أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - بدر الدين شنن - الصرخة















المزيد.....

الصرخة


بدر الدين شنن

الحوار المتمدن-العدد: 4432 - 2014 / 4 / 23 - 13:20
المحور: الادب والفن
    


إنها المرة العاشرة ، التي يتمدد فيها أنور على طاولة العمليات ، ليفتح مبضع الجراح جرحاً آخر في جسده . لكنها المرة الأولى ، التي لم يتشبث فيها بأمل الشفاء .. وتجديد الحياة . فقد أصبح الأمر عنده سواء ، إن تماثل للشفاء ، أو كانت هذه هي الأخيرة . إذ ما قيمة الحياة ، بعد أن فتكت العلل المضنية بجسده ، وفقد الأمل بالعودة إلى الأحبة ..
وهذا الشعور أثار لديه أمراً لم يخطر له بهذه الجدية من قبل .. إنه سؤال القبر ، الذي سود بؤسه أكثر وهو يلامس النهاية .. أين سيكون هذا القبر .. في غربة الشقاء .. أم هناك في تربة الدماء .

وحين كانت الممرضات ينزعن عنه الرداء الأزرق ، ويقمن بإعداده للعملية .. وقبل أن يحقن بالمخدر .. كانت صور من حياته تبرق في ذاكرته ، وفي حجرات الرؤى في عينيه .. متلاحقة .. متسارعة .. تتضمن رغبات .. وأمنيات .. تغالب اكتئابه .. تكرر ما كان عزيزاً عنده في فصول حياته الماضية .. وتدعوه .. ألاّ يسلم نفسه .. وحقه في الحياة .. مع تسليم جسده .
لكن كل ذلك ، لم يغير في حاله شيئاً ، إلاّ عندما وجد عيونهم الحبيبة تنظر إليه .. مضطربة .. متوسلة .. معاتبة .. وكأنها تقول له .. لاترحل .. مازال هناك في العمر بقية .. هي الأجمل والأفضل .. وعندما تذكر ماقالوا له في لحظات كان صوت الرصاص يشوش على كلماتهم .. نحن ننتظرك ..
نحن وإن كنا نعيش تحت القنابل المتفجرة في محيطنا .. ووسط رشات الرصاص المجنونة من حولنا .. كل هذا لايهم .. نحن نعيش ونحلم .. وننتظر أن تأتي إلينا ..

ومع توسل العيون ترتسم على الشفاه ابتسامات الرجاء .. كأنها تقول ..
نحن وإن صرنا .. بعد أن دمرت بيوتنا في مأوى .. فإننا حين تأتي .. سنؤويك في صدورنا وقلوبنا .. ونتقاسم الأغطية .. ونتلاصق بك لندفئك . ونصب الشاي في وعاء كبير .. ونفت الخبز فيه .. ونشكل حلقة حوله .. ونأكل معاً .. ونضحك .. ونحلم بحياة جديدة .

* * *

قالت ممرضة لزميلتها :
- أنظري .. إنه دون مخدر جامد لايبدي حركة .. حتى عينينه جامدة .
قالت ممرضة أخرى :
- إنه يستسلم لما سيحصل معه .. أنظري آثار العمليات في جسده .. إن وراء كل أثر معاناة في حياته .

قال الطبيب للطاقم المشارك معه :
- دقائق ونبدأ .

ابتسم أنور ، وقال في نفسه .. لقد مددوا عمري دقائق أخرى .

وحدثت في في مخيلته حركة ، أعادته ثلاثين عاماً إلى وراء ..
أدخلوه معصوب العينين .. مقيد اليدين .. إلى مكان ما ، ثم طرحوه أرضاً . ومددوه على جهاز ، شبه الطاولة ، وأجروا له أولى وآلم وأخطر العمليات في حياته . وكانت مباضعهم .. عصي الخيزران وكابلات حديدية . كرروا العملية أكثر من مرة . وكل مرة كان يصحو خلف باب حديدي في مكان كالقبر . ومن ذاك الوقت ، دب التشوه والوهن والعلل في كيانه كله ، وبدأت نذر الموت تلاحقه وتدق نوافذ عمره أينما كان .

اقترب الطبيب منه .. شرح له ببضع كلمات .. ما لم يفهمه حول العملية .
أعطته ممرضة شيئاً في سلك السائل المعلق بجانبه . ثم جاءت أخرى ، وطرحت عليه أسئلة صغيرة ، لتطمئن على سريان المخدر بنجاح .

قبل أن يتلاشى وعيه بلحظات ، وجد نفسه في الثالثة من عمره ، يمسك رجل بيده ، ويقول له تعال ودع والدك . أدخله الرجل إلى الدار . كان والده شبه عار ممدداً .. مبللاً .. على طاولة كبيرة ، وإحدى يديه متدلية . قال الرجل قبلها . قبل أنور يد والده . وعاد إلى الزقاق ليلعب مع أقرانه . وتألم كثيراً لأن لا أحد من أبنائه هو الآن إلى جانبه يقبل يده مودعاً ، قبل أن تسدل عليه ستارة النهاية .

حين فتح عينيه ، وجد نفسه في مكان آخر ، في غرفة يسودها سكون مطبق . وعلى صدره أسلاك رفيعة ملونة . وإلى وريد إحدى ذراعيه ينساب سائل من كيس معلق بقربه . لكنه لم يستطع متابعة التمعن في الأشياء حوله . وأغمض عينيه . وانتابه وهن شديد ، سيطر عليه كلية . وكاد أن يغمى عليه .
وهو مغمض العينين ، سمعهم يتحدثون عنه . قال أحدهم :
- أعطوه ... راقبوه بدقة .. لاتتركوه لوحده .
حركوا شيئاً بين فخذيه .. عرف بعد ذلك أنه كالعادة قسطرة للتبول .

* * *

كان يغيب كثيراً عن الوعي .. ويصحو قليلاً .
ولما بدأ تفكيره يتحرك ، تساءل .. كيف لم يرحل . من الذي احتفظ به .. وبحياته .. الطبيب .. أم تلك العيون .. أم بقايا رجاء أهملها ، حزناً ، على خراب مدينته الشهباء العظيمة ، طمعاً وظلماً .. واندثار الحي العتيق العريق ، الذي ولد فيه وأمضى طفولته بين جدرانه وساحاته .. وعلى فقدان كثير من الأعزاء .
وأحس بغصة أليمة في صدره .. وبللت دموع سخية وجهه .. وغاب عن الوعي .

بعد وقت ما ، تسلل الضوء عبر جفونه الرقيقة المغمضة ، وتحركت الرغبة بداخله ليصحو .

كان حول سريره عدد من الأشخاص يرتدون اللباس الأبيض .. يحدقون فيه .. كأنهم يتفحصون شيئاً يتعلق بأعراض منتشرة عليه .. ويتبادلون النظرات والهمسات .

أراد أن يقول شيئاً .. أن يستفسر .. لم يستطع . انفعل .. تسارع تنفسه ..
وبينما كانت إحداهن تحقنه بجرعة دواء ، عاد هو إلى إغماض عينيه ..
واستسلم لتداعيات تدفقت عليه . وفكر لماذا حصل في حياته كل السوء الذي حصل .

لقد تصالح مع نفسه حول خيارات مريرة ..
وتصالح من جهته ، مع من خذلوه .. ليتجاوزا رؤاه الصائبة .
وتصالح مع واقعه .. إنه لم يعد له طموح خاص بشيء .

وحين فاجأته وجوه من دمروا وباعوا المقدس .. واستباحوا دم الأبرياء .. تسأله التصالح معه .. توتر .. ارتجف .. وقال لهم بصوت مسموع عالي النبرة :

- لا .. لا .. إلاّ أنتم .. إلاّ أنتم .. إلاّ أنتم ..

وأحس بألم كل الجراح ، التي تعرض لها ثمناً لتمسكه بقيم ومباديء ، مضاعفاً .. وصرخ بصوت عال .. غاضب .. وصمت . وصفر جهاز إلى جانبه .

جاؤوا إليه راكضين . وتوزعوا العمل ، لمعرفة أسباب هذه الصرخة الرهيبة وغيبوبته .

قال أحدهم :
- إنه مات .
قال ثان :
- لا لم يمت .
سألت ممرضة وهي تمسح دمعات على خديها :
- يعني سيعيش ؟ .
عاد الأول وقال :
- " الأستاذ " الدكتور وصل .. وسنعرف ..



#بدر_الدين_شنن (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هل فشل أردوغان ؟
- ما وراء جبال كسب
- جدلية الزعامة والوطن والشعب
- الساسة والسياسة ومكامن الفشل
- الأم والأسطورة والحياة
- الاعتماد على الذات الوطنية أولاً
- المرأة السورية وحقوقها والحرب
- الانحطاط الشامل والاختراق الممكن
- جدلية حقوق الوطن وحقوق الإنسان
- بانتظار معجزة
- فشل - جنيف 2 - .. وماذا بعد ؟
- السوريون بين الصفقة والحل السياسي
- على عتبة مؤتمر جنيف 2
- حرب أمراء الحرب
- آن أوان النهوض من الإحباط والدمار
- لمن تقرع أجراس الميلاد ..
- الوطن .. والحرية .. والجريمة
- الرهاب الأزرق - إلى من أعطى دمه .. وعمره .. للحرية -
- تراتيل سورية .. الوطن مرة ثانية بين الوحدة والتقسيم
- تراتيل سورية .. مقدمة لحوار تحت النار


المزيد.....




- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- مصر.. الفنان بيومي فؤاد يدخل في نوبة بكاء ويوجه رسالة للفنان ...
- الذكاء الاصطناعي يعيد إحياء صورة فنان راحل شهير في أحد الأفل ...
- فعالية بمشاركة أوباما وكلينتون تجمع 25 مليون دولار لصالح حمل ...
- -سينما من أجل غزة- تنظم مزادا لجمع المساعدات الطبية للشعب ال ...
- مشهور سعودي يوضح سبب رفضه التصوير مع الفنانة ياسمين صبري.. م ...
- NOW.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 154 مترجمة عبر فيديو لاروزا
- لماذا تجعلنا بعض أنواع الموسيقى نرغب في الرقص؟
- فنان سعودي شهير يعلق على مشهد قديم له في مسلسل باللهجة المصر ...
- هاجس البقاء.. المؤسسة العلمية الإسرائيلية تئن من المقاطعة وا ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - بدر الدين شنن - الصرخة