أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مصطفى لغتيري - امرأة تخشى الحب - رواية- الكتاب كاملا_ دار النايا سوريا 2013















المزيد.....



امرأة تخشى الحب - رواية- الكتاب كاملا_ دار النايا سوريا 2013


مصطفى لغتيري

الحوار المتمدن-العدد: 4356 - 2014 / 2 / 5 - 14:40
المحور: الادب والفن
    







امرأة تخشى الحب





رواية







مصطفى لغتيري




-I-
-هل يمكن لمكالمة بسيطة أن تغير حياة المرء؟
دوما كنت أسمع أن حادثا بسيطا يمكنه أن يغير حياة الإنسان ويقلبها رأسا على عقب. لم أكن أصدق ذلك. فقط أعتبره نوعا من المبالغات التي يروق للناس الحديث عنها والتسلي بترويجها بينهم في أوقات فراغهم الكثيرة... في المسلسلات والأفلام والقصص والمسرحيات يمكن لذلك أن يحدث، بل من الضروري أن يحدث، فجميع الكتاب والمخرجون تقريبا يستهويهم هذا الأمر. يدبجون به كتاباتهم ويؤثثون بها أفلامهم ومسرحياتهم. أما الواقع فمختلف وعصي، من الصعب تغييره بمثل هذه البساطة. له منطقه الخاص. غالبا ما يتغير نتيجة تراكمات، أبدا لم أسع إلى تحقيقها، فمنذ زمن بعيد اخترت صاغرة أن أذعن لحياتي كما هي. هكذا أضحت تعجبني بدون مفاجآت ولا منغصات. تنساب هادئة ومطمئنة برتابة تستهويني. أعرف أنني أضيع الكثير بنهجي هذا المسلك المطمئن ، لكنه يناسبني إلى حد بعيد. كرست وقتي وجهدي للبيت. أرعى إخوتي الذين يعيشون معي تحت سقف واحد. يشعرني ذلك بسعادة لا تضاهى. أكاد أطير من الفرح ،وأنا أستقبل كذلك أخواتي البعيدات عني ضيفات في البيت.أعتني بهن وبأبنائهن، حتى بعض إخوتي الذين استقلوا عني بعد أن تزوجوا وفتحوا لهم بيوتا خاصة بهم يزورونني باستمرار، ويمنحونني الشعور بأنهم لا يستطيعون أبدا الاستغناء عني..أشعر في أعماقي بأنني خلقت لتأدية هذه المهمة. نظرات العرفان بالجميل التي ألمحها في أعين إخوتي، وتتجلى واضحة في تصرفاتهم تعوضني عن أي متعة يمكن أن أجنيها في هذه الدنيا ... ياااه ما أسعدني !! .
حين تتجرأ إحدى أخواتي – مدفوعة بالشفقة – وتفاتحني في طبيعة الحياة التي اخترتها لنفسي، مغلقة كل احتمالات تغييرها، كنت دائما أفحمها برد مقنع، فلا تعود إلى نفس الحديث إلا بعد مرور زمن طويل.
منذ أن اخترت الانفصال عن زوجي، الذي لم تجمعني به سوى سنتين كئيبتين، خلفتا في النفس مرارة لا يمكن للزمن أن يمحو أثرها، قررت أن أكرس حياتي للبيت ولإخوتي، خاصة بعد أن فارقا والداي الحياة، وتركا وراءهما هذا البيت الكبير، الذي أضحى قبلة لجميع العائلة، يقصدونه في أوقات متقاربة، حتى أنه لا يكاد يخلو من زائرين. الجميع يتنسم فيه روحي المرحومين، ويجد بين أحضانه الدفء والعناية اللتين يتوق إليهما.
على هذا المنوال استمرت حياتي.. أهتم بنفسي كربة بيت، ينتظرها زوجها كل ليلة، لتمسح عن نفسه غبار الحياة القذر والمتعب. أرتدي أجمل ما لدي من ملابس. أعتني بتسريحة شعري، وخاتم الزواج لا يفارق إصبعي، وكأنني امرأة متزوجة. أحاول باحتفاظي به أن أبعد عن طريقي أي رجل يفكر في الاقتران بي ، أو على الأقل يحدوه طمع لإقامة أي علاقة عاطفية معي. حقيقة لقد اكتفيت من الرجال. من تجربتي المريرة معهم استخلصت بأنهم لا يناسبونني، ولا يلزمونني بالمرة. فترة الزواج التي قضيتها مع زوجي السابق، خفضت توقعاتي من جنس الرجال. إنهم متعبون ومكلفون وأنانيون، المرأة بالنسبة لهم مجرد آلة جنسية لتفريغ كبتهم. لا يمنحونها أي تقدير مهما ضحت وتنازلت، وداست شخصيتها بل وتخلت عنها. أبدا لن أكرر التجربة. لقد كانت قاسية وكريهة، عانيت خلالها معاناة حقيقية، تدهورت حالتي النفسية، فأديت الثمن من صحتي الجسدية. لذا حين تخلصت من ذلك الزوج، شعرت بالانعتاق، وكأنني أولد من جديد، حتى أن والدتي أطلقت زغرودة صادحة، تعبر بها عن سعادتها بحصولي على الطلاق، الذي لم يكن الظفر به سهلا. لقد كان جميع أفراد عائلتي شاهدين على محنتي، ورغم أن أكثرهم نصحني بالصبر، إلا أنهم في آخر المطاف احترموا رغبتي وساندوني بلا تحفظ ولا زالوا يفعلون ذلك إلى اليوم. لقد أنزلوني بعض الطلاق مكانة خاصة بينهم، لم تشعرني أبدا بأي عقدة نقص أو ذنب.
معاملتي لإخوتي الذين لا يزالون يقطنون معي في البيت مميزة. أعتبر نفسي أما لهم، وهم كذلك يعاملونني بالمثل، فأشبع ذلك غريزة الأمومة، التي سأكون كاذبة إذا ادعيت أنها لم تنغص علي حياتي لفترة من الفترات ، حتى أنني كنت أتمنى لو أنني خرجت من تجربة الزواج بابن أو ابنة، غير أن ذلك كان مستحيلا، لأن التحاليل الطبية أكدت أن زوجي يعاني من العقم. في الحقيقة تعويض إخوتي كفاني، وزاد عن حاجتي، فلم يعد الأمر يؤرقني كما حدث بعيد الطلاق.
في ذلك الصباح الربيعي، كان الجود دافئا، ويبشر بطلائع الصيف التي لن تتأخر كثيرا. كان اعتدال الجو يغري بالنزهة في أي فضاء على أطراف المدينة. كنت قد فكرت أن أقترح على أبنائي / إخوني أن نستغل الفرصة لتغيير الأجواء في الضاحية أو في مدينة قريبة.
لا زال منهمكة في توضيب البيت. أتنقل بين غرفه، محاولة أن أعيد إليه الألفة، التي أفقدته إياها فوضى الليل.. فجأة رن الهاتف .. تركت ما في يدي، وتوجهت نحوه، في المكان الذي يقبع فيه، في ركن قاعة الضيوف.. أمسكت السماعة:
- ألو ..من ؟
-ألو، أهلا ماريا...
-أهلا و سهلا أستاذة، كيف حالك؟
-عرفتني من صوتي
-نعم، كيف لا أعرفك. كيف حالك؟
-أنا بخير، كيف حال أبنائك، أقصد إخوتك؟
-كلهم بخير، شكرا. أين اختفيت كل هذه المدة؟
-الحقيقة، كنت مستغرقة في انجاز عمل مسرحي .
- مسرحي؟.. أعرفك كاتبة، هل أصبحت ممثلة؟
-لا أبدا .. لقد عكف مخرج على إخراج مسرحية كتبت نصها .
-آه.. فهمت . هنيئا لك. -شكرا ..لقد اتصلت بك لأدعوك وأسرتك إلى العرض الأول.
-عن ماذا تتحدث المسرحية؟
- لا أستطيع أن أخبرك الآن.. المهم أنها تنتمي للمسرح التجريبي.
-طبعا سأكون حاضرة، وسأحاول أن أحضر معي بعض إخوتي.
-شكرا لك عزيزتي. حضوركم سيسعدني. -العفو أستاذة. هذا شرف لنا.
-أتركك الآن عزيزتي ..سأنتظرك يوم العرض.
-بالتأكيد سأكون هناك..إلى اللقاء.
- إلى اللقاء.
ليست مولعة بالعروض المسرحية أكثر المسرحيات التي شاهدتها كان ذلك عبر التلفزيون في فترات سابقة كنت أنتظر موعد بثها وأستمتع بها.. خاصة المسرحيات الكوميدية، أما اليوم، فلم يعد لي نفس الحماس لذلك، لا أدري السبب الحقيقي ولا أرغب في التفكير فيه. معلوماتي عن المسرح التجريبي ضئيلة جدا. فقط شذرات التقطتها من هنا وهناك، لا تكفي بالتأكيد لتكوين صورة واضحة عن هذا المسرح التجريبي، الذي لا أدري من أين انبثق لي فجأة، وفرض علي التفكير فيه..
أيام دراستي الجامعية كنت أعلم بتنظيم مهرجان حول المسرح التجريبي في الكلية التي أدرس فيها. لم يدفعني الفضول لمتابعة العروض المسرحية. ربما أكون قد حضرت لعرض واحد، فلم أفهمه، ولم يشدني إليه. كان الممثلون يبالغون في الحركات والإيماءات الغريبة، وينتقلون من موضوع إلى آخر، بشكل يصيب المتفرجين بالحيرة. كانت الحياة آنذاك بالنسبة لي بسيطة وواضحة، وكنت أرغب أن ينعكس ذلك على كل ما أقوم به أو أقرأه أو أشاهده. لم يدم حضوري العرض سوى فترة زمنية محدودة جدا، كانت كافية لأعلن عن عجزي الكامل عن التعاطي مع هذا النوع من المسرح. منذ تلك اللحظة اتخذت قرارا بيني وبين نفسي ، مفاده أنني لا أصلح لهذا الشيء المدعو المسرح التجريبي، وبالطبع لا يصلح هو كذلك لي.
لم استوعب الغرض منه شيئا، بدا لي ترفا فنيا، إذا استغنيت عنه لن أفقد شيئا ذا بال. ربما هو موجه إلى نخبة النخبة، أولئك الذين يفهمون في كل شيء ولا يستعصي عليهم أمر، حتى أنني شبهته بالفن التشكيلي التجريدي، الذي لم أفهم يوما لوحاته، وأستغرب حينما يدعي شخص ما أن لوحة ما أثرت فيه، وفهم معناها. كنت أعتبر ذلك نوعا من التباهي الفارغ.. لا يعني هذا الكلام أنني لا أميل إلى الفنون، بل بالعكس، أحب أن أجد نفسي في معرض للصور الفتوغرافية، أو معرض للوحات الانطباعية، خاصة تلك التي تصور الطبيعة في تجلياتها المتنوعة.. يفتنني الأدب كذلك برواياته وأشعاره. أحيا في كنف تجاربه الخيالية أجمل اللحظات وأبهاها، وكأنها جزء من حياتي، أتماهى مع الشخصيات، أسقط أحداثها الحزينة على حياتي، إنها تطلق عنان الحلم والخيال في نفسي، فأشعر بعد الانتهاء من قراءتها بأنني أفضل. أستعذب كذلك أسلوب الكتابة، فتبهرني قدرة الكتاب على استحداث تعابير جديدة وعميقة، تعبر بالضبط على الأحاسيس التي تنتابني.. أشعر وكأن الكاتب يعبر عني ، أو يعبر بلساني ، فيختلج قلبي لذلك.. للسينما كذلك نصيب من اهتمامي. في مرحلة من حياتي كنت أرتاد دور السينما بكثرة. شاهدت العديد من الأفلام إبان عرضها الأول. كنت أستمتع بذلك أيما استمتاع. حتى المسرح استولى على اهتمامي وشغفي بالفرجة، لكنني كنت أميل إلى المسرحيات الكوميدية، ولم أتصور للمسرح جمالا خارج هذا النوع، الذي يفجر القهقهات المتتالية من أعماق المتفرج. أكثر المسرحيات شاهدتها عبر التلفاز لكن ذلك لا يعني أنني لم أزر المسرح أبدا، بل كان المسرح البلدي في مركز المدينة شاهدا على ارتيادي له في فترات متباعدة، خاصة إذا تلقيت دعوة مجانية من أحد إخوتي. نعم لقد كان لي اهتمام بالمسرح كذلك. لكن أن أحضر لمشاهدة مسرحية تجريبية فذلك ما كان خارج تفكيري. لم يراودني ذلك أبدا حتى في أحلامي، وحدها علاقة أسرتي بالأستاذة رقية واحترامي الكبير لها، ما سيدفعني للاستجابة لهذه الدعوة. بمعنى أنها نوع من المجاملات الضرورية في الحياة. أفكر أن أحضر للعرض لبعض الوقت ثم أنسحب. المهم أن تلاحظ الأستاذة رقية وجودي، ثم أغادر القاعة في صمت، وأعود إلى حياتي الهادئة المطمئنة، التي بقدر ما توفر لي راحة النفس ، تجعلني أستمتع بالقناعة في الحياة، حتى أن طموحاتي لم تعد تتجاوز – في أحسن الأحوال – رؤية الفرحة تستقر في عيون أبنائي أقصد إخوتي، وأبنائهم الحاليين وأولئك الذين ستقربهم عيناي في المستقبل ..
خلال جلسات عديدة صفيت حسابي مع القدر. النتيجة التي توصلت إليها هي أن القدر خائن وغادر ولا يؤتمن جانبه. لم يمنحني ما أستحقه. أبدا لم أسئ لأحد، ولم أتسبب في الأذى لكائن من كان.
قبل الزواج كانت أحلامي بشساعة البحار والمحيطات. كنت أظن العالم هدية لي، سأستمتع بها كما أشاء. أحلامي اليوم تضاءلت حتى أضحت عصية عن التعبير عن نفسها أو تظهر لرائيها. نعم لم أحزن كثيرا بسبب ذلك. اتبعت استراتيجية فعالة في مواجهة الأمر ..خلقت السعادة مما هو متوفر لدي، واكتفيت بذلك. لم أعاند القدر في اختياره. بل تجاهلته. وتمادى بي الأمر إلى أن أصبحت أسخر منه. في أعماق نفسي كنت أردد :" أستحق أكثر من ذلك بكثير.. لكن لا بأس". كنت أكتفي بذلك ،لكنني عاهدت نفسي عهدا غليظا بأنه حين تأتي ساعة الرحيل، أقصد الموت سأبتسم للقدر ابتسامة ساخرة. ربما قد تفيدني في أن أشفي غليلي منه، وأرد له الصاع صاعين. أتصور نفسي خلال تلك اللحظة، وقد عادت لي كل قواي وصلابتي، بل استقرت كل صلابة العالم في قلبي من أجل تنفيذ مهمتي الأخيرة، بالتأكيد سيكون أفراد عائلتي محيطين بي، وهم يرمقونني بأسف وحسرة ظاهرة، وبالتأكيد ستتسرب إلى أنفسهم الحزينة بعض العبارات من قبيل " عاشت عمتي أو خالتي وحيدة، وهي لا تستحق ذلك". سأطلب منهم أن لا يشيعوا جثماني بالبكاء، وأن لا يأسفوا على رحيلي، بل أحثهم على الاستمرار في حيواتهم وكأنني لا أزال بين ظهرانيهم..أحنو على هذا، وأربت على ظهر ذاك..وأتوسط بينهم لحل مشكلاتهم الصغيرة الطارئة، وأقدم لهذه وتلك النصيحة إذا ما رغبت في شراء فستان أو هدية..
طبعا من الغريب أن أفكر في كل ذلك، وأنا لا أزال أتمتع بمسحة من شباب، وقبس من جمال، حتى أن الجميع يتنبؤون لي بحياة جديدة، يعتقودونها على وشك أن تتحقق. إنها أمانيهم التي يصدقونها، ولا يتفهمون أبدا نزوعي نحو الاكتفاء الذاتي. بل منهم من يرشح لي بين الحين والآخر عريسا جديدا على المقاس، فأرفض الخوض في أي حديث من هذا النوع. في بعض الأحيان وتحت إلحاحهم القوي، أسايرهم في لعبتهم الجميلة، ألتقي بالعريس المقترح. أقضي معه وقتا قصيرا، ثم سرعان ما أجد مبررا لقطع علاقتي به. وأعود إلى وحدتي الدافئة المنمنمة بأحلام ومتمنياتي عاقلة ومتزنة، تعرف حدودها ولا تتجاوز أبدا. أحلام تعجبني وأعض عليها بنواجذي، ولا أميل إلى التخلي عنها. إنها لا تتعدى ما هو ممكن ومتاح ، و تحميني من أن تنزلق قدماي نحو أغوار المجهول السحيقة. فقط أقوم بزيارات للعائلة بين فترة وأخرى، وأستقبل في بيتي ضيوفا، وأعتني بهم، كما أحضر لبعض الحفلات الخاصة والعامة ..ذلك يكفيني ويسعدني، ويبعث الدفء في القلب الصغير، الذي استمرأ اللعبة وتماهى معها بالشكل المطلوب. بيد أن شيئا واحدا يستفزني ويثير حنقي، إنما أحلام الليل، التي لم تطاوعني، ظلت عصية على الترويض، تفتح للنفس كوى على عالم آخر، كنت أظن جازمة بأنني انتهيت منه وطمرته في وهاد الذات العميقة، وراكمت فوقه الكثير من القناعة واليقين، حتى لا يناوش القلب والذهن مرة أخرى.
في الليل حين آوى إلى الفراش، وقد نال الجسد قسطه من الكلل المتراكم بسبب كثرة الأشغال، التي أنغمس فيها طيلة اليوم.. أتمدد على سريري لأنال جائزتي البسيطة، أنغمس تدريجيا في النوم بعد أن أتقلب في مهجعي لفترة محدودة ثم سرعان ما انتقل إلى العالم العصي على الفهم. أرى نفسي أرتدي بياضا. شعري مسبل على كتفي، ومن الأفق هناك رجل يتطلع إلي من بعيد.. أمضي نحوه مجبرة بخطى ثابتة وجلة، وفرحة في الآن ذاته.. كلما دنوت منه ابتعد. يصهل قلبي حزينا، يراودني إحساس بأن لا فائدة من المحاولة. أقف.ألتفت من حولي باحثة عن أي شيء يعيد لي توازني.. تظهر أمامي فجأة وردة عملاقة، أحاول تبين لونها، لا أستطيع. أتجاهلها، لكنني أجد نفسي مركزة عليها من جديد، فإذا بامرأة تشبهني تنبثق فجأة من عمق الوردة، تنظر إلي.. تلوح لي بيدها، أتمعن في يدها، فإذا بها تحمل كتابا، أفكر وأنا في أحضان الحلم، أحاول أن أفهم معنى لما أراه. يستعصي علي ذلك. تغادر المرأة محلقة، وكأنها نحلة امتلأت بالرحيق وغادرت نحو قفيرها. أحاول أن ألحق بها، لا أستطيع.. أجرب أن أناديها بصوت مرتفع. لكن الصوت يخذلني، لا يكاد يتجاوزني، بل لا يتجاوز حنجرتي. أشعر بحزن كبير، تنسل دموعي من محجري، أبكي.. يتملكني شوق عارم لمرافقة المرأة، أتحسر.. فجأة ينبثق الرجل، الذي رأيته سابقا، يظهر من عدم. يربت على كتفي. أندهش بحضوره، أمد يدي نحوه لأمسك به، وقد اعتورتني ارتعاشة الرغبة. لكنني لا ألمس شيئا. أنظر من حولي باحثة عنه..لا شيء.. لا شيء.. أشعر وكأنني أفقد نفسي، أضيع..أندثر، فإذا بي أهب فزعة من سريري. أركض نحو النافذة، أفتحها، أنظر نحو الشارع، في الأسفل، فأراه هناك ينتظر، يتطلع إلي بفضول..أفرح ..أخجل..أحاول أن أتوارى عن نظره.. لا أستطيع ...أصدق أنني غادرت الحلم، ,و أن الرجل الذي يستوطن عقلي الباطن قد حضر، وهو ينتظرني هناك على ناصية الشارع.. أعود إلى غرفتي ركضة أرتدي أجمل ملابسي لألتحق به. لكن ما إن أشرع في تسريح شعري ، حتى يهيمن علي الإحساس بأن ما رأيته مجرد وهم، وبأنني لم أغادر سريري البثة.. بيد أن طيف الرجل لم يفارقني، يظل مرفرفا في أجواء الغرفة، حتى أستيقظ صباحا. هذا الحلم أو شبيهه يراودني كل ليلة تقريبا باختلاف بسيط، حتى جعلني أومن بأن تحولا ما سيطال حياتي، حتى وإن تصرفت عكس ذلك.. لقد ظللت متمسكة برصانتي وتعلقي، ليس من الصواب أن أفقد طمأنينتي، وهدوء نفسي من أجل حلم يتكرر بمكر وإصرار، كلما أويت إلى فراشي.

-II-
موعد العرض المسرحي يوم السبت مساء. هاتفت أختي حسناء ، التي لا تبعد عني سكناها سوى بمسافة قصيرة. طلبت منها أن تزورني صباح ذلك اليوم. في نيتي أن أدعوها لحضور معي العرض المسرحي. لم أعتد الذهاب بمفردي لأي حفل عمومي أو خاص.
تعجبني الرفقة، وكأنني أتوسل من ذلك حماية من نوع ما. حين أكون وحيدة أشعر بأنني مستهدفة وأنا عزلاء. قد أتعرض لأي اعتداء أو تحرش. حدث لي ذلك بالفعل في المرات القليلة التي قررت فيها التواجد بمفردي في مكان معين.. علمتني التجربة أن الرفقة مفيدة في مثل هذه الأجواء، على الأقل تبعد عن المرء الإحساس بالوحدة والضيق، وتبعد عنه المتطفلين، الذين ما إن يقع بصرهم على امرأة وحيدة حتى تستيقظ في أعماق ذواتهم حاسة الإنسان البدائي الميالة إلى الصيد، ثم لا يلبثون أن ينقضوا على فرائسهم دون رحمة ولا شفقة. قد يبدو هذا الإغراق في الاحتراس من جانبي غير ذي معنى. فالنساء أو أغلبهن يسعن إلى هذا النوع من الاهتمام من طرف الرجال، حتى أنهن يخلقن الظروف لتحقيق ذلك. هل أدعي أنني مختلفة، أو غريبة الأطوار، ربما ..من يدري؟.
لكن ما أتحدث عنه ينبع عن اقتناع تام.. إنني أرفض أن أجد نفسي عرضة للتطفل أو الاقتحام. أكره ذلك.
جاءت أختي حسناء وابنتها " جيهان" في الوقت المناسب. أعرف أنها لن تفوت الفرصة للالتقاء بي، والانخراط معي في حديث بلا ضفاف ، إنه تحبني.. تناولنا وجبة الغذاء معا. تحدثنا كثيرا عن أفراد العائلة، وخاصة أولئك الذين يقطنون بعيدا عنا.
تناول الحديث الأستاذة رقية، ونشاطها الثقافي، وشخصيتها الفريدة التي تبهرنا جميعا باعتمادها الكلي على نفسها، دون أن تحتاج إلى أي شخص لترمي عليه حملها. إننا نشترك في تقدير هذه المرأة، التي يعرف الجميع مدى طيبوبتها، وحبها للناس جميعا. كل العائلة تحمل لها نفس التقدير، لذا لم أجد صعوبة في إقناع أختي بمرافقتي من أجل مشاهدة المسرحية، التي كتبت نصها الأستاذة رقية، رغم أن أختي حسناء لا تميل إلى الأنشطة الثقافية.
قبل موعد العرض بنصف ساعة تقريبا، كنا نقبع في جوف سيارة أجرة، تقطع بنا المسافة نحو المسرح وسط سيل عارم من السيارات، الشوارع كالعادة مكتظة بالمركبات بشتى أنواعها، بل تكاد تختنق بحركة السير، التي تشتد وطأتها يوم السبت مساء. وكأن الجميع اتفق- ولو بشكل ضمني – على زيارة مركز المدينة. كل منهم لهدف مختلف.
كنا أمام بوابة المسرح قبل موعد العرض بربع ساعة. الأستاذة رقية تقف هناك مهندمة بلمسة تشي بانتمائها إلى عالم الثقافة. رأيناها تستقبل الضيوف بابتسامة رحبة. تعبر عن شساعة قلبها، وفرحتها بالمسرحية التي كتبت نصها.
كان لنا نصيب من تلك الابتسامة.. حيتنا بحرارة ملحوظة، ثم أرشدتنا إلى المقاعد التي ، كانت في مكان شرفي مخصص للضيوف المهمين والمقربين.
وجدنا أنفسنا وسط عدد من المهتمين بالمسرح التجريبي، أغلبهم نقاد وممثلون وصحافيون.. تململنا في أماكننا، محاولات أن ننسجم مع هذا الوضع الجديد، الذي وجدنا أنفسنا فيه. حركتنا الرغبة في أن لا تكون نشازا وسط هذه السمفونية، التي بدا لنا أنها منسجمة الايقاع.
قبل انطلاق العرض بلحظات رأيت الأستاذة رقية تتوجه نحونا في صحبتها رجل يبدو أن علاقة متينة تجمع بينهما. الأستاذة لا تزال تحافظ على ابتسامتها اللامعة، وفي عينيها تشرق شمس الفرح متألقة. فيما كان الرجل الذي يرافقها يبدو متحفظا بعض الشيء. وكأنه يسايرها فقط في لعبتها. كانت تقدمه لمعارفها باحتفاء ظاهر. جاء الدور علينا فاتسعت ابتسامتها أكثر. فطنت إلى ما يجب القيام به. انتفضت واقفة، لكي أحيي الرجل. توقفا أمامنا أنا وأختي وابنتها، ثم خاطبته الأستاذة رقية بحماس:
- أقدم لكن مخرج المسرحية، الأستاذ شفيق حسني.
مرتكبة قدمت يدي نحو الرجل.. حييته، فيما كانت الأستاذة رقية تعرفه باسمي:
- الأستاذة ماريا.
اختطفت نظرة سريعة نحو الرجل وهو يضغط على يدي. لم أتعود الحملقة في وجوه الناس. لكن قبضته القوية وهو يحييني بحرارة جعلتني أفعل ذلك. فكرت للحظات أن تحيته بهذا الشكل طبيعية، يحيي بها جميع الضيوف. غير أنني لمست شيئا مختلفا في الطريقة التي حياني بها ، أوحت لي وكأنه يعرفني منذ زمن طويل. جاء الدور على أختي وابنتها، حياهما بطريقة عادية، مما أثار الشكوك في نفسي. لكن المفاجأة ستكبلني حين سيعود الرجل إلي، ويسألني أسئلة خاصة، أكدت لي أنه يعرفني سابقا. حاولت تذكر وجهه .. لم أفلح في ذلك. كان وجها غريبا عني. في ملامحه مسحة من ذكاء يحاول ابرازها بحركات خاصة، عيناه تمتلكان جرأة في النظر وفوق شفتيه يتمدد شارب رفيع، اعتنى بحوافه جيدا. يبدو أنني شبهت له، أوأن الرجل يلعب معي لعبة ما. أعرف أن جمالي يثير الرجال، لكنني لم أتوقع أن يحدث الأمر في هذا المكان وبهذه الطريقة. قال مستفسرا:
- كيف حالك؟ لقد مر زمن طويل لم نلتق فيه.
ارتبكت مأخوذة بجسارة الرجل. خاصة وأنني محاطة بمعارفي،...كنت قد ناضلت كثيرا لأمنحهم عني صورة ناصعة لا شائبة فيها. رددت عليه حاسمة أمري:
- يبدو أنني تشابهت لك مع امراة أخرى. لم أتشرف سابقا بمعرفتك.
أمام ذهولي أردف الرجل قائلا:
- أبدا – لا يمكنني أن أخطئ إلى هذا الحد. لقد درست معي في نفس الجامعة، وكنت أحدثك بين وقت وآخر.
انتبه الجميع إلى حديث الرجل، وخاصة الأستاذة رقية، التي ظهرت على وجهها مسحة من عدم الرضا.. ربما لم تنتظر هذه المفاجأة، فلزمت الصمت.
أختي حسناء نظرت إلى نظرة متواطئة، وكأنها تشجعني على مسايرة الرجل في تهيؤاته، أشعرني كل ذلك بالحرج، فإذا بي أتشبت بموقفي قائلة:
- لا أبدا لا أظن أنني التقيت بك...قلت ذلك وقد تحرك شيء ما في داخلي تجاه الرجل. الطريقة الجريئة التي يحدثني بها أربكتني. فحتى وإن كان يفتعل ذلك، ويختلق أمر معرفته بي السابقة، فقد بدا لي رجلا قويا، مباشرا، ومقتحما. إنه رجل مبادر ولا يتهيب من العواقب. أشعرني بنوع من الاقتحام، حرك نفسي، وبذر فيها بذرة الاهتمام. أصر الرجل على أنه يعرفني، وطفق يذكرني ببعض الأمور التي لم تعن لي شيئا. في أعماق نفسي أصررت على أنني لا أعرفه. بل إنني متأكدة من ذلك، لكن الأمر استهواني. لذت بصمت متوطئ خوفا من أن أحطم هذه اللحظة الجميلة المنفلتة، التي أصبحت فيها محط اهتمام بشكل مغاير وربما كارثي. اختلست النظر إلى عيني أختي، رأيت فيهما تلك النظرة المتواطئة لا تزال تنام في حضنهما، كانت نظرة وديعة وخجولة، ومتوسلة، وكأنها تخبرني بأنها فرصتي التي لا تعوض. أما حين اصطدمت عيناي بعيني الأستاذة رقية، فرأيت في عمقهما احتجاجا صامتا، وتحذير لا يكاد يعلن عن نفسه، لا أدري لم اتخذت هذا الموقف من محادثة تبدو بريئة، ويمكن أن تحدث في أي وقت وآن، لم أبال كثيرا بكلتا النظرتين. استمتعت للحظات بالموقف، ثم سرعان ما تخلصت من تأثيره ..عدت إلى مقعدي، ونوع من اللامبالاة أحاطني من كل جانب. أوحى ذلك للرجل بان ليس هناك ما يقال أكثر، فغادر إلى المكان الذي سيشرف منه على المسرحية والممثلين ، وقبل أن يفعل ذلك خاطبني قائلا :
- لابد أن أراك. أشكرك على حضورك لمشاهدة العرض الأول.
ما إن ودعنا الرجل، وانسحب، حتى وجدت نفسي أنشغل به.. يا لهذه النفس الغريبة التي أملكها.. لم أتوقع أن يقتحم خصوصيتي بتلك الجرأة. ورغم أنني عادة لا أحب هذا النوع من التدخل في الخصوصيات، إلا أن الأمر راقني. بررت تصرفه بكونه فنانا.. معلوم أن أهل الفن ذوو طبيعة خاصة، يبيحون لأنفسهم ما لا يباح لغيرهم، إنهم عبثيون ومنطلقون، وبلا عقد تقريبا. طبيعة عملهم تجعلهم يختلفون عن باقي الناس. لكنهم خطرون كذلك. هناك شيء ما لم أفهم كنهه، شد انتباهي إلى الرجل. بالطبع لا يتعلق بمهنته. نعم أعرف أن هؤلاء الفنانين يثيرون اهتمام الناس. تفكيري أبدا لم ينشغل بهذه الأمور السطحية والتافهة، أظن نفسي أبعد ما أكون عن الانبهاربهذا الأمر. فالمرء مهما كانت وظيفته يبقى في العمق نفس الإنسان بمحاسنه وعيوبه، لا يمكنه أبدا أن يتخلص من مزايا وعيوب المجتمع الذي يعيش فيه.. قد يضيف إلى محاسنه بعض المحاسن الطفيفة أو يتخلص من بعض العيوب، لكن السمات التي تميز الناس في مجتمعه تنطبق عليه، مهما حاول ادعاء غير ذلك.ما شدني إليه في الحقيقة عفويته.. بدا لي رجلا عفويا، يمتلك قدرا من الصدق في تصرفاته، يظهر ذلك في حركاته، وطريقة نطقه للكلمات. منذ زمن بعيد استهواني التأمل في سلوكات الجنس البشري. أحاول فهم الشخص الذي تجمعني الصدفة أو الحياة به، من خلال ما يصدر عنه من تصرفات. غالبا ما تكون أحكامي صائبة. طبعا أخطئ أحيانا، وهذا بالضبط ما حدث لي خلال زواجي. كانت هناك ظلال من الشك تراودني تجاه الرجل الذي ارتبطت به، لكن حدسي خذلني، لقد ألقى في روعي أنه رجل صالح في العمق، وأنه سرعان ما سيتجاوز بعض عيوبه التي بدت لي ظاهرة من خلال سلوكاته. كنت واثقة من قدرتي على التأثير فيه، وتغييره نحو الأفضل. غير أن التجربة أفحمتني وعلمتني درسا قاسيا، أثر في حياتي بشكل دراماتيكي. في آخر المطاف استسلمت صاغرة. وسعيت نحو الطلاق.
لم تكن لي به معرفة سابقة، تدخلت العائلة في هذا الأمر، وأذعنت لها، مدفوعة برغبة عميقة في أن أكون امرأة تقليدية بكل معنى الكلمة.. لقد ترسخ في ذهني أن مثل هذه العلاقات تنجح في الزواج.. التقيت به، ولاقى استحسانا في نفسي. ليس هناك ما يعيبه. كان رجلا يملك كل المواصفات الجسمانية التي أتمناها، وقد أغدق علي في بداية الأمر كثيرا من العطف والتفهم.. حاولت دراسته عن قرب، فكانت كل النتائج في صالحه. الأمر سيتغير بشكل مؤسف حينما انتقلت إلى بيت أسرته.. كان اتفاقنا أن نقضي هناك مدة محدودة، حتى نستطيع الاستقلال بنفسينا في بيتنا الخاص، لكن الأمر بدأ يطول، حتى أنه لم يعد إلى ذكره، بل كان يتملكه الغضب كلما فاتحته في الموضوع. علاقته بأمه أطاحت بكل ما أملك من صبر وحكمة، لقد كانت تتدخل في كل صغيرة وكبيرة، حتى أنها أصبحت تعاملني معاملة قاسية. مع الزمن وجدت نفسي مجرد خادمة في بيت أهل زوجي. وأخذت سلوكاته هو الآخر تتغير، كان شخصا ضعيف الشخصية، لا يرفض لأمه طلبا، ولا يجادلها في أمر. نظرته إلي اختلفت تدريجيا. أصبحت نظرة رتيبة، وعادية جدا. لم أعد أرى فيهما ذلك الشوق و اللهفة اللذين كانا يزينانهما في فترة الخطوبة... بعد ذلك ظهر إلى العلن جشعه. لم يعد يتحرج من أن يطلب مني أن أتوسط له عند أبي لإقراضه المال، ثم بدأ يأتيني بمشاريع لا تنتهي يبحث لها عن تمويل، ولم يتوقع هذا التمويل إلا عند أسرتي.. عرفت في فيما بعد أن عمله كان وهميا، وبأنه يعيش عالة على أسرته. كاد هذا الأمر يفقدني رشدي.. أصبت باكتئاب مزمن. حاولت أن أداري أحزاني عن أسرتي ، و أتحمل قدري ، لكن حين امتدت يده إلي ،بعد أن عاد مخمورا إلى البيت، لم أعد قادرة على الصبر. واجهت نفسي بالحقيقة المرة، التي كان من الواجب أن أواجهها قبل فوات الأوان. لقد خدعت خدعة كبرى، وعلي أن أحسم أمري وأعيد الأمور إلى نصابها. تخلصت من أوهامي، لقد كنت قد أعددت نفسي لكي أحب زوجي بعد الاقتران به. لكن الحقيقة تكشفت بوجهها البشع. لم يكن الزوج يهمه سوى الارتباط بفتاة من أسرة ميسورة ، لتتحمل عنه تكاليف الحياة. أثر ذلك في نفسيتي كثيرا. كان الفشل يرعبني. أخشى لقب" امرأة مطلقة" رددت في نفسي بأنني لا أستحق أبدا ذلك. لا ينقصني شيء، يجعل زوجي يبحث عن تعويض في أشياء أخرى، كنت أتمنى أن يكون الزوج قد اختارني لذاتي. حينذاك كنت سأدعمه وأسانده في مسيرة الحياة الصعبة. سأبذل من أجله ما أستطيع وما لا أستطيع، وبالتأكيد كنت سأؤثر على أسرتي لتقدم له كل دعم لازم. لكن تصرفاته التي ازدادت بمرور الزمن شراسة وخبثا دفعتني لأحسم أمري. وبالفعل حسمته، ونلت الطلاق بمساندة قوية من أسرتي.



-III-

في القاعة صمت مثير، يعلن عن انطلاقة وشيكة للعرض المسرحي، كنت مستعدة بكل جوارحي للتعاطي إيجابيا مع العرض، حالة من التركيز والهدوء، تتملكني..بغتة سرت حركة وسط المتفرجين، حركة غريبة، جعلتني أفقد تركيزي، وأنتبه لما يحدث وسط الجمهور. للحظة كدت أندم على حضوري لهذا المكان .. شخص ما انتفض من مكانه وطفق يصرخ بصوت مرتفع، يهذي بعبارات غريبة، وغير مترابطة. لا يستقيم لها معنى. فكرت أن مجنونا ما فقد بوصلته، ووجد نفسه في المكان الخطأ. كان يصرخ بشكل هستيري، وهو يركض ما بين الصفوف. كدت أحث أختي وابنتها على الانسحاب بصمت، ونغادر قاعة المسرح. لكنني لم أفعل ذلك، لم أجد الشجاعة والقدرة على تنفيذ ما فكرت فيه. فجأة توقف الرجل أمام امرأة، وبدأ يرشقها بكلمات نابية، ثم ما لبث أن أمسكها من شعرها، وشرع في سحبها بطريقة مستفزة. خرج الجمهور عن حياده. وبدأ يصرخ مستهجنا سلوك الرجل. لكن لا أحد قام من مكانه لينقذ المرأة. الرجل لم يرعو. استمر في جر المرأة من شعرها، وهي تصرخ مستغيثة.. قادها نحو باب القاعة، ثم ما لبث- أمام ذهول المتفرجين- أن ارتقى بها درجا صغيرا، ليجد نفسه وإياها على الخشبة. لحظة انكشف السر، المشهد جزء من المسرحية.خيم الذهول على القاعة. شردت للحظات وأنا أفكر فيما حدث. لم أعد إلى تركيزي إلا حين انطلقت عاصفة من التصفيقات الضاجة وسط الجمهور، تعبر عن استحسانها لهذه البداية المختلفة، وغير النمطية ..وكأن المشهد عبارة عن إعداد للجمهور ليتعاطى مع تجربة مسرحية مختلفة، شدتني هذه البداية القوية إلى المسرحية، فاخترقني صمت رهيب، وإحساس قوي بأن العمل المسرحي يستحق المشاهدة.. بشكل تدريجي طفق الممثلون يتوزعون على الركح.. كل منهم يدخل الخشبة من جهة مختلفة. ملابسهم غريبة وممزقة. وجوههم كثيرة الألوان توحي بالفوضى والعبثية. يحملون في أيديهم أدوات مختلفة الأشكال. لا تنم عن شيء محدد. أدوات لا يمكن استعمالها، و تبدو خارج السياق. هناك من يحمل منجلا، وآخر آلة طباعة، وثالث مظلة. الملابس عبارة أسمال. أحدهم يحمل بعض البضائع الغريبة، وينادي في زبناء مفترضين، يحثهم على اقتنانها. شخص آخر يلف نفسه ببطانية مرقعة .. فتاة تحمل ترجلية، تضع أنبوبهافي فمها.. أخرى تحمل لافتة تندد بشيء مبهم. رجل بملابس رثة حافي القدمين، يستعرض سيجارا كوبيا، يدخنه بشيء من التباهي .. كان الممثلون عبارة عن مزيج من البشر ، لا تجمع بينهم أي آصرة. .إنه خليط مربك، لا يمكن فهمه. يخلق البلبلة لدى المتفرجين.
فجأة يحتل كل منهم مكانا محددا، وهم مستمرون في ممارسة أفعالهم، وكأن كل منهم يكون عالما خاصا، منغلقا على ذاته، ولا تربطه بالآخرين أي صلة.
بغتة ينخرط الرجل والمرأة في حديث مفاجئ بينهما:
- متى سيعود ؟
يقفز الرجل قفزات استعراضية، ثم لا يلبث أن يمر أمام الممثلين الذين يلزمون أماكنهم لوقت محدد، ثم سرعان ما يغيرونها، ويبدو ذلك بشكل عفوي، لأن لا أحد فيهم يلتفت إلى الآخر ولا يهتم به. يتطلع فيهم الرجل، كل واحد على حدة بنوع من التمعن المضحك، ينفض يديه معبرا عن عدم الوصول إلى ما يبحث عنه ..
يقترب من المرأة، ثم يخاطبها قائلا:
-يبدو أنه هنا. لكنني لم أعرف من هو بالتحديد.
تنخرط المرأة في حركات متشنجة، ثم ترتب ملابسها بشكل مستعجل حتى تصبح مناسبة لما تفكر فيه. تخرج مرآة صغيرة من جيبها. تشرع في ترجيل شعرها بشكل استعراضي
... تبتسم هاطة شغتيها بمبالغة واضحة تقفز قفزات محسوبة، مقلدة طفلة صغيرة مدللة. تغير مكانها، ثم تقول للرجل:
- أنا لا أرى أحدا. أين هو ؟
يبدو أن الرجل قد صعق بادعاء المرأة أنها لا ترى أحدا، وبالتحديد نكرانها وجود الرجل الذي سألت عنه ...يحار...يشرع في فرك عينيه بظاهر يده ، يبدو مستغربا وعلامات الغباء تظهر على وجهه..يتوجه من جديد نحو الممثلين. يخرج من جيبه منظارا مستطيل الحجم. عبارة عن أنبوبة سوداء تتوسطها زجاجة مكبرة، تذكرنا بمناظير البحارة والجنود في زمن بعيد، قبل مائة عام تقريبا. يضع المنظار على عينه اليمنى، ويبدأ في المرور أمام الممثلين المستغرقين في عوالمهم الخاصة. يتطلع إليهم بمنظاره، ثم سرعان ما يزيحه عن عينه ويفركها.. يعيد الكرة. وحين لا يظفر بأي يقين، يتوجه نحو الجمهور ويسأله بصوت مرتفع :
- هل ترونه. هل هو موجود؟
يتماهى الجمهور معه، وقد فطنوا إلى لعبة المشاركة، التي يبدو أنها استهوتهم ، فيردون بصوت جماعي.
- لا ..غير موجود.
حينذاك يبدو على الرجل أنه صدق أن الشخص المطلوب غير موجود، وقد يكون الشك قد امتد إلى وجود باقي الممثلين، الذين يراهم أمامه، يتوجه نحو المرأة التي كانت تتبع تصرفاته عن كثب، فيخاطبها قائلا:
- يبدو أنك على حق. إنه غير موجود. لقد أصبحت في المدة الأخيرة أعاني من الهلوسات والتهيؤات، سأكف عن تصديق ما تراه عيناي، إنهما تخدعاني باستمرار. سأذهب لأبحث عن الرجل في مكان آخر، أعتذر لأنني ظلمتك وكنت قاسيا معك.
- يتوجه الرجل نحو الباب، يفتحه، ثم يختفي..
في تلك اللحظة تتلخص المرأة من خوفها وترددها. تغير مكانها مبتهجة، تتوجه نحو الجمهور، تخاطبه:
- شكرا لكم. لقد ساعدتموني على خداعه..
ثم تضيف بصوت تريده خافتا:
- إنه .. إنه موجود.
ثم لا تلبث أن تستدرك قائلة :
- ولكن أين هو ؟ من من هؤلاء يكون الرجل الذي أنتظره؟
تنخرط المرأة في حركات بهلوانية، تقفز من مكان إلى آخر. ترقص بحركات منسجمة تقف أمام الممثلين، كل على حدة. تمسك أحدهم من يده، تتطلع إليه عن قرب، تراقصه للحظات، تحت أنغام موسيقى خفيفة وإيقاعية، ثم لا تلبث أن تفارقه، وهي تقول:
- لا ليس هو.
تتوجه إلى الجمهور مباشرة، تخاطبه:
- أرأيتم ليس هو.
يرد عليها الجمهور :
-بل هو ... إنه هو .
تغضب المرأة، يظهر ذلك على ملامح وجهها، تنخرط في بكاء استعراضي، ثم تستعطف الجمهور قائلة :
- رجاء ...قولوا إنه ليس هو.
- وقبل أن يرد الجمهور. ينتفض أحد الممثلين داخل الخشبة. ذلك الذي يدخن السيجار. يتوجه نحو المرأة معلنا عن نفسه :
- أنا هو سيدتي. لقد قطعت مسافة طويلة من أجل الوصول إلى هنا لمقابلتك.
تبدو على المرأة سيماء الحيرة، تلتفت يمينا وشمالا. ثم تعود إلى الجمهور سائلة:
- هل يتحدث أحد. كأنني أسمع صوتا؟
يتواطؤ الجمهور معها، فيرد :
- لا أحد..لا أحد.
تبتهج المرأة بهذا الجواب، ورغبة منها في تأكيده، تقوم ببعض الحركات الاستعراضية، ثم تعيد السؤال ثانية:
- هل من أحد ؟
يرد الجمهور عليها :
- لا أحد
يشعر الرجل بخيبة أمل. يقتلع السيجار من فمه. يرميه بقوة، ثم يدوس عليه بقدمه الحافية، يحترق باطن قدمه. يعبر عن الألم بطريقة مضحكة. يغادر الخشبة وعلامات البؤس بادية عليه.
بدت لي هذه المشاهد مثيرة. كل شيء غامض ومربك، ولكنه يمنح الإحساس بالعمق والمتعة.. فقط حيرتني مشاركة الجمهور. تساءلت في نفسي: هل هناك بعض الممثلين المندسين بين المتفرجين، يوحون له بما يجب قوله؟ لم أنشغل بذلك كثيرا، بل عدت إلى أجواء الفرجة.
حين غادر الرجل صاحب السيجار الخشبة، تقدم هذه المرة حامل المنجل نحو المرأة. ودون سابق انذار أمسكها من شعرها، ثم قال لها غاضبا:
-أنت امراة مخادعة. لقد رأيتك في حلمي، كنت في الحلم بشعة ومقيتة، ولقد جئت هنا لأتخلص منك حتى لا تظهري لي في الحلم من جديد. سأجز عنقك بهذا المنجل الصدئ.
ترتعب المرأة. تعبر عن ذلك بملامحها وحركاتها، ثم تتوجه نحو الجمهور معبرة عن تفاجئها، فقتول باللهجة الدارجة:
- وهذا مالو؟
لا يحير الجمهور جوابا. يعلق الرجل على كلامها قائلا:
-يبدو أنك ترنني الآن، أم تنوين خداعي بادعائك أنك لا ترين أحدا.
تحاول المرأة الانفلات من قبضته. لا تفلح في ذلك. فتلجأ إلى البكاء والاستغاثة...تتقدم ممثلة أخرى نحوها. تظهر نفسها إلى الجمهور بشكل واضح ليتعرف عليها، ثم تخاطب الرجل بتودد ظاهر:
- دعها لي ..المرأة تفهم أختها المرأة جيدا.
يلتفت الرجل نحوها مهددا بالمنجل وهو يقول :
- Dégage !
تتقهر إلى مكانها مرتعبة، ثم تنخرط في أداء بعض الحركات البهلوانية المثيرة،التي تهيمن على انتباه الرجل صاحب المنجل. يفلت المرأة الأولى من قبضته ، ويتوجه نحو المرأة الأخرى التي تقوم بالحركات الاستعراضية، ثم يخاطبها مستفسرا:
- ألا تكونين أنت التي رأيتك في حلمي؟
يظهر الارتباك عليها، فيتوجه بسؤاله نحو الجمهور:
- أليست هي ؟
يجيب الجمهور متواطئا:
- إنها هي .. نعم هي.
يمسكها من رسغها بقوة، يخاطبها آمرا باللهجة الدارجة:
-زيدي قدامي، الله ينعل اللي ما يحشم !
ترد المرأة خائفة ومتوسلة :
-لست أنا ...لست أنا. حتى أنني أكره الظهور في الأحلام.
يعقب على قولها:
- بل أنت. لقد كنت في حلمي تقومين بنفس الحركات. سأتخلص منك حتى يصبح حلمي نظيفا من أمثالك.
في هذه اللحظة تحديدا، تتدخل المرأة الأولى موجهة الخطاب إلى الرجل:
-حقيقة أنت أحمق. يمكن لأي امرأة أن تقوم بنفس الحركات.
تشرع في القيام بالشقلبة أمام عينيه الذاهلتين، مقلدة ما كانت المرأة تقوم به. تتوقف فجأة، وتنظر إليه نظرات مستفرة.
يقف الرجل حائرا ينقل بصره بين المرأتين، وكأنه يبحث عن علامة أخرى، تدله على المرأة التي تزعجه في حلمه. يعجز عن التمييز بينهما فيتوجه نحو المرأة الثالثة التي تحمل النرجيلة. يخاطبها قائلا:
- هلا ساعدتني رجاء؟
تجيبه المرأة مستنكرة :
-وهل تظنين أنا. ابتعد عني، أنا لا أناسبك.
يرد عليها موضحا :
- لا أبدا، لست أنت ولا أشك فيك. لم أر النرجيلة في حلمي، لكني رأيت الشقلبة.
تنتفض المرأة من مكانها، وتؤدي حركات شقلبة مشابهة لما قامت به المرأتان السابقتان، وأمام انبهاره، تخاطبه قائلة:
- هذا لا يدل على شيء.
يستغرق الرجل في التفكير، ثم يستدرك قائلا :
- هناك علامة أخرى.
يرد الجميع :
-ما هي ?
يفكر قليلا. يبدأ في هرولة خفيفة من أقصى الخشبة إلى أقصاها، يتوتر، يتوقف ...يمضي من جديد. ثم يقول:
- إنها هي كذلك تراني في حلمها.
ترد النساء دفعة واحدة:
- أعوذ بالله.
ينخرطن في قهقهة متواطئة ومتواصلة. حينذاك يتقدم رجل نحوه، بخطوات مرتجفة، فيفاجئ الجميع بقوله:
- أنا سيدي كنت أراك في حلمي.
يبهت الرجل، وتتعلق الدهشة على جباه النساء...ثم ما يلبث صاحب المنجل أن يوضح له:
- الأمر يتعلق بامرأة.
يجيبه الرجل واثقا من نفسه:
- لا يمكن التأكد من ذلك .فالأحلام بطبيعتها مخادعة.
يستفسره الرجل:
- كيف ذلك؟
يتخذ الرجل هيئة العالم العراف ثم يقول:
-أثبتت الدراسات أن كل رجل يحمل في داخله معادله الأنثوي.فالرجل قد يظهر امرأة في الحلم و العكس صحيح.
يحار الرجل، لكنه سرعان ما يحسم أمره قائلا:
-إذا كان الأمر كذلك، فتقدم أمامي لأنهي مهمتي،.
يمسكه من تلابيب ملابسه، واضعا المنجل على عنقه، ويستعدان لمغادرة الخشبة، في تلك اللحظة، تتدخل المرأة الأولى قائلة بالدارجة:
- الله يستر، مزاحمينا حتى في الموت.
يهتز الجميع ضاحكين، وخاصة النساء، بعد أن فهمن المعنى العميق من كلامها، فترد عليها الأخرى متغنجة:
- واللاهيلا آختي. علامات آخر الزمان هادي.
تستمر المسرحية على هذا المنوال. أحداث غريبة، وشخصيات انفصامية تعاني من ازدواجية ملحوظة، تقوم بتصرفات لا يمكن فهم طبيعتها بسهولة. تركيز على الحركة والملامح. مخاطبة اللاوعي ومحاولة التأثير فيه بإيماءات وكلمات وعبارات معينة. فوضى منظمة، تفجر في أعماق النفس أحاسيس ومشاعر قوية...حقيقة لم أفلح في التخلص من سطوتها. بل وجدت نفسي أتماهى مع الممثلين، وأسقط ما يقدموه من مشاهد على بعض حالاتي النفسية.
هكذا استمررت في مشاهدة المسرحية التجريبية حتى نهايتها، التي كانت مفاجئة، وأكثر غرابة، تكسر بشكل جميل وعميق أفق انتظار الجمهور.

-IV-
انتهت المسرحية وسط تصفيقات الجمهور. تصفيقات حارة ومتواصلة. كنت – بالطبع- من بين المصفقين المتحمسين للعرض. لقد فرضت علي المسرحية سطوتها. في حقيقة الأمر لم أستطع إيجاد الخيط الرابط بين أحداث المسرحية. لم أفهم طبيعة الشخصيات والهدف من أفعالها وسلوكاتها. حواراتها بدت لي عبثية، لا يستقيم لها معنى. لكنها مع ذلك أشعرتني ببعض الأحاسيس القوية. بدت لي أقرب إلى تعابير الحلم في تجلياتها. الأحلام، رغم طابعها الغامض والمربك، تنال قسطا من اهتمامنا. هناك من يعتبرها بوصلة خفية ومرموزة لمسار حياتنا. أعرف أن التحليل النفسي ركز كثيرا على الأحلام لفهم شخصية الإنسان، بل وقد التجأ إليها لتخليص بعض المرضى من عقدهم النفسية بفضل تفسير أحلامهم ، التي اعتبرها فرويد الطريق الأمثل لفهم مكبوتات اللاشعور. كان الحوار بين الممثلين يغرف من نفس المجال. اللغة مشفرة ومحملة بأبعاد نفسية عميقة، تحتاج إلى من يفك شفرتها. أداء الممثلين كان رائعا، يتحركون برشاقة واحترافية ملفتة على خشبة المسرح. لا يكتفون بالأداء اللغوي، بل أكثر أدائهم يعتمد على الحركات، وتعابير الوجه والتنقل على الخشبه...لقد شدني كل ذلك يحق، فوجدت نفسي منطلقة بعفوية في موجة التصفيق.
تقدم المخرج والممثلون وكاتبة المسرحية وهم يتماسكون بالأيدي، وطفقوا يحيوننا والبسمة تعلو وجوههم. لقد أحسوا بمدى التأثير الذي خلفوه في نفوس المتفرجين. كانوا يتعانقون فوق الخشبة مهنئين بعضهم البعض، وهم يردون على التصفيق بانحناءات متواصلة ومرتبكة. يبدو أنهم لم يكونوا يتوقعون هذا النجاح. أو أنهم استهواهم هذا الاحتفاء المفاجئ من جمهور لم يتعود هذا النوع من العروض المسرحية.
كان الصحافيون من جانبهم يلتقطون صورا عديدة للفرقة المسرحية، ثم ركزوا فيما بعد على المخرج ، الذي نال القسط الوفير من الأضواء والاهتمام..
تقدم المخرج إلى الأمام طالبا فسحة من الصمت. ثم ألفى كلمة، شكر فيها كل الذين تجسموا عناء للحضور لمشاهدة عرض المسرحية الأول. أثنى بعد ذلك على كاتبة المسرحية الأستاذة رقية، وكال المديح للممثلين،ـوكل جنود الخفاء كمهندس الديكور وبعض المساعدين في أمور الإضاءة والصوت، أي كل من ساهم في إخراج المسرحية بالشكل الذي ظهرت به على خشبة المسرح. وقبل أن يختم كلمته، وجه دعوة إلى الجميع لتناول كأس شاي، وبعض الحلويات احتفالا بهذه المناسبة.
كانت أختي حسناء تجلس هادئة في مقعدها، وتبدو عليها حالة من الانتشاء، التفت نحوها وسألتها:
- هل نذهب أم نمكث هنا قليلا؟
دون اكثرات ردت :
- كما تشائين.
قررت حضور حفل الشاي. لا أدري لما أحسست بشيء ما بداخلي يخثنى على البقاء. قد يكون مجرد فضول. وقد يكون شيئا آخر أعمق من ذلك، المهم أن اتخاذ خطوة البقاء كان بفعل حافز غامض لم أتبين كنهه، أو ربما أغالط نفسي فقط.
تباعا دخلنا قاعة الحفل، وهي عبارة عن بهو كبير يتوسطه تجويف قبة، تزينها نقوش بديعة. في الوسط تتدلى ثريا ضخمة متقنة الصنع، على امتدادها تنتشر تشكيلات بلورية أخاذة. على جدران البهو صور ممثلين عالميين ومحليين . أكثر الصور باللونين الأبيض والأسود. يبدو أن واضع الصور فكر ربما في منح المكان نوعا من الأصالة والعراقة.
تدريجيا بدأ المكان يزدحم بالحضور. أخذ الضجيج يرتفع شيئا فشيئا. في الوسط انتصبت مائدة مليئة بالمشروبات والحلويات. أخذت كأس شاي وقطعة حلوى. أختي وابنتها فعلتا نفس الشيء، ارتكننا جانبا. لم نتحدث كثيرا. كنت مشغولة باسترجاع أحداث المسرحية في ذهني.. فجأة رأيت المخرج محاطا بعدد من الصحفيين، يلتقطون له صورا، ويطرحون عليه بعض الأسئلة. ركزت أكثر فبدت لي الأستاذ رقية بجانبه، كان بعض الصحفيين يحجبها عن النظر. البهجة تنضح من وجهها الصبوح. كانت سعيدة بما تحقق لها من نجاح. تبتسم باضطراد وتشرق شمس الفرحة في عمق عينيها الجميلتين. فيما كان المخرج منهمكا في الإجابة على أسئلة الصحافيين، التي نجح العرض في بلورتها في آذانهم بشكل كثيف وعميق. أنا كذلك كانت لي أسئلتي، لكنني لم أجرؤ على التوجه بها للمخرج.. لم أكن أتوفر على الصفة التي تؤهلني لفعل لذلك. فقط كنت أتحسر في مكاني، وأنا أرقب المشهد من بعيد. ارتشفت الشاي في رشفات متباعدة. تدريجيا خف الازدحام من حول المخرج، فتقدم بخطوات راسخة ومنتشية نحو مائدة المشروبات. كانت العيون ترقبه من كل جانب، وكأنه فارس عاد من المعركة منتصرا. كان بطلا، تتراقص النظرات من حوله، وتربت عليه بلطف. ممتنة له بالفرحة التي وفرها لها، وجاد بها عليها. كان المخرج يشعر بما يحدث من حوله. لذا ظل حريصا على قوة حضوره، محاولا أن يقدم للناس الصورة التي ينتظروها عنه. يحاول أن يبدو عفويا، وغير مبال بالنجاح، الذي تحقق للتو، وكأنه شيء طبيعي جدا، التفاتاته كانت مدروسة، وكلما وقع بصره على أحد معارفه كان يحييه بحركة من يده، التي يحمل في حضنها كأس عصير مختلط الألوان والمكونات. كنت أراقبه من مكاني، دون أن أجرؤ على الإعلان عن نفسي. فكرت أنه قد يكون نسيني وسط هذه الجوقة من الحضور، خاصة بعد هذا النجاح الذي كنت شاهدة عليه. في نفسي تردد بأن اهتمامه السابق بي كان عفويا، وقد يكون من متطلبات المهنة التي يمارسها، أعرف أن الفنانين والمشاهير يسعون دوما لترك انطباع جيد عنهم لدى من يصادفهم في حياتهم. بتصرفهم هذا، يحاولون الحفاظ على شعبيتهم مرتفعة وسط الجماهير. إنهم – ببساطة- يحسنون تسويق أنفسهم.
بينما كنت منغمسة من أخمص قدمي حتى قنة رأسي في أفكاري وتأملاتي التي لا تنتهي، حانت مني نظرة عفوية ومفاجئة نحو المخرج. هو كذلك فعل نفس الشيء. التقت نظراتنا، فبدا على ملامحه وكأنه يتذكر شيئا بعيدا. شرد للحظات، ثم سرعان ما استدرك الأمر، وحضر بكل بديهته..ربما تأكد بأن صورتي ليست بالبعد الذي تصوره بداية. فإذا به يرفع يده بكأسه محييا. ابتسمت له ابتسامة محتفية. انطبع في ذهني أنه بحركاته هاته يقلد نموذجا ما. لم تبد لي تلك التحية حقيقية و أصلية. حاولت الانشغال بأي شيء حتى لا أمنحه انطباعا باهتمام زائد على اللزوم. التفت نحو أختي وقلت لها :
- يبدو أنه علينا أن نغادر المسرح... يكفينا هذا.
مرة أخرى أجانب حسناء :
-كما تشائين.
في تلك اللحظة تحديدا ، حين أحدث أختي لكني ننصرف، أحسست بشخص ما يتوجه نحونا . تجاهلت الأمر . لكني شعرت ببعض الارتباك. خفقات قلبي ارتفعت وتسارعت بشكل ملموس. في الحقيقة كنت أتوقع أن يكون المخرج هو القادم، لكي يحدثني ببعض الكلمات قبل أن أغادر المسرح. وحتى أكون صادقة كنت أتمنى ذلك وأتوق إليه..رفعت بصري مستطلعة، فإذا بالأستاذة رقية هي القادمة نحونا. خاب أملي بعض الشيء، ومع ذلك أسعدني حضورها. كانت لا تزال محافظة على ابتسامتها المعهود. توقفت أمامنا. ثم ما طفقت تعبر عن غبطتها باهتمام الصحفيين بالمسرحية. كانت تتحدث دون توقف. بعد كل جملة أو جملتين ، توجه لنا عبارة الشكر والامتنان على حضورنا. هنأتها بما تحقق ، وعبرت لها عن إعجابي الشخصي بما شاهدته خلال العرض. كنت أود الاستئذان منها كي أعود إلى البيت. لقد أحسست بنوع من العياء قد اكتسح أطرافي، غير أن الأمور تطورات في اتجاه مغاير. إذ سرعان ما التحق بها المخرج. كان لا يزال منفعلا بما حظي به من اهتمام ملفت. كان رجلا ناجحا، من الصعب توقع ما يمكنه القيام به. النجاح يفعل في الناس الأفاعيل. يمنحهم الطاقة والشجاعة ويرفع معنوياته عاليا. حضوره زاد من درجة الحماس، الذي كان يتوهج في مقلتي الأستاذة رقية، فتضاعفت بهجتها تدفقا وكلماتها انسيابا.
في غمرة هذا الجو الحماسي، فاجأني المخرج بسؤاله:
- ما رأيك أستاذة ماريا في العرض؟
انتبهت إلى أنه قد تذكر اسمي، ولم ينسه. آثر هذا الأمر في نفسي كثيرا. لكنني لم أتماد في ذلك. لم أمنح الأمر أكثر مما يستحقه. صمتت للحظات ثم قلت :
- ليس مهما رأيي، بل رأي النقاد والصحفيين. ويبدو أنهم راضون على العرض.
- هذه الاجابة المراوغة أذكت فضول المخرج.. نظرا إلى نظرة معبرة، ثم أردف قائلا. بلهجة الخبير :
- طبعا، رأي الصحفيين والنقاد مهم. لكن يبقى رأي الجمهور أهم، في الأخير هو من يدفع في شباك التذاكر.
قال ذلك بلوغ من السخرية، وكأنه يرغب في إبراز تمتعه بخفة الظل وبالمرح، تماهينا جميعا معه، فانفلتت ضاحكات مكتومة محتفية بتعليقه. ما لبث أن استدرك قائلا:
-طبعا أنا أمزح. الكسب المادي آخر ما يهمني. لكن بجد. ما رأيك في ما شاهدته اليوم؟ استرقت النظر إلى وجه أختي. رأيت على شفتيها ابتسامة زئبقية، مشجعة، أعرف حق المعرفة ما تفكر فيه. حانت مني التفافة أخرى نحو الأستاذة رقية، كانت مصغية باهتمام أربكني. لم أكن أظن أن رأيي مهم إلى هذا الحد. ربما لما طلبه المخرج شخصيا اكتسب كل هذه الأهمية.
لزمت الصمت للحظات. أحرجني الوضع. الجميع ينتظر إجابتي. حزمت أمري وقلت :
- إنها مسرحية مختلفة.
كان وقع العبارة قويا على المخرج، فعبر عن ذلك بنزق ملحوظ:
- هذا ما كنت أغرب فيه. أن أقدم شيئا مختلفا، لم يتعوده الناس.
استرقت النظر إلى الأستاذة رقية، فرأيتها قد انكمشت في قوقعتها. فهمت تصرفها، فاستدركت الأمر قائلة بشجاعة، لم أعرف كيف انبثقت من أعماقي وفرضت نفسها على كلماتي:
- لقد تضافر النص المكتوب والإخراج لجعلها مسرحية مختلفة.
صعقت هذه الملاحظة المخرج. لم يكن ينتظرها. بينما نزلت بردا وسلاما على الأستاذة رقية،التي عبرت عن امتنانها بابتسامة جميلة جادت بها علي. أحس المخرج ببعض الحرج، لكنه سرعان ما تجاوزه، وقال:
- نعم الأمر كذلك. نظرتك ثاقبة ومصيبة.
أعجبني أن أفهم كلمة "مصيبة" بمعنيين مختلفين. استلقت ابتسامة رحبة في داخلي. كانت تدغدغ وجداني. لم أسمح لها بالظهور على شفتي إلا كظلال شاحبة. في أعماقي أحسست أنني قد أكون أسأت التصرف مع المخرج، في نفسي قلت "لا يهم". وقر في ذهني أن المخرج تقبل إساءتي برحابة صدر. هذا الأمر يعني شيئا ما. كان علي أن أنصرف في ذلك الوقت بالذات قبل أن ارتكب حماقة أخرى. أعرف نفسي صريحة، وقد تكون صراحتي في بعض الأحيان جارحة. رشقت أختي بنظرة معبرة، ثم وجهت كلامي للأستاذة رقية:
-أهنئكما على نجاح المسرحية. لقد تأخرنا كثيرا. يجب أن نغادر حالا .
بتفهم كبير ردت الأستاذة رقية:
- طبعا ...طبعا...شكرا على الحضور ...لقد أسعدني ذلك كثيرا..تحياتي للعائلة.
مددت يدي نحو المخرج لأودعه. مد يده نحوي. تصافح كفانا. أحسست بشيء غريب يلامس كفي. خفق قلبي. اختلست نظرة إليه. رأيت في عينيه نظرة معبرة. ثم خفض بصره بنوع من الخجل الذي لم أتوقعه منه.. سحبت يدي بهدوء، وضممتها في قبضة حريصة ...ثم مددت وجهي نحو الأستاذة رقية.. تلامست خدودنا. فعلت أختي نفس الأمر معها. ثم غادرنا المسرح.
كان المساء قد رمى بغيشه على الأجواء. بعض المصابيح المتهالكة تلقي بضوئها المتعب، محاولة منح المدينة منظرا شاعريا مفتقدا. الباعة المتجولون اكتسحو الرصيف، يعرضون بضائع مختلفة الأشكال والألوان. حافلات متداعية تلقي بدخانها الأسود في الجو، بينما يصارع الركاب من أجل الحصول على مقاعد في جوفها. أبواق السيارات تزعق في كل مكان.. شرطي يحاول فك اكتظاظ حركة السير، التي لا تطاق. أشرنا إلى عدد من سيارات الأجرة. لم تتوقف منها واحدة. كل سيارة تمر يحتلها راكب أو أكثر. تمشينا قليلا، حتى نبتعد عن المكان الذي بدا لنا أنه من المستحيل أن نظفر فيه ببغيتنا.. وبالفعل ما إن انعطفنا نحو شارع آخر حتى توقفت سيارة أجرة. ابتلعتنا في ثوان. احتضنني المقعد الأمامي، فيما استقرت أختي وابنتها في المقعد الخلفي. حددت للسائق وجهتنا. ثم انفتحت قبضتي عن ورقة بيضاء صغيرة، ينام في حضنها رقم هاتف المخرج.
-V-
بعد الطلاق احتفظت بمساحة معقولة بيني وبين الرجال. لم أعد أثق في ربط أي علاقة بهم. أخشى أن تتكرر نفس التجربة الأليمة. حتى وإن كنت سعيت بكل ما أملك من قوة للحصول على الطلاق ،بعد تأكدي من استحالة العيش مع زوجي تحت سقف واحد، فقد خلف ذلك في نفسي شرخا عميقا ، من الصعب مداواته. أصبح الطلاق شبحا مرعبا، يتسيد حياتي. كل علاقة مفترضة تبدو لي مهددة بالطلاق..أعرف حق المعرفة أن تكرار حدوث ذلك سيتسبب لي في نهاية حتمية أقصد الموت . لأن أي طلاق جديد سيعطي عني انطباعا سيئا لكل من حولي. سيعتبرونني امرأة تعيسة ومنحوسة لا يمكنها أن تحتفظ بأي زوج. المجتمع لا يرحم. هذا رعب حقيقي أحيي ضحيته.أتقلب بين براثنه الحادة، فيمزقني إربا. يقلص طموحاتي إلى حدودها الدنيا. يدفعني دائما لأختفي داخل قوقعتي، قانعة بالحيز الضيق الذي حشرت نفسي فيه. حتى أن الوقوع في الحب أصبح بالنسبة لي كارثة ، أتجنب وقوعها بإبعاد نفسي عن ظروف حدوثها..
نلت تعاطفا كبيرا من أسرتي الصغيرة وعائلتي الكبيرة. تفهمهم لوضعي كبير جدا. خفف ذلك إلى حد كبير من التوتر الذي كاد يخنقني في فترات سابقة. الجميع يعاملني بلطف ، ولا يسعى إلى تذكيري بوضعي البائس. ومع ذلك كنت أعي جيدا حقيقة وضعي المزري داخل مجتمع لا يرحم. " أنا امراة مطلقة" هذا وحده كاف لأجلد دوما، صباحا مساء، بنظرات الريبة والتشفي، وأحيانا بنظرات الشفقة، أكره هذه الشفقة. ولا أستحق هذا الوضع. في حياتي لم أسئ لأي شخص، ولم أتسبب لأحد في أي مشكل. لكل ذلك أشعر بغبن مضاعف. كم تمنيت لو امتلكت قدرا من الجرأة ،كما تمتلكه نساء مطلقات أخريات. أعرف أن منهن من يسعى إلى الطلاق، ليعشن حياتهن بحرية مطلقة. سهرات، ودعارة، واشياء أخرى. لا يبالين بأقوال الناس وتصرفاتهم. إنهن نساء حسمن أمرهن، وكففن عن انتظار العطف والشفقة، بل هن من يشفق على الآخرين.
أعرف أنني جميلة ولا زلت أمتلك نصيبا من الشباب وحيويته. بإمكاني أن أسعد أي رجل أرتبط به. أشعر أنني أتوفر على إمكانات بلا حصر. تؤهلني للسعادة والانطلاق في الحياة من جديد. لكنه الخوف من تكرار التجربة يلجمني. وكلما فكرت في علاقة حب، أعادني إلى تعقلي، فألغى كل مشاعري ومشاريعي العاطفية.
هذه المرة يبدو الأمر مختلفا. لا أدري سببا منطقيا لذلك. لكني حاولت إقناع نفسي بأن هذا الرجل، الذي وضعته الأقدار في طريقي، يبدو مختلفا عن الرجال الذين صادفتهم من قبل. إنه رجل من أهل الفن، وهذا وحده كاف لأحترز منه. أعرف أن هذه الفئة من البشر لها حياتها المختلفة ، التي لا تتفق مع ما تعارف عليه الناس من أعراف وتقاليد. معظم أهل الفن يعيشون حياتهم طولا وعرضا، ويتجنبون أي التزام من أي نوع، فقط هم ملتزمون مع فنهم. حتى أنه يصبح بالنسبة لهم بمثابة الزوج والأبناء والبيت. إنهم منفلتون، ولا يتقيدون بالقواعد المتعارف عليها في المجتمع. دوما يسعون إلى المتعة دون أن يقدموا شيئا مقابل ذلك . مجال عملهم يفتح لهم أفاقا واسعة لإقامة علاقات متعددة. أعرف أن الفنانين نادرا ما ينجحون في إقامة أسر مستقرة. لكل ذلك لم يفرض الزواج علي نفسه. وجدت نفسي أفكر بشكل مختلف.. في علاقة حب. لم لا؟ ما الذي يمنعني من ذلك. قد تكون تجربة مفيدة. على الأقل تخلصي من نظرتي السوداوية تجاه الرجال. لكن بعد فترة من التفكير هيمن علي الخوف من جديد ، فقررت أن أعود إلى تعقلي وأنسى هذا المخرج وكأنني لم ألتق به أبدا.
هواجس وانشغالات وهموم اكتسحتني لمدة أسبوع تقريبا، لم أجد معها بدا من يستوطنني الهم والغم. أصبحت دائمة الشرود. أفكر في الاتصال بالرجل، ثم سرعان ما أتعقل وأطرد الفكرة من رأسي. أنشغل بأمور البيت لفترة من الزمن. لكن ما ألبث أن أعود إلى سيرتي الأولى، أفكر في الأستاذ شفيق. وأحاول أن أستشرق في الذهن المسارات المحتملة لأي علاقة يمكنها أن تربطني به.
يوم السبت زارني أخي أحمد وزوجته. جاءا من مدينة فاس، التي استقرا بها منذ زواجهما. كان حضورهما طوق نجاة، انتزعني من لجة التفكير في المخرج، التي كادت تطيح بتوازني.. كرست جهدي لهما. أعددت لهما أجمل الأطباق وألذها. استمتعنا جميعنا بذلك، و استعاد البيت جوا احتفاليا يفتقده.
في المساء خرجت صحبة زوجة أخي، قمنا بزيارة أحد المحلات التجارية الكبرى، التي تناسلت في المدة الأخيرة على امتداد المدينة، اقتنينا بعض الحاجيات. ولجنا مطمعا وتناولنا بعض الطعام الخفيف الذي يروج له المطعم.كنا نود فقط أن نساير إيقاع الحياة في سرعتها..الجميع يفعل ذلك، فلم لا نجربه نحن كذلك؟
أثار انتباهي رواد المطعم. كانوا في أغلبهم يتكونون من ثنائيات، رجل وامرأة، النساء مبتهجات وسعيدات، والرجال يسعون جاهدين لتلبية متطلباتهن. أحزنني ذلك قليلا. ذكرني بوضعي البائس. شعرت بحنين لا يطاق إلى لمسة رجل حانية. تمنيت أن أتعلق بذراعه، وأمضي معه بخطوات متوازية، تفتح للنفس كوى على الحياة والمستقبل، وتمنحها شيئا تتعلق به من أجل الإصرار على الإبقاء. أبعدت عن نفسي هذا النوع من التفكير. أعرف أنه مقدمة لخطوة خطيرة، قد أقدم عليها في أي وقت. زوجة أخي كانت هانئة البال. تفرج عن قهقهات من أعماق قلبها. كانت سعيدة وسر سعادتها ارتباطها بزوج ينتظرها ليلا، ليحضنها، ويشحن جسدها بكثير من الطاقة والحنان، أنا أفتقد ذلك. لقد مرت مدة طويلة لم أنعم فيها بأي لمسة حانية أو حضن دافئ.. حضن رجل.
ليلا تسللت زوجة أخي إلى غرفة زوجها، وذهب كل إخوتي الذين لم يتزوجوا بعد إلى غرفهم. بقيت وحيدة، أتفرج على برنامج وثائقي عن الدماغ والتحليل النفسي. يحاول الكشف عن بعض المناطق الحساسة في الدماغ المسؤولة عن سلوكاتنا الحميمية، مثل الحب والتعاطف والإحساس بالمسؤولية. كنت أنتبه لبعض المعلومات المهمة، ألتقطها، أفكر فيها، لكن سرعان ما يشرد ذهني لأفكر في المخرج، الذي ورطني في هذا الأمر الذي لا أدري كيف أدبره. أمر جديد علي كل الجدة .. فمنذ زمن بعيد أغلقت أبواب القلب. وطوحت بالمفاتيح بعيدا، حتى لا تحن نفسي إلى فتحها من جديد. ما هذا الذي يحدث لي الآن؟ لا تكاد صورة الرجل تغيب عن ذهني...أحاول التخلص من هذه الهواجس. أعود إلى التلفاز ...أستقبل المزيد من الصور والمعلومات.. لا زال البرنامج يبث بعض العمليات المعقدة داخل الدماغ. لمعات ضوئية تتنقل من منطقة إلى أخرى. المذيع بصوته الجهوري يشرح أن الاكتشافات الحديثة أظهرت أن الناس العاطفيين الذين يقعون بسرعة في شباك الحب، يتمتعون باستعداد فطري وفزيولوجي لذلك. مناطق في دماغهم أكثر حساسية من باقي أدمغة الناس، يمكن تحفيزها بإرسال رسائل معينة إليها. يحاول البرنامج البرهنة على أن كل شيء موجود هناك في الكتلة الرمادية داخل علبة الجمجمة .. الحب- بهذا المنطق – ليس مجرد إحساس يبعثه في أنفسنا الطرف الآخر. بل هو استعداد فطري يختلف من شخص إلى آخر، طبعا وجدتني أقارن مع أسمعه وأراه مع حالتي النفسية الخاصة، أتساءل عن طبيعة الشخصية التي أمتلكها. هل لديها استعداد فطري للحب. أم أنها تحتاج إلى حوافز عدة ومتكررة لكي تستجيب. لقد كنت في وقت سابق عاطفية بشكل كارثي. إذ سرعان ما أجد نفسي ضحية لإغواء الحب. بالطبع كنت أتماسك، أقاوم حتى لا اقع في أي مشكلة يمكنها أن تسبب لي الإحراج ولأسرتي، التي تحترمني كثيرا، وأبادلها نفس الاحترام والحب. منذ نعومة أظافري كنت أشعر بالمسؤولية. دائما امتلكت القدرة على التحكم في ذاتي وقمع رغباتي رغم ما يتأجج داخلي من عواطف. بعد الزواج اختلف الأمر كثيرا، تلك التجربة الفاشلة غيرت سلوكي وطبيعتي بشكل جذري.. أصبحت أكثر احتراسا وحذرا..أخشى أن يميل قلبي لأي رجل. صورة طليقي أضحت طاغية على عقلي، كل الرجال بدوا لي متشابهين. لا يمكن للمرء أن ينتظر منهم أي رجاء، إنهم ميؤوس منهم. لكن حالي في هذا الأسبوع تغير كليا. شيء ما في هذا المخرج حرك بركة ذاتي الراكدة. ألقى فيها حجره وانصرف هانئا مطمئنا، فيما ثارت في دواخلي أمواج صاخبة، تكاد تطيح بي وترميني نحو المجهول. ماذا أفعل؟ كيف يمكنني التصرف تجاه هذا الأمر الطارئ؟
أخمدت أنفاس التلفاز. أويت إلى فراشي. عقلي لا يتوقف عن التفكير. أحاول لجم نفسي والتحكم فيها بالصرامة ،التي عهدتها في ذاتي منذ زمن بعيد. لم أفلح في ذلك. عمدت إلى كتاب، كنت قد قرأت صفحات منه في الليلة الماضية، فتحته، وبدأت أقرأ بدون تركيز، راجية أن يجلب ذلك إلى عيني الخدر المطلوب كي أنام. في أعماقي تأكدت بأنني ماضية حثيثا نحو الهاوية. لم أعد قادرة على التحمل أكثر. تنازولت الهاتف، الذي كنت قد سجلت في ذاكرته رقم هاتف المخرج.. بدأ قلبي يخفق بقوة. كنت خائفة من أن يصدني، أو على الأقل لا يتذكرني. ومع ذلك صممت على أن أجري المكالمة، وأنا أحدث نفسي قائلة " إذا كان الرفض منه سيكون بذلك خلاصي " .. أخذ الهاتف يرن. فكرت في التراجع. لم أستطع. استمر الرنين وأنا في حالة صعبة. انفتح الخط ..سمعت صوته :
-ألو ..من ؟
-ألو الأستاذ شفيق؟
-نعم هو بذاته . من معي؟
صمتت لحظة ثم أجبت:
-أنا ماريا.
فأجابني بترحيبه المبالغ فيه:
- أهلا ماريا..كيف حالك.منذ أسبوع وأنا أنتظر مكالمتك.
- بعض الظروف منعتني من الاتصال. كيف حالك؟
- أنا بخير ...شكرا على المكالمة
- العفو أستاذ.
صمت لحظة ثم قال :
- هل يمكن أن نلتقي؟
ارتبكت قليلا، لكنني سرعان ما حسمت أمري.
- نعم. بكل تأكيد.أنا كذلك أود اللقاء بك لمناقشة المسرحية.
- نعم. نعم يسعدني ذلك.
- متى تقترح موعد اللقاء؟
- في أي وقت يناسبك.
- غدا ممكن؟
- نعم. ممكن جدا .
- أين ؟
- فكر للحظات، ثم أجاب.
- تعرفين مقهى الزهور؟
- نعم أعرفه، يوجد مقربة من سينما الريف.
- نعم هو ذاك
- أي وقت تقترح؟
- سأكون هناك ابتداء من الساعة الرابعة.
- أوكي .. اتفقنا.
- سأنتظرك.
- شكرا. سأحاول أن أكون هناك في الوقت المحدد .
- شكرا على لطفك.
- تصبح على خير.
- تصبحين على خير. اهتمي بنفسك.
انقطع الاتصال .. وضعت الهاتف جانبا، وشرد ذهني بعيدا. لا أصدق أنني قمت بالاتصال. فأجابتني الجرأة التي أمتلكها. والطريقة التي حدثت بها الرجل. أفرحتني الحفاوة التي استقبل بها الأستاذ شفيق مكالمتي. أثارني مخاطبته لي بدون ألقاب. لقد ناداني بماريا دون أستاذة. هذا يدل على أنه يرغب في رفع التكلف بيننا .. حملت الكتاب من جديد، قلبت بعض الصفحات .. لا أقوى على التركيز. وضعته جانبا، أطفأت النور واندسست تحت الغطاء، ذهني لا يستقر على حال. والبسمة غزت شفتي، فلم تفارقهما. كنت أحاول استشراف لقائي الأول بهذا الرجل، الذي أربك حياتي. في لحظات بعينها أفقد ثقتي بنفسي وأقرر عدم الذهاب إلى اللقاء. لكن سرعان ما أجد نفسي مدفوعة بقوة غريبة وغير ظاهرة، تحفزني على الذهاب.. تدريجيا تسلل الكرى نحو عيني .. ارتخى جسدي، وفقدت القدرة على التحكم في أعضائي، ثم ما لبثت أن انقذفت في أحضان نوم عميق.
-VI-
صباح يوم الأحد مختلف عن باقي الصباحات، التوتر يناوشني من حين على آخر، والشرود وجد له مقاما طيبا في ذهني. أعصابي منفلتة، أو تكاد تكون كذلك، زوجة أخير كثيرة الحركة، مما زاد من توتري. كنت انتظر بفارغ الصبر اللحظة التي ستغادر فيها البيت رفقة زوجها. إنها دائبة الحركة، تملأ الحقائب بأنواع من الملابس والبضائع التي اقتنتها خلال هذه الزيارة.. زوجة أخي امرأة تفتتن بالتبضع. لا تضيع أي فرصة للقيام بذلك. تشتري كل شيء. ما تحتاجه وما لا تحتاجه. أخي، زوج;}ها، دائم الشكوى من إسرافها ومبالغتها في التبضع. كان يعجبه أن يردد بنوع من السخرية بأنها تتبنى شعار " أنا أتبضع، إذن أنا موجود" من جهتي كنت أحاول أن أخفف من غضبه وحنقه، فأرد عليه بأن جميع النساء كذلك، وبأنها بمرورستتخلص من هذه العادة.
ذهب أخي إلى المقهى لتوديع أحد أصدقائه قبل أن يسافر. لاحظت زوجة أختي انشغالي، سألتني عن السبب. ارتبكت قليلا، ثم سرعان ما أجبتها:
- لم أنم الليلة بشكل جيد. أشعر بنوع من التعب.
من جديد انهمكت زوجة أخي في الإعداد للسفر. بين فترة وأخرى تحدثني عن شيء مختلف ولا تنسى أن تؤكد لي عن ضرورة زيارتها في فاس. كنت أتوق لتلك اللحظة التي أجد نفسي فيها وحيدة في البيت، لكي أتمكن من التفكير بهدوء في ما يتعين علي القيام به. كنت فقط أجاري زوجة أخي في الحديث، واعدة إياها بأنني قد أزورها قريبا. وهناك يمكنني أن ننال من الوقت ما نشاء حتى نتحدث في جميع المواضيع. أعرف أنها انشغلت كثيرا بعلامات الحمل التي ظهرت عليها، وتحاول أن تجر الجميع للحديث في هذا الموضوع بالتحديد.
عاد أخي من المقهى، وأخبر زوجته بأنه مستعد للرحيل. أبطأته قليلا، حتى تنتهي من ترتيب شؤونها. حرضها على العجلة، ثم ما لبث أن شرع في حمل الحقائب، ونقلها إلى المكان الذي ركن فيه سيارته. علامات الأسف ظهرت على ملامح الزوجة، التي يبدو أنها لم تكن راغبة في المغادرة. كانت تنظر إلي نظرة متحسرة، وتغالب دموعها التي كادت تنساب من عينها العاطفيين. بعد أن حشر أخي الحقائب في صندوق السيارة، أطلق زعيق سيارته الصغيرة. توادعنا. ثم شيعتهما وهما يغادران المكان نحو وجهتهما البعيدة.
تملكني كثير من السرور حين وجدت نفسي وحيدة في البيت. قصدت الحمام، نزعت ملابسي، ووقفت تحت الرشاش، كي أنعش جسمي برذاذه الدافئ. كان الماء يتساقط على جسدي كخيوط ناعمة، تتكسر على بشرتي المائلة إلى السمرة.
ليفت جسمي بالصابون، واستمعت برغوته المتكاثرة على جسدي، تتبعتها باحتفاء وهي تنزلق، ثم سرعان ما تمضي نحو البالونة... أعجبني كثيرا أن أخصص لشعري وقتا طويلا من الاهتمام. وضعت عليه السائل الحليبي... خللته بيدي ثم أعملت فيه المشط بليونة ولطف. أطلقت الرشاش من جديد، فانجرفت الرغوة، جارفة معها بعض الكسل والتعب والأفكار الحزينة التي تتسلل إلى نفسي خلسة، وتفرض نفسها علي، فتصيبني ببعض الإحباط ..
غادرت الحمام وأنا ألف نفسي بالفوطة، وقد أحطت رأسي بفوطة صغرى، ثم توجهت نحو السرير وارتميت عليه في انتظار أن أستجمع أنفاسي. مددت يدي نحو ألبوم الصور الذي أحرص أن يكون في متناول يدي، أمتع به بصري كلما حنت نفسي إلى ذلك.
الصور توثق لحياتي من الولادة إلى اللحظة الحالية. كلما أمسكت الألبوم بين يدي تكتسحني جرعة عاطفية زائدة، تنزرق في شراييني، وتنتشر على امتداد جسدي، تشعرني بدفعة من حنين، وإحساس قوي بالذات. هذا الألبوم سيمنحني –بلا ريب – دعما من نوع ما ...ذ تداعى في خاطري أن ماضي حياتي قبل الزواج يمكنه أن يبعث في نفسي القوة اللازمة، التي أحتاجها.
فتحت الألبوم.. الصور الأولى بالأبيض والأسود. أبدو فيها صغيرة وضئيلة جدا، وسعيدة. ابتسامة رحبة تزين وجهي الجميل.في كل الصور تقريبا تحيطني أمي من جانب وأبي من جانب آخر. أمي بملابسها التقليدية وأبي بملابسه العصرية. كان أبي يحب أن يرتدي بذلة كاملة، ويحرص دوما على انتفاء ربطة عنق تناسب ملابسه. كان قويا وأنيقا. ومليئا بالحيوية والنشاط. كنت متعلقة به إلى أبعد الحدود. و كان ذلك يسعده جدا، ويعبر عن سعادته بطرق مختلفة. كان دوما يردد بأنه لن يسمح لأي رجل أن يأخذ منه هده الفتاة، يعنيني أنا، وكان ذلك يؤثر في نفسي بشكل كبير، فأرتمي في حضنه، وأتعلق به، خوفا من أن يختطفني أي شخص من هذا الحضن الدافئ الحصين. كنت ابنة أبيها بكل ما تحمل من معنى... من جانبه كان أبي حريصا على أن أرافقه في كل خطوة يخطوها خارج البيت. أصحبه إلى مكان عمله، حيث كان يدبر أعماله الحرة. ويأخذني معه في كثير من أسفاره. كان يصر أن تكون أمي معه حين يسافر من أجل صفقة ما. وبالطبع كنت أكون في رفقتهما.
تحكي الصور سيرة حياتي. تنضح منها سعادة، يبللني رذاذها الناعم. صور لي فاس، حيث مسقط رأي ابي وأمي. في تلك الفترة كان جدي وجدتي لا يزالان على قيد الحياة. وكنا نزورهما باستمرار.
حين نحل بين ظهرانيهما يصبح ذلك اليوم بمثابة عيد. تنقلب الدار رأسا على عقب. كل منا يعبر عن سعادته بطريقته الخاصة. تصر جدتي على أن تخضب يدي ورجلي الصغيرتين بالحناء. فيما لا يكف جدي عن الخروج إلى الشارع واقتناء كل ما يمكن أن يدخل السعادة إلى قلبي. . لدي صور كثيرة في مدينة فاس رفقة جدي وجدتي في بيتهما الذي كان يشبه أحد رياضات الأندلس. وصور أخرى رفقة بعض أفراد العائلة، الذين نلتقي بهم في البيت الكبير"كما كنا نطلق عليه...أقلب صفحات الألبوم. صور على عتبات ضريح" مولاي إدريس" أخرى في حامة " مولاي يعقوب"... ثالثة على مشارف مسبح " سيدي حرازم" ذي الماء الدافئ، بل الساخن أحيانا. أمضي قدما في تقليب صفحات الألبوم، الانتشاء يلفني ويحلق بي في أجواء عاطفية ناعمة ووثيرة. فجأة تظهر مدينة مراكش بحدائق نخيلها الباسق، كانت لي خالة هناك..أمي تحبها، ولا تقوى على عدم زيارتها مرة واحدة على الأقل في السنة. كانت هذه الخالة طيبة وجميلة جدا. لا يستطيع المرء أن يرفع عينيه عن وجهها ذي القسمات المتناعمة، التي تشعر المرء بالإطمئنان والدعة، حين تنظر إليها تظن نفسك تعرفها منذ زمن طويل رغم أنك لم ترها أبدا.. كما أنها كانت لطيفة في تعاملها مع الجميع، وخاصة الأطفال، إذ تحتفي بهم، وتسعى لتحطيم برعاية خاصة، وكأنها خلقت من أجل هذا الأمر..
كانت لخالتي طفلتي تكاد تشبهني في كل شيء. حين نجتمع معا في مكان واحد يخال من ينظر إلينا أننا توأم، كان يعجبنا أن نسبب الإرباك للناس من حولنا، فكنا نعمد إلى ارتداء ملابس متشابهة، ونحرص على أن تكون لنا نفس تسريحة الشعر. كانت الفتاة قرينتي بمعنى من المعاني، حين عرفت فيما بعد أن لكل انسان قرينا يشبهه، ويلزمه، ويسجل في دفتر ما كل خطواته.. أعماله الحسنة وأعماله السيئة، لم أتصور أبدا أن يكون هذا القرين غير تلك الفتاة، ابنة خالتي التي تقطن في مدينة مراكش. بالطبع كان يسعدني ذلك.. فعلى الأقل أنا أعرف قرينتي، عكس الكثيرين الذين يحاولون ذلك، فلا يفلحون، فيظل القرين بالنسبة لهم كائنا هلاميا لا ملامح له. لدي مع قرينتي حكايات لا تنتهي.. هذا التشابه الصارخ بيننا فجر روح الشقاوة في نفس كل منا. طفقنا نرتب مقالب لهذا وذاك...كلما نجح لنا مقلب، كنا ننخرط في سورة من الضحك، تغضب كل من حولنا.
قرينتي هاته ستتزوج وتهاجر إلى فرنسا، لم أعد أراها كثيرا. لكن كلما جمعتنا الظروف، استرجعنا بانتشاء وفرح تلك الأيام الخوالي .. لي معها صور كثيرة، قرب صومعة الكتبيه وفي ساحة جامع الفنا، ونحن ندنو بتوجس من الثعابين التي تنعم بحرارة الاسفلت، فيما يترصدها الحواة بأعينهم الماكرة التي لا تسهو عنها لحظة... صورة أخرى ، على كتفينا قردان ماكران، ينظران إلى العالم بدهشة وبراءة من يتحين للانقضاض على شيء ليس في ملكيته. من بين ذكرياتي التي ترسخت في ذهني تلك الرحلة التي قمنا بها معا حين أصبحنا شابتين يافعتين إلى جبل أوكيمدن. كانت مغامرة غير محسوبة العواقب. أصررنا على أن نقوم بها دون مرافقة أحد من أهلنا.. ركبنا سيارة أجرة كبيرة وانطلقنا لا نلوي على شيء، سوى احتضان أعيننا لمشهد الثلج الذي يدثر بردائه الأبيض شساعة الجبل وامتداده.
وصلنا هناك بعد أن قطعنا طريقا ملتويا وسط الجبال، تتخلله منحدرات ومرتفعات صعبة. تملكني الخوف من صعوبة الطريق، لكن قرينتي كانت تطمئنني بالتخفيف من هول الأمر. ترجلنا، وشرعنا نتنقل من مكان إلى آخر...سعيدات إلى أقصى حد، ومبتهجات بالحرية والانطلاق ..أثرنا انتباه الزوار بنزقنا وانطلاقنا.. ترصدنا شابان ..أخذا يقتربان منا بشكل كبير. انتبهنا على ذلك، وتواطأنا معا من أجل أن نقتحم غمار تجربة جديدة.تمنعنا بداية الأمر محتجات بأن أهلنا قد يفطنون إلى ما نقوم به. كنا نبحث عن نوع من الحماية بهذا الإدعاء.. توغلنا في مسالك الجبل، والشابان يقتفيان أثرنا..د.. ثم ما لبثنا أن استسلمنا لهما. تحدثنا قليلا بشكل جماعي.. تعارفنا بالأسماء، ومقر الإقامة ومعلومات أخرى.
ثم ما لبثنا أن انفصنا مثنى مثنى .. كانت تجربة فريدة.. دقت فيها شيئا من عسل الحب...كان الشاب الذي اختليت به خجولا .. لا يكاد ينطق كلمة قبل أن يتلعتم قليلا. أنا كذلك لم تكن لدي تجربة سابقة في هذا المجال. لفنا الصمت، ثم ما لبث أن انسلت يد الشاب نحو يدي.. سحبت يدي وأبعدتها عنه، وأنا أكاد أختنق من التوتر والاضطراب. بعد لحظات أعاد الكرة، فاستسلمت. كانت يده ساخنة، ودافئة، فراقني أن يضعها على ظاهر يدي. ثم ما لبثت يده أن تسللت إلى كفي. أحسست بعرقها.. لقد كان متوترا هو الآخر ..فسرت ذلك بأن تجاربه في العلاقات العاطفية محدودة.. التصق بي أكثر ثم سرعان ما أحاط كتفي بذراعه. لم أتحرك من مكاني، لكنني ظللت متوجسة، ظللنا على هذه الحال مدة طويلة لا يعلم إلا الله مدى طولها. لقد بدت لي دهرا.. كنت أنظر إلى أسفل ولا أقوى على رفع عيني إلى أعلى ...جذبني بلطف نحوه، ثم مال على خدي وطبع عليه قبلة خفيفة.. أعجبتني القبلة، لكنني كنت عازمة على صده إن تمادى أكثر.. من حسن الحظ أن الفتى اكتفى بذلك. ظلت يده تحتضن يدي، ثم بدأ يحدثني عن نفسه ودراسته وأسرته. لم أشاركه في الحديث.. كنت فقط أستمع. لم أجد الشجاعة الكافية لأحدثه. أخبرني بأشياء عنه، ثم طلب مني أن نربط علاقة بيننا، ما دمنا نسكن نفس المدينة. لم أعطه جوابا حاسما. لكنني تركت باب الأمل مواربا، في انتظار أن أحسم أمري. طلبت منه أن نغادر المكان ونبحث عن الآخرين، فاستجاب بلطف.. خرجنا من أدغال الجبل، وتوجهنا حيث افترقنا بالآخرين. لم نجدهما. جلسنا في مكان مكشوف، وأتممنا حديثنا.. بعد فترة من الزمن رأيت قرينتي ورفيقها يتوجهان نحونا، وهي تنفض عن ملابسها بعض الشوائب التي تعلقت بها.. كانت مضطربة وسعيدة. وجهها يلعلع خجلا. فهمت أن الأمور تطورت بينهما بشكل سريع..
حين افترقنا عن الشابين وعدنا على البيت أخبرتني أنهما تماديا قليلا، وأن الشاب أعجبها. أصبحت لنا أسرارنا الخاصة، فزاد ذلك من لحمة العلاقة بيننا. وأصبحنا نتحدث مع بعضنا البعض في سرية تامة، خوفا من أن يلتقط أحد بعض أسرارنا.
أقلب الألبوم والابتسامة لا تفارق شفتي. شلال من الأحلام والأحاسيس الجياشة ينهمر على قلبي، فيبلله برذاذه الناعم.. أرى نفسي في الصور، وقد أصبحت شابة جميلة. أحلام وأمنيات تتراكم في ذهني وتداعب وجداني.. أقرأ روايات رومانسية وأشاهد الأفلام العاطفية من مختلف الجنسيات. يتملكني إحساس أقرب إلى اليقين بأن مستقبلا واعدا ينتظرني في الحب. اكتب بعض الخواطر والأشعار. أرسلها إلى الإذاعة فيفاجئني أحد أفراد العائلة بأنه استمع إلى قصيدتي عبر الأثير، بل وقد سجلها كذلك.. يشعرني ذلك بالفخر..أتقدم في دراستي بخطى واثقة، أحاول أن أحافظ على مسافة معقولة تفصلني عن الذكور.. تحذيرات أمي المتكررة تظل مترددة في ذهني، محذرة إياي من عواقب العلاقات العاطفية. احترامي الكبير لأسرتي كان يحصنني من الوقوع في المحظور...كان جسمي قد نضج قبل الأوان. استداراته أضحت مثيرة، ونهداي اندفعا نافرين بشكل سبب لي كثيرا من الإحراج ، أضحت أعين الرجال والشباب تلاحقني. كنت أستعذب ذلك في الخفاء، خاصة حينما أرى نظرات الحسد في أعين الفتيات. بيد أني أبدا لم أجرؤ على تجاوز الحدود التي رسمتها لنفسي..
أتطلع بحب إلى صوري وأنا في هذا السن. أشعر بنوع من الحنين الجارف إلى تلك السنوات الجميلة.. الجميع يتوقع لي مستقبلا زاهرا ولامعا. أرى نفسي على شاطئ البحر، أرتدي لباس السباحة. في تلك الفترة كنا نقصد شاطئ مدينة المحمدية من أجل التخييم. نكتري سكنا هناك، نقضي فيه أكثر أيام الصيف الحارقة... في بعض الإجازات الصيفية كنا نقصد مدينة تطوان شمال المغرب، ونخيم في شاطئ مرتيل على ضفاف البحر الأبيض المتوسط.. في الصورة التي أمامي أظهر نصف مغمورة بالمياه، وفي الخلفية تتمدد سفينة عملاقة، يبدو أنها تتوجه نحو ميناء المدينة لإفراغ شحنتها من النفط. كانت المحمدية ولا تزال محجا لهذا النوع من السفن العملاقة لتوفرها على أكبر محطة لتكرير البترول في المغرب. السعادة ترتعش على ملامحي، شعري البني مسدل على كتفي، ونهداي بارزان بشكل مثير. أشعر ببعض الخجل ..أفكر الآن مبتسمة كيف امتلكت الجرأة على إبراز تلك النهدين السافرين دون أن أذوب خجلا... لا أستمر في التفكير كثيرا. ،أقلب صفحات الألبوم ..الصور تتراقص أمام عيني الحالمتين...أصبحت الصور الآن بالألوان، يبعث ذلك في نفسي إحساسا مختلفا. أستطيع أنة أتذكر بشكل دقيق تقريبا نوعية الملابس التي كنت أفضل ارتداءها. نجح هذا الاستغراق في الماضي أن يبعد عني شبح المخرج إلى حين. وصلت اللحظة إلى الصور التي توثق لزواجي.لم أركز عليها كثيرا ..حاولت تمريرها بسرعة . أكره تلك الفترة من حياتي ..أتمنى فقط لو أستطيع إعادة عقارب الزمن إلى الخلف، وأمحو تلك الصفحة من حياتي.. كنت فقط أختلس النظر إلى الصور.. في نفسي تولدت مرارة، كادت تطيح بالإحساس الجميل، الذي كان إلى وقت قريب يلفني في نعومته...تجاوزت هذه المرحلة بسرعة ...ثم أغلقت الألبوم. وتماهيت مع سيل جارف من الصور الذهنية، التي تدفقت تباعا.أستشرف عبرها لقائي المقبل مع الأستاذ سفيق. ترى ماذا يخبئ لي القدر من مفاجآت؟.صممت على أن أكون إيجابية في تفكيري. أن أركز على الجانب المشرق من المسألة. على الأقل سيفتح لي هذا اللقاء طريقا مختلفا في مسار حياتي. قد يخلصني من نظرتي السلبية والمتحفظة حول الرجال. ليس من الصواب أبدا أن أمكث سجينة للماضي.. ماذا يعني الفشل في تجربة؟ كل الناس عرضة لمثل هذا المصير . لست أول ولا آخر امرأة تتعرض لهذا المآل المخزي. ثم إنني لم أكن مسؤولة عما حدث. لو أن القدر كان رحيما بي، ووضع في طريقي الرجل المناسب، لكان وضعي مختلفا، أعرف أنني أمتلك الكثير لأمنحه لمن أقترن به، ولدي استعداد كبير للعطاء والحب. كما أن نفسي تتوق للاستقرار.
كففت عن التمادي في هواجسي وأحلامي... حاولت أن أكون واقعية أكثر..المخرج من عالم مختلف. ولن أطمع أبدا في أن يكون الرجل الذي سيعوضني عن سنوات الحرمان، التي أعيشها ..بالطبع له حياته الخاصة، المليئة بالنساء والمغامرات بشتى أنواها. ربما خمن الرجل أن أكون امرأة بطعم مختلف، فقرر تجربة هذا الطعم الجديد، دون أن يفكر فيما يترتب عن ذلك من التزامات ومسؤوليات. لكن لا بأس. إذا كانت له حساباته الخاصة، فيتحتم أن تكون لي أنا كذلك حساباتي وخططي. طبعا سألتقي به، وسأحاول أن أدقق النظر في تصرفاته، لا أستطيع أن أحكم عليه بعد هذا اللقاء الأول، الذي قد لا يتكرر أبدا. أراهن على أن هذا الموعد سيحررني من عقدتي تجاه العلاقات مع الجنس الخشن. بالطبع سأكون متحفظة، ولن أسايره فيما يفكر فيه أو خطط له. وحتى إن تكررت لقاءاتي به، سأحرص على أن تكون علاقتي به محدودة إلى أقصى درجة، يحكمها الإطار الذي سألزمه به وألزم نفس به كذلك.
-VII-
مع اقتراب موعد اللقاء، كنت منهمكة بجدية في ترتيب دواخلي، أحاول أن أكون هادئة وواثقة من نفسي، بعد أن أقصيت جميع الهواجس التي تكبس على نفسي.. أخذ مني ذلك وقتا لا يستهان به، أكثر مما ناله اعتنائي بهندامي، الذي أردته مناسبا حتى يخلق في الرجل الأثر الحسن. ومع ذلك فدواخلي استبدت بجل اهتمامي. عملت بجد على كبح وقمع كل توتر أو خوف، يمكنه التأثير على حالتي النفسية. أقنعت نفسي بأن الأمر يتعلق بمجرد لقاء مع رجل. إن مضت الأمور بالشكل المرغوب فيه، فحسنا، وإلا فسيكون هذا اللقاءوحيدا و فريدا و لا ثاني له. بالتأكيد لن أسمح لنفسي بتكراره . هذه المناجاة الداخلية هدأت من روع نفسي، وسكنت هواجسي ... أوصيت نفسي بعدم الثرثرة، والانتباه إلى كل كلمة أتفوه بها.. المرء قد يندم بالتأكيد على ما نطق به لسانه، وأبدا لن يندم على ما لم يقله. حددت لنفسي المجال الذي يمكنني الحديث فيه. سأركز على المسرحية ولن أتجاوزها. لن أسمح لنفسي بتناول حياتي الشخصية ولا حياة الرجل بالحديث. وبالتأكيد سأكون لبقة ومتوازنة قدر المستطاع.
قبل الموعد المحدد بنصف ساعة غادرت البيت. خشيتي من عدم الحصول على سيارة أجرة دفعتني للتعجيل بالخروج . توقفت على الرصيف. حركة السير خفيفة. بين حين وآخر تمر سيارة أو مركبة من نوع مختلف. أتطلع في كل الاتجاهات بحثا عن سيارة أجرة. لا تبدو في الأفق أي بارقة أمل، وكأن سائقي هذا النوع من السيارات قد اتفقوا على مقاطعة هذا الشارع. توترت قليلا. فكرت أن أغير مكاني، لعل حظي يكون أفضل في شارع آخر... نفسي تتنازعها الكثير من الأحاسيس المتناقضة ..في لحظات معينة أحاول أن أفسر غياب سيارة أجرة باعتباره رسالة مشفرة، بعث لي بها القدر، ليحثني على تجنب الطريق الذي يبدو أنني عازمة على المضي فيه. أسخر من طريقة تكفيري البائسة. أصر على التوجه نحو مفترق الطرق، حيث تكثر السيارات القادمة من اتجاهات مختلفة،أقدر أن فرصتي في الحصول على بغيتي ستكون هناك أفضل. أمر على الرصيف.. المقاهي مكتظة بالرواد..أثرت انتباه أحدهم .. تلفظ بكلمات غزل تقليدية. لم ألتفت إليه. كنت منشغلة باللقاء المرتقب. وصلت إلى وجهتي، وإن توقفت هناك حتى لاحت لي سيارات حمراء كثيرة، تحمل على ظهرها لوحات "طاكسي". كانت تمرق من كل جانب. أشرت إلى واحدة. توقفت. أسرعت نحوها.
-هل تأخذني إلى مركز المدينة؟
-أين تحديدا؟
-قرب سينما الريف.
-....آسف. لا أستطيع، حركة السير هناك مكتظة، ولن أستطيع مغادرة المكان بسهولة.
انصرفت السيارة..أحسست بقليل من الغضب. لا أفهم كيف أصبح سائقو سيارات الأجرة يتصرفون بمثل هذا الصلف. لجمت غضبي. عدت إلى مكاني. أشرت إلى سيارة أخرى.. توقفت. .هذه المرة لم أتحدث مع السائق. فقط فتحت الباب الخلفي للسيارة، وانحشرت داخلها، التفت إلى السائق مستفسرا.
-أين؟
-مركز المدينة.
-أين تحديدا؟
-قرب سينما الريف.
-للأسف لا أستطيع الذهاب إلى هناك.
-كيف ؟... هذا أمر غير معقول
-أعتذر سيدتي. الذهاب إلى هناك لا يناسبني.
-حينما فكرت في الحل. دون تباطؤ قلت له :
-سأضاعف أجرتك.
لان الرجل حين سمع هذا الاقتراح. لم يعقب بكلمة. إنما انطلق بسيارته نحو الوجهة المعلومة.
قبل الوقت المحدد بخمس دقائق كنت هناك بالقرب من سينما الريف...كانت تعرض فيلما هنديا رومانسيا، الملصق الكبير يعلن عن ذلك بصورة للبطل وحبيبته. تمنيت لو شاهدت الفيلم. لكنني أبعدت عن نفسي هذه الرغبة الصغيرة.. ليس وقتها. فلأركز فيما هو مهم. توجهت بخطوات غير واثقة نحو الكشك المحادي للسينما. قرأت عناوين الصحف. اقتنيت مجلة نسائية. ثم توجهت نحو مقهى الزهور. كانت مناضد المقهى الخارجية ملآى بالزبائن. لم أستطع رفع بصري للتطلع فيهم.نوع من الخجل يكبس على أنفاسي. جال في خاطري أن الجميع يعرفون قصة موعدي مع المخرج. وأن عيونهم الآن تجلدني مستنكرة صنيعي. فكرت أن الرجل سيكون جالسا داخل المقهى. وبالفعل ما إن خطوت داخله بخطواتي المتعثرة، حتى سمعت صوتا يناديني باسمي.التفت نحو مصدره. كان أنيقا ومشرقا. يحتل مكانا مميزا بعيدا عن ضجة الرواد. أمامه على المنضدة بعض الجرائد والكتب والمجلات..فكرت أن الرجل يهدف إلى إبهاري بسعة ثقافته واطلاعه. ابتسمت في داخلي. كان ذلك بمثابة نقطة قوة في صالحي. تردد في داخلي أن سلوكه هذا يدل على أنه هو الآخر يشعر بالارتباك. تقدمت نحوه. انتفض واقفا. مد لي يده محييا ببشاشة، ثم ما لبث أن هيأ لي مقعدا للجلوس.
المقهى مزين بشكل مثير.. المناضد مرتبة بجمالية ملفتة. تحف ولوحات تمنح المقهى لمحة فنية مستحبة. مزهريات وأوان خزفية زاهية الألوان. بعض الرواد من الأجانب. أكثر الزبائن مغاربة أنيقون ومنعمون. كل أنواع المشروبات متوفرة حتى الكحولية منها.فهمت معنى اختياره لهذا المقهى، الذي كثيرا ما مررت بجانبه دون أن ألجه. إنه مقهى جميل ويسمح بتغيير الأجواء والعادات كلما حنت النفس إلى ذلك. يقدم المقهى كذلك بعض الوجبات. إنه مطعم كذلك. لائحات الطعام موضوعة على المناضد بإتقان. أجول بنظري في كل الاتجاهات محاولة الاستئناس بالمكان، فكرت أن ذلك يمنحني تصورا ما عن الرجل الذي يجلس أمامي، لزمت الصمت بعد كلمات الترحيب والمجاملات. بدأ الاستاذ شفيق حديثه مذكرا إياي بما سبق لنا الاتفاق حوله:
- أخبرتني أنك ترغبين في مناقشة المسرحية.
تطلعت إليه وكأنني فوجئت باقتراحه. لكنني سرعان ما أكسبت سحنتي هيئة جادة، ثم قلت :
- نعم. طبعا.لقد أثارت المسرحية في نفسي كثيرا من الأسئلة.
-تفضلي. أنا في أتم الاستعداد للإصغاء إليك.
صمتت للحظات محاولة ترتيب أسئلة عميقة في ذهني. أود أن أترك لديه انطباعا قويا، وأبرهن له بأنني لست متطفلة، أو أنني اتخذت مسألة المسرحية وسيلة للقاء به.
كان مبتسما وهو ينتظر سؤالي. فيما كنت في حالة تعز عن الوصف. بالضبط كتلميذة تحاول اقناع أستاذها باجتهادها. لم أترك فرصة للشرود كي يصيبني. حسمت أمري وقلت له :
-بداية أتساءل لماذا هذا النوع من المسرح؟ أقصد المسرح التجريبي.
يبدو أن السؤال راقه، وصادف هوى في نفسه. طفا نوع البشر على وجهه. تناول سيجارة. أشعلها .. مص بعض دخانها. ثم مجه في الأجواء، وهو يعتذر عن فعل ذلك، رددت عليه بأن لا يكثرت للأمر. قال:
-ربما تعرفين أن المسرح مر بمراحل عدة من طفولته الأولى حتى يومنا هذا، عبر هذه الرحلة الطويلة اختلفت أشكاله التعبيرية، لكن جوهره ظل كما هو ...لذا يبدو لي أن الوقت قد حان ليتخذ له مسارا مختلفا. وأعتقد أن المسرح التجريبي كفيل بأن ينجز ذلك.
فكرت في كلامه. ثم أردفت قائلة:
- لكنه بالشكل الذي تقدمه يبدو مربكا.
تحمس الرجل وقال:
- ذلك بالتحديد هو المطلوب. إرباك الجمهور. المسرح التقليدي يعطي للجمهور كل شيء، وهذا يصيب المتلقي بالبلادة الذهنية والحسية والعاطفية. في حين يفتح المسرح التجريبي – بأسلوبه المختلف – للجمهور مجالا للمساهمة في بناء المسرحية.
- عقبت قائلة:
-لكن ليس كل جمهور قادرا على فعل ذلك. النتيجة أن المسرح التجريبي سيضحي بالجمهور.
مص سيجارته بعمق، ثم قال :
-السبب العميق لإفلاس المسرح التقليدي هو مسايرته لذوق الجمهور. أرى أن وظيفة الفن الأساسية هي الرقي بذائقة الناس، وليس النزول عندهم إلى حد الإسعاف. يجب تربية ذوق المشاهد. وهذا ما يسعى المسرح التجريبي لتحقيقه.
ثم تابع :
- لقد لاحظت كيف تفاعل الجمهور مع المسرحية في عرضها الأول.
- ربما لأن الجمهور نوعي. حضر العرض بناء على دعوات خاصة، وهو في أغلبه نقاد وصحيون ومهتمون.
- نعم. أتفق معك في ذلك. وأنا أتعمد اختيار جمهوري. سأحرص على عرض المسرحية في الجامعات والمهرجانات المتخصصة الوطنية والدولية. لا أراهن أبدا على الجمهور العادي.
- ربما لو كان للمسرحية موضوع واضح وفكرة عامة مرتبة لاستقطبت المزيد من الجماهير.
نوع من الاحتجاج الصامت بداعلى ملامحه. سرعان ما أخفاه وقال :
- لوفعلت ذلك، لفقد ما أقوم به جوهره. المسرح التجريبي يراهن على البلبلة. يحاول أن يحاكي الحياة في عقمها. هل تعتقدين أن الحياة مرتبة ومنظمة..مايراه الناس من تنظيم مجرد مظهر خادع. في العمق تحكمنا فوضى عارمة. انتبهي مثلا إلى سلوكات الناس وملابسهم ومعتقداتهم. ألقى نظرة متفحصة على الشارع، ستجدين من يرتدي لباسا تقليديا منحدرا من مئات السنين، وهناك من يرتدي لباسا أوربيا يحاكي آخر صيحة، وهناك من يرتدي لباسا أفغانيا. وهناك وهناك ...إنها فوضى منظمة. ذلك ما يطمح المسرح التجريبي عكسه في مرآته. كذلك معتقدات الناس هناك المؤمن و الملحد والمتشبت بالفكر الأسطوري، و أخر بالفكر الخرافي و أحدهم يرى الإسلام حلا و أخر يجد حلا في الماركسية والأخر في ما لا يعلم أحد.
استغللت كلامه هذا لأبرهن له بأنني أفهم ما يقصد فرددت عليه قائلة:
- هل يعني ذلك أن هناك تقاطعات بين المسرح التجريبي ومسرح العبث؟
بدت النشوة على وجهه ، فقال:
- نعم بالتأكيد. المسرح التجريبي يستفيد من كل التجارب المسرحية السابقة، بما فيها مسرح العبث. إنه يسعى إلى خلق نوع من البلوفينيه داخل المسرحية الوحيدة.يراهن على اللامعقول، وغياب الحدث بمعناه التقليدي.. شخصياته ممزقة، وبدون ملامح محددة. إنه لا يطرح موضوعا معينا، بل حالات مسرحية قد لا يكون هناك رابط منطقي بينها. لكنها تفجر في نفسية المتلقي وذهنه ووجدانه كثيرا من الأحاسيس والأفكار المتناقضة. كما يسعى كذلك لخلق نوع من الاحتفالية داخل المسرح. إنه يعكس الحياة بتناقضاتها العميقة.
وقع كلامه في نفسي موقعا حسنا. تأكدت أن الرجل يعرف ما يريد، وما يتوخى الوصول إليه ..متحمسا كان وهو يدافع عن وجهة نظره، وكأنه أمام لجنة دعم المسرح يرغب في إقناعها بجدوى ما يقترحه عليها.
في نفسي قلت لا بد من التوقف عن هذا الحد، حتى لا أبدو لجوجة وعنيدة.
لقد تحقق الهدف من المناقشة، كما كنت أتوق إليه.. من حسن حظي أن الرجل وافقني على الأمر، دون أن يعلن عن ذلك، لقد استنفد الموضوع حقه، لذا سرعان ما حدثني قائلا:
- .حقيقة أعجبتني ثقافتك وعمق أسئلتك. إنها أعمق من أسئلة الكثير من الصحفيين المتطفلين على الميدان.
استهواني كلامه. أشعرني ببعض التوتر، بيد أني سرعان ما كبحت لجام نفسي، ورددت عليه :
-شكرا لك. هذا من لطفك.
مددت يدي نحو المشروب، الذي أحضره النادل دون أن أنتبه إليه، لقد كنت مستغرقة في حمأة المناقشة. كنت مركزة بكل حواسي وأخشى أن ينفلت مني أي جزء منها مهما كان تافها. ارتشفت رشفات منه... حانت مني نظرة تقدير نحو الأستاذ شفيق. ففاجأني بسؤاله:
- هل حقا لست نفس الفتاة التي درست معي في الجامعة.
رددت عليه بحسم:
- لا .. أبدا... أنا درست بعيدا عن الدار البيضاء ... دراستي الجامعية كان في مدينة فاس.
بدا أن الجواب أفحمه. صمت لحظات ثم أردف قائلا :
-غريب. يبدو وجهك مألوفا جدا، لا أكاد أصدق ذلك.
رددت عليه مبتسمة:
- لا ... صدق... ألا يقال أن الله خلق من الشبه أربعين.
أردف بشكل جدي :
- وكأنك هي . عيناك عيناها. ابتسامتك ابتسامتها. نفس الملامح والروح. غريب حقا هذا الأمر.
ابتسمت ثانية، اعتبرت كلامه نوعا من الغزل المبطن، ثم قلت له:
- تأكد أنك أمامك امرأة أخرى. لا علاقة لها بتلك التي عرفتها سابقا.
تدارك الأمر، أحس أن في حديثي تلميحا ما :
- لا أبدا. لم تكن لي علاقة بتلك الفتاة. كانت تدرس معي. وأحدثها في فترات متباعدة.
فكرت أنه يسعى لتبرئة نفسه أمامي. هذا الأمر في صالحي.. أحسست بالوقت يمر سريعا. نظرت إلى معصمي. لاحظ الرجل ذلك، فعلق :
- هل تأخرت؟
بلباقة رددت:
- الوقت يمر سريعا.
التمعت عيناه ببريق ساحر. ثم قال:
- هكذا الأوقات الجميلة. تنفلت من بين أيدينا بسرعة.
قال ذلك، وتطلع إلى عيني، يبحث فيهما عن مدى تأثير كلماته ... زينت وجهي بابتسامة رحبه..لزمت الصمت. نوع من الارتباك ران على نفسي. تأكدت من أنني وقعت في نفسه موقعا حسنا، أشعل سيجارة أخرى أكدت حالته النفسية المنتشية والمرتبكة. نوع من الصراع يصطدم في دواخله. بدا ذلك على حركاته ونظراته.. في الأخير بدا أنه حسم أمره، فتوجه إلي قائلا:
- هل أطمع في لقاء آخر؟
سيجني الصمت للحظات. كان علي أن أتخذ قرارا. من الممكن أن أنصرف الآن دون أن أعد بشيء، وينتهي الأمر. لكن إذا وعدت بلقاء آخر سألتزم به، وهكذا سأفتح لنفسي بابا، يؤدي حتما نحو المجهول. يبدو أنه لم ينتبه لخاتم الزواج في إصبعي. أو تجاهله. لم يسألني إن كنت متزوجة أم لا. قد يكون من النوع الذي لا يهتم بمثل هذه الأمور. هل يكون بصره وبداهته قد خاناه فلم يلاحظ شيئا. أستبعد ذلك.. أفكار شتى تتنازعني. طال صمتي، فكرر سؤاله بصيغة أخرى :
- ما رأيك؟
حاولت أن اثير انتباهه إلى الخاتم بحركة مدروسة، غالبا ما كنت أقوم بها سابقا وتعطي نتيجة فورية. لكنه لم يبال. أي نوع من الرجال هو؟ رأيت على وجهه سيماء الانتظار. حسمت أمري ورددت عليه.
- يتعلق الأمر بنوعية اللقاء.
بدا متفاجئا بطبيعة ردي. وكأنه يستيطن اتهاما. الحقيقة أنا نفسي تفاجأت بطرحه بهذه الصيغة. رد علي بعد شرود:
-لا يذهب ذهنك بعيدا. فقط تعجبينني، وأتمنى أن أحظى بفرصة أخرى لمجالستك.
- إذا كان الأمر كذلك . أنا موافقة.
- هل نحدد موعدا من الآن؟
- سأتصل بك، و نحدد الموعد.
بدا عليه عدم الاقتناع، لكنه استسلم في نهاية الأمر، فعقب قائلا:
- طبعا سأنتظر مكالمتك. أتمنى أن لا تتأخر كثيرا.
تململت في مكاني. فهم أنني أود مغادرة المقهى. قام من مقعده. نادى النادل. أدى ثمن المشروبين. وغادرنا المكان. توقفنا على الرصيف. كثير من المارة يتحركون في كل الاتجاهات. المساء ألقى بردائه الشاعري على الشوارع. أضواء السيارات باهتة لا تكاد تضيء نفسها. نسيم خفيف يتسلل نحو الأجساد التي أنهكتها حرارة النهار. أشار الأستاذ شفيق إلى سيارة الأجرة . توقفت. ودعته مادة له يدي. أمسكها بحرارة. ضغط عليها باحتفاء.. زينت وجهي بابتسامة جميلة، تعبيرا مني عن الامتنان. ابتلعتني السيارة وانطلقت بي نحو البيت.

-VIII-
هكذا يبدو أنني تجاوزت عقدة اللقاء الأول. لا أنكر أنه خلف في نفسي أحاسيس متناقضة لم تساعدني على حسم أمري بشكل قطعي. كان الرجل متحمسا ومحتفيا بي. لم يصدر عنه أي تصرف يسيء إلي. طبعا لا يمكن للقاء واحد أن يكشف لي عن شخصيته الحقيقية، خاصة أنه اختار مكان اللقاء بنفسه. مما يعني أنه كان في بيئته الطبيعية. أعرف أن الأمكنة تؤثر في شخصية الإنسان، وكلما كان المرء في مكان اعتاد ارتياده استطاع أن يتحكم في نفسه، ويظهر جانبا محددا من شخصيته. ذلك الجانب الذي يرغب في إبرازه للآخرين، لكن تغيير الأمكنة قد يصيبه بالإرباك. فتظهر بالرغم عنه شخصيته الحقيقية وإن تعمد إخفاءها.
في البيت أمارس عاداتي المحددة، التي لا أحب التنازل عنها، ولا أحيد عنها قيد أنملة. نوع من الروتين الذي وطنت نفسي عليه. كأن أكلم إخوتي يوما عبر الهاتف. وأستغرق في ذلك وقتا طويلا . أستلعم عن أخبارهم. وأزودهم بجديد حياتي. هذا أمر يستهويني وأمارسه بنوع من الطقوس التي تشبه العبادة. وبالفعل قمت بذلك هذا الصباح بكثير من الاستغراق. وكأنني أكفر عن ذنب لم أرتكبه. أشعرني ربما هذا اللقاء بالأستاذ شفيق وكأنني خنت إخوتي. لقد اعتادوا على أن أكون لهم وحدهم. ولا أهتم بأي شيء خارج حياتهم. استغرقني هذا الوفاء حتى كدت أعتبره واجبا لا أقوى على التخلص منه.
أن أقابل شخصا غريبا، وأجالسه في مقهى، بدا لي من الأمور التي لم أكن أبدا أتصور أنني قادرة على القيام بها، خاصة وأن الأمر مرتبط بشكل ما، بعلاقة عاطفية محتملة، يمكنها أن تغير حياتي، والنمط الذي اعتدت عليه ردحا من الزمن.
بغتة خطرت ببالي فكرة الحديث مع الأستاذة رقية. كنت مدفوعة برغبة قوية في أن أنتزع منها – بطريقة غير مباشرة- بعض المعلومات عن المخرج. بالتأكيد تعرف عنه أمورا كثيرة. لقد جمعته بها ظروف العمل. مما جعلهما مقربين من بعض. على الأقل خلال الوقت الذي استغرقه إنجاز المسرحية. في الحقيقة لم أعتد التواصل معها بكثرة. لذا توجست من فعل ذلك، حتى لا تظن بي الظنون. ومع ذلك حسمت أمري. ركبت رقم هاتفها...تواصل الرنين للحظات، ثم سرعان ما سمعت صوت العلبة الصوتية، فأغلقت الخط.
استغرقتني بعض الأشغال الروتينية في البيت.. بعد ذلك تناولت المجلة النسائية التي اقتنيتها حديثا، وشرعت في تفحصها. لاحظت مقالا يتحدث عن الفن المسرحي في المغرب. أقبلت عليه بكثير من التركيز. تناول فيه الكاتب الحساسية الجديدة في المسرح، الممثلة أساسا في المسرح التجريبي، الذي بدأ يطفو على السطح، ويفرض نفسه مع كتاب مسرحيين ومخرجين جدد، يراهنون على إعطاء المسرح بعدا جديدا، من خلال توظيف تقنيات جديدة في الكتابة والإخراج، ونوعية التعاطي مع الجمهور، الذي يدخله المسرح التجريبي في المعادلة كمشارك في بناء المسرحية، وليس فقط في أداء ثمن التذاكر في شباك الدفع.
ركز المقال كذلك على الدور التثقيفي للموجة الجديدة للمسرح، مقابل ما قام به المسرح التقليدي من إفساد للذوق وتسطيح للفكر من خلال اعتماده على الكوميديا الكلامية، التي يكتفي فيها الممثل بالتعبير اللغوي، حتى أصبحت المسرحيات عبارة عن كشكول من النكث، التي تستهوي فئة كبيرة من الجمهور،.. المسرح التجريبي- يقول الكاتب- مختلف لأنه يراهن على ثقافة المتلقي، فلا يمكن التعاطي معه إلا بامتلاكه لترسانة من المفاهيم والمصطلحات الضاربة بعمقها في الفلسفة والتحليل النفسي والثقافة العامة، والوعي الجمالي في شموليته. وحتى إن عمد المسرح التجريبي إلى الكوميديا – يضيف – فإنه لا يقدم كوميديا شفاهية رخيصة و مبتذلة ، بل يلجأ إلى كوميديا المواقف، التي تكون أعمق وأقوى وأرسخ في الذهن والوجدان. ذكر الكاتب عددا من الكتاب والمخرجين الشباب، الذين نجحوا في تقديم نماذج قوية في المسرح التجريبي، كان الأستاذ شفيق من بينهم.
بينما كنت مستغرقة في قراءة المقال، رن الهاتف، فأفزعني رنينه. أمسكته في قبضتي. ضغطت على الزر، فتهادى إلي صوت الأستاذة رقية ببحته المحبية للنفس:
-ألو ماريا. هل اتصلت بي؟
-أهلا أستاذة رقية. نعم، لكن العلبة الصوتية نابت عنك في الرد.
-كيف حالك وحال أسرتك؟
-بخير. الحمد لله. فقط اتصلت بك لأهنئك على نجاح المسرحية.
-شكرا عزيزتي.. هل يمكنك زيارتي في البيت؟ أحتاج إلى من أحدثه.
- طبعا، يسعدني ذلك. سأحاول مساء.
ودعت الأستاذة رقية، وعدت إلى مهماتي الصغيرة في البيت. حرصت على إعداد وجبة الغذاء بعناية. أحببت أن أقدم لنفسي ولإخوتي هدية. قدرت أننا جميعا نستحقها . مساء توجهت نحو بيت الأستاذة رقية. لم أجد صعوبة في الوصول إليه. بسرعة حصلت على سيارة أجرة، وكأنها كانت في انتظاري. دخلت البيت وسط ترحيب كبير من طرف الأستاذة. إنها تعيش لوحدها. اختارت أن تفعل ذلك. لها موقف سلبي من الزواج. الجميع يعرف ذلك. لقد تزوجت الكتابة كما كانت تردد دائما. بيتها عبارة عن مكتبة. أينما وليت وجهك، تجد كتبا ومجلات وجرائد... لاحظت أن البيت يفتقر للمسة أنوثة. كل شيء مبعثر. لا تبذل الأستاذة رقية مجهودا لإبراز أنوتثها. وكأنها تكره كونها امرأة. تبدو لي مسترجلة. تدخن بلا عقد وتحيا حياة حرة كأنها رجل، وداخل البيت يعكس إلى حد بعيد شخصيتها، جلست على كنبة وثيرة. انتبهت الأستاذة إلى أنني لاحظت الفوضى التي تعم البيت، فاعتذرت من ذلك. رددت عليها :
- لا بأس.. إن كنت ترغبين في مساعدتي لترتيب البيت، فعلت ذلك.
ردت علي محتجة :
- - لا أبدا. أنت ضيفتي. من العيب أن أستغل طيبوبتك. غدا ستأتي المساعدة وستقوم بالأمر.
- فكرت أنها تتجنب استعمال كلمة "خادمة" ..هكذا هم المثقفون. يظنون أنهم بتغيير التسميات يكونون قد غيروا الأمور. ابتسمت ابتسامة خفيفة دون أن أبالغ في ذلك.
اختفت الأستاذة رقية للحظات، ثم جاءت تحمل قنينة مشروب غازي. صبت لي في كأس المشروب وملأت كأسها كذلك. احتلت مكانها على الكرسي المقابل لي. أشعلت سيجارة. مصت دخانها، ثم نفثته، فتكونت سحابة من الدخان، أضافت إلى المكان رائحة أخرى أضيفت إلى الروائح الغريبة، التي امتزجت فيما بينها فخلقت مزيجا لا يمكن تصوره. انتبهت الأستاذة إلى ذلك، فعمدت إلى النافذة وفتحتها، ثم عادت إلى مقعدها، وهي تعتذر عن الجو المختنق بالدخان.
ما لبثنا بعد ذلك أن انقدفنا في الحديث عن المسرحية، فسألتني:
- ما الذي أعجبك تحديدا في المسرحية؟
- فكرت قليلا ثم أجبت:
- اختلافها عن السائد.
أعجبت هذه الإجابة الأستاذة رقية، فعلقت قائلة:
- ذلك هو المطلوب أساسا. كنت أريدها مسرحية مختلفة عما هو متداول، ويبدو أنني وفقت في ذلك.
أكدت كلامها بتعابير عامة. ثم أضفت:
- وكانت للمسة المخرج دور بارز في إظهار هذا الاختلاف.
حينذاك لاحظت تغييرا يطال ملامح الأستاذة رقية، فقالت بدون تردد :
-بالمناسبة. لاحظت اهتمام المخرج بك يوم العرض.
داهمني بعض الارتباك. لزمت الصمت قليلا. لم أعرف كيف يمكنني الرد عليها، فأردفت قائلة:
-عليك أن تحترسي منه.
جاء كلامها هذا صاعقا بالنسبة لي. لم أتوقع أن يكون كلامها مباشرا وصريحا بهذا الشكل . أبعدت عنها بصري برهة، ثم قلت لها بعد أن تماسكت قليلا :
- ما الذي يدفعك لقول ذلك؟
قامت الأستاذة رقية بحركات متشنجة، ثم قالت:
- طبعا أنا أعرفك جيدا، وأعرفه هو كذلك بشكل ممتاز، لذا أرى بأنه لا يناسبك بتاتا.
استدركت قائلة .
- لكنني غير مهتمة به.
وكأنني لم أقل شيئا، استمرت الأستاذة في حديثها قائلة:
- إنه صياد بامتياز... زير نساء. يتنقل من امرأة إلى أخرى دون الشعور بالذنب. لم تمر على فضيحته الأخيرة سوى أقل من شهر، وها هو يرمي شباكه عليك.
وبلهجة غاضبة أضافت :
- اللعنة على الرجال.
أحسست بأن دافعها شخصي جدا، لذا تتحدث بمثل هذه المرارة. فكرت أن ألزم الصمت لكن الفضول دفعني للاستفسار عما حدث، فسألتها :
-ماذا حدث؟
-باختصار لقد تورط مع ممثلة شابة. كانت قد تخرجت لتوها وتسعى جاهدة لاقتناص فرصة، فاقتنصها الأستاذ شفيق... انتهى الأمر بحمل الفتاة، ولولا تدخلي ومساعدتي، لكان الآن يقبع وراء القضبان.. إنه شخص غريب الأطوار، دون جوان من نوع خاص. تستهويه العلاقات في ذاتها. ولا يحب أن يلتزم بشيء. لا يكف عن التورط في العلاقات الجديدة. وغالبا ما تنتهي علاقاته بفضيحة، فنسعى نحن جميعا لإخماد حريقها.
قالت جملتها الأخيرة وقد انخرطت في قهقهة معبرة. بدا لي أن الأمر يستهويها من أحد وجوهه. لزمت الصمت. وأنا أصغي إلى حديثها. الذي لا يمكن للمرء أن يفهم منه إن كانت تشفق على الرجل أو تغبطه.
فجأة غيرت الأستاذة رقية مكانها، وانتقلت إلى الكنبة بجانبي، ثم قالت:
- أنصحك بأن تبتعدي عن طريقه، إنه شخص خطير. حقيقة هو مبدع حقيقي. يحب مهنته ويتفانى في أدائها. لكنه خطر متحرك.
واصلت الاستاذة كلامها وهي تدنو مني تدريجيا، حتى كادت تلامسني، ثم تابعت قائلة:
-أنت امرأة جميلة ورقيقة. وأي صدمة ستسبب لك آلاما بلا حدود. إذا اتصل بك بأي شكل من الأشكال، تجنبي الرد عليه.
كنت أتتبع كلماتها باهتمام. استغربت من نفسي، فبدل أن أكره الرجل بسبب ما قالته المرأة عنه، وجدت نفسي أفكر فيه بشكل مختلف..روادني شعور بأن الأستاذة رقية تطمع في الاستفراد بالرجل، لذا تحاول جاهدة إبعاد النساء عنه. حقيقة لم أجد نفسي أبدا بنفس هذا القرب من الأستاذة رقية. لقد اقتحمت المجال الذي أحاول أن أحافظ عليه دوما. دائما أتخذ مسافة معقولة بيني وبين مخاطبي. لكن الأستاذة اقتربت مني كثيرا، فأربكني ذلك. كنت دوما أزورها رفقة أحد أفراد عائلتي، وتكون جلساتنا رسمية جدا، اليوم أجدني وحيدة معها وقريبة مني بشكل مخيف، لا أدري لما بعث ذلك بعض الرهبة في نفسي، أأكون حساسة إلى هذا الدرجة؟. مخاوفي ستحتد أكثر حينما تدنو مني الأستاذة أكثر، بل تلتصق بي، وأمام ذهولي تمتد يدها نحو شعري، وتمرر عليه يدها بلطف وتأن، وهي تقول:
-الرجال لا يأتي منهم سوى الهم والقلق، أبعديهم عن تفكيرك ،فترتاحي.
استغربت لكنة حديثها التى بدت لي مختلفة. فكرت قليلا ثم رددت عليها:
- نعم أنت محقة، تجربتي السابقة في الزواج تؤكد ذلك.
شجع كلامي هذا الأستاذة رقية لمواصلة حديثها، فأردفت قائلة:
- نعم أعرف تجربتك المريرة. أنا حسمت أمري بدون المغامرة في أي تجربة. أو لنفل كانت تجربتي ذهنية وفكرية، الثقافة حصنتني من الرجال، وهأنذا سيدة نفسي. لا يتحكم في قراراتي ولا في عواطفي أي رجل.
قالت ذلك، وهي تمرر يدها من جديد على شعري. ثم ما لبثت أن تسللت يدها إلى عنقي شعرت بقشعريرة تخترقني. انتفضت من مكاني. تزحزحت عنه قليلا. رمقت الأستاذة بعين فاحصة. فرأيت الشهوة تلمع في عينيها . أبدا لا يمكنني أن أخطئ ذلك. نعم كانت تستمتع بلمسي. أحسست بأنني فطنت إلى أمرها، فزينت وجهها بابتسامة شبقية. ضغطت على شفتها السفلى، ثم تململت في مكانها محاولة الالتصاق بي أكثر. حينذاك حسمت أمري، وتخلصت من ترددي، فقلت لها:
- يجب أن أنصرف الآن. لقد تأخرت كثيرا.
رمقتني بنظرة متوسلة، ثم قالت :
- لم لا تمكثين قليلا؟
خجلت من مواجهتها. كنت أكن لها احتراما كبيرا، فخشيت أن أحرجها، لذا رددت عليها قائلة :
- قد أعود مرة أخرى.
وقفت مستعدة للانصراف. استسلمت الأستاذة رقية للأمر الواقع. تقدمت نحو لتودعني، فإذا بها تضغط على صدري بقوة، ثم ما لبثت يدها أن تسللت نحو نهدي، وربتت عليه بلطف، زعزعت لمستها ثقتي في نفسي، لا أدري كيف أقول ذلك..أحسست إحساسا غريبا لم أحسه من قبل. لكنني تماسكت.. نظرت إليها نظرة مستنكرة.. ردت علي بابتسامة ماكرة، تدعوني إلى التواطؤ معها في ميولاتها الشاذة.
-VIIII-
البيت قلعتي الحصينة. فيه أجد نفسي متحررة وقوية. إنه مملكتي. أمارس فيه ما تتوق إليه نفسي بلا تحفظ. إخوتي المحيطون بي يمنحونني الثقة في النفس ويتوجونني ملكة عليهم. لا يمكن لأحدهم أن يقوم بعمل ما دون استشارتي. يعجبني هذا الأمر، ويستهويني إلى أبعد الحدود، وأسعى جاهدة للحفاظ عليه. أحاول دوما أن أبدو في أعينهم قوية ورصينة وجدير بالاحترام.
كان الليل قد أرخى سدوله على العالم من حولي، وأنا في البيت وحيدة. لم يحن بعد أوان عودة إخوتي من الخارج.. غيرت ملابسي، وتزينت كالعادة، محاولة أن أحفز في نفسي دواعي السعادة.. استلقيت بعد ذلك على الأريكة لأشاهد التلفاز كانت الشاشة تعرض أحداث مسلسل تركي مدبلج إلى العربية.. علاقة غرامية متشابكة.. تعجبني المناظر الطبيعية الخلابة لتركيا.. لكنني مللت هذا النوع من الدراما العاطفية. أخمدت أنفاس التلفاز. جال بصري في أرجاء البيت. ثم ما لبثت أن تداعيت مع أفكاري وتأملاتي. فكرت في المخرج شفيق، واللقاء الذي جمعني به، ثم توقفت عند حديث الاستاذة رقية عنه.. شيء ما كان يرمي شباكه علي خلسة، لا أستطيع شرحه ولا فهمه. شئ غامض ومثير وغريب. تلك اللمسة التي انفلتت من يد الأستاذة رقية لتحط على نهدي. كانت لمسة غريبة. أشعر بها الآن، وكأنها حدثت للتو. لقد فرضت نفسها علي.أحاول عبثا التخلص من تأثيرها. كانت لمسة قوية، حركت شيئا ما في داخلي، شعورا خامدا أحجبته ...أبدا لم ألمس في نفسي ميولا من هذا النوع. قرأت سابقا وسمعت عن النساء السحاقيات اللواتي يتخذن من الشاعرة " سافو" قدوة لهن. قرأت مقالات عنهن وشاهدت برامج تلفزيونية أجنبية تناقش حالتهن الجنسية الشاذة. كنت أستهجن هذه الميولات، وأعتبرها من تجليات الشذوذ وغياب الذوق السليم. كما أنني كنت أعتقد نفسي دائما بعيدة جدا عن مثل هذا الأمر، وفي منأى عنه. بيد أنني الآن أجد نوعا من اللذة في التفكير فيما حدث. وجدت نفسي مرغمة على التفكير في يد الأستاذة رقية التي تسللت نهدي. تمنيت لو أنها تكرر فعلها وتعتصرنهدي حتى أغيب عن الوعي. حقيقة تحدوني رغبة قوية في ذلك .. تدريجيا أجد نفسي أبتعد عن الأستاذة رقية و لمستها الشهيرة، لأفكر في الأستاذ شفيق، وكلام الأستاذة عنه. ما هذا الذي يحدث لي؟ هل أكون سحاقية منذ زمن بعيد دون أن أنتبه إلى ذلك. هذا الأمر جعلني أفكر بشكل مختلف في طلاقي، وعدم سعيي لإغواء أي رجل، أو على الأقل إقامة علاقة عاطفية مع أحدهم. تصبب جسدي عرقا وأنا أفكر في ذلك، وكأنني أكتشف حقيقة مرعبة عن نفسي، كانت متخفية في منطقة ما من لاوعيي المظلم. حاولت طرد كل هذه الأفكار والهواجس. لم أفلح في ذلك. لقد استغرقتني هذه الحالة الغريبة بكثير من الاستحواذ، حتى كدت أخاف على نفسي من الجنون. لم يقبل عقلي هذه الفرضية.. كان يدفعها ويرفضها بكل قوة، فيما كان جزء ما من قلبي ووجداني متعلق بها. أصبحت في وضع محرج " صراع مرير يمور في داخلي، وأنا أنوس ما بين الحالين معا.. قررت اللجوء إلى الفراش، طامعة في أن ينقذني النوع من كل هذه الوساوس الخبيثة. تمددت على السرير. أشعلت إضاءة خفيفة تنبعث من الأباجورة على المنضدة الجانبية. نفس الأفكار تطويقي. أبعدها ..تنكص للحظات، ثم تقتحمني من جديد، حاولت الانشغال بأشياء أخرى... بدأت أعد حتى المائة.. تدريجيا استطعت فقدان الاحساس بالعالم من حولي، والغوص في جب النوم العميق. بدأ ذلك بشكل خفيف ..الخدر يتسلل إلى أعضائي واحدا تلو الآخر...أفكاري تشوشت. أفكر في موضوع، ثم أنتقل إلى غيره.دون رابط منطقي . ثم فقدت نهائيا السيطرة على مجرى تفكيري، فإذا بي أرى نفسي أمضي في أرض خلاء، لا حدود لها ولا معالم تميزها. تشبه إلى حد ما صحراء شاسعة لا يحدها البصر.. الخلاء من حولي.. يكاد يكون امتدادا لما أشعربه في دواخلي ..يشعرني ذلك بالكآبة والرعب. التفت يمينا ويسارا بحثا عن كائن ما، أتوقع أن يخفف من الوحدة التي أشعر بها في هذا المكان الموحش .. لا أحد...فجأة انبثقت من العدم شجرة ضخمة هائلة الحجم. استغربت وجودها في هذا المكان القاحل..إنها لا تناسبه أبدا. رغبة قوية دفعتني للتوجه نحوها. وجلة تقدمت صوبها. الحذر يرافق خطواتي المرتبكة. أحاول التوقف، فلا أستطيع. كان سيري لا إراديا.. وكأنني مدفوعة بقوى خفية، تسحب قدمي نحو الشجرة. أمامها أقف مذهولة. من أغصانها تتدلى حبال بلا حصر، أمعنت النظر أكثر، فإذا هي ثعابين وأفاع متشابكة. كدت أفقد الوعي من شدة الرعب الذي اخترقني. حاولت الصراخ، لكن شيئا ما كان يكبس على أنفاسي، فلم أستطع الإفراج عن أي همهمة أو أنة بسيطة، انحلت شبكة الافاعي، وتدلت نحو الأرض، ثم دبت زاحفة على بطونها. كل منها اتخذ اتجاها مختلفا.. رأيت اثنتين منها تقصدني.. تقهقرت إلى الخلف. لم يفدني ذلك في شيء. التفت ورائي فإذا بحفرة سحيقة تحد من تراجعي. تطلعت فيها مرعوبة، فإذا في عمقها حبال بلا حصر قدرت أنها ثعابين وأفاع، كيف وصلت بتلك السرعة إلى القعر؟... لا أفهم...إنها هناك تنتظر أن تنقض علي وتنهشني بلا رحمة، إن أنا هويت في الحفرة، الفزع يعصر قلبي. أبكي بحرقة، أستغيث بصمت. كلماتي تخونني .. تخدلني...أتخلى عنها صاغرة نظرت أمامي، فإذا بالأفعيين تزحفان نحوي...وصلا إلى قدمي. كانتا تبدوان لطيفتين وجميلتي المظهر. بدأتا تتمسحان برجلي، ثم انزلقتا في اتجاه ساقي، ملمسهما ناعم، وفي غاية الروعة. أسكن ذلك نفسي، وخمد الرعب إلى حين، لا أدري كيف تحول رعبي إلى نشوة غير متوقعة.. نظرت إليهما عن قرب. كان لهما وجها شخصين أعرفهما جيدا. أحاول التذكر. وجهان مألوفان جدا، لكنني لا أستطيع الجزم بشيء. الملامح تظهر وتختفي. إنها في تحول متواصل. تملكني الاستغراب من ذلك.في لحظة ما أحسست بالخطر الداهم. حاولت التخلص منهما. لم أقو على فعل ذلك، فاستسلمت لدغدغتهما. لكن شجاعة مفاجئة تعتورني، فأبعدتهما عني بقسوة، في لحظة حاسمة رأيتهما ملقيين على الأرض. تشابكتا في صراع حامي الوطيس. كل منهما تحاول القضاء على الأخرى. كنت أتفرج على المشهد المنفر. فطنت إلى أنهما ذكر وأنثى. أو ربما ذكران، أو انثيان، لا أدري، دام الصراع طويلا، وأنا جامدة في مكاني، لا أحرك ساكنا.
بغتة وأمام ذهولي المشرع على كل الاحتمالات ، لاحظت أن إحداهما أنهكت، فتمددت على الأرض جثة هامدة. فتحت المنتصرة فمها، وابتلعت بهدوء الأفعى المنهزمة. اقشعر بددني من هول ما شاهدته. كنت أخشى أن ينتهي بي الأمر وليمة للأفعى، حين تلتفت نحوي وتشعر بوجودي المربك. مرعوبة كنت. أفكر في أنني قد أكون ضحية كابوس مخيف. حاولت الاستيقاظ من النوم. لم أفلح في ذلك.. اختفت الأفعى المنهزمة..فإذا بالمنتصرة، ترفع رأسها نحوي، وتنظر إلي بتحبب زائد. ثم ما لبثت أن قامت بدورة كاملة. ومضت في طريقها زاحفة، لا أدري كيف وجدت نفسي أنجر وراءها وأنا مسلوبة الإرادة. عيناي لا تكاد تفارقانها، وكأنني أخشى أن أفقدها. وصلت إلى فوهة غار.. تسربت داخله. ترددت قليلا لكنني تبعتها.. مستغربة وجدت نفسي أنسل وراءها. وكأن جسمي طاله تحول جذري فأضحى قادرا على الزحف بمهارة. وجدت نفسي داخل وكر غريب. فإذا بالأفعى التي لم أتبين جنسها ذكرا كانت أو أنثى تلتف من حولي ..أشعرني ذلك براحة غريبة، رغم الخوف الذي يتوجس بي من بعيد. بمرور الزمن أحسست بوطأة الأفعى على صدري، كانت تهرصني بلذة.. بدأت أختنق.. صرخت صرخة عظيمة. فإذا بي أجد نفسي قد استيقظت من نومي، وأنا أتصبب عرقا، وأثر الاختناق بادية علي.
غادرت غرفة نومي، وأنا منشغلة البال بتأويل هذا الحلم الغريب. الشرود يهيمن على ذهني.. ولجت الحمام. أخذت دوشا فاترا.. طرد ذلك عن جسدي بعض الكسل.. شعرت بنوع من النشاط يدب في أوصالي. تناولت طعام فطوري. ثم أشعلت جهاز التلفاز لأتعرف على مستجدات الأخبار. الثورات العربية مستعرة. لحد الآن سقط ديكتاتوريان عريقان والحبل على الجرار .. الوضع في اليمن مربك وغير واضح المعالم، بعد لجوء الرئيس ،الذي عمر في الحكم أكثر من ثلاثة عقود، إلى السعودية للعلاج من إصابات خطيرة، بعد استهدافه في القصر الرئاسي. طاغية ليبيا لا يزال يحارب شعبه بالأسلحة الثقيلة.. قنابل ومزنجرات وطائرات، وكأنه يحارب دولة معتدية. الأسد في سوريا أدمن قتل المتظاهرين بعد أن أعجبته لعبة " المندسين والإرهابيين" التي يروج لها إعلامه صباح مساء، حتى كاد يصدقها ، رغم أن لا أحد في العالم يأخذ كلامه على محمل الجد. شعب سوريا ينزح بالمآت إلى الدول المجاورة، ولا حل في الأفق، في المغرب لجنة عينها الملك لإعادة كتابة الدستور. شباب " عشرين فبراير" مصرون على موقفهم الرافض لأي دستور ممنوح... لا يريدون أقل من ملكية برلمانية يسود فيها الملك ولا يحكم. المحافظون الاسلاميون وأعضاء من حزب الاستقلال يصرون على احتفاظ الدستور الجديد بالصيغة القديمة المتعلقة بإسلامية الدولة، بما يعني رفضا للدولة المدنية. كما أن موقفهم من دسترة اللغة الأمازيعية كلغة رسمية للبلاد إلى جانب اللغة العربية يبدو متذبذبا يميل نحو الرفض. أحزاب اليسار المشاركة في الحكومة تلعب على الحبال ، محاولة إمساك العصا من الوسط. اليسار الرديكالي يدافع عن حرية المعتقد وتعدد مصادر الهوية ويصطف مع حركة عشرين في فبراير في خندق واحد.
يفرض الحلم علي نفسه من جديد. لم أجد صعوبة في تأويل الثعابين .. بدا لي الأمر يتعلق بالمخرج شفيق والأستاذة رقية. بيد أن الحيرة ظلت متربعة على الذهن حين حاولت التعرف على أيهما انتصر على الآخر في النزال، والتهمه.
أي منهما سلب إرادتي وانجررت وراءه صاغرة، لا حيلة لي في المقاومة. بدا لي الحلم رسالة واضحة تحذرني من الاثنين معا. فكرت في قطع علاقتي بهما.. وبينما كنت في غمرة التفكير والاضطراب،رن الهاتف، فأيقظني الرنين من شرودي:
- ألو من؟
- ألو..أنا شفيق.
- أهلا، أستاذ شفيق. كيف حالك؟
- أنا بخير، وأنت كيف أحوالك؟
- أنا بخير كذلك.
- وعدتني أن تتصلي بي، ولم تفعلي، فقلقت عليك. أتمنى أن يكون المانع خيرا.
صمتت للحظات، صورة الثعبان هيمنت على تفكيري. تخلصت منها بسرعة ثم رددت عليه:
- لا، لاشيء مهم، فقط بعض الانشغالات.
صمت الرجل برهة ثم أردف قائلا:
- هل أطمع في اللقاء بك
فاجأني طلبه المباشر، لم أجد في نفسي ميولا للاستجابة لطلبه. صمت قليلا ثم رددت عليه:
- نعم بالتأكيد. لكن الوقت لا يسمح لي الآن. سأتصل بك لاحقا.
هذه الإجابة كانت كافية لتقنع الرجل بأن الأمر قد انتهى، ولا سبيل إلى الإلحاح.
صمت للحظات ثم قال بعصبية ظاهرة:
- طبعا .. طبعا.. كما تشائين ..شكرا.
انغلق الخط..سرحت بذهني بعيدا. كانت لمسة الأستاذة رقية تنبعث من رمادها، قوية ومثيرة، حاولت تجاهلها بكل ما أملك من قوة.. فكرت في الحلم. إنه رسالة قوية. لا يمكن أن يختلف إثنان في تفسيرها. فإذا كان الأستاذ شفيق خطرا متحركا كما وصفته الأستاذ رقية، فيبدو أن الأستاذة خطر هامد. ينتظر في هدوء ضحيته. إنها تعاني من تشوه نفسي حاد، وسينتقل هذا التشوه إلي أنا كذلك إذا لم أحترس.. لا أتصور نفسي مرتبطة بعلاقة عاطفية مع امرأة. مجرد التفكير في هذا الأمر يصيبني بالصداع، بالألم وبالاشمئزاز.
أنجح للحظات في اقصائها عن ذهني، ثم سرعان ما تهيمن علي من جديد. لقد سحرتني هذه المرأة. تبدو لي يدها الكبيرة والقوية تتسلل إلى نهدي وتعتصره. أشعر بقوة الضغط، فخحترقني الإحساس باللذة ، تسافر بي النشوة إلى عوالم لم تطأها قدماي من قبل. غير أن إحساسا بالذنب سرعان ما يهيمن علي. أشعر بنفسي قذرة وقبيحة ومشوهة. كان علي أن أتخلص من كل ذلك. أن أحسم أمري. وأنتهي من كل هذه الهواجس. تناولت الهاتف ركبت رقم الاستاذة رقية... رنين متواصل. بعد لحظات وصلني صوت الاستاذة دافئا وقويا:
-ألو ..حلوتي ماريا. لقد انتظرت اتصالك يا جميلتي.
أربكني كلامها. فكرت أن أقطع الاتصال. لم أستطع. صمتت لفترة قصيرة ثم قلت :
- أهلا أستاذة رقية. كيف حالك؟
-أنا يخير فقط أتمنى أن تكوني أنت كذلك بخير
- أنا بخير .رددت عليها مرتبكة. ثم قررت أن أخبرها بقراري بالابتعاد عنها وعن عالمها الذي لا يناسبني، وأطلب منها ألا تتصل بي أبدا. استمرت الأستاذة في حديثها الخافت:
-متى سأراك يا صغيرتي؟ متى سأقبل نهديك الجميلتين.
أربكني كلامها، وبدل أن أقفل الخط، أو أصدها وأطلب منها الكف عن هذا الكلام، وجدت نفسي أصغي بالتذاذ لحديثها، ثم انسلت من لساني هذه العبارة، فقلت لها :
- انتظريني سأزورك مساء.

-X-
ضغطت على جرس الشقة انتظرت قليلا، ثم انفتح الباب. الأستاذة رقية مشرقة متألقة، وكأنها امرأة أخرى.. تبتسم برحابة. وعيناه الفرحتان لا تكفان عن الحركة. سحبتني نحو حضنها. ضمتني إليها... قبلتني في خدي، ثم دعتني للدخول. مرتبكة كنت، وفي وضع لا أحسد عليه. حضوري إلى بيت الأستاذة دعوة صريحة ومتواطئة. لا مجال للتراجع أو الادعاء بأنني غير معنية بما تقترحه علي.. كانت قاعة الضيوف قد رتبت بشكل لائق. شمعتان حمراوان تجودان بضوئهما الخافت. كأسان فارغان يرتاحان على المنضدة. اقتعدت مكاني وأنا أداري خجلي واضطرابي. اختفت الأستاذة رقية للحظات ثم عادت تحمل مخطوطة قدمتها لي بكثير من الحبور.. جلست بجانبي وسيماء الظفر تطفر من ملامحها، خاطبتني قائلة:
- هذه آخر مسرحية أشتغل عليها. أتمنى أن تقرئيها، وتعطيني رأيك فيها.
- محرجة تناولت الخطاطة. وبدأت أقرأ. انتبهت الأستاذة إلى عدم كفاية الضوء فأشعلت المصباح الذي يستقر وسط سقف القاعة، تحيط به وتزينه ثريا ضخمة وجميلة.. أصبحت القراءة سهلة. قلبت الصفحات بتأن واحتراس. لاحظت أن كل شخصيات المسرحية نساء، إنها احتفاء مقصود بالمرأة. الأحداث تشبه إلى حد بعيد المسرحية التي شاهدت عرضها.. أحداث متداخلة وغير مترابطة... المسرحية عبارة عن لوحات تقدم نماذج من النساء، اللواتي يحفل بهن المجتمع. لكنهن يتفقن في اكتفائها بذواتهن وعدم حاجتهن إلى الرجال. في حوارهن كن يعبر عن ذلك بطرق مختلفة وينتصرن إلى محورية المرأة في الحياة.. الأفكار التي يعبرن عنها متطرفة، ولكنها لاقت استحسانا في نفسي. إنها تنطلق من رؤيا مختلفة عما هو سائد.. بعد عدة صفحات وضعت المسرحية جانبا وبدأت نقاشا مع الأستاذة قائلة:
- مسرحية جميلة ومثيرة.
- شكرا. هل من ملاحظات؟ أثق في ذكائك.
- العفو. لكن الشخصيات كلها نساء.
- نعم أنا أقصد ذلك.
- أليس ذلك نوع من" النسوية"، التي قد تحرض ضدك الرجال؟
- طبعا هذا ما أهدف إليه.
- ولكن ألم تفكيري في أن أغلب المخرجين والنقاد والصحفيين رجال؟
- نعم فكرت في ذلك، لكنني أرغب في استفزازهم.
- ولم الاستفزاز.. ألا يمكن أن تمرري رسالتك بشكل مختلف.
اتخذت الأستاذة رقية هيئة من يدافع عن قضية، يؤمن بعدالتها ثم قالت:
- العقلية الذكورية التي تهيمن على مجتمعنا تحتاج إلى صدمة، استفزاز أو أي طريقة قوية توقظها من سباتها.
فكرت في كلامها، اقتنعت بوجاهته. فلم أرغب في مواصلة الحديث في الموضوع. فطنت الأستاذة إلى ذلك. تناولت المخطوطة. رمتها جانبا ثم خاطبتني قائلة :
-هل اتصل بك الأستاذ شفيق؟
فكرت أن أكذب، وأزعم بأنه لم يتصل، لكنني لم أستطع، فأخبرتها:
- نعم اتصل بي.
علقت قائلة، وقد أضحت أكثر شراسة في تعابيرها:
- أعرف ذلك الذئب. لن يتنازل بسهولة.
من كلامها أحسست بأنني فريسة يتصارع حولها حيوانان ضاريان. التزمت الصمت فأضافت :
- احذريه. إنه محترف في التعامل مع النساء. سيهملك قليلا، ليجعلك تتشوقين إلى لقائهن ثم يتصل بك. في المرة القادمة إذا اتصل لا تردي عليه.
مرة أخرى شعرت بأن الأستاذة تحكم طوقها حولي. وتحاول أن تقرر بدلا عني. لم أعلق بكلمة.. فقط انكمشت على ذاتي، مترقبة هجوما من نوع آخر. لكن الأستاذة سرعان ما ارتخت ملامحها وأخذت تحدثني في أشياء عامة، ومختلفة. تشعب حديثنا، محاولة خلق أجواء حميمية بيننا. لم تكن متعجلة. يهمها أن أطمئن إليها أكثر.. رويدا رويدا اقتربت مني. ثم ما لبثت أن تلامس جسدنا.. شعرت بقشعريرة تنتشر في جسمي. انتفضت من مكاني بشكل لا إرادي، ابتعدت عنها قليلا. التفتت نحوها. كانت تزين وجهها بابتسامة مغوية.. نظرت إلى أسفل. اخترقتني للحظات شعور بالندم. فكرت أن أغادر المكان. لكنني لم أفعل.. لم أجد في نفسي القدرة على تنفيذ ما أفكر فيه.. تدريجيا استأنست بالأجواء الجديدة التي تسعى الأستاذة لخلقها ..أحضرت قنينة خمر . ملأت كأسين. طلبت مني أن أتناول كأسي وأشربه. اعتذرت، فأخذت كأسها، وبدأت في الشرب. أشعلت لفافة، وبدأت تدخن، كانت تستمتع بما تقوم به. في الأجواء موسيقى عالمية جميلة. سمفونية، تبدأ هادئة، ثم ترتفع تدريجيا، لكنها لا تلبث أن تعود إلى هدوئها.. كانت موسيقى تحرك الوجدان. تتلاعب بالأحاسيس، ترتفع بها إلى الأعالي تحلق بها في الأجواء المرتفعة، ثم تخفضها نحو الوهاد السحيقة، أختلس النظر إلى الأستاذة، كانت تتماهى مع أنغام الموسيقى. حمرة ما اعتلت وجهها.. حركاتها أضحت كثيرة. يبدو أن الخمر تلاعبت بها، وأفقدتها السيطرة على نفسها. كنت أرتشف مشروبي الغازي الذي قدمته لي بعد أن رفضت احتساء الخمر. فجأة زحفت الأستاذة نحوي. امتدت يده نحو شعري، فمررتها عليه، بالتذاذ ونشوة، بدتا ظاهرتين عليها. لزمت مكاني. لم أعرف كيف يمكنني التصرف.. لقد قدمت إليها برغبتي، ولكنني لم أتعود هذا النوع من الحب.. كيف يمكنني التجاوب معها.. وجدت نفسي تائهة وحائرة. امتدت يد الأستاذة إلى وجنتي. قرصتها بلطف. لم أشعر بأي رغبة، فقط كنت أترقب ما سيحدث. كان نهداي يطلان على استحياء من قميصي المقلم، تسللت يد الأستاذة إليهما. لمستهما بلطف..أخجلني ذلك. فكرت في أن أمنعها من التمادي في تصرفاتها. لكنني لم أفعل.. بغتة انحنت الأستاذة نحوي. طبعت قبلة على نهدي الأيمن.. بدا لي الأمر سخيفا . في الحقيقة كنت أنتظر أن ذلك سيؤثر في نفسيتي فأتجاوب معها. لكن ذلك لم يحدث. امتدت يد الأستاذة إلى القنينة أفرغت ما في جوفها تباعا كانت تكرع الكؤوس بلهفة. وهي تلمس كل عضو من جسدي. ثم ما لبثت أن تسربت يدها نحو أسفل . نحو بظري.. حينها لم أستطع أن أظل على حيادي. أحسست بخصوصيتي تخترق بحق..أزحت يدها بلطف.. استجابت بغنج..مالت نحو أذني ثم قالت بصوت خافت:
-أحبك.
كان ذلك يشبه إلى حد ما لعبة محرمة.. لم أجد في نفسي أدنى تجاوب. كنت خائفة ومضطربة.
أثارتني التجربة بداية الأمر. لكنني اللحظة لا أجد أي متعة في ذلك. أشعر بنفسي مكبلة وغير قادرة على التقدم خطوة نحو المتعة المفترضة. كانت الاستاذة قد شربت كثيرا فتثاقل جسدها. حركاتها لم تعد تسعفها في فعل ما تفكر فيه. لاحظت أن عينيها تنغمضان تدريجيا. فإذا بها ترتمي على الكنبة فاقدة الإحساس بما حولها. حاولت أن أحملها نحو سريرها. لم أستطع.. أخذت لحافا دثرتها به. ثم غادرت وكرها، لأتوجه نحو بيتي.
وصلت إليه في حالة، لا يمكن فهمها. كنت فرحة من جهة وحزينة من جهة أخرى. في لحظات تخترقني لحظات فرح، ربما بسبب تخلصي من الهواجس، التي حاصرتني في المدة الأخيرة. لقد مررت من اختبار حقيقي، وتأكدت بما لا يدع مجالا للشك بأنني بعيدة عن أن تكون لي ميولات جنسية شاذة..لم أحقد على الأستاذة رقية و لم أكرهها.. لقد تعلمت منذ صغري أن أحترم الاختلاف. لا شيء لدي ضد الشواذ بشتى أنواعهم. أعرف أن هناك هرمونات مسؤولة على كثير من حالات الشواذ، بمعنى أن ميولاتهم تحددها طبيعتهم التكوينية. فالمرء في هذه الحالات يكون مجبرا على أن يكون مختلفا جنسيا عن باقي الناس.. كما أعرف أن باقي الحالات أسبابها نفسية، أو بسبب التنشئة الاجتماعية. غالبا ما يكون الشخص الذي تعرض في طفولته لمعاملة قاسية أو اغتصاب أو غير ذلك مهددا أكثر من غيره ليكون شاذا. لقد فرحت بكوني سوية، لأنني أكره أن أكون شاذة. لقد أثرت في نفسي لمسة الأستاذة رقية، التي ربتت على نهدي فزعزعت ثقتي بنفسي، حتى توهمت أنني قد أكون ذات ميولات سحاقية. لكن بعد هذه الأمسية الغريبة تأكدت أن الأمر مجرد حالة ذهنية اخترقتني في حالة ضعف. ربما لأنني أعيش فراغا عاطفيا مقيتا، فكانت عواطفي عرضة للتلاعب.
فرحتي هذه لم تدم طويلا، إذ سرعان ما أشعر بالحزن يتسرب تدريجيا إلى نفسي، فيثقل على قلبي. لقد قررت أن أحسم أمري وأقطع علاقتي مع الأستاذة رقية، والأستاذ شفيق. معنى هذا أنني أعوذ إلى قوقعتي إلى حياة الفراغ، والانشغال بتوافه البيت. جلست على الأريكة أتأمل وضعي. أحسست أنني مررت بلحظة قوية في حياتي لقد عشت في المدة الأخيرة تجربة مختلفة ونوعية، فوجئت بما أمتلكه من قدرة على التحليل والمناقشة. استرجعت حديثي عن المسرحية مع الأستاذ شفيق ثم ما قدمته من ملاحظات على النص المسرحي الذي قدمته لي الأستاذة رقية. هذا الأمر أعجبني كثيرا، خاصة وأنني لاحظت أن الاثنين كليهما استحسنا تعاليقي وردودي. أحس اللحظة بأن شيئا ما يتحرك داخلي. أشعر وكأن رغبة قوية في التعبير عن نفسي تخترقني بقوة لم أعهدها من قبل. هل سأكتب شيئا؟ لا أدري لكنني أشعر برغبة قوية في فعل ذلك. نوع من الشرود تملكني. توتر خفيف يداعب وجداني. قصدت المكتبة. أخذت حزمة من الأوراق البيضاء وجلست في المكتب أفكر في الطريقة المثلى، التي تمكنني من التعبير عن نفسي.
منذ زمن بعيد وحلم الكتابة يداعب وجداني. في كل مرة كنت أؤجل الأمر. كنت أخشى من الفشل. أعتقد أنني غير قادرة على ذلك. لكن هذه التجربة القوية فجرت شيئا في دواخلي.. سأكتب على الأقل ما عشته. قرأت يوما أن المرء إذا انطلق من تجربة حياتية قوية استطاع الكتابة. تبادر إلى ذهني أنني امرأة غير موفقة في الحب، فقررت أن أكتب قصة. قد أسميها :" امرأة تخشى الحب" .. ثم بدأت الكتابة بجملة استفهامية:
" هل يمكن لمكالمة بسيطة أن تغير حياة المرء ؟".



#مصطفى_لغتيري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رقصة العنكبوت -رواية- الكتاب كاملا.
- أسلاك شائكة- رواية- الكتاب كاملا
- لعبة القدر
- قصص قصيرة جدا من جنوب المتوسط
- الجسر
- شيء من الوجل - الكتاب كاملا
- بورتريهات قصصية في -ظلال حارقة - للكاتب المغربي ادريس الواغي ...
- ثيمة الصمت في -حطب بكامل غاباته المرتعشة - للشاعرعبد الغني ف ...
- ضجة بسبب صورة غلاف مجموعة قصصية
- العرب تحاور مصطفى لغتيري حول اتحاد كتاب المغرب
- امرأة تخشى الحب
- ورقة حول مشروع النشر و الإعلام و التواصل.‎
- إلى أصدقائي الرائعين
- التجديد تحاور لغتيري حول المبادرات الجديدة لاتحاد كتاب المغر ...
- في ذكرى ميلادي السابعة و الأربعين.
- البيان الختامي للمؤتمر الوطني الثامن عشر لاتحاد كتاب المغرب
- فجر جديد في اتحاد كتاب المغرب
- هواجس امرأة - مجموعة قصصية - الكتاب كاملا.
- -رجال وكلاب- لمصطفى لغتيري: أو : جدلية الوضوح والتعتيم
- رواية ابن السماء للروائي المغربي مصطفى لغتيري


المزيد.....




- ثبتها أطفالك هطير من الفرحه… تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...
- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...
- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مصطفى لغتيري - امرأة تخشى الحب - رواية- الكتاب كاملا_ دار النايا سوريا 2013