أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - اليسار الثوري في مصر - المبادئ الماركسية والتكتيكات الانتخابية - الرابطة الشيوعية الأممية - مقال مترجم















المزيد.....



المبادئ الماركسية والتكتيكات الانتخابية - الرابطة الشيوعية الأممية - مقال مترجم


اليسار الثوري في مصر

الحوار المتمدن-العدد: 4411 - 2014 / 4 / 1 - 22:05
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


كتب هذا المقال الطويل في عام 2009، وتعرض فيه الرابطة الشيوعية الأممية، وهي واحدة من المجموعات الماركسية التي تسعى لإعادة بناء الأممية الرابعة، لتطور الموقف الماركسي من الانتخابات وانتخابات المناصب التنفيذية تحديداً، وتستخلص فيه نتيجة نهائية هي أن ترشح الماركسيين في أي انتخابات لمناصب تنفيذية هو تكتيك يضر بالحركة ويطرح لها سقفاً اصلاحياً بديلاً عن السقف الثوري، وبرغم اختلافنا بعض الشيء مع التعميم الذي تشمله هذه النتيجة النهائية، وهو ما سنحاول توضيحه في مقالٍ تالٍ، إلا أن العرض التاريخي الذي يقدمه المقال يجب أن يطلع عليه كل الماركسيين ويكون في خلفية أذهانهم أثناء مناقشة أي تكتيكات انتخابية.

نشر في Spartacist عدد 61، ربيع 2009، (http://www.icl-fi.org/english/esp/61/electoral.html)
الترجمة عن الإنجليزية وحدة الترجمة بـ”اليسار الثوري”.

------------------------------

سبارتاكست، الطبعة الانجليزية، عدد 61 – ربيع 2009

فلتسقط المناصب التنفيذية في الدولة الرأسمالية!

المبادئ الماركسية والتكتيكات الانتخابية

ملحق بالتصويبات

تبني المؤتمر الخامس للرابطة الشيوعية الأممية في 2007 موقف المعارضة لخوض الماركسيين الانتخابات للمناصب التنفيذية في الدولة الرأسمالية – على سبيل المثال؛ الرئيس، العمدة، حاكم المقاطعة أو الولاية – كموقف مبدئي. هذا الموقف ينبع من فهمنا أن الدولة الرأسمالية هي اللجنة التنفيذية للطبقة الحاكمة. وفي قلبها تتكون هذه الدولة من مجموعات من الرجال المسلحين – الجيش والشرطة والقضاء والسجون – مهمتها حماية الحكم الطبقي للبرجوازية ونظامها في الإنتاج.

يمكن للنواب الشيوعيين، كمعارضين، أن يخدموا في الكونجرس الأمريكي والبرلمانات والهيئات التشريعية الأخرى وتوظيفها كمنابر ثورية للطبقة العاملة. لكن قبول مناصب تنفيذية أو السيطرة على مجالس التشريع أو البلدية البرجوازية، سواء بشكل مستقل أو من خلال ائتلافات، يترتب عليه تحمل المسئولية عن إدارة آلة الدولة البرجوازية. وقد أقرت “الرابطة الشيوعية الأممية” (ICL) من قبل، أنه يمكن للشيوعيين أن يترشحوا للمناصب التنفيذية، بشرط أن نعلن مسبقاً أننا لا نقصد شغل هذه المناصب. لكن عند إعادة النظر في هذه المسألة، خلصنا إلى أن الدخول في انتخابات المناصب التنفيذية يعني ضمنياً أننا مستعدون لقبول مثل هذه المسئولية، بغض النظر عن التنازل الذي يعلن مسبقاً. إن مشاركة من يدعون أنفسهم ماركسيين في نشاط مثل هذا لا تعني سوى منح شرعية للمفاهيم السائدة والإصلاحية عن الدولة.

كما ذكرنا في وثائق مؤتمرنا عام 2007:

“عندما نتبنى موقفاً ضد الترشح للمناصب التنفيذية، فإننا نعى ونقنن ما يجب أن ينظر إليه كنتيجة طبيعية لكتابات لينين حول؛ “الدولة والثورة” و”الثورة البروليتارية والمرتد كاوتسكي”، والتي تعتبر بحق الوثائق التأسيسية للأممية الثالثة؛ “الأممية الشيوعية” (الكومنترن)، تبدد هذا الفهم عند عقد المؤتمر الثاني للأممية الشيوعية، والذي فشل في رسم خط فاصل بين المناصب البرلمانية والتنفيذية عند معالجة مسألة النشاط الانتخابي. لذا نحن نتابع استكمال العمل النظري والبرنامجي للمؤتمرات الأربعة الأولى للأممية الشيوعية. من السهل التعهد بأنك لن تتولى المنصب التنفيذي عندما تكون فرصة الفوز بعيدة المنال، لكن السؤال هو: ماذا يحدث لو فزت؟؟ …

توافقت ممارستنا السابقة مع ممارسات الكومنترن والأممية الرابعة. هذا لا يعني أننا تصرفنا بشكل غير مبدئي في الماضي: فلم يتم تمييز المبدأ بهذه الطريقة سواء من أسلافنا أو منا. تتطور البرامج كلما ظهرت قضايا جديدة وكلما تفحصنا بشكل نقدي أعمال أسلافنا الثوريين.”

(لتسقط المناصب التنفيذية” سبارتاكست، عدد 60 خريف 2007)

وراء مسألة الترشح للمناصب التنفيذية يقف التناقض الأساسي بين الإصلاحيين والماركسيين: هل يمكن للبروليتاريا أن تستخدم الديمقراطية البرجوازية والدولة البرجوازية لتحقق انتقالاً سلمياً للاشتراكية؟ أم، على العكس، يجب على البروليتاريا أن تسحق آلة الدولة القديمة، وتخلق مكانها دولة جديدة لتفرض سلطتها الطبقية؛ ديكتاتورية البروليتاريا، لقمع ومصادرة المستغلين الرأسماليين؟

منذ ثورة أكتوبر 1917، استنكر الاشتراكيون الديموقراطيون والإصلاحيون بتنويعاتهم المختلفة، بداية من المناشفة الروس ويتمثلون بشكل أشد جلاءً في ذلك الوقت في الاشتراكية الديموقراطية الألمانية والماركسي السابق كارل كاوتسكي، ثورة أكتوبر، مجادلين بأنه ما كان يجب على البلاشفة أن يقودوا البروليتاريا للاستيلاء على السلطة. بدلاً من هذا استمر المحافظون يكررون أنه كان على البروليتاريا الروسية أن تسلم القيادة وتدعم البورجوازية الليبرالية؛ وكل هذا باسم الدفاع عن “الديموقراطية“. يمثل “الدولة والثورة“، الذي كُتب عشية ثورة أكتوبر، مع العمل المكمل له “الثورة البروليتارية والمرتد كاوتسكي“، الذي كُتب بعدها بعام، دحضاً صارماً لهذه الرؤى. ينقذ لينين في هذين المؤلفين ماركس وإنجلز من تشويهات ودفاعات الانتهازيين، الذين اقتبسوا بانتقائية، وأساءوا الاقتباس، وفي الحقيقة أحياناً طمسوا رؤى ماركس وإنجلز ليبرروا نهجهم المضاد للثورة.

لم يقل نشاط التحريفيين والإصلاحيين في العصر الحاضر. حيث تتألف سياساتهم من نشاط يتحدد بالكامل بإطار المجتمع البرجوازي. عرف تروتسكي مثل هذه السياسة بحدة بأنها”تدريب حقيقي للجماهير لتصبح متشبعة بفكرة حُرمة الدولة البرجوازية” (تروتسكي، “دروس أكتوبر“، 1924). مثل هذه التوافقات مع الحكم الطبقي الرأسمالي بواسطة منظمات تزعم الانتماء للماركسية، تعلن اليوم أكثر في عالم تحدد بالانهيار النهائي لثورة أكتوبر والقبول الواسع لفكرة أن “الشيوعية قد ماتت“.

بعد أن وصلت هذه المنظمات إلى موقف مشترك مع الإمبريالية “الديموقراطية” ضد الدولة العمالية السوفيتية المتحللة والدول العمالية المشوهة بيروقراطياً في شرق أوروبا، أصبحت الآن أقل خجلاً في قبولها للديموقراطية البورجوازية، باستغنائها المتزايد حتى عن الولاء الكاذب لهدف الثورة البروليتارية. في فرنسا، تقوم مجموعة “نضال العمال“ Lutte Ouvrière (LO) التروتسكية المزيفة، ومجموعة لامبرت ( يسمون أنفسهم الآن “حزب العمال المستقل” Parti Ouvrier Indépendant) و”الرابطة الشيوعية الثورية“Ligue Communiste Révolutionnaire (LCR)، القسم الرئيسي في السكرتارية الموحدة (USec)، بالدفع بمرشحين بشكل منتظم للرئاسة شبه البونابرتية. المرشح اللامبرتي في انتخابات 2007 الرئاسية كان عمدة مدينة والذي قدم نفسه كـ”مرشح العُمد“، بينما يمول “نضال العمال“ و”الرابطة الشيوعية الثورية” نشاطهم الانتخابي بإعانات مالية مباشرة وجوهرية من الدولة الرأسمالية. في البرازيل، خدم أحد قادة مجموعة السكرتارية الموحدة (USec)؛ ميجيل روسيتو، كوزير في حكومة الجبهة الشعبية البرجوازية التي ترأسها الاشتراكي الديموقراطي لولا. مجموعة “الرابطة الشيوعية الثورية” الفرنسية حولت نفسها إلى “الحزب المناهض للرأسمالية الجديد” متنصلة من أي إشارة إلى الشيوعية أو الثورة. في بريطانيا، يدعو الآن حزب بيتر تافي الاشتراكي (نواة “اللجنة لأممية العمال“)، والذي قضى عقود في شكله الأسبق يحاول إصلاح حزب العمال القديم من الداخل، إلى “حزب عمال واسع” يحدد بإصلاحية “حزب العمال القديم” كبديل لحزب العمال الجديد، حزب بلير وبراون.

من بين المجموعات الماركسية العلنية القليلة التي لازالت تتحدث بلغة ثورة أكتوبر أحياناً هناك “التيار البلشفي“Bolshevik Tendency (BT) و”المجموعة الأممية” Internationalist Group (IG). تشكل “التيار البلشفي“بواسطة مجموعة صغيرة تركت منظمتنا في بداية الثمانينات كاستجابة لبداية الحرب الباردة الثانية، ويقودها شخص معتل اجتماعياً يدعى بيل لوجان، والذي طردناه عام 1979 بسبب جرائم ضد الأخلاق الشيوعية والآداب الإنسانية الأساسية. المجموعة المؤسسة لـ”المجموعة الأممية” انشقت عن حزبنا في 1996، بعد الثورة الرأسمالية المضادة في أوروبا الشرقية والاتحاد السوفيتي، سعياً وراء تحقيق توجه انتهازي تجاه مختلف أنواع البورجوازية الصغيرة “الجذرية“. هاتين الدفتين السياسيتين للحرب الباردة اجتمعتا سوية على استنكار خطنا الرافض للترشح للمناصب التنفيذية.

نددت “المجموعة الأممية“بموقفنا بوصفه قطيعة مع “استمرارية التروتسكية الأصيلة” (“فرنسا تتجه بقوة إلى اليمين“، انترناشيوناليست، يوليو 2007)، مشيرين إلى حملتنا الانتخابية في 1985 بمساندة ماجوري ستامبيرج، أحد مؤيدي “المجموعة الأممية” الآن، لمنصب عمدة نيويورك. عندما نتتبع ممارسة أسلافنا الثوريين، نرى أن موقفنا السابق لم يكن لا مبدئياً بشكل ذاتي، لكن استمرار “المجموعة الأممية” في الدفاع عن مثل هذه الحملات هو اللا مبدئي. تؤكد ”المجموعة الأممية” أن الشيوعيين يستطيعون الترشح “لأي منصب“، بما فيها منصب رئيس أركان الإمبريالية، مجادلين بما يأتي: “في الحالة الاستثنائية التي يملك فيها المرشح الثوري التأثير الكافي لينجح في الانتخابات، سيكون الحزب قد بدأ بالفعل في بناء مجالس العمال والأجهزة الأخرى ذات الطبيعة السوفيتية. وسوف يصر الحزب على أن يستند مرشحوه – في حال انتخابهم – على مثل هذه الأجهزة التي تمثل سلطة العمال وليس على مؤسسات الدولة البرجوازية“. يقتبس “التيار البلشفي“هذه العبارة وتوصيف “المجموعة الأممية“لموقفنا بـ”البدعة” باستحسان، ويضيفون تحريفهم البرلماني: “ربما يستنتج الرفاق في “الرابطة الشيوعية الأممية”في نهاية المطاف أن الترشح للبرلمان هو أيضاً حجر عثرة لأن الحزب الفائز سينتهي به الأمر لممارسة السلطة التنفيذية” (“الرابطة الشيوعية الأممية ترفض المناصب التنفيذية: الرؤساء والمديرين“، 1917، 2008).

في قضية السماح للشيوعيين بالترشح للمناصب التنفيذية، تترك “المجموعة الأممية“الإمكانية مفتوحة، وبالتأكيد لا تستنكر، تولي مثل هذه المناصب “في حالة الفوز في الانتخابات“، على الأقل في الوضع الثوري. ومن جانبه، يطمس “التيار البلشفي” أي تمييز بين النزعة الوزارية – أي الخدمة كوزير في الحكومة البرجوازية – والنضال بالعمل كنواب عمال ثوريين في البرلمان البرجوازي. وخلف أنين “التيار البلشفي“يكمن الافتراض الضمني (الزائف بوضوح، والمعبر عن الحكم المسبق للبرجوازية الصغيرة) بأن البرلمانات البرجوازية هي هيئات للسيادة تعبر عن “إرادة الشعب“. يبدو بوضوح أن ما يفكر فيه “التيار البلشفي“هو برلمان صاحبة الجلالة أبو البرلمانات. يرتل “التيار البلشفي” :”بالطبع، الطريق الوحيد لـ”حل” مؤسسات الدولة البرجوازية هو من خلال الثورة الاشتراكية” (المرجع السابق). لكن هذا ليس سوى عظة الأحد للسذج.

تذكر “المجموعة الأممية” و”التيار البلشفي” كلمة “وضع ثوري” مثل “إله من الآلة“،[1] كستار لمواقفهم الانتهازية. لو اشترك البلاشفة، مثلما فعل المناشفة، في الحكومة البرجوازية المؤقتة في 1917 في قلب هذا الوضع الثوري، لأصبح نداء البلاشفة “كل السلطة للسوفييتات” أجوفاً ولتحولوا إلى جناح يساري للديموقراطية البرجوازية. “المجموعة الأممية” و”التيار البلشفي” على النقيض من هذا، تتناثر في التاريخ “الحالات الاستثنائية” حيث يلتمس الاشتراكيون والشيوعيون المدعون الظروف الاستثنائية ليضعوا أصابعهم على مقاليد السلطة في الدولة البرجوازية. علاوة على ذلك، فإن “المجموعة الأممية” و”التيار البلشفي” يتجاهلان عن عمد حقيقة أنه من وجه النظر التاريخية يكون عادياً بدرجة ما أن تحصل الأحزاب العمالية الإصلاحية على خبرتها الأولى في إدارة الدولة البرجوازية عبر الفوز في انتخابات المجالس المحلية، غالباً في غياب أي أثر لوضع ثوري. هذه النزعة نحو المجالس البلدية المحلية، أو “اشتراكية المجالس المحلية“، لم تخدم في تطوير ثورة بروليتارية، بل في عرقلتها.

بمعنى حقيقي للغاية، فإن مسألة الترشح للمناصب التنفيذية ترجع إلى المعركة التي لم تكتمل ضد النزعة الوزارية، والتي بدأها ممثلو الجناح اليساري في الأممية الثانية أمثال روزا لكسمبورج في فجر القرن العشرين. الحجج التي تثيرها “المجموعة الأممية” و”التيار البلشفي” دفاعاً عن خطهم بخصوص المناصب التنفيذية تضعهم على يمين الجناح اليساري للاشتراكية الديموقراطية في ما قبل الحرب العالمية الأولى.

تجد البروليتاريا نفسها في غور عميق في فترة ما بعد السوفييت. في هذه الظروف يصبح دفاع الثوريين عن الانجازات البرنامجية للماضي وتعميق ومد فهمنا للبرنامج الماركسي، عبر الدراسة النقدية والجدل والتطبيق، أمراً مصيرياً. وفي هذا من الضروري أن نوجه أبصارنا إلى التعبيرات الأعظم عن نضال البروليتاريا ووعيها، مثل دروس ثورات عام 1848، وكوميونة باريس عام 1871، وانجاز البروليتاريا الأعظم إلى الآن، ثورة أكتوبر 1917، والتي بينت بوجه حصري أن تولي المناصب التنفيذية في الحكومة الرأسمالية يتناقض مع الصراع من أجل سلطة دولة البروليتاريا.


كتابات ماركس وإنجلز عن الدولة

في البيان الشيوعي، والذي صيغ مباشرة قبل الانتفاضات الثورية في 1848، وضح ماركس وإنجلز أنه على البروليتاريا أن تقيم دولتها بوصفها “الخطوة الأولى في الثورة بواسطة الطبقة العاملة” (بيان الحزب الشيوعي ديسمبر 1847 – يناير 1848)، وتابعا “إن البروليتاريا ستستغل سيادتها السياسية لتنتزع تدريجياً كل رأس المال من البرجوازية، ولتمركز كل أدوات الإنتاج في يد الدولة؛ أي البروليتاريا المنظمة كطبقة سائدة، ولتزيد من مجموع القوى المنتجة بأقصى سرعة ممكنة“، كما لاحظ لينين في “الدولة والثورة“، لم تُذكر مسألة كيف سيتم استبدال الدولة البروليتارية بالدولة البرجوازية في البيان، ولا – في المقابل – مسألة الطريق البرلماني للاشتراكية؛ كان الاقتراع العام موجوداً بالكاد.

مع بداية عام 1852، انتهى ماركس لإدراك أن “الجمهورية البرلمانية في صراعها ضد الثورة، تجد نفسها مجبرة على أن تقوي، بواسطة الإجراءات القمعية، موارد ومركزة السلطة الحكومية. كل الثورات صقلت هذه الآلة بدلاً من أن تكسرها” (“الثامن عشر من بروميير لويس بونابرت“، 1852). لكن فوق كل شيء كانت خبرة كوميونة باريس 1871 هي التي قادت ماركس وإنجلز إلى استنتاج الآتي: “لا يمكن للطبقة العاملة أن تضع ببساطة يدها على آلة الدولة الجاهزة، واستخدامها لأغراضها الخاصة” (“الحرب الأهلية في فرنسا“، 1871). لاحظ ماركس في هذا العمل أن “سلطة الدولة تحمل أكثر فأكثر طابع السيطرة القومية لرأس المال على العمل، طابع قوة عامة منظمة للاستعباد الاجتماعي، طابع جهاز للاستبداد الطبقي“. لهذا كان أول قرارات الكوميونة هو حل الجيش الدائم واستبدال الشعب المسلح به. والكوميونة التي حلت محل سلطة الدولة البرجوازية “كانت كياناً عاملاً، ليس برلمانياً، وإنما تنفيذياً وتشريعياً في نفس الوقت” (المصدر السابق).

في عديد من المرات، وجد مناصرين لماركس وإنجلز في “الحزب الاشتراكي الديموقراطي الألماني” (SDP)حاولوا أن يخلطوا أو يحرفوا منظورهما الثوري الأممي، خاصة في مسألة الدولة. وكان ماركس لاذعاً في معالجته لمطلب “الدولة الحرة” الذي ظهر في برنامج الحزب الاشتراكي الديموقراطي الألماني الموحد في عام 1875. ملتقطاً تسرب روح ألمانيا القيصرية في القرن التاسع عشر إليه، انتقد ماركس برنامج جوته للجوئه إلى حيلة

“طلب أشياء لا معنى لها إلا في الجمهورية الديموقراطية من دولة ليست سوى استبداد عسكري مصنوع بشكل بيروقراطي، تحت حراسة البوليس، مزخرف بأشكال برلمانية، ومسبوك من مزيج إقطاعي تهيمن عليه في نفس الوقت بالبورجوازية بالفعل، ثم تطمين هذه الدولة في قلب المساومات أنهم يأملون فرض هذه الأشياء “بوسائل شرعية”.

حتى الديموقراطية المبتذلة، التي ترى حكمها الألفي في الجمهورية الديموقراطية، وليس لديها أي ظن أنه في هذا الشكل الأخير لدولة المجتمع البرجوازي بالتحديد يجب أن تخاض معركة الصراع الطبقي للوصول إلى حل نهائي، حتى هذه ترتفع كثيراً فوق هذه النزعة الديموقراطية التي تبقى في إطار ما يسمح به البوليس ولا يسمح به المنطق.”

(“نقد برنامج جوته“، 1875)

كان إنجلز مضطراً للعودة إلى نفس الفكرة، والتنديد بالنزعة الوزارية في نفس الوقت، في نقده لبرنامج إيرفورت في 1891، فكتب الآتي:

“لو أن هناك شيئاً واحداً مؤكداً، فهو أن حزبنا والطبقة العاملة ستصل للسلطة فقط تحت شكل الجمهورية الديموقراطية. إن هذا حتى هو الشكل المحدد لديكتاتورية البروليتاريا، كما أظهرت بالفعل الثورة الفرنسية العظمى. سيكون من غير المعقول بالنسبة لأفضل جمهورنا أن نصبح وزراءً تحت إمبراطور، مثلما فعل ميجل. يبدو أنه من وجه نظر قانونية سيكون من غير المستحسن تضمين مطلب الجمهورية مباشرة في البرنامج، برغم أن هذا كان ممكناً حتى تحت حكم لويس بونابرت في فرنسا، والآن في إيطاليا. لكن حقيقة أنه من غير المسموح في ألمانيا حتى تقديم برنامج حزب جمهوري بوضوح، تثبت كم هو خاطئ الاعتقاد أنه يمكن بناء جمهورية، وليس فقط الجمهورية بل أيضاً مجتمع شيوعي، بطريقة مريحة وسلمية.”

(“نقد لمسودة برنامج الحزب الاشتراكي الديموقراطي لعام 1891“، يونيو 1891)

كان يوهانس ميجل عضواً بالرابطة الشيوعية حتى 1852، بعدها هجرها إلى البورجوازية الألمانية، وأخيراً خدم كقائد “الحزب الليبرالي الوطني” وكوزير في الحكومة لبضعة سنوات.

نما “الحزب الاشتراكي الديموقراطي الألماني” بشكل هائل في الحجم والتأثير خلال العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر، برغم من القانون المناهض للاشتراكيين والذي سنه بسمارك عام 1878، وبشكل أكبر بعد إلغاء القانون في عام 1890. وأدت سلسلة من النجاحات الانتخابية إلى دمج مكون كبير من البرلمان والمجلس المحلي. واتحدت أموال الحزب الكبيرة والموارد الأخرى مع جهاز الحزب والنقابات الثقيل لتخلق تأثيرا محافظا وتوفر قاعدة مادية لميل انتهازي أقوى وأشد وضوحاً. كتب إنجلز، في مخطوطة مقدمة عام 1890 لعمل ماركس الرئيسي عن كوميونة باريس:

“في الآونة الأخيرة، امتلأ ضيقو الأفق من الاشتراكيين الديموقراطيين برعب شديد من كلمتي “ديكتاتورية البروليتاريا”، حسناً وجيد، هل تودون أن تعرفوا أيها السادة المحترمون ما هي ديكتاتورية البروليتاريا؟ أنظروا إلى كوميونة باريس. هذه كانت ديكتاتورية البروليتاريا.”

(مقدمة لكتاب ماركس “الحرب الأهلية في فرنسا“، مارس 1891)

عندما نشر الكتاب، أحل محررو “الحزب الاشتراكي الديموقراطي الألماني“عبارة “ضيقو الأفق الألمان” محل “ضيقي الأفق من الاشتراكيين الديموقراطيين“.

في السنوات التي تلت موت إنجلز في عام 1895، أرسى إدوارد برنشتاين القيادي بـ”الحزب الاشتراكي الديموقراطي الألماني” التعبير النظري عن الميل الانتهازي المتصاعد بالتنكر بوضوح للماركسية الثورية لحساب “ماركسية تطورية” تقوم على إصلاح تدريجي للمجتمع البورجوازي. أعلن برنشتاين أن “الحركة” بالنسبة له هي كل شيء وأن الهدف الاشتراكي النهائي ليس شيئاً. وبالفعل بحلول عام 1895، كانت البواعث الإصلاحية في الاشتراكية الديموقراطية الألمانية الرسمية قد أصبحت قوية لدرجة أنه عندما قدم إنجلز مقدمته لكتاب ماركس “الصراع الطبقي في فرنسا ما بين 1848 و1850” اعترض الموظف التنفيذي بـ”الحزب الاشتراكي الديموقراطي الألماني“بأن العمل كان مفرطاً في الثورية، وطلب من إنجلز أن يقلل من حدته. وحاول هو الالتزام على مضض.

لم يطبع موظف الحزب إعادة الصياغة بأكملها، واستبعد منها بعض الفقرات من وراء ظهر إنجلز ليجعلها تبدو وكأنه تخلى عن رؤيته الثورية. أشهرها أنهم أوردوا عبارته “الثورة بالطريقة القديمة، حرب الشوارع خلف المتاريس، والتي حسمت الأمر في 1848، تجاوزها الزمن بشدة” (مقدمة كتاب “الصراع الطبقي في فرنسا 1848 – 1850“، 6 مارس 1895). لكنهم رفعوا تأكيده القاطع “هل يعني هذا أن حروب الشوارع لن تلعب في المستقبل أي دور؟ بالقطع لا. هذا فقط يعني أن الظروف منذ 1848 قد أصبحت غير مواتية أكثر فأكثر لحروب المدنيين وأكثر مواتاة للجيوش. بهذا سيصبح النصر ممكناً لو تم تعويض هذا الموقف الغير ملائم بعوامل أخرى” (نفس المصدر). وضح إنجلز سابقاً في المقدمة أنه من ضمن هذه العوامل كانت حاجة الثوار إلى جعل “القوات العسكرية تخضع لتأثير معنوي … لو نجحوا في هذا، ستقصر القوات في الاستجابة أو سيفقد ضباط القيادة رؤوسهم، وستنتصر الانتفاضة.“(نفس المصدر).

لم تكن رؤية إنجلز بوضوح هي أن الثورة قد ولى زمنها، كما أصر الإصلاحيون لاحقاً، لكن كانت أنه على قوات البروليتاريا أن تشق صفوف الجيش البورجوازي. باكراً في 1856، وعى ماركس تماماً وجود القاعدة الفلاحية الكبيرة في قلب الجيش البروسي، وأشار بصراحة إلى أنه “سيعتمد كل شيء في ألمانيا على ما إذا كان من الممكن دعم الثورة البروليتارية بطبعة ثانية من حرب الفلاحين. في هذه الحالة ستسير الأمور بنجاح“. (رسالة من ماركس إلى إنجلز، 16 أبريل 1856) .


كتابات ماركس حول مسألة الطريق “السلمي”

يركز إصلاحيو الاشتراكية الديموقراطية على عبارات معزولة لماركس وإنجلز يتركان فيها إمكانية التحول السلمي للاشتراكية في بعض البلدان مفتوحة. يقول ماركس في خطبة له في أمستردام، نشر عنها تقريراً في صحيفة لا ليبرتي:

“نحن نعلم أن المؤسسات والأعراف والتقاليد في البلدان المختلفة يجب أن تؤخذ في الاعتبار، ونحن لا ننكر وجود دول مثل أمريكا وإنجلترا، ولو أني أعرف مؤسساتكم جيداً من الممكن أن أضيف هولندا،حيث يمكن للعمال تحقيق أهدافهم بطريقة سلمية. مع إقرارنا بصحة هذا يجب أن نسلم أيضاً أنه في معظم بلدان القارة يجب أن تكون القوة هي رافعة ثورتنا؛ إنها القوة التي يجب أن نلجأ إليها لبعض الوقت حتى نؤسس سلطة العمال.”

(ماركس، “حول مؤتمر لا هاي“، 8 سبتمبر 1872)

أسس ماركس حجته على تصور أن هذه الدول بالتحديد تفتقد إلى الزمر العسكرية أو لجهاز بيروقراطي ذا شأن. لكن حدسه كان مخطئاً، كان لكل من بريطانيا وهولندا إمبراطورية استعمارية واسعة تتطلب بيروقراطيات كبيرة، وقوات عسكرية جاهزة لقمع الجماهير. استخدمت بريطانيا خلال عهد فيكتوريا (1837 – 1901)، بالإضافة إلى حرب القرم (53 – 1856)، سلسلة لم تتوقف تقريباً من الأعمال العسكرية والحروب الصغيرة والكبيرة، توجت بحرب البوير الثانية، لتوسيع الإمبراطورية والحفاظ عليها.

كانت الولايات المتحدة وقتها في ذروة عهدها الأكثر ديموقراطية، عصر إعادة البناء.[2] لكن الحرب الأهلية كانت قد دفعت رأس المال الشمالي دفعة هائلة، وهكذا بحلول عهد إدارة جرانت[3] كانت كل المتطلبات في مواضعها حتى تزدهر خلال العقود التالية إمبريالية تامة النضج. في هذا العهد بدأ رأس المال الأمريكي بجدية في إخضاع المكسيك اقتصادياً (والتي تقلص حجم إقليمها كثيراً نتيجة للحرب الأمريكية المكسيكية ما بين (46- 1848)، وانتزاع أجود الأراضي الزراعية وامتيازات السكك الحديدية والتعدين. كان سحق إضراب السكك الحديدية عام 1877، وإنهاء عهد إعادة البناء، علامات جلية على هذه العملية.

أثناء ثورة 1848، كان لدى ماركس تقدير مختلف حول إمكانية حدوث تحول سلمي للاشتراكية في انجلترا. أثناء كتابته حول هزيمة الطبقة العاملة على أيدي البورجوازية في هذا العام، ركز ماركس على الحاجة إلى انتفاضة ناجحة ضد البورجوازية الانجليزية:

“إن تحرير أوروبا، سواء أنجز عبر نضال القوميات المضطهدة من أجل الاستقلال أو عبر الإطاحة بالحكم الإقطاعي المطلق، يعتمد على انتفاضة ناجحة للطبقة العاملة الفرنسية. لكن سيكون مصير كل ثورة اجتماعية في فرنسا أن تعيقها البورجوازية الانجليزية، بواسطة الهيمنة الصناعية والاقتصادية لبريطانيا العظمى. كل إصلاح اجتماعي جزئي في فرنسا والقارة الأوروبية ككل، لو كان مقصوداً أن يكون دائماً، هو مجرد رغبة ورعة. فقط حرب عالمية يمكنها الإطاحة بانجلترا القديمة، لأن هذا فقط يمكنه أن يوفر الظروف للشارتيين، حزب العمال الانجليز المنظمين، من أجل انتفاضة ناجحة ضد مضطهديهم العمالقة.”

(“الحركة الثورية“، 31 ديسمبر 1848)

عقب الثورات المهزومة في 1848، نمت الرأسمالية بقوة في القارة. لكن بينما تبدلت نسب القوى الاقتصادية بعض الشيء، احتفظت ملاحظات ماركس عن بريطانيا بصحتها الجوهرية، خاصة حتى زمن الكوميونة وما بعده.

أياً ما كان ما تصوره ماركس في عام 1872، نحن الآن في فترة مختلفة بشكل جوهري من التاريخ: تميز عصر الإمبريالية بهيمنة رأس المال الاحتكاري، حيث تتنافس حفنة من القوى الرأسمالية الكبيرة من أجل سيادة العالم. تحت مثل هذه الظروف تكون فكرة الانتقال السلمي البرلماني إلى الاشتراكية أسوأ من هلاوس الأفيون: إن البرنامج الذي يربط البروليتاريا بأعدائها الطبقيين هو برنامج إصلاحي.

تستشهد المجموعة المسماة خطئاً “التيار البلشفي”، وكأنها تشرح هذه المسألة، بخطاب لإنجلز في 1893 للسخرية من معارضتنا للترشح للمناصب التنفيذية. كان إنجلز يرد على اشتراكي لاجئ (ف. وايس من بيرد في تكساس)، والذي جادل بأن تقليد الدفع بمرشحين للرئاسة الأمريكية يشكل إنكاراً للمبادئ الثورية. رفض إنجلز طلب وايسن لموقف مبدئي منه بوصفه “أكاديميا“، مبدياً ملاحظة أن هدف الثورة العمالية في الولايات المتحدة مازال بعيدا للغاية عن المنال، وأن رسم الخط المبدئي ضد الترشح لمجلس الشيوخ أو الرئاسة كان “سابقاً لأوانه“. وجادل قائلاً:

“لا أرى لماذا يجب بالضرورة أن يمثل تقديم امرئٍ لمرشحين لبعض المناصب السياسية التي تتطلب الانتخاب، وحتى أن يصوت لأولئك المرشحين، انتهاكاً لمبادئ الاشتراكية الديموقراطية، حتى لو كان همه هو محاولة إلغاء هذا المنصب.

“يمكن للمرء أن يعتبر أن أفضل طريقة لإلغاء الرئاسة ومجلس الشيوخ في أمريكا، هو أن يُنتخب لهذه المناصب رجال تعهدوا بأنفسهم أن يلغوها؛ سيكون من المنطقي وقتها أن يتصرف المرء وفقاً لذلك. البعض الآخر يمكن أن يعتبر هذه الوسيلة غير ملائمة؛ إنها مسألة يمكن الجدال حولها. حيث يمكن أن تكون هناك ظروف قد يتضمن فيها هذا النوع من الأفعال أيضاً إنكاراً للمبادئ الثورية؛ لماذا يجب أن يكون الأمر هكذا دائماً وبلا تغيير، لا أستطيع أن أفهم.”

(رسالة من إنجلز إلى ف. وايسن، 14 مارس 1893)

كان اهتمام إنجلز المركزي أن يحث “حزب العمل الاشتراكي“(SLP) (والذي يسيطر عليه المهاجرون) على المساعدة في بدء حركة سياسية للطبقة العاملة. لهذه الغاية كان يؤكد قبلها بسنوات على أهمية ترشيح “حزب العمل الموحد” لمحصل الضرائب هنري جورج لمنصب عمدة مدينة نيويورك عام 1886، معتبراً ذلك كخطة في اتجاه حزب عمال مستقل على طراز الأحزاب الاشتراكية الديموقراطية في أوروبا. في 1893 لم يعلم إنجلز كيف سترسم خطوط المبدئية في ساحة البرلمانية حينما تحين لحظة المعركة. كيف أمكن لإنجلز عند هذه النقطة الإجابة على الأسئلة حول نوعية حزب العمال المطلوب للوصول إلى السلطة، من نوعية مبادئ “التيار البلشفي” البرلمانية؟ من نوعية الدعم النقدي الفعال للمضللين الإصلاحيين؟ حتى مع ذلك، كان إنجلز يعرف ما يكفي ليشير إلى طريق الحرب الأهلية.

أما”التيار البلشفي” فقد كان دافعه للاستشهاد بإنجلز هو الإسهام في دفاع أخرق عن النزعة الوزارية . كما كتب تروتسكي في 1920 أثناء سخريته من كاوتسكي:

“إن الدولة الديموقراطية البورجوازية لا تخلق فقط ظروف مواتية للتربية السياسية للعمال، مقارنة بالحكم المطلق، لكن أيضاً تضع حداً لهذا التطور داخل إطار الشرعية البورجوازية، والتي تراكم وتبني على عادات الشريحة العليا من انتهازيي البروليتاريا وميلها للالتزام بالقانون. أثبتت مدرسة الديموقراطية أنها غير كافية بدرجة ما لتحريض البروليتاريا الألمانية على الثورة عندما وقعت كارثة الحرب. كانت مدرسة الحرب الهمجية، وطموحات الاشتراكيين الإمبرياليين، والانتصارات العسكرية الضخمة، والهزائم التي لا تضاهى كلها مطلوبة. بعد هذه الأحداث، التي أحدثت بعض الاختلاف في العالم، وحتى في برنامج إيرفورت، فإن استخلاص المواقف الشائعة عن دلالة الديموقراطية البرلمانية في تربية البروليتاريا يعكس السقوط في الطفولة السياسية.”

(تروتسكي، “الإرهاب والشيوعية“، 1920)

ربما يغير “التيار البلشفي” اسم جريدته 1917 (هل يقصدون فبراير؟) إلى 1893.


النضال ضد النزعة الميلليرانية، عام 1900

كانت مسألة طبيعة المناصب التنفيذية في الدولة البورجوازية نقطة مركزية في يونيو 1899، عندما أصبح ألكسندر ميلليران أول قائد اشتراكي يقبل منصباً وزارياً في حكومة بورجوازية. في خطاب لإنجلز في عام 1894 لم يُستشهد به في مسلك “التيار البلشفي“، حذر على وجه التحديد من إمكانية كهذه في حال وصل الجمهوريون الإيطاليون إلى السلطة على رأس حركة ثورية يدعمها الاشتراكيون. جادل إنجلز في خطابه إلى القائد الاشتراكي الإيطالي فيليبو توراتي:

“بعد النصر المشترك، من المحتمل أن يعرض علينا بعض المقاعد في الحكومة الجديدة، لكن بما يجعلنا دوماً نبقى أقلية. هذا هو الخطر الأعظم. بعد فبراير 1848، أخطأ الاشتراكيون الديموقراطيون الفرنسيون (ليدرو رولان، لوي بلان، فلوكون، الخ) بقبول مثل هذه المناصب. بتشكيلهم أقلية في الحكومة، قبلوا طواعية أن يتحملوا المسئولية عن كل الأعمال المخزية والخيانة التي ارتكبتها الأغلبية، والتي تشكلت من جمهوريين صرف، في حق الطبقة العاملة، بينما شل وجودهم في الحكومة الفعل الثوري للطبقة العاملة التي ادعوا تمثيلها تماماً.”

(“رسالة إنجلز إلى فيليبو توراتي” 26 يناير 1894، مراسلات ماركس وإنجلز المختارة، موسكو، دار التقدم، 1955)

يعد خمس سنوات، برر ميلليران خدمته كوزير تجارة تحت رئيس الوزراء رينيه والديك-روسو بالجدل أنه إن لم يفعل ستكون الجمهورية الفرنسية تحت خطر الإطاحة بها بواسطة التحالف الرجعي للملكيين والأريستوقراطيين المرتبطين بفيلق الضباط والكنيسة الكاثوليكية. كان يجلس جنباً إلى جنب مع ميلليران في حكومة “الدفاع عن الجمهورية” هذه السفاح الدموي لكوميونة باريس؛ الجنرال جاليفيه.

كانت خلفية كل هذا هي مسألة دريفوس، فضيحة سياسية دفعت بفرنسا إلى أزمة سياسية عميقة. كان ألفريد دريفوس، الضابط اليهودي في الأركان العامة، قد أدين بواسطة محكمة عسكرية سرية في 1894 ببيع أسرار عسكرية لقوى أجنبية وحكم عليه بالسجن مدى الحياة. بعد فترة قصيرة ظهر أن قيادات الجيش حاكمت دريفوس لتخفي جريمة ضابط آخر من الأريستوقراطيين، بعد سنوات من المنفى في جزر ديفل في جويانا الفرنسية، أعيدت محاكمة دريفوس وأدين ثانية في سبتمبر 1899؛ وأخيراً مُنح عفواً رئاسياً بعد أقل من شهر. أدخل ميلليران للحكومة كطريقة لنزع فتيل الأزمة الدائرة.

كانت الحركة الاشتراكية الفرنسية، والتي استُقطبت على مسألة دريفوس، منقسمة حول ما فعله ميلليران. عضد أحد الأجنحة ميلليران، تحديداً جين جوريس، والذي أصبح في عام 1898 من أكثر المدافعين عن دريفوس حماسة وبلاغة، وإن كان محصوراً داخل حدود الليبرالية البورجوازية. رفض الجناح الآخر، “حزب العمال الفرنسي“(POF)، بقيادية جوليس غيد وبول لافارغ، الدفاع عن دريفوس وعارضوا انضمام ميلليران إلى الحكومة.

انضمت روزا لكسمبورج، مؤسسة الاشتراكية الديموقراطية في مملكة بولندا وليتوانيا والتي برزت في الجناح اليساري لـ”الحزب الاشتراكي الديموقراطي الألماني“، إلى الجدل حول ميلليران، بالتحديد خلال المعركة ضد برنشتاين. في تفنيدها البليغ لإصلاحية برنشتاين، لاحظت لكسمبرج الآتي:

“إن من يعلنون أنهم يفضلون طريق الإصلاح التشريعي بدلاً من وكنقيض لانتزاع السلطة السياسية والثورة الاجتماعية، لا يختارون في الواقع طريقاً أكثر سكوناً وهدوءاً وأبطأ لنفس الهدف، لكنهم يختارون هدفاً مختلفاً. بدلاً من اتخاذ موقف بناء مجتمع جديد يتخذون موقف تعديل الشكل الخارجي للمجتمع القديم.”

(لكسمبرج، “إصلاح أم ثورة“، 98 – 1899، أعيد طبعه في “روزا لكسمبرج تتحدث“، نيويورك، مطبوعات باثفايندر، 197)

جادلت لكسمبرج، عن حق، أنه يجب على الاشتراكيين الدفاع عن دريفوس، مستغلين هذه القضية لاتهام الرأسمالية والعسكرية الفرنسية ولدفع الصراع الطبقي إلى الأمام. لكنها عارضت دخول ميلليران في الحكومة، وجادلت:

“إن سمة الحكومة البورجوازية لا تتحدد بواسطة السمات الشخصية لأعضائها، لكن بوظيفتها العضوية في المجتمع البورجوازي. الحكومة في الدولة الحديثة هي أساساً منظمة للهيمنة الطبقية، التي يعتبر لعبها لدورها واحد من أهم شروط وجود المجتمع الطبقي. بدخول اشتراكي إلى الحكومة واستمرار وجود الهيمنة الطبقية، لا تحول الحكومة البورجوازية نفسها إلى حكومة اشتراكية، لكن الاشتراكي يحول نفسه إلى وزير برجوازي.”

(“مسألة دريفوس وقضية ميلليران“، 1899، لكسمبرج، “الاشتراكية في فرنسا (1898 – 1912)“، باريس: إصدارات بيير بيلفوند، 1971، ترجمة “الرابطة الشيوعية الأممية“)

بالدخول إلى الحكومة، يصبح منطق الميلليرانية أولوية الحفاظ على حكومة والديك-روسو بأي ثمن. كما علقت لكسمبرج بسخرية “بالأمس، يجب على مجلس الوزراء اتخاذ إجراء دفاعي للحفاظ على الجمهورية، اليوم يجب التخلي عن الدفاع عن الجمهورية من أجل الحفاظ على مجلس الوزراء” (“أزمة الاشتراكية في فرنسا، 1900 – 1901“، ترجمة “الرابطة الشيوعية الأممية“). بعد استقالة والديك-روسو، دعمت مجموعة جوريس حكومة إيميلي كومبس الراديكالية وصوتت للميزانية الحكومية بما فيها تمويل الجيش والبحرية.

لاحظ لينين الرابط الجلي بين تحريفية برنشتاين والنزعة الميلليرانية:

“قدم ميلليران مثلاً ممتازاً على البرنشتاينية في التطبيق العملي؛ لم يهرع برنشتاين وفولمار للدفاع عنه وتمجيده بحماسة بلا سبب. في الحقيقة، لو أن الاشتراكية الديموقراطية هي في جوهرها مجرد حزب للإصلاحات ويجب أن تكون جريئة بما فيه الكفاية للاعتراف بهذا بكل صراحة، وقتها لن يكون فقط من حق أي اشتراكي أن ينضم إلى الحكومة البورجوازية، لكن عليه أن يسعى جاهداً دوماً لفعل ذلك. لو أن الديموقراطية، في جوهرها، تعني إلغاء السيطرة الطبقية، فلماذا إذن لا يجب على وزير اشتراكي أن يغري العالم البورجوازي بخطب رسمية عن التعاون الطبقي؟ لماذا لا يجب عليه أن يبقى في مجلس الوزراء، حتى بعد أن كشف قتل الدرك للعمال بالرصاص، للمرة المائة والألف، الطبيعة الحقيقية للتعاون الطبقي الديموقراطي؟”

(“ما العمل؟“، 1902)

كانت المناقشة بخصوص النزعة الوزارية هي المهيمنة على مؤتمر باريس للأممية الثانية في 1900، وقف مع لكسمبرج، الماركسي الروسي الريادي جورجي بليخانوف، وقائد “حزب العمل الاشتراكي الأمريكي“(SLP) دانييل دي ليون ويساريون آخرون، ضد الجناح اليميني المتمثل في برنشتاين وجورج فون فولمار من “الحزب الاشتراكي الديموقراطي الألماني” والذين عضدوا جوريس وميلليران. كان في الوسط سياسياً، مثلما كانت الحالة على نحو متزايد داخل الحزب الألماني، مُنظر “الحزب الاشتراكي الديموقراطي الألماني“كارل كاوتسكي، والذي كان مازال يعتبر “بابا الماركسية“. وكما لاحظ المؤرخ ج. د. ه. كول:

“كانت مهمة كاوتسكي هي ابتكار صيغ كلامية تُرضي الوسط وتجرد اليسار المتشدد من سلاحه دون أن تدفع بالجناح اليميني للخروج من الأممية، وبدون أن تجعل موقف جوريس لا يطاق.”

(كول، “الأممية الثانية 1889 – 1914“، لندن، ماكميلان وشركاه، 1960)

كان القرار التوافقي الذي سلقه كاوتسكي يبين إلى أي مدى اخترقت إصلاحية الاشتراكية الديموقراطية الأممية الثانية:

“في الدول الديموقراطية المعاصرة، لا يمكن أن يكون انتزاع البروليتاريا للسلطة السياسية مجرد عمل انقلابي، لكن يمكن فقط أن يكون نتيجة لعمل طويل وشاق لمنظمات البروليتاريا السياسية والاقتصادية، نتيجة لتجددها المادي والمعنوي، وانتزاع المقاعد الانتخابية خطوة بخطوة في الجمعيات التمثيلية والهيئات التشريعية في المجتمع.

“لكن حيث أن السلطة الحكومية مركزية، فإن انتزاعها لا يمكن أن يتم قطعة بقطعة. دخول اشتراكي بمفرده في وزارة بورجوازية لا يمكن اعتباره البداية الطبيعية لانتزاع السلطة السياسية، لكن يمكنه فقط أن يكون حيلة مؤقتة واستثنائية في مأزق.

“إذا ما وجد في حالة ما مأزق كهذا، فهو مسألة تكتيكات وليس مبادئ، ولا يجب على المؤتمر أن يقرر هنا. لكن على أي حال لن تكون هذه التجربة الخطيرة ذات فائدة إلا إذا اعتُمدت بواسطة منظمة حزبية موحدة، واستمر الوزير الاشتراكي مندوباً عن حزبه”

(“مؤتمر الأممية الاشتراكية في باريس عام 1900“، برلين، بعثة دار نشر “إلى الأمام“، 1900، ترجمة “الرابطة الشيوعية الأممية“)

إن التحذير بلا داعٍ من الانقلابية والحجج المؤيدة للاختراق التدريجي للمجالس المحلية والجمعيات التشريعية، كانا مقصودين لتهدئة التحريفيين، وهو ما أدركوه. قبل ميلليران وجوريس بسعادة جملة “الحيلة الاستثنائية” الهروبية، لأنهم استخدموا هذا الجدال بلا حرج لدعم نزعتهم الوزارية. في الحقيقة كانت البورجوازية هي التي قبلت هذا الوزير الاشتراكي كحركة “استثنائية” لتحل الأزمة السياسية التي تولدت عن مسألة دريفوس.

أكد قرار الأقلية، والذي قدمه غيد وإنريكو فيرري الايطالي، على أنه “بانتزاع السلطة العامة، يجب أن يفهم المرء المصادرة السياسية للطبقة الرأسمالية، سواء كانت هذه المصادرة سلمية أو عنيفة“، ثم واصل:

“لذا يسمح في ظل النظام البرجوازي، فقط بشغل المناصب الانتخابية التي يستطيع الحزب أن يحوزها بقواه الخاصة، أي العمال المنظمين كحزب طبقي، وبالضرورة يُمنع أي اشتراكي من الاشتراك في الحكومات البورجوازية، والتي يجب أن يظل الاشتراكيون في موقع المعارضة التي لا تقبل المساومة لها.”

(“مؤتمر الأممية الاشتراكية في باريس من 23 – 27 سبتمبر 1900“، جنيف، مينكوف ريبرينت، 1980، ترجمة “الرابطة الشيوعية الأممية“)

وبالتالي ترك قرار الأقلية المجال مفتوحاً لتولي المناصب “التي يستطيع الحزب أن يحوزها بقواه الخاصة“. مضى بليخانوف إلى أبعد بقبوله إمكانية المشاركة في الحكومة البورجوازية كتكتيك متاح في ظروف استثنائية بعينها. لذا أيد مبدئياً قرار كاوتسكي لكنه حاول أن يعدل عليه ليتضمن على الأقل نقداً ضمنياً لميلليران، مجادلاً أنه لو اضطر اشتراكي إلى الانضمام لمجلس الوزراء البورجوازي في حالات قسرية، فهو مضطر إلى تركه لو كشف انحيازاً في علاقته بصراع العمل ورأس المال. اعترف بليخانوف بنفسه أنه على المستوى النظري، فإن تعديله “لن يصمد أمام النقد : ما هو نوع الحكومة البورجوازية التي لن تكون منحازة في صراع العمل ورأس المال؟” (“كلمات قليلة حول مؤتمر الأممية الاشتراكية الأخير في باريس“، أبريل 1901). عدل جوريس بعد ذلك بحذق تعديل بليخانوف ليقول أنه على الاشتراكي ترك مجلس الوزراء لو اعتبر حزب اشتراكي موحد الحكومة منحازة في صراع العمل ورأس المال، لكن فرنسا لا تملك حزباً موحداً! بعد أن اسقط في يده، انتهى بليخانوف إلى التصويت مع قرار الأقلية مع الشكوى بأن اقتراح غيد كان قاطعا أكثر من اللازم في معارضته للدخول في الحكومة البورجوازية.

قدم غيد أيضاً مقترحاً ضد مشاركة الاشتراكيين في تحالفات تعاون طبقي مع الأحزاب البورجوازية. وأثناء تأكيده على أن “الصراع الطبقي يمنع أي نوع من التحالفات مع أي جزء من الرأسمالية أياً كان” سمح الاقتراح أن “تجعل الظروف الاستثنائية التحالفات ضرورية في بعض الأماكن” (“مؤتمر الأممية الاشتراكية“، ترجمة “الرابطة الشيوعية الأممية“). هذا المخرج كان كبيراً بما فيه الكفاية ليوافق حتى مئات الانتهازيين على القرار، وأقر بالإجماع.


أمستردام 1904، الميلليرانية تعود من جديد

عادت الأممية الثانية لموضوع الميلليرانية في مؤتمر أمستردام عام 1904. قبلها بعام في مؤتمر الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني عام 1903 في دريسدن، شارك كاوتسكي في التصديق على قرار يدين التحريفية وبشكل ضمني الميلليرانية، وعلق دانييل لدي ليون القيادي بحزب العمل الاشتراكي الأمريكي بسخرية: “في مؤتمر باريس، كان هناك توجه مضاد للميلليرانية لكنه كان غير مقبول بشكل حاسم ، وقتها كان كاوتسكي “يجري مع الأرانب البرية”“، بينما في دريسدن كان كاوتسكي “مرة أخرى في المقدمة، والآن “ينبح مع كلاب الصيد”” (“مؤتمر دريسدن“، الشعب اليومية، 3 يناير 1904).

قدم الغيديون بعدها قرار “الحزب الاشتراكي الديموقراطي الألماني” لإقراره في أمستردام. كما مر في 1904، كان القرار “يدين بأكثر الطرق حزماً جهود التحريفيين لتبديل تكتيكاتنا السابقة في النضال الطبقي التي ثبت وحققت انتصارات، بطريقة تحل التكيف مع الأوضاع القائمة محل انتزاع السلطة السياسية وهزيمة خصومنا” (“مؤتمر الأممية الاشتراكية في أمستردام“، بعثة دار نشر “إلى الأمام“، 1904، ترجمة “الرابطة الشيوعية الأممية“). وأعلن بوضوح أنه ضد أي “حزب يضع نفسه داخل إطار إصلاح المجتمع البورجوازي” وعلاوة على ذلك أعلن أن “الاشتراكية الديموقراطية، مع إبقائها على قرار كاوتسكي لمؤتمر الأممية الاشتراكية في باريس عام 1900، لا يمكنها السعي للمشاركة في السلطة الحكومية في قلب المجتمع البورجوازي“. كانت الإشارة الايجابية لقرار كاوتسكي عام 1900 مداهنة خصوصية للجناح اليميني. لم يؤدي توبيخ التحريفيين لافتراق الطرق، قبلت كل الأجنحة فكرة “حزب الطبقة بأكملها“، أي حزب واحد موحد للطبقة العاملة يشمل كل التيارات من الماركسية إلى الإصلاحية. مع ذلك، رأي مندوبين من كل من الجناحين اليساري واليميني في أمستردام قرار دريسدن كمعارضة حادة للتصالح مع الميلليرانية في 1900.

صوت دي ليون ضد قرار كاوتسكي في مؤتمر باريس عام 1900. وفي عام 1904، اعترض دي ليون ثانية على إقرار موقف كاوتسكي في 1900، واقترح القرار التالي:

“حيث أنه في مؤتمر الأممية الأخير، الذي عقد في باريس في عام 1900، اعتمد قرار عرف بقرار كاوتسكى، طرح في بنوده الختامية الحاجة الملحة للطبقة العاملة لقبول مناصب تمنحها الحكومات الرأسمالية، وأيضاً، على وجه الخصوص، يفترض مسبقاً نزاهة جزء من حكومات الطبقة الحاكمة في الصراع بين الطبقة العاملة والرأسمالية ..

قررنا ، أولاً، إلغاء ما يسمى بقرار كاوتسكى كمبدأ للتكتيكات الاشتراكية العامة وما شابهه؛

ثانياً، في الدول الرأسمالية المتقدمة كأمريكا، لا تستطيع الطبقة العاملة أن تشغل أي منصب سياسي غير ما تنتزعه بأيديها ولنفسها، بدون خيانة قضية البروليتاريا.“

(دي ليون، “الميلليرانية مرفوضة“، الشعب اليومية، 28 أغسطس 1904)

وعندما فشل في أن يحصل على أي تأييد لقراره، صوت دي ليون للقرار الرئيسي.

تجنب قرار دي ليون، عند حديثه عن السماح لشغل المناصب السياسية التي تنتزعها الطبقة العاملة “بأيديها ولنفسها“، الموضوع الرئيسي؛ ضرورة سحق آلة الدولة البورجوازية واستبدال ديكتاتورية البروليتاريا بها. بينما وقف دي ليون موقفاً مبدئياً ضد النزعة الوزارية البورجوازية، كان أيضاً يحافظ على الانتخابية. احترم جيمس ب. كانون، مؤسس الشيوعية الأمريكية والتروتسكي فيما بعد، دور دي ليون الرائد في مرحلة تكوين حركة اشتراكية أمريكية، لكنه في نفس الوقت لا حظ أنه “كان حلقيا في تكتيكاته، وكان مفهومه للعمل السياسي شكلانياً بشدة، وأضحى عقيماً نتيجة للولع بالروتينية” (كانون، “السنوات العشر الأولى من الشيوعية الأمريكية“، نيويورك مطبوعات باثفايندر، 1962).

كما أوضح في خطاب نشر تحت اسم “مقدمة لاتحاد العمال الصناعيين العالمي“، ترك دي ليون المجال مفتوحاً، على الأقل في الولايات المتحدة، أن تنتزع البروليتاريا السلطة السياسية بالطريق السلمي عبر صناديق الاقتراع، وبعدها ستحل الحكومة الاشتراكية الجديدة نفسها وتتنازل عن السلطة لإدارة من “الاتحادات الصناعية الاشتراكية” (“إعادة البناء الاشتراكي للمجتمع“، دي ليون، سوشياليست لاندماركس، نيويورك: شركة نيويورك لأخبار العمل، 1952). طبقاً لدي ليون، فإن هذه الاتحادات التي تتشكل تحت حكم الرأسمالية، ستنمو عضوياً، وتدريجياً تستولي على السلطة الاقتصادية وتستخدمها ضد الرأسمالية. بداية من تسعينات القرن التاسع عشر، كان حزب دي ليون “حزب العمل الاشتراكي” يدفع بإخلاص بمرشحه الخاص إلى انتخابات الرئاسة الأمريكية كل أربع سنوات. بعد موت دي ليون عام 1914 ورفض “حزب العمل الاشتراكي“لقابلية دروس ثورة أكتوبر للتطبيق في الحالة الأمريكية، تحول الحزب إلى هيكل متحجر من نسخته القديمة.

لكن في نزعته الانتخابية، كان هناك القليل الذي يميز بين “حزب العمل الاشتراكي“حتى تحت قيادة دي ليون و”الحزب الاشتراكي” بقيادة إيوجين ف. ديبس. من عام 1900 فصاعداً، ترشح ديبس خمس مرات لمنصب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية. ردد ديبس: “يجب على العمال أن يتعلموا أن يتحدوا ويصوتوا معاً كطبقة لدعم “الحزب الاشتراكي”، الحزب الذي يمثلهم كطبقة،وعندما يفعلون هذا ستنتقل الحكومة لأيديهم وستفشل الرأسمالية في الصعود مرة أخرى” (“نمو الاشتراكية“، 1906، كتابات وخطب إيوجين ف. ديبس، نيويورك: مطبوعات هيرميتاج، 1948). خاض ديبس حملته الانتخابية الأخيرة في عام 1920، والتي فاز فيها بما يزيد عن 900000 صوت، من قلب زنزانة في أتلانتا بولاية جورجيا، حيث كان يقضي عقوبة سجن عشر سنوات (محروماً أيضاً من حق الاقتراع مدى الحياة) لمعارضته للحرب العالمية الأولى. رسخت حملة ديبس الرئاسية بالإضافة لنفوذه العظيم تقليد ترشح الاشتراكيين على منصب القائد الأعلى للإمبريالية الأمريكية، والذي قبل دون نقد من الجميع فيما عدا أعداء البرلمانية؛ خصوم أي نشاط انتخابي مهما كان. لكن بينما كان ديبس يسعى للإطاحة بالرأسمالية، فإن كثيرين من القادة الاشتراكيين أمثال موريس هيلكويت كانوا إصلاحيين خطرين معادين لللينينية. واحد آخر هو فيكتور بيرجر الذي كان جديراً بأن يوصف بـ”اشتراكي المجاري” من أجل برنامجه للإصلاح المحلي والذي لم يكن يختلف عن ما تسوق له الحركة البورجوازية التقدمية.


النزعة للمجالس المحلية والأممية الثانية

لم تكن نزعة المجالس المحلية حكراً على الإصلاحيين العلنيين. فالانقسام العميق بين الجناحين الإصلاحي والثوري في الأممية الثانية حول تولي مسئولية الحكومة البورجوازية على مستوى الوزراء لم يمتد إلى مستوى المجالس المحلية. في الحقيقة، أجمع مؤتمر عام 1900 في باريس على إقرار قرار حول النزعة للمجالس المحلية أكد على:

“مع الأخذ في الاعتبار أن المجلس المحلي يمكن أن يصبح مختبراً ممتازاً لحياة اقتصادية لا مركزية وفي نفس الوقت استخدامه كصرح سياسي هائل بواسطة الأغلبية الاشتراكية المحلية ضد الأغلبية البرجوازية في السلطة المركزية، إذا ما تم تحقيق استقلال جدي؛

“فإن مؤتمر عام 1900 للأممية قرر:

“أنه من واجب كل الاشتراكيين، بدون تجاهل أهمية السياسات العامة، أن يوضحوا ويقدروا نشاط المجالس المحلية، وأن يعطوا إصلاحات المجالس المحلية الأهمية الممنوحة لها باعتبارها “أجنة للمجتمعات التشاركية” والسعي لتحويل الخدمات المجتمعية؛ النقل، الإضاءة، إمداد المياه، الكهرباء، المدارس، الخدمات الطبية، المستشفيات، الحمامات، بيوت الغسيل، مخازن البلدية، مخابز البلدية، خدمات الغذاء، التدفئة ، إسكان العمال، الملابس، الشرطة، أعمال البلدية، الخ، إلى مؤسسات نموذجية، من وجهة نظر المصلحة العامة بالإضافة إلى المواطنين الموظفين في هذه العملية.”

(“مؤتمر الأممية الاشتراكية“، ترجمة “الرابطة الشيوعية الأممية“)

ربما يكون هذا المثل هو الأكثر وضوحاً لمعضلة أحزاب الأممية الثانية؛ برنامج فعلى يتضمن إصلاحات الحد الأدنى وبرنامج حد أقصى اشتراكي، وهما جميعاً يخرجان دوماً لعظات الأحد السياسية، لكن لاشيء أكثر. حتى هؤلاء الذين كانوا أكثر صراحة ورسوخاً في معارضتهم للبرنشتاينية والميلليرانية اعتقدوا أن الاشتراكين يمكن أن يساهموا في الإدارات المحلية. لذا كتبت روزا لكسمبورج:

“إن مسألة المشاركة في مجلس المدينة مختلفة بالكامل. صحيح أن كل من مجلس المدينة والعمدة مكلفين، ضمن جملة أشياء أخرى، بوظائف إدارية وكلت إليهم وبتنفيذ القوانين البورجوازية؛ ومع ذلك كلاهما يشكلان تاريخياً عنصران متعارضان كلياً.…

“من ناحية التكتيكات الاشتراكية تكون النتيجة موقف مختلف بشكل أساسي: الحكومة المركزية للدولة المعاصرة هي تجسيد حكم الطبقة البورجوازية، والتي تعتبر إزاحتها هي الشرط الضروري لانتصار الاشتراكية؛ الإدارة الذاتية هي عنصر المستقبل، الذي ترتبط به الاشتراكية بشكل فعلي.

“باعتراف الجميع، تعرف الأحزاب البورجوازية كيف تضفى محتواها الطبقي حتى على الوظائف الاقتصادية والثقافية للمجالس المحلية. لكن هنا لن يصل الشيوعيون لموقف يخونون فيه سياستهم الخاصة. طالما هم في أقلية المجالس التمثيلية في المدينة، سوف يكون دليلهم المعارضة بنفس طريقتهم في البرلمان. لكن لو أحرزوا الأغلبية، سوف يحولون المجلس المحلي نفسه إلى أداة للنضال ضد السلطة البورجوازية المركزية.”

(“أزمة الاشتراكية في فرنسا“، 1900 – 1901، ترجمة “الرابطة الشيوعية الأممية“)

كانت هذه الرؤية مترسبة عن فترة سطوة البرجوازية الثورية، عندما كانت الكوميونة سلاح الطبقات المدينية ضد الدولة الملكية الإقطاعية. في العصور الوسطى المتأخرة، كانت الكوميونات في ايطاليا وفرنسا تستخدم كحصون أنمت بداخلها البورجوازية التجارية جذور الرأسمالية في قلب المجتمع الإقطاعي وفي مقابل قوى الاستبداد. لكن بعد أن أتت البورجوازية إلى السلطة، ألقت بالكوميونات المستقلة جانباً لتبني دولة مركزية قوية لتدافع عن مصالحها الطبقية على المستوى القومي. تبني الأممية الثانية لنزعة المجالس المحلية لا يعكس فقط الارتباك النظري لكن أيضاً حقيقة أن هذه الإصلاحات التي تم تحقيقها عبر الصراع الطبقي في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر كان غالباً ما يستغنى عنها من قبل الحكومات المحلية التي يسيطر عليها الاشتراكيين.

في الحقيقة، سعى ماركس وإنجلز إلى تبديد أوهام أنصار المجالس المحلية في مناسبات عدة. بعد ثورات عام 1848، نبها أن البروليتاريين “لا يجب أن يسمحوا للحديث الديموقراطي عن حرية الجماعات، والحكم الذاتي، الخ، أن يضللهم” (“خطاب إلى الهيئة المركزية الرابطة“، مارس 1850). وفي كتابه عن كوميونة باريس، حذر ماركس من الخلط بين وظائف كوميونة العصور الوسطى ومهام الاشتراكية البروليتارية:

“بشكل عام يكون مصير الإبداعات التاريخية الجديدة تماماً أن يتم الخلط بينها وبين نظائرها من أشكال الحياة الاجتماعية القديمة أو حتى التي لم تعد مستعملة، والتي قد تحمل بعض التشابه معها. لذا فقد أسيء فهم هذه الكوميونة الجديدة، التي تكسر سلطة الدولة الحديثة، على أنها إعادة إنتاج لكوميونات العصور الوسطى، التي سبقت في البداية سلطة الدولة هذه بالذات، ثم أصبحت قوامها… التعارض بين الكوميونة وسلطة الدولة أسيء فهمه على أنه صورة مضخمة من النضال القديم ضد الإفراط في المركزية .. إن وجود الكوميونة بالذات يتضمن، كموضوع بالطبع، حرية المجالس المحلية، لكن لم يعد كبحاً لسلطة الدولة التي حلت محلها”

(“الحرب الأهلية في فرنسا“)

وفي سياق مشابه، على إثر الثورة الروسية في عام 1905، ندد لينين بـ”الانتهازية ضيقة الأفق” لبرنامج المناشفة حول “اشتراكية المجالس المحلية“:

“لقد نسوا أنه طالما أن البورجوازية تحكم بوصفها طبقة فإنها لن تسمح بأي انتهاك، حتى من وجهة نظر “المجالس المحلية”، للأسس الحقيقية لحكمها؛ فلو أن البورجوازية تسمح وتتعايش مع “اشتراكية المجالس المحلية”، فهذا لأن الأخيرة لا تمس أسس حكمها، لا تتداخل مع مصادر ثروتها الهامة، لكنها تتوسع فقط في نطاق الإنفاق المحلي، الذي تسمح البورجوازية نفسها للسكان بإدارته. لا تحتاج لأكثر من معرفة طفيفة بـ”اشتراكية المجالس المحلية” في الغرب لتعرف أن أي محاولة من جانب المجالس المحلية الاشتراكية لتتجاوز قليلاُ حدودها الطبيعية؛ أي الأنشطة الصغيرة والتافهة، التي لا تقدم أي مساعدة جوهرية للعمال، أي محاولة للتدخل في شئون رأس المال، ستواجه دائماً من السلطات المركزية للدولة البورجوازية بأكثر الوسائل شدة.”

(“البرنامج الزراعي للاشتراكية الديموقراطية في الثورة الروسية الأولى“ 1905 – 1907، نوفمبر وديسمبر 1907)

مما يدل على التناقضات الكامنة في دعم الكثير من الاشتراكيين الديموقراطيين الثوريين لسيطرة الاشتراكيين على الحكومات البلدية، هو أن لكسمبورج رفضت بشدة الحجج التي قدمها أتباع فولمار للدفاع عن التصويت لميزانية ولاية بادن في مايو 1900. ردت لكسمبورج، مستشهدة بتأكيدهم “أن ميزانية الولايات الألمانية المستقلة يحتوي معظمها، على النقيض من ميزانية الرايخ، على نفقات للثقافة وليست للجيش“:

“ما إذا كانت الميزانية تحتوي نفقات عسكرية أكثر أو أقل، أو نفقات للثقافة، مثل يمكن أن تكون هذه الاعتبارات الكمية حاسمة بالنسبة لنا فقط لو أننا نستند على الدولة المعاصرة ونحارب فقط تجاوزاتها، على سبيل المثال الدولة العسكرية… في الحقيقة، نحن نرفض التصويت على تمويل من دافعي الضرائب للرايخ الألماني ليس فقط لأنها دولة عسكرية لكن قبل كل شيء لأنها دولة البورجوازية. وهذا ينطبق بشكل متساوي، مع ذلك، على الدولة الفيدرالية الألمانية.”

(لكسمبورج، “التصويت على ميزانية بادن“، ترجمة “الرابطة الشيوعية الأممية“)

إن التمييز الزائف بين الحكومات القومية وعلى مستوى الدولة كنقيض لحكومات المجالس المحلية، ترك المجال مفتوحاً لهجمات أنصار ميلليران على خصوم النزعة الوزارية. لذا ركز جوريس على حقيقة أن الغيديين أنفسهم في “حزب العمال الفرنسي” شغلوا عدد من المناصب التنفيذية على مستوى المحليات، ليتهم معارضة الغيديين للنزعة الوزارية أنها غير متسقة وزائفة. في مناقشة في مدينة ليل (مدينة كان عمدتها من “حزب العمال الفرنسي“) يوم 26 نوفمبر 1900، جادل جوريس بالآتي:

“يتحدث المرء عن المسئوليات التي يتحملها وزير اشتراكي في حكومة برجوازية؛ لكن ألا يتحمل مسئولي مجلسكم المحلي المنتخبين مسئوليات؟ أليسوا جزءاً من الدولة البورجوازية؟ يمكنني أن أقول أن العمدة الاشتراكي، برغم أنه اشتراكي، يمكن للسلطة المركزية أن توقفه عن العمل وأن يحرم من حقه في الاستمرار بالمنصب لمدة سنة؛ يمكنني أن أقول لكم أنه بالضرورة يوافق، لأنه العمدة، على أن ينفذ ويدير استنادا لعدد كبير من القوانين البورجوازية، ويمكنني أن أقول لكم لو أن هناك أي صدامات عنيفة في شوارعكم، سيكون أيضاً مجبراً، خوفاً من أن يقال أن الاشتراكية هي النهب والقتل، أن يستدعي الشرطة.”

(“الاشتراكية قيد المناقشة“، ملحق لومنيتيه ايبدو، 19 – 20 نوفمبر 2005، ترجمة “الرابطة الشيوعية الأممية“)

كان انسجام جوريس مع نزعة الغيديين للمجالس المحلية، بينما هو يدافع عن الميلليرانية، علامة تعكس ضعف الالتزام في الأممية الثانية والذي سينتقل إلى الأممية الثالثة.


الحرب العالمية الأولى: نقطة تحول

تجلت الإصلاحية المتأصلة بعمق في الأممية الثانية في عدم قدرتها على فهم مسائل؛ البرلمانية، والنزعة الوزارية، والنزعة للائتلافات (التحالفات). لم تستوعب الأممية الثانية دروس كوميونة باريس حول الحاجة إلى سحق الدولة البورجوازية وإقامة دولة البروليتاريا على غرار الكوميونة محلها. في الحقيقة، بذلت قيادات “الحزب الاشتراكي الديموقراطي الألماني“، الورثة العلنيين لماركس وإنجلز، الكثير لدفن أو حجب الدروس التي استقاها ماركس وإنجلز من هذا الحدث التاريخي.

كشفت الحرب الإمبريالية العالمية الأولى عن كل مشاكل الأممية الثانية المتراكمة. سقطت الأممية في الاشتراكية الشوفينية بشكل مذهل في مواجهة اندلاع الحرب في أغسطس 1914. في البلدان المتحاربة، عارض فقط البلاشفة وبعض المناشفة في روسيا، والحزبين البلغاري والصربي تمويل حكوماتهم من أجل الحرب. احتشد الاشتراكيون الوطنيون خلف حكوماتهم البورجوازية تحت دعوى “الدفاع عن وطن الأسلاف“، مدعين أنها مثل الحروب القومية في أوروبا القرن التاسع عشر والتي يعني انتصار طرف أو آخر فيها تقدماً اجتماعياً في مواجهة الرجعية الإقطاعية. كانت الحرب العالمية الأولى علامة على أن الرأسمالية قد دخلت إلى عصر الإمبريالية: كلا الطرفين كان تحت سيطرة قوى عظمى تتصارع من أجل إعادة اقتسام العالم فيما بينها. لذا رفض الماركسيون كلا الجانبين في الحرب، داعين إلى الانهزامية الثورية.

كانت الحرب العالمية الأولى نقطة تحول، حفزت إعادة اصطفاف عميقة في حركة العمال الثورية عالمياً. برز لينين وبلاشفته، الذين هيئهم نضال سنوات طوال والانفصال الحاسم عن الانتهازيين الروس؛ المناشفة، كقيادة لحركة أممية تستعيد راية الماركسية الثورية. عمل لينين بجدية، بداية من كتابته الأولى عن الحرب في سبتمبر 1914، والتي تواصلت بمداخلات البلاشفة في مؤتمري زميرفالد عام 1915 وكانتال عام 1916 للاشتراكيين المعادين للحرب، على موضوعين متشابكين: الحاجة إلى القطع بشكل لا هوادة فيه مع اشتراكيي الأممية الثانية الخونة ومبرريهم الوسطيين والنضال من أجل أممية جديدة ثالثة، والدعوة لتحول الحرب الإمبريالية إلى حرب أهلية ضد النظام الرأسمالي. (لتسجيل وثائقي لنضال لينين من أجل أممية جديدة، أنظر أولجا هيس جانكن و ه. ه. فيشر، “البلاشفة والحرب العالمية“).

إن الموجات الثورية التي خلقها استمرار المذبحة الإمبريالية كسرت أضعف حلقات الإمبريالية، روسيا القيصرية. مع انهيار الأوتوقراطية بعد الانتفاضات الثورية في فبراير 1917، ظهرت إمكانية تحويل شعار البلاشفة إلى واقع. كان المفتاح لتسليح الحزب البلشفي سياسياً لقيادة النضال من أجل سلطة دولة البروليتاريا هو كتاب لينين “الدولة والثورة“، الذي كتب في صيف 1917، والذي استخلص فيه كتابات ماركس وإنجلز عن الدولة ودروس الكوميونة.

لم تترك الدعوة لتحويل الحرب الإمبريالية إلى حرب أهلية أي مجال لتحالفات انتخابية أو برلمانية مع أحزاب البورجوازية. وبالرغم من ذلك، تطلب الأمر نضالاً عظيماً من لينين، وانضم إليه تروتسكي لاحقاً، للحفاظ على الحزب البلشفي في قلب المسار الثوري الذي يهدف لقيادة عمال وفلاحي روسيا إلى النصر في أكتوبر 1917، طارحاً بحدة في كل خطوة مسألة أي طبقة يجب أن تحكم.

كانت أوهام النزعات الانتخابية والبرلمانية، التي نمت نتيجة الفشل في إدراك أن سلطة الدولة القديمة يجب أن تسحق، تهدد بحرف الثورة عن مسارها في كل منعطف. كان الاختبار الحاسم للنزعة البرلمانية ولنزعة المجالس المحلية في بوتقة هذه الثورة العظيمة.

رسمت الثورة البلشفية والأممية الشيوعية في بدايتها خطا مبدئياً معارضاً للنزعة للائتلافات. دعم التروتسكيون هذا الخط في مواجهة انقلاب الكومنترن الستاليني عليه (انظر، على سبيل المثال، كراس جيمس بيرنهام في 1937، “الجبهة الشعبية: الخيانة الجديدة“). لكن مسألة المناصب التنفيذية كانت غير محسومة بوضوح حتى بواسطة الأممية الشيوعية الثورية في بدايتها.


دروس الثورة البلشفية

كما أوضح تروتسكي، فإن ثورة فبراير قد أظهرت مفارقة. (كل التواريخ تعود إلي التقويم اليولياني القديم في روسيا سنة 1917، والتي تتخلف 13 يوماً عن التقويم الحديث) فزعت البرجوازية الروسية وأحزابها الليبرالية من الثورة وحاولت كبح جماحها . لقد صُنعت الثورة بتصميم الجماهير الراسخ وجرأتها التي طرحت السوفيتات (المجالس)، كما في 1905، لتصبح بمنتهي السرعة سيدة الموقف. ولكن هذه السوفيتات كانت في البداية تحت سيطرة المناشفة والاشتراكيين الثوريين البرجوازيين الصغار، والذين كانوا مشبعين بفكرة أن الثورة في روسيا لابد أن تكون ثورة برجوازية وبالتالي سعوا للدفع بالسلطة إلى أيدي حكومة برجوازية مؤقتة عاجزة. كتب تروتسكي مشيراً إلي هؤلاء المساومين:

” الثورة هي نضال مباشر من أجل السلطة. وبالرغم من ذلك، فإن “اشتراكيينا” ليسوا قلقين بخصوص انتزاع السلطة من عدوهم الطبقي الذي لا يحوزها، ولا يستطيع الاستيلاء عليها بقواه الخاصة، لكنهم، علي النقيض، يفرضون هذه السلطة عليه بأي ثمن. أليست هذه في الحقيقة مفارقة ؟ يبدو الأمر أكثر إثارة للاهتمام، لأن خبرة الثورة الألمانية في عام 1918 لم تكن موجودة بعد، ولم تشهد البشرية عملية ضخمة وأكثر نجاحاً مثل ما قامت به “الطبقة الوسطي الجديدة” التي تقودها الاشتراكية الديموقراطية الألمانية.”

(تروتسكي، “تاريخ الثورة الروسية“، 1930)

يوضح تروتسكي، مشيراً إلى وضع ازدواج السلطة،”أدى منعطف فبراير إلي حكومة برجوازية، والتي كانت سلطة الطبقات المالكة فيها محدودة بالسيادة التي لم تتحقق بالكامل بعد لسوفيتات العمال والجنود” (المرجع نفسه) (في ألمانيا في عام 1918، بقيت مجالس العمال والجنود تحت قيادة الاشتراكية الديموقراطية وسرعان ما خضعت وتم تصفيتها بواسطة الحكومة البرجوازية).

في الأسابيع الأولى بعد ثورة فبراير، فقد الحزب البلشفي صوته الثوري. في مارس، وبعد طرد أكثر البلاشفة يسارية من تحرير جريدة البرافدا، أعلن كل من ستالين وكامنيف في الجريدة أن البلاشفة سيدعمون الحكومة الانتقالية “طالما ناضلت ضد رجعية الثورة المضادة” كما أعلنا: “إن شعارنا هو الضغط علي الحكومة الانتقالية بغرض إجبارها على … عمل محاولة لحث البلاد المتحاربة على البدء في مفاوضات فورية … وحتى ذلك الحين لابد أن يبقى كل رجل في موقعه القتالي!“(مُقتبس في المصدر السابق). سببت مثل هذه التصريحات غضباً قوياً في صفوف الحزب البلشفي. كان رد مجموعات الحزب المحلية هو المطالبة بطرد محرري البرافدا الجدد من الحزب. ولكن التوفيقيين – “بلاشفة مارس” – تمسكوا بموقفهم، مع ستالين، علي سبيل المثال، مجادلين بأن العمال والفلاحين قد أنجزوا الثورة وأن مهمة الحكومة المؤقتة هي تحصين هذه المكتسبات!

عندما عاد لينين إلي روسيا في 3 أبريل 1917، بدأ فوراً نضالاً ضاريا ضد بلاشفة مارس وأحزاب المستسلمين في الأغلبية السوفيتية. ألح لينين على منظور يهدف لإقناع العمال والفلاحين بإنشاء حكومة علي نمط كوميونة باريس معتمدة علي السوفيتات. بفعله هذا، نبذ صراحةً تصوره السابق عن أن الثورة الروسية ستتخذ شكل “ديكتاتورية العمال والفلاحين الديموقراطية“. كان استنتاج لينين متوافقاً بشكل عملي مع منظور تروتسكي عن الثورة الدائمة؛ ومفاده أن البروليتاريا الروسية يمكنها أن تظفر بالسلطة قبل البروليتاريا الغربية وستكون مجبرة علي تجاوز المهمات البرجوازية الديموقراطية للثورة واتخاذ تدابير اشتراكية. هذا التوافق وجد تعبيراً عنه بعد عدة أشهر في الاندماج الذي ساعد عليه تروتسكي بين لجنة المجموعة الوسيطة (ميزرايونستي) والتي لعب فيها دوراً مؤثراً، والبلاشفة.

كان لينين قادراً علي تسييد مفهومه بالرغم من صيغته التحليلية الخاطئة السابقة، في الأساس بسبب اتساق آرائه مع المزاج الثوري للبروليتاريا، وأيضاً بسبب أنه خلال طول فترة وجود البلشفية فقد تبنت موقفاً راسخاً بخصوص الاستقلال الطبقي ومعارضة لا تقبل المساومة لكل من النظام القيصري والبورجوازية الروسية. هذا هو المثال التوضيحي الأقوى للدور الحاسم لقيادة الحزب في موقف ثوري. لو لم يتمكن البلاشفة من الابتعاد عن أن يكونوا الناقدين اليساريين للمساومين، ربما كان الحزب قد فوت الفرصة الثورية، والتي لن تكرر نفسها لفترة طويلة.

من وجهة النظر هذه كان لخبرات الثورة الروسية في 1917 أهمية هائلة في تقييم دور البرلمانية، والنزعة الوزارية، ونزعة المجالس المحلية، وسلطت الضوء بشكل كاشف على مسألة التنافس على المنصب التنفيذي. لقد نمت الحكومة المؤقتة من كنف الدوما القيصري القديم. كان الوزاري العظيم لعام 1917 هو بالطبع الكسندر كيرنسكي، نائب رئيس اللجنة التنفيذية المؤقتة لسوفييت بتروجراد، والذي قبل في 2 مارس 1917 بحماسة وبدون موافقة رسمية منصب وزير العدل في الحكومة المؤقتة المعينة حديثاً. بالرغم من أن أحداً من رفاق كيرنسكي في اللجنة لم يكن متحمساً في ذلك الوقت لإتباع خطاه، بحلول 1 مايو قررت أغلبية اللجنة التنفيذية (عارضهم البلاشفة والمنشفي الأممي يوليوس مارتوف فقط) الدخول في حكومة ائتلافية مع البرجوازية. لقد أملوا بتصرفهم هذا العمل على تصفية تدريجية للسوفييتات، ساعين لاستبدالها علي المستوي المحلي بحكومات محلية جديدة (دومات محلية)، وعلي المستوي القومي بجمعية تأسيسية. وبذلك كانت الحكومة الائتلافية جسراً لجمهورية برلمانية بورجوازية. ولكن السوفييتات صمدت.

كان رد البلاشفة علي الخيانة الطبقية لهذا الائتلاف هو شعار “فليسقط الوزراء الرأسماليون العشرة“. كما بين تروتسكي، كان الشعار “يطالب أن يشغل المناشفة والنارودينيين مناصب هؤلاء الوزراء. فلتطردوا أعضاء حزب الكاديت أيها السادة الديموقراطيين البورجوازيين! ولتأخذوا السلطة بأيديكم! ضعوا في الحكومة 12 (أو قدر ما تملكون) من بيشخنوف (وزير “اشتراكي”)، ونحن نعدكم، بقدر الممكن، أن نزيحكم “سلمياً” من مناصبكم عندما تحين الساعة، والتي ستكون قريبة جداً!“(دروس من أكتوبر، 1924). التكتيك البلشفي لم يكن غرضه الاستيلاء على الحكومة المؤقتة، ولكن كشف الإصلاحيين لرفضهم أخذ السلطة باسم الأغلبية السوفييتية. سعى البلاشفة أن يوضحوا للعمال أن هذه الحكومة البورجوازية لابد أن تكنس إلى مزبلة التاريخ وأن تحل محلها حكومة عمال مبنية علي أساس سوفييتات العمال والجنود والفلاحين. هذا كان، إن صح التعبير، تجسيدًا لشعار “تسقط المناصب التنفيذية“.

الجزء المكمل لإعادة تسليح لينين للحزب البلشفي في أبريل 1917، كان خلافاً حاداً حول كيفية التعامل مع انتخابات الدوما المحلية. بتسليط الضوء علي فشل الجناح الثوري للأممية الثانية في معالجة مسألة نزعة المجالس المحلية بشكل صحيح، استشهد ل. م. ميخائيلوف، رئيس لجنة بتروجراد في الحزب البلشفي، بمؤتمر باريس 1900 كمرجعية الدفاع عن برنامج اشتراكي ديموقراطي كلاسيكي لإصلاح المجالس المحلية:

“لقد كانت المجالس المحلية، الإدارة العامة للمدن، تعتبر ومازالت تُعتبر من قِبل الاشتراكيين من جميع الاتجاهات والأطياف الحالية كـ”جنين لمجتمع تشاركي”.

“وبالرغم من ذلك فنحن نتفهم بصرامة ونتذكر أن انتصار ” مجتمع تشاركي” يعتمد علي إعادة بناء جوهرية لكل الدولة الطبقية المعاصرة، ومع ذلك أعلن الاشتراكيون بالإجماع في مؤتمر الأممية بباريس عام 1900 توجيه مؤيديهم لواجب النضال من أجل السيطرة على الإدارة الذاتية المحلية العامة، وقد رأوا في ذلك “مختبرا رائعا للحياة الاقتصادية اللامركزية وحصنا سياسيا منيعا.”

(المؤتمر السابع (مؤتمر أبريل) لعموم روسيا لحزب العمال الاشتراكي الديموقراطي الروسي (البلاشفة)،
مؤتمر مدينة بتروجراد لحزب العمال الاشتراكي الديموقراطي الروسي (البلاشفة)،
محاضر الجلسات، موسكو : جوزبوليتيزدات، 1958، ترجمة “الرابطة الشيوعية الأممية“)

جادل ميخائيلوف علي هذه الأسس من أجل قيام كتل انتخابية مع المناشفة والاشتراكيين الثوريين؛ مباشرة بعدما قبلت هذه الأحزاب بخنوع تعهد الحكومة المؤقتة لحلفاء روسيا الإمبرياليين باستكمال القتال بجانب الحلفاء (دول الوفاق). رد لينين مندداً بأي تصور عن كتلة انتخابية مع البرجوازية أو مع الدفاعيين كخيانة للاشتراكية. أصر لينين، بدون إغفال القضايا الملحة مثل إمدادات الغذاء، الخ، علي أن حملة الدوما المحلي يجب أن تتركز علي أن توضح للعمال اختلافات البلاشفة مع البورجوازية والمناشفة والاشتراكيين الثوريين التوفيقيين فيما يخص”كل القضايا الرئيسية الراهنة، خصوصاً المتعلقة بالحرب ومهمات البروليتاريا فيما يخص السلطة المركزية” (لينين، “قرار حول مسألة المحليات“، مؤتمر مدينة بتروجراد لحزب العمال الاشتراكي الديموقراطي الروسي (البلاشفة)، 14 – 22 أبريل 1917).

كما يتضح من تعليقات ميخائيلوف، كانت المواقف المتضاربة تجاه المجالس المحلية مجرد جزء من الصراع الأكثر جوهرية في الحزب : هل يجب علي البلاشفة أن يقتصروا على كونهم الجناح اليساري للديمقراطية أم يجب أن يناضلوا من أجل سلطة البروليتاريا؟ في انتخابات الدوما المحلية في بتروجراد وموسكو والتي انتخبت ارتكازاً على أوسع حق انتخاب، كان البلاشفة أقلية صغيرة ولكنها تنمو. اتخذ المناشفة والاشتراكيون الثوريون، الذين شكلوا الأغلبية في كل من الدوما والسوفييتات، موقفاً مفاده أن الدوما لا بد أن تحل محل السوفييتات. ولكن كما يوضح تروتسكي :

“حكومات المحليات، مثلها مثل أي مؤسسة ديموقراطية أخرى، يمكنها أن تعمل فقط علي أساس علاقات اجتماعية مؤسسة بصرامة؛ والتي هي نظام ملكية محدد. كيفما كان الأمر، فإن جوهر الثورة، هو أنها تدعو إلى مسائلة هذا الأساس الحقيقي لكل الأسس. ولا يمكن أن تحل مسألتها إلا باختبار ثوري مفتوح لعلاقات القوي… أطالت حكومات المحليات في الأيام العادية للثورة من وجودها نصف الوهمي. ولكن في لحظات حاسمة، عندما كان تدخل الجماهير يحدد اتجاه الأحداث اللاحق، تلاشت هذه الحكومات ببساطة في الهواء، وظهرت عناصرها المؤسسة علي جانبين مختلفين من المتاريس. لقد كان إظهار تباين الأدوار المتوازية للسوفييتات وحكومات المحليات من مايو وحتى أكتوبر، كافياً من أجل التنبؤ بمصير الجمعية التأسيسية.”

(“تاريخ الثورة الروسية“)

بعد هزيمة انقلاب الجنرال كورنيلوف الفاشل المضاد للثورة بقيادة البلاشفة في أغسطس، أصبح البلاشفة، في قفزة، أغلبية في سوفييتات موسكو وبتروجراد. استجاب لينين لهذه الزيادة الحاسمة في صفوف البلاشفة ونمو الاضطرابات الاجتماعية، خصوصاً وسط الفلاحين، بسلسلة من الكتابات تتركز حول ضرورة الإعداد للانتفاضة. حاولت كتلة كيرنسكي – الاشتراكيين الثوريين – المناشفة بدورها وضع سلسلة من العقبات “الديموقراطية” أمام ثورة العمال الوشيكة. تضمنت مؤتمر 14 – 22 سبتمبر الديموقراطي ونتائجه، واللجنة التحضيرية للبرلمان التي نتجت عنه والتي افتتحت في 7 أكتوبر 1917.

كانت العناصر التي عارضت تصور لينين في الحزب البلشفي، لاستيلاء البروليتاريا علي السلطة قبلها في أبريل، مُعارضة الآن لتطبيقه. قررت اللجنة المركزية البلشفية في الثالث من سبتمبر، بينما كان تروتسكي في السجن ولينين في مخبأه، أن تشغل مقاعد في قيادة دوما بتروجراد، بما فيه تعيين رئيس المجموعة البرلمانية البلشفية؛ أناتولي لوناتشرسكي، في أحد مناصب نواب العمدة الثلاثة! وبفعلتهم هذه، لم تكن المجموعة البلشفية تنضم فقط لاشتراكيي كيرنسكي الثوريين والمناشفة شركاء الحكومة المؤقتة في الإشراف على إدارة المدينة فقط، ولكن جلست جنبا إلى جنب مع نائب العمدة البورجوازي ف. م. كنيبوفيتش عضو حزب الكاديت! هذا بالرغم من التهديد في بيانهم الافتتاحي في الدوما والذي رفض “أي شكل من أشكال التعاون مع أعداء الثورة الواضحين (أي الكاديت) في الهيئات التنفيذية لحكومة المدينة” (مُقتبس في “البلاشفة وثورة أكتوبر“، محاضر اجتماعات اللجنة المركزية لحزب العمال الاشتراكي الديموقراطي الروسي (البلاشفة)، أغسطس 1917 – فبراير 1918، لندن: بلوتو بريس، 1974).

شارك البلاشفة التوفيقيين أيضاً في منح شرعية للمفاوضات “الديموقراطية” للحكومة المؤقتة. أدان لينين، وهو ما زال في مخبأه، بأثر رجعي المشاركة البلشفية في المؤتمر الديموقراطي وأشاد بتروتسكي لدفاعه عن مقاطعة اللجنة التحضيرية للبرلمان. مندداً باللجنة التحضيرية للبرلمان كـ”احتيال بونابرتي في جوهره“، وحذر لينين قائلا: “بدون أدنىشك توجد تذبذبات واضحة، في قيادة حزبنا، والتي يمكن أن تكون مدمرة” في استكمال الثورة (لينين “من مذكرات ناشر” 22 – 24 سبتمبر 1917).

تضامن لوناتشارسكي علانية، في 11 أكتوبر، مع شجب زينوفيف وكامينيف – وهو ما يشبه كسر الإضراب – لخطط الانتفاضة وتصريحهما بأن “جمعية تأسيسية مع السوفييتات، هو النوع المختلط من مؤسسات الدولة الذي نتجه إليه” (مُقتبس في “تاريخ الثورة الروسية“). انتصر لينين وتروتسكي في مواجهة المتذبذبين وقادا ثورة أكتوبر إلى النصر. ولكن حتى بعد الانتفاضة، استكمل هؤلاء المتخاذلون شن هجوم خلفي. استقال لوناتشارسكي، وزينوفيف، وكامينيف، في الرابع من نوفمبر، من كل مناصبهم بعدما رفض لينين وتروتسكي أن يقبلوا طلبهم من أجل حكومة “لكل الاشتراكيين” بمن فيهم المناشفة والاشتراكيين الثوريين؛ حكومة كانت، فضلاً عن ذلك، ستستبعد لينين وتروتسكي أنفسهما! وكما فعل بعد تصرف زينوفيف وكامينيف الكاسر للإضراب، دعا لينين مجدداً لطرد هؤلاء المستسلمين إذا استمروا في نهجهم. تخلى المستسلمون عن خطهم، بعدما لم يجدوا أي دعم لهم في الحزب ولم يجدوا أي مناشفة يقبلون بحكومة ائتلافية، وأوصي لينين بإعادة دمجهم في مناصب المسئولية.
الدعم النقدي في مواجهة النزعة الوزارية

لم تكن الخصائص الأساسية لثورة أكتوبر ولا تأثيرها مقتصران علي روسيا فقط. لقد استقطبت حركة العمال عالمياً، حيث احتضن الأمميون الثوريون قضية أكتوبر وناضلوا من أجل إقامة أحزاب ثورية جديدة علي أساس دروسها. خطا البلاشفة، مستندين على انتصارهم، أولي خطواتهم نحو تأسيس الأممية الشيوعية الجديدة التي كان ينادي بها لينين منذ انهيار الأممية الثانية وتحولها إلي الاشتراكية الوطنية.

رفع الكومينترن، في مؤتمره الأول في 1919، شعار ديكتاتورية البروليتاريا ودروس “الدولة والثورة“. تناول المؤتمر الثاني ضمن أمور أخرى في العام التالي، قضايا مثل النزعة البرلمانية والتكتيكات الانتخابية الثورية. فُرضت مجموعة من الشروط علي جميع الأحزاب التي ترغب بالانضمام، من أجل غربلة المواقف الإصلاحية والعناصر الوسطية العرضية التي انجذبت تجاه الكومينترن. علي صعيد النزعة البرلمانية، نص الشرط الحادي عشر:

“يجب على الأحزاب التي ترغب بالانضمام إلي الأممية الشيوعية أن تراجع التكوين الفردي لفرقها البرلمانية، وأن تستبعد منها جميع العناصر التي لا يعتمد عليها، وأن تُخضع هذه الفرق للجان الحزب التنفيذية بالفعل وليس بالكلمات، وهذا يتطلب أن يخضع كل عضو برلمان شيوعي نشاطه لصالح الدعاية الثورية الحقيقية والتحريض.”

(“أطروحات حول شروط القبول“، يا عمال العالم والشعوب المقهورة اتحدوا! محاضر ووثائق المؤتمر الثاني 1920، نيويورك: باث فيندر 1991)

هدفت كتابات لينين “الثورة البروليتارية والمرتد كاوتسكي” وتروتسكي “الإرهاب والشيوعية” وغيرها من المجادلات، رسم خطوط برنامجية واضحة في مواجهة الاشتراكية الديموقراطية، خصوصا المركز الكاوتسكي. سعى لينين، في الوقت ذاته، للتغلب على الأناركيين النقابيين واليساريين المتطرفين الذين أدي بهم رفضهم للنزعة البرلمانية الاشتراكية الديموقراطية إلي رفض أي نشاط انتخابي أو برلماني باعتباره نزعه إصلاحية. كتب لينين، عشية المؤتمر الثاني، كتيبه حول التكتيكات الشيوعية “الشيوعية اليسارية: مرض طفولي” (أبريل – مايو 1920). لقد جادل بأن على الشيوعيين أن يتبنوا موقف الدعم النقدي لحزب العمال – على سبيل المثال – في الانتخابات المنتظرة في بريطانيا. يشرح لينين قائلاً:

“إنه حقيقي أن أنصار هندرسون، كلينس، وماكدونلد وسنودن (قادة حزب العمال البريطاني)[4] هم رجعيين باستماتة. وإنه حقيقي بالقدر ذاته أنهم يريدون الحصول علي السلطة (بالرغم من أنهم قد يفضلون تحالفاً مع البورجوازية)، هذا بسبب أنهم يريدون أن “يحكموا” علي غرار البورجوازية القديمة، وأنهم عندما سيكونون في السلطة فإنهم سيتصرفون قطعا مثل أنصار شيدمان ونوسك.[5] هذا كله صواب، ولكن لا يترتب علي ذلك أن دعمهم يعني خيانة للثورة: ما يجب أن يترتب عليه، لمصلحة الثورة، هو أنه يجب علي ثوريي الطبقة العاملة أن يعطوا هؤلاء السادة المحترمين قدراً معيناً من الدعم البرلماني ..

“إن حقيقة أن معظم العمال الإنجليز لا يزالوا يتبعون قيادة أنصار كيرنسكي أو أنصار شيدمان البريطانيين وليس لديهم بعد خبرة حكومة مكونة من هؤلاء الأشخاص – وهي الخبرة التي كانت ضرورية في روسيا وألمانيا من أجل ضمان انتقال العمال الشامل إلي الشيوعية – تشير بلا شك إلى أنه يجب على الشيوعيين الإنجليز أن يشاركوا في العمل البرلماني، وإلى أنه يجب عليهم، من داخل البرلمان، أن يساعدوا جماهير العمال، أن يروا نتائج حكومة هندرسون وسنودن في الممارسة، وأيضاً أن يساعدوا أنصار هندرسون وسنودن في هزيمة قوات لويد جورج وتشرشل المتحدة. إن التصرف بشكل آخر يعني إعاقة قضية الثورة، حيث أن الثورة مستحيلة بدون تغيير في وجهة نظر الأغلبية من الطبقة العاملة، تغيير يتأتي بالخبرة السياسية للجماهير وليس بالدعاية فقط.”

(“الشيوعية اليسارية: مرض طفولي“)

أصر لينين بشكل قاطع علي أهمية أن يحتفظ الشيوعيون البريطانيون “بحرية كاملة في التحريض، والدعاية، والنشاط السياسي. بالطبع من دون هذا الشرط الأخير، لا يمكننا الموافقة علي تشكيل كتلة ، لأن هذا سيعد خيانة؛ يجب علي الشيوعيين البريطانيين أن يطالبوا ويحصلوا علي حريتهم الكاملة في فضح أنصار هندرسون وسنودن مثلما طالب البلاشفة الروس وحققوا (طيلة 15 عاماً 1903 – 1917) فيما يخص أنصار هندرسون وسنودن الروس؛ أي المناشفة” (المصدر السابق).

لم يكن بيت القصيد في تكتيكات لينين أن يسعى الشيوعيون لأن يحلوا أغلبية شيوعية محل أغلبية حزب العمال؛ على العكس أصر لينين علي “أن عدد المقاعد البرلمانية لا يمثل أهمية بالنسبة لنا” (المصدر السابق)، بالأحرى، مثل هذه التكتيكات يمكن أن تساعد في فضح العقبات الإصلاحية في طريق الثورة. كما صاغها لينين “أود أن أدعم هندرسون كما يدعم الحبل رجلاً مشنوقاً؛ أن التشكيل الوشيك لحكومة من أنصار هندرسون ستثبت أنني علي صواب، كما ستجذب الجماهير إلي جانبي، وستعجل من الموت السياسي لأنصار هندرسون وسنودن” (المصدر السابق). لم يفكر لينين في كتابه “الشيوعية اليسارية: مرض طفولي” في إمكانية سيطرة الشيوعيين علي مكتب تنفيذي في حكومة بورجوازية أو ما يعادلها وظيفياً؛ أغلبية برلمانية. كما وضح في تصريح أسبق:

“فقط الأوغاد أو السذج يمكنهم أن يفكروا في أنه علي البروليتاريا أن تفوز أولاً بأغلبية في الانتخابات التي تجرى تحت نير البورجوازية، تحت نير عبودية الأجر، وعندها تفوز بالسلطة. هذه هي قمة الغباء أو الرياء؛ إنها تحل الانتخابات، تحت حكم النظام القديم والسلطة القديمة، محل النضال الطبقي والثورة.”

(لينين، “تحية للشيوعيين الإيطاليين والفرنسيين والألمان“، 10 أكتوبر 1919)

التكتيكات الانتخابية التي اقترحها لينين كانت تتطابق تماماً مع معارضة طرح مرشحين إلي المناصب التنفيذية. في وثيقة كُتبت عشية المؤتمر الثاني، وضح لينين أن البرلمانية الثورية تعني فقط وجود “نواب في مؤسسات البرجوازية التمثيلية (المؤسسات التمثيلية القومية بشكل أساسي، لكن أيضاً المحلية والبلدية الخ)” (“أطروحات حول المهام الأساسية للمؤتمر الثاني للأممية الشيوعية“، 4 يوليو 1920). فقط نواب العمال في المجلس التشريعي، لم يذكر لينين أبداً أي شيء عن مديرين، وعمد، ومحافظين أو رؤساء في السلطة التنفيذية كتمثيل لمكتسبات العمال في معسكر العدو.


المؤتمر الثاني، نزعة المجالس المحلية والشيوعيين البلغاريين

كانت مسودة الأطروحات حول “الأحزاب الشيوعية والنزعة البرلمانية” المقدمة بواسطة اللجنة التنفيذية للأممية الشيوعية لمناقشتها في المؤتمر علي نفس خط وثائق لينين. لم تذكر بالمثل أي شيء عن تولي مناصب تنفيذية – بما فيها على المستوي المحلي – بل ناقشت ما يعد نقيض ذلك. على أي حال، عرضت الأطروحة بواسطة المفوضية البرلمانية على قاعدة المؤتمر وبالتالي كانت النسخة المعتمدة قد تم تعديلها في بعض الأوجه الحاسمة. صاغ تروتسكي، الذي عين مع بوخارين ليكونا جزءاً من الوفد الروسي للمفوضية، قسماً تمهيدياً تاريخياً جديداً، مستبدلاً الأطروحة الأولى في المسودة الأصلية. اعتمد القسم الثالث من الأطروحات، والذي ألفه زينوفيف في الأصل كوثيقة منفصلة من التعليمات لنواب البرلمان والذي تم مراجعته من قبل المكتب السياسي للحزب الروسي قبل تقديمه، بدون تغييرات جوهرية. ولكن في القسم الثاني من الوثيقة، والذي كتب مسودته في الأصل بوخارين، تم إدخال بعض التعديلات المضادة للماركسية، لتمييع القصد الثوري للمسودة. ولذلك فإن الفقرات (المعاد ترقيمها) 4 و6 لم ترفض بحسم إمكانية استحواذ الشيوعيين على البرلمانات البرجوازية، ولكنها بالأحرى سمحت بهذه الإمكانية المشاركة علي أساس مؤقت (لقد وضحنا التعديلات بالتشديد):

“4. البرلمانات البورجوازية، تُعد من ضمن أهم مؤسسات آلة الدولة البرجوازية، لا يمكن الاستحواذ عليها بشكل دائم، كما لا يمكن للبروليتاريا أن تستولي بشكل دائم علي الدولة البرجوازية. إن مهمة البروليتاريا هي أن تكسر وتحطم آلة الدولة البرجوازية، بمؤسساتها البرلمانية، سواء كانت جمهورية أو ملكية دستورية.”

“5. الأمر ليس مختلفاً بالنسبة للمؤسسات البورجوازية للحكم المحلي. الاعتقاد بتعارضها مع أجهزة الدولة هي مسألة غير صحيحة نظرياً. إنها في الواقع مؤسسات مشابهة لآلية عمل الدولة البرجوازية، والتي يجب تدميرها بواسطة البروليتاريا الثورية وأن تستبدل بالسوفيتات المحلية المكونة من نواب العمال.

“6. لذا، ترفض الشيوعية النزعة البرلمانية كشكل للمجتمع المقبل. كما ترفضها كشكل لديكتاتورية البروليتاريا. إنها ترفض إمكانية الاستحواذ علي البرلمانات بشكل دائم، إن هدفها هو تدمير البرلمانية. ولذلك، فإنه يمكن الحديث فقط عن استخدام مؤسسات الدولة البرجوازية بغرض تدميرها. يمكن طرح المسألة بهذا المعنى، وبهذا المعنى وحده.”

(“أطروحات حول الأحزاب الشيوعية والنزعة البرلمانية” محاضر ووثائق المؤتمر الثاني)

والأهم، أن المفوضية قد أضافت أطروحة جديدة رقم 13 والتي ناقضت بشكل مؤثر الأطروحة 5:

“13. إذا حاز الشيوعيون على أغلبية في مؤسسات الحكم المحلي، فإنه يجب عليهم:

أ‌. أن ينظموا معارضة ثورية ضد حكومة البرجوازية المركزية،

ب‌. فعل كل شيء ممكن من أجل خدمة القطاعات الأكثر فقراً بين السكان (التدابير الاقتصادية، خلق أو محاولة خلق ميلشيا عمالية مسلحة، وهكذا دواليك)،

جـ. أن يبينوا في كل فرصة كيف تعوق الدولة البرجوازية في الحقيقة أي تغيير حقيقي،

د‌. أن يطوروا علي هذه الأسس دعاية ثورية نشطة، دون أن يخافوا من الصدام مع الدولة،

هـ. في ظروف معينة، يحلوا مجالس العمال المحلية محل الحكومات المحلية.

في كلمات أخري، كل نشاط الشيوعيين في الحكومة المحلية لابد أن يكون جزءاً من العمل العام لتقويض النظام الرأسمالي ”

(المصدر السابق)

تقف هذه الأطروحة في تناقض حاد مع حجج لينين ضد نزعة المجالس المحلية، كما في 1907، والتي استشهدنا بها من قبل.

لقد كانت التقارير المختصرة للمؤتمر الثاني والمفوضيات الملحقة به معروفة بتقطعها، ولم نجد أي تقرير حول محاضر المفوضية البرلمانية. ولكن الدلائل المتاحة تشير إلي المضمون السياسي للتعديلات ذات الشأن؛ التنازل للتقاليد المحلية التي سادت عمل بعض الأحزاب. وفي هذا الصدد، فإنه من الواضح أن المفوضية قد أدخلت أيضا تعديلات علي الأطروحة 11، مضيفة “الحزب الشيوعي البلغاري” (CPB) إلي أمثلة كارل ليبنكخت في ألمانيا والبلاشفة كنماذج للعمل الثوري في البرلمان. قبل عدة أشهر فقط من المؤتمر الثاني، أحرز الحزب الشيوعي البلغاري، والذي كان له مجموعة برلمانية كبيرة، انتصاراً مذهلاً في الانتخابات المحلية في بلغاريا. وكان الحزب الاشتراكي الفرنسي، والذي كان طلبه للانضمام للأممية الشيوعية معلقاً في هذا الوقت، يحكم حوالي 1500 إلي 1800 حكومة محلية في هذا الوقت؛ كما كان الحزب الاشتراكي الايطالي، بالمثل، يدير عدداً كبيراً من البلديات.

لم يذكر التقرير الرئيسي للمؤتمر حول النزعة البرلمانية، والذي كتبه بوخارين، تعديلات المفوضية مطلقاً. وعرضت أمام المندوبين دون تعليق في تقرير إضافي قصير عن طريق المندوب الألماني وولفشتاين (روسي فراوليتش). هيمن على المناقشة التي تلت ذلك الجدال مع اليساري المتطرف الإيطالي أماديو بورديجا، والذي قدم تقرير الأقلية ضد النشاط البرلماني وعرض مجموعة من الأطروحات المقابلة نيابة عن فصيل “الشيوعيين الممتنعين“[6] من الحزب الاشتراكي الايطالي. خلال هذا النقاش، والذي سمح بثلاثة متحدثين مؤيدين لقرار الأغلبية وثلاثة معارضين، تعاملت تعليقات لينين حصرياً مع حجج بورديجا.

واحد فقط من المتحدثين المؤيدين لأطروحة الأغلبية، البلغاري نيكولاي شابلن (إيفان نيدلكوف)، تطرق إلى مسألة المحلية. تفاخر شابلن قائلاً:

“في الانتخابات المحلية في ديسمبر 1919 وفي انتخابات المقاطعة في يناير 1920، حصل الحزب علي 140 ألف صوت، ليفوز بأغلبية المجالس في كل مدينة تقريباً وفي حوالي مائة قرية. في العديد من مجالس المدن والقرى الأخرى حصل الحزب علي أقليات كبيرة. بالنسبة لهيئات المجالس المحلية ومجالس المقاطعات، كان لدى الحزب برنامج من أجل تنظيم سوفييتات العمال والفلاحين في المدن والقرى والتي حلت وحداتها بشكل فردي، في وقت الثورة، محل الهيئات التمثيلية المحلية والإقليمية وقامت بوظائفها …

“نحن نستخدم الحملات في البلديات الشيوعية لنشرح للجماهير كيف أنهم وحدهم، من خلال مؤسساتهم، يمكنهم أن يجعلوا الحكومة المركزية تحترم قرارات المجالس المحلية الشيوعية في المسائل المتعلقة بالغذاء، الإسكان والتضخم وكل الاحتياجات العاجلة الأخرى للجمهور العامل.”

(“النزعة البرلمانية” محاضر ووثائق المؤتمر الثاني)

كان المندوب الوحيد الذي رد على شابلن هو السويسري جاكوب هيرزوج، والذي رأي أن عمل “الحزب الشيوعي البلغاري” البرلماني ليس براقاً كما يدعي شابلن. روى هيرزوج:

“لقد كان لنا في المفوضية نقاشاً مطولاً حول كيف أنه يجب علي النواب الشيوعيين في المجالس المحلية أن يسلكوا، حول ما يجب أن يفعلوه عندما يكونون في الأغلبية. يقول الرفيق بوخارين في هذا الموضع “عندما يمتلكون الأغلبية، عليهم أن يحاولوا تحسين أوضاع العمال من أجل زيادة التناقض بين المجالس الشيوعية المحلية والدولة هذا هو بالضبط ما يخبرنا به الانتهازيون عندما يذهبون إلي البرلمان.”

(المصدر السابق)

علي الرغم من ذلك، عارض هيرزوج أي شكل من النشاط البرلماني ولم يميز بين السيطرة علي مجلس محلي، الذي يعني إدارة هيئة محلية في جهاز الدولة البورجوازي، وبين أن تكون معارضاً شيوعياُ في هيئة بورجوازية تشريعية. غير أن هذا التمييز حاسم. تنص مقدمة تروتسكي حول هذه الأطروحة على أنه ينبغي علي أعضاء البرلمان الشيوعيين أن يعملوا من أجل الطبقة العاملة الثورية بوصفهم ـ”فرقة استطلاع في مؤسسات البرجوازية البرلمانية“. تُصمم الأطروحة الثامنة في الجزء الثالث من القرار على:

“على كل عضو شيوعي في البرلمان أن يكون منتبهاً إلى أنه ليس مُشرعاً يبحث عن توافقات مع المشرعين الآخرين ولكنه بالأحرى مُحرض مبعوث من الحزب إلى معسكر الأعداء من أجل أن ينفذ قرارات الحزب هناك”

(“أطروحات حول الأحزاب الشيوعية والبرلمانية“)

وعلى النقيض من ذلك ، فإن العمل كأغلبية شيوعية في هيئة تشريعية قومية أو محلية يؤدي إلي نفس الشيء مثل السيطرة على منصب تنفيذي: إنه يعني التحكم في الميزانية والإدارة. لابد أن تُطرح مسألة التحكم في مثل هذه المؤسسات صراحة وتُعارَض.

أشار شابلن نفسه، في تعليقاته أثناء المؤتمر، إلي المشكلة مع الشيوعيين الذين يديرون الحكومات المحلية. لقد أكد أن برنامج “الحزب الشيوعي البلغاري” تضمن إحلال السوفيتات محل هذه المؤسسات في “وقت الثورة“. حتى هذا الوقت، وجد الشيوعيون البلغاريون أنفسهم يديرون هذه المؤسسات المحلية ويتحملون مسئولية تلبية المطالب وتوزيع الموارد الضئيلة في إطار الحكم الرأسمالي الطبقي. والأكثر من ذلك، زيف شابلن ممارسة الحزب العملية. لم يكن الحزب البلغاري يُنظم سوفييتات لتحل محل الإدارات المحلية البورجوازية، ولكن هدف إلي تحويل هذه الإدارات عضوياً إلى سوفييتات في وقت الثورة. وضح ديميتار بلاجويف مؤسس “الحزب الشيوعي البلغاري” هذا عندما كتب في 1919:

“يمكن أن يكون الفوز بالمحليات بداية نظام الحكم السوفيتي … النضال من أجل الاستحواذ علي السلطة المحلية، وخصوصاً النضال الذي يجب أن يخوضه حزبنا لتعزيز سلطة البروليتاريا والطبقات الأفقر، مهما كان من يدير هذه المحليات؛ سيكون هذا النضال في جوهره من أجل انتشار السلطة السوفيتية (الحزب الشيوعي) ومن أجل نظام الحكم السوفيتي ككل.”

(مقتبس في كتاب ج. تسونيف وأ. فلاديميروف، “انتفاضة سبتمبر في بلغاريا 1923“، موسكو: جوسيزدات 1934، ترجمة “الرابطة الشيوعية الأممية“)

لم يكن الشيوعيون البلغاريين اشتراكيي مجالس محلية على طريقة فيكتور بيرجر في الولايات المتحدة. لقد كان الحزب الشيوعي البلغاري حزباً ثورياً جُذب بعنف في الفراغ الذي نتج عن انهيار بلغاريا بعد الحرب العالمية الأولى، وتم الدفع به إلي المنصب عن طريق انتفاضة من الدعم الجماهيري للثورة الروسية. كان سابقاً على الحزب الشيوعي البلغاري حزب تسنايكي؛ حزب “العمل الاشتراكي الديموقراطي البلغاري” (الضيق) الذي أسسه بلاجويف، والذي عاني اضطهاداً قوياً لمعارضته حروب البلقان 12 – 1913 والحرب العالمية الأولى، ومن أجل تصويته ضد اعتمادات الحرب في البرلمان. لم يتولي الحزب المناصب المحلية ليتخلى عن الاشتراكية، بل ليحاول تحقيقها في شكل التراث الأفضل للاشتراكية الديمقراطية القديمة والقليل من البلشفية الذي عرفوه. لم يكن ممكناً للتناقضات بين أهداف الحزب وبين موضعه في إدارة جهاز الدولة البرجوازية أن تستمر ولم تستمر بالفعل.

بالرغم من تطابقه مع البلشفية، حمل “الحزب الشيوعي البلغاري” معه الكثير من متاع الاشتراكية الديموقراطية من الجناح الأيسر للأممية الثانية. أعرب لينين عن قلقه البالغ من سياسة الامتناع الحزبية في تمرد رادومير 1918، والذي كان تمردا علي نطاق واسع للجنود الفلاحين في الجيش البلغاري. بدأ الجنود، عشية هذا العصيان في تكوين سوفييتات مستلهمين الثورة البلشفية مباشرة. انضمت قواعد تسنايكي إلي 15 ألفاً من الجنود المتمردين في معركة ضارية لمدة ثلاثة أيام لإسقاط القيصر فرديناند. ولكن، عارض الحزب أي تدخل منظم في الانتفاضة، الأمر الذي ساعد في القذف بقائد اتحاد الفلاحين الكسندر ستامبوليسكي إلى السلطة.لم يلتفت الحزب البلغاري إلى انتقادات لينين كما دافع بلاجويف عن فشل الحزب في السعي لقيادة الانتفاضة في اتجاه الثورة البروليتارية. وقد عكس رفض الحزب للتدخل في عصيان رادومير، عدائه الطويل للفلاحين.

نما الحزب بشكل متسارع خلال الحرب وما تلاها، بالرغم من أن ذلك كان يعني تدفق عدد كبير من العناصر قليلة الخبرة، التي لم تكن في الأساس من العمال الصناعيين. في نفس الوقت، طور “الحزب الشيوعي البلغاري” شبكة كبيرة من دور النشر، التعاونيات، وغيرها من المشروعات بينما كان يسيطر علي جهاز برلماني وحكومي ضخم. بحلول عام 1922، تولي أكثر من 3600 من الشيوعيين إدارة المجالس المحلية، خدم 115 آخرون علي المستوي الإقليمي، وتقريباً 1500 في إدارة المدارس. يعد هذا المجموع نسبة ضخمة بالنسبة لأعضاء الحزب الشيوعي البلغاري البالغ عددهم 38 ألف.

أظهرت الخبرة البلغارية من جديد أن السيطرة عي الحكومات المحلية البرجوازية كان يتعارض مع النضال من أجل السلطة السوفيتية. عندما أصبحت البرجوازية أخيراً قادرة على “إعادة توازن” الدولة عبر انقلاب تسانكوف الدموي في يونيو 1923 ضد حكومة ستامبوليسكي المستندة إلى الفلاحين، تم طرد “الحزب الشيوعي البلغاري” من “مشاعاته المحلية“. وبدلاً من التحضير لعمل جبهة متحدة مع قوات اتحاد الفلاحين ضد انقلاب الجناح اليميني الذي يلوح في الأفق علي أساس تعبئة الشيوعيين المستقلة للعمال والفلاحين، تأرجح الحزب بين التوجه إلى النظام سراً من أجل السلاح فيما قبل الانقلاب ورفض معارضة الانقلاب على الإطلاق بعدها طالما أنه حدث.

شرع “الحزب الشيوعي البلغاري“، فيما بعد الكارثة، في سلسلة من الأفعال العسكرية المغامرة، من ضمنها الانتفاضة الفاشلة في سبتمبر 1923، والتي جلبت ببساطة المزيد من القمع البورجوازي. الحزب الذي ظل حتى وقتها نموذجاً، تم تحطيمه مادياً في فترة الإرهاب الأبيض 23 – 1925. كان شابلن واحداً ممن لا يقل عن 5000 شيوعي دفعوا أرواحهم ثمناً لفشل “الحزب الشيوعي البلغاري” السياسي. دفعت القيادة المتذبذبة للأممية الشيوعية برئاسة زينوفيف الحزب البلغاري إلي منهجه المغامر في نفس الوقت الذي تؤسس فيه أممية الفلاحين الحمراء، الكرستينتيرن، وتدعم تكوين أحزاب “عمال وفلاحين” بورجوازية حول العالم. لم تعد الأممية الشيوعية، بحلول هذا الوقت، الحزب الثوري الأممي الذي كانته عندما عقدت مؤتمراتها الأربعة الأولى. بداية من 23 – 1924 خضع الحزب السوفيتي، والأممية الشيوعية معه، لعملية انحطاط بيروقراطي نوعي. تم تقنيين هذا سياسياً في أواخر 1924، عندما أعلن ستالين عن مبدأ “الاشتراكية في بلد واحد” المضاد للأممية.


الأممية الشيوعية ونزعة المجالس المحلية: إرث إشكالي

بدأ المؤتمر الثاني برؤى صحيحة حول نزعة المجالس المحلية، ولكنه انتهى بتعديلها في خليط متناقض أعطى ترخيصاً ضمنياً للنزعة الوزارية. عند النظر للفشل في بحث هذه المسألة، يجب أن نلاحظ أنه أول مؤتمر عامل حقيقي للأممية الشيوعية، وكان علي المؤتمر الثاني أن يعالج عدداً ضخماً من المسائل؛ بما فيها مسألة أسس الانضمام للكومينترن، ومسائل القومية والاستعمار، ومسألة النقابات، الخ. علاوة على ذلك، انعقد المؤتمر في ذروة الحرب مع بولندا وهجوم الجيش الأحمر المضاد ضد بيلسودسكي ورعاته الإمبرياليين الفرنسيين، ولو كانت القوات السوفيتية قد نجحت في الاستيلاء على وارسو، سيكونون قد فتحوا رأس جسر مباشر أمام البروليتاريا الألمانية القوية. إن انتصاراً للجيش الأحمر في وارسو كان سيهز أوروبا ما بعد معاهدة فرساي من أساسها وربما سينشر النيران الثورية في حريق بطول أوروبا. وقتها طرحت مسألة المشاركة في الإدارة المحلية مباشرة في سياق النضال البروليتاري من أجل السلطة، كما في 1917.

بينما لمس المؤتمر الثاني مسألة المناصب التنفيذية فقط بشكل ضمني، تم طرح المسألة بوضوح في الحركة الشيوعية الأمريكية. بخلاف النظام البرلماني في أوروبا، وضع النظام الرئاسي الأمريكي تمييزاً واضحاً بين المناصب التنفيذية والتشريعية. لم يتضح هذا التمييز في النقاش القاعدي للنزعة البرلمانية في المؤتمر الثاني، بالرغم من استقالة عضو “الحزب الشيوعي الأمريكي” (CPA)، الروسي الأصل ألكساندر ستوكليتسكي، من مفوضية البرلمان. تبني “الحزب الشيوعي الأمريكي“، في مؤتمره التأسيسي في 1919، موقفاً صحيحاً ضد الترشح لعضوية المناصب التنفيذية. عندما انفصل جزء من الحزب ليندمج مع “حزب العمل الشيوعي” في مايو 1920 لتأسيس “الحزب الشيوعي الموحد” (UCP)، نقل هذا الموقف، والذي جادل لصالحه س. إ. روزنبرج، إلى الحزب الجديد. أكد المؤتمر التأسيسي لـ”الحزب الشيوعي الموحد” على أن “الترشح للمناصب العامة والمشاركة في الانتخابات يقتصران علي الهيئات التشريعية، مثل الكونجرس القومي، والهيئات التشريعية للولايات ومجالس المدن“. (برنامج الحزب الشيوعي الموحد، أعيد طبعه في “الراديكالية الثورية“، تقرير مفوضية لاسك إلى مجلس شيوخ ولاية نيويورك، قدم في 24 أبريل 1920).

كان الموقف مثيراً للجدل في مناقشات مؤتمر الحزب الشيوعي الموحد: تبنى أحد التيارات الموقف السابق، بينما عارض تيار ثان كل النشاطات الانتخابية ودعم تيار ثالث الترشح في جميع الانتخابات. ذكر تقرير معاصر أن “معارضي الانتخاب للمناصب التنفيذية جادلوا بأن انتخاب الشيوعيين كحكام ولايات، أو عمد، أو لمنصب الشريف سوف يفسدهم وسيكون ضاراً للحركة؛ لأنه لا يمكن تحمل المسئولية نيابة عن الدولة البرجوازية” (“الشيوعي“، 1 سبتمبر 1920). بالرغم من ذلك، فقد ارتبطت هذه الحجج الصحيحة بإصرار يساري متطرف في برنامج الحزب الشيوعي الموحد على أن النواب الشيوعيين في الهيئات التشريعية “لن يقدموا أو يدعموا أية تدابير إصلاحية“. أغفلت الحركة الشيوعية الأمريكية، خلال صحوة الصراع ضد التطرف اليسارى في المؤتمر الثاني، التمييز بين الترشح للمناصب التنفيذية بدلاً من التشريعية. في 1921، ترشح بين جيتلو كمرشح شيوعي لمنصب العمدة في مدينة نيويورك. وفي السنة التالية، أصرت وثيقة للأممية الشيوعية لمؤتمر الشيوعيين الأمريكيين في أغسطس 1922 علي التالي “يجب علي الشيوعيين أن يشاركوا كثوريين في جميع الحملات الانتخابية العامة، والمحلية، وانتخابات الولايات، والكونجرس، والرئاسة علي حد السواء“. (“المهمات القادمة للحزب الشيوعي في أمريكا“، نُشرت في “حمر في أمريكا“، نيويورك: بيكويز بريس، 1924). في عام 1924 أيد الحزب الأمريكي ويليام ز. فوستر كمرشحه في الانتخابات الرئاسية الأمريكية.

كما يظهر لنا في كتابات تروتسكي، كان غياب الوضوح في المسائل المتعلقة بالمناصب التنفيذية والإدارة المحلية مصدر إزعاج للكومينترن والأحزاب المنتسبة له. صاغ تروتسكي، في المؤتمر الرابع في الثاني من ديسمبر 1922 قراره بخصوص فرنسا، الذي دمج فيه “العمد ومن علي شاكلتهم” مع “البرلمانيين الشيوعيين، وأعضاء المجالس المحلية، والمستشارين العموميين” ونوه إلى أن الأشكال السابقة يمكن أن تكون أيضا “أحد الأدوات في سبيل نضال الجماهير الثوري” (“قرار المؤتمر العالمي الرابع بخصوص المسألة الفرنسية” تروتسكي، “السنوات الخمس الأولى للأممية الشيوعية“، نيويورك: موناد بريس، 1972). رحب تروتسكي، في مقدمة مايو 1924 لـ”السنوات الخمس الأولى“، بتحقيق الحزب الشيوعي الفرنسي لهذه المناصب، قائلاً: “تمثل حقيقة أن حزبنا فاز بحوالي 900 ألف صوت نجاحاً مهماً، خصوصاً إذا أخذنا في حساباتنا النمو المتسارع لتأثيرنا في ضواحي باريس“. نمى “تأثير” الحزب الشيوعي الفرنسي في الضواحي لدرجة إدارة عدد هائل من البلديات.

لابد أيضاً من ملاحظة أن تروتسكي لم يغير آرائه حول هذه المسألة. لقد كتب في مقال في 1939 (لم ينشر في نفس الوقت):

“إن مشاركة النقابات في إدارة الصناعة المؤممة يمكن أن تقارن بمشاركة الاشتراكيين في حكومات البلديات، حيث يفوز الاشتراكيون أحياناً بالأغلبية ويصبحون مجبرين علي توجيه اقتصاد محلي مهم، بينما تظل الهيمنة علي الدولة في أيدي البورجوازيين وتستمر قوانين الملكية البورجوازية. يكيف الإصلاحيون أنفسهم سلبياً في البلديات مع النظام البورجوازي. بينما يفعل الثوريون في هذا المجال كل ما يمكنهم فعله من أجل مصالح العمال، وفي الوقت نفسه يقومون بتعليم العمال في كل خطوة أن سياسة المحليات لا قيمة لها بدون الاستيلاء علي سلطة الدولة.

“الفرق، بالتأكيد، أنه في مجال الحكومة المحلية يفوز العمال بمناصب معينة بآليات الانتخابات الديموقراطية، بينما في مجال الصناعة المؤممة تدعوهم الحكومة بنفسها لشغل مناصب معينة. ولكن هذا الفرق له طابع رسمي بحت. في كلا الحالتين، فإن البورجوازية مُجبرة أن تتنازل للعمال عن مجالات نشاط معينة. يستخدمها العمال من أجل مصالحهم الخاصة“.

(“الصناعة المؤممة والإدارة العمالية“، 12 مايو 1939)

واقع أن تروتسكي استطاع أن ينوه للحزب الشيوعي الفرنسي في سياق سيطرته علي المحليات بأنه “غير خاضع لأي التزامات سياسية نحو النظام البرجوازي” في 1924 واقترح صيغة موازية للمحليات في 1938 لا يجعله متهماً بالنزعة الإصلاحية المحلية، وإنما يجعلنا ندرك أننا قد ورثنا مشكلة لم تحسم بعد في الإستراتيجية الشيوعية.

لقد لاحظنا في تقريرنا حول المناقشة بخصوص المناصب التنفيذية في مؤتمر الرابطة الشيوعية الأممية الخامس في 2007 الآتي:

“موقف أن الشيوعيين لا يجب تحت أي ظرف أن يترشحوا للمناصب التنفيذية للدولة البرجوازية هو امتداد لنقدنا القديم لدخول الحزب الشيوعي الألماني، بدعم من الكومنترن، في حكومات ساكسونيا وثورينجيا الإقليمية في أكتوبر 1923. لقد ساعد دعم الحزب الشيوعي الألماني لهذه الحكومات البورجوازية التي يديرها الاشتراكيون الديمقراطيون “اليساريون” – أولاً من خارج الحكومة ثم من داخلها – في حرف الوضع الثوري عن مساره (أنظر “نقد تروتسكي لألمانيا 1923 والكومنترن”، سبارتكيست رقم 56، ربيع 2001).”

(سبارتكيست رقم 60، خريف 2007، إعادة نشر اقتباسات المناصب التنفيذية، مع مقال ألمانيا 1923، في كراس “الرابطة الشيوعية الأممية“، “تطور وامتداد نظرية ليون تروتسكي عن الثورة الدائمة“، أبريل 2008)

تم التمهيد لدخول الحزب الشيوعي الألماني إلي هذه الحكومات عن طريق القرار الخاطئ والمتذبذب بخصوص “الحكومات العمالية” الذي تم تبنيه في المؤتمر الرابع للأممية الشيوعية قبلها بأقل من عام. خلط هذا القرار الدعوة لحكومات عمالية – والتي لا تمثل بالنسبة للثوريين سوي تعبير عن ديكتاتورية البروليتاريا – بكل تصرفات الحكومات الاشتراكية الديموقراطية التي تدير جهاز الدولة البورجوازي، كما ترك إمكانية مفتوحة لمشاركة شيوعية في مثل هذه الحكومات بالتحالف مع الاشتراكيين الديموقراطيين. بينما حارب تروتسكي من أجل منظور ثوري في ألمانيا عام 1923 وأصر علي أن يقوم الحزب الشيوعي الألماني بإعداد ملموس ويعين موعداً للانتفاضة، كما فعل لينين في سبتمبر وأكتوبر 1917. دعم تروتسكي عن خطأ سياسة الحزب الشيوعي الألماني لدخول حكومات ساكسونيا وثورينجيا، معللاً ذلك بأنه”تمهيد الأرض” للثورة. إذا كانت هذه بالفعل “حكومات عمالية” كما تم إخبار الجماهير، إذن فالنضال الثوري المحتمل خارج البرلمان، وتكوين مجالس عمال، وميلشيات عمالية سيكون أمراً غير ضروري بالكامل. نتيجة لذلك، ترك الحزب الشيوعي الألماني وقيادة الأممية الشيوعية برئاسة زينوفيف فرصة ثورية لتضيع. كان إضعاف معنويات البروليتاريا السوفيتية الذي تلا ذلك سبباً حاسماً في السماح للبيروقراطية الستالينية باغتصاب السلطة السياسية.

بدأ تروتسكي، عقب كارثة الهزيمة الألمانية في 1923، في تقييم الأسباب السياسية للفشل. في “دروس أكتوبر” عام 1924، والذي كان نقداً ذاتياً ضمنياً، قارن تروتسكي نضال لينين الناجح في 1917 لمقاومة أمثال كامينيف وزينوفيف وستالين، الذين أحجموا عندما طرحت مسألة السلطة، بالسياسات الاستسلامية التي عممت في ألمانيا في أكتوبر 1923. لاحظ تروتسكي لاحقاً الحاجة إلي مراجعة أكثر منهجية وشمولاً لتدخل الحزب الشيوعي الألماني والأممية الشيوعية في أحداث ألمانيا 1923. وبالرغم من ذلك، فإنه لم ينتقد أبداً بوضوح دخول الحزب الشيوعي الألماني في حكومات ساكسونيا و ثورينجيا ولا القرار المعيب بخصوص حكومات العمال في المؤتمر الرابع.

كان نتيجة دعم تروتسكي للإدارة الشيوعية للحكومات المحلية هي قبوله لممارسة ترشيح مرشحين شيوعيين للمناصب التنفيذية. بالإضافة إلي الحملات الكثيرة من أجل منصب العمدة، أدار الحزب الشيوعي الفرنسي حملة للانتخابات الرئاسية في 1924. ورشح الحزب الشيوعي الألماني إرنست تيلمان لمنصب الرئيس في 1925 ثم مجدداً في 1932. حارب تروتسكي من أجل أن يدخل الحزب الشيوعي الألماني في جبهات متحدة مع الاشتراكيين الديموقراطيين وأن يحشدوا ميلشيات العمال لتحطيم النازيين ولفتح الطريق أمام نضال مباشر من أجل سلطة العمال بقيادة شيوعية. كانت هذه هي المهمة الملحة وقتها، لكن حملة الحزب الشيوعي الألماني الانتخابية 1932، بتوصيفها الحاد للاشتراكيين الديموقراطيين كـ”اشتراكيين فاشيين” بحسب تكتيك المرحلة الثالثة،[7] كانت مظهراً مزعجاً لرفض الحزب القيام بهذه المهمة. انتقد تروتسكي إفلاس عبارة الستالينيين “الاشتراكيين الفاشيين“، ولكنه ذكر حملة الحزب الشيوعي الألماني الانتخابية عابراً ولم ينتقدهم من أجل ترشحهم للرئاسة.

طرح تروتسكي، في 1940، إمكانية أن يطرح “حزب العمال الاشتراكي” (SWP) في الولايات المتحدة مرشحاً للرئاسة ضد الديموقراطي فرانكلين د. روزفلت (“مناقشات مع تروتسكي” 12 – 15 يونيو 1940) . عندما استبعد قادة حزب العمال الاشتراكي هذه المسألة علي أسس لوجيستية، طرح تروتسكي إمكانية النضال من أجل أن تطلق حركة العمال مرشحاً مستقلاً ضد روزفلت. كما طرح أيضاً مسألة الدعم النقدي لمرشح الحزب الشيوعي، إيرل برودر، الذي وقف وقتها معارضاً لروزفلت والحرب الإمبريالية. أوضح تروتسكي في هذه المناقشات تحفظه على تأقلم حزب العمال الاشتراكي مع البيروقراطية النقابية “التقدمية” المؤيدة لروزفلت. ما يبدو لنا جلياً من هذه المناقشات أن لا تروتسكي ولا قيادات حزب العمال الاشتراكي كانوا يعتبرون مسألة الترشح للرئاسة نقطة خلافية من حيث المبدأ. بداية من 1948، عندما رشح حزب العمال الاشتراكي مرشحاً ضد هنري والاس مرشح الحزب التقدمي البورجوازي المدعوم من الستالينيين النائب السابق لفرانكلين روزفلت، خاض حزب العمال الاشتراكي الانتخابات الرئاسية بانتظام.

كان مقترح تروتسكي بخصوص ترشيح برودر مناسباً للغاية. في أعقاب اتفاق ستالين مع هتلر في أغسطس 1939، قام الستالينيون الأمريكيون بانعطاف مؤقت ناحية اليسار، من كونهم مؤيدين بقوة لتوجه روزفلت “السياسة الجديدة“[8] ليتخذوا موقف المحاربين للإمبريالية الأمريكية. كان من الممكن أن يعودوا لدعم روزفلت باسم “الحرب ضد الفاشية” بعدما غزا هتلر الإتحاد السوفيتي في 1941. كانت حجج تروتسكي حول منح الدعم النقدي لبرودر تهدف للاستفادة من موقف الحزب الشيوعي المعادي للإمبريالية المؤقت لفضح الحزب أمام قاعدته من الطبقة العاملة.

عندما نجادل ضد الترشح للمناصب التنفيذية، لا تستبعد الرابطة الأممية الشيوعية منح دعم نقدي لمنظمات عمالية أخري في مواقف مناسبة حين تتخذ خطاً طبقياً صريحاً. وعندما يمنح تنظيم لينيني دعماً نقدياً إنتخابيا لأحد الخصوم ، فلايعنى هذا بالطبع لأننا نعتقد أنه سيطبق نفس المبادئ التي نطبقها. وإلا كان لا يمكن لنا أن نمنح دعماً نقدياً لحزب جماهيري إصلاحي، لأنه بفوزه في الانتخابات سيسعى لا محالة لأن يشكل الحكومة، أي أن يدير الرأسمالية. في الحقيقة، فإن هذه الحجة هي سمة جدلية جوهرية لدعمنا النقدي. إن الهدف في مثل هذه المواقف هو أن نوضح أنه برغم إدعاءات مثل هذه الأحزاب تمثيل مصالح العمال، فإنهم في الممارسة يخونون هذه المصالح .


ميراثهم وميراثنا

إن الاستيعاب النقدي لدروس نضالات حركة العمال الأممية السابقة هو عنصر ضروري للحفاظ على استمراريتنا الثورية. في نضالنا لإعادة بناء أممية تروتسكي الرابعة، التي أسست في 1938 بعد الموت السياسي للأممية الثانية والكومنترن الستاليني، نستند على مؤتمرات “الأممية الشيوعية” (CI) الأربعة الأولى. لكن ليس بدون نقد لـ”الأممية الشيوعية” (CI) في مرحلتها المبكرة، ومنذ السنوات الأولى لتيارنا ونحن نعبر عن تحفظاتنا على قرارات المؤتمر الرابع حول “الجبهة المتحدة في مواجهة الإمبريالية” و”الحكومات العمالية “.

على النقيض، فإن معارضينا السياسيين يرفضون أو يفرغون مبادئ ثورة أكتوبر والأسس البرنامجية للينين وتروتسكي من معناها وينتقون هذه “التقاليد” التي تضفي هالة من الشرعية التاريخية على مساعيهم الانتهازية. مثال على ذلك حالة “المجموعة الأممية” و”التيار البلشفي“، والذين تمتلك حجج محاميهم دفاعاً عن الترشح للمناصب التنفيذية أشياءً مشتركة مع جناح كاوتسكي في الأممية الثانية أكثر منها مع البلشفية اللينينية. بالنسبة للإخوة الكبار في “المجموعة الأممية” و”التيار البلشفي“، بالرغم من الاستشهاد بالتروتسكية عرضاً، تبقى تقاليدهم هي تقاليد أنصار ميلليران وماكدونلد.

تكشف الأزمة المفتعلة لـ”المجموعة الأممية” و”التيار البلشفي” حول المعضلة التي يطرحها فوز الشيوعيين بالمناصب التنفيذية أو أغلبية الهيئات التشريعية البورجوازية، عن دافع شديد الانتهازية. في مرجعها الموفق عن مجلس بلدية بوبلار[9] اليساري المرتبط بحزب العمال، تطرح المؤرخة نورين برانسون أكثر نفس المسألة:”ماذا ستفعلون حال حصولكم على الأغلبية؟ إلى أي مدى سيسمح لكم الإطار القانوني والإداري الحالي أن تحدثوا التغييرات التي تدافعون عنها؟” (برانسون، “البوبلارية 1919 – 1925“، لندن: لونس وويشارت، 1979). عند الاستشهاد بسؤال برانسون، نذكر مقال كتب في 1982 عن نزعة المجالس المحلية بواسطة مجموعة “سلطة العمال” (WP) البريطانية، الوسطية في ذلك الوقت، والتي انقسمت فيما بعد إلى مجموعتين إصلاحيتين متنافستين، يجيب بالاستشهاد بالأطروحة الثالثة عشر من المؤتمر الثاني للأممية الشيوعية (“النضال في بوبلار ما بين 1919 – 1921: الشيوعية في مواجهة نزعة المجالس المحلية“، سلطة العمال، مايو 1982)!

تحدث مقال “سلطة العمال“بحماسة شديدة عن نضالية هذا المجلس الذي كان يقوده حزب العمال – والذي ضم اثنين من الشيوعيين، إدجار وميني لانسبوري – في المنطقة الفقيرة بلندن، والطبقة العاملة في إيست إند لتشجيع ما وصفه بـ”التوجه الثوري لنضال المجالس المحلية“.إن فشل الأممية الشيوعية في الانتصار على العناصر ذات الميل النقابوي في قلب الحركة الثورية البريطانية خلال وبعد المؤتمر الثاني، ترك الشيوعية البريطانية مولوداً ميتاً وتحت قيادة العناصر التي كانت منسجمة مع البيئة البرلمانية المرتبطة بحزب العمال (أنظر “الشيوعية البريطانية المجهضة“، سبارتاكست عدد 36 – 37، شتاء 85 – 1986). كان عضوي المجلس الشيوعيان في الواقع العملي غير مميزين سياسياً عن أغلبية المجلس المنتمية لحزب العمال، والتي كانت قيادتها للمسيحي السلمي جورج لانسبوري، والد إدجار. وكان هذا في الوقت الذي كانت بريطانيا فيه في وسط اضطراب اجتماعي شديد. في ذروة نشاط مجلس بوبلار، في 1920، اجتاحت الإضرابات والمظاهرات البلاد تطالب بـ”عدم التدخل في روسيا” وتعارض شحنات الأسلحة البريطانية لبولندا تحت حكم بيلسوديسكي.[10] وكانت مجالس العمل التي برزت في قلب هذه الحملة علامة على بزوغ أجهزة ازدواج السلطة.

وعندما كانت المهمة الملحة هي مصادرة وإعادة تنظيم أدوات الإنتاج تحت سلطة البروليتاريا، كان الإصلاحيون ببساطة ينشغلون بنظام التوزيع. وبينما كان أعضاء مجلس بلدية بوبلار أكثر نضالية من التيار السائد لسياسيي حزب العمال حتى في وقتها – يدخلون السجن، وينظمون مظاهرات حاشدة من أجل سياساتهم – إلا أن قوتهم وأفقهم السياسي كانا محدودان بالاقتصاد في الموارد القليلة التي تحت سيطرتهم لزيادة معاشات الإغاثة للفقراء والمتعطلين عن العمل ورفع الأجور الهزيلة لموظفي المجلس بعض الوقت. وفقا لما طرحه جورج لانسبوري، “يجب أن يمنح العمال ًبرهانا ملموساً على أن حكم حزب العمال يعني شيئاً مختلفاً عن الحكم الرأسمالي، وباختصار يعني هذا تحويل الثروة من دافعي الضرائب الأثرياء إلى الفقراء” (مقتبس في كتاب برانسون، “البوبلارية“). في الحقيقة، كانت السيطرة على المجالس المحلية في المناطق العمالية أمراً حاسماً لقفزة حزب العمال ليصبح حزب الحكومة على المستوى القومي، كما فعل للمرة الأولى في عام 1924. وعندما زار الملك إيست إند في عام 1921، حياه مجلس بلدية بوبلار الجديد المنتخب بلافتة كتب عليها: “ينتظر مجلس بلدية بوبلار اليوم أن يؤدي الملك واجبه بدعوة حكومة جلالته أن توفر عملاً أو إعالة كاملة لكل المتعطلين عن العمل في الأمة” (مقتبس في المصدر السابق).

بعدها بستة عقود، عندما سيطرت المجموعة التروتسكية المزيفة المسماة “التيار المناضل” Militant Tendency، بقيادة تيد جرانت وبيتر تافي (الذين انفصلا فيما بعد ليؤسسا منظمتين منفصلتين)، على المجلس المحلي التابع لحزب العمال في مدينة ليفربول المنهكة، لم يشعلوا شمعة لذكرى المسيحي السلمي لانسبوري ومجموعته. ذات مرة، هدد هؤلاء المديرون “التروتسكيون” للحكومة الرأسمالية المحلية بتسريح كل عمال البلدية في المدينة الذين تجاوز عددهم 300 ألف، مدعين أن هذا كان “تكتيكاً” للتعامل مع تخفيض الميزانية الذي فرضته حكومة تاتشر المحافظة. ليس لدينا دليل مع ذلك أنهم قدموا التماسات للملكة إليزابث الثانية.

عملت الإدارة المحلية تاريخياً كوسيلة لدمج أحزاب الطبقة العاملة في النظام البورجوازي. لم يكن هذا هو الحال في بريطانيا فقط، لكن أيضاً في فرنسا وإيطاليا وكل مكان آخر. لاحظ مقال حول “الشيوعيين الإيطاليين والولايات المتحدة” أن: “سيطرة الشيوعيين على حكومات المدن والحكومات المحلية .. كان مهماً في الحقيقة لتقوية الاتجاه نحو الإصلاحية البراجماتية في قلب الحزب الشيوعي الإيطالي (PCI)” (نيويورك ريفيو أوف بوكس، 11 مايو 2006). ليس الترشح أو تولي أي منصب تنفيذي على أي مستوى خطوة انطلاق للتعبئة الثورية للجماهير العاملة لكنه على العكس يعمل على تعميق الأوهام السائدة حول إمكانية إصلاح الدولة الرأسمالية وتقوية الأغلال التي تربط البروليتاريا بالعدو الطبقي.

من الناحية الأخرى ، يمكن أن يسعى حزب عمال ماركسي حقاً للفوز ببعض المقاعد في الهيئات التشريعية البورجوازية، حيث يستخدم نواب الحزب مناصبهم للدفع بمشروعات قوانين كاشفة – كما فعل البلاشفة في الدوما القيصري بإدانتهم لمعاداة السامية والمذابح – “معدة بحيث لا تقبلها الأغلبية البورجوازية، لكن بالأحرى لأغراض الدعاية والتحريض والتنظيم” (“أطروحات حول الأحزاب الشيوعية والنزعة البرلمانية“، محاضر ووثائق المؤتمر الثاني، 1920). عبر مثل هذه الوسائل – اقتراح تشريعات لإلغاء عقوبة الإعدام، على سبيل المثال، في الولايات المتحدة واليابان – وبوضع النواب الشيوعيين “في الصفوف الأولى” لكل مظاهرات العمال وإضراباتهم، يجب على الحزب الماركسي أن يستخدم مواقعه البرلمانية كـ”قواعد مساعدة لنشاطه الثوري” (المصدر السابق). يختلف هذا المنظور بوضوح مع الترشح أو تولي المناصب التنفيذية .

بالنسبة للشيوعيين، الترشح لمنصب منتخب ليس مجرد مجهود دعائي أو صورة استعراضية سياسية تصور بواسطة أمثال “المجموعة الأممية“. في فترات الاستقرار النسبي، وفي غياب تحدي ملموس لسلطتهم الطبقية، يمكن للبورجوازيين في “الديموقراطيات الإمبريالية” أن يتساهلوا مع ترشح الثوريين إلى المنصب، من الأفضل لهم تدعيم الوهم القائل بأن الحكومة تمثل “إرادة الشعب“. ويمكن ألا يفعلوا؛ يشهد الواقع أنه خلال مرحلة “الرعب الأحمر“[11] عقب الحرب العالمية الأولى، حرم خمسة اشتراكيين تم انتخابهم وفق الأصول من قبل أحيائهم في نوفمبر 1919 لمجلس نواب ولاية نيويورك، من مقاعدهم لا لسبب إلا عضويتهم في الحزب الاشتراكي.

في البلدان شبه المستعمرة، حيث مازالت المؤسسات الديموقراطية أكثر هشاشة وتشعر الجماهير بسوط الاستغلال الإمبريالي، تواجه الحملات الانتخابية دوماً اشتباكات مميتة مع قوات الدولة البرجوازية وسفاحي الأجنحة اليمينية. ومن السخرية أن تطلب الوقت والدم من الكادحين الذين يتم اعتصارهم وترويعهم بشكل جهنمي، من أجل مرشح لمنصب تنفيذي يتعهد أنه لن يتولى المنصب لو فاز.

كل هذا يساعد على إبراز أن مسألة الدولة هي مسألة حياة أو موت بالنسبة لحزب العمال الثوري. إنها مسألة الثورة. في تبنينا لموقفنا ضد الترشح للمناصب التنفيذية في الدولة البورجوازية وفي مراجعتنا النقدية للسياسات والممارسات الموروثة من روادنا، نحن نسعى لإلقاء الضوء على الهوة السياسية التي تفصل بين “الرابطة الشيوعية الأممية” وكل الانتهازيين الذين يدعون زوراً كونهم ماركسيين وتمثيل المصالح التاريخية للطبقة العاملة. لا تتقوم مهمتنا سوي في تنظيم وتدريب وتصليب أحزاب طليعة البروليتاريا، وأقسام الأممية الرابعة التي يعاد بنائها، وهو الأمر الضروري من أجل الاستيلاء على سلطة الدولة وبناء سلطة العمال في جميع أنحاء العالم.

------------------
تصويبات للمقال نشرت في سبارتاكست (الطبعة الإنجليزية) عدد 62، ربيع 2011

يعرض مقال “المبادئ الماركسية والتكتيكات الانتخابية“، المنشور في سبارتاكست (الطبعة الإنجليزية) عدد 61 (ربيع 2009)، في صفحة 20 (ص 45 في هذا الكراس) أن تروتسكي أشار إلى الانتخابات المحلية في مقدمة كتاب “الخمس سنوات الأولي للأممية الشيوعية” المكتوبة في مايو 1924، عندما حيا “الحزب الشيوعي الفرنسي” (PCF) لحصوله على 900 ألف صوت كـ”نجاح جدي، خاصة لو أخذنا في الاعتبار النمو السريع لنفوذنا في ضواحي باريس“. في الحقيقة، كما ذكر في الطبعة الفرنسية (عدد 39، صيف 2009) والطبعة الأسبانية (عدد 36، نوفمبر 2009)، “كان تروتسكي على الأرجح يشير إلى الانتخابات البرلمانية التي أجريت هذا الشهر“. مع هذا، لاحظنا أيضاً أن “نفوذ “الحزب الشيوعي الفرنسي” (PCF) في الضواحي شمل أيضاً إدارة العديد من المجالس المحلية“.

بعد هذا الاقتباس مباشرة، فإن مقال تروتسكي “الصناعة المؤممة والإدارة العمالية” مؤرخ بشكل صحيح في 12 مايو 1939، برغم أن الفقرة التالية تشير خطئاً إلى عام 1938.

----------------

[1] مصطلح “إله من الآلة” باللاتينية deus ex machina يستخدم في الأدب ليصف الحل السحري غير المنطقي لعقدة الرواية والذي يأتي من خارج الإطار المنطقي لتسلسل أحداث الرواية، والفكرة مستوحاة من المسرحيات الإغريقية القديمة حيث استخدم اسخيلوس ويوربيدس تدخل الآلهة المفاجئ لحل عقدة المسرحية. (المترجم)

-

[2] عصر إعادة البناء (1863 – 1877) Reconstruction Eraيطلق على المرحلة التي تلت الحرب الأهلية في الولايات المتحدة. (المترجم)

-

[3] أوليسيوس جرانتUlysses S. Grantالرئيس الثامن عشر للولايات المتحدة الأمريكية (1869 – 1877). (المترجم)

-

[4] قادة حزب العمال البريطاني في بدايات القرن العشرين، وتحت قيادتهم اشترك حزب العمال لأول مرة في السلطة بحكومة رامزي ماكدونلد (22 يناير 1924 – 4 نوفمبر 1924). (المترجم)

-

[5] فيليب شيدمان وجوستاف نوسكه من قيادات الحزب الاشتراكي الديموقراطي الألماني إبان الثورة الألمانية، ولعبا دوراً مع باقي قيادات الحزب في إجهاض الثورة، وخداع الطبقة للعاملة لترضى بالتنازلات التي تقدمها لها البورجوازية في دستور جمهورية فايمار. شغل الأول منصب المستشار (رئيس الوزراء) والثاني منصب وزير الدفاع لجمهورية فايمار. (المترجم)

-

[6] فصيل “الشيوعيين الممتنعين“، مجموعة يسارية انشقت من الحزب الاشتراكي الايطالي في يناير عام 1921، وكانت نواة الحزب الشيوعي الإيطالي، تشكلت المجموعة رسمياً داخل الحزب الاشتراكي في يوليو 1919، وكانت قد بدأت في التجمع حول جريدة السوفييت في نهايات عام 1918. (المترجم)

-

[7] تكتيك المرحلة الثالثة، تم تبنيه من قبل الكومنترن في مؤتمره السادس في 1928، كان يعتمد على تقسيم لمراحل الرأسمالية بدءاً من الحرب العالمية الأولى إلى 3 مراحل؛ المرحلة الأولى التي تلت الحرب مباشرة وكانت فترة مد ثوري وانهيار للرأسمالية، ثم المرحلة الثانية في العشرينات وهي المرحلة التي تستعيد فيها الرأسمالية توازنها، ثم المرحلة الثالثة وهي مرحلة الأزمة النهائية للرأسمالية والتي يجب على كل الأحزاب الشيوعية فيها تبني خط معادي تماماً لكل الإصلاحيين وشديد اليسارية. (المترجم)

-

[8] “السياسة الجديدة” New deal، مجموعة من الاجراءات الاقتصادية والقوانين التي اعتمدها الكونجرس الأمريكي والتي أصدرها الرئيس الأمريكي روزفلت فيما بين 1933 – 1938، تتضمن إصلاحات اقتصادية وتنازلات اجتماعية للتخفيف من أثر الكساد الكبير الذي بدأ عام 1929 على الاقتصاد الأمريكي. (المترجم)

-

[9] كان حي بوبلار في منطقة إيست إند بلندن من أفقر أحياء المدينة، وكان فيه أعلى معدلات البطالة والجوع والفقر، وفي عام 1919 انتخب مجلس يساري للبلدية من حزب العمال وفي 1921 قرر هذا المجلس أن يتوقف عن توريد نصيب الحكومة المركزية من الضرائب وتوجيهه إلى تحسين أحوال سكان بوبلار، رفعت الحكومة المركزية الأمر للمحكمة، ونظم مجلس بلدية بوبلار مسيرة من حوالي 2000 من أنصاره إلى مقر المحكمة، وفي النهاية حكمت المحكمة على 30 من أعضاء مجلس البلدية، منهم 6 نساء، بالسجن، لرفضهم تنفيذ حكم المحكمة وتوريد الأموال للحكومة المركزية. بعدها أصبح مصطلح “البوبلارية” مرتبطاً بتوجه المجالس البلدية لتحسين أحوال الفقراء وتحدي الحكومة المركزية. (المترجم)

-

[10] جوزيف كليمنس بيلسوديسكي؛ رجل دولة بولندي ومؤسس الجمهورية الثانية، في 1920 وقع مع سيمون بتليورا قائد جمهورية الشعب الأوكراني (حكومة البورجوازية القومية في أوكرانيا في ذلك الوقت) معاهدة عسكرية بين الحكومتين بدأتا إثرها هجوماً مشتركاً على روسيا السوفيتية وأوكرانيا السوفيتية لتوسيع حدود بولندا ولبناء دولة قومية أوكرانية، في ما أطلق عليه الحرب البولندية الروسية (1919 – 1921). (المترجم)

-
[11] الرعب الأحمر (Red Scare) مصطلح دعائي أطلق لمواجه احتمالات تجذر حركة العمال وزيادة النفوذ الشيوعي في الولايات المتحدة الأمريكية، عرفت الولايات المتحدة فترتين تم استخدام هذا المصطلح فيهما، بعد الحرب العالمية الأولى والثورة البلشفية (1919 – 1921)، وما بعد الحرب العالمية الثانية (1947 – 1954) وهي ما أطلق عليها الفترة المكارثية. (المترجم)



#اليسار_الثوري_في_مصر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الماركسيون والانتخابات - بول داماتو - مقال مترجم
- توحش الرأسمالية وضرورة الاشتراكية - كراس - من أرشيف اليسار ا ...
- فبراير شهر الإضرابات العمالية ... - مقال
- قدري دميان وزيراً للمالية .. حكومة محلب تكشف انحيازاتها مبكر ...
- تأملات أولية في المسألة الرئاسية ومسار الثورة المصرية - كراس ...
- نضال الطلاب بين فبراير 46 واليوم - مقال
- دولة دستورية أم دولة قمعية؟ -
- الحد الأدنى للأجور .. مكسب للحركة أم مناورة من السلطة - مقال
- الثورة المصرية وسياسة عصر الليمون .. أزمة البديل الغائب - مق ...
- حول ما حدث في ذكري 25 يناير - مقال
- عودة الدولة البوليسية والسيطرة على قوى الثورة
- الثورة المصرية .. حدود وآفاق - من أرشيف مواقف اليسار الثوري
- في معايير الحكم على الأوهام الدستورية … قراءة ماركسية في مسأ ...
- علامات على طريق الثورة المصرية في ذكرى شهداء يناير
- -دستورهم- بين أهداف الثورة ومناورات الثورة المضادة


المزيد.....




- نيويورك.. الناجون من حصار لينينغراد يدينون توجه واشنطن لإحيا ...
- محتجون في كينيا يدعون لاتخاذ إجراءات بشأن تغير المناخ
- التنظيمات الليبراليةَّ على ضوء موقفها من تعديل مدونة الأسرة ...
- غايات الدولة في تعديل مدونة الاسرة بالمغرب
- الرفيق حنا غريب الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني في حوار ...
- يونس سراج ضيف برنامج “شباب في الواجهة” – حلقة 16 أبريل 2024 ...
- مسيرة وطنية للمتصرفين، صباح السبت 20 أبريل 2024 انطلاقا من ب ...
- فاتح ماي 2024 تحت شعار: “تحصين المكتسبات والحقوق والتصدي للم ...
- بلاغ الجبهة المغربية لدعم فلسطين ومناهضة التطبيع إثر اجتماع ...
- صدور أسبوعية المناضل-ة عدد 18 أبريل 2024


المزيد.....

- مساهمة في تقييم التجربة الاشتراكية السوفياتية (حوصلة كتاب صا ... / جيلاني الهمامي
- كراسات شيوعية:الفاشية منذ النشأة إلى تأسيس النظام (الذراع ال ... / عبدالرؤوف بطيخ
- lمواجهة الشيوعيّين الحقيقيّين عالميّا الإنقلاب التحريفي و إع ... / شادي الشماوي
- حول الجوهري والثانوي في دراسة الدين / مالك ابوعليا
- بيان الأممية الشيوعية الثورية / التيار الماركسي الأممي
- بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة ف. آي. لينين (النص كاملا) / مرتضى العبيدي
- من خيمة النزوح ، حديث حول مفهوم الأخلاق وتطوره الفلسفي والتا ... / غازي الصوراني
- لينين، الشيوعية وتحرر النساء / ماري فريدريكسن
- تحديد اضطهادي: النيوليبرالية ومطالب الضحية / تشي-تشي شي
- مقالات بوب أفاكيان 2022 – الجزء الأوّل من كتاب : مقالات بوب ... / شادي الشماوي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - اليسار الثوري في مصر - المبادئ الماركسية والتكتيكات الانتخابية - الرابطة الشيوعية الأممية - مقال مترجم