أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عبد المجيد حمدان - انحدار التعليم إلى أين ؟ وإلى متى ؟ .....التلقين وطريق الخروج من كهوف الماضي















المزيد.....



انحدار التعليم إلى أين ؟ وإلى متى ؟ .....التلقين وطريق الخروج من كهوف الماضي


عبد المجيد حمدان

الحوار المتمدن-العدد: 4426 - 2014 / 4 / 16 - 16:10
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


انحدار التعليم إلى أين ؟ وإلى متى ؟
التلقين وطريق الخروج من كهوف الماضي ؟


انحدار التعليم ، تراجع مستوياته ، وفي مختلف مراحله ، من الروضة وحتى الدراسات العليا ، في فلسطين ، كما في سائر العالم العربي ، وسنة في أعقاب سنة ، بات حقيقة لا تقبل الجدل . لكن السلطة الفلسطينية ، كما نظيراتها العربية ، وهي تواصل محاولة تغطية شمس هذه الحقيقة ، بغربال نتائج الثانوية العامة ، لا تفعل شيئا ، بإعلانها النتائج الكارثية ، غير التذكير بتواصل عملية الانحدار هذه . فحين يحصل العشرات في فلسطين ، والآلاف في مصر ، على الدرجات النهائية ، فوق 98% ، في امتحان كهذا ، فلا تفعل مثل هذه النتيجة ،غير إعادة التنبيه والتحذير من خطر الهاوية التي ننزلق إليها . وفي الجانب المضاد ، لا تعكس المبالغة في الاحتفالات بالنتائج ، وذلك الصخب بإطلاق المفرقعات ، حتى لأصحاب نتائج أل 51 % ، غير نوع من شعور عميق باقتراب الخطر ، واحتجاج سلبي على تواصل حالة الانحدار هذه .
إحدى فضائل ثورات الشباب العربي ، تمثلت في كشف إضافي لأضرار انحدار التعليم الخطيرة ، على أول مطالب هذه الثورات ، وهو العيش . فالعيش يتطلب انطلاقات كبرى في التنمية . والانطلاقات تحتاج لتعليم متقدم ، يقع على عقول منفتحة نشطة متحركة ، فمستويات عليا من المعرفة ، تمتلك قدرة الإبداع أثناء توظيف هذه المعرفة .
وإذا كان صحيحا أن توفر الثروات الطبيعية يشكل قاعدة هامة لانطلاق التنمية ، فإنها لا تشكل العامل الفيصل في عملياتها . فمنذ وقت غير قصير، وعت البشرية أن ثروة العقول هي الثروة الأهم ، من بين سائر الثروات التي تملكها الأمم . كما تأكد أن الأمم الغنية بثروة عقول أبنائها ، هي التي تملك مفاتيح التقدم ، حتى لو افتقرت لثروات طبيعية أساسية . و اليابان ، هولندا ، الدنمارك ، النمسا ، كوريا الجنوبية ، هونغ كونغ ....والكثير الكثير غيرها ، أمثلة ناطقة . وفي غياب ، أو تغييب ، أو تقزيم ثروات العقول ، وتوفر الثروات الطبيعية ، يحل البذخ ، السفه ، التبذير ، فالإهدار لتلك الثروات ، بديلا لاستثمارها في التنمية ، كما هو جار في أغلب بلداننا العربية . وبديهي أنه في حال اجتماع الثروتين ، العقول والخامات الطبيعية ، تكون انطلاقة التنمية أقوى بما لا يقاس .
وأظن أن لا حاجة للتذكير بأن انحدار التعليم ، في بلداننا العربية ، بالإضافة لعوامل أخرى ، ذو تأثير مباشر على تبديد وإهدار ثورة العقل العربي العظيمة . وإذا كان انحدار التعليم يعود لفعل عوامل عدة ، فإنني أكاد أجزم ، أن نهج التلقين ، العمود الفقري لنظم التعليم العربية ، يشكل العامل الأكثر فاعلية في عملية الانحدار هذه . ولأنه عامل مزمن ، رافق نظم التعليم من يومها الأول ، فقد غدا داء عضالا ، لا يفتك بجسد التعليم فقط ، ولكنه يفتك قبل ذلك بالعقل العربي ، فيجعل من حلم مقاومة الاحتلال ، عند الشعب الفلسطيني ، وحلم التنمية لبلداننا العربية ، ضربا من كوابيس لا فكاك منها .
كيف ولماذا ؟
في محاولتنا الإجابة ، دعونا نتذكر حادثتين شديدتي الدلالة . في مطلع القرن العشرين ، سئل لورد كرومر ، الحاكم البريطاني لمصر آنذاك ، إن كانت بريطانيا المستعمِرة ، وهي تضع نظاما للتعليم ، وتشجع المصريين على الالتحاق بالمدارس فالتعلم ، إن كانت تخشى أن يتحول هؤلاء الخريجون يوما ، وقد تسلحوا بالعلم ، ضد الاستعمار ، وأن يطالبوه بالرحيل . رد لورد كرومر بأن بريطانيا لا تخشى ذلك ما دام نهج التلقين سائدا في نظام التعليم . لم يسأل المفكرون آنذاك ، من أين استمد لورد كرومر ثقته تلك ، وإلام استند في رده ذاك . والمفارقة المضحكة المبكية ، أنه وبعد أكثر من قرن على قول لورد كرومر ذاك ، ما زال نهج التلقين يشكل العمود الفقري لنظم التعليم العربية كلها .
وبعد قرابة السبعين سنة ، وفي العام 1975 ، أجرت مجلة تايم الأمريكية مقابلة مطولة ، مع الجنرال موشيه دايان ، وزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك . وفي المقابلة تبرع دايان بتقديم معلومات عن أسلحة إسرائيل ، وإستراتيجيتها ، وخططها الأمنية ، القريبة والبعيدة ، الأمر الذي أثار دهشة ذلك المراسل الأمريكي ، ودفعه لسؤال ديان : ولكنك يا سيادة الجنرال تكشف ، هكذا وببساطة ، معلومات ، وأفكارا وخططا ، تضعها بين يدي أعدائك ، تحتاج أجهزة المخابرات لبذل جهود كبيرة ، وصرف مبالغ طائلة ، للحصول عليها . وجاء رد دايان مذهلا . قال : لا تخش شيئا يا صديقي فالعرب لا يقرأون . وأضاف جوابا على دهشة المراسل ، وإن قرأوا لا يفهمون ما يقرأون ، وإن فهموا لا يستوعبون .
ومرة أخرى ، وقبل أن نسأل من أين استمد دايان ثقته تلك ؟ وإلام استند في إصدار حكمه ذاك ؟ دعونا نتذكر التالي : أولا : أن الاحتلال حرص ، ومنذ اليوم الأول ، على انتظام العملية التعليمية في الأرض المحتلة . لا يقلل من شأن هذا الحرص أن الاحتلال أجرى تغييرات تتفق مع رؤيته ومصالحه في إدارة العملية التعليمية . تغييرات طالت بعض المناهج ، وأخرى غربلت جهاز التعليم ، معلمين وإدارات . وثانيا أنه هو من أصدر تراخيص الجامعات في الضفة والقطاع . جامعات : بير زيت ، بيت لحم ، النجاح ، الخليل ، أبوديس والأزهر/ غزة . وكان واضحا أن الاحتلال ، وهو يصدر تلك التراخيص ، لا يخشى أن يفرز التعليم الجامعة قيادات سياسية وشعبية وعسكرية متقدمة ، وأن يشكل الخريجون ، بما يتحصلون عليه من معارف وعلوم ، الكتلة الأكبر والأصلب ، والأكثر فاعلية ونجاعة في مقاومته .
والآن لا أظن أن هناك حاجة لإعادة تفسير مواقف الرجلين ، لورد كرومر والجنرال ديان . فالاثنان ، ورغم ابتعاد الشقة الزمنية بينهما ، أوضحا ، بما لا يدع مجالا لأي تفسير آخر ، أن نهج التلقين ، صاحب السيادة المطلقة في نظم التعليم العربية ، هو الحليف الموثوق ، مضمون الفعالية والنجاعة ، لكل من الاستعمار والاحتلال على السواء . كما أوضحا ، ومن جديد بما لا يدع مجالا لأي لبس ، أن مقاومة الاستعمار والاحتلال ، مع سيادة نهج التلقين في التعليم ، مسألة لا يخشاها ، ولم يخشاها هؤلاء الأعداء ، لأنها في المحصلة مقاومة لا تستند إلى العقل ، ولذلك هي غير ذات جدوى .
إذن ، ومنذ ذلك الوقت المبكر، كان لا بد من بروز سؤال : ما الذي كان يتوجب على القادة السياسيين والمناضلين العرب عامة ، والفلسطينيين خاصة ، فعله آنذاك لحرمان العدو – الاستعمار بداية ثم الاحتلال لاحقا - من هذا الحليف الموثوق ، كبير الفعالية ومضمون النتائج ؟ فالطموح لمقاومة فاعلة ، تتوخى تحقيق ولو بعض الأهداف ، يوجب العمل على تجريد العدو من بعض أسلحته ، وأخرى تشكل ولو بعض عوامل قوته . والأمر البديهي أن ينصب التفكير على حرمان العدو ولو من بعض معاونيه وحلفائه . ولأن هذا الحليف المتمثل في نهج التلقين ، وسيادته على نظام التعليم ، هو عدو رابض داخل البيت ، ويبسط سطوته ، ويعلن هيمنته على العقل ، كان التخلص منه ، وحرمان العدو من خدماته ، يوجب ، كما يفترض المنطق ، أن يحتل رأس سلم أولويات القادة السياسيين والمناضلين . لكن ما حدث أن الفعل كان على العكس تماما . فقد تمسك به هؤلاء القادة والمناضلون ، وكأنه قدس الأقداس ، كما وكأن التفريط به تفريط ليس بالتراث فقط ، ولكن بالهوية الوطنية ذاتها .
الكُتَّاب والتلقين :
ومن جديد يعود السؤال ليفرض نفسه : لماذا رأى الاستعمار والاحتلال في نهج التلقين ، السائد في التعليم ، حليفا موثوقا ، وعلى هذا القدر من ضمان الفعالية ؟ وهل يفهم المرء أن الاستعمار هو من أتى بنهج التلقين ، وفرضه على نظام التعليم في كافة الأقطار العربية ؟
لا مراء في أن الاستعمار هو واضع نظم التعليم الحديثة في البلاد العربية . ففي تلك التي خضعت للاستعمار البريطاني ، سادت نظم تعليم بريطانية . كما وسادت نظم تعليم فرنسية في تلك التي حكمها الاستعمار الفرنسي . لكن ، وللحقيقة ، لم يأت الاستعمار بنظمه من العدم . فقبل وصوله طبقت الخلافة العثمانية نظامها التعليمي ، على كل الأقطار العربية ، باستثناء السودان ، الصومال ، جيبوتي وجزر القمر ، لأنها لم تخضع لسلطانها . وهو – الاستعمار - لم يفعل غير إجراء تحديث لذلك النظام . وفي ظني أن لا حاجة للتذكير بأن نظام التعليم التركي شهد أول تحديث له مع بداية القرن العشرين ، وإثر صعود حركة تركيا الفتاة إلى الحكم . وعليه صار بمقدورنا تصور حال التعليم في أقطارنا ، لحظة وصول طلائع الاستعمار إليها . وعلى سبيل المثال فإن مواد العلوم الطبيعية ، وحتى اللغة العربية والتاريخ ، لم تعرف طريقها إلى المناهج المدرسية إلا قرب العام 1910 . أما الفلسفة وعلم الاجتماع ، فظلت غائبة عن تلك المناهج .
ما يعنينا هنا أن الكُتَّاب ، وعلى مدار مئات السنين ، شكل العمود الفقري لنظام التعليم ذاك . ولأن هذا الكُتَّاب ، بات غير معروف لأجيالنا الحاضرة ، لبعد شقة الزمن ، نقول فيه : الكُتَّاب هو مدرسة بنين كاملة ، مكونة من غرفة واحدة ، أو عريش ، أو ظل شجرة ، في أحيان كثيرة ، ومن ثلاثة صفوف إلى خمسة ، ولكن بمعلم واحد . وما دام هذا هو الحال ، فلا مناهج ، ولا مقاعد ، ولا حتى لوح أسود ، ولا إدارة مدرسية ، ولا تفتيش أو رقابة ، ولا علاقة للدولة من أي نوع . والمعلم هنا ، وهو في الغالب شيخ الجامع ، الذي يحفظ القرآن ، أو بعضه ، ويعرف القراءة والكتابة ، وبعض الحساب ، ويعشش في رأسه كم هائل ، من الغيبيات ، الأوهام ، الأساطير وحكايات الجن والعفاريت ، الخرافات والخزعبلات والشعوذات ، هو سيد هذه المدرسة المطلق . ومزاجه وشخصيته ، ثم محدودية معارفه ، هي المقررة لقواعد التربية من جهة ، ولما يتحصل عليه الطالب ، من جهة أخرى .
ومعلم هذه مواصفاته ، لا يملك وسيلة لنقل المعلومة للطالب ، غير حشوها قسرا في رأسه . ذلك أن القاعدة التربوية ، والتي يطبقها طرفا المعادلة ، المعلم والطالب ، تقوم على الأمر المدعم بأدوات العنف من جهة ، والطاعة المطلقة القائمة على الخوف من العقاب من جهة أخرى . وفي التطبيق ، يكرر المعلم القول ، والأولاد يرددون وراءه بصوت عال ، إلى أن يتم الحفظ . وتتجلى العلاقة هنا كعلاقة بين مرسل – المعلم – ومستقبل – الولد - . ومثل العلاقة بين أي جهازي إرسال واستقبال ، لا يكون هناك أي مجال لاستفهام ، أو تساؤل ، أو حوار . وإذا حدث وتجرأ مستقبل على ذلك يتلقى جزاءه عقوبة ، يحدد نوعها وحجمها مزاج المعلم لحظتها . وتتراوح بين التعنيف والجلد والشبح والحرمان من الفسحة .....الخ .
وقرب نهاية الخلافة العثمانية ، وفي هذا النظام ، كانت هناك ، إلى جانب الكُتَّاب ، في القرى والعزب ، مدارس في المدن والبلدات الكبيرة ، وإن ظلت محدودة العدد والاستيعاب . وهنا يبرز سؤال : هل كان حال التعليم في تلك المدارس بأفضل من مثيله في الكُتَّاب ؟ والجواب : من حيث الشكل نعم ، أما من حيث الجوهر فلا . فللمدرسة إدارة ، وبها عدد من المعلمين ، ونوع من التخصص في التعليم ، ومناهج مقررة ، وتفتيش وتوجيه ....الخ . هذا اختلاف مهم عن الكُتَّاب ، لكن ظل المشترك هو الأهم . فالمعلم ، وخلال كل النصف الأول من القرن العشرين ، ظل يتصف بمحدودية المعارف . ومثل معلم الكُتَّاب ، تختلط عنده حقائق العلم بالغيبيات ، والواقع مع الأساطير والخرافات . وهو أمر لا يؤهله لغير أسلوب الكُتَّاب ، التلقين ، في نقل المعلومة إلى الطالب . وعلى أي حال فنهج التلقين ، ظل النهج المعتمد لنظام التعليم كله . ثم هناك ذات النظام التربوي الذي يقيم العلاقة بين طرفي العلاقة ، المعلم والطالب ، على الخوف بديلا للاحترام ، والعقاب بديلا للحوار ، وغير ذلك كثير . وللتذكير فقط فإن جامعة الأزهر ، ومنذ نشأتها في القرن الرابع الهجري ، اعتمدت نهج الكُتَّاب في التلقين ، وإلى يومنا هذا .
بيئة حاضنة :
وقبل المضي بعيدا دعونا نتذكر أن الكُتَّاب ، فنهج التلقين ، نشأ ، عاش وتكرس ، في ظل بيئة حاضنة ، اجتماعية اقتصادية ، أكثر من داعمة . فالأسرة والمجتمع ، الذي كان الجهل فيه صاحب حق السيادة ، - فمعلم الكُتِّاب ، الذي هو إمام الجامع ، هو ( الفالح !) بين قومه - ، والذي كانت الغيبيات والخرافة ، وحكايات الجن والعفاريت ، ومختلف أنواع الشعوذات ، تشكل كل إرثه وتراثه الثقافي ، كان لا بد أن يعتمد ذات نهج التلقين ، في نقل التجربة الإنسانية من السلف إلى الخلف ، ومن الكبير للصغير . وشكلت ثنائيات الأمر والطاعة ، الثواب والعقاب ، الخوف والاحترام ، والانصياع والحوار ......الخ أعمدة البنية التربوية ، داخل الأسرة ، وفي الحارة والحي والقرية والمجتمع . أعمدة ساهمت مساهمات كبرى في سيادة نهج التلقين . وحتى يومنا هذا لا تشهد الأسرة شكلا مقبولا للحوار ، ومن ثم الوصول إلى الفهم ، بين أعضائها .
ومن جديد يطرح السؤال نفسه : ولكن متى ، أين ، كيف ولماذا تشكلت هذه الحاضنة ، وأدواتها بهذه القوة والفعالية ؟ ومحاولة الإجابة تلزمنا بالعودة بضعة قرون إلى وراء .
وبدءا لا أظن أن هناك حاجة للتذكير بأن جدلا سياسيا واجتماعيا ظهر مبكرا ، وفي اللحظة التي شهدت غياب النبي بالوفاة . وأن هذا الجدل تطور ليصل إلى بعض جوانب العقيدة ، في سنوات الفتنة الكبرى ، خلافة عثمان ، وسنوات الحرب الأهلية في خلافة علي . لكن الفتوحات والغنائم ، والتي تعاظمت أيام الخلافة الأموية ، حدت من تطور حالة الجدل تلك ، رغم بروز إرهاصات لذلك التطور .
وفي الخلافة العباسية شكل ظهور العنصر الفارسي ، في قيادة الدولة ، محفزا قويا ، وشديد الفعالية ، لدفع حالة الجدل إلى أمام . ثم كان الانفتاح على ثقافات الأمم المغلوبة ، والمجاورة ، حافزا إضافيا على مزيد من دفع حالة الجدل تلك . وفي ظني أن الإطلاع على الفلسفتين ، الهندية واليونانية ، مثل العامل الأهم في ذلك الانفتاح .
خلق الانفتاح حالة ذهنية جديدة ، كل الجدة ، على الذهنية العربية الإسلامية ، تبلورت فيما عرف ، في حينه ، بتيار العقل ، متعدد الروافد . وعلى عكس ما كان سائدا في عهد الخلافة الأموية ، انحاز لهذا التيار الجديد - تيار العقل - وسانده ، أغلبية خلفاء الصدر العباسي الأول . ووصل الأمر حد انتماء بعض الخلفاء لأحد روافده – المأمون ، ثم الواثق لفرقة المعتزلة - .
ولأن فكر هذا التيار قام على إعلاء شأن العقل ، تنشيطه ودفع حركيته ، ومن ثم الاحتكام له في القضايا الحياتية ، وحتى العقيدية ، المستجدة ، كان طبيعيا أن يصطدم ، ومن ثم يتصارع ، مع روافد التيار الآخر الكبير ، ممن نصبوا أنفسهم سدنة ، لما أسموه الحفاظ على نقاء العقيدة ، وتطبيقات الشريعة ، على المستجد من الأمور الحياتية ، تماما كما وصلت من السلف الصالح . بمعنى آخر فإن سدنة تراث السلف الصالح ، رأوا أن صلاح الدين والدنيا ، يتحقق بتجميد الحياة الإنسانية ، عند تلك الفترة الذهبية التي عاشها السلف الصالح . ولكي يحدث ذلك ، كان لزاما على هذا التيار مواجهة التيار الآخر – تيار العقل - ، ليس فقط بمعارضة أطروحاته ، وإنما بالعمل الحثيث ، والمتواصل ، على تقييد نشاط العقل ، ومصادرة حركيته .
كهوف الماضي :
وبسبب انحياز خلفاء الصدر العباسي لتيار العقل ، كان أن اتخذ الصدام ، مع تيار النقل ، شكل الحوار ، ومقارعة الحجة بالحجة ، من جهة ، وسيادة هذا التيار للحياة العامة ، على طول القرنين الثاني والثالث الهجري ، وجزءا من القرن الرابع من جهة ثانية . وهو ما وضع الأساس لِ ، فانطلاق وازدهار ، ما عرف بالحضارة العربية الإسلامية .
ما يهمنا هنا ، أن سيادة تيار العقل ، انعكست على نظام التعليم في صورة تطبيق النهج الحواري . كان بعث العقل ، إثراؤه ، تحفيزه على النشاط ، تعظيم قدرته على الاستيعاب ، ومن ثم على استخدام ما اختزنه من معارف ومعلومات ، في التعامل مع الظواهر الجديدة ، وعلى التخلص مما ترسب فيه من أوهام وخزعبلات ، هو محور عمل تيار العقل هذا . وإذا ما انتقلنا للتعليم ، وهو محور اهتمامنا هنا ، كان بعث العقل هذا يوجب الاحتكام في عملية نقل المعارف ، من المرسل إلى المتلقي ، من المعلم إلى التلميذ ، إلى نهج يستهدف تنشيط العقل وإثراءه بالمعرفة ، وتفعيل قدرته على البحث والتحليل والاستقراء والاستنتاج . نهج يقوم على الشك في صحة المعلومة ، فالتساؤل والحوار ، ، البحث والتخليل ، التدقيق والاستنتاج ، ومن ثم القبول أو الرفض ، وهو نهج الحوار .
لكن وبالقرب من نهاية القرن الهجري الثالث ، وقع انقلاب في مواقف خلفاء العصر العباسي الجديد . انحاز أغلبهم ، وبدءا من الخليفة المتوكل ، لتيار النقل ، مرجحين كفة الصراع لصالح هذا التيار . ومع نهاية القرن الخامس حسم تيار النقل الصراع ، ونهائيا ، لصالحه ، مخرجا تيار العقل من الحياة العامة ، بخروج لا رجعة له .
هنا لا بد أن نسترجع التالي : لما كان حسم الصراع بأسلوب وأدوات الحوار ، هو النهج المثالي لروافد تيار العقل ، فقد كان العنف ، والحسم بالقوة ، هو الأسلوب الأكثر ملاءمة لروافد تيار النقل . ومع حسم الصراع ، قرب نهاية القرن الخامس الهجري ، لصالح هذا الأخير ، كان أشياعه قد انقضوا على تراث تيار العقل ، وأبادوا ودمروا كل ما طالته أيديهم ، من إبداعات العلماء ، التي شكلت الحضارة العربية الإسلامية ، موضع فخرنا الكاذب ، حتى يومنا هذا . وإنصافا للحقيقة فقد أبقوا على كل أبدعته قرون الصراع من إضافات على علوم الدين واللغة .
ولم يكتف أنصار التيار المنتصر بتدمير وإبادة ما وصلت إليه أيديهم من كنوز الحضارة العربية الإسلامية . فقد ظل نظام التعليم محط اهتمامهم . بداية ، وبعد وقف الترجمة ، والانفتاح على الآخر ، استبعدوا من التعليم كل العلوم ذات العلاقة بنشاط وحركة العقل . تم تحريم وإخراج علوم الفلسفة ، فعلوم الطبيعة ، والرياضيات والفلك ....الخ من المناهج . كما وحُظِر وجودها في المكتبات العامة . وصدرت فتاوى بتكفير متداوليها ، ومن ثم تحليل قتلهم . ولإكمال الصورة كان الانقضاض على نهج الحوار في التعليم ، واستبداله بنهج قادر على تقييد حركة العقل ، أمرا أملته الضرورة . وكان هذا البديل جاهزا : العودة لنهج التلقين ، وللكُتَّاب عماد النظام القديم .
وللتذكير أيضا ، فقد شهدت القرون التالية ، التسعة في بعض البلدان ، والعشرة في أخرى ، استمرارية تكريس نصر تيار النقل ذاك . وكان أن خيم ظلام دامس على منطقتنا على مدار هذه القرون . وكان الظلام الذي سقط فيه العقل العربي هو أكثرها حلكة . وفي المقابل ظل منتسبو ، وأنصار وأشياع تيار النقل ، يرون فيما حدث مكسبا خاصا ، يُحظر التفريط به ، ويستعدون للدفاع عنه بالغالي والنفيس ، بالنفس والمال والبنين وكل شيء . ويمكن للمرء أن يتذكر مقاومتهم الضارية لما عرف بحركات ، ورواد التنوير ، والتي ظهرت مع بداية القرن العشرين . وحتى يومنا هذا ظلت مقاومة هذا الخلف من تيار النقل ، والمتمثل بتيارات الإسلام السياسي ، المقاومة الأشد ضراوة ، لأية توجهات تدعو للخلاص من نهج التلقين .
وماذا كانت النتيجة ؟ ما أن وصلت البشرية إلى مشارف عصر الاستعمار ، حتى كانت شعوبنا من الضعف والجهل وقلة الحيلة ، ما جعلها لقمة سائغة لأي طامع . والطريف أن المستعمِر ، سبق المفكر العربي ، في التوصل إلى معرفة السبب الجوهري لضعفنا وانعدام قدرتنا . ورغم أن لورد كرومر كشف لنا ذلك ، ثم أعقبه دايان بعد أكثر من ستين سنة ، فقد واصلنا الغفلة ، وادعينا أن الحفاظ على نظامنا التعليمي كما هو ، مقاومة ووقوف في وجه الاستعمار والاحتلال معا .
قفزات في الهواء :
ورغم أن الحقيقة مرة ، إلا أنها تستوجب استدعاء جوانب أخرى كي تكتمل الصورة . فمنذ منتصف خمسينات القرن الماضي ، شهد التعليم في فلسطين - كما في عالمنا العربي - قفزات كبيرة يمكن وصفها بالطفرات . واتسعت هذه الطفرات كثيرا بعد مجيء السلطة . ولكي نقف على حجم هذه الطفرات إليكم المثال التالي .
تخرجت في مدرسة قريتي ، المشتركة مع القرية المجاورة ، من الثالث الإعدادي ، العام 1955 . كانت بناية المدرسة ، والتي تخدم خمس قرى أخرى مجاورة ، مكونة من أربعة غرف ، عقد عربي ، 7×7 ، وطاقم تعليم من سبعة معلمين ، بينهم مدير المدرسة . وكان المترك ، معادل التوجيهي ، أعلى شهادة يحوزها بعض هؤلاء المعلمين . والآن حل محل هذه الغرف الأربعة ، مجمعان من ثمانية أبنية ، بعضها بثلاثة طوابق ، اثنان منها مهجوران ، بينها مدرستي وما ألحق بها ، بكل أسف . أما الهيئة التدريسية الموزعة على خمس إدارات ، فتقرب من المائة ، ليس بينها واحد حاصل على شهادة تقل عن البكالوريوس . وهذا المثال ينطبق تماما على القرى التي كانت هذه المدرسة تستقبل طلبة الإعدادي منها – واحدة كانت ترسل طلبة الابتدائي أيضا - .
مثل هذه الطفرة تجاوزت الأبنية المدرسية والمعلمين ومؤهلاتهم ، إلى باقي المنظومة التعليمية . المناهج مثلا شهدت أكثر من تغيير ومن محاولة تحديث . ومديريات التربية انتقلت من ثلاث مديريات ، حتى أوائل الستينات ، إلى أكثر من 12 مديرية الآن ، مع توسع كبير في أقسامها ومجالات نشاطها . والأمر ذاته ينطبق على الوزارة ، ونظم الإدارة المدرسية ، كما التوجيه والتأهيل الخ .
ولم تقف البيئة الحاضنة بعيدا عن هذه التغيرات . فالأمية في قريتي التي كانت تتجاوز أل90% وقت تخرجي من مدرستها ، انخفضت انخفاضا هائلا الآن – ليس لدي إحصائية رسمية - . وليس ذلك فقط . ففي القرية الآن أعداد من الحاصلين على التعليم الجامعي ، والعالي منه – درجة الدكتوراة - ، وفي مختلف التخصصات . ومجالات المعرفة والوصول إليها مفتوحة . ووسائل نقل المعلومات الحديثة ، الانترنيت ، التلفزيون والراديو ، تضخ في مجتمع القرية ، كما هائلا من المعلومات المتنوعة . كما أن الخدمات ، على تنوعها ، في القرية تقارب مثيلتها في المدينة .
وينفجر السؤال في وجهنا هذه المرة : إذن ، ومع كل هذه الطفرات والتغيرات الحاصلة ، لماذا يواصل التعليم انحداره ؟ والجواب بسيط : لأنها تغيرات وتوسعات أفقية . اعتنت بالشكل أكثر من عنايتها بالجوهر . استقرت على السطح ، و لم تقترب من العمق . هي تغيرات كمية ، لمت تصل إلى مرحلة الكيف ، لأنها ذات طابع ترقيعي ، وليصدق عليها القول بأنها قفزات في الفراغ . ومرة أخرى يطالعنا السؤال : كيف ؟ ولماذا ؟
تجميد لا تطوير :
حافظت السلطة الفلسطينية ، أسوة بباقي النظم العربية ، خصوصا الأردن الذي طبق الاحتلال نظامه ، على نهج التلقين عمادا لنظام التعليم . ولنتذكر أن نظام التربية ، رغم الحفاظ على الاسم ، التربية والتعليم ، غاب منذ فترة غير قصيرة . وجاءت التغييرات الكمية ، التي وصفناها بالطفرات ، لتصب في صالح تقنين فتكريس هذا الحال – عمادية نهج التلقين - وتعميقه . ولأن هذه التعييرات تكرست في صورة وقائع على الأرض ، فقد جعلت من مجرد التفكير بالمساس به – التلقين - ، مغامرة غير محسوبة العواقب . ذلك لأن مساسا محتملا بنهج التلقين ، كنقله للنهج الحواري ، يتطلب ليس فقط بذل جهود هائلة ، وإنما رصد وإنفاق أموال كثيرة . وفي تقديري هنا بالتحديد يكمن السر في نشوء ظاهرة انحدار التعليم ، ثم في استمراريتها . وللتدليل على صحة استنتاجي هذا ، أستأذنكم في إلقاء نظرة سريعة ، على ثلاثة من بين الجوانب التي طالتها التغييرات الكمية الكبيرة ، وهي : هيكلية البناء المدرسي ، المعلم ، ثم البيئة الحاضنة .
البناء المدرسي :
أظن أن لا جديد في القول أن تصميم الأبنية المدرسية جاء متلائما تماما مع نهج التلقين ، باعتباره دائما وسرمديا ، وأبعد ما يكون عن أي تفكير بالتغيير . فالبنايات تتكون من غرف التدريس ، مرصوصة الواحدة بجانب الأخرى ، وخالية من أية إمكانيات لاستعمال الوسائل المعينة ، باستثناء اللوح الأسود ، وباتساع يسمح بتكديس أعداد كبيرة من التلاميذ ، وبما يجعل تطبيق نهج الحوار معهم مستحيلا . إلى جانب غرف التدريس تأتي الإدارة واحتياجاتها ، وبعض الديكور ، مثل المكتبة والمختبر . أما الملاعب ، المغلقة منها والمفتوحة ، والرياضة عموما ، فغالبا ما تكون خارج اهتمام المصممين . والتفكير في قاعات للنشاطات الأدبية والإنسانية ، شديدة التنوع ، فلا تخطر على فكر المصممين ، وعلى أي نحو .
وإذن فإن التحويل إلى النهج الحواري ، يتطلب إجراء إضافات كبيرة على الأبنية المدرسية ، من جهة ، وتحول في فكر مصممي الأبنية الجديدة من جهة أخرى . مثلا اعتدنا على التفكير بأن علوم الطبيعة وحدها هي من يحتاج للمختبرات . ومؤخرا جرى تزويد بعض المدارس الثانوية بمختبر حديث للعلوم ، يستوفي المواصفات النموذجية ، كما تراها وزارة التربية . وفي زيارة لواحد منها – في مدرستي – اتضح أن المختبر ، رغم حداثة البناء ، مخصص لعلوم الفيزياء ، الكيمياء والأحياء معا . بمعنى أن معلما واحدا يشغله في المرة الواحدة . وبمعنى أنه مخصص للصف الأخير فقط ، أو ربما للذي قبله . وإذا ما أخذنا بالاعتبار محدودية الأدوات والمواد المخبرية ، نستنتج أن مثل هذا المختبر ، وببساطة ، لا يلبي جزءا ، ولو يسيرا ، من احتياجات تطبيق النهج الحواري .
ولا أظن أن هناك حاجة للتذكير بأن حال المكتبات ليس بائسا فقط وإنما شديد البؤس ، ليس لقلة الكتب ، ومحدودية تنوعها ، أو لضيق المكان ، بل ولخلوها من أي وسيلة تهيئ للباحث فرصة البحث ، أو لمتشوق المعرفة فرصة لبل الريق لهذا الشوق . كما لا أظن أن هناك حاجة للتذكير بأن التردد على المكتبة ، من المعلمين قبل الطلاب شبه معدوم ، بما يجعل حال المكتبة البائس هذا شديد التواؤم مع نهج التلقين .
إذن فإن مجرد التفكير بالتحول هنا من نهج التلقين للنهج الحواري ، يستدعي ، أول ما يستدعي ، رصد أموال طائلة من جهة ، ووقتا وجهودا كبيرة من جهة أخرى .
المعلمون :
موضوع المعلمين طويل ، شائك ومعقد . لكن اسمحوا لي أن أبدأه بملاحظات ، ، منها ما هو شخصي ، قد يرى القارئ بعضها خارجا عن صلب الموضوع ، أو حتى خارج السياق .
1- وصل إلى سمعي أن إدارة إحدى الجامعات ، تفكر في إغلاق كلية التربية ، بسبب ضعف الإقبال عليها من جهة ، والعجز المالي المتراكم على هذه الكلية من جهة أخرى . والمفروض أن كليات التربية هي المزود الرئيسي لوزارة التربية والتعليم ، نظرا لجمع خريجيها بين علوم التربية والعلوم الأخرى . أما لماذا ضعف الإقبال ، وهو حقيقة محزنة ، فذلك أمر يطول شرحه ، وإن كان يرتبط بأحوال المعلمين .
2- في دراستي الثانوية علمني اثنان فقط من حملة الدرجة الجامعية . كل الآخرين كانوا إما من حملة المترك ، أو الدبلوم المتوسط – دار معلمين - . وما أتذكره أن المعلمين آنذاك حظوا باحترام عميق ، ليس من الطلبة وأهاليهم فقط ، بل ومن كل فئات المجتمع . فقد كان وضعهم الوظيفي مريحا ، والدخل الشهري جيدا ،، لدرجة أن الارتباط بمعلم ، كان أمنية لنسبة غير قليلة من الصبايا . بالمناسبة ، في كل سنواتي المدرسية لم أدخل مختبرا ، لأن التعليم آنذاك كان غير متنبه لأهمية المختبرات .
3- في سنتي الجامعية الأولى قال أستاذ محاضر أن كل ما تفعله الجامعة أنها تشق للطالب ممرا في غابة كثيفة مترامية . وعليه وحده يقع عبء معرفة ما على الجانبين وفي عمقها . ما يقوله الواقع الآن أن طلبة الجامعة ، وبعد التخرج ، لا يعبأون باكتشاف الغابة فقط ، ولكنهم يغادرون ممرها ، حتى إذا فكروا في العودة إليها صعب عليهم معرفة الممر ذاته .
4- أخيرا ، وحين تسلمت عملي معلما ، العام 62 ، سلموني الكتب المقررة وقالوا لي : دَرِّسْ . قال مدير المدرسة أن تعليمات مكتب التربية تقضي بوجوب تحضير الدرس مكتوبا في دفتر يعرف بدفتر المعلم . ولأني أدرس مادتي الرياضيات والفيزياء ، كان علي حل المسائل حلا نموذجيا ، واصطحاب الدفتر إلى الصف ، ليكون مرجعيتي . ولأنني رأيت أن هذا الأسلوب يصنع مني جهاز إرسال ، ويمنعني من التفاعل مع الطلاب ، رفضت تطبيقه . وظل التوجيه ، فصلا بعد فصل ، وسنة بعد سنة ، ينبهني إلى ضرورة التحضير والدفتر واصطحابه . تكرر ذلك كل سنوات عملي ، وهي 12 سنة – فصلت في العام 74 فصلا أمنيا – .
وإذن ، ولأن المعلم يشكل أحد أهم مكونات العملية التعليمية ، فإن أي تفكير بإنقاذ التعليم ، ووقف حالة انحداره ، لا بد وأن يكون المعلم محوره . ومقارنة بالملاحظات السابقة يمكن ملاحظة ، وبسهولة ، حالة التردي ، التي هبط إليها المعلم ، وفي كافة المستويات .
بداية يمكن ملاحظة حالة التردي لأحواله الاجتماعية ، وفقدانه للاحترام المجتمعي الذي حظي به في عقود الأربعينات والخمسينات ، وحتى الستينات . انتقل المعلم من دخل وراتب مريح ، إلى دخل يحرمه من إمكانية مواصلة الحفاظ على مظهره اللائق من جهة ، ويجبره على البحث عن وظيفة ثانية ، تتعارض في أحيان كثيرة مع وظيفته كمعلم ومربي ، ولتطيح بما كان قد ترسخ له من هيبة ، وما تبقى له من احترام ، خصوصا من جانب تلامذته وأهاليهم من جهة أخرى . حالة التردي هذه أطاحت بثنائية الخوف – الاحترام ، التي حكمت العلاقة بين المعلم والطالب ، في الحقب السابقة . أكثر من ذلك أدت إلى انقلاب في هذه العلاقة . فقد تحول تعدي الطلاب العنيف على معلميهم ، وبمسنادة الأهل ، إلى ظاهرة مزعجة ومتفاقمة . وأصبحت السخرية من المعلم ، في الصف وفي ساحة المدرسة ، ومن ثم إعاقته عن تأدية واجبه ، هي الأخرى ظاهرة مقلقة .
ولأن وظيفة التعليم تتطلب تطويرا مستمرا لمعارف المعلم ، الخاصة بمادته ، والأخرى العامة ، ولأن هذا التطوير يستوجب اقتناء الكتاب والمطالعة ، فإن ضعف الراتب ، وعدم توفر الوقت ، بسبب الوظيفة الثانية ، شكل سدا أمام مثل هكذا رغبة ، إن توفرت ، في التطور . ولأن التوقف عن التطور يعني التراجع ، فقد بات التعليم يواجه مشكلة . مشكلة تتفاقم وتتحول إلى معضلة ، إن لم يكن إلى علة .
لكن نهج التلقين لا يوفر الحل لهذه المشكلة فقط ، بل ولكل المشاكل الأخرى ، قديمها المزمن ، وحديثها المستجد . فالتلقين لا يتطلب أي تطوير ، ولا حتى إلى التخصص . وكثيرة ، في مدارسنا ، هي الحالات التي يوكل فيها للمعلم تدريس مادة بعيدة عن مادة تخصصه . وتعدد أعذار الوزارة لا يغير من بؤس ومرارة هذه الحقيقة . وأثناء عملي معلما زاملت عددا من هؤلاء . فالتلقين يحتاج إلى إعداد المعلم لدفتره إعدادا جيدا ، لينفث ما قام بتحضيره أمام الطلاب ، استمعوا إليه أو لم يستمعوا سيان . فهم في الأول والآخر مطلوب منهم حفظ المقرر عن ظهر قلب .
وتبدو هذه المسألة – عدم تطور المعلم – معضلة عسيرة الحل ، مع أول بادرة تفكير بالتحول عن نهج التلقين إلى النهج الحواري . ذلك أن أبسط متطلبات الأخير تتمثل في حيازة المعلم على معارف واسعة ، ليس في مادة الدرس ، موضوع الحوار ، فقط ، ولكن أيضا في الموضوعات العامة . فالمعلم هنا ، وحتى يضمن تفاعل الطلاب ، فالوصول إلى النتيجة المرجوة ، يجب أن يكون واسع الأفق ، متفوقا من الناحية المعلوماتية ، بارد الأعصاب ، وشديد الثقة بالنفس ، وهو ما توفره سعة المعرفة وغزارة المعلومات ، والتدرب على استعمالها بالصورة الصحيحة .
وخلاصة القول أن الإقلاع عن النهج التلقيني ، والنزول إلى مدارج الحواري ، يتطلب ليس الاعتناء بالمعلم من ناحية منحه راتبا يوفر له ولعائلته حياة كريمة ، أو من ناحية استعادة مكانته الاجتماعية ، أو من ناحية إعادة تصحيح العلاقة بينه وبين طلبته وأهاليهم ، ولكن أيضا من ناحية إعادة تأهيله معرفيا ، تأهيل يمكنه من القيام بمهمته الجديدة على نحو مقبول .
ومثلما كان التطوير الإداري ، الوزارة بأقسامها المتعددة ، مديريات التربية ، التوجيه والإرشاد التربوي ، مديرية المناهج ، مديرية الامتحانات العامة ، الإدارات المدرسية ، مثلما كان هذا التطوير في الماضي خادما لنهج التلقين ، يتوجب إحداث ثورة تطوير لهذه الإدارات ، تجعل منها خادمة للنهج الحواري البديل . وبديهي أن ثورة تطوير كهذه ، لا بد أن تطال المناهج قبل أي شيء آخر .
البيئة الحاضنة :
وفي مجتمعاتنا حالة من الفخر ، غير المفهوم . بأن الناس لا يقرأون . وأن سنوات تمر على خريج الجامعة ، لا يمسك فيها كتابا . وينتقل هذا الحال من خانة غير المفهوم إلى خانة المقلق والمستنكر ، حين يندرج على نسبة من أساتذة الجامعات أنفسهم . ومخاصمة الكتاب لا تعني فقط عدم تجديد المعلومات ، بقدر ما تعني ضياع ما سبق وأن تحصل منها . وهي تعني مخاصمة الثقافة ، الأدب بكل فروعه : القصة والرواية والملحمة والمسرحية والشعر . وتعني مخاصمة الفنون بكل تلاوينها : الموسيقى والغناء ، الرسم والنحت والتمثيل ....الخ . باختصار تعني مخاصمة للتراث الإنساني برمته . فما المتوقع أن يكون الناتج الإنساني من كل هذا ، غير فراغ في العقل ، يجعله جاهزا لاستقبال الخرافة والتفاعل معها ، و بلادة في الإحساس ، تجعل العنف وسيلة محببة في التعامل ، وجفاف في الروح ، يغلق أي فسحة للتعامل الإنساني ......الخ .
وإذا أضفنا لكل ذلك ، ما هو حادث على أرض الواقع ، من تصنيف حاسم وحازم ، بات وقاطع ، واضح وبَيِّن : هذا حلال ، وذاك حرام ، وهذا فعل كفر ، وذاك فعل إيمان ، وهذا تقرب إلى الله ، وذاك ابتعاد عن رحمة الله ......الخ ، فيمكننا أن نتصور نوع الفكر والثقافة الحاضرة لملء فراغ العقل ذاك .
إذن وبعد كل ما سبق هل يفاجئنا أن العلاقات داخل الأسرة ، وفي الحارة والحي والقرية والمجتمع ، ما زالت هي هي كما كانت في الأربعينات والخمسينات ، عمادها نهج التلقين ، والابتعاد عن الحوار ، وتقوم على ثنائيات : الأمر والطاعة ، الخوف والاحترام ؟ . وأن هكذا حاضنة للمدرسة لا تفرز غير تثبيت لنهج التلقين ، عماد نظام التعليم ، بما يعكسه من تقييد للعقل ؟، من شل لحركة العقل ؟ من نفي كلي للعقل ؟ من خسارة ثروة غدت هي الثروة الأساس للشعوب المتقدمة ، وتلك المتطلعة للتقدم ، وهي ثروة العقول ؟
خلاصة :

انحدار التعليم واقع قائم ، وحقيقة معترف بها . ونتيجة ذلك فإن خطر الانزلاق إلى كارثة هو الآخر بات حقيقة ، واضحة ومن ثم متوقعة عند البعض ، وخافية ، مستترة عند آخرين . والكارثة لا تتمثل في أن الأمة العربية باتت غير قادرة على المساهمة في مسيرة الحضارة الإنسانية . الكارثة في احتمالية خروج الأمة كلها من التاريخ . فلا يخفى على أحد الآن أن أمم العالم المتقدم تطير بسرعة صاروخية نحو رحاب المستقبل ، بينما عالمنا العربي يعبر المستقبل على ظهر بعير . ثورات الشباب العربي كشفت عري هذا الانحدار . فلتحقيق شعارها :" عيش ، حرية ، كرامة إنسانية ، عدالة اجتماعية " ، ظهرت الحاجة لخطط وسياسات طموحة للتنمية . وظهر أن انحدار التعليم راكم من المصاعب ما قد يحول حلم التنمية إلى سراب . ويندفع السؤال : هل تملك الشعوب العربية ترف استمرار حالة الانحدار هذه ، فالقعود في انتظار الكارثة ؟ وإذا انتقلنا من عام العرب إلى خاص فلسطين ، يصبح السؤال : هل يملك الشعب الفلسطيني ، وهو الشعب المعرض ، حقيقة لا افتراضا ، لخطر الفناء ، وليس الخروج من التاريخ فقط ، هل يملك ترف استمرار حالة الانحدار في التعليم ؟ والجواب بالنفي للخاص الفلسطيني والعام العربي . لا خيار أمام الشعب الفلسطيني غير خيار وقف حالة الانحدار هذه ، فبدء مرحلة الصعود في التعليم . فالشعب الفلسطيني ربما يكو أكثر شعوب العالم ، وليس العالم العربي فقط ، احتياجا لتنمية وتطوير ثروته المتمثلة في عقول أبنائه . واستمرار انحدار التعليم لا يفعل غير مواصلة تبديد هذه الثروة العظيمة ، والذي هو في أشد حالات الاحتياج إليها .
قد يقول قائل : ولكن الصراع مع إسرائيل يقترب من النهاية . والسلام ، رغم العقبات ، قادم لا محالة . وإذن فإن تعليق الفشل الفلسطيني ، المتكرر والمتواصل ، في الصراع مع الحركة الصهيونية ، ثم مع إسرائيل ، على شماعة انحدار التعليم ، سيفقد مبرراته . لكن ذات القائل يعرف أن التوصل إلى السلام لا ينهي مشاكلنا ، بل ربما يبدؤها . ففلسطين حينها ستحتاج إلى البدء ، فالإسراع في التمنية . وقبل ذلك ستبقى حالة التنافس مع الجارة قائمة . لكنه سيأخذ طابع الصراع الحضاري ، العلمي ، بديلا للصراع العنيف القائم . والتقاعس عن خوض هذا الصراع يعني الإقرار ، فالرضا ، بحالة البون الحضاري الواسع القائم الآن . والأخطر الاستسلام لخطر استمرار بقائنا حطابين وسقاءي ماء لهم ، تصديقا لحكم التوراة .
إذن فنحن لا نملك خيارا غير خيار إصلاح التعليم ، تمهيدا لبدء مرحلتي الصعود فالانطلاق بسرعات تقارب ، ثم تتساوى مع ، وأخيرا تتفوق على سرعات الآخرين ، وبالأخص إسرائيل .

والإصلاح يعني معالجة جدية لمختلف العوامل التي تسببت ، وتتسبب ، في انحدار التعليم . ولأن نهج التلقين ، عماد نظام التعليم من قبل ومن بعد ، ولأنه علة العلل ، لأنه المرض العضال الذي يفتك بجسد التعليم ، فإن عملية الإقلاع عنه ، عملية استبداله بنهج الحوار ، هي الخيار الوحيد المتاح . هي الخيار لضمان البقاء ، ولضمان عدم خروجنا من التاريخ . ولنتذكر أن ضمان نجاح عملية الإقلاع عن نهج التلقين ، يتطلب ، ويوجب علاج ، فالتخلص من كل عوامل الانحدار الأخرى .
العملية صعبة ومعقدة ، بسبب التراكم الضخم للسلبيات – المسماة بالتطوير - ، والتي حدثت لكل فروع عملية التعليم ، والجهاز الوزاري ، كما سبق وأشرنا . ولأنها كذلك ، فهي تحتاج لجهود مضنية ، وتوفير طاقات وإمكانيات ضخمة – مالية بشكل خاص – . ولأنها بهذا التعقيد والصعوبة ، فقد تُرى على أنها مستحيلة ، أو غير ممكنة . وإذا ما وضعنا في الاعتبار ، حقيقة أننا لا نملك خيارا آخر ، فستنتقل من خانة الاستحالة ، إلى خانة الممكن . فقط نحتاج إلى قرار يعتمد هذا الخيار . وبعده يأتي دور الإرادة الصلبة والعزيمة الصادقة والقوية ، وهي موجودة . إرادة القرار ، وعزيمة التنفيذ يمكنها أن توفر الاحتياجات الكثيرة ، والمالية بالأساس ، والعون من الأصدقاء ، وهم كثر . إرادة القرار تعيد ترتيب الأولويات . وإعادة ترتيب كهذه ستوفر ما يبدو أن توفيره من سابع المستحيلات .



#عبد_المجيد_حمدان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تلك نظم ولى زمانها
- تقاطعات بين الديان 2 صفات الآلهة
- تقاطعات بين الأديان 1 عبد المطلب ( جد الرسول ) هل كان نبيا
- حوار أملاه الحاضر 19 عدالة الإسلام 3 فلسطين اللبن والعسل
- حوار أملاه الحاضر 18 عدالة الإسلام 2 العبودية
- حوار أملاه الحاضر 17 العدالة في الإسلام 1 الغنائم
- من فتنة عثمان إلى فتنة مرسي
- حوار أملاه الحاضر 16 خروج مؤقت آخر عن المسار
- عبد المجيد حمدان- كاتب وباحث واحد قادة اليسار الفلسطيني- في ...
- وبات لزاما عليتا التصرف كدولة
- حوار أملاه الحاضر 15 الشريعة وتطبيق الحدود 5 خروج مؤقت عن ال ...
- حوار أملاه الحاضر 14 الشريعة وتطبيق الحدود ...حد الجنايات 4 ...
- حوار أملاه الحاضر 13 الشريعة وتطبيق الحدود ...حد الجنايات 3 ...
- حوار أملاه الحاضر 12 الشريعة وتطبيق الحدود ....الجنايات 2 حد ...
- قراءة في ثورة الشباب المصري 18 الإخوان ودولة الخلافة
- حوار أملاه الحاضر 11 الشريعة وتطبيق الحدود حد الجنايات 1
- حوار أملاه الحاضر 10 الشريعة وتطبيق الحدود ملك اليمين والمجت ...
- حوار أملاه الحاضر 9 الشريعة وتطبيق الحدود ....زنا الإماء
- حوار أملاه الحاضر 8 النبي وتطبيق حد الزنا
- حوارأملاه الحاضر 7 الشريع وتطبيق الحدود حد الزنا 2


المزيد.....




- قائد الجيش الأمريكي في أوروبا: مناورات -الناتو- موجهة عمليا ...
- أوكرانيا منطقة منزوعة السلاح.. مستشار سابق في البنتاغون يتوق ...
- الولايات المتحدة تنفي إصابة أي سفن جراء هجوم الحوثيين في خلي ...
- موقع عبري: سجن عسكري إسرائيلي أرسل صورا للقبة الحديدية ومواق ...
- الرئاسة الفلسطينية تحمل الإدارة الأمريكية مسؤولية أي اقتحام ...
- السفير الروسي لدى واشنطن: وعود كييف بعدم استخدام صواريخ ATAC ...
- بعد جولة على الكورنيش.. ملك مصر السابق فؤاد الثاني يزور مقهى ...
- كوريا الشمالية: العقوبات الأمريكية تحولت إلى حبل المشنقة حول ...
- واشنطن تطالب إسرائيل بـ-إجابات- بشأن -المقابر الجماعية- في غ ...
- البيت الأبيض: يجب على الصين السماح ببيع تطبيق تيك توك


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عبد المجيد حمدان - انحدار التعليم إلى أين ؟ وإلى متى ؟ .....التلقين وطريق الخروج من كهوف الماضي