صائب خليل
الحوار المتمدن-العدد: 1250 - 2005 / 7 / 6 - 12:01
المحور:
كتابات ساخرة
(من قصص الخيال العلمي السياسي)
- "تفضل بالجلوس, اني استمع!"
قال الوزير لضيفه دون ان يرفع عينه عن طبق طعامه, او يتوقف عن الاكل. لكنه لما لم يسمع اي رد فعل منه, نظر اليه دون ان يرفع رأسه فرأى شابا في العشرين من العمر, يرتدي نظارة ويقف امامه وقد ارتسمت الحيرة والقلق على وجهه.
اشار له الوزير بيده ان يجلس في المقعد امام مكتبه, لكن الشاب اجاب دون ان يتحرك من مكانه:
- "سيدي .. لن اخذ من وقتك كثيرا"
ثم اضاف بشيء من المرح:
- "اعدك ان اكمل كلامي قبل ان تنتهي من طعامك. انا افهم بالطبع ضيق وقتك يا سيدي."
- "ابدأ اذن, لاني لا آكل ببطء كما ترى!"اضاف الوزير بمرح مقابل.
راح الشاب يتمشى امام مكتب الوزير مفكرا ببداية مناسبة لكلامه, ثم قال فجأة:
- "سيدي...هل تعرف كيف يصنعون جدار السفينة؟"
توقف الوزير عن المضغ لحظة ثم استمر, ...فاكمل الشاب:
- "سيدي...حسنا.. جدار سفينة يحتاج الى المواصفات التالية: يتحمل اطنانا من ضغط الماء...ولايخترقه البلل...ويكون مقاوما لاملاح ماء البحر, ويكون بالطبع خفيفا قدر الامكان, فاي المعادن نختار له؟"
- "اهم من الجواب ياسيدي, هو اسلوب التفكير بالمشكلة." اكمل الشاب دون ان ينتظر جوابا من الوزير, الذي صار يتساءل لم ورط نفسه بقبول المقابلة بدلا من فرصة للاكل براحة. اكمل الشاب ثانية:
- "قبل سنوات يا سيدي, شرح لنا استاذ الميكانيك كيف نتعامل مع هذه المشكلة. بقيت كلماته في ذهني حتى اليوم." كان الحوار من طرف واحد, وبدأ الشاب يشكك بان الوزير كان يستمع اليه فعلا, لكنه قرر ان لايدع ذلك يعرقل فرصته التي عمل طويلا من اجلها, فاكمل:
- "قال لنا الاستاذ ان احد ابطال اليونان قتل رجلا, فاقسم اولاد الرجل ان ينتقموا لابيهم." بدأ الوزير يهز رأسه مبتسما للورطة التي ادخل نفسه فيها, لكنه لم يقل شيئا, فاستمر الشاب بحماس متزايد:
- "وفي احد الايام رأى الشبان الثلاثة قاتل ابيهم في السوق فسحبوا سيوفهم وركضوا باتجاهه."
- "لم يخَف البطل منهم طبعا, لكنه ادرك انه لن يغلبهم معا, فتظاهر بالهرب فركض الثلاثة خلفه."
- "عندما يركض الناس, فانهم لايفعلون ذلك بنفس السرعة بالطبع!"
- "ولما تباعد الاخوة عن بعضهم, وقف البطل, فوصله اسرعهم فقتله, ثم وصل الثاني فقتله ايضا, ثم قتل الثالث!" اخذ الشاب نفسا, وكان سعيدا كأنه هو البطل اليوناني صاحب الفكرة الذكية.
- "لعلك تتساءل يا سيدي لم ازعجك بقصص التأريخ وما علاقتها بجدار السفينة؟" اجاب الوزير بهز رأسه موافقا وهو يمضغ اخر اجزاء طعامه, فاكمل الشاب متشجعا:
- " لو نظرت الى الامر جيدا يا سيدى فالمهندس هو البطل اليوناني, واشكالات جدار السفينة هي اعداءه! انه لايواجهها مرة واحدة, بل يفرقها ويحلها واحدة واحدة. فلا يوجد معدن بكل تلك الصفاة. لذا فهو يصنع اولا هيكلا لتحمل الضغط,... ثم يغلفه بمعدن رخيص لاتتسرب الرطوبة منه.... واخيرا يصبغ المعدن بمادة مقاومة للاملاح." فقد الوزير صبره تماما, لكنه تكلم بهدوء مضغوط:
- "وهل تعتقد ان بوارجنا بحاجة الى غلاف جديد؟" ضحك الشاب واكمل:
- " المسألة يا سيدي لا علاقة لها بالسفن اطلاقا..انه مجرد مثال...حسنا..سأدخل مباشرة في الموضوع ياسيدي ...انه يتعلق بحملتنا العسكرية!"
- "اننا نتوقع ترحيبا شعبيا شاملا بعد ان تكمل قواتنا تصفية قوات صديقنا القديم, اليس كذلك؟, حسنا وماذا بعد ذلك؟ عاجلا ام آجلا..ستتعارض مصالحنا تماما حتى مع اكثر المتحمسين لنا, فما نريده من البلاد سيخسروه, وما سيأخذوه سنخسره... هذا لن ينطبق على الناس فقط, بل وحتى الشركات...وعندها سيقف الجميع ضدنا, ولن يكون الامر سهلا, فكيف سنتصرف؟"
- "نخرج سلاح "فرق تسد" القديم, لنضربهم ببعضهم," قال الوزير ببعض التحدي وقد بدا له ان القصة اخذت محورا اقل مللا.
- " يا سيدي ... قال احدهم يوما - الثورة تقتل اسلوبها - ونحن ايضا لانستطيع ان نعتمد على نفس السلاح مرة بعد مرة. انهم يعرفون هذا السلاح جيدا, فكما قلت بنفسك انه "قديم"؟ ليس خافيا عليهم اننا سنحاول تقطيعهم بالدين او القومية, بل انهم لايتوقعون منا غير ذلك, ولا يستبعد ان يكون رد الفعل معاكسا لما نريد, وعندها لن تكون خياراتنا جميلة!"
- "اذن؟"
- " البطل اليوناني يا سيدي, حين لم يجد ما يفرق اعداءه لانهم اخوة, فرقهم بقدراتهم ومواصفاتهم."
- " وهنا ايضا لن يثور الجميع بنفس السرعة ولن يعادينا الجميع بنفس الوقت. سيسرع البعض الى السلاح, ممن لا يملكون القدرة على الانتظار حتى يكسبوا الاخرين الى جانبهم. هؤلاء سيشكلون مقاومة تلد قبل اوانها ,وهو ما يجب ان نشجعه. فلا يمنع المقاومة الجيدة, خير من مقاومة سيئة تخلط الامور وتدفع بالناس الى التردد. والاواخر سيكونون ممن لم يحمل سلاحا في حياته ويلجأ عادة الى السياسة. هكذا نقطع ساقيّ المقاومة, وندفعهما بعيدا عن بعضهما. ليس هناك اجمل من مواجهة مقاومة عرجاء!"
تحول ضجر الوزير الى تركيز شديد. صمت الشاب برهة ثم اكمل:
- " علينا اولا ان نخسر هذه الصداقة غير المفيدة. بل ان نثيرهم ببعض الاعمال هنا وهناك. ولكي تكون التفرقة كبيرة..ارى ان علينا ان نستعجل استثارة الاوائل, وعلينا ان نستعين باعلام دول صديقة موجه بشكل ذكي. وربما احتجنا الى منشطين متحمسين من دول الجوار. "
مرت لحظات من الصمت, بدت دهورا, ثم قال الوزير بهدوء:
- "هل تحدثت مع احد بافكارك هذه؟"
- "لستُ احمقا يا سيدي.."
في اليوم التالي اتصل السكرتير بالوزير يبلغه نبأ مقتل الشاب الذي زاره امس في حادث سيارة, ثم سأله:
- "مجرد سؤال خطر ببالي يا سيدي, هل هناك احتمال جريمة قتل؟ هل قال لك شيئا يمكن ان يكون دافعا لقتله من قبل اعدائنا مثلا؟"
- "لم يقل شيئاً مهما. انه شاب ذكي لكنه مهووس بنظرية المؤامرة"
- حسنا سيدي,.... لقد احضرت لك ما طلبتَ من تقارير للتحضير لمقابلة الرئيس"
- اسمع .. دعك منها...أيه.. لقد زهقت من السياسة واشتقت الى قراءة بعض التأريخ والادب. احضر لي بعض الكتب عن الحضارة اليونانية "
- "....الحضارة اليونانية؟؟... حسنا سيدي .....كما تحب"
#صائب_خليل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟