أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعدي عباس العبد - الفصل العاشر من رواية مخطوطة : بقايا الجندي الطائر















المزيد.....


الفصل العاشر من رواية مخطوطة : بقايا الجندي الطائر


سعدي عباس العبد

الحوار المتمدن-العدد: 4395 - 2014 / 3 / 16 - 16:47
المحور: الادب والفن
    


كانت مواكب النساء كسبايا مستلبات يطلقن العويل في الريح ..عويل مشرّب باللاجدوى والجدب والذكريات ..مشبّع باليبوسة التي جففّت ابدانهنّ او لحومهن ..اليبوسة التي تركت آثار بصمات تشي بالحرمان والحنين والتوق لملامسة اصابع مفعمة بالدفء والحنو والعذوبة تمسح برفق آثار الجفاف المعرّش المعرش مبكرا في انوثتهنّ..الجفاف الذي تنامى وسط احشائهن عقب غياب ابعالهنّ مترسبين في الأعماق السفلى الرمادية ..اعماق مستنقعات الحرب ...مستنقعات عبادان ونهر جاسم والكرخة والكارون وبنجوين ............................
في حين كان الأطفال مستغرقين في مناحه متصلة من البكاء والصراخ والجوع والوجع يستغيثون ويستنجدون بكلّ شيء حتّى الحجر فيما كان الكهول يجهدون في إشاعة طمأنينة عابره تبدّد من هول الرعب المتنامي باطراد في النفوس والحجر والشجر ...تبدّدالخوف من القذائف التي سترضعهم حليب الموت القادم في الطريق ......... حتى العصافير فرت مذعورة ركضت باجنحتها صوب البراري البعيده ...كنت المح السماء ملبّده بالخوف والدوي والترقب والسخام وتلك الذيول الراعشة الداخنة الموغلة في الآفاق التي تقتفي أثر الطائرات .... طائرات تحلّق على ارتفاعات شاهقة تشي بالقلق والرعب ...
باتت الضاحية على وشك ان تفرغ حمولتها البشرية هناك عند البراري والقرى البعيده ..
لم يبق غير انفار آثروا البقاء لحراسة بيوتهم من السلب والنهب ....
نحن كنا في عداد الذين لم يغادروا انا وزوجي ..لم نعد نسمع وقع اقدام او لغط لم نسمع سوى حفيف الأشجار والريح ومواء القطط ونباح الكلاب ودوي الأرتجاجات كنت مع زوجي نفترش الأرض. لم نسمع سوى حفيف الأشجار والريح ومواء القطط ونباح الكلاب ودوي الأرتجاجات ... كنت انا وزوجي امام عتبة الباب مطليّن بكامل وحشتنا على الشارع الذي بات مقفرا ، موحشا..نرى إلى قطيع الكلاب ..والجراء التي تجري مذعورة قلقة وهي تطلق هريرا فاترا ..كما لو حدست بما ستؤل اليه حالها ..
كانت تتطّلع بعيون قلقة تشي بالريبة والجوع ..عيون مستلبة تتموج فيها الوان تشّع بالأستكانة المشوبة بالأضطراب ... ترنو إلى الجدران وإلى الأشجار والشارع الذي يسوده الخوف والمخيّم على فضاءه صمت مريب ..و إلى جراءها الذاهلة المغموره في نور نهار ملمومة اطرافه على سكون ...نهار تجري في نوره الفاتر الجراء ..تعدو بقوائمها المتعثرة في الريح والمسالك الوعرة ..بعضها __ الجراء __ كان مقعى جوار حيطان البيوتات او لصق اسيجة الحدائق ..تثب أثر كلّ دويّ وتسارع إلى الجري او تدس خطومها الموحلة في فجوات او فراغات اسيّجة الحدائق ..او تدحس رؤسها في كوات اسفل الابواب المشرفة على الشارع او تتسلق الجدران الخفيضة واذا ما ارتدّت منكفئة على الارض يصيبها الفزع
فتركض بضراوة بلا هدى ، لا تلوي على شيء ..يدفعها خوف غامض للجري حتى تكتشف مأوى تستكين اليه او مخبأ تلوذ بكنفه ... لا ادري لماذا شعرنا نحن الاثنين انا وزوجي بحنين حميم يشدنّا لتلك المخلوقات الأليفة ..؟ !!. راودني شعور غريب بوحدة المصير والنهايات الأليمة التي تنتظرنا ..نحن والكلاب ...مشاعر مفعمة بالدهشة استحوذت عليِّ وكادت تدفعني للجري معها خطوة بجانب خطوة ..لعل شعوري بالوحشة والعزلة والفقدان هو ما جعلني اشعر بالنزوع إلى تلك الكائنات التي لم اكن أوليها من قبل ادنى اهتمام ..
لمحنا رجلا قادما من اخر الشارع يمشي بخطوات متلاحقة .لمحنا رجلا قادما من أخر الشارع ، يمشي بخطوات متلاحقة كما لو ان احدا يلاحقه او يقتفي أثره ... اندفع زوجي خارج عتبة البيت وهو يهتف بصوت عال يخاطب الرجل من بعيد _ : ماذا هناك ..؟ قال الرجل وهو ما يزال يواصل المشي السريع _ : إنهم يقصفون القصور الرئاسية ..ويحاصرون العاصمة بالطائرات
قال زوجي _ : وماذا بعد .... قال الرجل _ : لا شيء لا شيء ..
ثم غاب في فضاء زقاق جانبي ..عاد زوجي وهو يردّد كلاما يشي بالقهر والخراب : ستأتي لاحقا اوقات مخيفة نخوض في دقائقها كالاشباح بحثا عن المياه الشحيحة ..
بحثا عن نور نادر شحيح يضيء ليالينا الحالكة ..سوف نتوغل في ظلام ..نتصادم في فضاءه الدامس كالجرذان ... سيغمرنا سواد فاحم ننحدر في سراديبه القاتمة وانفاقه الداكنة ... سواد مرعب سوف يغمرنا ..يسحلنا من بوابات جهنم التي فتحت على مصاريعها. سنكون لها الوقود والحجارة ... ثم اضاف بنبرة ناشجة : يا لأعمارنا التي شتّت سنينها في البراري والحروب والمجاعات والفاقه يا لأحلامنا التي تلاشت ...
قلت _ : لابد ستلوح في المدى المعتم نقطة ضوء ..نور أمل شحيح ! قال _ : الأمل خدعة ..أكذوبة ، حبل من الوهم انتجه الفقراء ..نعقده على قلوبنا ، لعل شيئا ما يحدث يبدّد غيوم التعاسة ... حتى الأحلام ..احلامنا الصغيرة انا وانتِ لا تعدو ان تكون اكذوبة اكرهنا نفوسنا على تصديقها ... الأحلام شجرة مثمرة بحاجة لأرض خصبة لا تتوافر في هذه البلاد ... ما من حلم نما وأورق في هذه التربة البور ... لا أمل ولا حلم يشفينا من الجراح ... جراح الأسئلة التترى الماثلة على الدوام في الذاكرة .. ذاكرة الحرمان واليأس والخواء والخيبات ..سلبونا كلّ شيء حتى ملح الطفولة والذكريات .. وما زالوا يغذوّن احزاننا بمزيد من الحروب .ما زالوا يغذون احزاننابمزيد من الحروب ..وما زالت احزاننا تتصاعد مدوية الى عنان الخراب والخيبات ..وما زلنا نستنجد بالأحلام والاوهام والاشباح ..ما زلنا نتشبث ببقايا طفولة تحتضر ..كنت أنظر اليه ذاهلة وانا اقوده من ذراعه ..كأني اقرأ في كلامه سطور موتنا ..القادم بقوّة محمولا على كف من الخيبات ........ عند حلول أوّل المساء ، وجدتني اختلي بزوجي فوق السرير _ في لحظة من اقسى اللحظات تعاسة _ فرأيتني استغرق في نشيج صامت ! فيلوح ليّ وجهه عبر غشاوة من الدموع المسدولة على عينيّ ..فبدا كأنه يغرق في ضباب بعيد او يغطس وسط حوض من دخان او تحجبه غيمة تغمره بهالة من الأمحاء ...
كان ممددا كتابوت عتيق بكامل هواجسه وبدنه المؤطر بندوب جراح حربنا الأولى ..ندوب طافحة برائحة ذكريات اخالها تضوع بقوّة يأس مر ! ...ياس يفوح من زفيره واصابعه وكلامه وعينيه اللتين ما زالتا رغم الخراب القديم . تشّعان تضيئان ظلام الروح ..الظلام المعرش في السرير ..
كان رأسي المقمّط بنسيج من القماش المخضّب برائحة عطر قديم غاطسا في ليونة الوساده وشعري الفاحم الطويل منسفح على كتفه وذراعه وعلى جانب من السرير الذي احسست به للمرة الأولى ينضح رائحة خشب عتيق رطب ..جعل ينأى بي مدّيات بعيده مشرعة على افق من ذكريات الامس القريب التي لما تزل طريّة نابضة بالعنفوان والرغبات .كم كانت اوقاتنا قبل اعلان الحرب ..قبل نزوح البشر ..قبل قصف الجسور والمدن ، شديدة الروعة والتألق __ اقصد حياتنا انا وزوجي على الأقل __ كم كنا نرفل بالطمأنينة ونحن نذرع حديقة المنزل عند حلول أول المساء بخطواتنا المتباطئة ونحن نتجاذب اطراف المسّرات والأمل والأحلام .. ونحن نرسم افقا مضيئا لأحلامنا القادمة في الطريق ..احلامنا في شراء بيت وانشاء عائلة ..كنا نحلم باشياء عديدة .كنا نحلم باشياء عديدة ...وانا إلى جانبه ارفل بثوبي ..كما لو كنا نمشي على كتف الشاطىء ، مستغرقين في مجرى احاديث شتى اغلبها تتعلق بايامنا الجميلة القادمة ...كنت متخمة بالأحلام المضيئة ..وبتوق يشّع ساطعا في داخلي ..ينبجس نوره من اقصى الروح ... توق لملامسة تلك الأحلام ..لتحسسها باصابعي ! وهي تتحول إلى واقع يصب في مجرى الايام القادمة ، المشدودة اليها شدا ...... ولكن الظلام الذي غزانا بغته بسواده الداكن وبحربه المجنونة وارتجاجاته المخيفة التي شتّت البشر واحالت حياتهم الى جحيم ...واحالت ايامي انا إلى قلق متصل ..ودوران مضني في فراغات من الخوف والنكد والتوجسات التي راحت تحفر عميقا في روحي .. كنت اصغر من ان احتملها ..فاشعر بخوفي يتنامى على نحو كابوسيّ ..فامد يدي إلى رأسه ، امدّها عبر الظلام المرين على السرير ، فانوش بدنه ..
فأجر يده ، اسحبها الى قلبي ..الثمها بحنو غامر ، اتشمّم رائحتها كما لو سأفتقدها .
فاحس باصابعه تضغط برفق على كتفي ..فتمسك بيدي رعشات من الخوف ..خوف ما !
يتدفق من بقاع ما ! يتفجر من براكين الزمن القادم بقوّة الحرب !! خوف سينبثق من المجهول ! ويحيل ايامنا الى كوابيس متواترة ،إلى رعشات من رعب متصل ..سيزداد قوّة
بتنامي مواكب النزوح ..النزوح الذي الذي ما تزال صوره المخيفة المشّوهة مطبوعة في ذاكرتي ... النزوح الذي ما يزال يزداد بكر القصف ...والذي يكاد يفرغ الضاحية من البشر ..
حتى لم يبق سوى بيوتات كنقط سود في متاهة !! سوى اسر لم تقوى على ترك بيوتها .
كنا نحن إحدى تلك الأسر ...
قبل ان اهمس في أذنه ، سمعت اصوات قصف في اطراف الضاحية . سمعت اصوات قصف تتصاعد في اطراف الضاحية ، فترج اركانها ..فيزداد رعبي ،فألتحم ببدنه في اضمامة شديدة الخوف ، كأنّي اتوغل عميقا في مساماته ! فأنغمر تماما في انفاسه ، كأني اغور في روحه ..فينشأ بيننا ذلك الألتحام الحميم مجرى هو خليط من المشاعر المتنوعة الجياشة فنتواصل مع اندفاع المجرى ونتلمس عبر جريانه مشاعر اللهفة والتوق والقلق المنتفض في اوصالنا ..
لا ادري كيف سنخرج من وسط السخام الذي سيخيّم على الضاحية ، قال زوجي ذلك ثم اطبق على شفتيه سكون صارم يشي بقوّة القلق ..فيما كان القصف يشتد عند الأطراف ..
فيرج البيوتات الفارغة الخالية من السكان المحليّن ..كانت جدران بيتنا تهتز مع الدوي مع كلّ ارتجاج ..ترتج مع ارتجاج النافذة والباب والظلام والبرد والروح والسرير والذكريات والأحلام التي ذهبت مع الريح مع عصف الأهتزازات والأرتجاجات والأختضاضات المداومة على إشاعة الرعب والضّياع واليأس والكفر واللاجدوى والندم والحسرات والخيبات والخذلان ................... حتى جعلت الاحق الخراب المدوي الشامل في الأرجاء ..الاحقه بخوفي بذهني المشدود إلى دهشة مهولة ! الى قلق مريع ..لم افق منه بعد ! لم اقوى على الأنعتاق من اسره ..كنت لا ازال مشدودة إلى حبل من القلق يصلني باولئك النازحين نهار هذا اليوم .. مشدودة الى هول الصدمة الأولى التي اطاحت باحلامي ..برغم من انّ الوقت ما زال مبكرا على انغماري في مجرى العذاب ..فطفق يخامرني إحساس شديد الألم للغاية ، بان حياتنا باتت خارج مدار خياراتنا ، ورغباتنا وإراداتنا !..
خارج متناول ايدينا ... خارج متناول احلامنا .. وسوف نتفتّت في لحظة قاسية شديدة الظلام ويتلاشى كلّ شيء ..ونبقى فقط نتواصل مع الاشباح ..مع اطياف الماضي البعيد ..
سمعت زوجي يردّد في الظلام كلاما مخيفا ينطوي على قدر ما ، من الرعب والأبهام ..
لم استطع ان اتجرع مرارته ، كلاما يشي بالخراب وانهيار كل شيء مما ضاعف وتيرة مخاوفي ... كان القصف في الخارج يتفاقم ويزداد رعبا وقتامة وقلقا وتشوّهات مريعة تنضح خرابا مدويا .كان القصف في الخارج يزداد رعبا وقتامة وتشّوهات مريعة تنضح خرابا مدويا ...... كان كلامه المخيف عن الموت هناك في الحرب ..
وخوفه من الألتحاق للجندية التي حتما سيدعونه اليها كجندي احتياط ...مستمرا في اتصال قلق مع نمو خرابي الذي شرع يفتك بي . دون ان يسنح ليّ فرصة شحيحة لألتقاط انفاسي او خيباتي ....فوجدتني اتطلّع إلى وجهه الغاطس في الظلام ..... الغائب في عتمة موحشة ... فأمد يدي لأتحسس سحنته المترسبة في جبّ دامس مخيف من الأمحاء ... فتلمّست اصابعي خيوط ليّنة من دموع تسيح على خديّه ..فصوص مائية لزجه ذابت` بين ملامسات اصابعي ...نقط مائية دافئة ما زالت عالقة في رموشه الطويلة __ علمت فيما بعد كان يبكي عليّ __ فأجدني أنا الأخرى اغط في مجرى لاذع من البكاء ..
في نشيج مكتوم من الغصات الأليمة تحوّل بكّر الشهقات والعبرات والغصات واستحضار الذكريات إلى صراخ فاتر ينضح وجعا وندما ويأسا وعذابا ... فيما كان القصف مستمرا في إشاعة اللاجدوى والخراب ..بدا قوّيا وهو يدنو ، فيرتطم دويه بصراخي الفاتر الذي بدّد انتشاره زوجي وهو يطوقّني عبر ذراعيه الدافئتين فأغيب تماما في انتشار رائحته في شيوع حنانه في انتشار ذكرياته ذكرياتنا ..فأتمرغ في انفاسه وزفيره وهمساته المعفّرة بأريج المسّرات الغاربة والذكريات التي جعلت تتدفق جامحة من وسط الظلام ..ظلام القصف ..تنبثق من اعماق الظلام واللاجدوى ...
بات القصف قريبا ، لم يكن يفصلنا عنه سوى شارعين عريضين يقع في نهايتهما الجسر ..
فرأيتني ازداد نحيبا مع اقتراب الدوي والعصف ولما بلغ بي النحيب اشده ،طلب مني ان امسك عن التدفق بالبكاء ..طلب ذلك بالحاح وتضرع واستكانة وندم وبكاء ووجع !!طلب اليّ أنّ أكف.. ان لا ادع الأحزان تتغلغل اكثر في اعماقي ... اعترف بأني كنت أزداد عذابا متلاحقا اطوي مسافات من العذاب بسرعة لا تضاهى .اطوي مسافات من العذاب بسرعة لا تضاهى ..وكأني اغطس بقوّة في بركة موحلة من الكدر والشقاء والذهول .... اخوض في امواج راكده من المكابدات ..فيما كان زوجي يسعى بكل تضرعاته بكل ما اوتي من رجاءات ودموع وحنان وعذوبه وهو يلفني بذراعيه ويمسح خلال شفتيه على جبيني وخدودي وشعري ويديّ ان اسكت وانا ازداد حزنا ودموعا ... فيما القصف مستمر يزداد اصرارا وعنادا وخرابا وحطاما يزداد الحاحا وعنادا على غرز اصابع الخوف في عينيّ ليفجر المزيد من ينابيع الدموع التي كان زوجي ينشفها براحته وشفتيه وباطراف اصابعه التي كانت تنغرز وسط خصلات شعري المتهدل المسفوح على جبيني ..فتحوّل النحيب الى نشيج فاتر اقرب ما يكون إلى الأنين ..بينما كان القصف يترك آثاره المخيفة مطبوعة في الفضاء في الهواء .. فاشعر برغبة شديدة العناد في ان تتصل روحي تتداخل في روحه في التحام لا فكاك منه ...
فدسست وجهي برمته تحت ذراعيه وجعلت امسح على صدره بخدودي وشفتيّ واصابعي ورأسي وبقايا دموعي وشهيقي وأنيني ولهفتي وذكرياتي وانفاسي ... كما لو اسعى حثيثا للأنعتاق من سطوة القصف او الخراب ، الخراب الذي جعل يشيعه القصف المتصل المتلاحق ..فأزددت التحاما بصدره ، لعل امسك بنهايات تلك المشاعر المخيفة المتصاعدة مع انتشار القصف ، لعل ابدّد غيمة الخوف المخيّمة ظلالها القاتمة على مساحة هشّة من روحي ...او في الأقل أحد من تصاعده ونموه ...
ولكن دون جدوى كان القصف يشتد وبات قريباجدا .ولكن دون جدوى ..كان القصف يشتد ،وبات قريبا جدا حتى تيقنت انّه سيحيلنا في لحظة ما ، شديدة الرعب إلى حطام كان الدوي المتصاعد في الريح يبوح بالخراب القادم بسرعة الموت ، عبر ارتجاجاته المتوالية ..يفصح عن حجم الدمار الذي سيزداد سعة وهولا ،كان زوجي يطوّقني عبر ذراعيه في اضمامة نادرة مسرفة بالدفء والحنو والتوق والخوف والقلق ...كان معي بكامل اشواقه وأوجاعه واحتراقاته ودموعه ....... كنا معا ، ندفع الخوف خارج مدارنا ..ندفع اليأس ببقايا احلام ما زلنا متشبثين بنهاياتها ، تزيدنا حبّا وتعلّقا وهياما ، تدفعنا إلى اقصى مدى صوب الآمال الشحيحة ..كان تمسّكنا ببقايا احلام شحيحة مهدّدة بالفناء والتفتّت والتلاشي اقوى من ان يبدّده الخراب المحلّق في سماء الوجود ، وجودنا ،... كانت مشاعرنا المفعمة بذلك الحنين النادر الذي يغمرنا بفيضه نحو ضفاف بقايا آمال .....
كنت أسمعه يردّد من آن لآخر في الظلام كلاما ليس فيه تلك النغمة المخيفة .. كما لو يروم ايقاظ ذاكرتي وأهاجت مشاعر التوق والحنين التي كاد يطمرها الدوي ... ....
يذكّرني بتلك الأيام المضيئة التي سوف تزداد سحرا وجمالا وتألقا لو قدر لنا الأفلات من لحظة الخراب ، من كماشته المرعبة ... يذكّرني وسط الظلام بروعة وألق تلك الأيام التي ما زال سحرها مزدحما ، ضّاجا في قبو ذاكرتي ، معتلقا لم تخمد جذوته ......... ..
لم يمرّ سوى اسبوع على ذلك الليل ، ليل القصف ..حتى استدعوا زوجي ..طلبوه للجندية
التحق في نهار غائم ..فأصبح كلّ شيء يحيط بي ، يرتعش ..ارتعاشات متعاقبة !
تنبجس من بدني ... تتدفق من فراغ الغرفة ..من النافذة والشجرة الماثلة في نهار موحش ... فأستعدت في ذهني خراب لحظة الوداع ..فغامت الأشياء في عينيّ محجوبة بغشاوة من الدموع ... بدت الشجرة عبر النافذة بعيده ، كأنها تتموج في سراب ! او تغرق وسط فيضان من الدموع ..خلفها في الأعلى مرقت غيوم ، كتل رمادية هشّة ، تنحدر متباطئة وهي تتناسل إلى كتل صغيرة متباعدة .بدت الشجرة خلف النافذة بعيدة كأنها تتموج في سراب او تغرق في فيضان من الدموع ..خلفها في الأعلى تمرق غيوم ، كتل رمادية تنحدر متباطئة وهي تتناسل إلى كتل صغيرة هشّة ، تندمج في البعيد ..كان فضاء الغرف الموحش يكتظ بصمت له طنين الدوي ..! صمت مخيف ينبثق من الجدران الرطبة ، ومن
النافذة المشرعة على نهار غائم ...ومن رائحته النفاذّ __ زوجي الذي بات بعيدا __ التي
لما تزل تضوع من بدني صمت ضاج بدوّي يكتنفه سكون ، سكون أقرب ما يكون إلى طنين الدبابير يحوم في اسماعي ، .. حتّى بدت الغرفة كأنها ترشح رائحة تراب رطب ..تراب قبور
لما تزل طريّة ...... ،كأن لا ذكرى تشدني اليها ..رائحة غير أليفة بالمرة .. تفتقد إلى الروح الحميمة ..كما لو تضوع من برّية ... من عراء تدور في مداره حرب طاحنة ... بدت مخيفة غريبة كأنها ليست رائحتنا ..كأني لم اتشمّمها من قبل ابدا ! ... فراحت تتشكل في ذهني ملامح جديدة لها ..فشعرت برغبة طاغية لمغادرتها ..مغادرت الغرفة ذات الرائحة الغريبة غير الأليفة ...ثم مالبثت ان أجهشت بالبكاء وانا أتلّمس طريقي نحو الدولاب ..
كأني اعبر جسرا من الفقدان ..جسرا وعرا من الخراب والغياب ..
فتحت الدولاب فهبت رائحته ، تصاعدت قوّية ... هجمت عليّ رائحته ....رائحة زوجي تضوع
من الملابس ومن خشب الدولاب والهواء والفراغ ! بدت غير أليفة تماما ..كأنها تدفق من اغوار زمن موغل في الأمحاء والبعد والغربة ... كأنها محفوظة في علب من غبار ... غبار ينضح رائحة سنين مجفّفة في خشب الدولاب ...
فتخيّلت زوجي معبأ بالغبار وهو يخرج من أعماق مظلمة ..اعماق الدولاب ، بكامل غباره ..
يشرع ذراعيه في الفراغ فتتناثر ذرات الغبار على شعري وعلى فمي المفتوح دهشة ..
وعلى خياشيمي ، فأستورح رائحته ..رائحة أتشمّمها للمرة الأوّلى ، تنفذ إلى أقصى بقعة في روحي ، في اعماقي ..ثم تغمر الغرفة ..تبدّد الذكريات التي ما تزل طريّة في حياة غابت الآن .. تلاشت في براري نائية ....
قبل ان اغلق الدولاب سمعت صوت أمّي يأتي .قبل أنّ اغلق الدولاب سمعت صوت أمّي يأتي من وراء الباب الخارجي ..وطرقات يدها على الباب تتولى متلاحقة ، حالما فتحت الباب ورأيتها أجهشت بالبكاء وأنا اردّد بنبرة أدمنت الغصات والبكاء _ : غادر ..يا أمّي ، ذهب إلى هناك إلى الجبهة ..إلى الحرب ...
تركني للفراغ ..للعزلة والعذاب ..لأجترار الذكريات والدموع ..تركني للحياة التي باتت تضيق بي ... أمّي ..كما لو إني أختنق ... أطفو على مجرى راكد ، مجرى من الأنتظار واللاجدوى.
كأني اترسب في قاع مظلمة ............ أين هو الآن يا ترى ..؟
فتحت الأمّ فمها كأنها تتهيأ للصراخ او العويل ..فتدفق الكلام رطبا : سيأتي ...حتما سيعود اليكِ ..ستنتهي الحرب قريبا ويجيء ... ولعل سيجيء قبل ذلك ...سيمنحونه إجازة .. فقط لا تقلقي ... ، قلت _ : آخ ... لو استطيع ...... أنتِ لا تعلمين يا أمّي ، كم
افتقده الآن ... ها.. إني اسمع وقع خطواته ..! اسمعها باستمرار ، منذ غيابه ..كأنه لما يزل يمشي في الباحة .. في الغرفة .. في الحديقة ..على مقربة من السرير ..وفي امكنة أخرى اعشقها .... قالت الأمّ _ : ربما سيتأخر في المجيء ..لكن اطمأني يا روحي ..يا ظلوعي ومهجتي ..لابد أنّ يعود ...يعود اليكِ ، لعشّه الدافىء ..لمساءاتكم الجميلة ...قلت _ : وانتِ ماذا عنكِ ..لم تخبريني عن النزوح ..اقصد متى عدتم من البراري او القرى او من تلك الأمكنة الآمنه ، المستكينة ..البعيدة عن لقصف واجواء الحرب
قالت _ : البارحة .. عدنّا ظهيرة البارحة ... حقا نسيت ان اخبركِ [ بيت ابو نجاة ] أتعرفينهم ..قلت : بلى .. اعرفهم ..،قالت بنبرة باكية مذبوحة بانصال الدموع المحجوزة وراء
الفصيّن او العينين الساكنتين _ : ماتوا كلّهم ! قضوا جميعا إبان مرورنا من فوق الجسر ..قبل ان يُقصف ... تخلفوا عنا مسافة ..فحدث ان مرّت خلال تلك المسافة التي تاخروا
فيها طائرة وضربته بالقذائف ..فترسبوا في قاع المياه ..كثيرون ترسبوا في الأعماق السفلى ...اعماق المياه المظلمة ... اعداد من البشر ماتوا في طريق النزوح ..في الطريق نحو الخلاص ..فأتاهم الخلاص من حيث لا يحتسبون ..لا اتذكّر كم كان عددهم ..
دهمنا القصف في الطريق المفضي إلى البراري ..كنا نسير محاذاة مباني الحكومة أوّل الامر



#سعدي_عباس_العبد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الفصل التاسع من رواية مخطوطة : بقايا الجندي الطائر
- الفصل الثامن من رواية مخطوطة : بقايا الجندي الطائر
- الفصل السابع من رواية مخطوطة : بقايا الجندي الطائر
- الفصل السادس من رواية مخطوطة : بقايا الجندي الطائر
- الفصل الخامس من رواية مخطوطة : بقايا الجندي الطائر
- الفصل الرابع من رواية مخطوطة : بقايا الجندي الطائر
- الفصل الثالث من رواية مخطوطة : بقايا الجندي الطائر
- الفصل الثاني من رواية مخطوطة : بقايا الجندي الطائر
- الفصل الاوّل من رواية مخطوطة : بقايا الجندي الطائر
- محض رأي عابر
- منظر من زاوية حادة
- مراثي الامهات
- في تلك الايام .. / مقطع
- معا .. ومعا تماما في المعبد الحرام
- إنهم يقتلون كلّ شيئ
- الله كما رأيته راكبا حمارا ابيض / طفل في ريعان الاوهام
- ما زلنا نتلاشى
- مرثية / ا / 2...
- حدث ذلك بعد الموت بسنوات
- قصة قصيرة : الشبح


المزيد.....




- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!
- مهرجان بابل يستضيف العرب والعالم.. هل تعافى العراق ثقافيا وف ...
- -بنات ألفة- و-رحلة 404? أبرز الفائزين في مهرجان أسوان لأفلام ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعدي عباس العبد - الفصل العاشر من رواية مخطوطة : بقايا الجندي الطائر