أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم - منوبي غبّاش - لاهوت التحرير في امريكا اللاتينية















المزيد.....


لاهوت التحرير في امريكا اللاتينية


منوبي غبّاش

الحوار المتمدن-العدد: 4360 - 2014 / 2 / 9 - 23:57
المحور: اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم
    


إن ما يعطي لمشروع مجتمعي بأبعاده الإجتماعية والإقتصادية والسياسية والثقافية قيمته وما يجعله قابلا للتحقيق هو حامله الإجتماعي أي الطبقات والفئات والشرائح الإجتماعية المختلفة التي تتبنّاه وتتماهى معه فترى فيه السبيل الوحيد المؤدّي إلى تحقيق تطلعاتها نحو الحرية والعدالة والمساواة والرفاه. ولا شكّ أنّ مشروعا يراهن على تغيير البُنى الذهنيّة والإجتماعيّة والإقتصاديّة يحتاج بالإضافة إلى الحامل الجماهيري الى نخبة من المثقّفين (مفكّرون. سياسيّون. ناشطون اجتماعيّون. رجال دين. فنّانون...الخ) يبلورون ملامحه ويساعدون الجماهير العريضة على استملاكه والإنخراط في العمل الجماعي من أجل تحقيقه. لعلّ أبرز مثال على المشروع الكبير الذي يمكن أن تحمله طبقات وشرائح اجتماعية مختلفة أوضاعها ومتباعدة مستويات إدراكها ومتنافرة مصالحها المادية هو مشروع التحرّر الوطني في المجتمعات الرازحة تحت الإستعمار العسكري الاستيطاني. وبعد التخلص من الاستعمار الاستيطاني تبيّن أن الاستقلال الوطني الحقيقي لم يتحقّق. فبانتهاء الحقبة الكولونيالية اكتشفت مجتمعات ما يسمّى العالم النامي أو بالأحرى نُخَبها المتنوّرة أنها ما تزال خاضعة للهيمنة الإمبريالية في ظل قيادات سياسية وطنية ولكن من دون مشروع وطني. وهكذا طرح مشروع التحرّر والإستقلال من جديد ووفق رؤية جديدة أخذت في الإعتبار التحوّلات الإجتماعية العميقة في المجتمع وكذلك تغيّر البني الذهنية بسبب انتشار التعليم ونموّ الطبقة الوسطى والإنفتاح الثقافي على العالم(ينطبق هذا على تونس كنموذج خاص). يمكننا أن نطلق على هذا المشروع بناء المجتمع المدني الديمقراطي الحديث . كيف يمكن تحقيق هذا الهدف. بناء هذا المجتمع المنشود؟
إن فكرة الطبقة الرائدة في النضال والجديرة بقيادة المجتمع. بحكم موقعها الطبقي أي موقعها في مجال صراع المصالح. لم تعد مقنعة ولا قابلة للتبرير. وإذا كانت الطبقة العاملة احتلّت. في زمن ما. هذه المكانة فقد كان ذلك لاعتبارات واقتصادية وثقافية في مجتمعات بعينها ونحن نعرف جيّدا أن الثورة الإشتراكية في روسيا لم تقم بها الطبقة العاملة رغم دقّة تحليلات لينين وأنّ الثورة الصينية كان عمادها طبقة الفلاحين بالأساس التي تحالفت مع طبقات وشرائح اجتماعية أخرى.
اليوم في عصر ما بعد الكولونيالية أو عصر العولمة كما يقال لم تعد مفاهيم مثل الطبقة الطليعية أو الرائدة والحزب القائد تفيد كثيرا في توصيف الواقع ولا في رسم طرق العمل من أجل التغيير. ولعل فكرة "تحالف قوى الشعب" التي ظهرت في الماضي تبدو أكثر راهنيّة. إن فكرة العدالة الإجتماعية يمكن أن تكون إطارا جامعًا ومُجمِّعًا للقوى ومحرّكا للفعل الجماعي المشترك من أجل بناء الدولة الحديثة التي تتساند فيها الحريّات الفردية مع العدالة الإجتماعية. إن الأمر هنا لا يتعلّق باستراتيجيا سياسية قائمة على التحالف الموضوعي نتيجة لالتقاء مصالح فئات وشرائح اجتماعية بل يتعلّق بتوجه. بمشروع ثقافي عام يراهن على تغيير الأوضاع جذريّا. في هذا الإطار. إطار المشترك Le commun تكتسب تجربة التحالف قيمتها وتَتَحدّد جدواها. وبما أن الدين في مجتمعاتنا ينتمى إلى المشترك بل يكاد يكون هو المشترك الأساسي فيجب إيلاؤه الأهمية التي يستحق.

لقد اقترن الدين بالسلطة اقتران الآلة بمستعملها واقتران التابع بالمتبوع والرئيس بالمرؤوس وليس ذلك بغريب إذ إن الدين يعتبر المنظومة المعيارية الأكثر والأسهل توظيفا في المستوى السياسي والإيديولوجي. تسعى كل سلطة في كل عصر إلى استعمال الدين كإيديولوجيا أي كسلطة رمزية روحية رديفة للسلطة السياسية. ولئن كان الفصل بين السلطة الروحية والسلطة الزمنية أمرا حديثا ارتبط بنقد الحكم المطلق في أوروبا في القرن السابع عشر على وجه الخصوص. فإن مجتمعات كثيرة اليوم لم تحسم مسألة الفصل بين الروحي والزمني في مستوى تنظيم المجتمع وإدارة الدولة حيث الحاكم زعيم روحي أو يستمد مشروعية حكمه من الدين أو من ادعائه رعاية مصالح المؤمنين. ولكن دور التبرير التسويغ لا يجب أن يغيّب عنا دورا آخر للدين. لعله أكثر أهمية. هو الدور التحريري الذي اتخذ أشكالا مختلفة حسب خصوصية المجتمعات والثقافات مثل مناهضة الحكام الجائرين ووعظ السلاطين ومقاومة الغزو الأجنبيّ والمشاركة في الحركات التحريرية المعاصرة. في هذا السياق يبرز لاهوت التحرير في أمريكا اللاتينية الذي عرف أوجه في السبعينات من القرن العشرين كدليل على إمكانية تحول الدين من إيديولوجيا تبريرية في خدمة الطبقات المهيمنة والفئات الحاكمة إلى طاقة روحية لتحرير الجماهير من الهيمنة السياسية والإستغلال الإقتصادي.
إن تجربة لاهوت التحرير اللاتينيّة يمكن أن تكون مصدرا لاستلهام إمكانيات واسعة للنضال السياسي والإجتماعي بالنسبة لنا نحن التونسيون وللشعوب العربية بصفة عامة. لقد بيّنت هذه التجربة أن التحالف بين القوى والحركات السياسية والإجتماعية متعدّدة المشارب على قاعدة النضال من أجل تكريس الحقوق الإقتصادية والإجتماعية والثقافية لا من منطلق إيديولوجي صرف هو أمر ممكن. ومن أبرز ملامح هذه التجربة الثورية. التي أدّت بطريقة ما إلى ما تعيشه دول أمريكا اللاتينيّة اليوم من تجارب ديمقراطية اجتماعية تحاول الخروج على منوال الديمقراطية الليبرالية. هو تحقّقُ تناغمٍ بل تزاوجٍ على صعيد البحث النظري والممارسة النضالية بين الماركسية واللاهوت الجديد. لقد وَجَد لاهوت التحرير في الفكر الماركسي أداة ناجعة لتحليل الواقع وقوّة نظرية دافعة للتغيير الإجتماعي. أداة تزداد فعالية عندما تقترن بالطاقة الروحية المُميّزة للكاثوليكية.
إن تجربة التحالف بين لاهوت التحرير والحركات والأحزاب السياسية الماركسية يمكن أن يبيّن لنا أن التحصّن في قوقعة الإيديولوجيا من شأنه أن يهدر إمكانيّات كبيرة للنضال المشترك مع فاعلين اجتماعيين وسياسيين مختلِفيّ المشارب ولكن يشتركون في نفس الوجهة أي إنه بالإمكان الإلتقاء معهم في الأهداف الإستراتيجية الكبرى: التخلص من الديكتاتورية أو بناء ديمقراطية حقيقية تتناغم فيها الحريّات والعدالة الإجتماعية.
إن ارتباط حركات تحررية بفكر لاهوتي أو بنزعة لاهوتية ليس أمرا جديدا وليست تجربة لاهوت التحرير هي التجربة الوحيدة في هذا السياق فلقد وثّق لنا المؤرخون نماذج من المقاومة الشعبية للظلم الاجتماعي والاستبداد السياسي في عصور مختلفة وفي ظل حضارات مختلفة. ويكفي أن نذكر على سبيل المثال جمهورية اليسوعيين في الباراغواي التي ازدهرت في القرن الثامن عشر وقبلها تجربة رجل الدين المسيحي الثائر لاس كازاس Las Casas Fray Bartolomé deالذي قاوم الاستعمار الإسباني في أمريكا اللاتينية وانتصر للعبيد والسكان الأصليين. وفي التاريخ الإسلامي يمكن أن نذكر ثورة الزنج في القرن الثالث للهجرة.) تتحدث كتب التاريخ عن ثورتين ارتبطت بالزنج. الأولى قامت في عهد عبد الملك بن مروان بزعامة المختار بن أبي عبيد الثقفي باسم محمد بن الحنفيّة بن علي بن ابي طالبمؤسس مذهب الشيعة الكيسانيّة. واما ثورة الزنج الثانية وهي الأشهر فقد اندلعت في العراق سنة 255 هجري بزعامة رجل زنجي يدعى علي بن محمد. "بدأت الثورة بتحريض الزنوج على الهرب من الضياع وانضمامهم لحركته كشرط أوّليّ لتحريرهم مبّررا مشروعية ذلك ببضع آيات من القرآن الكريم.فانضمّ اليه عشرات الآلاف وحاول الإقطاعيّون إرشائه بدفع خمسة دنانير عن كل عبدٍ نظير ردّه الى عمله فرفض العرض وقضى على بعضهم وسمح لعبيدهم بضربهم بالسياط. تمكن علي بن محمّد المعروف بصاحب الزنج من تأسيس مدينة صغيرة اطلق عليها اسم "المختارة" التي أصبحت موئلا لجميع المهمشين من سائر أرجاء العراق. ثم كوّن من أتباعه جيشا ضخما استطاع بواسطته الاستيلاء على الكثير من مدن العراق وخوزستان والبحرين كما هدّد السفن في الخليج واستولى على الكثير منها. رفعت الثورة شعارات ذات طابع اسلامي عام وليس مذهبيّا مثل: "إنما المؤمنون إخوة" و"شر الناس من أكل وحده ومنع رفده وضرب عبده". قتل صاحب الزنج سنة 270 هجري فخمدت بموته الثورة. انظر: محمود اسماعيل. تاريخ الثورات المنسية. جريدة اخبار الأدب. العدد 544 . ديسمبر 2003).
لعل الطريف في تجربة التحالف بين اللاّهوتيين والعلمانيين في أمريكا اللاتينيّة لمواجهة الإستعمار والهيمنة الإمبريالية هو التكامل بين الروحي والزمني. بين التجربة الروحية والتجربة السياسية. ويمكن القول إن التجربة بيّنت إمكانية تحوّل التجربة السياسية إلى تجربة روحية. أليست السياسة هي في جوهرها أخلاق أي تدبير المدينة والدولة وفق قيم أخلاقية كونية؟ لا شك أن الطرفين المتحالفين في المقاومة أي رجال الدين (رهبان وقساوسة وأساقفة وكاردينالات) والمناضلون اليساريّون يشتركان في تصورهما للدين وللسياسة والمقاومة. فبالنسبة للاهوتيّي التحرير حقيقة اللاهوت الإيمانية تتمثّل في الإنحياز إلى الفقراء ورفض كل أشكال الظلم الإجتماعي. اللاهوت في نظرهم ليس مجرّد حقائق قطعيّة ولازمنيّة بل هو فكر ديناميكيّ يهتم بالوجود الإنساني ولكن من منظور إلهي وبالتالي فهو لا يُهمِل الأشكال المختلفة للمعرفة وللتجارب الإنسانية ومن هنا كان انفتاحه على الماركسية والفكر الإشتراكي الذي رأى بعض اللاهوتيّين أنه يفتح أفقا لتحرّر شعوب أمريكا اللاتينيّة وإقامة أنظمة عادلة. هؤلاء اللاهوتيّون يُعرّفون الخلاص مثلا بأنه لا يتعلّق بالفرد وليس له دلالة أُخرويّة (اسكاتولوجيّة) فقط بل بكونه خلاصا جماعيّا الآن وهنا أي أنه يتمثّل في التحرّر الفعلي من الهيمنة والقهر والإستبداد والحرمان. ( القس أندري زكي اسطفانوس. الدور التجديدي للمسيحيين العرب. حوار العرب.السنة الأولى.عدد 7. حزيران-يونيو. 2005).
تميّز لاهوت التحرير في أمريكا اللاتينيّة عن اللاهوت الأوروبي الذي كان محافظا ورافضا للتوجه الجديد الذي اتبعه لاهوتيّو أمريكا اللاتينيّة على المستوى النظري (الصياغات الجديدة التى أعطيت للمفاهيم المقولات المسيحية كالخطيئة والخلاص ورسالة الكنيسة...إلخ) وعلى المستوى العملي (الإنخراط في النضال السياسي والإنضمام لأحزاب وحركات سياسية مناهضة للدكتاتورية وللرأسمالية). لقد كان سينودس Synodus - Synode)) الكنيسة الكاثوليكية عام 1974 مناسبة ظهر فيها التباين الكبير بين لاهوت التحرير واللاّهوت المحافظ المهتمّ بشكل أساسي بوحدة الكنيسة والمتمسّك بالتعليم العقائدي والرافض للماركسيّة كمنهجية للتحليل وكمضمون إيديولوجي.
يعود مصطلح لاهوت التحرير Théologie de libération الى الراهب غوتيرّيز G.Guterrz الذي عرض خلال اجتماع إكليريكي في شمبوت Chimbote بالبيرو سنة 1968 تصوّره لللاهوت الجديد وسيكون ذلك العرض موضوع كتاب نشر سنة 1971 ويحمل نفس العنوان. وفي نفس السياق نُشر في نفس السنة كتاب آخر للأب الفرنسسكاني ليوناردو بوف يحمل عنوان يسوع المسيح المُحرّر: دراسة نقديّة لعلم المسيح .
إنّ المبدأ الأساسي للاهوت التحرير هو أن «يكون التوجّه الإيماني توجّها من أجل العدالة»( وليم سيدهم اليسوعي. لاهوت التحرير في أمريكا اللاتينيّة. دار المشرق. بيروت. 1993 .ص.59-60). والبحث في المسيح يجب أن ينطلق من صفته الإنسانيّة ومن وضعه البشري وتضامنه مع الفقراء. في تصوّر غوتيرّيز على سبيل المثال يتحقّق مشروع التحرير على مراحل:
-التحرير الإقتصادي والإجتماعي عن طريق تغيير الأوضاع الإقتصادية والإجتماعية من أجل تحقيق مصالح جميع الطبقات وفق مبدأ العدالة.
–حصول الفقراء على الحريّات الأساسية ومشاركتهم الفعلية في الحياة الإجتماعية والسياسية.
-تحقّق الأخوّة الإنسانيّة القائمة على الإيمان المشترك(هي فكرة مشتركة بين اليوطوبيات المختلفة دينية كانت أو لائكيّة تلك التي تقول بالأخوّة الإنسانية ووحدة البشرية).
لقد تضمّن كتاب ليوناردو بوف يسوع المحرّر المسائل الأساسية في لاهوت التحرير ويمكن القول إنه احتوى على الأسس النظرية للاهوت الجديد وبرنامجه السياسي:
1) أولوية علم الإنسان على علم الكنيسة لأن الأخير يتطلّب. ليتحقّق الهدف من ورائه. تحرير الإنسان الأمريكي اللاتيني من الإستعباد والإستغلال بواسطة العلم والمعرفة التي مكّنت المستعمر والمستبدّ كلاهما من الهيمنة.
2) أولويّة اليوطوبي الخيالي على الواقعي وذلك لأن اليوطوبيا تعني الأمل والرجاء. الأمل في إيجاد عالم بديل خال من الظلم والإستغلال جدير بالإنسان.
3) أولويّة النقد على العقيدة أي تغيير توجّه المؤسّسات الكنسيّة من تبعيّتها للسلطة السياسية القائمة لكي تصبح. انطلاقا من فهمٍ جديدٍ ومتطوّر للإنجيل. أداة تحرّر.
4) أولويّة الإجتماعي على الشخصي: أي التأكيد على الطابع الجماعي والمشترك للخلاص المفهوم بالمعنى الدنيوي في مقابل الخلاص الأخرويّ الذي يركّز عليه اللاهوت التقليدي. إن المبادئ التي ذكرناها تبيّن مدى انفتاح اللاهوت الجديد على الفكر الفلسفي السياسي الحديث وبالتالي لا يستغرب الإلتقاء بين التوجهين. الديني واللائيكي. وهما يشتركان في نزعة نقديّة وتحرّرية.
من أبرز أعلام لاهوت التحرير في أمريكا اللاتينية بالإضافة الى تورّيز هناك غونزالو أرّيو Gonzalo Arroyo (ولد في التشيلي كان نفي إلى فرنسا بعد قيام الديكتاتورية) و دومنغو لايين Domingo Layen (كاهن اسباني ولد عام 1943 في سراغوزا. انتمي الى الحركة العمالية في كولومبيا وانضمّ لجيش التحرير الكولومبي عام 1970) و دوم هلدر كامارا Dom Helder Camara وهو رئيس أساقفة ريسيف في البرازيل. عرف باسم أسقف الفقراء وكان من الذين شجعوا قيام حكومة اشتراكية في امريكا اللاتينية وعرف عنه قوله إن احتجاجات الفقراء هي صوت الله .
لم يكتف لاهوت التحرير بالعمل في مجال الدعوة الى التمسّك بتعاليم الكنيسة بل إن الكثير من ممثّليه انخرطوا في النضال الفعلي وحتى في المقاومة المسلحة مثل الأب كاميليو تورّاس الذي انضمّ الى جبهة التحرير الوطني الصاندينية في نيكاراغوا بهدف إسقاط ديكتاتورية سوموزا المدعومة من الغرب ومن امريكا بشكل خاص. في عام 1965 وعلى خطى الأب كاميليو تورّاس انخرط عدد من الشبان المسيحيين في المقاومة المسلحة في صفوف الجبهة الصاندينية. لقد كانوا يعتقدون أنهم بعملهم ذاك يجسّدون تجربة السيد المسيح. نصير الفقراء. حتى أن بعض الأغنيات التي كانت تُردّد في الجبهة تصف المسيح بأنه الرفيق يسوع الإنساني والعامل.
(Jean Ziegler, Contre l’ordre du monde : les rebelles, É-;-ditions du Seuil, Paris, 1983, p.131)
بعد انتصار الثوار الصاندينيين أصبح الراهب اليسوعي ارنستو كاردونال عد انتصار الثوار الصاندينيين أصبح الراهب اليسوعي ارنستو كاردونال Ernesto Cardenal وزيرا للثقافة في حكومة نيكاراغوا الجديدة ولما طلبت السلطة البابوية ممثّلة في البابا يوحنا بولس الثاني من الرهبان والآباء اليسوعيين الإنسحاب منها رفض كاردونال ذلك.( Ibid., p.134)
لقد كان انخراط لاهوتيو التحرير في المقاومة الفكرية وفي المقاومة المسلحة تجسيدا فعليّا لتصوّرهم لللاهوت الجديد الذي لا ينبغي في نظرهم أن ينحصر دوره في تمجيد الرب ورفض العنف وانتظار الخلاص الأخرويّ. نعم لتمجيد الربّ ولكن من خلال الفعل الثوري إن اقتضى الأمر ذلك. هذا بالضبط ما قاله ارنستو كاردونال دارس الفلسفة والشاعر: «من يناضلون ويموتون ليوفّروا الخبز للجائعين واللباس للعراة ويعلّموا الأميّين هم المسيحيّون الحقيقيّون» (Ibid., p.132 ). لقد عملت الكنسية الكاثوليكية على مواجهة لاهوت التحرير كفكر وممارسة وذلك بتأكيدها على التناقض الجذري بين المسيحية والتحليل الماركسي وإبراز الماركسية كنزعة إلحادية من شأنها أن تنسف فكرة الإيمان وتهدّد الأخوّة المسيحية. يمكن أن نذكر هنا على سبيل المثال سينودس الأساقفة الكاثوليك المنعقد في روما سنة 1971 الذي حرّم على رجال الدين ممارسة السياسة. ولكن زعماء لاهوت التحرير المجتمعين في الأسكوريال سنة 1972 ردّوا على ذلك بتأكيدهم التوجه المسيحي الإشتراكي للحركة اللاهوتية الجديدة. الحركة التي تسعى إلى تجذير الوظيفة التحريرية لللاهوت باعتباره يقوم على مبدأ أساسي يتمثّل في أن الشعب هو الحامل الأصلي للاهوت وبالتالي يجب أن يكون اللاهوت صوت الشعب.( وليم سيدهم . لاهوت التحرير في أمريكا اللاتينيّة. ص. 56)
انتشر لاهوت انتشارا واسعا في امريكا اللاتينية خلال الستينات والسبعينات بشكل خاص وأصبح يمثّل بديلا فعليا للكنيسة التقليدية التي وقفت خلال كل تاريخها إلى جانب القوى المهيمنة والسلطات الزمنية المتنفّذة. في تلك الفترة ظهرت كتب ومقالات كثيرة تهدف إلى ترسيخ التوجّه الراديكالي للاهوت التحرير مثل كتاب جون سوبرينو J. Sobrino الصادر سنة 1982 والذي يحمل عنوانا ذي دلالة هو يسوع أمريكا اللاتينية . تجاوز إشعاع اللاهوت الجديد حدود أمريكا اللاتينية حتى انه عقد في تنزانيا (دار السلام) سنة 1977 مؤتمر لاهوتي أدّى إلى إنشاء ما سمّي الجمعية المسكونيّة للاهوتيي العالم الثالث وكان الهدف من ورائه البحث في العناصر المشتركة التي يمكن أن توحّد جهود اللاهوتيّين المنتمين للعالم الثالث وتساعدهم على الكفاح من أجل التحرّر من كل أشكال الظلم .
كرد على الهجوم الذي قامت به السطات البابوية على لاهوت التحرير واتهام ممثّليه بأنهم يعملون على تحويل الدين المسيحي الى إيديولوجيا ثورية متعارضة مع جوهر المسيحية كان لا بدّ من توضيح العلاقة بين مشروع لاهوت التحرير والماركسية. في كانون الأول ديسمبر ظهرت وثيقة هامة تتمثّل في رسالة وجّهها الأب بدرو أروبيه Pedro Arobe إلى رؤساء الأقاليم اليسوعية في أمريكا اللاتينية حدّد فيها موقف الرهبانية من قضية منهجية التحليل الماركسي المستخدمة من قبل لاهوتيّي التحرير. ويمكن اختصار مضمون الرسالة في النقاط التالية:
- كل مشروع لتحرير الإنسان يتّفق مع المشروع المسيحي.
- التنديد بالتحليلات الإجتماعية الليبرالية وتصوّراتها الماديّة التي لا تقل خطورة عن الماديّة الجدليّة باعتبارهما يتعارضان مع روح المسيحية.
- التمسّك بموقف الحوار والتعاون مع الماركسيّين دون التخلّي عن الهويّة الكهنوتيّة.
- رفض التلاعب بهذا الموقف من التحليل الماركسي بهدف تشويه مشروع لاهوت التحرير.( نفس المرجع. ص ص. 69-70 )
لئن عرف لاهوت التحرير انتشارا واسعا في النصف الثاني من القرن العشرين إلى حدود الثمانينات في أمريكا اللاتينية خاصة فإنه يبدو اليوم منحسرا ومحدود التداول في الأوساط الأكاديمية والمثقفة. ولا شكّ أن التحوّلات الكبرى التي عرفها العالم خاصة سقوط الأنظمة الإشتراكية وعولمة الإقتصاد أدّت إلى ذلك. يبدو أن لاهوت التحرير قد أفلَ ليترك المجال للاهوت آخَر يهتمّ بالدفاع عن الحياة لا سيّما وأن التطوّر التقني وسيادة النزعة النفعية الماديّة قد أصبحت تهدّد الحياة على سطح الكوكب. ولكن دفاع لاهوت التحرير عن الحياة يعني الدفاع عن الفقراء والمهمّشين والمضطهدين والمعذّبين في الأرض. حماية الحياة والدفاع عن الإنسان كفرد ومجموعة يتطلّب تطوير المجتمع ماديّا وترقيته ثقافيّا كما يتطلب بناء دولة الرعاية الإجتماعية لا بمعنى الدولة الأبوية المهيمنة على المجتمع بل الدولة الراعية للعدالة والضامنة للحريات. هذا هو المطلب السياسي. مطلب السياسة الحق لا السياسة كمهنة.



#منوبي_غبّاش (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- النظرية الثوريّة واليوطوبيا
- الجمهور ضدّ الامبراطورية :نحو عولمة أخرى
- هل يمكن التفكير خارج نطاق الكلّي؟
- الإشتراكية والمجتمع المدني الديمقراطي
- ليبرالية سياسية أم عدالة اجتماعية


المزيد.....




- كاميرا مراقبة ترصد لحظة اختناق طفل.. شاهد رد فعل موظفة مطعم ...
- أردوغان وهنية يلتقيان في تركيا السبت.. والأول يُعلق: ما سنتح ...
- صحة غزة تعلن حصيلة جديدة لضحايا القصف الإسرائيلي
- الدفاع الروسية تكشف خسائر أوكرانيا خلال آخر أسبوع للعملية ال ...
- بعد أن قالت إن إسرائيل ترتكب إبادة جماعية في غزة.. أستاذة جا ...
- واشنطن تؤكد: لا دولة فلسطينية إلا بمفاوضات مباشرة مع إسرائيل ...
- بينس: لن أؤيد ترامب وبالتأكيد لن أصوت لبايدن (فيديو)
- أهالي رفح والنازحون إليها: نناشد العالم حماية المدنيين في أك ...
- جامعة كولومبيا تفصل ابنة النائبة الأمريكية إلهان عمر
- مجموعة السبع تستنكر -العدد غير المقبول من المدنيين- الذين قت ...


المزيد.....

- يسار 2023 .. مواجهة اليمين المتطرف والتضامن مع نضال الشعب ال ... / رشيد غويلب
- من الأوروشيوعية إلى المشاركة في الحكومات البرجوازية / دلير زنكنة
- تنازلات الراسمالية الأميركية للعمال و الفقراء بسبب وجود الإت ... / دلير زنكنة
- تنازلات الراسمالية الأميركية للعمال و الفقراء بسبب وجود الإت ... / دلير زنكنة
- عَمَّا يسمى -المنصة العالمية المناهضة للإمبريالية- و تموضعها ... / الحزب الشيوعي اليوناني
- الازمة المتعددة والتحديات التي تواجه اليسار * / رشيد غويلب
- سلافوي جيجيك، مهرج بلاط الرأسمالية / دلير زنكنة
- أبناء -ناصر- يلقنون البروفيسور الصهيوني درسا في جامعة ادنبره / سمير الأمير
- فريدريك إنجلس والعلوم الحديثة / دلير زنكنة
- فريدريك إنجلس . باحثا وثوريا / دلير زنكنة


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم - منوبي غبّاش - لاهوت التحرير في امريكا اللاتينية