أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حسين علوان حسين - قصة قدموس مثالاً للملحمة التاريخية / 1















المزيد.....


قصة قدموس مثالاً للملحمة التاريخية / 1


حسين علوان حسين
أديب و أستاذ جامعي

(Hussain Alwan Hussain)


الحوار المتمدن-العدد: 4372 - 2014 / 2 / 21 - 23:23
المحور: الادب والفن
    


المقدمة
يمكن تصنيف الملاحم من حيث مصادرها الموضوعية إلى نوعين متمايزين : الملاحم التاريخية ، و الملاحم الشخصية . النوع الأول شعبي تتناقله الألسن أولاً ليسجل أحداثاً تاريخية حقيقية حصلت في هذا العالم بغض النظر عن مدى الهالة السحرية و عن تلاوين المبالغات التي تؤطر بها تلك الأحداث . و الغرض الإبتدائي من هذا النوع من الملاحم هو تخليد الشعوب للبطولات الفذة لأبنائها عبر التاريخ . أما النوع الثاني ، فلا يمكن أن يخدم كسجل تاريخي لكونه نتاجاً ذاتياً لعملية إعادة الخلق الفني من ذهن الكاتب لغرض أدبي ما بقصد عرض عالم جديد متخيل ، و ليس التسجيل لوقائع تاريخية معاد بناؤها . من أمثلة النوع الاول ذلك الجزء من ملحمة گلـگـامش الذي يسجل وقائع الحملة العسكرية لـگلـگـامش و أنكيدو على بلاد الشام ؛ و كذلك ملحمة " الإلياذة " لهوميروس و التي تسجل جزءً من حوادث السنة الأخيرة من حصار الآخيين لطروادة ؛ و مثلها قصة " قدموس " اليونانية موضوع هذه الورقة . أما النوع الثاني ، فيتمثل بملحمة " الإنيادة " لفرجيل ، و " الكوميديا الإلهية " لدانتي ، أو " الفردوس المفقود " لملتن .
سأبدأ أولاً بإيراد نص أسطورة " قدموس " مترجماً من كتاب " رجال و آلهة " للشاعر الإنكليزي "ركس وورنر" و الصادر عام 1967 ضمن مجموعة " نيو وِنْدمِلْ "لمُحَرِرَيها " آن و إيَنْ سيريلير" . يليه التحليل .
أولاً / أسطورة قدموس
" كان " قدموس " أميراً لصيدا ، و له شقيقة آسرة الجمال إسمها " أوروبا " ، هام الإله " جوبيتر" في هواها ، فحوّل نفسه إلى ثور أبيض طاغي التحبب ، و أختطف الفتاة ، ناقلاً إياها من الساحل الفينيقي إلى حقول جزيرة كريت . و لكن أباها الملك " أجينور " – الذي لم تكن لديه أدنى فكرة عما حصل لإبنته و قرّة عينه أوروبا – أمر إبنه قدموس بالسفر للبحث عن شقيقته المفقودة في شتى أنحاء العالم ، و هدد بمعاقبته بالنفي مدى الحياة إن هو لم يفلح في العثور عليها . و مع أن هذا القرار كان إجراءً ضرورياً من جانب الملك أجينور ، و لكنه كان مستحيل التحقيق ، إذ لم يكن بمقدور أي إنسان ملاحقة الإله جوبيتر في خلواته مع حبيباته السريات الكثيرات .
و هكذا ، فقد جاب قدموس أرجاء المعمورة دون أن يهتدي إلى مكان شقيقته . فلما أعياه البحث غير المجدي ، آثر البقاء في المنفى على العودة إلى بلده الذي ينتظره فيه غضب أبيه . و أخيراً ، فقد قصد وحي الإله " فويبس " في " دلفي " ، و سألها أن تهديه إلى مكان يستطيع الإستقرار فيه . أجابته صاحبة قائلة : " ستلاقي ، في أرض جرداء ، بقرة فريدة لم يلبسها أحد النير على عنقها ، و لم تجر المحراث يوماً ، على خاصرتها بقعة تشبه نصف القمر . عند مشاهدتك لها ، إتبع خطواتها حتى تبلغ أول مكان تلجأ البقرة للإستراحة فيه ، فأسس مدينتك هناك ، و أطلق عليها إسم "بويوشيا" ، أي "أرض البقر "" .
بعد نزول قدموس من الكهف العائد للوحي ، شاهد بقرة صغيرة سائبة تسير ببطء ، و ليس عليها ما يدل على كونها قد استخدمت في الحراثة من قبل ، أو أنها تعود إلى أحد ما ، و على خاصرتها بقعة تشبه نصف القمر . سار قدموس متتبعاً خطواتها بحذر ، و هو يشكر في سره الإله فويبس على هديه له إلى سواء السبيل .
إجتازت البقرة شطآن نهر " سنيسز " ، و عبرت حقول " بانوبي " ، ثم توقفت عن المسير ، و رفعت رأسها الجميل الذي تزينه القرون الطويلة ، و ملأت الفضاء بخوارها . ثم التفتت إلى الخلف نحو قدموس و رجاله ، و انبطحت على الأرض موسِّدة أضلاعها على العشب لبارد . عند ذاك ، شكر قدموس الآلهة ، وقبّل تلك التربة الجديدة عليه ، و حيَّا الجبال و الحقول التي لم تكن عيناه قد شاهدتها من قبل .
كان العمل التالي هو تقديم القرابين للإله " جوبيتر " . لذا ، فقد أمر قدموس رجاله بالبحث عن عين ماء جارية ، و جلب المياه الصافية منها لإراقتها كتقدمة للإله . و كانت توجد بالقرب من ذلك المكان غابة بكر قديمة ما مستها فأس من قبل ، في وسطها كهف تحيط به الشجيرات و الأماليد المحنية من كل جانب ، و ينتهي مدخله بمجموعة من الصخور المصفوفة بهيأة قوس منخفض يخرج منه تيار مائي يدعى : " نبع آريس " . أما الكهف ، فقد كانت تسكنه أفعى تنينية مقدّسة عند إله الحرب "مارس" ، و تتميز بعرفها الذهبي الأخّاذ . كانت عيونها تقدح شرراً ، و جسدها ينتفخ بالسم ، و لها ثلاثة ألسن برّاقة ، و ثلاثة صفوف من الأنياب .
ما أن دخل رجال قدموس التعساء تلك الغابة ، حتى عمدوا إلى غطّسوا جرادلهم في التيار المائي ، مسببين تناثر الرذاذ منه ، فمدت الأفعى الزرقاء رأسها من أعماق الكهف ، و فحَّت فحيحاً رهيباً . و ما أن رآها الرجال ، حتى سقطت الجرادل من أيديهم ، و تجمدت الدماء في عروقهم ، و ارتعدت فرائصهم رعباً . أما الأفعى ، فقد إلتفت حول نفسها ، و راح جسدها الحرشفي يتدحرج متكوراً في دوائر ؛ ثم ، و بحركة سريعة مباغتة ، إنتصبت متقوسة ، و حدَّقت في الأشجار ، و الجزء الأكبر من جسدها يرتفع في الفضاء . كانت ضخمة الحجم جداً ـ بضخامة التجمع النجمي المسمى بالأفعوان – إن كنت قد شاهدته بتمامه في السماء – و الكائن بين الدب الكبير و الدب الصغير . و في الحال ، دحرت الأفعى رجال قدموس دون أن تفرق بين من أشهر سيفه للقتال ، و من كان على وشك الفرار ، أو من منعه الرعب من التفكير بأي من ذينك الخيارين . ففتكت بعدد منهم بأنيابها ، و سحقت عظام عدد آخر بالإلتفاف حولهم ، و قتلت من تبقى منهم بزفيرها السام .
عندما بلغت الشمس كبد السماء ، و أصبحت الظلال أقصر ما تكون ، إستبد القلق بقدموس ، و راح يتساءل عمّا أخر رجاله كل ذلك الوقت . ثم ما لبث أن خرج يبحث عنهم ، فحمل درعه المصنوع من جلد الأسد ، و تسلح بالرمح ذي النصل الحديدي المدبب اللامع ، و بالحربة . و لكن قلبه الشجاع كان أمضى سلاح .
و لدى دخوله الغابة ، شاهد قدموس جثث القتلى مسجاة على الأرض ، يمتد فوقها جسم الأفعى المنتصرة ، و هي تلعق بلسانها الدموي جروحهم الثخينة . عندها صمم قدموس على القتال ، و لسانه يقول : " أيها الرفاق الأوفياء ، إما أن أنتقم لموتكم ، أو أشارككم فيه ".
و فيما هو يتلفظ بتلك الكلمات ، رفع صخرة كبيرة ، و رماها على الأفعى بكل ما أوتي من قوة . و رغم أن زخم تلك الصخرة كان من شأنه إسقاط الأسوار مع بروجها ، إلا أن الأفعى لم تصب بأي اذى لأن حراشفها التي تشبه ترس الصدر و جلدها المتين صدّ عنها تلك الضربة . و لكن متانة جلدها لم تصمد أمام حربة قدموس عندما ثبتها بقوة وسط ظهرها العضلي ، غارساً رأسها الحديدي لينفذ من خلال اللحم . إستدارت الأفعى برأسها ، و قد عصف بها الألم ، لتتأمل جرحها ، فعضّت عمود الحربة ، ساحبة إياه بقوة ، حتى استطاعت إقتلاعه أخيراً . إلا أن رأس الحربة بقى مغموساً في ظهرها ، مثيراً عندها المزيد من الآلام ، مما زاد في شراستها ؛ فانتفخت أوداجها ، و بان الزبد حول فكيها المفتوحين المريعين ، و أخرجت حراشفها هسيساً مريعاً ، كما جعل زفيرها الأسود الهواء نتناً . و بعد لحظة ، إنكمشت على نفسها ، ثم انتصبت كالشجرة ، و زحفت إلى الأمام كالسيل ، مكتسحة الأشجار بصدرها .
تراجع قدموس قليلاً و هو يرفع ترس جلد الأسد أمامه ، و راح شك بسنان رمحه فكيها المفتوحين و المهددين له ، مما زاد في شراستها ، فقضمت رأسه الحديدي ، فالتصقت أسنانها به ، و أخذت الدماء تسيل من سقف فمها السام لتلوث العشب الأخضر على الأرض . لم يكن جرحها مميتاً أول الأمر لأنها تراجعت ساحبة رقبتها الجريحة كي لا تمكن قدموس من إيلاج رمحه عميقاً داخل فمها . و لكنه أفلح أخيراً في دفع الرمح بقوة في عنقها ، و استمر يضغط عليه حتى أسنده على جذع شجرة بلوط ، حيث اخترق المح رقبتها مع جذع الشجرة الذي تهاوى تحت ثقل الأفعى ، و أطَّ بفعل ضربة قاصمة من ذنب الأفعى و هي تعاني من سكرات الموت .
وقف قدموس متأملاً الكتلة الهائلة لعدوه المدحور ، فطرق سمعه فجأة صوت لم يتبين مصدره يقول : " يا ابن أجينور ، مالك تتفرج على الأفعى الميتة ؟ سيأتي الزمن الذي تتحول فيه أنت إلى أفعى ، و سيقف الناس حينها ليتفرجوا عليك ". و لدى سماعه هذه الكلمات ، إرتاع قدموس ، و بقي فترة و قد إصفرَّ وجهه ، و اضطرب عقله ، و انتصب شعره فرقاً .
فجأة ظهرت له " پالاس " ، إلهته الحامية ، و هي تنزلق في الجو ، فأشارت عليه بحراثة الأرض ، و بذر أنياب التنين فيها حيث ستنمو تلك الأنياب متحولة إلى رجال يدينون له بالولاء . إمتثل قدموس لأمرها ، فحرث لوحاً طويلاً ، ثم أخذ الأنياب - التي ستصبح بذوراَ للرجال مثلما أخبرته پالاس – و نثرها على الأرض المحروثة . ثم ، و بمعجزة تصعب على التصديق ، بدأت حافات اللوح بالإهتزاز ؛ فظهرت من الأرض ألسنة الرماح ، ثم الخوذ مع عروفها الزاهية الألوان ، ثم ظهرت على السطح أكتاف و صدور و أذرع مثقلة بالأسلحة . و هكذا فقد نبت من التراب محصول كامل من المقاتلين المدججين بالأسلحة .
و لقد إرتاع قدموس لمرعاهم ، إذ تصور أن سيتعين عليه مواجهة كل أولئك الأعداء الجدد ؛ و كاد أن يشهر سلاحه ، لولا أن صرخ به أحد الرجال الذين أنجبتهم الأرض : " دع سلاحك جانباً ، و لا تحشر نفسك بيننا ، فهذه هي حربنا نحن ، و لا شأنك لك بها ". ثم بدأ ذلك الرجل القتال بضربة وجهها إلى أحد إخوانه ، كما تلقى هو الآخر طعنة من رمح مسدد من بعيد . و لكن الرجل الذي طعنه ما لبث أن لاقى هو الآخر مصرعه بعد هنيهة . و هكذا ، فقد إشتبك الجميع في قتال ضارٍ ، و صرع كل واحد منهم جاره و أخاه الذي لم تدم صحبته له طويلاً . و لم يمض طويل وقت ، حتى أخذ معظم أولئك الشبان – الذين كانت حيواتهم قصيرة جداً – يتجرّع سكرات الموت على نفس التربة التي أنجبتهم ، و كلهم يسبح في دمائه الساخنة . فلمّا لم يبق منهم إلا خمسة رجال – كان إسم أحدهم : " إيشيون " – فقد بادر هذا الأخير إلى رمي سلاحه ، بأمر من پالاس ، و عرض السلام على الآخرين . و أخيراً إنتهى القتال ، و حصل قدموس على هؤلاء المقاتلين الخمسة كمرافقين له ، شاركوه في تأسيس المدينة التي وعدهم بها وحي فويبس . "
ثانياً / التحليل
1. الشخصيات الرئيسية و خلفياتها التاريخية
الشخصيات الرئيسة في هذه القصة – مثل التراجيديات الإغريقية – قوامها فقط الرجال العظام و الآلهة . فمن الرجال العظام ، هناك الملك الفينيقي أجينور ، و إبنه الأمير قدموس ، و شقيقته الأميرة المختطفة أوروبا . يقابل هؤلاء من الآلهة : رب الأرباب زيوس ( جوبيتر عند الرومان ) ؛ و وحي الإله فويبس ( و هو المرادف الروماني لإله الشمس الأغريقي " أپولو " ، و يقع مهبط وحيه في : " دَلْفي " ، بمقاطعة : " فوسس " إلى الشمال من خليج " كورنث " ، وسط بلاد اليونان ) ؛ و الإلهة : " پالاس " ( پالاس هو أحد أسماء إلهة الحكمة و الفن و الصناعات الأغريقية : " أثيناً " ؛ و ترادفها عند الرومان : " منيرﭭ-;-ـا " ) .
في هذه الأسطورة ، تختلط الحقائق التاريخية بالخيال الشعبي . أبطال هذه القصة اليونانية من البشر كلهم غير يوناني الأصل ، بل فينيقي . أولهم هو الملك الشهير " أجينور " ، و أسمه الفينيقي الحقيقي هو " كناس " أو " كنا " ؛ و هي الصيغة الفينيقية لإسم : " كنعان " حسبما يؤكد عالم اللغة الألماني :" فيليب كارل بتمان " . و في الإنيادة ، يسمي فرجيل " قرطاجة " بـ " مدينة أجينور " ، في حين يعتبره المؤرخ الروماني : " كوينتوس كورتيوس روفوس " المؤسس لمدينة " صيدا " ، و المخترع للأبجدية الفينيقية ( phoinikeia grammata) ؛ و هو الإختراع العبقري الذي أهداه الفينيقيون للعالم أجمع . و إستناداً إلى أبولودورس ، فإن أجينور مولود في مدينة ممفس بمصر من " بوسيدون " و " ليبيا " ؛ و له شقيق توأم إسمه " بيلوس " . هذا الأخير بقي في مصر و حكم فيها ، في حين أن أجينور إنتقل لفينيقيا ليحكم هناك .
و ثاني أولئك الأبطال هو إبنه الأمير الكنعاني-الفينيقي : " قدموس " . و إسمه الفينيقي يجمع بين الدلالة على : " القِدَم " ، و على " القادِم " ، و " المتقدّم " ، و ربما : "المقدس" ، في ضوء كونه قد أصبح بعدئذً أحد الإلهين الأرضيين المعروفين بالإسم الفينيقي " الكبيرين " ( Kaberoi ) و المعبودين بنفس الإسم في الشام و آسيا الصغرى و اليونان نفسها . و هذا الإسم مستعمل في اللغة العربية بمعنى : القَدِيمُ ، فيُقال : حَسَبٌ قُدْمُوسٌ ؛ و كذلك بمعنى : المَلِكُ الضَّخْمُ المِقحام . و يطلق نفس الإسم كناية على الصخرة أو الناقة الضخمة ، و على المرأة العظيمة ، و على مقدمة الجيش ( يُراجع مدخل مفردة : " قدمس " في كتاب العين و تاج العروس و لسان العرب .. ) . و توجد في الهلال الخصيب عدة مواقع تعرف بإسم : " القدموس " . أما إسمه عند الحثيين ، فهو " كاغامونا "( Kagamuna) ـ حسبما يرد في رسالة مكتوبة باللغة الحثية موجهة من "ملك الآخيين العظيم" إلى الملك حاتوسيلس الثاني و التي يسمي فيها الملك الآخي نفسه : " الوريث لجده قدموس " . و يعود تاريخ هذه الرسالة – التي تثبت الوجود التاريخي للملك قدموس - إلى حوالي العام 1250 ق . م . المصدر :
http://www.salimbeti.com/micenei/war.htm
تبدأ الحبكة بمشكلة إلهية يتسبب بها بالضبط رئيس مجمع الآلهة الأغريقية نفسه : " زيوس " - و أسمه الروماني " جوبيتر " – و ذلك لأن أفعال الآلهة قد خدمت البشر دوماً في إلقاء اللوم على السماء لتبرير شتى حماقاتهم و مشاكلهم الأرضية و كل الكوارث الطبيعية . و يصوّر المخيال الأغريقي زيوس إلهاً فحلاً لا يشبع من إغواء الحسناوات من البشر في شتى بقاع العالم باختطافهن و من ثم إغتصابهن ؛ و كل ذلك يحصل خلسة عن زوجته " هيرا " . و تستحضر هذه الأفعال الرغبة الأرضية - المكبوتة / الصريحة - لدى العديد من الرجال المتزوجين في خيانة زوجاتهم و شريكاتهم خلسة ( رغم أن كل الأخيرات يعرفن ذلك تماماً ، عكس أوهام رجالهن بهذا الصدد ) بالتمتع بأكبر عدد ممكن من الشابات ، لكون بعض الرجال لا يشبعون أبداً من مجامعة النساء ، بل أن هذه الرغبة تشتد عندما يبلغون من العمر أرذله ، و حتى عندما يتعذر عليهم الإنجاز الجنسي . و لهذا النهم علاقة بتطلع الذكر إلى التعويض عن الموت المحتم عبر ترك " بذوره " عند أكبر عدد من الإناث مثلما تفعل النباتات . إذن ، فعل الإغواء و الإغتصاب البشري هذا ينتقل في الأسطورة من سكان الأرض من البشر إلى السماء ، و بالعكس .
في الصياغات الأكثر تفصيلاً لهذه الأسطورة ، نجد الملك أجينور شديد التعلق بإبنته أوروبا ( لعل إسمها الحقيقي هو : " عُروبه " ) ، و لهذا فهو يرفض محاولات العديد من الخطاب طلب يدها منه . كما نجد رب الآلهة زيوس و هو يتحول إلى ثور جميل أبيض ليرعى على الساحل الفينيقي ، و يتمخطر بدلال جيئةً و ذهاباً على مقربة من أوروبا و صويحباتها بغية إغوائها و إستدراجها إليه . و تنجح خطته عندما تدفع الدهشة أوروبا و فضولها بمنظره الغريب و الساحر إلى التقرب منه ؛ فيلحس لها أناملها ، و يتقافز بفتنة أمامها . و عندما تجلب له إكليلاً من الورود لتتوِّجه به تعبيراً عن إعجابها به ، فإنه ينبطح لها ، فيغريها بركوبه . و ما أن تمتطيه ، حتى يبدأ بالعدو السريع نحو الساحل ، و من ثم يشق بها عباب البحر حتى يبلغ جزيرة كريت اليونانية .
واضح أن هذه التفاصيل إنما تستبطن في الواقع قصة حب حقيقية جرت أحداثها على الساحل اللبناني الفتّان ، مؤدّاها أن الأميرة أوروبا قد وقعت بحب بحار طاغي الوسامة يمتلك مركباً شراعياً سريعاً ، و الذي إتخذ من التمسكن أمامها سبيلاً للتمكن منها . و فعل التتويج بإكليل الورد يرمز إلى إعجابها الشديد به ، و منْحِها نفسها له بركوبه على أعشاب الشاطئ الفينيقي . و لإدراكها بأن أباها لن يسمح لها بالزواج منه مطلقاً ، فإنها تقرر الهروب مع حبيبها الوسيم من صور إلى جزيرة كريت اليونانية في مركبه الأبيض الأشرعة و السريع الإبحار بفعل إستثماره للريح القوية المؤاتية ، ليتزوجا هناك بعيداً عن إرادة والدها المتزمِّت . و لما كان هرب أوربا هذا مع حبيبها من شأنه قطعاً أن يجر الفضيحة الكبرى على الملك أجينور ، فيمرِّغ إسمه بالوحل ؛ لذا ، فقد لفقت له سادنات معابده من صويحبات أوروبا المتفهمات و المتعاطفات معها – مثل قناة " الجزيرة " الآن – قصة إختطاف زيوس رب الأرباب الوسيم لإبنة أجينور الشابة الجميلة ؛ كما تم تلفيق قصة حمل مريم العذراء بالمسيح بفعل الله للتستر بالرب ( أسميه ، فعلة : " التسترب " ) . و من المعلوم أن الرب جميل يعشق الجمال ؛ و لابد لمن تنبهر بوسامته أميرة بجمال أوروبا أن لا يتبوأ منزلة أقل من منزلة رب الأرباب زيوس . هنا يشتغل التلفيق التستربي كفعل تطهيري لآثام البشر – حسب قواعد السلوك السائدة – حال إقحام رئيس الآلهة كطرف في الحدث ؛ إذ لا يمكن – في هذه الحالة – إلقاء اللوم لا على أوروبا ، و لا على أبيها ، و لا على صويحباتها ؛ فمن ذا الذي يستطيع من البشر قهر إرادة رئيس الأرباب ؟ هذه الوظيفة التستربية للآلهة كانت و ستبقى الملاذ الديني الآمن عند من يتبع شهواته من البشر المارقين ؛ خصوصاً إذا كان من عليّة القوم ، أو من المتصدّين للزعامة ، أو من قطاع الطرق الحرامية ؛ مثلما فعل المجرم المجنون بُشْ الإبن عندما نصّب نفسه محارباً صليبياً مقدساً منقاداً لنداء الرب لتخليص الكيان الصهيوني المدجج بالأسلحة النووية من الخطر الخرافي الموهوم المسمى : ياجوج و ماجوج بقرنيهما الطينيين ، فدمر بأفتك أنواع أسلحتة الكتلوية و بأقوى جيوشه الجرارة بلداً صغيراً ضعيفاً و محاصراً و منزوع السلاح كالعراق ، مع الإصرار على إستكمال نهبه و تدميره تدميراً كاملاً بعدئذ بمساعدة أبراصه من القوّاد الكويتيين عام 2003. و حسناً فعلت أوروبا عندما استمعت لنداء قلبها ، و اختارت الهروب مع حبيبها الوسيم إلى كريت ، ليس فقط لأنها ستتوج ملكة على تلك الجزيرة ، فتلد إبنها الملك مينوس – مؤسس الحضارة المينوية المجيدة هناك – بل و أيضاً لكي تمنح إسمها الجميل لقارة أوروبا الجميلة . هنا ، رجحان عقل النساء يتخلد في التاريخ و الجغرافيا على حساب ضيق الأفق للرجال المتزمِّتين .
أما الملك الفينيقي أجينور – الذي يجد نفسه إثر هروب أبنته الأثيرة محصوراً في زاوية حرجة – فلا يجد بداً من ممارسة صلاحياته الملكية في إصدار الأوامر لإبنه قدموس للتوجه في رحلة البحث عن شقيقته ؛ و الإبن يطيع ، حسب أصول أخلاق المجتمع الأبوي . و يلاحظ أن ستراتيجية الملك أجينور في إصدار أوامره هنا هي : إما الفوز بكل شيء ، أو خسارة كل شيء ؛ و لهذا فإنه يوضّح لإبنه قدموس أن عليه إمّا تحقيق إرادة الأب بإعادة إبنته أوروبا إلى صيدا ؛ و بعكسه ، النفي . و إزاء فعلي الحب و الحرب ، لا بد لمثل هذه الستراتيجية أن تفشل فشلاً ذريعاً ، و ذلك لأن بدؤهما يسير ، في حين أن عقابيلهما معقدة و لا يمكن التكهن بها على وجه الدقة أبداً. و قرار نفي الإبن هو فعل تطهيري آخر يعزز سمعة الملك أمام شعبه ، و لكن الذي يدفع ثمنه إنما هو الأمير قدموس الذي يصبح كبش الفداء لهروب شقيقته مع حبيبها . و هذا يعني أن العروش أعز من الوِلد ؛ فخسارة الوِلد و لا خسارة العرش . و لا بد أن يُبرَّر ذلك بالمبدأ الأخلاقي العراقي القائل بأن الشرف فوق الخلف . هنا تعريف الشرف يحدده الزمكان و ليس العقل . مرّة أخرى ، تصبح إرادة الآلهة المكينة هي السبب في التّحكم بمصير الإنسان ، و بالعكس .
الستراتيجية الفاشلة للملك أجينور : إما الفوز بكل شيء أو خسارة كل شيء حفاظاً على سمعته على حساب نفي عائلته ، تُؤكدها النسخ الأخرى للأسطورة و التي تذكر أن قدموس قد اصطحب معه في بعثته أمه : " أغريوبا " ( لعله : غريبه ) ، وشقيقيه : " ثاسوس " ( الذي سميت بإسمه جزيرة ثاسوس في بحر إيجة ، مثلما سمّيت صقلية بإسم أبيه : " صقلس " ، و مثلما سميت الجزر الآيونية و بحرها بإسم : " إيو " ، و هو أبو جده لأبيه ) . و إذا ما علمنا أن قدموس قد أسّس مدينته المعروفة حتى الآن بإسم : " قدميا " ( إسمها الثاني : طيبة ) مع مقاطعة بويوشيا في تراقيا اليونانية ، يصبح من الواضح أننا هنا إزاء الوقائع التاريخية المتمثلة بهجرة جماعية للفينيقيين من لبنان إلى بلاد اليونان خلال الألف الثاني ق . م . ، حيث مَصَّروا المدن فيها ، و نقلوا إليها أبجديتهم و ديانتهم ( ومنها عبادة الآلهة الأرضية : " الكبيرون " ) و مختلف فنونهم ( و أهمها فن الحرب و الزراعة ) و آدابهم ( و بضمنها الميثولوجيا ) و صناعاتهم ( التّعدين و صنع الزجاج و البرونز خصوصاً ) ، و تقلدوا العروش . يقول أبو التاريخ هيرودوت : " ثم أن الفينيقيين - الذين ينتسب إليهم الغفرائيون ( عشيرة كانت تقيم في اليونان ) - جاؤوا بصحبة قدموس ، و جلبوا معهم أنواعاً كثيرة من الفنون و المعارف ، من بينها الكتابة التي أعتقد أن اليونانيين كانوا يجهلونها . و في البداية ، كان اليونانيون يكتبون حروفهم كما يكتبها الفينيقيون تماماً ، ثم عَمَدوا - بمرور الزمن - إلى التدرّج في تغيير كتابتهم بالترافق مع تغيير أشكال حروفهم . و كان الإيونيون يمثلون سواد من قَطَن تلك البقاع في ذلك الوقت . لذا ، فقد كانوا أول من استخدم الحروف الفينيقية ، مع تغييرات في بعض أشكال الحروف . و هكذا هي مُستخدمة اليوم ، و لا يزال من يستخدمها يطلق عليها اسم " الحروف الفينيقية " ( phoinikeia grammata) ، مثلما يفترض الإنصاف ، لأن هذا هو إسم مَنْ أدخلوا الحروف إلى اليونان أولاً " .
و يقدر هيرودوت (484-425 ق . م . ) أن قدموس قد عاش قبل زمنه بحوالي 1600 سنة ، أي حوالي عام 2050 ق . م . كما يصف هيرودوت مميزات الخط القدموسي الذي شاهده محفوراً على العديد من النصب الثلاثية في معبد " أبوللو " في مدينة قدموس : طيبة ، و التي يعود تاريخها إبن حفيد قدموس : " لايوس " .
2. رحلة البحث
و مثلما يحصل في العديد من الأساطير الأخرى ، و في كل الملاحم ، يتكرر هنا غرض : رحلة البحث (quest ) ، و هو الغرض الأدبي الذي ورثته البشرية - مثلما ورثت كل الآلهة و فن الكتابة و العجلة و الزراعة و التنور و النظام الستيني ووو - من الحضارة السومرية المجيدة بأساطيرها و ملاحمها ، و منها : ملحمة گلـگـامش . هذه الملحمة – الأقدم في العالم – هي التي دشنت في الآداب العالمية غرض " رحلة البحث " : مرة للبحث عن غابة الأرز و جلب الأخشاب المقدسة منها ؛ و أخرى عن الخلود . و كل رحلات البحث هذه إنما تستبطن توق الإنسان للاكتشاف و اكتساب الخبرة ، و لمعرفة المجهول ، و للاستحواذ ، و للاسترداد . كما تتكرر في تضاعيف رحلات البحث هذه الصراعات مع الوحوش و التنانين . هنا ، البطل التاريخي غالباً إما أن يتلقى أمراً ، أو أنه يندفع شخصياً لتحقيق هدف محدد بالذات من رحلة البحث ، و من ثم العودة . فإذا كان الهدف المرجو تحقيقه من رحلة البحث – و التي عادة ما تكون إلى مكان بعيد غريب و محفوف بالمخاطر – نبيلاً أو وجيهاً أو مشروعاً أو ضرورياً ، فإنه سيستحق التعاطف الشعبي ، و سيتحول المرتحل إلى بطل شعبي مجيد في حالة نجاحه في تحقيق هدفه ، مثل رحلة گلـگـامش و أنكيدو إلى أرض الحياة ( سوريا- لبنان ) لقتل الوحش خمبابا و جلب أخشاب الأرز لأوروك . أما في حالة الموت دون ذلك ، فسيصبح الضحية شهيداً فوق البطولة ، مثل استشهاد الإمام الحسين في كربلاء . أما في حالة الفشل – مثلما هي الحال في بحث گلـگـامش عن الخلود أو بحث قدموس عن شقيقته أوروبا - فإننا نكبر على الأقل محاولته ، و نبقى متعاطفين معه لنبل قضيته . أما إذا كان الهدف من رحلة البحث أنانياً ، فستتحول وقائعها إلى تاريخ موشوم بالعار ، بغض النظر عن طبيعة النتائج المتحققة . هذا يعني أن رحلة البحث تتحول في النهاية إلى رمز في الذاكرة الجماعية للشعوب . و لما كانت كل الشعوب تبحث عن رموز مجيدة تتباهى بها ، لذا نجد أن فولكلور كل الشعوب و الأقوام و الأديان يتضمن ملاحم تاريخية و قصصاً للبطولة و عصراً بطولياً يمكن أن يكون محتواه من الوقائع و التاريخ هو أدنى من الخيال و المبالغة .
يتبع ، لطفاً .



#حسين_علوان_حسين (هاشتاغ)       Hussain_Alwan_Hussain#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كارل ماركس و بيرتراند رَسْل / 3
- كارل ماركس و بيرتراند رَسْل / 2
- كارل ماركس و بيرتراند رَسْل / 1
- هيجل و رَسْل : الأسد يُعرف من فكيه
- عودة إلى خرافات يعقوب إبراهامي بشأن قوانين الديالكتيك / 2 و ...
- حكاية الطَّبْر و الهَبْر
- الفتى صالح و السبحة الكهرب
- عودة إلى خرافات يعقوب إبراهامي بشأن قوانين الديالكتيك /1
- الحمار و عبد الكريم
- قوانين الديالكتيك و ظواهر فيزياء علم الكم / 7 - الأخيرة
- قوانين الديالكتيك و ظواهر فيزياء علم الكم / 6
- قوانين الديالكتيك و تخريفات أبراهامي بصدد عدم وجود الصراع دا ...
- قوانين الديالكتيك و تخريفات أبراهامي بصدد عدم وجود الصراع دا ...
- ألحمار المناضل
- طبيعة قوانين الديالكتيك و طريقة إستنباطها و فحصها و علاقتها ...
- قصة البغل المتهوِّر
- قصة العيد
- رفسة إسطنبول
- تخريفات إبراهامي و التشكيك بصدد طبيعة الصراع و قوانين الديال ...
- تخريفات إبراهامي و التشكيك بصدد طبيعة الصراع و قوانين الديال ...


المزيد.....




- وفاة الفنان المصري الكبير صلاح السعدني
- -نظرة إلى المستقبل-.. مشاركة روسية لافتة في مهرجان -بكين- ال ...
- فادي جودة شاعر فلسطيني أمريكي يفوز بجائزة جاكسون الشعرية لهذ ...
- انتهى قبل أن يبدأ.. كوينتن تارانتينو يتخلى عن فيلم -الناقد ا ...
- صورة فلسطينية تحتضن جثمان قريبتها في غزة تفوز بجائزة -مؤسسة ...
- الجزيرة للدراسات يخصص تقريره السنوي لرصد وتحليل تداعيات -طوف ...
- حصريا.. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 المبارك وجميع القنوات ال ...
- الجامعة الأمريكية بالقاهرة تطلق مهرجانها الثقافي الأول
- الأسبوع المقبل.. الجامعة العربية تستضيف الجلسة الافتتاحية لم ...
- الأربعاء الأحمر -عودة الروح وبث الحياة


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حسين علوان حسين - قصة قدموس مثالاً للملحمة التاريخية / 1