أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حازم شحادة - في صلنفة بين الأغنياء















المزيد.....

في صلنفة بين الأغنياء


حازم شحادة
كاتب سوري


الحوار المتمدن-العدد: 4391 - 2014 / 3 / 12 - 12:22
المحور: الادب والفن
    


باب جنة قرية والدي الجميلة تبعد عن صلنفة حوالي سبع كيلومترات، ترتفع عن سطح البحر ألفاً وخمسمائة متر تقريباً، في زمن عتيق كنا نذهب إليها لتمضية الصيف بعيداً عن جو اللاذقية الرطب، وباب جنة لها من اسمها نصيب، غابات من شجر الشوح والسنديان والدلب وأراض مزروعة بالتفاح والكرز والإجاص في إطلالة خلابة مكشوفة على البحر، فبإمكانك وأنت تتناول فنجاناً من القهوة أن ترى الشمس وهي تغوص في البحر رغم المسافة البعيدة، أما مساء فيخيل إليك أن بإمكانك قطف النجوم لإحساسك بقربها وكثرة عددها وتألقها الفتان مع قلة عدد السيارات في ذلك الزمن والهدوء الغريب لا تجد أي صعوبة بسماع صوت فيروز وهو قادم كالسحر من اللامكان.... بالضيع يلي عاشقه النجمات.. بيسهروا بظل الهوى سهرات.. وبيرقصوا رقصه بحبا كتير.. ع غنى الحلوين.. والحلوات.
كنت جالساً تحت شجرة السنديان في أرضنا هناك أتأمل (الشمسي) ينتصب كما هو منذ آلاف السنين جبلاً شامخاً فيه من العز والكبرياء ما يغري بالتسلق والصعود.. أداعب أحجار الأرض الصغيرة حولي وأستنشق هواء نقياً قادماً من غابات العذر التي تتاخم أرضنا حين سمعت حركة فإذا به ابن عمتي يقترب صوبي وبعد أن يلقي السلام يقول: ما الذي تفعله هنا؟
بعض الأسئلة تصل مرحلة من الغباء يدفعك إلى تمني ضرب صاحبها.. شاب وحيد يجلس تحت شجرة يتأمل الطبيعة الصامتة من حوله.. ما الذي يفعله؟
ـ شو عم أعمل برأيك؟ عم ألعب ببيضاتي.. أجبته
لم يتوقع الإجابة وبدت عليه أمارات الاندهاش فأعاد سؤاله
ـ ولك يا زلمة شو شايفني عم أعمل يعني؟
ـ كأنك عم تتأمل الطبيعه مهيك؟ قال ابن عمتي ذو العينين الزرقاوين.. هززت رأسي إيجاباً فقال:
ـ هلق إذا بتروح بتشتغل معي ما أكوس من أكل الخرا هاد؟
حدقت إليه طويلاً فأشاح بنظره عني.. ما الذي يمكن أن تقوله لهذا المعتوه؟ أمه عمتي وأي شتيمة أطلقها سأكون كمن يشتم نفسه فشتمت والده وطلبت منه الانصراف فقال: اصطفل
بعد ساعة من الزمن توجهت صوب المنزل وقلت لأمي:
ـ يامو.. بدي مصاري
ـ يا غالي من وين بدو يكون معي مصاري أنا
ـ لا أدري.. جربي أن تسرقي من جيب والدي مئة ليرة.. أحتاجها
ـ ليش يا عين أمك في بجيبة أبوك مية ليرة؟ أبتعرف أنو الدنيا أواخر الشهر
ـ يا محمد ما أفقرو هالزلمة عأساس لو كانت أوائل الشهر كان فرق الموضوع... أماه.. هل تعلمين لو أننا كنا نعيش قبل آلاف السنين مع الأغريق كان ليكون لوالدي مركز مهم عندهم
حدقت بي أمي وسألت عن المركز المهم الذي كان الإغريق سيمنحونه لزوجها فقلت لها إنهم كانوا سينصبونه إلهاً للفقر.. وسيعرفونه بالتاريخ إله الفقر عن الإغريقيين.. ثم تركتها وانصرفت أفكر بالعرض الذي قدمه لي ابن عمتي للعمل معه.. احتاج مالاً لأشتري بنطالاً من القماش يشبه بنطال إغناسيو لويس دافيد في مسلسل كاساندرا.. أنا لم أرتدي بنطالأً من القماش حتى ذلك الوقت.. وأريد أن أجرب مفعوله.. هل من المعقول أن تعشقني امرأة ككساندرا متى ما ارتديته.. السياح القادمون إلى صلنفة من دمشق وحلب لا بد وأن تخرج من بينهم فتاة جميلة ككساندرا وتجد بي عشيقها المكسيكي الفريد.. أحتاج فقط للبنطال..
في غرفته كان يجلس فسألته عن طبيعة العمل.. قال: مهمتك هي أن تنقل المورينات (دعامات خشبية تستخدم في البناء) من ورشة إلى أخرى.. لا تقلق المسافة ليست بعيدة بين الورش.. نبدأ العمل عند السادسة صباحاً وننتهي عند الثانية ظهراً.. لذا يجب عليك أن تستيقظ معي منذ الخامسة لنفطر وننتظر سيارة (بيك آب) تنقلنا إلى مكان العمل في صلنفة.. ستتقاضى في اليوم خمساً وسبعين ليرة.. هل أوقظك صباحاً يوم غد؟ فأجبت موافقاً.. وهذا ما كان
الصباح... أمقت الصباح.. أكره الصباح.. لا أدري كيف سارت البشرية على قانون النوم مساء والاستيقاظ صباحاً ولكنه بالتأكيد قانون تعسفي بالنسبة لي.. لا تكون الشمس بعد قد خلعت ملابسها.. والجو بارد في تلك الجبال.. والماء... شبه متجمد عليك أن تغسل به وجهك لتتنشط.. بعد أن تناولنا الفطور وقفنا ننتظر سيارة بيك أب لتقلنا في طريقها إلى صلنفة.. وما هي إلا عشرة دقائق حتى صعدنا من خلف ولأن لا مكان للجلوس اتكأنا على حافة السيارة الحديدية فتسرب البرد إلى مؤخرتي وكأن هذا ما كان ينقصني ليكتمل هذا النهار المشرق وحين انطلقت السيارة راح الهواء النقي البارد السام اللاسع يصفع وجهي وأنفي وبدأت عيناي بسكب الدموع وتشتت يداي بين مسح الدموع المنهمرة بسبب الهواء وبين جيب الجاكيت الذي لم يكن ليغني أو يسمن من برد.
حين وصلنا مكان العمل كانت الشمس قد تفضلت وألقت بأشعتها فركضت إلى مكان غير مغطى بالبناء أو الأشجار ووقفت أمنح جسدي بعضاً من الدفء ناظراً بعينين نصف مغمضتين إلى هذا القرص الذهبي الذي يمنح الحياة للكوكب.. مرحباً أيتها الجميلة.. لا غرابة أنهم كانوا يعبدونك.. وما يزالون
بعد أن قدمني ابن عمتي لصاحب ورشة العمل رافقني إلى مكان ممتلئ بالمورينات الخشبية.. ثم قال: قم بنقل هذه الأخشاب من هنا إلى هناك.. وأشار بيده إلى بناء مجاور يبعد عن مكان وقوفنا خمسين متراً.. قلت له وماذا بعد؟ قال: لاشيء.. ولجهلي ظننت أن الأمر بسيط.. فرحت أحمل المورينة وطولها بطولي تقريباً فأضعها عرضياً على كتفي.. وأمشي صوب الورشة الأخرى.. في البداية لم أجد صعوبة.. مع مرور الوقت.. بدأت قواي تنهار.. وكلما نقلت مجموعة.. شعرت أن العدد لا ينقص.. الأمر الذي أوهن عزيمتي وأشعرني بالتعب.
عندما أصبحت الساعة الثانية ظهراً ألقيت الخشبة التي كنت أحملها في منتصف الطريق وذهبت إلى ابن عمتي وقلت له هيا.. فتولى هو أخذها إلى مكانها وعدنا أدراجنا.. ربما أمضيت نهاري ذاك وليلي من بعده نائمأً.. أنهكني التعب إنهاكاً عظيماً.. ولم يختلف الأمر في النهار الثاني الذي سار على نفس الوتيرة وبينما كنا نتناول الطعام في استراحة العمل خلال اليوم الثالث قال ابن عمتي: لقد لاحظ صاحب الورشة أنك تتهاون في العمل ولا تعمل جيداً.. فغصصت بالطعام ثم شربت قليلاً من الماء واتجهت صوب صاحب الورشة وقلت له: كيف لا حظت أنني أتهاون في العمل يا ابن الشرموطة؟ ظهري يكاد ينقسم من حمل هذه الأخشاب وأنت تلاحظ أنني لا أعمل جيداً؟ هل تريدني أن أحمل خشبتين اثنتين في الدفعة الواحدة أم ماذا؟ على كل الحق ليس عليك.. هات اعطني ما أستحقه من مال... فأجاب أن لا نقود بحوزته الآن .. قلت فلترسلهم مع ابن عمتي وتركته.. ولو أنه فتح فمه بكلمة عاطلة لما ترددت بضربه بخشبة من تلك اللواتي كنت أحملها.
وصلت البيت فاستغربت والدتي قدومي مبكراً.. اخبرتها القصة وطلبت مني أن أهدئ من روعي وأن أحضر لها ماء عذباً من العين.. في الطريق صادفت إحدى السيدات الجميلات فتمشيت معها وحملت عنها وعاء الماء بعد أن ملأته وكدت أنسى أمر الحيوان صاحب الورشة.. كما كدت أن أنسى أمر بنطال إغناسيو لويس دافيد.. حتى كدت أن أنسى أمر كاساندرا نفسها.. فقد كانت السيدة هذه جميلة جداً.. المشكلة الوحيدة أنها كانت تكبرني بسبعة أعوام وربما تنظر إلي كطفل مراهق.. في الحقيقة.. في ذلك الزمن.. كنت طفلاً مراهقاً بالفعل.
بعد أن عاد ابن عمتي أعطاني أجاري من العمل يومين وبلغ مجموعه مائة وخمسين ليرة سورية لأن ابن الشرموطة صاحب الورشة لم يحتسب ربع اليوم الذي أمضيته في العمل قبل المشكلة.. بسيطة.. فليصرفها على صحته.. قلت لابن عمتي.. لا أدري ما هو ربع ال 75 ليرة.. أقل من عشرين ليرة بالتأكيد..فليصرفها على صحته..
عصراً توجهت برفقة ابن عمتي إلى محل الالبسة في صلنفة وابتعت بنطال القماش بكامل المبلغ.. كنت مرتدياً للاحتياط قميصاً أبيضاً مناسباً ولأن علبة كريم تصفيف الشعر (الجيل) كانت من عالم الأحلام بالنسبة لي بسبب سعرها كنت أضع على شعري زيت الزيتون لتصفيفه ثم أسكب فوقه عطراً من أي زجاجة أصادفها في المنزل للتغطية على رائحة الزيت... وبالفعل.. ساهمت التسريحة المناسبة والقميص المناسب مع البنطال المناسب في إعطائي مظهراً كالذي كنت أوده.. نسيت فقط أمر الحذاء.. كنت أرتدي (شحاطة) أم صبع.. ولا مال معي لأشتري حذاء مناسباً فاقترح ابن عمتي أن أتبادل معه.. أرتدي حذاءه ويرتدي شحاطتي... لكن قدمي أكبر من قدمه فلم تنجح المهمة فقال دعك من ارتداء البنطال.. ضعه في الحقيبة ولتعد بالنبطال الذي أتيت به.. لكني كنت قد عقدت العزم على أن أتمشى في صلنفة بين الناس الأغنياء هذا المساء وشعرت أنني إن لم أفعل ذلك سأنفجر.. لذلك.. بقيت باللباس الرسمي والشحاطة ورحت أتمشى في صلنفة بين الأغنياء... غير أن كاسندرا لم تظهر.



#حازم_شحادة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رِهَانُ الشِّعر
- في بيتِ لميا
- قصيدةُ حُبٍّ لدمشق
- يا ماريا
- تركتُ يدَ أمّي لأَجلِك
- كلُّ البلادِ بلا حضوركِ كالملاجئ
- مسعد يا تنور
- صاعقة
- لا أحبُّ التفاصيل
- يوغا
- الأول على مستوى الجمهورية
- مين سمير؟
- ما تبقّى في قعر الزجاجة
- أوراقٌ.. نساء
- نافذة باردة
- رسالة إلى امرأة تشبه الشتاء
- بائع الدخان
- مع باولو كويللو في الصحراء
- مصطفى الأعور
- لا أشرب المتة مع الرئيس


المزيد.....




- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...
- قيامة عثمان حلقة 157 مترجمة: تردد قناة الفجر الجزائرية الجدي ...
- رسميًا.. جدول امتحانات الدبلومات الفنية 2024 لجميع التخصصات ...
- بعد إصابتها بمرض عصبي نادر.. سيلين ديون: لا أعرف متى سأعود إ ...
- مصر.. الفنان أحمد عبد العزيز يفاجئ شابا بعد فيديو مثير للجدل ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حازم شحادة - في صلنفة بين الأغنياء