أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - خليل كلفت - الاقتصار على الحل الأمنى مصيره الفشل















المزيد.....



الاقتصار على الحل الأمنى مصيره الفشل


خليل كلفت

الحوار المتمدن-العدد: 4406 - 2014 / 3 / 27 - 08:20
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
    


الاقتصار على الحل الأمنى مصيره الفشل

1: للتصدى للتصعيد الإخوانى الإرهابى فى 15 مارس 2014، ولاحتمالات التصعيد الإرهابى النوعى الذى يهدد به الإخوان المسلمون لزعزعة الاستقرار وعرقلة انتخابات الرئاسة القريبة، أصدر مجلس الوزراء المصرى، بعد اجتماع طويل مساء نفس اليوم إلى صباح اليوم التالى، بيانا من ست نقاط (الصفحة الرسمية لرئاسة مجلس الوزراء المصرى؛ 16 مارس 2014) يشدد فيه على "التصدى بكل حسم"، وعلى أن "الدولة عازمة على المضى قدمًا فى استكمال خارطة الطريق"، ويشدد على إجراءات لهذه المواجهة، كما يشدد بصورة خاصة على تطبيق المادة 204 من دستور 2014، "يختص القضاء العسكرى دون غيره بالفصل فى كافة الجرائم المتعلقة بالقوات المسلحة وضباطها وأفرادها ومن فى حكمهم". ويقرر أن هذه المادة الدستورية تنطبق أيضا "على أىّ اعتداء أو الشروع فيه على الكمائن المشتركة المشكلة من أفراد القوات المسلحة والشرطة المصرية". ورغم تشديد قوى سياسية متنوعة على أن الاقتصار على الحل الأمنى مصيره الفشل، وأن الحل الحقيقى لمشكلة الإسلام السياسى يشتمل على الحل الأمنى المباشر ضد الإرهاب، جنبا إلى جنب مع الحل الاجتماعى الاقتصادى الفكرى، أىْ الديمقراطية والحرية، أىْ الديمقراطية الشعبية من أسفل بمختلف عناصرها، لا يكتفى البيان بتجاهل الحل الديمقراطى بل يذهب إلى حد رفضه وإلى حد المطالبة بتعليقه وإرجائه، وإلى حد دمغه ووصمه بأنه "مطالب فئوية": [يهيب مجلس الوزراء بأعضاء النقابات وعمال المصانع والهيئات والعاملين بالدولة وكل من له مطالب فئوية، إعلاء المصلحة العليا للوطن وإرجاء تلك المطالب في هذه المرحلة الدقيقة]، ووفتح الباب بالتالى أمام التورط فى الهجوم والاعتداء والاعتقال والقمع ضد النضالات الشعبية فى سبيل لقمة العيش.
2: وكان من المتوقع بالطبع، مع بروز دور الاغتيالات والتفجيرات والاشتباكات الإرهابية ضد الجيش والشرطة والمواطنين، بعد التراجع الكبير فى المظاهرات والمسيرات والاعتصامات الحاشدة الإخوانية الإرهابية، أن تتمّ إعادة نظر فى توجهات وإجراءات المواجهة؛ بحيث تشتد السيطرة الأمنية على التطورات، ويتمّ إفشال الخطة الإخوانية لإحباط انتخابات الرئاسة وما بعدها، وكذلك إحباط الخطة الإخوانية للاستمرار بحالة من الاضطرابات والقلاقل على أمل حدوث تغيُّر يأتى به القدَر فى المعادلات الداخلية و/أو الخارجية (الأمريكية بالذات) للمواجهة، وبحيث يتم وضع حدٍّ حاسم للعربدة من جانب الإخوان المسلمين، وأمريكا، وإسرائيل، وأوروپا، وتركيا، وقطر، وحماس والقاعدة؛ إلخ إلخ إلخ...
3: ويمكن الحديث عن أن بيان مجلس الوزراء لا يزيد عن كونه تشديدًا للمواجهة الأمنية والحل الأمنى. ولا شك فى أن الاقتصار على الحل الأمنى مصيره الفشل، سواء تمثَّلَ هذا الحل الأمنى فى المواجهة الأمنية أو فى استخدام القضاء العسكرى وفقا للدستور ووفقا لتطبيق مجلس الوزراء للمادة الدستورية على الحالات الحالية للأعمال الإرهابية المتعلقة بالجيش والشرطة.
4: ومنذ عبد الناصر فصاعدا تمّ الاقتصار تقريبا على الحل الأمنى العسكرى أو الشرطى أو القانونى أو القضائى، العسكرى وغير العسكرى، أو الإعلامى. ذلك أن كل هذه الأشياء لا تعدو أن تكون أشكالا من الحل الأمنى الذى يوظف القمع العسكرى والشرطى، والقمع القانونى وتطبيقاته القضائية، والقمع الإعلامى من خلال أبواق الدعاية المسعورة، والقمع السياسى فى ظل مصادرة الحياة السياسية من خلال التنظيم/الحزب السياسى الواحد، أو من خلال التعددية الحزبية الصورية. وكان لا مناص هنا من فشل الاقتصار على الحل الأمنى بكل عناصره فى تحقيق المهمة المتوهَّمة له من جانب سلطة الدولة. ذلك أن إصلاحات مثل ما يسمَّى بالمكاسب العمالية والإصلاح الزراعى لم تكن لتصمد خاصة مع صعود الطبقة الجديدة، رأسمالية الدولة البيروقراطية، التى دشنتها التمصيرات والتأميمات التى جرى وضعها فى أيدى العسكريِّين. ولم يكن التأميم بالتالى أداة خلق ثروة جديدة تجعل مستويات من عدالة التوزيع قابلة للنقاش، بل كان أداة خلق طبقة رأسمالية دولة استغلالية بالغة الشراهة وشمولية على أساس ملكية الدولة.
5: وبالطبع صار من المحتمل الآن، فى سبيل احتواء مثل هذه الاحتجاجات، تقديم بعض التنازلات الجزئية وإجراء بعض الإصلاحات المحدودة بعد أن أثبتت الاحتجاجات ومنها ما يسمَّى بالمطالب "الفئوية" التى يدمغونها من خلال هذه التسمية بأنها مطالب أنانية ضد إعلاء المصلحة العليا للوطن، غير أن الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية التى ثار الشعب ضدها تفاقمت واستفحلت بعد الثورة بحيث لن تجدى معها حلول سطحية. ومن شأن استمرار مثل هذه التركيبة من الإرهاب الإخوانى المتواصل، والحل الأمنى مهما اشتدّ، والفشل الاجتماعى والسياسى، أن يهدد بتطورات بالغة الخطورة. وفى مواجهة الاحتجاجات الشعبية الجماهيرية المحتملة دون أىّ حل اجتماعى اقتصادى حقيقى بحكم تفاقم الفشل الاقتصادى، فى سياق التعويل المبالغ فيه على شعبية الجيش و السيسى، يغدو من المستحيل أن يقتصر الحل الأمنى على الإخوان المسلمين وحلفائهم الإسلاميِّين حيث لا مناص من امتداده ليشمل الطبقة العاملة وباقى الطبقات الشعبية الكادحة، وليس من المستبعد أن ينتهى هذا إلى تعبئة الشعب ضد الدولة ومؤسساتها ويمكن أن يؤدى مثل هذا التطور إلى تفاقم الإرهاب الإخوانى، خالقا بيئة سياسية اجتماعية ملائمة لظهور فُرَصٍ لا مفرّ منها أمام الإخوان المسلمين فى هذه الحالة؛ فُرَص العودة أو التحوُّل إلى تنظيم إرهابى سرى قادر على الصمود الإستراتيچى الطويل.
6: وقد علَّمتنا التجربة المريرة منذ انقلاب يوليو 1952 العسكرى أن الموقف المعادى للديمقراطية والعدالة الاجتماعية، وهو الموقف الذى يقتصر على الحل الأمنى، يقود بطبيعته فى الأجل الطويل إلى الفشل فى القضاء على الأصولية الإخوانية وغير الإخوانية فى غياب الصراع الفكرى التقدمى ضدها، وفى أوضاع الإفقار المتواصل للشعب، وهو ما يؤدى إلى خلق بيئة بشرية ملائمة لانتشار هذه الأصولية انتشار النار فى الهشيم. وعلى هذا أدت البيئة التى خلقتها هزيمة الفكر القومى الناصرى وغير الناصرى أمام أمريكا وإسرائيل وأمام الفكر الإخوانى السلفى الأصولى الرجعى الإرهابى المتعاون مع الاستعمار، وكذلك متلازمة الفقر والإفقار والحرمان، والجهل والأمية الألفبائية والسياسية، والمرض الوثيق الارتباط بالفقر والجهل، إلى عودة الإخوان بالتسلُّل ثم التغلغل ثم الوصول آخر الأمر إلى الحكم بعد ستين عاما من أقسى الضربات الأمنية فى عهد عبد الناصر، والتعاون والتشجيع وفتح الأبواب فى فترةٍ من عهد السادات، والمهادنة المترهلة التى خلقت للإخوان المسلمين وحلفائهم دولة داخل الدولة واقتصادا داخل الاقتصاد فى عهد مبارك، بكل ما كان يهدد به من قيام دولة دينية، وبالتالى من تدمير الشعب بمزيد من الفقر والجهل والمرض والحرب الأهلية التى أعدّت لها الجماعة مدركةً تماما أنه لا يمكن تفادى الصراع والصدام والحرب مع القطاع المسيطر فى الطبقة الرأسمالية التابعة على الاقتصاد والسلطة من خلال الأخونة بكل نتائجها الحربية التى لا يمكن تفاديها بين هذين القطاعين الرأسماليين التابعين، ولكنْ المتعاديين أيديولوچيًّا، والتى من شأنها جرّ الشعب بكامله إلى ويلات الحرب الأهلية وإلى دماره.
7: وبالطبع فإن المواجهة الأمنية المباشرة الفورية للإرهاب الواسع النطاق باستخدام الجيش والشرطة والدستور والقانون والقضاء، والإدارة، وهى بمجموعها تجسِّد الدولة والقمع الذى تمارسه، ضرورة لا ينكرها أىّ مواطن واعٍ يستشعر المسئولية إزاء بقاء ومستقبل الوطن الذى هو الشعب قبل أن يكون الموطن، قبل أن يكون حوض النيل والدلتا والصحراء الشرقية والصحراء الغربية كبيئة جغرافية طبيعية، وتفادِى حربٍ أهلية تدمر وجوده ذاته وتحكم عليه بالخراب العاجل.
8: وكان الاستنتاج المنطقى من تجربة قرابة ستين سنة هو الربط الحاسم بين المواجهة الأمنية والعنصرين الآخرين للمواجهة الشاملة المتمثلين فى الصراع الفكرى ضد الفكر الإسلاموى الرجعى، وهو صراع لا يتحقق إلا فى سياق تحرير الحريات وإحقاق الحقوق، ومستويات حقيقية من العدالة الاجتماعية، غير أن الدولة من ناحية، والثورة بجماهيرها الشعبية وقياداتها العفوية بدورها من ناحية أخرى، كانتا غير مؤهلتين للخروج بذلك الاستنتاج المنطقى والالتزام بمقتضياته.
9: لم تكن الدولة مستعدة بحكم كونها دولة طبقية تمثل فى المحل الأول مصالح الطبقة الرأسمالية التابعة الحاكمة وهى مصالح متناقضة مع مصالح الجماهير الشعبية العاملة، وبالتالى مع الحريات والحقوق كأدوات للنضال الطبقى الشعبى، ومع العدالة الاجتماعية لأنها، رغم كونها شرط استقرار الدولة والمجتمع، خصم على الأرباح الفاحشة للطبقة الحاكمة.
10: ولكن الثورة الشعبية العفوية لم تكن مؤهلة بدورها. وهذا هو بيت القصيد. ذلك أنه إذا كان الحل الأمنى بكل عناصره يأتى من مؤسسات الدولة الطبقية من أعلى فإن الحرية الديمقراطية والعدالة الاجتماعية لا تأتيان منحةً من الطبقة الحاكمة ودولتها بل تكونان منتزعتين انتزاعا من أسفل من هذه الأخيرة. ولم تركز الثورة، بحكم عفويتها وبحكم سهولة تضليلها، رغم التسييس الواسع النطاق فى زمن الثورة، على الديمقراطية الشعبية من أسفل. ومن البديهى أنه لا سبيل لشعبٍ إلى الحصول على أىّ مكسب فى سياق ثورة، أىِّ ثورة، ما لم يركز، بنفسه، على هذه الديمقراطية الشعبية من أسفل. وصحيح أن الإنجاز الكبير والتاريخى الذى حققته الثورة هو الإطاحة بحكم المرشد وإبعاد شبح الدولة الدينية الإسلامية على الأقل فى الأجل القصير وربما المتوسط. على أنه ينبغى أن ندرك أن هذا الإنجاز فى مجال التخلص من واقع الحكم الإخوانى وشبح الدولة الدينية إنما كان ثمرة مباشرة للصراع بين القطاعين المباركى والإخوانى داخل الرأسمالية الكبيرة التابعة الحاكمة، وهو الصراع الذى انتهى بانتصار أحدهما، أعنى دولة مبارك بدون مبارك.
11: وبالطبع فإن مستقبل الشعب لا يقتصر على التحرُّر من شبح الدولة الدينية الإخوانية ومن خطر مكابدة ويلاتها بل يأتى فى صدارة مقتضياته مقتضًى يتمثل فى تأمين مستقبل "أفضل" للشعب بنجاح الثورة الشعبية فى تحقيق الحرية الديمقراطية والعدالة الاجتماعية بمختلف عناصرهما. ومن ناحية أخرى تمثل المقتضيات المترابطة لطرد هذا الشبح، فى هذه اللحظة، البوابة والمدخل إلى النضال الطبقى فى سبيل رفاهية الشعب وحريته وفى سبيل الاستقلال الوطنى الحقيقى والتحرر من التبعية الاقتصادية الاستعمارية.
12: ونعلم أن شرط الاستقرار الاجتماعى وكذلك التحرر الشامل والطويل الأجل من خطر عودة الحكم الإخوانى وبالتالى خطر الدولة الدينية يتمثل فى تحقيق مستويات ملائمة من الديمقراطية الشعبية من أسفل بشقيْها الاجتماعى والديمقراطى. كما أن هذه المستويات من الديمقراطية الشعبية من أسفل تمثل الشرط الحاسم لتفادى حرب أهلية يمكن أن تؤدى إليها بداياتها الحالية التى يشنها الإخوان المسلمون وحلفاؤهم، كما يمكن أن يؤدى إليها صدام ممكن بين الشعب والدولة التى لا برنامج لديها لأىّ تنازل جوهرى أمام المطالب الشعبية أو لأىّ تسامح مع أىّ نضال شعبى فى سبيل تحقيق الحد الأدنى لحياة لائقة بالبشر.
13: وإذا تركنا جانبا ما يحيط بمصر من خطر إستراتيچى تاريخى يهدد بقاء الشعب ذاته!، شأنها فى هذا شأن غيرها من بلدان العالم الثالث، الذى يشهد منذ عقود طويلة تراجعا تاريخيًّا متواصلا، ويواجه بالتالى معركة البقاء، بل معركة تفادى الفناء كشعوب، وليس مجرد التهميش، فإن الوضع الحالى فى مصر بالغ الخطورة إلى حد تهديد كيان/وجود/بقاء البلد والشعب والمجتمع وليس مجرد الدولة ومؤسساتها من قانون وقضاء وجيش وشرطة وإعلام تابع. والمشهد العام لمصر الآن هو أنها تشهد صراعا دمويا داخل البلاد فى سيناء والعاصمة والمحافظات جميعا. وهى بدايات حرب أهلية يهدد استمرارها بالتحول إلى حرب أهلية شاملة؛ ومنذ الآن صارت لغة الصراع هى لغة الحرب من جانب جميع الفرقاء: "الحرب على الإرهاب" أو "الحرب الحقيقية" أو "الحرب الأهلية"! وتدور هذه الحرب (أو هذه البداية التى تهدد بالتحول إلى حرب أهلية شاملة) بين الإسلام السياسى بقيادة الإخوان المسلمين من ناحية والدولة والشعب من ناحية أخرى. ذلك أن الحرب الإخوانية ليست ضد الجيش والشرطة ومؤسسات ومنشآت الدولة فقط بل هى ضد المواطنين وممتلكاتهم، كما أنها حرب على الأقباط والكنائس، وعلى مستقبل الشعب كله.
14: ولكنها ليست حربا أهلية/داخلية فقط بل هى أيضا حرب بالوكالة فى تحالف أو تواطؤ أو تعاون مباشر خارج الحدود مع أطراف رجعية إسلاموية ودول استعمارية عديدة: التنظيم الإخوانى العالمى، وامتداداته فى الخارج مثل حماس وتنظيم القاعدة وتركيا أردوجان والنهضة التونسية مع دور بارز لقطر، وامتداداته فى الداخل ليس بالتعاون مع الإخوان وباقى الجماعات الإسلامية الإرهابية المصرية فحسب بل بجلب الحركات والمنظمات الأصولية المسلحة إلى داخل مصر، وتتدفق الأسلحة على الإخوان وباقى الجماعات الإسلامية الإرهابية فى مصر من كل اتجاه وبالأخص من ليبيا فى الغرب وحماس فى الشرق، وهذا فى سياق حصار مباشر من جانب حركة حماس وتنظيمات أخرى فى غزة فى الشرق، وميليشيات ليبيا فى الغرب، ودولة عمر البشير فى السودان بكل توترات وخلافات وصراعات الأيديولوچيا والحدود وسد النهضة، بالإضافة إلى إسرائيل فى الشرق بمؤامراتها بكل الوسائل بحثا عن حل فى سيناء للقضية الفلسطينية فى غزة بالإضافة إلى مآرب أخرى. وهى حرب إمپريالية أمريكية أوروپية إسرائيلية بتحالفات وائتلافات إقليمية جرى عقدها مع قطر وحماس وتركيا وحتى تنظيم القاعدة ليس فى سيناء فقط بل كذلك بتفجيرات واغتيالات القاهرة والمحافظات وإلى حد رفع رايات القاعدة السوداء فى المظاهرات فى شوارع مصر وحتى داخل جامعاتها.
15: مصر إذن محاصرة حصارا شديدا مركَّبا بالغ التعقيد من الداخل والخارج، بالسياسة، والسلاح، والإعلام الإخوانى الإسلامى والاستعمارى الغربى، والاقتصاد التابع المتدهور قبل ثورة يناير متفاقما بحكم جشع الرأسمالية وبحكم حالة الأمن منذ الثورة بضربات الصراع بين الثورة والثورة المضادة طوال أكثر من ثلاث سنوات، وكذلك بالعقوبات الأمريكية والغربية المباشرة وغير المباشرة على مصر. وهذه الشبكة من العلاقات الحربية التى تمسك بخناق مصر من الداخل والخارج تهدد بصورة جدية بخطر حرب أهلية تدمر مصر: الدولة والمجتمع والشعب، فهذا هو شأن مثل هذه الحروب الأهلية. ورغم أن دولتنا الرأسمالية هذه ثورة مضادة ورغم أن مجتمعنا الرأسمالى هذا بطبقته المالكة الرأسمالية وبتبعيته الاقتصادية ثورة مضادة إلا أنهما يشتبكان فى صراع دموى مع تحالف إخوانى استعمارى، أمريكى إسرائيلى، ينطلق من فرصة استخدام استعمارى-صهيونى للحكم الإخوانى فى مخططات خطيرة لا يمكن استخدام مبارك الذى ينتصر الآن بدون مبارك فى تحقيقها، وبالأخص فى سيناء. ولا ينفصل اشتباك هذا التحالف الإخوانى الاستعمارى مع الدولة المصرية والمجتمع المصرى فى صراع حربى مرير ومدمر عن صراعه الحربى مع الشعب المصرى؛ ليس فقط لأن الإخوان المسلمين يستهدفون جنود الجيش والشرطة وصف ضباطهما وضباطهما من غير ذوى الرتب العليا شأنهم فى هذا شأن موظفى هذه الدولة الرأسمالية، هذه الثورة المضادة، وهم جميعا أولادنا وإخوتنا وأخواتنا، وفلذات أكبادنا، بل كذلك لأنهم يقتلون المواطنين المصريِّين المدنيِّين ويدمرون وطنهم وممتلكاتهم، ويقتلون الأقباط على الهوية ويهدمون ويحرقون منازلهم وكنائسهم وتتراوح سياستهم نحو الأقباط بين تحويلهم إلى أهل ذمة خاضعين للجزية وتحكمهم مع غيرهم الشريعة الإسلامية وبين تهجيرهم أو إبادتهم.
16: وليس معنى أن هذه الحرب على مصر تهددها بالدمار الشامل، أن يتحالف الشعب مع الدولة بمختلف مؤسساتها بل ينبغى اتباع سياسة مرحلية من السير منفردين والضرب معا أو بالأحرى السير منفردين والضرب منفردين. وتتمثل الطفولة اليسارية فى صفوف قطاع من اليسار المصرى فى اتخاذ موقف يقوم على تجاهل النضال فى سبيل "ضرب" الإخوان المسلمين وحلفائهم السلفيِّين و "ضرب" مشروع الدولة الدينية والجمهورية الإسلامية، من ناحية، ويقوم، من ناحية أخرى، على مواصلة الهجوم ضد الدولة وبالأخص ضد الجيش والشرطة والقضاء والإعلام باسم رفض استخدام القوة المفرطة ضد الإخوان المسلمين، أو باسم أن الدولة سوف تنقضّ علينا نحن بعد الإطاحة بالإخوان، أو باسم أننا إزاء احتمال أن يُفضى هذا الصراع بين قطاعين، من الرأسمالية التابعة، من الثورة المضادة، إلى دولة عسكرية بقيادة الجيش الذى قام بانقلاب عسكرى ضد "الرئيس المنتخب"، أو إلى دولة دينية بقيادة الإخوان المسلمين، لأن هاتين الدولتين كلتيهما مرفوضتان من جانب هذا اليسار، مع أن للرفض الحقيقى لكلٍّ منهما ممارساته ووسائله وأساليبه المختلفة. وتختفى فى العمق هنا لا-أدرية مجردة من كل مسئولية إزاء مستقبل الشعب الذى ينبغى عمل المستحيل، كأولوية أُولَى، لتجنيبه شرّ الويلات الرهيبة التى سوف يعانيها فى حالة حرب أهلية مدمرة. ومن المفارقات أن هؤلاء الذين يتجاهلون مهمة النضال ضد مشروع الدولة الإسلامية، رغم رفضهم لهذا المشروع، وأملهم فى أن تنزل عليه صاعقة تزيله من الوجود، يعتمدون فى حقيقة الأمر فى الإطاحة بحكم الإخوان المسلمين وحلفائهم وفى مطاردة وطرد مشروع الدولة الدينية فى مصر على دور الجيش الذى يركِّزون على الهجوم عليه.
17: ومن الغريب أن يرفض عاقلٌ استخدام القوة، حتى بتسميتها حقا أو زورًا وبهتانا بالقوة المفرطة، ضد جماعة تُحارب الدولة والمجتمع والشعب، بعد أن استعدت لهذه الحرب، بزرع كل ركن فى كل قرية ومدينة فى مصر بمخازن السلاح والذخيرة والمهمات، وبجلب محاربى حماس والقاعدة وغيرهما من ميليشيات مسلحة إلى سيناء وعموم مصر. ذلك أننا إزاء حرب استعدّ لها الجيش منذ وقت طويل للإطاحة بمشروع الدولة الإسلامية، وأعدَّتْ لها جماعة الإخوان المسلمين وحلفاؤها فى الداخل والخارج منذ وقت طويل ما استطاعت من قوة ومن رباط الخيل من أجل مواجهة حاسمة ضد كفار مصر جميعا من جيش وشرطة ومواطنين مسلمين وأقباط وشيعة وبهائيِّين.
18: ولأن هذا اليسار ليس إخوانيا ولا من أنصار الإسلام السياسى والدولة الدينية فإنه لا يؤيدهم غير أنه ضد ضربهم، لأن الدولة التى تنقض عليهم الآن سوف تنقضّ علينا نحن أيضا فى المستقبل بعد الإطاحة بهم. وهذا ربط غريب بين "انقضاضين مختلفين": فهل المقصود هو أن الجيش والإخوان شران متساويان ولا مفاضلة بينهما فلا خيار فى الشر، وبالتالى أنه لا فرق بين بقاء المنتصر منهما أيًّا كان بعد الحرب بينهما؟ وهل سيمتنع الإخوان عن الانقضاض على اليسار إذا صاروا هم المنتصرين وكُتِبَ لهم الفتح المبين؟ وإذا كان الخطران متساويين فهل يكون الموقف السليم هو اللامبالاة إزاء الصراع المسلح بين الإخوان والجيش، رغم أن وقوده الشعب؟ وإذا كان الخوف من انقضاض الجيش علينا لأنه جيش، أىْ لأنه العماد الطبيعى للديكتاتورية العسكرية؛ فهل ستكون الدولة الدينية الإخوانية بلا جيش وبالتالى بلا ديكتاتورية عسكرية؟ والحقيقة أن مفتاح الموقف السليم هنا يتمثل فى مدى قوة رفض الدولة الدينية من حيث المبدأ. ذلك أن رفض مشروع الدولة الدينية عندما يشرع مباشرة فى الحرب لا تترك مجالا لموقف آخر غير محاربتها بكل الوسائل السياسية والعسكرية.
19: وهنا نلتقى بِوَهْم بناء الدولة الديمقراطية الذى خدع به الحكم العسكرى بقيادة المشير طنطاوى، وكذلك الحكم الإخوانى برئاسة محمد مرسى، والحكم الانتقالى الحالى برئاسة عدلى منصور، تحت السيطرة الفعلية للجيش و السيسى، والحكم القادم برئاسة السيسى، كل القوى السياسية الليبرالية، والليبرالية اليسارية، والديمقراطية، واليسارية، والماركسية، لجذبها جميعا إلى الطريق الپرلمانى بعيدا عن الطريق الثورى والفعل الثورى الإضرابى، من خلال عملية طويلة ما تزال مستمرة من الاستفتاءات والدساتير والانتخابات الپرلمانية والرئاسية المتكررة. ويقود هذا الوهم إلى موقف متطرف ضد الدولة والجيش والديكتاتورية العسكرية. ومع أن الدول والجيوش والديكتاتوريات العسكرية تسود فى الغرب الاستعمارى الذى يملأ رؤوس شبابنا بأوهام بناء الدولة الديمقراطية ظن ثوارنا الشباب وثلة من ثوارنا الكبار، بشوڤ-;-ينية متطرفة بلهاء، أن الثورة المصرية، التى ينبغى أن ندرك طبيعتها وحدودها، سيكون بمستطاعها أن تتفادى الدولة العسكرية التى لم يكن بمستطاع الغرب الذى يطنطن بالديمقراطية أن يتفاداها، بفضل سمة فريدة متوهَّمة تتمتع بها مصر وثورة مصر دون غيرها من الدول والأمم والشعوب والقبائل، ومن هنا أسطورة أن الثورة المصرية لا مثيل لها فى تاريخ العالم. وإذا كانت الولايات المتحدة الأمريكية هى أعتى ديكتاتورية عسكرية فى العالم، رغم ترويجها المنافق للديمقراطية خارجها، فكيف نفترض أن دولة مصر ستكون أكثر ديمقراطية من الدولة فى أمريكا وأوروپا والياپان وغيرها؟
20: ولا شك فى أن كل هذا الاضطراب فى مواقف سياسية أساسية يرجع إلى الجهل بمفاهيم السياسة من أكثرها بساطة إلى أكثرها تعقيدا وإبهاما. فلا أحد يدرك، فيما يبدو، أن الديمقراطية وَهْمٌ كبير وخدعة كبيرة إلا فى حالة الديمقراطية التى ينتزعها الشعب من أسفل، وأن الديمقراطيات الغربية تسمية لحالة مزدوجة من الديكتاتورية العسكرية المفروضة من أعلى والديمقراطية الشعبية المنتزعة من أسفل، فى سياق صراعهما الطبقى المتواصل على مر العقود والقرون، فنحن، فى أمريكا وأوروپا والياپان، إزاء قوة استغلالية مستبدة تضغط من أعلى، وقوة شعبية تقاوم من أسفل. وكان الانحراف الكبير القاتل للثورة المصرية يتمثل فى توجيه كل الجهود إلى ما يسمَّى ببناء الدولة الديمقراطية، على الطريق الپرلمانى الإصلاحى بدلا من توجيه كل الجهود إلى بناء الديمقراطية الشعبية من أسفل، على طريق الفعل الثورى الإضرابى.
21: وهناك مجال آخر لاضطراب المفاهيم وبالتالى لاضطراب المواقف. فالموقف الرافض للجيش يؤدى إلى رفض الانقلابات العسكرية بصورة مطلقة. وهناك أمثلة وافتراضات تثبت زيف هذا الاعتقاد. هل يمكن، مثلا، أن نرفض، على قدم المساواة، الانقلاب العسكرى "الوطنى" فى 23 يوليو 1952 ضد أسرة محمد على الكبير والاحتلال البريطانى، والانقلاب العسكرى الأمريكى ضد الرئيس "الاشتراكى" سلبادور أيّندى فى تشيلى، فى 11 سپتمبر 1973؟ وهل كان يمكن أن يزعجنا انقلاب عسكرى ألمانى ناجح مفترض ضد حكم هتلر النازى فى ألمانيا قبل أو أثناء الحرب العالمية الثانية التى أشعلها وأدت إلى مقتل 50 أو 75 أو 85 مليون إنسان، وفقا لتقديرات مختلفة ؟
22: ورغم أن أغلب الانقلابات العسكرية تقف وراءها دول غربية استعمارية وبالأخص أمريكا، وهى انقلابات عسكرية مرفوضة تماما، فإنه لا يمكن أن يوجد موقف يرفض كل انقلاب عسكرى من حيث المبدأ، بل ينبغى بحث محتواها الفعلى بكل تناقضاته المحتملة. ويتم الخلط بين الحكم العسكرى أىْ حكم مجلس عسكرى مباشر كما كان الحال فى السنوات الأولى لحكم انقلاب 1952 أو انقلاب وحكم المجلس العسكرى بقيادة طنطاوى بعد تنحية مبارك وبين الديكتاتورية العسكرية، التى هى قَدَر كل رأسمالية متقدمة أو تابعة على السواء، ولا تطيح بها غير الثورة الشيوعية. كما أن حكم الزعيم القادم من خلفية عسكرية (تشرتشل، ديجول، آيزنهاور، عبد الناصر) لا يكون بالضرورة حكم طغمة أو حكما مباشرا بقيادة مجلس عسكرى ("خونتا" junta). وبدلا من تركيز الاهتمام على رفض الديكتاتورية العسكرية التى لا سبيل إلى التخلص منها إلا بفضل ثورة شيوعية حقيقية تختلف جذريا عن ثورات القرن العشرين المسماة بالاشتراكية أو الشيوعية ينبغى التركيز على مقاومة الديكتاتورية العسكرية بالوسائل الملائمة ليس بِوَهْم التخلص الأناركى الطابع منها على الفور، وتحويل المجتمع من خلال تدمير الدولة الرأسمالية بالتالى قبل ظهور ورسوخ البديل الشيوعى إلى غابة بكل معنى الكلمة، بل لانتزاع الديمقراطية الشعبية منها من أسفل فى سياق النضال الثورى الطويل الأجل ضد الرأسمالية كنظام اجتماعى-اقتصادى، كنمط إنتاج.
23: على أن تدخُّل الجيش فى 3 يوليو 2013 لم يكن انقلابا عسكريا. بل كان انتصارا للقطاع "القومى المصرى" من الرأسمالية الحاكمة، المنقسمة إلى قطاعين متصارعين ومتحاربين، على القطاع الآخر، الإسلامى. ولم يكن تدخلا عسكريا ضد رئيس منتخب حيث لم يأتِ الرئيس الإخوانى إلا من خلال أكبر تزييف لإرادة الشعب، كما يعرف الجميع. وقد استخدم كلٌّ من القطاعين المتصارعين جيشه؛ استخدم أحدهما جيشه المتمثل فى القوات المسلحة المصرية، واستخدم الآخر جيشه المتمثل فى ميليشياته وكل أدوات إرهابه الذى استعدّ له استعدادا لم تكن مستوياته تخطر ببال أحد. وينتمى هذا الصراع الحربى الدموى داخل الرأسمالية الكبيرة، بين قطاعين منها أو أكثر، إلى نموذج تاريخى عالمى فى العصر الحديث. ينتهى انقسام الطبقة الرأسمالية الحاكمة إلى قطاعات وأيديولوچيات ورؤًى متنافسة ومتصارعة وتبلوُر قطاعين أو تحالفين كبيرين داخلها إلى نقل التنافس والصراع عند نقطة بعينها إلى صراع مسلَّح وقتال وحرب أهلية، تجرّ إلى أتونها الشعب كله. وقد تجسَّد المثال البسيط الواضح هنا فى الحرب الأهلية الأمريكية (1861- 1865) بين ولايات الجنوب (أنصار العمل العبودى) وولايات الشمال (أنصار عمل الپروليتاريا الحديثة). وهناك بالطبع نماذج أخرى من الصراعات المسلحة والحروب الأهلية التى تنشأ مباشرةً بين الشعب والطبقة الحاكمة: الثورة العمالية (كومونة پاريس)، الثورة الوطنية المسلحة ضد المحتل، الحرب الشعبية الفلاحية (الصين)، إلخ.. وحتى هنا يمكن أن نجد على الأغلب تكوينات طبقية جديدة فى طور التشكل بحيث تنتهى إلى حرب أهلية داخل الطبقة الرأسمالية ذاتها أو بينها وبين الطبقة الإقطاعية، وتنتهى إلى الرأسمالية على كل حال.
24: ومهما يكن من شيء فإن المشكلة الكبرى وراء اضطراب المواقف كان يتمثل فى التباس وغموض مفهوم الثورة: طبيعتها وآفاقها بالأبعاد الحقيقية التى تنطويان عليها. وقد ظلت الثورة مفهومةً لدى رؤية فكرية بعينها (أعنى ماركسية ماركس) على أنها التطور الاجتماعى-الاقتصادى التراكمى البطيء الطويل لنظام اجتماعى جديد فى رحم نظام اجتماعى قديم، فيما ظلت مفهومةً لدى رؤًى فكرية أخرى، على أنها ثورة شعبية جماهيرية عاصفة قد تأتى فى سياق مجرى هذا التحول الاجتماعى-الاقتصادى الجارى كاحتجاجات واسعة النطاق وممتدَّة فى مواجهة أوضاع اجتماعية طاحنة، دافعة الثورة الاجتماعية الاقتصادية إلى الأمام، وقد تأتى هذه الثورة الشعبية الجماهيرية العاصفة فى غياب سياق الثورة الرأسمالية التراكمية، كما فى مصر والعالم الثالث، فتنتهى بالضرورة إلى نتائج متواضعة. وتختلف الثورة الرأسمالية التراكمية، بصفة جوهرية، عن الرأسمالية التابعة فى العالم الثالث المتراجعة إلى الوراء فلا تكون سيرا مطردا إلى الأمام نحو رأسمالية صناعية متقدمة مترابطة الحلقات تنقذها من التبعية الاستعمارية.
25: وليس هنا مجال الاستطراد حول مفهوم الثورة، غير أن غياب المفهوم الصحيح للثورة فى مختلف الكتابات والممارسات المصرية وغيرها عند الجماهير وعند النخبة أدَّى إلى انحراف الثورة بالتركيز على وَهْم بناء مؤسسات دولة ديمقراطية بينما يعلِّمنا تاريخ الثورات أنه لا يوجد شيء من هذا القبيل، وقد دفعها هذا الانحراف الذى يرجع إلى أسباب نظرية وعملية، رغم أننا فى زمن الثورة، إلى الطريق الپرلمانى لبناء الدولة الديمقراطية (؟!)، بعيدا عن الطريق الإضرابى الثورى لتحقيق الديمقراطية الشعبية من أسفل. وربما أمكن القول إن الثورة التى انتزعت حالة من الحرية المنتزعة إلى حين، قد حققت فى المحل الأول إنجازا كبيرا يتمثل فى التخلص فى الأجل القصير وربما المتوسط، وهذا فى حالة أفضل سيناريو للتطورات الحالية، من مشروع الدولة الدينية.
26: على أن الإطاحة بجماعة الإخوان المسلمين وحلفائهم لم يكن إنجازا خالصا للموجة الثورية الكبرى فى 30 يونيو، إلا فى الكتابات الشعبوية الساذجة الثورية، بل كان هناك العامل المتمثل فى تدخل الجيش ممثلا للقطاع الأساسى "المباركى" من الطبقة الرأسمالية التابعة فى مصر. والحقيقة أن محرِّك إنجازات وإخفاقات تطورات الثورة والثورة المضادة فى مصر منذ ثورة يناير، وعلى وجه الخصوص التطورات التى كانت محصلة دور للشعب ودور للجيش، يتمثل فى التفاعل بين تدخل الشعب بثورته وتدخل الجيش بثورته المضادة فى السياسة. وبدون الثورة الشعبية ومختلف موجاتها ما كان بمستطاع الجيش أن يقوم بانقلابه الاضطرارى غير المستهدف أصلا على مبارك ولا بتدخله المستهدف والمخطط أصلا ضد مرسى، والعكس صحيح حيث كان الجيش مضطرا إلى انقلاب قصر ضد مبارك تحت الضغط الهائل للثورة الشعبية على حين أنه كان بحاجة إلى موجة يونيو 2012 الثورية للدخول فى مواجهة حاسمة مع جماعة الإخوان المسلمين وحلفائهم. ولم يكن الجيش على رأس مختلف مؤسسات الدولة الأخرى من إدارة وشرطة وقضاء وإعلام، بعيدا عن التطوير والبلورة والتعبئة لتلك الموجة الثورية، ولا عن استثمارها وتوظيفها فى مهمة الإطاحة بالإخوان ومشروعهم لإقامة الدولة الإسلامية. والحقيقة أن مَنْ "سرق" ثورة يناير (الجيش) لم يتمكن من ذلك إلا بفضل دور حاسم لعبه فى الإطاحة بحكم مبارك، كما لم "يسرقها" (الإخوان) إلا بفضل دور حاسم لعبوه فى التحالف مع الجيش ضد الثورة الشعبية، التى سهل خداعها وتضليلها وسرقتها، بحكم عجزها الناتج عن عفوية جماهيرها وقياداتها على السواء.
27: وقد رفعت ثورة يناير وموجاتها التالية سقف ثورة التوقعات إلى أعلى عِلِّيِّين. ولم يحدث هذا إلا لغياب مفهوم صحيح عن الثورة، بحكم عفويتها. فالثورة، باستثناء الثورة الشيوعية، يمكن أن ينتصر فيها طرف واحد هو الثورة المضادة، أىْ النظام السابق للثورة، كما يمكن أن ينتصر فيها الطرفان، فيمكن أن تنتصر الثورة المضادة بانتزاع احتكار الاقتصاد وسلطة الدولة الاستبدادية والديكتاتورية العسكرية الإمپريالية أو التابعة من أعلى، ويمكن أن تنتصر الثورة، فى الوقت نفسه، بشرط مستوى أعلى من وعى ونضج الجماهير والقيادة معا، بانتزاع الديمقراطية الشعبية من أسفل. وفى الوقت الحالى يمكن القول إن الثورة المضادة المباركية بدون مبارك ناجحة إلى الآن فى الاستمرار بإستراتيچيا التصفية التدريجية للثورة وتفادى الحرب الأهلية، عن طريق إغراق الجماهير الشعبية فى ظلمات النفق المظلم المتمثل فى إستراتيچيا البناء الوهمى لمؤسسات الدولة الديمقراطية، على حين أن الثورة الشعبية والثورة المضادة المباركية نجحتا معا فى الإطاحة بمشروع الدولة الدينية، مشروع الجمهورية الإسلامية فى مصر. أىْ أنه تم القضاء (الذى لم يكتمل بعد) بالقطاع الإسلامى من الثورة المضادة.
28: وهناك مَنْ لا يمكنهم أن يتصوروا أن الطبقة الرأسمالية الكبيرة التابعة الحاكمة فى مصر وفى العالم، وحتى فى الرأسماليات الإمپريالية المتقدمة، حافلة بالتناقضات وحتى التناحرات فى سياق تطورات وأزمات كبرى. ويتصورون بالتالى أن هذه الطبقة تُشكل وحدة جرانيتية راسخة وأن طبقة مبارك والإخوان المسلمين طبقة واحدة وأن التحالف متين راسخ بينهما، وبالتالى بين الإخوان المسلمين والحكم العسكرى، بقيادة طنطاوى، والحكم الجديد الانتقالى بعد مرسى بقيادة السيسى، والحكم القادم بقيادة السيسى أيضا (على أرجح الأرجح إنْ لم تتدخل المقادير)، كما يتصورون أن الخلافات بين الفرقاء جزئية ومصطنعة بصورة قد تصل إلى حد توزيع الأدوار. وهؤلاء، ومنهم بالأخص ماركسيون يتبنون مادية ميكانيكية بائسة بعيدا عن المادية التاريخية، يتجاهلون، وبالأحرى يجهلون، التناقضات التى يمكن أن تصل إلى حد التناقضات الحربية، والحرب، داخل الطبقة الرأسمالية القومية أو بين الطبقات الرأسمالية الحاكمة عبر الحدود. وكان مشروع الأخونة يعنى فى نهاية المطاف خلق جيش بقيادة إخوانية واقتصاد إخوانى، ليحلّ عسكريون إخوان محلّ العسكريِّين الحاليِّين، وليحلّ رأسماليون إخوان محلّ الرأسماليِّين الحاليِّين، بعد تصفية العسكريِّين الحاليِّين، والرأسماليِّين الحاليِّين، والتخلُّص منهم بوسائل الاعتقالات، والاغتيالات، والإعدامات. وهنا يتضح بجلاء حجم التناقض والعداء بين هذين القطاعين المنقسمين على أسس أيديولوچية، الأيديولوچيا القومية المصرية الپراجماتية والأيديولوچيا السياسية الدينية الإسلامية، بحيث ينبغى النظر إلى مختلف أشكال المهادنة والتعاون والتواطؤ والتحالف بين القطاعين فى فترات أو مواقف بعينها على أنها فى المحل الأول استثناءات على القاعدة المتمثلة فى الصراع. وهذا ما يُثبته جدل التحالف والصراع بين الجيش والدولة من ناحية والإخوان المسلمين وحلفائهم من ناحية أخرى، منذ ثورة يناير إلى الآن.
29: وباختصار فإن الحصار المفروض على مصر من الداخل الإخوانى الإسلامى والخارج الإمپريالى الصهيونى خطير للغاية ويهدد مستقبل الشعب المصرى. والحقيقة أن الدولة بكل هذا القدر من تخاذلها أمام التنظيم الإخوانى العالمى وأمريكا والغرب، وبالتالى عدم الحسم الكامل من جانب مؤسسات الدولة من جيش وغيره مع الخطر الإخوانى، يمكن أن تفتح الباب على مصراعيه لعودة الإخوان إلى الحكم أو تحوُّلهم إلى منظمة سرية إرهابية يمكن أن تغدو رقما بالغ الصعوبة فى السياسة المصرية فى المستقبل. كما يمكن أن يؤدى عجز الدولة عن السير خطوة واحدة إلى الأمام بسبب عرقلة إرهاب الإخوان المسلمين، إلى جانب أمراضها الأصلية إلى موجات غضب شعبية يركبها الإخوان وأمريكا وإسرائيل من جديد. ويتحالف مع كل هذا جشع الدولة الطبقية الذى يؤدى إلى عجز خيالها عن إدراك أن ما يمكن أن ينقذها وينقذ الشعب من حرب أهلية لا تبقى ولا تذر إنما يتمثل فى عدم الاقتصار على الحل الأمنى وضروة الرضوخ أمام مطالب الشعب من حريات وحقوق ومستويات معيشة لائقة. وتتحالف مع كل هذا قوى سياسية وشبابية غير مستعدة لمقاومة المخططات الإخوانية الأمريكية ولا تكفّ عن ترتيل تعويذة رفض العسكر وحكم العسكر والديكتاتورية العسكرية والجيش والشرطة والقضاء والإعلام. ومن المؤسف أن يشارك اليسار الماركسى الذى تثقف بنظرية المادية التاريخية عن الدولة فى هذا الالتفات إلى خطر الدولة وعدم الانتباه إلى خطر الحرب الأهلية والدولة الدينية التى لن تكون سوى ديكتاتورية عسكرية تدور فى الفلك الأمريكى، رغم إدراكهم الواضح لحقيقة أن لمقاومة الديكتاتورية الطبقية للرأسمالية وسائل وأساليب وممارسات تختلف كليا عن مقاومة خطر أيديولوچيا سياسية دينية "پاثولوچية" ينبغى القضاء عليها فى الحال، دون إبطاء، "هنا والآن". وهنا يكثر بوضوح دور النفاق والمزايدة وكسب شعبية رخيصة من خلال خطاب شعبوى واستعراض لخفة الدم بالسخرية على صفحات وسائل التواصل الاجتماعى من مؤسسات الدولة الرأسمالية المصرية التابعة والمباركية بلا جدال والتى يمثلها الجيش و السيسى وغيرهما بلا جدال.
27 مارس 2014



#خليل_كلفت (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المرأة بين النص الديني والقانون المدني الحديث، قانون الأحوال ...
- إرهاب الإخوان المسلمين والحل الأمنى
- مغزى المشاركة الشعبية فى الاستفتاء
- فى سبيل تفادى حرب أهلية إخوانية مدمرة
- الأصولية (فصل من كتاب) بقلم: الپروفيسور أندرو فينسينت ترجمة: ...
- الاستفتاء .. مشاركة بنعم أو لا أم مقاطعة؟
- السياسة العربية للحكم الجديد فى مصر
- تعريف موجز بموضوع رواية -الشمندورة-
- خليل كلفت - مفكر وكاتب ماركسي مصري - في حوار مفتوح مع القارئ ...
- الانقلاب على الشرعية بين الشكل والمحتوى
- لكيلا يدمِّر الحكم الجديد مستقبل مصر
- ثورة تائهة وثوار تائهون!
- ثيوقراطية أم إستراتوقراطية أم ديمقراطية أم بزرميطية؟
- الهوية/ الهويات وكتابة التاريخ
- أسطورة الدستور أولا
- الصحف الپاريسية
- مصير الثورة يرتبط بمسارها الفعلى
- لا شيء على الإطلاق
- عرض موجز لكتاب: النظام القديم والثورة الفرنسية
- حديث عن الأوضاع قبل إسقاط مرسى


المزيد.....




- روسيا توقع مع نيكاراغوا على إعلان حول التصدي للعقوبات غير ال ...
- وزير الزراعة اللبناني: أضرار الزراعة في الجنوب كبيرة ولكن أض ...
- الفيضانات تتسبب بدمار كبير في منطقة كورغان الروسية
- -ذعر- أممي بعد تقارير عن مقابر جماعية في مستشفيين بغزة
- -عندما تخسر كرامتك كيف يمكنك العيش؟-... سوريون في لبنان تضيق ...
- قمة الهلال-العين.. هل ينجح النادي السعودي في تعويض هزيمة الذ ...
- تحركات في مصر بعد زيادة السكان بشكل غير مسبوق خلال 70 يوما
- أردوغان: نتنياهو -هتلر العصر- وشركاؤه في الجريمة وحلفاء إسرا ...
- شويغو: قواتنا تمسك زمام المبادرة على كل المحاور وخسائر العدو ...
- وزير الخارجية الأوكراني يؤكد توقف الخدمات القنصلية بالخارج ل ...


المزيد.....

- كراسات التحالف الشعبي الاشتراكي (11) التعليم بين مطرقة التسل ... / حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
- ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان / سيد صديق
- تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذ ... / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- المثقف العضوي و الثورة / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- الناصرية فى الثورة المضادة / عادل العمري
- العوامل المباشرة لهزيمة مصر في 1967 / عادل العمري
- المراكز التجارية، الثقافة الاستهلاكية وإعادة صياغة الفضاء ال ... / منى أباظة
- لماذا لم تسقط بعد؟ مراجعة لدروس الثورة السودانية / مزن النّيل
- عن أصول الوضع الراهن وآفاق الحراك الثوري في مصر / مجموعة النداء بالتغيير
- قرار رفع أسعار الكهرباء في مصر ( 2 ) ابحث عن الديون وشروط ال ... / إلهامي الميرغني


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - خليل كلفت - الاقتصار على الحل الأمنى مصيره الفشل