أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - يحيى محمد - عذاب الآخرة والحفر في الصخر!















المزيد.....



عذاب الآخرة والحفر في الصخر!


يحيى محمد

الحوار المتمدن-العدد: 4424 - 2014 / 4 / 14 - 03:07
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


لقد جاءت هذه الدراسة ونحن بصدد بحث تنافس وتزاحم المعايير المعتمدة في الفهم الديني وفقاً لعلم الطريقة.
فاهم المعايير المعتمد في الفهم ثلاثة: المنطق الاستقرائي والبداهة الوجدانية والواقع. وان الاول منها محايد، فهو كاشف عما يتضمنه النص خلافاً للاخيرين، فهما من المعايير والقبليات المضمونية غير المحايدة. وقد يحصل بين الطرفين شيء من التعارض والتزاحم، فلا بد من ترجيح الاخيرين على الاول اذا ما اتصفا بالقطع. اذ المنطق الاستقرائي كاشف عن معنى النص، ويتفاوت كشفه ضمن مراتب معرفية متفاوتة. ولو افترضنا انه يحقق اعلى المراتب وانه يعارض في الوقت ذاته البداهة الوجدانية او حقائق الواقع، من دون امكانية لأي توجيه، فسيكون ذلك على حساب مصداقية النص. اذ القطعية الواردة في الطرفين مختلفة، فهي في الطرف الاول تعبر عن حقائق موضوعية هي الاصل المعتمد عليه لدى سائر المعارف والحقائق. اما القطعية الواردة في النص فهي كاشفة عن معنى النص دون ان تكشف بالضرورة عن الحقائق الموضوعية الخارجية. لهذا كان التعارض المستقطب بينهما ممكناً من الناحية النظرية، ونتيجته تفضي الى اسقاط مصداقية النص دون الطرف المقابل.
فمثلاً عندما يتعارض نص الحديث او الرواية مع حقيقة الواقع او الوجدان فذلك يستدعي رفض الرواية لا الحقيقة الواقعية او الوجدانية. ومثل ذلك انه عندما تعارضت نصوص الكتاب المقدس (الانجيل والتوراة) مع بعض الحقائق العلمية المؤكدة فقد افضى الامر الى التشكيك بمصداقية النص دون الحقائق الواقعية. وعلى الاقل ظهرت محاولات لتأويل النص لينسجم مع تلك الحقائق.
اما مصداقية الواقع والبداهة الوجدانية فهما متعاليان عن التشكيك مبدئياً او من الناحية الكلية. فكل ما يمكن نقده في هذا المجال هو نزع ان تكون بعض المصاديق من حقائق الواقع المؤكدة، او من البداهة الوجدانية. لكن لو ثبتت حقائق الواقع بشكل مؤكد، ومثلها لو ثبتت بعض القضايا الوجدانية بانها بديهية وقطعية، فان ذلك يجعلها متعالية عن النقد من مصادر المعرفة الاخرى قاطبة. ولو حصل ذلك لافضى الامر الى التشكيك بالمعرفة قاطبة. في حين يختلف الحال عند التعامل مع النص كمصدر معرفي، فهو ليس متعالياً عن النقد، ولا ان التشكيك به او طرح مصداقيته سيؤثر سلباً على سائر مصادر المعرفة، كما انه ليس مصدراً للحقائق الاساسية، بل هو نتاج هذه الحقائق، كتلك المتمثلة بالبداهة الوجدانية والواقع.
وعليه نواجه احياناً تعارضاً بين تلك المعايير عند التطبيق على الفهم الديني، ابرزها التعارض بين النصوص الكاشفة عن شدة عذاب الاخرة وطول مدته كما يدل عليها الاستقراء النصي من جهة، وبين العدالة الالهية كما تقرها البداهة الوجدانية وتدعمها النصوص؛ بل وتشير الى اكثر منها بتمام الرحمة من جهة ثانية.
فمن الناحية القرآنية ان لعذاب الاخرة اشكالاً متنوعة ومريعة بالفعل ويجمعها الخلود في النار، ونحن كبشر حينما نقارنها بحجم الجريمة لا نجد بينهما تناسباً، سواء من حيث نوع العذاب او طول مدته. فمن اشكال عذاب النار: تبديل الجلود وصهرها والغلي في البطون وصهر ما فيها وشوي الوجوه وتقطيع الامعاء وصب ما فوق الرؤوس من عذاب الحميم1. واصحابها فوق كل ذلك مسجونون في النار لا يتمكنون من الخروج منها2..
وهنا يتبين كم هو شائك هذا الموضوع، وانه ليس لدينا معول نحفر به الصخر غير الاظافر، ففيه تتعرض الاقلام المؤمنة للكسر دون التمكن من كتابة شيء، لكن حسبنا ان نحاول ما استطعنا..
بداية نستبعد الرؤى التي قدمتها المناهج الاسلامية، فالرؤية البيانية لا تعترف بالمشكل المطروح، ولديها ان النص هو ما يحكم غيره فلا يعارضه عقل ولا وجدان، وبالتالي فعذاب الخلود باشكاله المروعة حق وعدل اقتضته ارادة الله تعالى، ولا راد لحكمه، كما لا حكم للعقل قبال حكم النص او الشرع. ويصب في هذه النتيجة ما تراه الاشاعرة وفق منطقها العقلي في حق الملكية، فمن الناحية العقلية ترى بان لله حق التصرف بملكه ما يشاء، وبالتالي يصبح حكم النص هو صاحب القرار النهائي دون العقل البشري، طالما تم التسليم عقلاً بان الله هو المالك المطلق بلا شريك. فبحكم هذا القرار يستقيل العقل عن منصبه. ومن ثم فالنتيجة هي ذاتها كما تقرره الرؤية البيانية، من دون ان يكون هناك تعارض بين نصوص العذاب والعدالة الالهية. لكن من الناحية الوجدانية ان منطق الاشاعرة غير مقنع وهو يصطدم باساسيات التكليف، كالذي فصلنا الحديث عنه في (العقل والبيان والاشكاليات الدينية). ولدى النظام الوجودي ان مسألة العدالة هي مسألة مجازية لا تقف عقبة امام حتميات الوجود، وبالتالي فان تبرير العذاب يتم وفق اللوازم العلية كما يراه الفلاسفة، او وفق التوابع الاسمائية ومقتضيات الوجود والعين الثابتة كما يراه العرفاء، كالذي فصلناه في (الفلسفة والعرفان والاشكاليات الدينية). يبقى لدينا منطق الحق الذاتي كما يتمثل بالمعتزلة والزيدية والامامية الاصولية، فهو منطق يقر بالحق الذاتي والعدالة الالهية من دون اعتبارات خارجية، لكن اتباعه لم يقيموا للمسائل الانسانية اعتباراً، ومنها مسألتنا المطروحة، حالهم في ذلك حال بقية الفرق والرؤى التراثية، رغم انهم اثاروا مشكلة التعارض بين العقل والنص في الكثير من القضايا التي طرحها الاخير.
ونقرأ احياناً من يقول بانه لا بد من هذا العذاب العظيم لتتطهر به النفوس، وهو جواب ينطوي على الاقرار ضمنياً بانه ليس لله قدرة وسعة ليفعل شيئاً غير هذه الوسيلة للتطهير، مما يتنافى مع المسلمات الدينية والوجدانية. او نقرأ بان العدالة تقتضي هذا العذاب بدلالة ان الداخلين في النار لو ردوا الى الحياة لعادوا الى ما كانوا عليه دون تغيير، بمعنى انهم في كل مرة يعودون الى جحودهم وجرائمهم بلا انتهاء، ويُستدل على ذلك بقوله تعالى: (())، مع ان الاية الكريمة لا تفيد تكرار العودة، فهي تتحدث عما لو عادوا من جديد. يضاف الى انه هل من الحكمة تعذيبهم؟ واين الاحسان والعفو؟ وعلى الاقل كان يكفي اماتتهم والتخلص منهم. ثم ما هذا النوع من البشر الذي لا يتوب ولا يستعبر من شدة العذاب طوال الدهر كله.
وعليه فنحن نستبعد هذه الرؤى التي لا تعترف بالمشكلة المطروحة حول تعارض النصوص مع البداهة الوجدانية. فصور العذاب المنصوص عليها تتجاوز مبدأ العدالة ولا تنسجم مع الوجدان الفطري، كما لا تنسجم مع عموميات النص القرآني التي تؤكد بان الله لا يظلم الناس شيئاً وان كان مثقال ذرة، فمن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يُظلمون. وفوق كل هذه العدالة الشاملة ان الله يضاعف الحسنات وانه ارحم الراحمين3.
فقد يقال: كيف ان الله ارحم الراحمين وهو يعذب عياله بالصور الفظيعة من العذاب، لا سيما وهو غني عن العالمين؟ فهي الشبهة التي سبق اليها ابن عربي وغيره كما سنعرف، وهي من ابرز الشبهات التي تراود عقل المسلم غير المقلد اليوم. كما ان الملحدين كثيراً ما يثيرون هذه الشبهة ايضاً. وبطبيعة الحال لا يمكننا تأويل الايات القرآنية آية فآية كما يفعل الكثير ازاء الموضوعات التي يواجهونها، فذلك يتنافى مع النهج الاستقرائي الذي نلتزم به. فليس امامنا اية او ايتان ليمكن تأويلها او ردها الى علم الله تعالى، طالما انها تتصادم مع العدالة والرحمة كما تنطق بها الايات الكريمة. فالموضوع الذي نواجهه هو موضوع عام وليس جزئية محددة او مقطع او اية معينة، وبالتالي لا بد من علاج اخر ربما يتسم بشيء من المنطقية والاقناع قدر الامكان. وسنبدأ تحليلنا بحسب النقاط كما يلي:
1ـ نعترف بان ما ورد من نصوص يراد منها ذات المفاهيم التي نتصورها ونتخيلها من صور العذاب المريعة. فهذا امر مفروغ منه وفق الدليل الاستقرائي، لكن ما نود طرحه هو السؤال التالي:
هل من الضروري ان يكون المقصود من هذه المفاهيم هو حكاية الواقع الفعلي، ام ان دلالاتها المفهومية لا تتضمن المصداق المطابق. فمثلما ان العلاقة المفهومية تحتاج الى دليل، فكذا هو الحال مع العلاقة المصداقية كالذي فصلناه في (منطق فهم النص). فالمفهوم واضح وميقن من الناحية الاستقرائية، لكن مسألة المصداق شيء اخر مختلف، فهو يحتاج الى تبيان ودليل. ووفقاً لما جاء في الكتاب المشار اليه ان الفارق بين الاشارة والايضاح او التفسير هو ان الاخير يحتاج الى تبيان كل من المفهوم والمصداق. ولعل الشاهد في الموضوع قوله تعالى: ((وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى))4، فالمفهوم واضح لا شك فيه، وقد اتفق حوله المسلمون، اما تعيين المصداق فيحتاج الى اجتهاد وتحليل. اذ كيف يمكن تصوير الرمية الالهية واقعاً، وقد اختلف حولها المفسرون؟ فلو كان النص يفيد بان الرمية المنسوبة الى زيد مثلاً هي ليست لزيد وانما لعمر، فقد يمكن تصورها بشكل ما من الاشكال، أما الرمية الالهية وهي امر غيبي فتحتاج الى تبيان. وكذا نقول ان صور العذاب واضحة المفهوم، وكان من الممكن اخذها على ظاهرها لولا انها تصطدم مع اصول دينية وعقلية اساسية، كما انه كان من الممكن تأويلها بشكل ما من الاشكال لو كانت تعبر عن اية او ايتين مثلاً، وعلى الاقل يوكل المعنى الى علم الله تعالى، أما وانها كثيرة للغاية وكلها تدل على مفهوم مشترك عام هو فظاعة العذاب وطول مدته وفقاً للدليل الاستقرائي، فهذا ما لا يمكن تأويله من حيث المقاطع والجزئيات. وعليه فمشكلتنا ليست مع المفهوم ذاته، بل مع مصداقه، او ان مشكلتنا ليست مع الاشارة بل مع ايضاحها وتفسيرها.

2ـ لنأت بمثال من خبراتنا البشرية حول تعاملنا مع اطفالنا. فعادة ما يستخدم البشر اسلوباً متقارباً في التعامل عندما يراد تحذير الاطفال من فعل بعض الاشياء الخطرة مثلاً. فقد يكون تهديد الطفل بضربه بالعصى فيما لو لوحظ انه يحاول مرات ومرات للاقتراب من شيء خطر ليس من السهل تجنبه. وقد يصل التهديد الى اكثر من ذلك في مواقف عالية الخطورة. فمع اننا نريد من التهديد زرع صورة خيالية للعقوبة والعذاب في نفس الطفل ليرتعب ويبتعد، وهو ما نبتغيه ونقصده من التهديد بلا حرف ولا عدول، بغية الحفاظ عليه ودفع المكروه عنه دون اي غرض اخر، فاننا لا نقوم عادة بمعاقبته بدرجة المفهوم فيما لو فعل الطفل ما نهيناه عنه. وكل ما يمكن فعله – في الغالب - هو معاقبته عقاباً خفيفاً مع التهديد ذاته ليرتدع ويكف. فهنا ان الصورة الذهنية لدى مخيال الطفل عن نوع العقوبة صادقة وفقاً للمفهوم الذي زرعناه في نفسه، وهو يتصور ان هذه الصورة يمكن ان تتحول الى حقيقة واقعة كمصداق عند فعله الاشياء الخطرة. وهذا هو غايتنا لزرع المفهوم، لكننا قد اخفينا عنه حقيقة المصداق الواقعي للاخير، واوهمناه بالمطابقة، ونحن قد قصدنا المفهوم ولم نقصد المصداق المطابق، او اننا زرعنا الاشارة ولم نرد ان يطابقها الايضاح والتفسير، فالايضاح الحقيقي دائر لدى المتكلم دون المتلقي، فالاخير يتوهم طبيعة الايضاح وفق ما يطابق المفهوم، وعلى الاقل انه قد يحتمل ذلك، وهو على خلاف ما لدى المتكلم حيث الايضاح يخالف المفهوم.
وعادة ما يمارس البشر هذا الدور التربوي من مخالفة الايضاح للمفهوم، وقد لا نجد من لا يمارس الكذب على الصغار عند المواقف الخطرة للتخويف من الوقوع فيما لا يحمد عقباه، بل لا اظن ان هناك شخصاً لا يبالغ في تصويره الاشياء لصغاره كي يلفت انتباههم ويغذي فيهم سعة الخيال والاهتمام الذي يحتاجونه، واحياناً نوعاً من الخيال الكاذب فيحكي لهم قصصاً خيالية عن حوارات الحيوانات مثلاً ليستمتعوا بها، وهي ما تغذي مخيالهم وتنمي قابلياتهم.. فنحن كبشر نمارس مثل هذا الدور ايضاً لدى مجاملاتنا الاجتماعية، ولولا هذه المجاملات التي يكثر فيها الكذب والمبالغة لكان من الصعب على الناس ان يتحابوا ويتعاونوا ما لم تضطرهم الحاجات، وكما يقال (الكذب ضرورة اجتماعية).
ولله في خلقه شؤؤن وحكم لا تعد ولا تحصى..

3ـ لنطبق المعنى السابق على ايات العذاب الشديد. فبداية نحن ندرك ان الغرض من هذه التهديدات والتحذيرات هي لمنعنا من ان نسلك طريقاً هو في جميع الاحوال ليس من مصلحتنا دنيا واخرة. ولو لم يكن هذا التهديد شديداً لمالت نفوسنا الى فعل ما نهينا عنه.. فالبشر ترتدع بالخوف من العقوبة اكثر مما ترتدع باحكام العقل الواضحة عادة. فالسرقة قبيحة لدى العقول البشرية، والفطرة تدل عليها من دون جهد للتفكير في اغلب حالاتها، لكن ذلك لا يكفي للارتداع منها إن لم تحصل عقوبات متخيلة عند فعلها وممارستها عادة. لذلك هناك غرض محدد وقصد ثابت للتهديدات الالهية، وهو الارتداع، ولولاه لفعل الناس كل ما يهوونه ويشتهونه سراً وعلانية. فهنا ما زلنا في حدود المفهوم والاشارة، اما المصداق الواقعي لهذا المفهوم او الايضاح فنفترض فيه عدم المطابقة لاسباب وجدانية وقرآنية ودينية. والمشكلة التي تواجهنا بهذا الصدد هي مشكلة الكذب. فعندما يكون المصداق الواقعي حول العذاب الشديد مخالفاً للمفهوم الالهي، فاننا سنقع في محذور هذه المشكلة لجريان المفهوم خلاف الواقع. فالكذب هو الإخبار بخلاف حقيقة الامر، وبالتالي كيف نتصور بان الله تعالى يكذب علينا بمثل هذا الخداع والايهام مهما عظمت الغاية؟ فهل الغاية تبرر الوسيلة يا ترى؟

4ـ للكذب معان عديدة من الناحية اللغوية، اقربها فيما نحن بصدده معنيان، فكما جاء في لسان العرب ان الكذب يختص بالاقوال، وهو ضد الصدق، كما يأتي بمعنى الخطأ، لان الاخير يشبه الكذب في كونه ضد الصواب، وإن افترقا من حيث النية والقصد، لأن الكاذب يعلم أن ما يقوله كذب، والـمُخطِـئ لا يعلم. ومع ذلك استعملت العرب الكذب في موضع الخطأ، ومنه قول عمران لسمرة حين قال: الـمُغمى عليه يصلّي مع كل صلاة صلاة حتى يقضيها، فقال: كذبت ولكنه يُصلّيهن معاً، أي أخطأت5.
وعلى هذه الشاكلة من معنى الخطأ جاء في بعض الروايات ان عبد الله بن الزبير سأل أباه: إني لا أسمعك تحدّث عن رسول الله (ص) كما يحدّث فلان وفلان؟ فأجابه الزبير: والله يا بني ما فارقته منذ أسلمت ولكني سمعته يقول من كذب عليّ فليتبوأ مقعده من النار، والله ما قال متعمداً وأنتم تقولون متعمداً6 .
وهذا يعني ان الزبير كان يرى بان الكذب في حديث النبي (ص) هو بمعنى الخطأ. وكثيراً ما ورد هذا المعنى لدى اتهام بعض الصحابة للبعض الاخر. ومن ذلك ما رواه ابن عبد البر من أنه جاء في حديث مشهور ان سمرة قال: كان للنبي سكتتان يعين في الصلاة عند قرائته، فبلغ ذلك عمران بن الحصين فقال: كذب سمرة، فكتبوا إلى أبي بن كعب، فكتب قد صدق سمرة. وعن طاوس أنه قال: كنت جالساً عند ابن عمر فأتاه رجل فقال أن أبا هريرة يقول أن الوتر ليس بحتم فخذوا منه ودعوا، فقال ابن عمر كذب أبو هريرة؛ جاء رجل إلى رسول الله فسأله عن صلاة الليل فقال مثنى مثنى فإذا خشيت الصبح فواحدة. كما كذّبت عائشة ابن عمر في عدد عمر رسول الله (ص) وفي أن الميت يعذب ببكاء أهله عليه. وقيل لعروة بن الزبير ان ابن عباس يقول أن رسول الله لبث بمكة بعد أن بعث ثلاث عشرة سنة، فقال كذب إنما أخذه من قول الشاعر. وعن الحسن بن علي أنه سئل عن قول الله عز وجل ((وشاهد ومشهود)) فأجاب فيها، فقيل له أن ابن عمر وابن الزبير قالا كذا وكذا خلاف قوله، فقال كذبا. وعن عبادة بن الصامت أنه قال كذب أبو محمد - وهو الصحابي مسعود بن أوس - في وجوب الوتر، حيث استشهد عبادة بقول رسول الله خمس صلوات كتبهن الله على العباد ... الحديث7.
هكذا ان الكذب يأتي بمعنيين احدهما قصد الإخبار بخلاف حقيقة الامر، وهو المعنى الذي يسود حالياً، والاخر بمعنى الخطأ في تصوير الواقع من غير قصد لهذا الايهام، وهو المعنى الذي تشير اليه المعاجم اللغوية والذي يحدثنا عنه التراث الاسلامي كثيراً. فقديماً كان المتعارف عليه كلا المعنيين للكذب، في حين اكتفى عصرنا الحديث باستخدام المعنى الذي يتضمن القصد والتعمد فحسب.

5ـ لا شك ان ما يرتبط ببحثنا هو المعنى الاول للكذب، اي ذلك المتضمن للقصد والايهام. واذا كان هذا المعنى مذموماً استخدامه في اغلب الحالات فانه قد يتوجب استعماله احياناً دون ادنى خلاف بين البشر. فلو توقف انقاذ نفس بريئة من القتل على الكذب المتعمد لتوجب ولاصبح الصدق مذموماً، وهو المثل الذي يستشهد به علماء الاسلام عادة.
مع ذلك فان لفظ الكذب في الصورة المخيالية للبشر تفوح منه رائحة القبح، فاغلب مصاديقه تصب في هذه النتيجة. فلو قلنا بان فلاناً قد كذب او انه كاذب فالصورة المتخيلة عنه او عن فعله هي ذات دلالة سلبية او قبيحة، رغم ان حالة الكذب هذه قد تكون ممدوحة وواجبة، وان ما وصفناه بانه قد كذب وكاذب هو ليس بالمعنى السلبي، بل العكس هو الصحيح، ولو اردنا توجيه المعنى لقلنا انه صادق، اي صادق النية في الانقاذ من القتل مثلاً. فهو كتوجيه المثل الجاهلي لمقولة (انصر اخاك ظالماً او مظلوماً) وهو ان نصره في حالة ظلمه انما يكون على نفسه الظالمة، فبحسب الحديث ان هذا المثل لم يلغه النبي الاكرم، بل ابقاه ووجهه الوجهة المناسبة لينسجم مع الوجدان والدين، كالذي جاء في صحيح البخاري8.
ولنفي الكذب عن الكذب حالات عديدة، منها ما رواه البخاري في صحيحه ضمن باب بعنوان: ليس الكاذب الذي يصلح بين الناس. وجاء فيه أن أم كلثوم بنت عقبة أخبرت ولدها: أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس، فينمي خيراً أو يقول خيراً) 9.
كما وردت حالات تجيز الكذب، مثلما جاء في الحديث: لا يحل الكذب إلا في ثلاث: يحدث الرجل امرأته ليرضيها، والكذب في الحرب، والكذب ليصلح بين الناس 10.
وقيل ان النبي اراد بهذا الحديث معاريض الكلام الذي هو كذب من حيث يظنه السامع، وصدق من حيث يقوله القائل 11، كقول النبي كما جاء في صحيح البخاري تحت باب المعاريض مندوحة عن الكذب: رويدك يا أنجشة (وهو اسم غلام للنبي) لا تكسر القوارير. ويقصد النساء 12. وكالذي جاء انه إِذا أَراد غزوة او سفراً ورَّى بغيرها 13. بمعنى انه قصد معنى صحيحاً غير ما يفهمه السامع.

6ـ لا شك ان بعض الحالات السابقة لا تعتبر من الكذب المتعارف عليه، كما في التورية، وان بعضها الاخر يعتبر من الكذب المقبول، فهو ذات معنى ايجابي لهذا اللفظ خلافاً للمعنى المذموم او السلبي له. لكن كلا المعنيين داخلان ضمن ذات اللفظ، وهو من المواضعات، وكان من الممكن افراز المعنى الايجابي ليصك له اصطلاح اخر يستشم منه رائحة الحسن والقبول، مثلما قد جرى على معنى الكذب شيء من التغير لينحصر في حالة المتعمد منه دون الخطأ.
فلو ان المواضعة اللفظية جعلت للمعنى الايجابي لفظاً بعيداً عن المتعارف عليه؛ لسهل تقريب العديد من المفاهيم للاذهان. فاللغة تقترن بالصور النفسية، وكثيراً ما تكون خادعة كالتي يجيد استخدامها الخطباء والسياسيون وذوي المواهب الادبية والبلاغية، وقد تكون اداة طيعة للتغطية على الجهل وضحالة العلم والمعرفة. فكثيراً ما تمارس لايهام السامع وخداعه عبر طنين الكلمات ورطانة الالفاظ. وينطبق حال الامتزاج النفسي للغة على قضيتنا المتعلقة بالاخبارات الالهية. فلا احد يجرؤ على وصف الكلام الالهي بالكذب بالمعنى الايجابي الدال على الحسن، بل لا احد يجرؤ على فعل ذلك بحق النبي فكيف بحق الله تعالى شأنه. فمثلاً ان اغلب العلماء يعتقدون بان الممارسة الفعلية للنبي كان يشوبها عدد من الاخطاء، فهو كبشر معصوم في تلقي الوحي والتبليغ، اما سائر أقواله وممارساته الفعلية فمعرضة للخطأ، كالذي تشير اليه النصوص القرآنية في مواضع عديدة، ومثل ذلك ما نقل عنه في الاحاديث؛ كقوله في تأبير النخل كما جاء في صحيح مسلم: ما أرى لو تركتموه يضره شيء، فتركوه فجاء شيصاً، فقال: أنتم أعلم بدنياكم14. فرغم وضوح الخطأ فيما تتضمنه هذه الرواية، لكن لا يجرؤ احد على القول بان النبي قد كذب بالمعنى الدال على الخطأ من غير قصد كما كان متعارفاً عليه في ذلك الوقت. وسبب ذلك ان صورة الكذب في المخيال البشري صورة تفوح منها رائحة القبح خلافاً لصورة الخطأ، فقد يوصف النبي بالخطأ ولا يوصف بالكذب رغم ان النتيجة متطابقة بين المفهومين بحسب المعنى الاخر للكذب الذي لا يتضمن القصد او التعمد.
لهذا سنختار مصطلحاً آخر دالاً على المعنى الايجابي للكذب، ولنقل انه (الايهام) المقبول عقلائياً، اي سوف نبعده عن عنوان اللفظ السابق، مثلما تم تخريج لفظ (الخطأ) من العنوان المشار اليه حسب الفهم الحالي. فكل اخبار على هذه الشاكلة هو ايهام مقبول لدى العقلاء، وبالتالي يمكن ابعاده عن دائرة الكذب. فرغم ان الايهام ينقسم الى ما هو سلبي واخر ايجابي، كما في المعاريض وغيرها من الحاجات والضرورات العقلائية، لكنه اقل كلفة من لفظ الكذب. وسيبقى المعنى السلبي له داخلاً ضمن عنوان الاخير، خلافاً لمعناه الايجابي الذي نخرجه من قائمة هذا العنوان.
وبهذا يمكن تطبيق المعنى الاخير على الكلام الالهي، وقد وظف القرآن الكريم الفاظاً لها معان تنسب لله تعالى رغم انها تستخدم لدى الناس – عرفاً - على النحو السلبي، مثل لفظ الاستهزاء والخداع والمكر، كما في قوله تعالى: ((اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ))15، وقوله: ((إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ))16، وقوله: ((وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ))17.
فلنتخيل فيما لو جاءت كلمة الكذب في الاية الاخيرة بدل المكر، اذ كيف سيكون الوقع في نفس القارئ او السامع وهو يقرأ (ويكذبون ويكذب الله والله خير الكاذبين)؟!

7ـ للايهام صور مختلفة، وقد استخدم القرآن الكريم بعضاً منها، كما هو حال ما يطلق عليه المتشابهات، فهي قد اوهمت الكثير من العلماء، كالذي يدل عليه كثرة اختلافاتهم حول تفسيرها. حتى اعتبر بعض العلماء ان الله تعمد الاتيان بالمتشابهات ليكون ذلك داعياً إلى البحث والنظر وصارفاً عن الجهل والتقليد، او لمجازاتنا بالحسنى على اجتهادنا في الكشف عن مضامينها18.
وبحكم وجود المتشابهات فانه لا غنى عن التأويل والتوجيه، وبشكل مجمل يمكن تعداد الحالات التي تعنينا من تأويل المتشابهات كالتالي:
أ- تأويل غايته قلب المعنى بتحكم نص محكم لتغيير معاني ما تشابه لدى النصوص الاخرى. فلقد سبق ان تعرضنا الى علاقة تحكم الكلي بالجزئي لدى (منطق فهم النص)، وكيف ان بعض جزئيات النص ومقاطعه تصطدم مع الكلي مما قد يستدعي اعادة النظر فيه. ولهذه القضية شواهد عديدة في القرآن، فمثلاً ان ايات الصفات التشبيهية كثيرة، وهي بكثرتها قد تولد مفهوماً معيناً حول طبيعة هذه الصفات، لكن هناك اية اعتراضية قد تفضي الى تغيير معنى فهمنا لهذه الصفات، وهي قوله تعالى: ((ليس كمثله شيء)). لذلك لجأ الكثير من العلماء الى تأويل الايات المتشابهة اية اية، وحديثاً حديثاً، ومنهم العديد من اتباع النهج البياني؛ كابن حزم الاندلسي وابن الجوزي وابن حجر العسقلاني وغيرهم.
ب- تأويل غايته الانتصار لبعض النصوص واعتبارها محكمة في قبال نصوص اخرى معارضة واعتبارها متشابهة. مثل انقسام علماء العقل الكلامي من الموقف من ايات الجبر والتفويض. ومثل ذلك ايضاً انتصار علماء التراث لبعض النصوص المتعلقة بكفر اهل الكتاب وخسارة الاخرة على حساب نصوص اخرى تظهر نجاتهم. وتأتي هذه الحالة فيما لو لم يكن من الممكن الجمع بين معاني النصوص من دون تعارض. فمع عملية الجمع ينتفي التأويل بمعناه الخاص الدال على الاخذ خلاف الظاهر، فهو اخذ بظاهر النصوص رغم ما تبدي من تعارض، ومن ثم الايهام. مثل جمعنا لنصوص الجبر والتفويض تحت مظلة تفسير واحد بلا تاويل، وجمع نصوص التشبيه والتنزيه لدى الكثير من العلماء، وفقاً لتفسير بعض النصوص للبعض الاخر.
ج- تأويل غايته اتساق الفهم بحسب توجيه قبلياتنا المعرفية، كخبراتنا الحسية وقضايانا الواقعية والعلمية، او لاغراض منطقية وعقلية ووجدانية مختلفة. وهي كثيرة بطبيعة الحال.

8ـ في حال قضيتنا حول عذاب الاخرة نجد النصوص كثيراً ما تبدي التشابه إما لتعارضها مع نصوص اخرى، وقد تكون اساسية محكمة لا تقبل التأويل، او لكونها تواجه بعض الايات التي توحي ان الحال ليس كما نتصوره ونتخيله من نسق العذاب، وهو ما يستدعي اعادة النظر في فهمها. لذا سنعالج هاتين الحالتين كالتالي:
اولاً:
فيما يتعلق بالحالة الاولى من التعارض نجد صوراً قرآنية تبدي بان جزاء الاخرة قد تم حصوله، كالذي يشار اليه من خطابات اهل الجنة والنار ومناداتهم وحواراتهم19، فهي تبدي ان ذلك قد حصل فعلاً، مع ان يوم القيامة لم يتحقق بعد، وقد يقال انه مجرد تصوير لما سيحدث بصيغة الماضي للتأكيد انه سيحصل حتماً، بدلالة اننا عرفنا انه سيحصل عبر نصوص اخرى. فالتعارض بين النصوص واضح ولا بد من تأويل بعضها لصالح البعض الاخر، ولا شك ان التأويل سيكون من نصيب المجموعة التي يسهل تأويلها واعتبارها من المتشابهات. وهو ما يجعلنا نفترض ان التصوير جاء للتأكيد على ما سيحصل.
لكن في هذه الحالة هل بوسعنا القول بان ايات العذاب هي ايضاً تقع في قبال ايات اخرى معارضة وصريحة، رغم كون هذا التعارض يأتي وفق تقديراتنا الوجدانية، مثل ان الله ارحم الراحمين وانه لا يظلم احداً مثقال ذرة، فهناك نوع من التعارض الواضح بين الصنفين من الايات كما يتبادر في اذهاننا، ولو اردنا الجمع بينهما فلا بد من تأويل احدى المجموعتين لصالح الاخرى، وفي الحالتين سنعتبر ان الله قد افادنا الايهام لحكمة ما، فاما ان نقول باننا متوهمون في المعنى الدال على ان الله ارحم الراحمين وانه لا يظلم احداً مثقال ذرة وفق المفهوم المتبادر لنا، او نقول باننا متوهمون في تصور شدة العذاب وطول مدته، رغم ان ذلك لا ينفي العذاب بالضرورة، لكنه ليس بالصورة التي نتخيلها بفعل المفهوم المنتزع قرآنياً.
وبلا شك ان المجموعة الاولى للنصوص يصعب تأويلها باعتبارها تتضارب مع الوجدان والمنطق الديني عموماً، فليس من المعقول ان نقول بان الله غير رحيم او ليس ارحم الراحمين وانه يمارس الظلم احياناً، فهذا المنطق غير معقول ولا مقبول ولا يقر به احد. نعم قد تُخصص الرحمة بالمؤمنين فقط، بدلالة قوله تعالى: ((قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ))20. وقد تُخصص بالمسلمين او الموحدين مثلما ورد في عدد من الروايات، منها ما جاء في صحيحي البخاري ومسلم بان الله يُدخل الجنة ويُحرّم النار على كل من شهد الشهادتين، واحياناً يُكتفى بالشهادة الاولى فقط21. في حين تُبدي الكثير من الايات الكريمة ان الله اشد المعاقبين للمشركين والكافرين. وهو ما يعني تأويل ايات الرحمة بجعلها مختصة بالمؤمنين. وفي المحصلة تكون النتيجة ان الله ليس رحيماً بكافة عباده، فضلاً عن انه ليس بارحم الراحمين باطلاق22!.
وهذه النتيجة تُبتنى على تخصيص النصوص المناطة بالرحمة، لكن الحال مع الايات المتعلقة بالعدالة شيء مختلف، اذ ليس هناك ما يخصص ايات نفي الظلم عن الله لعباده مطلقاً. وبالتالي فالمشكلة واردة في جميع الاحوال دون مجال لامكانية تأويل النصوص المتعلقة بها. في حين ان تأويل المجموعة الثانية للنصوص لا يثير مشكلة من الناحية العقلية الوجدانية على اقل تقدير، فاذا كنا مضطرين لممارسة التأويل وفق التعارض بين المجموعتين فلا شك ان الخيار سينصب على المجموعة الثانية باعتبارها اقل كلفة ومؤونة مقارنة بتأويل الاولى.
ولا ينفع الذهاب الى انكار التعارض بين المجموعتين، بمعنى انه لا تعارض بين العذاب المريع والطويل المدى من جهة، وعدالة الله في هذه الممارسات من جهة ثانية، وقد يضاف الى ذلك انه رحيم بعباده او ارحم الراحمين. فلا شك ان هذا الاعتقاد المتسق مع الرؤية البيانية الصرفة، ومع منطق حق الملكية لا يستسيغه الوجدان البشري، رغم انه من المسلمات لدى المسلمين. لكن لو طرحت القضية على الوجدان البشري العام او الحس المشترك من دون خلفيات عقدية، مثلما يطلق عليه الإقتصادي آدم سميث (المشاهد المحايد)، لرأى بما لا يقبل الشك انه منكر عقلاً من دون ان يجهد نفسه في التأمل والتفكير.
يبقى انه لا بد من التأويل، لكننا نعترف ان من غير المعقول ان نعمل على تأويل الايات اية اية، بل لا بد من تأويل القضية العامة برمتها، اي ان التأويل هنا يتعلق بالجانب الكلي للقضية وليس بجانبها الجزئي المعبر عن المقاطع او الايات اية فآية. ولا شك ان بينهما فرقاً واضحاً، اذ نمنع تأويل المقاطع الجزئية اذا ما كانت دلالاتها العامة بالاستقراء واضحة، لكن من الممكن تأويل الموضوع الكلي عندما يواجه معارضة من اصول اخرى مخالفة كالذي يجري فيما نحن بصدده من بحث. وقديماً استخدم الفلاسفة هذا الاسلوب من التأويل الكلي كما في مسألة العذاب التي نحن بصددها، فاعتبروا حياة الانسان وشقائه او نعيمه كلها نفسية كالتي تجري في المنامات والاحلام، اي خلاف الصور الجسمية التي تبديها ظواهر النصوص القرآنية، لذا اعتبروا الايات الواردة في المقام هي للتشبيه والاقناع فحسب، كالذي عليه اخوان الصفا والفارابي وابن سينا ونصير الدين الطوسي وغيرهم من الفلاسفة المتقدمين. وحديثاً استخدم هذا الاسلوب من التأويل الكلي الاستاذ محمد احمد خلف الله حول القصص القرآني كما في كتابه (الفن القصصي في القرآن الكريم)، فنفى ان يكون الوارد من القصص القرآني يعبر عن حقائق تاريخية، وانما جاء لاعتبارات ادبية فنية ونفسية23.
كما نلفت النظر ايضاً الى ان تأويل الايات هنا ليس من حيث المفهوم والاشارة، اذ للاخير قوة مبعثها النص ذاته ما يجعلنا نعجز عن تأويله، انما التأويل الممكن هو من حيث المصداق والايضاح، وعلى الاقل اعتبار الاخير لا يجري مجرى المفهوم والاشارة. فالمفهوم لا يقبل التأويل لكثرة القرائن الدالة عليه، لكن ايضاحه يمكن ان يقبل التأويل وفق الحقيقة المصداقية، وهي الصورة التي سبق ان صككنا لها مصطلح (الاستظهار الجدلي)، حيث الاشارة تدخل ضمن الاستظهار، في حين يتحول الايضاح الى التأويل او الاستبطان.

ثانياً:
اما حول الحالة الثانية فقد نجد ان صور الدار الاخرة لا تتخذ النسق الذي تفرضه اغلب الايات، فقد تصادف اية واحدة لتغيير مفهومنا عن هذا النسق. فمثلاً ما يتعلق بطول امد العذاب، تبدي الايات ان العذاب مستمر ومؤبد بلا انقطاع ولا نهاية، لكن هناك بعض الايات تقلب هذا المعنى فتوحي بانه منقطع وله نهاية، كالذي ذهب اليه ابن تيمية ومن قبله جهم بن صفوان24، يضاف الى الفلاسفة والعرفاء. فمن الايات الدالة على انقطاع العذاب وانتهائه قوله تعالى: ((لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا))25، وهي اية يأولها المفسرون عادة بما لا يتنافى مع الابدية اللامتناهية، وقوله: ((النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ))26. فبمثل هاتين الايتين يمكن توجيه ما جاء من ايات الخلود والابدية، كقوله تعالى: ((وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا))27، وقوله: ((خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ))28. اذ يمكن حملهما كما ذهب الى ذلك ابن تيمية، على الخلود والابدية المشروطة ببقاء السماوات والأرض، كالذي يدل عليه النص القرآني: ((فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ، خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ))29. يضاف إلى أن التأبيد جاء في القرآن مقيداً بما لا يتنافى مع الإنقطاع، كما في قوله تعالى عن اليهود: ((وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ))30، فإنما لا يتمنوه أبد مدة حياتهم في الدنيا، وإلا فهم في النار يتمنون الموت حيث يقولون كما في قوله تعالى: ((وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ))31، ايضاً ما جاء في قول العرب: لا أفعل هذا أبداً، ولا أتزوج أبداً فإنما يريدون بذلك مدة منقطعة هي أبد الحياة ومدة عمرهم، وهكذا الأبد في العذاب كقوله تعالى: ((وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا))32؛ إنما هو أبد مدة بقاء النار ودوامها33.
كذلك ما زلنا نستبعد ان تكون الجنة كما وردت بحسب النص القرآني بالمعاني المادية الصرفة حرفياً، مثل ذكر الخمر والعسل والفاكهة وما الى ذلك، فرغم كثرة الايات التي تبدو مادية كتلك التي نشاهدها في حياتنا الدنيوية فان هناك اية تقلب هذا المعنى، وهي قوله تعالى: ((كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا))34، وروي عن ابن عباس قوله: «ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء»، فهناك شبه بين العالمين من دون تماثل، وبالتالي نعجز عن تخيل حقيقة ما في الاخرة، ولا يسعنا اعتبارها مادية حسية، للاعتبار السابق. فهي على شاكلة ما بين الله تعالى والبشر من بعض المشتركات كالعلم، رغم ان التباين بينهما عظيم غير قابل للقياس. واذا كان بالمستطاع ان نقدر طبيعة العلم البشري فاننا نعجز عن تقدير طبيعة العلم الالهي وكيفيته.
وبالتالي يحق القول بان الكثرة الاستقرائية على الدلالة الحسية للاشياء في الاخرة ليست محل استقرار على مستوى المفهوم، اذ يبقى الاخير عائماً وسط المعنى العام بعد استبعاد المعنى المادي المألوف، وذلك بفضل المؤشرات التي تقلب المعنى السابق الى ما يرمز الى شيء اخر مجهول الحقيقة. وبعبارة ثانية ان الايضاح غير معلوم رغم العلم بالاشارة اجمالاً. وقد يفيد هنا ما طرحه الفلاسفة الاشراقيون حول نظرية المشاكلة كالتي فصلنا الحديث عنها في (الفلسفة والعرفان والاشكاليات الدينية).
اما موضوع العذاب فهو اكثر ارباكاً مما نتصور. ففي قضية الجنة هناك اتساق وتشاكل فيما بين الاشياء الحسية في الدنيا والاخرة، فالنسق واحد ومؤتلف من دون مفارقة. في حين نجد في قضية العذاب اموراً غير مؤتلفة مع سياقه العام وفق منطق الايات. فالعذاب الشديد والمهيمن على الداخلين في النار كما تبينه الكثير من الايات يجد ارباكاً من نصوص اخرى مقابلة لهذا الموضوع الكلي. ففي القرآن الكريم نصوص تتحدث عن مناداة وحوارات اهل النار، بل وطلبهم ان يسقون ماءاً يشربونه ورزقاً يأكلونه، فهي مناداة دالة على حفظ العقل والتوازن، مع ان الذي يتشوى في النار ويتبدل جلده او يغلى ما في بطنه او غير ذلك كيف يتمكن من حفظ عقله وتوازنه؟ وكيف يجتمع طلب الماء والرزق وهو يتشوى ويحترق في النار؟ كالذي تشير اليه الاية الكريمة: ((وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ))35. فاي ماء ورزق ينفع في هذه الحالة؟ وما مدى تأثير ما يطعمون من عذاب الطعام كالضريع والزقوم36؟
بل ما تأثير ما يصب عليهم من ماء الحميم وهم في جوف النار التي يفترض انها اشد حرارة من الاشياء الاخرى، فكيف يتعذبون بما هو اقل حرارة ان لم نقل انها اشياء اخرى لم نألفها في حياتنا كإلفتنا للنار.
لذا فالامر يتطلب الى مراجعة فهمنا الكلي للعذاب الشديد. فقد يكون لمسار النص دلالة عرفية، الا انه قد تعترض جملة او اية فتحولها الى دلالة اخرى تأويلية او رمزية حتى وان جهلنا الكشف عنها باعتبارها غيبية. فما نواجهه هنا هو خلاف خبراتنا الحسية، وبالتالي فهي ايات تحتاج بدورها الى تأويل؛ لانها خلاف المتبادر لنا بحسب هذه الخبرة، ومن ذلك قد يقال ان المناداة والحوارات جبرية من دون ارادة اهلها، فهم مجبرون على النطق مثلما هم مجبرون على دخول النار، وهم مجبرون على التظاهر بطلب الماء مع ان الاخير لا يغنيهم شيئاً، فيكون المفهوم الاشاري ظاهر او مستظهر، في حين يحتاج الايضاح الى تبيان وربما تأويل وفق الاستظهار الجدلي. وفي جميع الاحوال سنضطر الى تأويل مثل هذه الايات. فسواء شئنا ام ابينا سنضطر الى توجيهها باستبعاد ما يتبادر لنا من ظهور، كي لا تتصادم مع قيمنا الوجدانية او افتراضاتنا المعقولة وخبراتنا الحسية.
وقد يصل الحال في بعض الاحيان الى افتراض شيء من التصور الرمزي كما تثيره بعض مواقف الايات، ومنها ما يتعلق بقصة خلق ادم وعلاقته بالشجرة المحرم اكلها وحوار الله مع ابليس والملائكة وما الى ذلك.. فبعض مضامين تصوير الايات يبدي ان المعنى يصعب حمله على ظاهره، ومن ذلك خطاب الله مع ابليس الذي يبدو مباشراً، مع ان من الصعوبة تخيل ان ابليس يتحاور مع الله بمنطق التمرد والتكبر والتهديد بلا خوف ولا وجل37. وبالتالي لا بد من التأويل؛ كأن يكون الخطاب من الايحاءات، فيكون حال كلام الله ينطبق على ابليس مثلما ينطبق على البشر في قوله تعالى: ((وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ))38.
ومثل ذلك تحذير الله لآدم وحواء وعدم التزامهما بكلامه فيما صدّقا كلام ابليس بما يتضمن ان الله قد كذب عليهما وخدعهما ليحرمهما من النعيم الدائم. وعلى هذه الشاكلة ما يتعلق بطبيعة الشجرة التي اكلا منها فافضت الى كشف سوآتهما، مما توحي بانها الاصل في النضج الجنسي39. وقد نتساءل: ما دلالة الاكل من الشجرة حتى يأتي عقاب الله الشديد بطرد ادم وحواء من الجنة بلا مجال للرجوع الى ما كانا عليه من نعيم دائم؟ مع ان ايحاءاتها الجنسية اصبحت شرطاً ضرورياً لوجودنا. وعلى هذه الشاكلة كيف تم السماح لابليس ان يتسلط على العباد بتركه يفعل ما يريد؟ وقد سبق للقدماء ان صوروا لابليس سبع شبهات تبدي ان الحال الذي جرى كان رمزياً لاقتضاء سنة الوجود والحياة وصراع الخير والشر. فبحسب هذا التصور اخذ ابليس يستعرض شبهاته واعتراضاته وهو يحدّث الملائكة، فأول ما اعترض عليه هو سبب خلق الله له وهو يعلم بانه سيعصي؟ ثم اضاف الى ذلك: لماذا كلفه بطاعته وهو مستغن عنها؟ ثم لماذا كلفه بالسجود لآدم رغم انه قد اطاعه في غير ذلك؟ ولماذا مكّنه من ادم وسلطه عليه؟ ومثل ذلك على ذريته؟ ثم لماذا امهله الى يوم يبعثون رغم ان في ذلك شراً على البشر كافة40؟.
فكل ما سبق يبدي دلالات رمزية اكثر مما تعبر عن حقائق فعلية، لاستبعاد ان تكون الاخيرة حسية كما توهم النصوص بهذا الصدد.
وقد نميل الى وضع قاعدة للتأويل او الترميز احياناً لكل ما يرد حول القضايا الغيبية، ليس فقط فيما يخص الدار الاخرة، بل حتى ما يتعلق بطبيعة العلاقة التي جرت حول قصة ادم وابليس كما سبق عرضها.

بحث تراثي غير متوقع حول العذاب
لقد صادف ونحن في مشارف الانتهاء من بحث معضلة العذاب ان وجدنا بحثاً تراثياً غير متوقع جاء مقارباً لما سبق ان قدمنا، فخفف علينا الاحساس بوحشة الطريق. فقد نقل الفخر الرازي في تفسيره (مفاتيح الغيب) ذهاب جماعة من العلماء – لم يسمهم – الى عدم جواز تعذيب الله لعباده وفق عدد من الادلة العقلية. وسنبرز اهمها دون ان نتقيد بطريقة عرضها وتعداد فقراتها لاعتبارات فنية وموضوعية، كما سوف لا نعرّضها للمناقشة والتدقيق. فكما جاء فيها ما يلي:
اولاً: إن تعذيب الله لعباده ضرر خالٍ عن جهات المنفعة، فوجب أن يكون قبيحاً ببديهة العقل، وإذا ثبت قبحه امتنع صدوره من الله تعالى، لأنه حكيم والحكيم لا يفعل القبيح.
ثانياً: إن الله تعالى إن خلق عباده للإنتفاع فسيوجب ذلك أن لا يكلفهم ما يؤدي به إلى ضد مقصوده من الضرر في العقاب الحاصل فيما بعد.. وحيث كلفهم، فقد دلّ على أن العصيان لا يكون سبباً لاستحقاق العذاب.
ثالثاً: إنه سبحانه هو الخالق للدواعي التي توجب المعاصي، وذلك يوجب الالجاء والجبر، فيقبح منه أن يعاقب عليها. اذ هل من العدل والرحمة والكرم أن يخلق الله العاصي على ما خلقه عليه من الفظاظة والجسارة، والغباوة والقساوة، والطيش والخرق، ثم يعاقبه عليه؟ وهل من العدل أن يسخن قلبه ويقوي غضبه ويلهب دماغه ويكثر طيشه ولا يرزقه ما رزق غيره؟. وهو ما يعني ان العقاب وارد على خلاف قضايا العقول.
رابعاً: إنه تعالى إنما كلفنا لننتفع به، فإذا عصينا فقد فوتنا على أنفسنا تلك المنافع، فهل يحسن في العقول أن يأخذ الحكيم إنساناً ويقول له إني أعذبك العذاب الشديد، لأنك فوّتّ على نفسك بعض المنافع؟ فهل يحسن من السيد أن يقول لعبده عليك ان تكتسب ديناراً وتنتفع به، وان لم تكتسبه ولم تنتفع به سأقطع أعضاءك إرباً إرباً؟ لا شك أن هذا نهاية السفاهة، فكيف يليق بأحكم الحاكمين؟! ثم هب أننا سلمنا بهذا العقاب، فمن أين القول بالدوام؟ فأقسى الناس قلباً وأشدهم غلظة وفظاظة وبعداً عن الخير إذا أخذ من بالغ في الإساءة إليه وعذبه يوماً أو شهراً أو سنة فإنه يشبع منه ويمل ، فلو بقي مواظباً عليه لامه الاخرون بلا استثناء، فحتى لو بالغ الشخص في إضرار غيره، فالى متى يبقى تعذيبه كعقوبة، فإما أن يقتله المتضرر ويريحه، او يتركه وشأنه، فإذا قبح هذا من الإنسان الذي يلتذ بالانتقام؛ فالغني عن الكل كيف يليق به العذاب الدائم؟! بل هب ان العبد عصى الله تعالى طول عمره، فأين عمره من الأبد؟! لذا يكون العقاب المؤبد ظلماً.
خامساً: إن العبد لو واظب على الكفر طول عمره ، فإذا تاب ثم مات عفا الله عنه وأجاب دعاءه وقبل توبته ، لكن في القبال لِمَ لا تقبل توبة المعاقبين في الاخرة، ولِمَ لا يسمع نداءهم، ولِمَ يخيب رجاءهم؟ ولِمَ كان في الدنيا في الرحمة والكرم إلى حيث قال: ((ادعونى أَسْتَجِبْ لَكُمْ))41، وقال: ((أَمَّن يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ))42، وفي الآخرة صار بحيث كلما كان تضرعهم إليه أشد فإنه لا يخاطبهم إلا بقوله : ((اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ))43.
سادساً: إن التجاوز عن الوعيد مستحسن فيما بين الناس، وكما قال الشاعر:
وإني إذا أوعدته أو وعدته ... لمخلف إيعادي ومنجز موعدي
بل الإصرار على تحقيق الوعيد كأنه لؤم، وإذا كان كذلك وجب أن لا يصلح من الله تعالى ، وهذا بناءً على تجويز أهل السنّة نسخ الفعل قبل مدة الامتثال، وحاصل كلامهم هو أن الأمر يسن تارة لحكمة تنشأ من نفس المأمور به ، وتارة لحكمة تنشأ من نفس الأمر ، فإن السيد قد يقول لعبده إفعل الفعل الفلاني غداً وإن كان يعلم في الحال أنه سينهاه عنه غداً ، ويكون مقصوده من ذلك الأمر أن يظهر العبد الانقياد لسيده في ذلك ويوطن نفسه على طاعته ، فكذلك إذا علم الله من العبد أنه سيموت غداً فإنه يحسن عند أهل السنّة أن يقول: صلِ غداً إن عشت، ولا يكون المقصود من هذا الأمر تحصيل المأمور به، لأنه ههنا محال، بل المقصود حكمة تنشأ من نفس الأمر فقط ، وهو حصول الانقياد والطاعة وترك التمرد. وبالتالي إذا ثبت هذا نقول : لم لا يجوز أن يقال الخبر أيضاً كذلك؟ فتارة يكون منشأ الحكمة من الإخبار هو الشيء المخبر عنه وذلك في الوعد ، وتارة يكون منشأ الحكمة هو نفس الخبر لا المخبر عنه كما في الوعيد ، فإن الإخبار على سبيل الوعيد مما يفيد الزجر عن المعاصي والإقدام على الطاعات ، فإذا حصل هذا المقصود جاز أن لا يوجد المخبر عنه كما في الوعيد ، وعند هذا قالوا إن وعد الله بالثواب حق لازم؛ وأما توعده بالعقاب فغير لازم ، وإنما قصد به صلاح المكلفين مع رحمته الشاملة لهم ، كالوالد يهدد ولده بالقتل والسمل والقطع والضرب ، فإن قبِل الولد أمره فقد انتفع، وإن لم يفعل فما في قلب الوالد من الشفقة يرده عن قتله وعقوبته.
فإن قيل فعلى جميع التقادير يكون ذلك كذباً والكذب قبيح، قلنا لا نسلم أن كل كذب قبيح، بل القبيح هو الكذب الضار، فأما الكذب النافع فلا، وإن سلمنا بذلك لا نسلم أنه كذب ، أليس أن جميع عمومات القرآن مخصوصة ولا يسمى ذلك كذباً؟! أليس أن كل المتشابهات مصروفة عن ظواهرها ، ولا يسمى ذلك كذباً؟! فكذا ههنا.
كذلك أليس أن آيات الوعيد في حق العصاة مشروطة بعدم التوبة وإن لم يكن هذا الشرط مذكوراً في صريح النص ، فهي أيضاً عندنا مشروطة بعدم العفو وإن لم يكن هذا الشرط مذكوراً بصريح النص.
***
هذه هي اهم الوجوه التي اعتقد اصحابها انها مما توجب القطع بعدم العقاب. وقد اضافوا الى قضيتهم الاعتقاد بان الدلالة اللفظية مهما كانت فهي لا تتعدى الظن، ومنها دلالة النص القرآني حول قضيتنا المطروحة، خلافاً للادلة العقلية التي تفيد القطع، والظن لا يعارض القطع او ينافسه. اذ تبنى الادلة اللفظية على أصول كلها ظنية، والمبني على الظني ظني، فهي مبنية على نقل اللغات ونقل النحو والتصريف ، ورواة هذه الأشياء لا يعلم بلوغهم إلى حد التواتر ، فكانت روايتهم مظنونة ، وأيضاً فهي مبنية على عدم الاشتراك وعدم المجاز وعدم التخصيص وعدم الإضمار بالزيادة والنقصان وعدم التقديم والتأخير ، وكلها أمور ظنية ، وأيضاً فهي مبنية على عدم المعارض العقلي ، فإنه بتقدير وجوده لا يمكن البت بصدق ظاهر النص، ولا يمكن ترجيح النقل على العقل لأن العقل أصل النقل ، والطعن في العقل يوجب الطعن في العقل والنقل معاً، وبالتالي لا بد من التعويل على الادلة العقلية في دفع الظواهر المعارضة44.
ونشير الى ان الدليل المتعلق بتعارض العقل والنقل وترجيح الاول على الثاني هو ما تبناه الفخر الرازي، بما في ذلك اعتبار الادلة اللغوية ظنية وفقاً لذات الاعتبارات الانفة الذكر، ضمن ما يعرف بقانون التأويل الكلي45.
واغرب ما في الامر ان الفخر الرازي أنهى كلام المذهب السابق بقوله: >فهذا جملة ما يقال في تقرير هذا المذهب. وأما الذين أثبتوا وقوع العذاب ، فقالوا إنه نقل إلينا على سبيل التواتر من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوع العذاب فإنكاره يكون تكذيباً للرسول، وأما الشبه التي تمسكتم بها في نفي العقاب فهي مبنية على الحسن والقبح وذلك مما لا نقول به. والله أعلم<46.
ولا شك ان عبارة الرازي الاخيرة (والله أعلم) فيها ما فيها. كذلك ان الاستدلال بالروايات عن النبي يضعف قضية العذاب غاية الاضعاف، فكأن ما جاء به القرآن لا يكفي للدلالة على المطلوب، بل ان مصدر اليقين نابع من الرواية، وهو شبيه ما يقوله الاخباريون لدى الشيعة في تحكيم معاني الايات وتصويبها، بل وتحديد مصدرها ومصداقيتها، وفقاً للروايات المنقولة عن الائمة..
على ان لمحي الدين بن عربي نصاً يتناغم مع النتائج النافية للعذاب كالتي سبق طرحها، وفق ذات الاستدلال المعياري، رغم انه من العرفاء الذين يؤمنون بحتميات الوجود، فهو يعتبر لو ان الله تعالى فوّض أمر خلقه إلى أحد من عباده وقدّره ومكّنه من التصرف فيهم، وكان خيّراً غنياً، لأزال العذاب عنهم، وهذا الراحم انا وامثالي، وهو تعالى ارحم الراحمين47. وله ابيات من الشعر يحاول خلالها تأويل عذاب الاخرة الى عذوبة، كالتالي48:
فلم يبق الا صادق الوعد وحده وما لوعيد الحق عين تعاين
وان دخلوا دار الشقـاء فانـهم على لذة فيها نعيم مباين
نعيم جنان الخلد فالامر واحد وبينهما عند التجلي تباين
يسمى عذاباً من عذوبة طعمه وذاك له كالقشر والقشر صاين



#يحيى_محمد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المفكر الصدر ومذهبه الجديد في المعرفة
- إحياء.. تجديد.. إصلاح..
- وظائف الدليل الإستقرائي
- الفهم الديني ومنهج التوسعة والانفتاح
- العقيدة والرأي
- المسلك التوحيدي في الفهم والتفسير
- كيف فهم الصدر نظرية برنولي؟
- وجود الله أعرف من كل معروف!
- الاعتقاد القاتل وغياب الضمير (2)
- الاعتقاد القاتل وغياب الضمير (1)
- الإفتراض الآخر
- موقع جديد: فلسفة العلم والفهم
- ما الذي يمكن ان يقدمه الفهم الديني للعلم؟
- أساليب التوالد المعرفي (قراءة نقدية لما جاء في الاسس المنطقي ...
- مسلمات العلم والفهم: مبدأ السببية والقصدية
- نظم العلم والهرمنوطيقا (6)
- النسق المتسق بين العلم والفهم
- نظم العلم والهرمنوطيقا (5)
- نظم العلم والهرمنوطيقا (4)
- الشذوذ والمسكوت عنه في العلم والفهم


المزيد.....




- مجلس الأوقاف بالقدس يحذر من تعاظم المخاوف تجاه المسجد الأقصى ...
- مصلون يهود عند حائط البراق في ثالث أيام عيد الفصح
- الإحتلال يغلق الحرم الابراهيمي بوجه الفلسطينيين بمناسبة عيد ...
- لبنان: المقاومة الإسلامية تستهدف ثكنة ‏زبدين في مزارع شبعا ...
- تزامنًا مع اقتحامات باحات المسجد الأقصى.. آلاف اليهود يؤدون ...
- “عيد مجيد سعيد” .. موعد عيد القيامة 2024 ومظاهر احتفال المسي ...
- شاهد..المستوطنين يقتحمون الأقصى في ثالث أيام عيد -الفصح اليه ...
- الأردن يدين سماح شرطة الاحتلال الإسرائيلي للمستوطنين باقتحام ...
- طلاب يهود بجامعة كولومبيا: مظاهرات دعم فلسطين ليست معادية لل ...
- مصادر فلسطينية: أكثر من 900 مستعمر اقتحموا المسجد الأقصى في ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - يحيى محمد - عذاب الآخرة والحفر في الصخر!