أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد أيوب - الكوابيس تاتي في حزيران















المزيد.....


الكوابيس تاتي في حزيران


محمد أيوب

الحوار المتمدن-العدد: 1251 - 2005 / 7 / 7 - 09:08
المحور: الادب والفن
    


الكوابيس تأتي في حزيران
رواية
بقلم : د . محمد أيوب
الفصل الأول
ـ 1 ـ

المواصي ...............
ذلك المكان الذي يشكل حاجزاً من النخيل والخضرة بين صحراء الماء ورمال الصحراء، يفصل بين البحر بسحره وأسطوريته ، وبين تلك التلال الرملية التي تحتضن المدينة، وتداعبها برمالها بين الحين والآخر، تستلقي تلك التلال الرملية هادئة وادعة، يلفها سكون غامض، وكأنها تخبئ سراً ما، تصمت.. كأنها لا تريد البوح به. والبحر يرسل وشوشاته ساحرةً خلابة.. تتسلل على جناح النسيم، فتزرع النعاس في عيونٍ يفر منها النوم، ولطالما كانت المواصي ملاذ أولئك الذين يبتغون الهدوء، أو الفرار من هم الحياة اليومي بحثاً عن لحظة نسيان، يبيتون الليالي الصيفية الجميلة متحررين من جدران البيوت وحرها، مطلقين العنان لأفكارهم ؛ لتمتزج بوشوشات البحر، وزرقة مائه التي تتصل بزرقة السماء في نقطةٍ ما عند الأفق؛ يتصل ما هو سماوي بما هو أرضي ؛ ليمتزج الحلم بالواقع امتزاجاً يجعل للحياة طعماً آخر.
كانت المواصي عيناً خضراء ترنو دائماً إلى السماء ، كانت سلة طعام سكان المدينة، خصوصاً بعد انقضاء فصل الشتاء، تأتي طيور السمان متعبةً مجهدةً فتستقبلها شباك الصيادين؛ لتجد طريقها في اليوم التالي إلي الأسواق داخل أقفاصٍ خاصة. كانت طيور السمّن " الفر " حلماً صيفياً لذيذاً، يمتزج دائماً بالملوخية الخضراء، مكوناً وجبةً شهيةً ينتظرها الإنسان كل صيف. و أشجار النخيل تكاد تعانق السماء مكونة لوحة جميلة تمتزج فيها ألوان بلح عيوشة ، بالبلح الحياني ، تمتد جذور النخيل في الأرض ، فلا تجد كثير عناء في الحصول على بغيتها من الماء ، أما الخضار فحدث ولا حرج، فالماء يقبع على بعد سنتيمترات، يتفجر عيوناً أو آباراً ارتوازية تمنح الحياة والخضرة للمكان، ينعق غراب من الشرق ، و يتكاثر البوم والغربان ، فيندفع الناس غرباً تاركين منازلهم ، ليتحول هدوء المواصي إلى حركة مفعمة بالصمت، كان صمتاً ممزوجاً برهبة مرعبة ، حتى وشوشات البحر ، اكتسبت لحناً غريباً ، لم تعد تلك الوشوشة الحنون ، أصبحت كأنها تود هي الأخرى أن تفر من شيء يلاحقها ، يقمع رغبة الحياة فيها ، الناس يتماوجون هنا وهناك والشائعات تلاحقهم كوابيس مزعجة .. يفرون إلى الجنوب ، فتعترضهم الإشاعة .. إنهم يذبحون كل من يقابلونه .. ترتد الموجات البشرية إلى الشمال.. تعترضها إشاعة أخرى، أنشبت الإشاعات مخالبها في عقول الناس ونفوسهم، الطوفان البشري المرعوب يعيش حالة من الارتباك لا عهد لهم بها ، تلاحق الكبار منهم صورة ما جرى حين جاءت الغربان من الشرق و الغرب ، و حين قذف البحر من أحشائه رجالاً شكلهم غريب ، عيونهم زرقاء ، كأنها استلبت زرقتها من السماء الصافية ، كان الناس يحلمون و يحلمون .. سنلاحق الغربان من جميع الجهات ، سنشرق و نشمل ، سنفعل و نفعل ، و تمتلئ السماء بالغربان و البوم ، لتقذف بهم بيوتهم إلى المواصي ، حيث لا طعام سوى الماء و الخضار ، كان الموسم موسم الخيار ، ولا بد من عمل شيء أي شيء ؛ فكر البعض بالتسلل إلى المعسكر المجاور لجلب الأطعمة ، و فكر آخرون بالهرب جنوباً إلى مصر ، و لكن الصحراء و العطش ، سيناء يا سيناء ، يا ذلك المجهول الذي يفغر فاه غولاً يأكل كل من يضعف من البشر ، و الإذاعة تنعق ، أصبحت غراباً يشيع أنفاس الهزيمة في الجو ، حطت الغربان رحالها على ضفاف قناة السويس ، يا إلهي هكذا يتحطم الحلم ، كأساً من الزجاج كان ، سقط من يد طفل يلهو به ليتناثر أشلاء زجاجية هنا وهناك .
تحسس بندقيته محاذراً أن يخدشها ، لم تتكلمي كلمة واحدة ، هل هذا هو ما كنا نحلم به ، أن يخرس سلاحنا ، و أن تتكلم إذاعاتنا .. طائراتهم تتساقط كالذباب يا أخي ، هنيئاً لك يا سمك البحر .. ادبح ادبح تربح .. ميراج راحت واختفت والميج فاقت واعتلت، وها نحن نتوه في مواصي خان يونس، نعيش عصر التيه العربي ، لم يعد الأطفال يستطيعون الصمود أكثر ، بدأت علامات سوء التغذية تظهر عليهم ، ولا بد من فعل شيء، لابد من إحضار الطعام ، ولو من أجل الأطفال . صاح :
ـ من يمكنه الذهاب معي لإحضار بعض الأطعمة من المعسكر المجاور؟
ساد صمت غريب ، توقفت الأنفاس أو كادت ، الخوف يطل من العيون ، يعكسه ضوء الشمس التي أخذت تميل نحو الغرب . كرر نداءه مرة أخرى ، تحرك أحد أقاربه . قال باقتضاب : أنا .
نظر إليه : أنت .. لم يتحرك أحد إلاك .. غامت الأفكار في رأسه .. صاح :
ـ لن تذهب معي .
أصر على الذهاب قائلاً : قلت سأذهب يعني سأذهب .. لن أتركك وحدك .
وأمام إصراره لم يجد مفراً من القبول و أخذا يتنقلان بين أشجار الجوافة و النخيل ، حتى أسلما نفسيهما إلى التلال الرملية، تسارعت خطواتهما حتى وصلا إلى حدود المعسكر الغربي ، استلقيا فوق الرمال وأخذا يراقبان حركة مجموعة من الدبابات تسير على الشارع الرئيسي وسط المعسكر .
قال لرفيقه : سأنحدر زاحفاً إلى أسفل التل ، و بعد أن أصل إلى أول جدار اهبط خلفي .
ثم زحف بحذر حتى وصل إلى أسفل التل ، اندفع إلى أقرب جدار، تبعه قريبه ، تقدما ببطء ، و قد أخذ الظلام يهبط على المكان عثرت قدماه بجثة ملقاة على الأرض ، شعر بقشعريرة باردة تسري في جسده ، ترى من هو ؟ و كيف مات ؟ هل أصيب برصاصة ، أم أن شظية من دانة مورتر أصابته فقتلته ، تذكر لحظة خروجه من منزله ، كانت طلقات المورتر تلاحقه ، كان الرامي يقذف بها على شكل مشية الغراب مرة إلى اليمين ومرة إلى اليسار، وهي تنعف الموت شظايا في الشوارع تخترق البشر و تمنع الأنفاس من التردد . كان يجري بضع خطوات ثم ينبطح أرضاً ليتفادى طلقات المورتر ، حتى استطاع أن يخرج من المعسكر ليحتمي بالمواصي خوفاً من مجزرة جماعية كالتي نفذت في الغزو السابق ، وها هو يعود إلى المعسكر؛ الجثث ملقاة في الشوارع، و الحيوانات و الطيور تلهو بها، تأكل بعضاً مما تناثر منها هنا و هناك . شعر بالقرف ، الناس يموتون و نحن نبحث عن الطعام ، و لكنهم الأطفال يعانون و يعانون ، و لابد من إسكاتهم فقد يرشد صوت صراخهم الأعداء إلى مكان وجود الناس .
أخرج موس الكباس، أمسك بطةً تهيم على وجهها بين الجثث، سحب حافة الموس الحادة على رقبتها، ظل ممسكاً بها حتى لا تهرب في أزقة المخيم، ولما تأكد أنها فقدت دماءها وفارقت الحياة ، أمسك بطةً أخرى ، وهكذا، مال إلى أحد المنازل المجاورة، وجد الباب مفتوحاً، وعجوز تجلس قرب الباب:
ـ الله يمسيك بالخير يمة.
ـ الله يمسيك بالخير يا ولدي .
طلب من العجوز بعض الدقيق، وبعض الشاي والسكر، أرشدته العجوز إلى المطبخ:
ـ خذ ما تشاء يا ولدي.
حمل حوالي نصف كيس من الدقيق، وأخذ بعض الشاي والسكر، وضع البطات المذبوحة في كيس فارغ، قرر العودة من حيث أتى .. إلى المواصي.
أخذا يصعدان التلال ويهبطان، اقتربا من المواصي، فوجئا بأن صمت المنطقة قد تحول إلى عويل، ترى ما الذي جرى؟ ولماذا يبكي الناس ؟ هل داهم الجنود المكان ؟ وهل قتلوا الشباب كما فعلوا عام ستة وخمسين وتسعمائة وألف ؟ سأل أول إنسانٍ صادفه:
ـ ماذا جرى ؟ لماذا يبكي الناس ؟
أجابه الرجل: استقال جمال عبد الناصر.
كاد يتمزق من الغيظ .. استقال عبد الناصر ؟ يريد أن يتهرب من تحمل مسئولية الهزيمة؟ يكون الشعب مجنوناً إذا قبل ذلك ببساطة .. لا بد وأن يتحمل مسئوليته كاملة، وأن يصلح ما أفسده.
ترددت أنفاسه بصوتٍ مرتفع ؛ حتى أصبحت لهاثاً مسموعاً، كان يعاني من شعورٍ غريب، أبلهاً كان ، استقال عبد الناصر ؟ أصبحت الهزيمة مؤكدة إذن .. تبخرت الأحلام .. بل تسامت.. كم بنينا من قصورٍ في أوهامنا ؟ آه يا شوقي.. أين قصورنا من قصورك ؟ آه أيها الثرى الطاهر .. كم فرطنا في حقك ؟ أن نبني من حصاك أربعنا، ثم نعود فنهدمها خيرٌ لنا ألف مرة من أن يهدمها غيرنا .. من أن يسرق حلمنا العزيز .. كم حلمنا ؟ ولكن كابوساً ثقيلاً أفسد لذة الحلم .. عبد الناصر يستقيل ويتحمل مسئولية الهزيمة كاملةً .. الجماهير تتدفق إلى شوارع القاهرة .. التاسع من يونيو .. الجثث ملقاة في الشوارع لا تجد من يواريها التراب .. قول الدبابات الذي يجوب الشارع الرئيسي .. المقاومة الشعبية .. الدفاع المدني .. الحلم .. الكابوس .. اليقظة .. البطات المذبوحات .. الشعب المذبوح .. الحلم المذبوح ....
هبت نسمة باردة، سرت قشعريرة في جسده .. هكذا ؟ بكل بساطة نتجرع كأس الهزيمة حتى الثمالة؟ يا إلهي كأنك لا تريد أن تنصفنا .. أحدٌ جديدة تطل علينا بعيونٍ شامتة ..رائحة اللحم الناضج تملأ المكان ، تفتح الشهية .. لكن نفسه مصدودة .. كان منظر الجثث الملقاة في الشوارع ـ والبط يأكل منها ـ لا يفارقه .. تلح تلك الصورة على مخيلته .. يشعر بالغثيان .. كان يمكن أن أكون واحداً من هذه الجثث الملقاة على الأرض في عفوية غريبةٍ .. رائحةٌ نتنة تزكم أنفاسه .. رغبة في القيء تلاحقه .. ومسرحية موتى بلا قبور تدق طبلتي أذنيه .. كأنهم كانوا يعرفون النتيجة سلفاً .. كانوا يحاولون الإيحاء لنا أننا سنكون موتى بلا قبور*، وها هي جثثنا ملقاة في الشوارع لا تجد من يواريها التراب .. ما أمر طعم الهزيمة .. وما أصعب أن تموت بلا ثمن .. بلا هدفٍ تحققه .. كيف ؟ ولماذا ؟ وهذه الجهود كيف ضاعت ؟ المقاومة الشعبية .. الدفاع المدني ؟ وهذه الرسالة الغريبة من وزارة الحربية تطلب منهم أن يعدوا أنفسهم للمقاومة السرية .. الآن فقط ، أدرك فداحة الأمر .. كانوا يتوقعون الهزيمة إذن ؟ ويريدون منا أن نعد للمقاومة السرية داخل القطاع .. كانت حجتهم أن القطاع ساقطٌ عسكرياً .. وهاهي سيناء تسقط ، وهاهم ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*مسرحية قدمتها الإذاعة الإسرائيلية قبل حرب حزيران بأيام قليلة.
يحطون رحالهم على الضفة الشرقية لقناة السويس .. ترى ، هل كان عبد الناصر يحلم بذلك .. نحن مستعدون لمواجهة إسرائيل ومن هم وراء إسرائيل .. طائراتهم تتساقط كالذباب يا أخي .. الباخرة ليبرتي .. الهزيمة .. الطيران المصري يقصف المواقع الإسرائيلية .. الله أكبر .. الله أكبر .. عرق غزير يتصبب من جسده .. طلقات من المدفع المضاد للطيران الموجود غرب المعسكر تندفع في الجو شرقاً.. الطائرات المغيرة ليست طائراتنا إذن ؟ أين طائراتنا ؟ اليهود في وسط المدينة .. أحرقوا محطة الوقود .. اسكت أيها الغبي .. أنت طابور خامس .. هل نسقط بهذه السهولة .. نحن الذين كنا نعد العدة لدخول تل أبيب .. للاستمتاع بالشقراوات والبيضاوات .. آه يا حلمنا الذليل ..
ـ ألا تريد أن تتناول الطعام ؟
ـ ليست لدي رغبة .
نكس بندقيته .. حاول أن ينام .. فر النعاس من بين الجفنين .. نظر نحو خطيبته .. حزينةً كانت .. نظراتها منكسرة .. كانا يحلمان بقضاء شهر العسل في مصر .. وهاهما يتشردان في مواصي خان يونس .. أكبر قوة عسكريةٍ في الشرق الأوسط تنهار كانهيار أحلامه .. غير معقول .. إنه كابوس .. هل يعقل أننا نعيش الحقيقة أم أن خاطراً مجنوناً يسلبنا إرادتنا ؟
احتضن بندقيته .. كانت فوهتها تتجه إلى أسفل .. استلقى فوق الرمال .. كان البشر ينتشرون في كل مكان .. الجنود الهاربون من المعركة يختلطون بالمدنيين ، يلاحقهم رعب قاتل ، ذكريات الهزيمة السابقة تلاحقهم .. نحن شعب مهزوم من الداخل ، لا تترسخ في أذهاننا سوى الهزائم ، أما الأمل فلا جذور له ، ولا تربة صالحة لنموه .
الظلام يلف المكان ، والهدوء أيضاً .. أصوات حركة السيارات تمزق الهدوء من فترةٍ إلى أخرى .. صوت انفجارٍ هائل يتبعه صوت انهيارٍ واضحٍ .. لا يوجد في المنطقة سوى الكازينو الرئيسي على الشاطئ ، لقد هدموه إذن ، وبعد ذلك سيتجهون إلينا، ولكن لماذا يتجهون إلى أناسٍ مهزومين ؟ لماذا يحاصرون القط في الزاوية ، قد يتركوننا وشأننا ، لاشك أنهم يدركون أننا هنا ، وأننا نعيش الهزيمة بكل أبعادها .. ما جدوى البقاء هنا ؟ وما نتيجته ؟ وإلى متى نظل نحتمي بهذه المواصي المنخفضة عن سطح البحر؟ ثمار الخيار انتهت، حتى ثمار الجوافة الفجة أكلها الناس ، لم يتبق سوى الماء وصوت نقيق الضفادع .. محظوظةٌ هذه الضفادع .. لا تدرك أبعاد الهزيمة التي نحياها ، ونقول إنها نكسة .. تنق ذكور الضفادع داعية إناثها إلى التزاوج ، ونحن تزوجنا الهزيمة زواجاً كاثوليكيا ، تذكر النقيب رمزي .. ذلك الشاب المتحمس .. كان يحلم بالنصر المعجل .. ترى أين أنت الآن يا رمزي .. يا ذلك الرجل من قرية الشجرة .. يا شقيق القسام .. خسرنا أنفسنا يا رمزي .. لم تجدنا المقاومة الشعبية ولا الدفاع المدني .. لم يجدنا التدريب الشعبي ولا الخنادق التي حفرناها على عجل ، وفي فوضى غريبة .. سيارة عسكرية تضل طريقها إلى إسرائيل .. كان يوجد بها خمسة ضباط .. قبل الحرب بأيامٍ معدودات .. هل هي الصدفة ؟ أم أن الأمر كان مدبراً .. ما أقسى أن تدرك الحقيقة دفعة واحدة ، بلا مقدمات .. الهزيمة هي الحقيقة الواحدة والوحيدة في حياتنا .. ابذل العرق توفر الدم .. يا خسارة العرق والدم .. يا خسارة التدريب والتعب .. خسارة وألف خسارة .. كنت مقتنعاً بضرورة التدريب .. لم يبذل الأخوة جهداً كبيراً في إقناعه بالانخراط في دورة تدريب عسكرية في مصر لتأهيل مدربي الفتوة في المدارس الثانوية .. كانوا يفكرون في تلك اللحظة ، وكأن عقلهم الباطن كان يدرك أن الهزيمة قادمةٌ ولا ريب .
***
بعد أن تراجع عن تسجيل اسمه في دورة ضباط الاحتياط ، كان لا بد من بديل آخر ، التدريب الشعبي أو أي تدريب، وفعلاً انخرط في التدريب الشعبي ، كانت الفترة ثلاثة أسابيع .. لم تكن كافية لتلقي مبادئ العمل العسكري .. يتذكر ذات مرةٍ ، حين أمسك بيديه الكارل جوستاف وصوب .. سرح قليلاً ، وفجأة استرده من سرحانه صوت الضابط يصرخ بغيظ على الشاويش الذي لم ينتبه إلى سرحانه، كادت تقع كارثة لولا يقظة الضابط، نادى الشاويش بأعلى صوته :
ـ إلى الأمام تقدم.
ولكنه بقي في مكانه .. لم يتقدم .. انتهبته الأفكار ، وقبل أن يصدر الشاويش أمره بإطلاق النار، صرخ الضابط :
ـ ما تصحا يا شاويش يا نايم .. شوف الأستاذ بيعمل ايه .. أمسك الضابط به من كتفيه ودفعه إلى الأمام بمحاذاة زملائه ، سرح .. هذا الكارل جوستاف يطلق النار عند حدوث أية اهتزازة فيه.. نادى الشاويش:
ـ اضرب.
انطلقت صلية أصابت الهدف ، لم يشعر بالسعادة ، كان شعوره غامضاً ، هل هذه هي الأسلحة المناسبة ؟ وهل نتلقى التدريب المناسب ؟ الكارل جوستاف .. غريزة التوجيه .. التطهير .. لي أنفيلد .. تلتمية وتلاتة.. الميلز الروسي .. القذف .. الانبطاح الجري .. اجتياز الحواجز .. المطّخ .. الهدف .. كل هذا لا يكفي .. لا بد من تدريب آخر .. ابذل العرق توفر الدم .. هناك دورة لتخريج مدربي الفتوة .. لا بد من التسجيل لها .. قرر بسرعة ، لم يتردد ، لا بد وأن يصبح مدرباً للفتوة ، وحين تأتي اللحظة المناسبة يقوم بتدريب الشباب ، واللحظة قادمةٌ مهما طال الزمن .
***
تحرك القطار صوب الجنوب ، يقل مجموعة من المعلمين من مناطق القطاع المختلفة، كان الدخان يتصاعد من مدخنة القاطرة ثم يميل محاذياً سطح العربات ، وصوت القطار نغمٌ رتيبٌ يسبب النعاس ويزرع الرغبة في النوم ، كانت المرة الأولى التي يعبر فيها سيناء متجهاً إلى مصر، هذا البحر من الرمال ، ينافس البحر الحقيقي ، آه لو عمرها المصريون ، لو حولوا مياه النيل إليها ، لو قدموا الحوافز لخريجي الجامعات ، لأصبحت سيناء جنة ، ولأسكنوا فيها خمسة ملايين إنسان على الأقل .. هاهي العريش تربض نخيلاً على شاطئ البحر .. صوت القطار يأتي رتيباً مملاً .. ود لو يصل بسرعة ليبدأ العمل، لكن سيناء تتمطى وكأنها تصحو من سبات عميق .. الشمس تطل من الشرق ، والقطار يتجه من الشمال إلى الجنوب ، يميل إلى الغرب تدريجياً .. تختلط الاتجاهات .. يكاد لا يميز بين شرقٍ وغربٍ ، أو شمالٍ وجنوب ، صوت القطار يأتي مبحوحاً .. تشوك .. تشوك .. تشوك .. بحيرة البردويل على يمينك ، والتلال الرملية تتربص بها من اليسار، والقطار يفصل بينهما بفحيحه المستمر، والقضبان الحديدية تطوي الأرض باستمرار .. تنساب وسط الضجيج أنغام أغنية عبد الوهاب .. يا وابور قولي رايح على فين ..يذوب مع الأنغام .. يا وابور قولي .. يسرح .. حوّد مرة وبعدين دوغري .. يا وابور قولي .. تطلع وادي وتنزل كوبري .. يا وابور قولي .. هذه الرحلة يا وابور من أجل أن أصل مكاناً على مرمى حجر ، ولكن .. تفصله عني حواجز وسدود ، قل أيها الوابور كيف السبيل إلى ذلك دون هذه الرحلة .. كيف ؟
من القنطرة تطل قناة السويس عروساً تتمايل بدلال .. يحق لك التباهي ، فقد أصبحت حرةً ، بينما تقتلنا عبوديتنا كل يوم .. تراءت أمامه صحيفة الجمهورية المصرية .. صوت بائع الصحف .. الجمهورية .. الأهرام .. الأخبار .. آخر ساعة .. المصور .. طلبات التطوع التي كانت تنشرها الصحف المصرية للدفاع عن القناة .. طفلاً كان .. عبأ أكثر من طلب من طلبات التطوع .. اقتحمته الرجولة مبكرة.. كان يريد أن يقاتل دفاعاً عن قناة السويس ، فالمعارك متداخلة ، ترتبط فيما بينها بخيط أشبه بحبات المسبحة .. إنهم يخوضون معركة تدجين هذا الوطن .. فهل ينجحون ؟ صوت المذياع يتدفق .. دع مياهي فمياهي مغرقة ، واحذر الأرض فأرضي صاعقة .. هذه أرضي أنا ، وأبي ضحى هنا .. يا إلهي كم كانت رائعةً أيام المقاومة، تشعر بالفخر والاعتزاز .. تتدفق في عروقك دماء الحياة كريمةً سخيةً .. لا تخشى الموت لأنه طريقٌ إلى حياةٍ أكثر كرامة .. ينتهي رجال الجمارك من فحص الأمتعة والتصاريح.. يعبر القطار فوق القناة ، يتلوى فوق الكوبري ، بينما ترتعش القناة بلذة ، كأنهما دودتان تتسافدان ، تعبران حاجز الشبق .. هنا يلتحم الشرق بالغرب .. آسيا بأفريقيا .. العدل بالظلم .. السخرة بالكرامة .. هنا مركز الكرة الأرضية .. هنا قلب العالم .. شريانه التاجي .. آه يا عرابي .. نجح عبد الناصر حيث أخفقت .. طوابير المسخرين تتهالك فوق الرمال .. يقطف ديليسبس حياتهم نجاحاً وشهرة .. آه يا عبد الناصر .. باسم الأمة .. رئيس الجمهورية يعلن تأميم شركة قناة السويس شركة مساهمة مصرية .. تقوم القيامة ، ويعقد مؤتمر الدول الثماني عشرة .. يبدأ العدوان الثلاثي ، وتسقط غزة .. تشهد خان يونس مجزرة رهيبة .. يا إلهي .. لا أعادها الله تلك الأيام .
طلقات رصاص تستعيده إلى الواقع .. ها قد عادت الأيام .. كتبوا قبل أن يغادروا القطاع عام ستة وخمسين ـ على جدار المسجد الكبير ـ " سنرجع مرةً أخرى " .. وهاهم عادوا .. ها نحن نفترش الرمال ونلتحف السماء .. القطار يصدر صفير الاستعداد .. يغادر القنطرة .. الإسماعيلية تقترب .. يتجاوز القطار الإسماعيلية بحدائقها الجميلة وشوارعها النظيفة ، لتستلقي تحت عجلاته أراضٍ بورٍ منبسطة ، تترامى هنا وهناك، والطريق إلى القاهرة ما زال طويلاً ، بعض المواقع العسكرية تستلقي باسترخاء على جانب الطريق ، ومطار القاهرة الدولي يتلألأ من بعيد .. تتراقص أنواره بطريقةٍ تخطف الأبصار .. وأخيراً يستقر القطار في محطة باب الحديد .. أقلتهم السيارات إلى مدرسة بنات شبرا الإعدادية .



#محمد_أيوب (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- صور وحكايات
- المؤسسات غير الحكومية بين التجني والجناية
- الشبح
- لماذا كل هذه التعقيدات يا وزارة المواصلات
- دويلة في قطاع غزة
- أين علم فلسطين
- المستنقعات البشرية
- رسالتان من فيتنام
- خطة مقترحة لإحياء ذكرى النكبة
- صورة العربي في الأدب العبري
- البنية الروائية في أعمال رجب لأبو سرية
- معابر الهوان في فلسطين
- يوم الأرض .. أيام الأرض
- الجامعة العربية في غرفة الإنعاش
- قروان ع الباب
- ( قصة قصيرة بمناسبة يوم المرأة العالمي بعنوان: ( قبض الريح
- المرأة في فلسطين
- هدية من عامل إلى معلمه
- البذرة تتمرد
- لمصلحة من هذا الاستقطاب داخل حركة فتح ؟


المزيد.....




- بلدية باريس تطلق اسم أيقونة الأغنية الأمازيغية الفنان الجزائ ...
- مظفر النَّواب.. الذَّوبان بجُهيمان وخمينيّ
- روسيا.. إقامة معرض لمسرح عرائس مذهل من إندونيسيا
- “بتخلي العيال تنعنش وتفرفش” .. تردد قناة وناسة كيدز وكيفية ا ...
- خرائط وأطالس.. الرحالة أوليا جلبي والتأليف العثماني في الجغر ...
- الإعلان الثاني جديد.. مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 الموسم ا ...
- الرئيس الايراني يصل إلي العاصمة الثقافية الباكستانية -لاهور- ...
- الإسكندرية تستعيد مجدها التليد
- على الهواء.. فنانة مصرية شهيرة توجه نداء استغاثة لرئاسة مجلس ...
- الشاعر ومترجمه.. من يعبر عن ذات الآخر؟


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد أيوب - الكوابيس تاتي في حزيران