أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الثورات والانتفاضات الجماهيرية - محمد الحمّار - قطار تونس يسير على جانب واحد من السكة















المزيد.....

قطار تونس يسير على جانب واحد من السكة


محمد الحمّار

الحوار المتمدن-العدد: 4406 - 2014 / 3 / 27 - 03:22
المحور: الثورات والانتفاضات الجماهيرية
    


تيقنت منذ مدة أنّ الحراك الفكري والسياسي ما بعد الثوري في تونس ينقسم إلى سجلين اثنين. وهذا قد يكون أمرا عاديا لو اشترك كل الفاعلين في السجلين أو اتفقت النخب على تقاسم المهام حيث تُوكل مهمة الخوض في كلا السجلين إلى فئة معينة قبل أن يتمّ التلاقح والتبادل المثمر للأفكار ومن ثمة تأليف القرارات التي تهم الخروج من الأزمة العامة وتعبيد الطريق إلى المستقبل. فما ماهية السجلين الاثنين؟ وما هو توصيف الانقسام النخبوي؟ وكيف يكون تقاسم المهام مستقبلا؟

أبدأ بافتراض أنّ هنالك ما أسميه "المشروع الحياتي" (المشروع العلمي والاجتماعي والحضاري) من جهة وما أسميه "المشروع المنهجي" من جهة ثانية. وهو ترتيب أثمرَته بحوثي وكذلك الآليات المعرفية التي استُخدِمت لإنجاز هذه البحوث (وليس هذا الحيز كافٍ للتوسع في شرح المنهج). ثم إزاء هذه الفرضية أعاين أنّ جمهور النخب من مفكرين ومثقفين وسياسيين وإعلاميين وسائر المهتمين بالشأن العام يخوضون بصفة تكاد كلية في ثنايا المشروع الأول آملين إيجاد مخارج تنفيذية/مادية للأزمة وأنه قلّ وندر أن نجد من يعير أية أهمية تذكر للمشروع الآخر، مشروع التخطيط لمقاربة بيداغوجية تمهّد للمقاربة التنفيذية. لكأن قطار تونس يسير على جانب واحد من السكة الحديدية.

كما أعاين أنّ غالبية الناس الذين يشاركون في الحراك الفكري و في النقاش العمومي يتحدثون فعلا عن حزمة من المسائل والحاجيات والاستحقاقات على غرار الديمقراطية وحرية الإعلام واستقلالية القضاء وإصلاح التعليم وتسوية الوضع الاقتصادي وتوضيب الحالة الأمنية وغيرها من الاهتمامات. لكن الملفت أنّ التعاطي مع هذه القضايا يتمّ في اتجاه واحد. أقصد أنّ كل ما يحصل من قول و نقاش وحوار وتبادل للرأي إنما يحصل من دون حدّ أدنى من الوعي بضرورة البعد الآخر، بُعد المشروع المنهجي.

إعلاميا، تتجسد نفس المعاينة في مشهدٍ يؤول إلى أنّ كل ما نسمعه على المذياع ونشاهده على التلفاز من مادة إخبارية أو تحليلية أو استقصائية أو استشرافية أو استقرائية أو غيرها والتي تتعاطى مع الأوضاع في البلاد لا علاقة له بالمشروع الآخر، لا من قريب ولا حتى من بعيد. بل الذي يزيد الطين بلّة ويثبّت المغالطة الذاتية إزاء الحاجة البيداغوجية هو أنّ تلك المادة مغمورة بالانطباع الذي تعطيه عن تمتعِ منتجيها _المزعوم_ بما يعرف الآن بـ"أكبر مكسب للثورة هو حرية الإعلام".

هذا مما يحكم على تلكم الأنشطة العقلية الاجتهادية بالانحراف. وهو انحراف لا أعتقد أن يوجد له مثيل في عالم السياسة في العالم غير العربي. فقط يمكن الغوص في عالَم اللغة للوقوف على السرّ بشأنه: في قانون اللغة لا ينبغي _ حسب تجربة شخصية قائمة على التخصص العلمي ونابعة من التجربة المهنية_ أن يكون منسوب الكلام المنطوق به متفوقا بصفة مذهلة على منسوب الفعل المترجم عن الكلام، وإلا سيتصف أداء المتكلم بالحشو أو بالهراء أو بالهذيان إن لم نقل بالفُصام و بالعُصاب و بالهُذاء.

إذن حين نتمعن في ما يقال وكيف يقال وعمّ سيسفر عنه ما يقال سنتبيّن أنّ الأداء الكلامي للنخب المتناقشة والمتحاورة والمتناظرة إنما هو أداء من "يتكلم لكي لا يقول شيئا" كما جاء في المثل الفرنسي أو من ينتج "كثيرا من الكلِم بشأن لاشيء" كما أتت به المقولة الشكسبيرية. وحتى لا أكون مجانبا لأصول التقييم والتشخيص والتفكير المحسوبة على ثقافتنا الدينية، أقول إنّ نخبنا أضحت_ولو عن غير قصد_ ممن "يَقُولُون مَا لاَ يَفعَلُون" (القرآن الكريم- سورة الشعراء: 226). أما بلغة حداثة التخلف العربي قد يجوز القول إنهم ممن لا يخططون لِما سيفعلون.

هذا الجنوح عن النهج الصحيح ربما يعود إلى الاستثنائية التي اتصفت بها أحداث 17 ديسمبر-14 جانفي، حيث يلاحَظ أنّ حادث الجنوح لم يكن ليجدَّ ثم لتبرز مضاعفاته جليا لو لم يحصل ذلك التغيير التاريخي، أي لو لم يفجّر هذا الأخير الوضعَ العام بكل أساساته مُوَلدا مئات من المشكلات الاستثنائية فكانت ردة الفعل الفكرية والسياسية على الاستثناء "المشكلاتي" هي نفسها استثناءًا، لكنها كانت استثناءا رديئا وسالبا. في ضوء هذا، لا ينبغي أن يبقى المجتمع مقيّدَ العقل إزاء هذه الاستثناءات، ولا ينبغي بأي حال من الأحوال أن يجد لنفسه مبررا للمعضلة المنهجية.

نستنتج من جملة هذه الأوجه أنّ الغلوّ في سجلّ "ماذا نفعل الآن؟" من ناحية، مع غياب العناية بسجل "كيف نفهم المشكلة؟" و"ما الذي عسى أن نقوله فنفعله؟" من ناحية مقابلة، هو المتسبب في مجانبة القرارات الناجمة عن النقاشات والندوات والمقالات والمناظرات، مجانبتها للواقع من جهة ولانتظارات الشعب من جهة ثانية.

ومنطقيا، بما أنّ الأفعال الجدية والمُجدية تستند دوما إلى قرارات صائبة فإن الافتقار إلى البرامج التنفيذية (الأفعال) التي من شأنها أن تسهّل الخروج من الأزمة العامة في مختلف مجالات الحياة (المشروع الحياتي) ينمّ _ ولو بصفة غير مباشرة_ عن ضعف فادح قد خان ثقافة النخبة في مجال التكوين المنهجي، لا سيما أمام أزمة راهنة تحمل يافطة الاستثناء التاريخي. فهل من سبيل إلى تجسيد ما يلي: "فهمٌ مُمَنهج، فقرارٌ وسطي، فبرنامجٌ قابل للتنفيذ"؟

للإجابة، قد يصح أولا التشديد على أنّ المشروع الحياتي الذي يفترض أن يشتمل على مشاريع للتنمية الاقتصادية وللرفاهة الاجتماعية ولإصلاح منظومات التعليم والقضاء والأمن والاقتصاد وغيرها إنما هو مشروع معطل، وأنه لا غرابة في كونه معطل طالما أنّ المشروع المنهجي شبه غائب عن الوعي. بل إنّ مسألة صياغة المقاربة التي من المفترض أن تبرر أيّ حديث عن مشروع منهجي لا تزال نائية جدا عن الوعي.

ثانيا، يتوجب التنويه بأنّ الفشل المنهجي لم يكن كافيا للضغط على الفاعلين في مجالي الفكر والسياسة بل وعلى المجتمع بأسره حتى يثوبوا إلى رشدهم، حيث يلاحَظ على العكس من ذلك أنّ عدم تلبية الحاجة البيداغوجية وتأبيد التصحر في هذا المجال عقّد الأزمة العامة وجعل المجتمع يلجأ إلى التشكيك في البديهيات والأبجديات. وعلى رأس قائمة المسائل التي صار مشكوكا فيها بالرغم من البداهة المبدئية التي تستبطنها هي مسالة العلاقة بين الإسلام والسياسة.

كيف لا وقد أصبح المجتمع بمقتضى الفقر المنهجي مقسما إلى إسلاميين وعلمانيين وصار هؤلاء يتشدقون بشعار "الدين مسألة شخصية" ليتهموهم خصومهم الإسلاميون بأنهم أعداء الدين، والإسلاميون ينافقون أنفسهم برفع شعار "الدولة المدنية" قبل أن يتهمهم منافسوهم بازدواجية الخطاب. وذلك عوضا عن تفرغ الجميع للبدء في تنفيذ مشروع الرقي والتقدم؟ بالمحصلة، نحن أمام مشكلة مفتعلة لكنها أصبحت موجودة حقا بمفعول قانون الاستثناء الثوري ومجرد وقوعها تحت طائلة هذا القانون يجعل إمكانية حلحلتها استثنائية _إيجابيا_ أو لا تكون.

ثالثا، ليتَ هذه التداعيات تعني فقط أنّ المقاربة التنفيذية رهنٌ بتأسيس المقاربة المنهجية وأنها ليست بديلا عنها (مثلما سجلناه من خلال مختلف أوجه الحراك الفكري والسياسي ومن خلال العقم الذي يسم هذا الحراك). ليت حالة الانحراف المنهجي والفكري تتوقف عند هذا الحد. بل الأدهى والأمَرّ أنّ مضاعفاتٍ مثل الخبط في مسألة السيطرة على العلاقة دين/سياسة وتفرعاتها من اغتيال سياسي وإرهاب وأزمة اقتصادية ونزوح فضيع إلى العاصمة وضائقة مالية وغيرها قد زادت المشروع المنهجي تعطلا لأنه مازال في طور الرضيع الذي لم يقم بعدُ بخطواته الأولى على الطريق إلى الوعي.

بالنهاية، لا يمكن أن تؤسس نخبنا المشروع العلمي والاجتماعي والحضاري (المشروع الحياتي) من دون تأسيس خطة منهجية لتوحيد الفكر، أعني مشروعا منهجيا يهيأ أسباب تشكل المشروع الحياتي. وإلا من أين ستأتي المكونات الضامنة لتشكّل هذا الأخير مثل التعددية واحترام حق الاختلاف والمواقف من القضايا الحارقة وغيرها من الحاجيات، حين يبقى كل طرف متشبثا بقراءته هو للحياة دون غيرها من القراءات؟



#محمد_الحمّار (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تونس: الميزانية الاشتراكية البديلة في ميزان الشخصية الوطنية
- أليس من الحتمي أن تكون لتونس روابط ثورجية؟
- هل الإسلام السياسي مؤهل للتكيف مع العصر؟
- الإسلام والديمقراطية في مفترق الطرقات
- النموذج التونسي و التضييق على حرية التعبير والصحافة
- تونس: الفصل 38 أم الزنزانة رقم 38؟
- التديّن بالإسلام بين الحقيقة والأوهام
- ما قيمة نموذج تركي أمام قرآن عربي؟
- هل يجيب القرآن عن سؤال -لماذا اللغة هامة؟-
- النمذجة كوسيلة ابستمولوجية لإدارة الأزمة في تونس
- حتى يكون مهدي تونس منتظرا
- في انتظار عثور تونس على حكومة
- مخطط لإنقاذ تونس
- 7 توصياتٍ بشأن الحركة الإسلامية
- تونس: المآسي وراء الحوار الوطني الأساسي
- تونس بين تشبيب الشيوخ وشيخوخة الشباب
- تونس: الجري مثل الوحوش وحكومة الريتوش
- تونس: الكُتّاب الفاسدون وعودة الرجعية
- تونس بين الإرهاب والفهم المتجدد للإسلام
- تونس: اغتيال الأمنيين واغتيال العقل


المزيد.....




- الشرطة الأرمينية تطرد المتظاهرين وسياراتهم من الطريق بعد حصا ...
- بيان مركز حقوق الأنسان في أمريكا الشمالية بشأن تدهور حقوق ال ...
- الهجمة الإسرائيلية المؤجلة على إيران
- بلاغ صحفي حول اجتماع المكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية ...
- أصولها عربية.. من هي رئيسة جامعة كولومبيا بنيويورك التي وشت ...
- مصدر التهديد بحرب شاملة: سياسة إسرائيل الإجرامية وإفلاتها من ...
- الشرطة الفرنسية تستدعي نائبة يسارية على خلفية تحقيق بشأن -تم ...
- السيناتور ساندرز يحاول حجب مليارات عن إسرائيل بعد لقائه بايد ...
- إعادة افتتاح متحف كانط في الذكرى الـ300 لميلاد الفيلسوف في ك ...
- محكمة بجاية (الجزائر): النيابة العامة تطالب بخمسة عشر شهرا ح ...


المزيد.....

- ورقة سياسية حول تطورات الوضع السياسي / الحزب الشيوعي السوداني
- كتاب تجربة ثورة ديسمبر ودروسها / تاج السر عثمان
- غاندي عرّاب الثورة السلمية وملهمها: (اللاعنف) ضد العنف منهجا ... / علي أسعد وطفة
- يناير المصري.. والأفق ما بعد الحداثي / محمد دوير
- احتجاجات تشرين 2019 في العراق من منظور المشاركين فيها / فارس كمال نظمي و مازن حاتم
- أكتوبر 1917: مفارقة انتصار -البلشفية القديمة- / دلير زنكنة
- ماهية الوضع الثورى وسماته السياسية - مقالات نظرية -لينين ، ت ... / سعيد العليمى
- عفرين تقاوم عفرين تنتصر - ملفّ طريق الثورة / حزب الكادحين
- الأنماط الخمسة من الثوريين - دراسة سيكولوجية ا. شتينبرج / سعيد العليمى
- جريدة طريق الثورة، العدد 46، أفريل-ماي 2018 / حزب الكادحين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الثورات والانتفاضات الجماهيرية - محمد الحمّار - قطار تونس يسير على جانب واحد من السكة