أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حيدر علي سلامة - مقدمة في بلاغة المنشور الفلسفي العراقي...أو نحو تأويل سوسيو-ثقافي لفلسفة المعرفة















المزيد.....



مقدمة في بلاغة المنشور الفلسفي العراقي...أو نحو تأويل سوسيو-ثقافي لفلسفة المعرفة


حيدر علي سلامة

الحوار المتمدن-العدد: 4433 - 2014 / 4 / 24 - 13:44
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


مقدمة في بلاغة المنشور الفلسفي العراقي
أو نحو تأويل سوسيو-ثقافي لفلسفة المعرفة
حيدر علي سلامة*

تُعد مسألة سيطرة وسيادة الأنماط التقليدية في فلسفة المعرفة وأشكالها البلاغية في خطابنا الفلسفي العراقي**، واحدة من كبرى الإشكاليات المهمة التي لازالت تلعب أدواراً مختلفة في صناعة "النص الفلسفي التقليدي"، ذلك النص الذي اتسم بغياب البعد الإشكالي والنقد الابستمولوجي لتاريخية مجمل أنساقه الفلسفية السابقة، بوصفها تشكيلات أيديولوجية عملت على تكريس ممارسات أكاديمية إرتكاسية/نمطية في كتابة النص الفلسفي؛ واختيار ثيماته الفلسفية، بل وحتى في فهرسة وتداول ذلك النص. وعند تتبعنا لطبيعة تحولات النص الفلسفي منذ لحظة انبثاقه الأولى، المتمثلة في جيل الرواد المهندسين لذلك لنظام المعرفي ولنظرياته الفلسفية، سنجد أن اغلب الاجيال المتعاقبة على تلك التصورات بقيت منشغلة في نفس القضايا التقليدية للفلسفة، كقضية المعرفة التجريبية؛ والمعرفة المثالية؛ وتواريخ الفكر الفلسفي في شقيه الاسلامي والغربي. واللافت في الأمر اننا وإلى يومنا هذا نجد أن طرق ومناهج تناول "نظرية المعرفة" الفلسفية لم تتعرض إلى التغيير والنقد والتحويل، وكأنها نظرية مستقلة عن بقية الخطابات الثقافية؛ والسايكولوجية واللغوية. ومن المفارقات الأخرى والكبرى في خطابنا الفلسفي السابق واللاحق، انه تعامل مع نظرية المعرفة بطريقة "ارثوذكسية/ماقبل النقد الابستمولوجي"، بمعنى أن جيل الرواد ومنذ لحظة تدشينه للنص الفلسفي، عمل على استبعاد هذا النص من الثورات الحاصلة في مناهج العلوم الإنسانية وخطاباتها المختلفة، فلا يمكننا أن نجد مثلا، قراءات نقدية وتحليلية لنظرية المعرفة من خلال اعتماد احدث نظريات الفسيولوجيا؛ والسايكولوجيا؛ والتحليل النفسي؛ والدراسات الثقافية وتحليل الخطاب ونظريات الثقافة والمادية الثقافية...الخ، بل على العكس من ذلك، نلحظ وجود حالة من الاهمال الأيديولوجي في تحقيق أي "تواصل ابستمولوجي" بين نظرية المعرفة وعلوم اجتماع المعرفة التاريخية. أضف إلى أن ذلك الجيل من الرواد اعتمد منذ البدء على سياسات معينة في إنتاج/وإعادة إنتاج النص الفلسفي، بتجاوزها المتواصل لعملية قراءة/وتأويل "لوغوس" نظرية المعرفة. ونتيجة لذلك، سيطرت المناهج القبلية والتجريبية والحدوسية والغنوصية في نظرية المعرفة التقليدية، بوصفها مناهج قارة وثابتة ومحدِدِة لشكل وبنية نظرية المعرفة في فضاء المؤسسة الأكاديمية الفلسفية، وذلك للحفاظ على سيادة: "أيديولوجيا المعرفة وعقلانية الوجود الارسطو-افلاطوني". وبالتالي، تبقى نظرية المعرفة منفصلة عن النظام السيميو-تاريخي (اي السيميوتيك التاريخيhistorical semiotics) الذي يُشكل المحتوى الذهني والمفاهيمي لاستعمالات اللغة في بنية الحياة اليومية. بعبارة أخرى، إن استبعاد مناهج السيميو-تاريخية عن تاريخ نظرية المعرفة الفلسفية، سيؤدي بالضرورة الى استبعاد نظريات تأويل تاريخية مفاهيم الذهن وتطور اللغة والمعنى في السياق الثقافي.
من هنا، ستنصب قراءتنا التأويلية هذه على مراجعة الأرشيف الفلسفي والميتافيزيقي وتواريخ الرسائل الجامعية المحفوظة فيه. فعبر جولاتنا بين دهاليز ذلك الأرشيف، لاحظنا افتقار اغلب تلك الرسائل الجامعية إلى قراءات نقدية وتحليلية لبنية نظرية المعرفة من الناحية الانطولوجية؛ المنطقية؛ الثقافية والسوسيو-لسانية ( sociolinguistics)...الخ، وكأن هنالك حالة أشبه بوجود "سلفية اكاديمية معتمَدة ومتعمّدة" في تكريس أشكال ارثوذكسية ولا تاريخية في إنتاج نظريات معرفة أيديولوجية، تؤسس لبقاء كل ماهو سلطوي/بديهي/شمولي/ ميتافيزيقي، او بما يُعرف بسيطرة (النزعة الموضوعانية objectivisme) على تاريخية العملية الفلسفية، الأمر الذي جعل من نظرية المعرفة بعيدة تماما عن التساؤل الابستمولوجي/والانطولوجي، لذلك رأى الفيلسوف الألماني مارتن هيدغر: ((إن الفضيحة الحقيقية للفلسفة تتمثل في اللاتساؤل النقدي لسلطوية ومركزية نظرية المعرفة في الفلسفة المعاصرة...لان نظرية المعرفة امتزجت في ذاتها بنظام ميتافيزيقي دوغمائي مُفترض))(1). وبطبيعة الحال، إن نسيان الخطاب الفلسفي التقليدي لسؤال نظرية المعرفة الإشكالي، سيؤسس بالضرورة لنسيان الوجود والكينونة، طالما كان المنطق القبلي/والموضوعاني هو المؤسس للنظام المعرفي والانطولوجي للوجود، رغم أن ((سؤال الوجود سابق على كل اسئلة الفلسفة وإشكالاتها))(2).
لكن كيف يمكن لخطابنا الفلسفي الذي أستغرق منذ تأسيسه في الفلسفات الافلاطونية والارسطية أن يستأنف سؤال الكينونة والفلسفة؟ وكيف له أن يتحرر من هيمنة تلك الأنساق الشمولية والميتافيزيقية؟ وهل ينبغي لنا أن نعود لأعمق وأقدم مدونات ارشيف ذلك الخطاب بوصفها قدَرَنا الميتافيزيقي، الذي شطر وجودنا بين جدل الأنساق النظرية والابستمولوجية المنفصلة عن جدل المعرفة؟ ثم لماذا بقي سؤال المعرفة والوجود في خطابنا الفلسفي بعيدا عن التساؤل والنقد؟وهل تمأسست كتاباتنا ورسائلنا الفلسفية ايضا، بذلك النسيان الانطولوجي للوجود وللإنسان وللمعرفة؟
في الواقع، إن عملية إعادة فتح الأبواب الموصدّة لأرشيفنا الفلسفي، هي في جوهرها، محاولة لإعادة استنطاق "وقائع وحقائق" لازالت راسخة في مُتخَيّل الخطاب الفلسفي العراقي، ذلك الخطاب الذي لم يدرك إلى هذه اللحظة، طبيعة العلاقة الانطولوجية المتداخلة بين نظرية المعرفة والوجود واللغة، رغم أن تلك العلاقة حُبرّت لها آلاف الأوراق والكتب والرسائل والاطاريح الجامعية، إلا أن "إشكالية الذات العارفة/المتماهية في نظام منطقي بديهي صارم" بقيت هي الإشكالية المركزية/والمسيطرة على ذلك النتاج الفلسفي، كما كان الحال عليه في الفكر الغربي، الذي هو الآخر، طالما عانى من تلك المركزية، لدرجة أن: ((المجتمع الغربي وضع قيمة كبيرة للذات العارفة، دون أن يضع ادنى اعتبار للذات الموجودة، ولم يخجل من حقيقة المستوى الضئيل لوجودها، بل ولم يفهم أيضا ماذا يعنيه ذلك الوجود، ولم يدرك أن معرفة الانسان تعتمد على مستوى وجوده))(3).
لذلك، اتسمت اغلب كتاباتنا الفلسفية بالتجريد النظري والتعالي المفاهيمي، مما جعلها بعيدة عن طرح أي إشكالية ثقافية ذات مساس بوجود الانسان في العالم، فماذا يعني أن تزداد تلك الكتابات حجما وكما وتراكما، على حساب نسيان سؤال الوجود!! فأي ((معرفة تُنتَج بمعزل عن الوجود، ستكون معرفة نظرية ومجردة، وغير قابلة للتطبيق العملي في الحياة، وغير نافعة في الواقع، فبدلا من أن تخدم الناس في حياتهم وتمكنهم بطريقة افضل على تحدي الصعوبات التي تعترضهم، نراها تعمل على تعقيد حياتهم وتجلب لهم مشاكل واضطرابات وكوارث جديدة لم يألفوها من قبل))(4).
وهنا يقع بالضبط جوهر الخلاف والانشقاق الاكاديمي، أي الانشقاق الحاصل في تاريخ النص الفلسفي العراقي، الذي ظل يُعيد إشكالية الانفصال التداولي بين كل من: المعرفة ونظرياتها وسؤال الوجود المنسي. الأمر الذي جعل من المعرفة تتشكل بطريقة بيداغوجية تسيرّها مجموعة من الأنساق والأهواء التي تتحرك لصالح جهات محددة، ليتحول بذلك مفهوم الوجود الى مفهوم شخصي وليس إشكالي، طالما كان يخدم قضايا ايديولوجية وليست فلسفية. لذلك نرى أن المعرفة لم تتصل بالوجود، الذي لازال مفهوما ميتافيزيقيا في النص الفلسفي العراقي، ذلك النص الذي بقي هو الآخر، يشتغل ضمن مركزياته وأولوياته ومصالحه التي تأسست على طرفي نقيض مع ما يتلاءم مع هموم وانشغالات الوجود اليومي، ((لان المعرفة الغير منسجمة مع الوجود لا يمكن لها أن تتسع بما يكفي ويتناسب مع احتياجات الانسان الواقعية. لذلك ستكون دوما: معرفة بشيء واحد متوازية مع جهل بالأشياء الأخرى؛ معرفة بجزء دون معرفة بالكل؛ معرفة بالشكل دون معرفة بالمحتوى))(5).

-في جدل إقطاع البلاغة وبلاغة الإقطاع...مقاربات ابستمولوجية وثقافية

مما سبق، يتضح كيف أن الإشكالية الانطولوجية وإشكالية الوجود اليومي في العالم، إلى جانب اشكالات المعرفة ونظرياتها التقليدية، ظلت جميعها محكومة "بأنساق ايديولوجية قديمة". أضف إلى أن الخطاب الفلسفي الراهن لم ينجح في تجاوز تلك الأنساق وتقويضها. الأمر الذي ادى إلى انحسار الفلسفة وتحويلها إلى تقنيات قديمة في كتابة ونشر النص الفلسفي الرسمي، تلك التقنيات التي عملت في بنيتها الكلية على شطر المكتوب الفلسفي إلى شطرين: شطر يؤسِس لخطاب فلسفي نخبوي؛ وشطر يؤسِس لإلغاء "تاريخية ألعامة" من على بسيطة الخطاب الفلسفي. فعوضا من أن يكون ذلك الخطاب "ظاهرة انطولوجية"، نراه قد تحول إلى "ظاهرة وعظية أو إيقونة وعظية" تعتاش على أنقاض "المنطق القديم" وأنظمته الميتافيزيائية والاستبدادية -بحسب العلامة علي ألوردي- فتحولت الفلسفة بذلك، إلى "بلاغة اقطاعية أو إقطاع بلاغي"، تُصنِف البشر وفق منطقها الفلسفي /النخبوي المتعالي.
ومن المدهش ان خطابنا الفلسفي لاسيما التعليمي/المنهجي منه، لا زال يعتمد على تلك "البلاغة ونظامها الابستمولوجي الاقصائي" في تأليف ونشر الكتب المنهجية والمخصصة منها للمرحلة الاعدادية. ففي الكتاب المعنون بـ(مبادئ الفلسفة وعلم النفس) للصف الخامس الأدبي، الذي اشرف على اعداده مجموعة من مختصي الفلسفة، وتضمن على بعض من المقدمات التاريخية والنظرية لنشأة فكرة الفلسفة وتطورها عبر التاريخ، إلى جانب استعراض مناهج ونظريات العلوم النفسية والسيكولوجية والاجتماعية التقليدية...الخ. لفت نظرنا في ذلك المنهج، اعتماده على الطريقة الهرمية/التراتبية في اغلب تصنيفاته الأيديولوجية للمجتمع وللمعرفة وأطرها السوسيو-ثقافية وطبقاتها الاجتماعية. حيث تستند تلك الطريقة على أساس الفصل الابستمولوجي الحاصل بين: المعرفة العامية والمعرفة النخبوية، متخذة من مناهج العلوم التجريبية معيارا في تأسيس مثل تلك التصنيفات. فبحسب ذلك المنهج الدراسي: ((هنالك اساليب مختلفة للتفكير، فالإنسان العامي له اساليبه في التعبير عن معارفه والتي تتضمن (الاساطير والخرافات) وعدم معرفة التجارب العلمية والتحقق منها...وهناك صفات للتفكير لدى الفلاسفة، فأنهم يستخدمون قدراتهم (العقلية) وما افادوه من حقائق العلم. اما اساليب التفكير العلمي فهي تعتمد (المنهج العلمي التجريبي) والطرائق المعروفة للوصول إلى صياغة القوانين العلمية. والخصائص العامة للتفكير العامي هي: ...المعرفة العاميّة: هي المعلومات والتجارب الشخصية التي اكتسبها الانسان دون الاعتماد على التجارب العلمية والدراسية المنهجية.. وهذه المعرفة عبارة عن معارف لا تقوم بينها روابط وعلاقات بل على أساس خرافي، كالربط بين الظواهر الحسية وبين الظواهر الغيبية. ان هذه المعرفة لا ترتقي إلى مستوى التعميم والوصول إلى قانون يفسر الظواهر المحسوسة. ويتصف التفكير العامي بما يأتي:1- المبالغة: صفة من صفات رجل الشارع يعبر بها عن الحوادث بطريقة مبالغ فيها ،قد تكون مختلفة تماما لما حدث فعلا. اذن، فأول ما تتصف به المعرفة العامية هو عدم الدقة التي ينشدها العالم والفيلسوف. 2- التعميم الخاطئ: أن الفرد غير علمي او رجل الشارع اوالعامي يعمم في احكامه نتيجة حادثة أو حادثتين، دون الاعتماد على الحقائق والوقائع. 3- الذاتية المسرفة: أن اراء رجل الشارع تعتمد على الذات أو العاطفة أو بما يرضي مزاجه الشخصي، ولا تعتمد افكاره على الموضوعية في الحكم على الأشياء أو الظواهر. 4-الربط الخاطئ بين الظواهر: مثلا، ينسب الشخص العامي (المرض) إلى الارواح الشريرة، أو يفسر حادثة (موت) شخص بظاهرة نعيق البوم، في حين لا توجد رابطة أو علاقة بين الظاهرتين مطلقا. ان هذا النوع من التفكير ينسب الاحداث إلى (علل أو اسباب)غيبية، لا يمكن التثبت منها بالتجربة الحسية، فكسوف الشمس، وخسوف القمر قد ينسبها مثل هذا التفكير الى (حوت خرافي يبتلعهما) أو غيرها من العلل الوهمية الغيبية. خصائص التفكير العلمي: هناك صفات معينة يتصف بها التفكير العلمي، تجعل البحث ناجحا لانه قائم على أسس صحيحة تعتمد على اكبر جهد ممكن في سبيل جمع اكبر عدد من الظواهر التي يقوم بدراستها. 1-الشك المنهجي: أن الباحث الذي يبحث عن أليقين لابد أن يتخلص من الأفكار الخاطئة التي تفسد بحثه وتعوق من انطلاقه. ومن خلال الشك المنهجي يستطيع أن يتحرر من كثير من الأفكار الخاطئة. 2-الموضوعية: تعني الموضوعية أن يقوم الباحث بالبحث في ظاهرة ما دون تدخل ذاته وعواطفه ومزاجه الشخصي، ويتعامل مع موضوع دراسته كما هو في الواقع، لا كما يتمنى ويرغب. فالعلم يصف الأشياء وتقريرها كما هي. يرى (كلود برنار) اذا اختلف العلماء مثلا على دراسة ظاهرة من الظواهر، فأنهم يحسمون الخلاف بالالتجاء إلى الواقع، ومحك الصواب عندهم هو (التجربة) التي يمكن تكرار اجرائها للتثبت من صحة النتائج بطريقة موضوعية. 3-التكميم: أي تحويل الكيفيات إلى كمية ومقدار، فأذا درس الباحث (الصوت) رده إلى (الذبذبات)، واذا درس الحرارة ردها إلى (الموجات) الحرارية... 4-التعميم: يقصد بهذا المبدأ ان الباحث يقوم بأحصاء غير محدود من الظواهر وتعميمها.... 5-التجربة: أن العالم الذي يدرس ظواهر الطبيعة الواقعية لا يستمد حقائقه الا من التجربة الحسية. 6-التحقق: يعني التأكد من صحة النتائج التي يتم التوصل اليها عن طريق إعادة اختبارها،وذلك بالرجوع إلى التجربة في الواقع.... خصائص التفكير الفلسفي: تختلف الموضوعات التي يدرسها كل من الفلسفة والعلم، فالعلم يدرس الظواهر الحسية ويقوم بدراستها بالمنهج العلمي التجريبي الذي يعتمد المشاهدة والتجربة، اما الموضوعات التي تدرسها الفلسفة فهي مختلفة لأنها تصطنع مناهج أخرى تسمى(مناهج الاستنباط العقلي)، انها لا تدرس الظواهر الجزئية- كما تفعل العلوم ألطبيعية- بل تدرس الوجود بشكل عام-الوجود المادي، والوجود غير المادي. واهم خصائص التفكير الفلسفي هي: أولا- الشك: من الخطوات الاساسية للمعرفة الحقة، والمقصود هنا: من اجل الوصول إلى الحقيقة وعدم التسليم بكل ما يقال إلا بعد التأكد منه. ثانيا-الاستقلال:أن الفيلسوف يستخدم عقله في معرفة الأشياء، ولا يعتمد في تفكيره على اجماع الناس..لأنه قد يجمع الناس على الاعتقاد ببعض الخرافات والأساطير التي لا يقبلها العقل السليم. ثالثا-المرونة: وتعني أن الفيلسوف يكون قادرا ومستعدا للتخلي عن آرائه اذا ثبت عدم صحتها..وهذا يدل على الروح العلمية الصادقة.رابعا-التجرد من العاطفة: يجب عدم ادخال العاطفة في الموضوعات التي يتم البحث فيها –أي ابعاد التأثيرات الانفعالية عن التفكير))(6).
إن بنية النص أعلاه، تطرح علينا إشكالات لامتناهية. فالملاحظ على ذلك المنشور التعليمي، تبنيه لمفاهيم فلسفية ونظريات علمية وأراء كوسمولوجية وسيكولوجية، تنهل جميعها من منهل "بلاغة المنطق الفلسفي القديمة" أو بما يُعرف "بصخرة المنطق القديم"، ذلك المنطق المتمركز على الفلسفات الأفلاطونية والارسطية التقليدية -بحسب رؤية العلامة ألوردي- حيث تتجلى سيطرة "بلاغة الافندية الجُدد" ولسانيات "الميث-أفلاطونية" المستندة على "بلاغة الاتكال الميتافيزيائي"، في لغة وأسلوب عرض الأفكار الفلسفية وتاريخها وفي خطاب تبويبها وتصنيفها لطبيعة انماط المعارف: الفلسفية؛ العلمية؛ العادية؛ النخبوية والعامية...الخ.
فمن الملاحظ على طبيعة ذلك التصنيف انه حدد لكل شكل من اشكال المعارف المذكورة أعلاه، خطابا معرفيا غير متداخل مع بقية الخطابات المعرفية الأخرى. فخطاب التفكير العلمي مثلا، جرى عزله ضمن نمطه العلمي التجريبي، فأصبح من الصعوبة بمكان، أن يتفاعل مع خطاب التفكير الفلسفي، وذلك لان بنيته المعرفية لا تتفق وبنية المعرفة الفلسفية، وهذا ينسحب أيضا على خطاب التفكير الفلسفي، الذي أصبح هو الآخر، غير قادر على الانسجام مع خطاب تفكير العامة، لما تتصف به بنية ذلك الخطاب الفلسفي من نزعات نخبوية ومتعالية على الوجود التجريبي/الحسي للحياة اليومية للعامة.
هكذا نرى كيف كرست "بلاغة الإقطاع وإقطاع البلاغة"، لواقع فلسفي افلاطوني يؤسس "لخطاب العزلة وسياسة النبذ والإقصاء"،فبحسب منطق تلك البلاغة، تم تصنيف "انطولوجيا الوجود اليومي" وفق تراتبيات وهرميات أيديولوجية، عملت على اقصاء كل ما هو فلسفي اصيل في تلك الانطولوجيا، واختزالها بمصطلحات غير علمية أو فلسفية أو حتى قيّمية، فتارة دعتها "بالعامية"، وتارة أخرى "بالعامة"، وأخرى "برجل الشارع"، ذلك الرجل المتصف بكونه انسان "ما قبل المرحلة المنطقية" و "ما قبل الفلسفة" و "ما قبل العلم" و "ما قبل التفكير التجريبي"، بل انه مستثنى حتى من قانون الفطرة الكوني الذي تحدث عنه ذلك المنهج الدراسي. فعلى ما يبدو، أن "رجل الشارع" هو كائن منبوذ من لائحة العلم والفلسفة، لم يُعاد التفكير به أو اكتشافه من جديد، فهو بكل بساطة، انسان لا "يخضع للتقييس التجريبي والضبط المنطقي/العلموي الصارم"، وغير مشمول بنعمة وبركة "الاستنباط وسلطوية العقل والعقلانية القديمة"، التي لطالما تباهت بها بلاغة الفلسفة البرهانية المفرطة في ولائها لكل ماهو ايديو-ميتافيزيقي. الأمر الذي جعل من تاريخ الفلسفة، تاريخا يتأسس دوما على حساب العاميّ أو رجل الشارع، ذلك "الثالث المقموع من العلم والفلسفة والتاريخ".
واللافت أن خطاب الإقصاء والإخصاء "لكينونة العامة وإنكار وجودها في العالم اليومي" ضمن ذلك المقرر الدراسي، جاء متزامنا مع اقصاء مشابه لإشكالات المناهج التاريخية والدراسات التاريخية الجديدة. بمعنى آخر، أن ذلك المنشور المنهجي لم يخصص حيزا لبحث ما يُعرف تقليديا في أقسام الفلسفة بـ(فلسفة التاريخ). حيث بدا ذلك المنشور مجردا عن أي رؤية تاريخية أو نقدية لتاريخ الفلسفة من جهة، ولتاريخ علاقتها مع الوجود اليومي والأيديولوجي والسياسي...الخ، من جهة أخرى. الأمر الذي يثير أكثر من تساؤل عن السبب في حصول ذلك التزامن والإهمال؟ فهل كان غياب مناهج الدراسات التاريخية الجديدة والحوليات/والهستروغرافيا التاريخية المعاصرة، متلازم بالضرورة مع غياب الوجود اليومي أو وجود الإنسان العادي؟ وإذا لم يتبنَ ذلك المنشور خطاب "التاريخية الجديدة ومناهجها الابستمولوجية والثقافية"، التي تخرج عن مجمل فلسفات التاريخ الرسمية والأيديولوجية، فهل هذا يعني أن المنشور الفلسفي قد تبنى مسبقا، تلك الفلسفات؟
ان غياب فرضيات ونظريات الدراسات التاريخية الجديدة والحوليات التاريخية في المنشور الفلسفي أعلاه، يشير بطريقة ما أو بأخرى، لتاريخ من "التشكيلات الأيديولوجية/الشمولية" التي تطبعّت بها عمليات تشكيل النص الفلسفي الرسمي والنخبوي، والتي اختزلت دور الفلسفة إلى مجرد "وظيفة" في دوائر الدولة الرسمية، تعمل على تسيير ممارسات تقديس لغة "التاريخ الشمولي". فمن خلال اعلاء خطاب المكتوب الذي يمثل "بلاغة الدولة وهويتها" على حساب "الخطاب الشفاهي العامي"، تحددت أهم ملامح مهمة الفلسفة في إعادة نشر ذلك المكتوب، لتثبيت منطق الهيمنة الشعورية واللاشعورية على جسد لغة اليومي وتاريخه المقهور، والذي لا يمكن له أن يتحقق دون تبخيس للغة الطبيعية/اليومية ووصمها بالالتباس والغموض، ومن ثم، باللاموضوعية؛ واللاعقلانية واللاعلمية...الخ.
فهل من الممكن أن نعتبر ذلك المنشور الفلسفي " جزء من كل"، أي انه حلقة ضمن سلسلة بسيطة من سلاسل الفكر الفلسفي الرسمي والأيديولوجي، الذي لطالما احكم بقبضته الفلسفية وأنظمته المنطقية والبلاغية/ماقبل الحجاج والتداول على شكل ومضمون العملية الفلسفية المتكونة عبر التاريخ؟ حيث نلاحظ أن طرق كتابة ونشر النص الفلسفي العراقي، لم تنجح في تحقيق أي قطيعة ابستمولوجية مع كل من: المنطق القديم الذي ظل مهيمنا على تاريخ تلك الفلسفة من جهة ،ومع فلسفات التاريخ "التعبوية والشمولية الرسمية" التي جرى كتابة النص الفلسفي تحت كنفها من جهة أخرى.
من هنا نرى كيف أن ظاهرة التمييز بين اشكال التواريخ في الخطاب الفلسفي الراهن لم يُولَ لها أي عناية وأهمية، ربما لان خطابنا الفلسفي لا زال خطاب "نخب وموظفين" يَنظرون إلى العالم من فوهة ابواب اقلامهم ومكتوبهم الفلسفي المقدس ونثرهم اليومي في قاعات دروس الفلسفة. هذا ما جعل التاريخ يسير بخط واحد واتجاه واحد غائي لا يحيد عنه قيد أنملة، فكما توجد ايديولوجيا واحدة فلابد من وجود تاريخ واحد لبطل واحد وحزب واحد، وبما ان الواحد لا يصدر عنه إلا واحد، فكيف يمكن أن يكون هناك ثمة تاريخ للاختلاف/والمغايرة وللتعددية في بنية ولغة انطولوجيا الحياة اليومية للعامة؟ وهل تبقى ثمة حكمة للتاريخ اذا ما ظهر العامة على سطح التاريخ؟
والمدهش والغرائبي في كتاب (مبادئ الفلسفة وعلم النفس)، انه لا زال يتبنى طروحات انتروبولوجية استعمارية وكولونيالية في تصنيف المجتمعات الإنسانية، كمصطلح "الانسان البدائي" مثلا، على الرغم من أن تاريخ علم الإناسة والانتروبولوجيا، أعاد النظر بذلك المصطلح وبمنطقه وبثقافته منذ الخمسينيات. فعلى حد تعبير الاستاذ علي حرب، في دراسته الانتروبولوجية الموسومة (نحو اعادة قراءة لإشكالية التوحش/التمدن)، ان تلك التصنيفات((..اخذت تتزعزع منذ زمن على يد بعض الانتروبولوجيين، وبالأخص منذ كلود-ليفي ستراوس. فقد وجه هذا الاخير منذ الخمسينات من هذا القرن، نقدا صارما لفكرة التقدم وللمفهوم الغربي للتاريخ. وقد تواصل هذا الاتجاه النقدي، من بعده، على نحو أكثر جذرية واتساعا، خاصة عند بيار كلاستر الذي رأى أن النظرة التطورية إلى التاريخ لا تطلعنا على حقيقة المجتمعات البدائية، وذلك بقدر ما تعكس نظرة الغرب إلى ذاته، أي بقدر ما تنطلق في حكمها على العالم البدائي من المصطلحات والمعايير التي تستخدمها المجتمعات الاوربية....لقد سعى كلاستر الى "الالتقاء" بالآخر المتمثل بالبدائي، فقاده ذلك إلى أن يطرح مشكلة التاريخ بتعابير جديدة وان يعقل السيرورة الإنسانية من منظور جديد. مما يعني...إعادة الاعتبار للحضارات غير الاوروبية بغية إعادة تقويمها واكتشافها. وبهذا فأن الاتجاهات الجديدة في الانتروبولوجيا تفتح افاقا جديدة لمعرفة الاخر والذات معا))(7).
فإذا كانت الانتروبولوجيا الغربية، قد أعادت النظر بمفاهيمها العرقية والمركزية التي تكرس لواقع الهيمنة على الآخر البدائي الخارج عن الكتابة وطقوسها المُعقْلنة، فلماذا يلجأ خطابنا الفلسفي إلى إعادة تبني مثل تلك الاراء العرقية؟ ألم يقرأ خطابنا الفلسفي منذ الخمسينيات تهافت وسقوط مثل تلك النظريات تحت مطارق النقد الابستمولوجي والانتروبولوجي الذي أفسح المجال لإعادة اكتشاف "آخريتنا" المنسية والمجهولة في جينالوجيا الانسان البدائي؟ ألم يفكر خطابنا الفلسفي الراهن في وجود الآخر المغاير؟ ولماذا يحكم خطابنا الفلسفي على ذلك الآخر بالنفي لمجرد كونه انه آخر لا يفكر على طريقة الفلاسفة والعلماء؟ وأي منطق تعليمي هذا الذي يبيح لنفسه مهمة تقسيم الثقافات الإنسانية إلى: عليا/سفلى؛ عالمة/جاهلة؛ متمدنة/متوحشة؛ متحضرة/بدائية؟ وهل كانت تلك التقسيمات محض صدفة، وبعيدة عن تأملات النسق الشمولي الرسمي؟ فلماذا هناك ثمة وجود لتاريخ رسمي مكتوب وليس لتاريخ عامي شفاهي منطوق؟ وإذا كان ذلك "المصنف الدراسي والمدرسي" قد استثنى من خطابه الفلسفي "رجل الشارع" و"العامة" و"انطولوجيا الوجود اليومي"، فإلى من يوجه خطابه؟ فهل كان ذلك المصنف يحاكي ذاته المتورِمة/والمتضخِمة وموروثه الفلسفي اليوناني/الغربي فحسب؟
في واقع الأمر ان ذلك المنهج الدراسي "المصنِف"، يطرح علينا مجموعة من الاشكالات الفلسفية والنظرية والابستمولوجية والتاريخية. فلا يمكن النظر اليه على انه منشور تعليمي منهجي فقط، بل لابد من أن نتعامل معه، بوصفه "نصا يختصر تاريخ التناص التعليمي والمنهجي المتبع في اقسامنا الفلسفية"، والذي من خلاله تم تشكيل ووضع مناهج ودروس وجداول وبرامج التعليم الفلسفي المُعتمدة في تدريس مقررات المواد الفلسفية لطلبة اقسام الدراسات الفلسفية في جامعاتنا. فالمتتبع لطبيعة اسلوب كتابة "المصنف أعلاه"، سيجد انه يكاد لا يختلف عن اساليب تلقين المواد الفلسفية وتاريخها في مؤسساتنا الأكاديمية. فمنذ كنا طلابا في قسم الفلسفة، كانت الرؤى الفلسفية في محاضراتنا لا تكاد تختلف في شيء عن تصنيفات المنهج الدراسي المذكور، لاسيما فيما يتعلق "بخصائص الفكر الفلسفي" المتسمة بالعقلانية والموضوعية والاستقلالية عن العامة ووجودهم اليومي. فمثل تلك النظرة هي ليست وليدة اليوم -كما ذكرنا سابقا- بل لها تاريخ طويل من "التناص الايديولوجي واللاتاريخي"، خاصة فيما يتعلق بترشيح مصنفات فلسفية معينة دون أخرى، أصبحت من قدماء الفلسفة المتربعين على تاريخ تدويل وتدريس الفلسفة. فعلى سبيل المثال، اعتمد قسم الفلسفة على المؤلفات التالية: (تاريخ الفلسفة اليونانية) و (تاريخ الفلسفة الوسيطة) و(تاريخ الفلسفة الحديثة) - وهي مؤلفات تعود للفيلسوف الأرسطي الكبير الأستاذ الراحل يوسف كرم- وجرى تداولها كمناهج تدريسية رسمية غير قابلة للتحاور والحجاج في الدرس الفلسفي، لان "سياسة التلقين والتلخيص من قبل اساتذة الفلسفة لما هو مُقرَر"، كانت أشبه بالمنهج التدريسي المعتمد، الذي لا يحتاج إلى كبير عناء لفهم الفلسفة وتاريخها، فما عليك إلا ان "تحفظ تلك المواد عن ظهر قلب حتى يحين موعد إيداعها في موعد الامتحان المحدد"، لتكتشف فجأة، انك أصبحت فيلسوفا على الطريقة التلقينيةّ!
لكن من اغرب المفارقات الفلسفية الكبرى التي وقعنا فيها آنذاك، إننا لم نكن نتعرف على الأطر الابستمولوجية لتلك الفلسفات ومناهجها النقدية والثقافية، بقدر ما كنا نتتلمذ على الإيمان بالمذهب الارسطي العقلاني الخاص بالأستاذ كرم، أي أن الذي تعلمناه آنذاك هو "الرؤية الارسطية الكرمية –نسبة إلى الأستاذ يوسف كرم- المُعممة كمنهج فلسفي وانطولوجي وتعليمي، التي لطالما نذر لها روحه من اجل ارساء قواعدها وأطرها المنهجية والعقائدية والدينية معا". بعبارة أخرى، إننا ومن حيث لا نعلم اصبحنا نُقدِس العقلانية الارسطية؛ والعقلانية الغربية؛ والعقلانية التومائية - نسبة إلى توما الاكويني وهي نزعة تقابل نزعة التمركز على فلسفة ابن رشد- فلم نعد نفهم الفلسفة إلا من خلال ذلك "البرادايم الكرمي الشمولي"، فأصبح شعار الفلسفة آنذاك :ما أمركم به يوسف كرم خذوه وما نهاكم عنه اجتنبوه. لقد كاد ان يكون هذا حديث قدسي لولا انه حديث موضوع!
حاول الأستاذ كرم جاهدا تطبيق النزعة الارسطية في خطاب الفلسفة العربية الإسلامية، على اعتبار ان الفلسفة الارسطية هي الطريق الامثل للوصول إلى اعلى مراحل العقلنة والعقلانية وميتافيزيقا الحياة الروحية والدينية. واللافت في الموضوع أنه لم يفصل رؤيته الفلسفية ومنهجه المعرفي والارسطي المعتمدة في مؤلفاته الأساسية: (العقل والوجود) و(الطبيعة وما بعد الطبيعة)، عن كتبه التعليمية والمخصصة عن تاريخ الفلسفة الاوروبية المذكورة أعلاه. حيث نراه لا يتوانَ في نقد المناهج الغربية وفلسفاتها التجريبية والمادية، مؤسسا بذلك لمجمل رؤيته الارسطية والميتافيزيائية، وهذا ما اشار اليه الاستاذ ناصيف نصار، حينما رأى أن الاستاذ كرم طرح في مؤلفيه الرئيسيين لفلسفته الارسطية (( ... مشكل المعرفة العقلانية منتقدا التجريبية والمثالية معا، ومنتهيا الى فكرة هي أن العقل يمكن أن يعرف الواقع الخارجي في ذاته. مستعملا بالضبط منهج التجريد....لقد تصور يوسف كرم فلسفته كأنها عودة إلى الفلسفة التقليدية الصادرة عن ارسطو تلك التي طورها فلاسفة العصر الوسيط من امثال ابن سينا وابن رشد وتوما الاكويني. واعتقد ان هذه الفلسفة المنتقدة والمهملة من لدن معظم الفلاسفة المعاصرين هي وحدها الفلسفة الحقيقية. يقصد انها الفلسفة التي تستجيب إلى متطلبات العقل و متطلبات الايمان. ولذلك خصص كل جهده الفلسفي لنقد المعاصرين ولإحياء الفلسفة الارسطية التومائية، معتقدا انه يخدم قضية الحياة الإنسانية، التي لا يمكن أن تتجاوز في نظره اليقين العقلي والإيمان الديني))(8).
من كل ما سبق، حاولنا أن نسلط الضوء على مسألة تداخل البرادايم الفلسفي لمشروع كرم بطريقة شعورية أو لاشعورية في بنية المنشور الفلسفي العراقي الراهن، خاصة كما تجلى لنا ذلك سابقا في كتاب (مبادئ الفلسفة وعلم النفس)، حيث رأينا كيف أن ذلك المصنف حاول أن يقفز على الواقع التاريخي الراهن، بعقلانية مجردة ومتعالية ومنزهة حتى عن ملامسة اجساد العامة بوصفهم عالم ما تحت فلك القمر، أو قل أن شئت "عالم الكون والفساد". وهنا يمكن أن نلحظ بعض من "آثار المد الكرمي-الأرسطي"، فالأستاذ كرم تجاوز، هو الآخر، انطولوجيا الوجود اليومي في العالم، فما كان مسيطرا على مخيلته الفلسفية هو "النموذج الانطولوجي الأرسطي الشمولي والمتكامل والمفارِق لكل ما هو فاسد ومحسوس". لذلك رأينا كيف أن خصائص الفكر الفلسفي والعلمي والعامي الانفة الذكر في المنهج الدراسي المذكور أعلاه، كانت تمثل خصائص الميتافيزيقا الارسطية التي جاء بها "البرادايم الكرمي"، وهي نفسها الخصائص التي استحوذت وسيطرت على مفاهيم خطابنا الفلسفي السابق واللاحق، بل وهيمنت على يوميات الدرس الفلسفي ومناهجه التعليمية. فلا اتذكر اننا خلال مراحل دراستنا في قسم الفلسفة، قد بحثنا في اشكالات الوجود اليومي وعلاقته بنظريات المعرفة؛ ومباحث الوجود والانطولوجيا؛ أو علاقة ذلك الوجود باللغة اليومية، التي لطالما أُهملِت هي الأخرى من البحث والنقد والتدريس، بل لا اتذكر اننا قد قمنا بإجراء مسح ابستمولوجي ونقدي لفلسفة الراحل يوسف كرم ومساءلة ارائه الميتافيزيائية التي اصبحت قدرنا المحتوم.
فعلينا أن لا نصاب بالدهشة من جينالوجيا الآراء الفلسفية الميتافيزيائية، التي تضمنها ذلك المنهج الدراسي، الذي حاول أن يُعيد إلى الأذهان ما هو مكرر ومتفق عليه مسبقا. وعلينا أن لا نتعجب من استمرار مسلسل الاهمال والنسيان "لانطولوجيا الوجود اليومي وبراكسيس الفلسفة التاريخي"، فهي انطولوجيا اعتادت أن تُوضع في سهلة مهملات "الأستذة وأفندية الفلسفة الُجدد"، الذين يبذلون قصارى جهدهم اليوم من اجل يتطابقوا بطريقة ارثوذكسية مع "خطاب الفلسفة اللاتاريخي"، الذي لطالما تغنى بالعقلنة والعقلانية والعقل المطلق والشمولية، التي لا تعبر في النهاية إلا ((....عن نزعة ، أو عن أيديولوجيا ما))(9). وهنا لابد لنا من أن نميز بين "التاريخانية الأيديولوجية" و"التاريخانية النقدية"، فالأولى تعني ((...الخاصية المطلقية للخطاب التاريخي، اذ يتجاوز كل المحددات التاريخية المرحلية والموضوعية، وبالتالي فهو تاريخ يتجاوز التاريخ، يتعالى ثابتا، ابديا كونيا ومطلقا. ان حلمه أن يحقق وحدة التاريخ والوعي المطلق، هذا التحقيق خارج الممارسة، ولذلك نعتبره ايديولوجيا.هذا الوعي الكلي أو التصور الكلي أو هذه الشمولية المتعالية تستمد قدسيتها من الماضي، اقول من الماضي وليس من التاريخ.هذا الماضي الذي نحياه في كل لحظة، ففي كل لحظة نحيا الماضي ونحييه، هل هذا الفعل مجرد اعادة وتكرار ام اختلاف؟.... أن الخطاب التاريخاني هو خطاب وعي في علاقته مع ذات تاريخية هذا الوعي يعي ذاته باعتباره وعيا، كليا، كونيا ومطلقا. وتتحدد علاقته بالذات التاريخية من حيث هي ذات تتجاوز محدداتها الموضوعية. فمسألة معرفة وتحديد دور هذه الذات وطبيعتها مسألة جوهرية: ذات تاريخية مجردة ومطلقة ام ذات تاريخية ملموسة وجماعية؟ ذات تاريخية تعتبر ذاتها مجرد وعي فقط ام تحقيق تاريخي: فالجواب عن هذا السؤال هو الذي يفصل بين التاريخية–النقدية والتاريخانية الأيديولوجية: الأولى تجاوز جدلي ..ونقدي في النظرية والممارسة....والثانية اعلاء لشمولية ثابتة وازلية عبر ذات مطلقة ومجردة خارج الممارسة. هذا ما يفصل كذلك بين الرؤية الميتافيزيقية للوعي والذات والرؤية الجدلية لهما؛ بين الوعي الكلي والمطلق والوعي الملموس؛ بين الذات كنتاج لمسلسل من التناقضات التاريخية وبين الذات الخارقة المتعالية))(10).
وقد اتضح لنا مما سبق ذكره، أن خطاب التاريخانية الأيديولوجية هو الذي شكل مضمون العملية الفلسفية وتكوينها التاريخي في خطابنا الفلسفي السابق واللاحق. وقد انعكس ذلك سلبا على طبيعة التمييز بين ما هو فلسفي وبين ما هو سياسي أو بين ما هو عملي وما هو يوتوبي، لاسيما عند بعض من اساتذة الفلسفة الذين كانت لهم طروحات نظرية وفلسفية، كان يعوزها الدقة الابستمولوجية والتاريخية، والتي هي عنصر ضروري ينبغي أن تتوفر عليه مثل تلك التنظيرات لتتجاوز أفق التاريخانية الأيديولوجية وتتحول إلى تاريخانية نقدية. وقد كان لأستاذ تاريخ الفلسفة اليونانية الدكتور حازم طالب مشتاق تمييزا ابستمولوجيا بين كل من: "المفكر الفلسفي" و"القائد السياسي"، حيث:((...يحصر الأول اهتمامه بالغايات، ويحدد المبادئ، ويرسم الصورة الكاملة للمثل الأعلى، ويتعامل مع الحقائق المطلقة والنظريات المجردة. وينشد مجتمعا كاملا لا يمكن أن يصلح إلا للملائكة. ويتطلع الثاني إلى الوسائل والأساليب التي تحقق تلك الغايات والمبادئ، ويترجمها إلى مؤسسات وأعمال، ويتعامل مع حقائق التاريخ، وظروف الواقع، وطبائع الانسان. وينشد مجتمعا فاضلا يمكن أن يصلح للبشر. عظمة الفيلسوف تقوم على العلم، وتتجلى في التفكير اذا كان صحيحا. وتقوم عظمة القائد على العمل، وتتجلى في التطبيق اذا كان ناجحا))(11).
يضعنا النص السابق في قلب الاشكاليات الفلسفية والابستمولوجية التي تتطلب منا وقفة نقدية وتحليلية، خاصة في تمييزه بين المفكر السياسي والمفكر الفلسفي. فالملاحظ على ذلك التمييز انه يكاد أن يكون تمييزا ميتافيزيقيا عاما افتقر إلى التحديد الاصطلاحي والتاريخي. فمثلا تعامل الاستاذ مشتاق مع مصطلح الفيلسوف بوصفه كائنا طوباويا غير قادر إلا على إنتاج الأفكار الطوباوية المجردة والمتعالية. فهل ينسحب هذا التمييز على كل الفلاسفة ومدارسها وتاريخها؟ وماذا عن الفلسفات المادية والتاريخية، هل يظهر فيها الفيلسوف كما تصوره الاستاذ مشتاق، أي لا شغل يشغله سوى الأفكار المجردة التي لا تصلح إلا للملائكة؟ ألم تكن خصائص المفكر الفلسفي التي جاء على ذكرها الأستاذ مشتاق تنطبق أكثر على البرادايم الطوباوي/الأفلاطوني حصرا وليس عاما، ذلك البرادايم الذي شكل سياقا فلسفيا سائدا آنذاك، أي في مرحلة بدايات تشكيل العملية الفلسفية العراقية؟ ثم ألا يبدو وصف الأستاذ مشتاق، لقدرة المفكر السياسي على تحويل ما هو مجرد إلى ما هو تاريخي وعملي، اقرب إلى الوصف الأفلاطوني المجرد منه إلى الوصف التاريخي الملموس؟ وهل اثبت التاريخ تحول الشعارات والأيديولوجيات إلى ممارسات تاريخية واقعية؟!!!
والغريب أن الاستاذ مشتاق تعامل مع خطاب الفلسفة والفيلسوف بطريقة تبدو اقرب إلى "الوعظ الفلسفي المثالي" منه إلى "النقد الابستمولوجي". لذلك ظهر نصه خال من أي ممارسة ابستمولوجية أو قطيعة ابستمولوجية تُعيد قراءة تاريخ ما نُسي التفكير به في ذلك الخطاب، ومُؤسس لرؤية "تقليدية للتاريخانية الأيديولوجية" التي اعتادت أن تنظر الى التاريخ بطريقة خطية وغائية تتألف من :ماض وحاضر ومستقبل، فيكون بذلك قد قطع الامل لولادة ما يُعرف بتاريخ "القطائع والتبعثر والتشظي" في خطاب الدراسات التاريخية والحوليات التاريخية، ليبقى التاريخ نسقا منتظما، غير مشتت أو مبعثر، محكوما بإرادة "المفكر السياسي" الذي لا تعنيه تواريخ العامة واليومي، فما كان يعنيه هو "التاريخ الرسمي" للدولة المسيطِرة، وهذا التاريخ هو الذي تعلمناه في دروس ومناهج التعليم الفلسفي، وكأن التاريخ في خطابنا الفلسفي تاريخا راكداً وثابتاً ، لأنه تاريخ "منطق السلطة وسلطة المنطق"، فهو تاريخ: (( لا يخبط خبط عشواء، ولا يتألف من وقائع متقطعة...وأحداث مستقلة منفصلة، تتحقق عفوا أو عبثا أو اعتباطا، تحققا مشوشا جنونيا، تتحكم فيها وتسيطر عليها، دوافع غامضة أو اسباب خفية أو قوى مجهولة، هي الحظوظ والصدف والأقدار. بل يمثل وحدة عضوية وحركة دائبة وصيرورة دائمة، ويتألف من سلسلة من الحلقات المتصلة والمراحل المتعاقبة والظاهرات المتكررة، المتشابهة في خصائصها المشتركة وخطوطها العريضة على الأقل، تقود مقدماتها إلى نتائجها، وتؤدي عللها إلى معلولاتها، وتسودها قوانين عامة، تخضع لها التجارب، وتقاس بها الحقائق. وهكذا يكون الحاضر ابنا للماضي وابنا للمستقبل، في وقت واحد وعلى حد سواء. ومن هنا، يكون العلم بالتاريخ شرطا ضروريا لازما للسياسة علما وعملا. ولا يستطيع المفكر أو القائد أن يفهم ظروف الواقع السياسي أو اتجاهات الصراع الفكري أو حقائق التطور القومي، إلا اذا فهم التاريخ، اولا وقبل كل شيء، فهما شموليا...صحيحا، يستخلص النتائج، ويستخرج الدروس))(12).
هكذا يتحول التاريخ إلى "فعل دوغمائي" -عوضا عن أن يكون "فعلا لغويا و بلاغيا"- يصدر فقط من خلال خطاب "المفكر السياسي"، الذي يُصادِر "تاريخ الفاعل الفلسفي والفعل المتفلسف". وهذا ما لاحظناه من خلال التمييز المذكور آنفا للأستاذ مشتاق، فحسب تلك الثنائية صُنِف التاريخ إلى: تاريخ للأذهان وتاريخ للأعيان،وهذا التاريخ الأخير يمثله السياسيون بوصفهم الفاعلين الحقيقيين واللاعبين الأبديين في مسرح التاريخ. تلك الثنائية حكمت بقبضتها على الفلسفة والفلاسفة – دون أي دليل فلسفي أو تحليلي- بالتوقف عن صناعة التاريخ وإعادة كتابته من جديد، وكأن فلاسفة امثال: ماركس ونيتشه وفرويد وريكور وغرامشي وغيرهم، لم يؤسسوا جميعا لجينالوجيا التاريخ ولمساءلة القيّم الثقافية واللغوية والميتافيزيقية التي شكلت تاريخ الانطولوجيا الإنسانية؟ لان تاريخ الفلسفة -بحسب رأي الأستاذ مشتاق- قد توقف عند الفلسفة الافلاطونية التي شطرت الوجود الى نصف يتأمل ونصف يتماهى في المثل المتعالية ونصف يفكر في الالتحاق بالخدمة الإلزامية المُجندة في جبهات الميتافيزيقا المجردة!
لكن ربما قد حمل تصنيف الكاتب على شيء من الصحة التاريخية، سيما وان الفلسفة في خطابنا الأكاديمي قد توقفت عند اللحظة التأملية الأفلاطونية والمنطقية الارسطية منذ أيامه في الستينيات والى يومنا هذا. فلا زالت كتاباتنا تُبدِع في إجراء عمليات التجميل المابعد-حداثوية لملامح وجه الأفلاطونية المتحولة إلى كومة من "تجاعيد فلسفية" شكلت خطابنا ومناهجنا التعليمية. وإلا كيف يمكننا أن نقرأ خطاب التصنيف الاجتماعي والإنساني والطبقي لمنهج تعليمي مثل كتاب (مبادئ الفلسفة وعلم النفس)؟
فمن اغرب ما وقفنا عليه في هذا المؤَلف التعليمي، هو "التمييز الفلسفي الجديد والمبتكر" لأنواع الفلسفة، وهو تمييز يوضح لنا مدى تغلغل بلاغة المؤسسة الايديولوجية القديمة، التي اعتادت على التصنيفات الافلاطونية والنخبوية كما مر بنا أعلاه. فإذا كنا قد اطلعنا مع الاستاذ مشتاق على ثنائية "المفكر الفلسفي" و"المفكر السياسي"، فأننا مع هذا المنهج الدراسي، سنشهد ثنائية جديدة لا تقل غرابة عن سابقتها وهي تتعلق "بأنواع الفلسفة"، حيث يقسمها :(( الى (فلسفة ساذجة) وهي التي نجدها في اقوال الناس العاديين عندما يتذمرون ويقلقون من موقف معين من الحياة ،فيعبرون عن ذلك بالكلام عن القدر والمصير...الخ، وهذه فلسفة بسيطة لا تعبر عن وعي قائلها ولا تدل على عمق افكاره. وهناك (فلسفة محترفة) وهي فلسفة تعتمد المنهج في دراستها، وتشمل جوانب متعددة في عرضها، في نظرتها للحياة والمجتمع عموما.. فهي تتصف بالوعي العميق في التفكير والشمولية في الرأي، لذلك فهي فلسفة تعبر عن فكر انساني ناضج. ويوجد عنصر مهم جدا يفرق بين الفلسفة الساذجة والفلسفة المحترفة، إلا هو استخدام المصطلحات في الفلسفة المحترفة، وهي (الأدوات) التي يمكن بواسطتها فهم الفلسفة، لان هناك كثيرا من الأفكار يصعب ادراكها بدون المصطلحات أو المفاهيم التوضيحية، لأنها أفكار عقلية صرفة -في كثير من الأحيان- يتطلب ادراكها استخدام مفاهيم أو مصطلحات معينة متفق عليها من قبل الفلاسفة أو المفكرين في جميع ميادين الفلسفة:الاخلاقية، والسياسية، والجمالية، والمنطقية، ومابعد الطبيعة.))(13).

يبدو أن المنهج التعليمي أعلاه، لم يكتفِ بتصنيف الناس والمجتمعات الإنسانية إلى مجتمع منطقي ومجتمع ما قبل المنطقي (على الرغم من أن ذلك التصنيف يعود الى كلاسيكيات الاناسة والانثروبولوجيا الفرنسية خاصة لعالم الاناسة الفرنسي ليفي بريل في كتابه العقلية البدائية، الذي تعرض إلى موجات خطيرة من النقد من قبل الفلاسفة والانتروبولوجيين، وذلك لاحتواء مصنفه على اراء تحط من قيمة العقل البدائي وترفع من شان العقل الغربي الذي هو المنطقي بحسب وجهة نظر الكاتب)، أو الى انسان متفلسف وإنسان الشارع...الخ. فها هو يطرح علينا تمييزا آخر بين الفلسفة الاحترافية والفلسفة الساذجة. فهل يمكن تخيل مثل ذلك التصنيف اللاانساني واللافلسفي؟ أمكتوب على جبين العامة أن تُحرَم من ابسط حقوقها، أي من حقها في التعبير عن وجودها العرضي والعبثي والافتراضي في هذا العالم الزائف؟ هل لأنها لا تتوفر على لغة مفاهيمية عالية الدقة والصرامة المنطقية، فلا يُسمح لها أن تُعبِر عن تراجيديا وجودها المُصادَر مسبقا؟ وهل نجحت لغة فلاسفة الاحتراف أو فلسفة المحترفين في وصف "تاريخ السَحق والبطش والقتل العشوائي" الذي أصبح من الاقانيم الميتافيزيقية التي تُمأسس تاريخية العامة؟ ألم تكن نشأة الفلسفة الأولى، نشأة مكتوبة بنثر ميتافوري بعيد عن التمأسس المفاهيمي والتمركز الميتافيزيقي؟ وكيف قرأ كتاب (مبادئ الفلسفة وعلم النفس) المقولة الفلسفية التالية: "أن سقراط انزل الفلسفة من السماء إلى الارض"؟ فهل كانت الارض حكرا على الممنهجين والمتماهين بترسانة اصطلاحية وعلموية مجردة، على اعتبار ان هؤلاء هم من خصهم زيوس واتباعه بنعمة التفلسف الاحترافي؟ وماذا عن مفهوم الحقيقة؟ كيف تشكل في ذلك المصنف؟ وهل ظل هو الآخر، حكرا على رواد الاحتراف الفلسفي المجرد والمتعالي؟ ولماذا ذكر المصنف الفلسفي عبارة ارسطو التي تفضل حب الحقيقة على صداقة أفلاطون، دون تحديد نوع وماهية الحقيقة التي دعى اليها ارسطو، فهل كانت حقيقة ملموسة وتاريخية ام كانت مجردة ومتعالية؟ ولماذا بقي مفهوم الحقيقة في الفلسفة السفسطائية غائبا ومسكوتا عنه كسابق عهده في خطابنا الفلسفي؟ هل لأنه يقف بالضد من مفهوم الحقيقة الأفلاطوني والارسطي الداعم للايدولوجيا الرسمية؟ أم لان خطاب الفلسفة السفسطائية، خطابا يتعارض ابستمولوجيا وانطولوجيا مع الفلسفة الافلاطونية والارسطية؟
ولماذا غاب تناول مبحث "الإنسان بوصفه مقياس كل شيء" في الخطاب السفسطائي عن ذلك المصنف؟ ولماذا لم يتم التوقف عند هذه العبارة المفصلية في تاريخ الفلسفة، التي انعرجت بالفكر الفلسفي من مرحلة التفكير التأملي إلى مرحلة التفكير التداولي المتأسس على "شرعية الوجود اليومي للعامة في انطولوجيا الخطاب والتداول البلاغي/ألحجاجي الجديد"، والذي يقف بالضد من "البلاغة الاستدلالية الأرسطية والأفلاطونية المصادِرة لبلاغة المخاطَب/المتلقي اليومي" –حسب تعبير الأستاذ الدكتور عماد عبد اللطيف–؟ فلماذا تغافل مصنفنا الفلسفي عن مفهوم القطيعة الابستمولوجية للخطاب الفلسفي السفسطائي/الجيل الثاني منه، ذلك الخطاب الذي تحولت الفلسفة بموجبه إلى ممارسة لغوية وبلاغية في عالم اللغة والخطابات اليومية؟ ولماذا سكت مصنفنا عن محاولات تهميش وإقصاء الخطاب السفسطائي -التي قام بها كل من أفلاطون وارسطو للحفاظ على بيروقراطية لوغوس الفلسفة المُسيطِر في أثينا- الذي أعاد الاعتبار إلى بلاغة "العامة" من خلال جعل بلاغتهم "مقياسا لكل شيء" في فلسفتهم؟
ما نريد ان نخلُص اليه في تلك العجالة الفلسفية، هو ان تاريخ الفلسفة عندنا تاريخ ما قبل كل من : فلسفة الخطاب؛ والتحليل الثقافي والنقد البلاغي، أي انه تاريخ لم يتشكل إلا على انقاض "المنطق القديم"، ذلك المنطق الذي لم تتعرض قداسته الفلسفية للنقد والتقويض من قبل كثير من رواد الفلسفة العراقية. ولا زال خطابنا الفلسفي حتى الوقت الراهن يعتاش على مخلفات بلاغة ومنطق أساتذة الفلسفة الاستدلالي/النظري/البرهاني بالضرورة، أو على قدماء الفلسفة، الذين لم يُحدثوا اي قطيعة ابستمولوجية على جميع الأصعدة، بدء من المنطق، الذي ظل منطقا وضعيا/رياضيا/برهانيا/صنعيا، لم يضع المتكلم أو ما يُعرف بـ"بلاغة المُخاطب" في حسبانه واعتباراته، بل لم يولِ أي أهمية لنظريات الحجاج والبلاغة الجديدة التي شغلت الأوساط الفلسفية البلجيكية والهولندية والاميريكية والألمانية منذ الاربعينيات والى يومنا هذا. فلماذا اعتمد اساتذة الفلسفة على المنطق الرياضي البرهاني وليس المنطق الحجاجي أو البلاغي؟ هل لأنه منطق لا يؤمن بوجود "آخر مختلف" للفلسفة يستحق التفكير فيه؟ أم لان ذلك الآخر هو مجرد "رجل شارع وعامي" لا يستحق أن نضيع وقتنا الثمين معه؟ فلماذا بقيت كثير من الأفكار والنظريات الفلسفية والبلاغية والانطولوجية منسية ومجهولة منذ تأسيس خطابنا الفلسفي والى يومنا هذا؟ ولماذا يتكرر مشهد إلغاء وتهميش انطولوجيا الوجود اليومي في خطابنا الفلسفي؟ أسُنة فلسفية متبعة عندنا، تلك التي تتأسس على تهميش فئة اجتماعية وتُسيِد أخرى عليها؟ ولماذا لم نشهد تحولات ابستمولوجية وفلسفية كتلك التي يشهدها العالم العربي؟ ولماذا زهد أساتذة الفلسفة عن أي مشروع فلسفي وثقافي أو نقدي؟ ولماذا هناك ثمة ادلجة وليس ثمة فلسفة في خطابنا الفلسفي؟ ولماذا هناك ثمة عدم وليس ثمة وجود في خطابنا الفلسفي؟ ولماذا استمر منطق العداء وعدم التواصل مع حقول العلوم الإنسانية في خطابنا الفلسفي؟ ولماذا لم تتم إعادة قراءة بلاغة أرشيف الفلسفة؟ ولماذا لم يتم إنتاج لغة فلسفية جديدة تتجاوز القديمة؟ ولماذا ثمة فلسفة محترفة وليس ثمة فلسفة ساذجة ؟


الهوامش:
(*)باحث من العراق- مختص في فلسفة/وخطاب الدراسات الثقافية العراقية

(**)للوقوف عند اهم تصنيف لتاريخ نظرية المعرفة في خطابنا الفلسفي الأكاديمي يُنظر:
أ.د. حسن مجيد العبيدي : نظرية المعرفة في الفكر الفلسفي الحديث والمعاصر،دراسة منشورة في مجلة دراسات فلسفية،بغداد،العدد الواحد والعشرون،2008

(1)
Charles B. Guignon: Heidegger and the Problem of Knowledge, Hackett Publishing Company, USA, 1983, P.13.
(2)
Ibid, P.14.
(3)
P. D. Ouspensky: In Search Of The Miraculous, Routledge & Kegan Paul, London, 1975, P.65.
(4)
Ibid, P.65.
(5)
Ibid, P.65.
(6)د.خليل ابراهيم رسول وآخرون:مبادئ الفلسفة وعلم النفس للصف الخامس الادبي، وزارة التربية-المديرية العامة للمناهج، العراق-بغداد،الطبعة الثانية،2010،ص26-29.
(7)د.علي حرب: التأويل والحقيقة، دار التنوير للطباعة والنشر-بيروت،الطبعة الثانية،2007،ص143.
وللمزيد حول علاقة الانثروبولوجيا والفلسفة والانسان البدائي، ينظر: الفصل الثاني (من الاثنوغرافيا إلى الفلسفة) من كتاب (كلود ليفي ستروس: قراءة في الفكر الانثروبولوجي المعاصر) لمؤلفه (د.عبدالله عبد الرحمن يتيم)،اصدارات بيت القرآن،المنامة-البحرين،الطبعة الاولى،1998.
(8)ناصيف نصار:ملاحظات حول نهضة الفلسفة في الثقافة العربية الحديثة،مجلة الثقافة الجديدة،المغرب،السنة الثانية،العدد الخامس والسادس،1977،ص62.
(9)سليم رضوان:من اجل فلسفة عربية للممارسة،مجلة الثقافة الجديدة،المغرب،السنة الرابعة،العدد الرابع عشر،1979،ص114.
(10)المصدر نفسه،ص115-116.
(11)د.حازم طالب مشتاق:الفكر السياسي والواقع التاريخي،مجلة كلية الآداب-جامعة بغداد،العدد الواحد والأربعون،1970-1971،ص161.
(12)المصدر نفسه،ص161-162. وللمزيد حول مفهوم التاريخ الجديد وخطاب الحوليات التاريخية، ينظر، جاك لوغوف:التاريخ الجديد،ترجمة د.محمد الطاهر المنصوري،مركز دراسات الوحدة العربية-بيروت،الطبعة الأولى،2007. وينظر أيضا،حسن قبيسي:الفكر التاريخي والأسطورة والواقع الحنظلي،مجلة الفكر العربي-بيروت،العدد الرابع والأربعون،1986.
(13) د.خليل إبراهيم رسول وآخرون:المصدر السابق،ص11.



#حيدر_علي_سلامة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- في نقد إيديولوجيا الأجيال الميتافيزيقية* في الخطاب الفلسفي/و ...
- نقد إيديولوجيا الأجيال الميتافيزيقية* في الخطاب الفلسفي/والث ...
- نحو مادية شعرية في قصيدة (ليالي زفافنا السّبْع) للدكتورة أسم ...
- حينما يتخثر الشعر ، يرتجف اليومي.... نزول سقراط الشعر في قاع ...
- من نظرية المعرفة الى فلسفة المنطق في مدرسة بغداد الفلسفية (ا ...
- نحو تأويل سوسيو-ثقافي لنظرية المعرفة* في مدرسة بغداد الفلسفي ...
- في جدل التراث والأيديولوجيا ، قراءة ابستمولوجية في فلسفة الا ...
- هيرمونطيقا الخطاب الفلسفي العراقي : في جدل اللاهوت والوجود - ...
- التأبين الفلسفي للاستاذ الدكتور حسام محي الدين الآلوسي - نحو ...
- من العقل والحرية الى سيرة حارة بغدادية، قراءات في لوحة التنو ...
- -في نقد وعاظ الثقافة والمثقفين- نحو تحليل فلسفي ولغوي للمشرو ...
- -خمسة الآف عام من أنوثة النهرين- قراءة في موسوعة الأنوثة الع ...
- خمسة الاف عام من كلام النهرين قراءة في موسوعة اللغات العراقي ...
- فلسفة الأنوثة بين الحرام السياسي والحرام الجامعي
- الثقافة العراقية، ثقافة مفاهيم أم ثقافة علاقات ؟
- محاولة لغوية لتحليل ظاهرية الخطاب الثقافي العراقي، نحو دراسا ...
- غرامشي من نقد نخبوية المثقف الى نقد نخبوية النص الديني


المزيد.....




- هل كان بحوزة الرجل الذي دخل إلى قنصلية إيران في فرنسا متفجرا ...
- إسرائيل تعلن دخول 276 شاحنة مساعدات إلى غزة الجمعة
- شاهد اللحظات الأولى بعد دخول رجل يحمل قنبلة الى قنصلية إيران ...
- قراصنة -أنونيموس- يعلنون اختراقهم قاعدة بيانات للجيش الإسرائ ...
- كيف أدّت حادثة طعن أسقف في كنيسة أشورية في سيدني إلى تصاعد ا ...
- هل يزعم الغرب أن الصين تنتج فائضا عن حاجتها بينما يشكو عماله ...
- الأزمة الإيرانية لا يجب أن تنسينا كارثة غزة – الغارديان
- مقتل 8 أشخاص وإصابة آخرين إثر هجوم صاروخي على منطقة دنيبرو ب ...
- مشاهد رائعة لثوران بركان في إيسلندا على خلفية ظاهرة الشفق ال ...
- روسيا تتوعد بالرد في حال مصادرة الغرب لأصولها المجمدة


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حيدر علي سلامة - مقدمة في بلاغة المنشور الفلسفي العراقي...أو نحو تأويل سوسيو-ثقافي لفلسفة المعرفة