجمة: تردد قناة الفجر الجزائرية الجدي ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صبري هاشم - رقصة التماثيل رواية