أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - محمد هاشم البطاط - النقد في الخطاب الاسلامي المعاصر















المزيد.....



النقد في الخطاب الاسلامي المعاصر


محمد هاشم البطاط

الحوار المتمدن-العدد: 4353 - 2014 / 2 / 2 - 10:55
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


يأتي الحديث عن النقد ضمن سياقات يُراد منها إصلاح وضع فكري أو سلوكي قد إبتعد عن مساره المعتاد أو على الأقل عما اُريد له أن يكون ، فالنقد بالدرجة الأساس هو محاولة للإصلاح و رغبة فاعلة في مراجعة الذات مراجعة تشي بإمكانية تجاوز الخلل الحاصل و المؤثر على مسيرتها في طريقها صوب ما تروم ، لذا ليس ممكناً – لا سيما عند الحديث عن بنية فكرية إتخذت حيزاً ضمن الخارطة الاجتماعية – الاعتكاز على موضوعة الاستعلاء الكلي للخطاب ، أي خطاب ، عن إفتراضات النقد الراغبة في إعادة التأطير الفكري بما ينسجم و واقع البنية عينها ، لان النتاج الإنساني يلتزم بإحاطات الزمكانية التي إنطلق ضمن بنياتها إلى حيز الوجود ، و لما كانت هذه الإحاطات تمتاز بالنسبية ، لتماشيها مع طبيعة عالم الإمكان ، فإن إحتياجية النتاج الإنساني لممارسات إعادة القراءة ، بغية تقويم الاعوجاج الحاصل فيه ، لهي أمر لازم و ضروري .
لم تأت التجارب السماوية لتؤسس لضرب وشاجة بين الأرض و السماء و لتتحدث عن عالم ما بعد الموت و موقع الإنسان فيه فحسب ، و إنما أرادت أن تؤسس لمنهجٍ في إمكانات البشر لتقديم إبداعاتهم الفكرية و مراجعة بناءاتهم المعرفية وفقاً للطريقة التي إختطتها هذه التجارب ، فالدين لم يأت من اجل أن يحيط العقل الإنساني بقيود الدوغما و أزمات التبعية ، و إنما أراد أن يحيي نزعة الانعتاق من أُسار العبودية للغير ( الإمكاني ) داخل النفس ، إن المشكلة الأساسية ، التي يتم طرحها في بعض الأحيان ضمن واقعها التداولي ، هي مسألة أن الدين ابعد الإنسان عن العبودية لغير الله تعالى ، و لكنه أدخله في آتون عبادة الأخير ، فلم تتغير نتائج المعادلة بقدر ما تغير احد عناصرها ، و هذا التحليل يرتكن إليه البعض من الذين يعتقدون أن التجارب الدينية ، بايجابياتها كافة ، لم تعد قادرة على محاكاة مسيرة إنسان اليوم المدفوع برغبة عارمة للتحرر من القيود كافة .
إذ يعتقد هؤلاء أن الإسلام ، كونه خاتم التجارب السماوية و أكثرها نشاطاً في مسرح الحياة الإجتماعية ، جاء فحرر الناس من عبادة الأوثان و من التحجر الفكري الذي كانوا رازحين تحت وطأته ، و لكنه جعلهم بعدئذ في نفس الحالة كونهم أضحوا غير قادرين على التوصل إلى النتائج التي قد يبدو للوهلات الأولى أنها تتعارض ، بقليل أو بكثير ، عما أراده الإسلام ، فكانت النتيجة أن لم يتغير شيء ، أي بقي عقل الإنسان يخشى الولوج إلى عوالم الممنوع ، و هذه قراءة مغلوطة لحقيقة ما جاء به الإسلام و ما أراده للناس ، فهو لم يأت لمجرد أن يُغير مصداق مفهوم الإله لدى الناس ، و إنما أتى ليُعيد تاطير طريقة التفكير و آلية إنتاج الوعي المؤسِس لحراك إنساني نشط في الوجود ، و يكفي لاحتساب نقطة فارقة على هذا المدعى الباهت أن تتم ملاحظة الفرق بين حالة الإنسان في مرحلة ما قبل الإسلام و تلك التي بعده ، فالإنسان لم يكن عين الإنسان مع فرق واحد هو انه بدل أن يسجد لقطعة من الطين أو من التمر راح يسجد لإله قيل له انه لا يرى بالعين !!! لقد تغير الإنسان في طريقة تفكيره و سلوكه و في كل شيء .
كما إن قِدَم التجربة من لحاظ الإختلاف الزمكاني ، كما يُركّز البعض ، ليس دليلاً مقنعاً على إنطفاء وهج القدرة على التغيير و العطاء ، لا سيما إذا كانت ترغب في أن تكون فاعلة و مؤثرة في المجتمع ، و ترى أنها قادرة على تقديم إجابات مقنعة لأسئلة الإنسان المعاصر .
إن الإسلام عندما جاء لاحظ إسقاطات الاختلاف و التباين التي تُسببها تغيرات الزمان و المكان فأسس لما أطلق عليه ( محمد باقر الصدر ) بــ ( منطقة الفراغ ) التي تركها الشارع من اجل التماشي مع التطورات التي ستحصل في المستقبل ، و التي ستُتيح للمسلمين فرصة إيجاد معالجات ناجعة لها ، و هو يؤكد على أنها لا تعني قِصرَ المُعطى الإسلامي عن مجاراة جزئيات التقادم ، بقدر ما هي فرصة للمسلمين لأخذ دورهم في إتخاذ القرار من خلال الولي الفقيه من جهة ، و لكون النص الديني حتى يكون خالداً عليه أن يكتفي بإعطاء الخطوط العريضة و الأسس الثابتة للمجتمع الإنساني المتغير من جهة أخرى ، و يؤكد الصدر على أن ( منطقة الفراغ ) يُقصد بها لحاظ ( الشريعة الإسلامية و نصوصها التشريعية ، و ليس الواقع التطبيقي للإسلام الذي عاشته الأمة الإسلامية في عهد النبوة ، فإن النبي (ص) قد ملأ ذلك الفراغ بما كانت تتطلبه أهداف الشريعة .... على ضوء الظروف التي كان المجتمع الإسلامي يعيشها ، غير انه (ص) حين قام بعملية ملئ الفراغ ، لم يملأه بوصفه نبياً مبلغاً للشريعة الإلهية ، الثابتة في كل مكان و زمان ، ليكون هذا الملئ الخاص من سيرة النبي (ص) لذلك الفراغ معبراً عن صيغ تشريعية ثابتة ، و إنما ملأهُ بوصفه ولي الأمر ، المكلف من قبل الشريعة بملئ الفراغ وفقاً للظروف )(1).
و بطريقة مقاربة يحلل ( محمد حسين الطباطبائي ) المسالة ، من لحاظ الثابت و المتحول في مقررات الإسلام ، فهو يقول : ( إن مقررات النظام الإسلامي على نوعين :
1 – مقررات ثابتة : تنبع من الكتاب و السنة و لا يطرؤها التغيير و الاختلاف ، و لا يمكن أن تتأثر بإختلاف البيئة و المحيط ، و هو المخطط الفطري الذي حاول النبي (ص) تنفيذه على وجه الأرض .
2 – مقررات نظامية أخرى : تنبع عن جهاز الولاية و السلطة في المجتمع الإسلامي ، و تتأثر بإختلاف البيئة و المحيط و الظروف و المصالح الاجتماعية ، و تدور في الوقت ذاته ، في فلك الشريعة بدون أن تتجاوزها بحال )(2) ، فالمقررات الأولى ، كما يرى الطباطبائي ، تتعالى على إختلافات المكان و تعاقبات الزمان ، فهي لا تتغير لأنها ثوابت ، فـ ( الأحكام الثابتة في تلك الأحكام التي ترتبط بواقع الإنسان الطبيعي ، و تأخذ بنظر الاعتبار التكوين الإنساني ، بصرف النظر عما إذا كان الإنسان بدوياً أو متحضراً ، أسوداً أو أبيضاً ، قوياً أو ضعيفاً ، و دون أن تُعنى بزمان أو مكان معينين لأنها أصلا تتسق مع البنية الوجودية للإنسان و ما جُهِزَ به من قوى و أداوت داخلية و خارجية )(3).
أما ما يقصده الطباطبائي بالمقررات النظامية الأخرى ، فهي ذلك الهامش من الحرية في التشريع و التحرك الذي أباحه الإسلام ، كيما يتمكن المجتمع الإسلامي من خلال سلطته العليا من ملئها بما يتماشى و يتلائم مع طبيعة الحياة المتطورة و تغير مجريات الأمور.
فالإسلام قد ترك هامشاً تحركياً للمسلمين ليملئوه بما يرونه مناسباً شريطة أن لا يتعارض مع الثوابت الأساسية التي إختطها لهم ، بيد أن الإشكالية الأساسية تكمن في وجود قراءات مغلوطة للتجربة الفكرية للخطاب الإسلامي ( بالفهم الواسع لمفردة " الخطاب ") ، إنطلقت من فكرة تتمثل في أن الإسلام لا يقبل النقد و التجريح في مساراته الذاتية و العرضية ، و هذا ما يفضي إلى إلزامية التعرض إلى موقف الخطاب الإسلامي من ( النقد ) .
• الخطاب الإسلامي / إمكانية النقد :
إن الإشكالية الأساسية بخصوص إمكانية إيجاد منتَج فكري يخالف الإطار السائد عند التجارب السماوية تكمن في إختصاصية إنتاج المسار التحركي بالجهة التي لها أوشج إرتباط بالله تعالى ، و هذا هو الأمر الذي يتأسس عليه إيجاد ضربٍ من الولاية – بمعناها المتصرفي و أحقية التصدي نيابة عن الغير – التي ربما تمنع ، لموارد ليست بالقليلة ، الآخرين من أن يكون لهم عين الدور ، ففي التجربة الإسلامية ، التي تمثل إطاراً أوسع ممن سبقها ، كان و ما يزال هناك نوع من التأصيل الفكري و الممارسة لموضوعة ( الممنوع و الممتنع ) التي تكشف عن وجود خطوط حمراء يلزم عدم الاقتراب منها لما فيها من سلبيات قد تستولي على البناء الكلي الذي سعت و تسعى هذه التجربة إلى الإبقاء عليه و تطويره .
و ربما يمكن الذهاب الى أن الإسلام قد وضع جملة من الاشتراطات حول بعض المسائل التي يجب عدم نشرها بين العامة الذين لا أهلية لهم لمناقشة الأمور الفلسفية المعقدة المتعالية على قابليتهم الذهنية ، لكن هذا لا يعني انه لم يدع مجالاً لإمكانية القيام بالنقد الذاتي للبنية الإسلامية على جميع الأصعدة ، شريطة أن تكون هذه الممارسة النقدية منطلقة من أساس الحرص على التطوير و التقدم في سبيل ما أراده الإسلام ، و لقد صوّر البعض هذه القضية على أنها دوغما إسلامية تهدف إلى تجميد العقل الإنساني ، و سياسة لتنميط التفكير بصورة كلاسيكية خنوعية ، إذ أنهم يرون إلزامية أن يفتح الباب على مصراعيه لطرح جميع أفكارهم أمام الجميع حتى لو كانوا من عامة الناس ، لكن هذا الأمر يستحيل أن تقبل به أية ايديولوجية حريصة على صيانة المنظومة الفكرية لمجتمعها ، فالتشكيك في فكرة لها شيء من التعقيد - إذا ما فُلسفت - كفكرة ( واجب الوجود )(4) تصبح امراً خطيراً على بنية المجتمع الإسلامي إذا ما ساور الشك ( بمعناه السلبي ) عقول الناس البسطاء ، لكن طرحها بين أصحاب الاختصاص لهو من الأمور الأساسية التي يجب دراستها و دراسة نقدها و من ثم نقد نقدها ، لهذا يُلاحظ أن من أوائل المقالات التي تُدرّس في أصل التوحيد هي موضوعة ( واجب الوجود ) ، هذه الحقيقة ، أي حقيقة منع الإسلام طرح كل المسائل المعقدة على الناس ، ربما لا يحبذها البعض من الذي يودون الحديث عن كل شيء بلا تنظيم أو تاطير ، إنهم لا يدركون أن المسائل المتعالية على عقول العوام ليست بممنوعة على المتنورين الذي يتيح لهم الدين تناولها جميعاً إنطلاقاً من حرصه على حرية التفكير و التساؤل من جهة ، و إلزامية التسلح بردود مقنعة على إشكالات الآخرين من جهة أخرى ، ألم يكن الإمام علي بن أبي طالب (ع) ينادى لسنين طويلة ( سَلوني قبل أن تفقدوني ) دون أن يضع أية اشتراطات على نوعية الأسئلة أو شكل السائل ؟ ألم يُعلن مرتضى مطهري بُعَيد انتصار الثورة الإسلامية في إيران أن باب السؤال و الإشكال مفتوح أمام الجميع دون قيد أو شرط ، شريطة أن تكون الحوارات و المناقشات موضوعية و عقلانية ؟؟ أمّا إذا أراد البعض ، و بذريعة الحرية و الانعتاق من أُسار الجبر الفكري ، أن يشوهوا عقائد الناس بسفاسهم التي لا تصمد أمام النقد و المراجعة فهذه تبعة لا يتحملها الخطاب الإسلامي بقدر ما يتحملها دُعاتها من الناس ، و الجدير بالذكر إن الكثير من هؤلاء الذين يُسجلون على الخطاب الإسلامي ، من الرأي الآخر ، يُمارسون اشد ألوان التعصب و التحجر و تكميم الأفواه المخالفة ، فمثلاً يأتي احمد القبانجي و هو يدعي التنور و العقلانية – بعد أن أبقى على زيه الديني ليحظى بطمأنينة الناس و ثقتهم - ليُعلن أمام الملأ أن الخطاب الإسلامي يرفض الرأي الآخر ، و يسعى إلى منع التفكير الحر و ينظر إلى من يعارضه نظرة تكفير ، و لكنه عندما طلب منه احد المتخصصين بالفكر الإسلامي أن يسمح له بصعود المنصة و الحديث مع الناس ، ليقدم لهم راياً ( آخر ) و يترك لهم المجال في إصدار القرار ، أبى و تستر بذرائع واهية !!!
و ربما لم يأخذ النقد مساحته اللازمة داخل الخطاب الاسلامي ، من حيث المقاربات الفكرية التي يُراد منها أن تعيد تأسيس العقل الإسلامي ، إعادة تضمن نفخ ما أراده النص الديني من الناس ، هذا النص الذي يُعلّم قُراءه التعامل مع الغير من منطلق ( إنا و إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين )(5) ، لكن هذا لا يمنع من الذهاب إلى أن الخلل المعرفي الذي يهيمن على أكثر من قِطاع داخل الخطاب الإسلامي ينبغي أن لا يكون مبررا لإثبات دوغما الإسلام في إبعاد الرأي الآخر و عدم قبول التفكير المغاير .
إن مقولات البعض إبان محاولتهم لوأد الفكر الإسلامي بذريعة انه فكر ديني لم يعد قادراً إلا على التمسك بحفنة من الطقوس العبادية التي ( ربما ) تفي بان تمنح إنسانها شيئاً من الطمأنينة ، و تُساعده على البقاء محتملاً لخنقة غابة البشر ، لم تعد هي ايضاً قادرة على أن تأخذ مساحها في صالونات المناقشة الموضوعية التي يهرب منها هؤلاء لأنهم يعرفون جيداً أن بضاعتهم لا تصلح للاستهلاك إلا لدى العامة من الناس ، الذين لا قِبل لهم بما لا يفهمون ، كما أن التيارات الفكرية المكوّنة للخطاب الإسلامي ليس بالضرورة أن تكون على قدم المساواة في اقترابها من خارطة المسير التي إختطتها إرادة السماء ، و هذا يفضي إلى أهمية عدم الدمج المُغرض في فرض القراءات المبتسرة على التيارات كافة ، و لئن كانت هناك ممارسات مغلوطة داخل بنية الخطاب الإسلامي تصلح لان تكون مؤشراً على وجود إيحاءات و دلائل على إقتراب موت الخطاب ، فإن هذا لا يعني أن كل ممثلي الخطاب يرزحون تحت وطأة عين الظروف ، و أنهم يستنطقون النص الديني بنفس الأدوات ، لان تنوع الدائرة الإسلامية أرحب بكثير من أن تُمثل من قبل طرف واحد أو إثنين ، بيد أن الانتقائية التي يُمارسها بعض الذين يريدون الوصول إلى النتائج المسبقة التي رسموها في أذهانهم ، هي التي جعلتهم يخرجون بتوصيفاتٍ كهذه ، فما كان منهم إلا أن بحثوا عن أفضل مصداق لمفهومهم المرتَجل للخطاب الإسلامي فأعلنوا موته ، لكن الحقيقة هي أن هذه القراءة تشي بان هذا الخطاب الانتقائي ، و المغرَق في سعيه لتوسيع رقعة سلبيات الآخر و تقديس الأنا المدعية التحرر ، هو الذي مات ، فموت الخطاب يعني أن مكوناته الفكرية ، فضلاً عن العملية ، لم تعد قادرة على التواصل مع الآخر ، فتأخذ بالسعي الحثيث صوب القيام بسباق كيل التُهم و النتائج غير المنطقية على الغير .
إن صورة النقد التي يرسمها الخطاب الإسلامي – بأشكاله العقلانية – تأتي لتعلن عن إمكانية حقيقية في تطوير صورة الإسلام غير النمطي ، إسلام قادر على أن يكشف عن حياة الخطاب الذي يدعي انه أكثر وصلاً بالله تعالى ، فالمهم في موضوعة إمكانية النقد هو في إقرار المائز بين النص الأصلي / الخالد الذي له القدرة و القابلية على تجاوز إشكالية التعاقب الزمكاني و تباين أحوال التطبيق ، و بين النصوص الثانوية التي لم تأت إلا كإجابة على الأسئلة التي كانت تطلقها حاجات الوضع الإنساني بتمظهراتها المختلفة ، و بالتالي فهي نصوص تسعى للكشف عن حقيقة النص الأصلي ، و لا بد من أن يتم التعامل معها على هذا الأساس ، و ربما لم يخطئ ( محمد آركون ) ، مع التحفظ الكبير على آليات مشروعه القطيعي و نتائجه ، عندما عمد إلى القيام بشكل من الــ ( الزحزحة ) للنصوص الثانوية ، فالأخيرة بقدر ما تُسهم في إعطاء مفاتيح و ميكانزمات لاستشفاف حقيقة النص الخالد ، بقدر ما تُسهم ايضاً في تشكيل كتلة هُلامية تقف في طريق الفهم القريب من أحوال الهبوط النصي ( أي الظروف المسببة و الملازمة لتأصيل الحكم و إنطلاقه ) ، إن الخطأ الفادح الذي وقع فيه الكُتاب و الكثير من عامة المسلمين هو أنهم لم يفرقوا بين هذين الضربين من النصوص فصار كلاهما أصليين ، و أضحى الرد على كِتاب أُلِفَ كتوضيحٍ لنص يوضح النص الأصلي مروقاً من الدين و خروجاً على الملة ، و ما تبعات الإسلام السلفي الذي لم يعرف عن الإسلام المحمدي إلا اسمه و من القران الكريم إلا رسمه إلا نتيجة طبيعية لهذا الخلط المعرفي داخل الخطاب الإسلامي .
إن الانتباهات المعرفية التي تُلقي بثقلها على آلية إنتاج منهجيات التفكير الواعية ، و التي يُراد لها أن تكون كفيلة بتأسيس سلوك مثمر ، ينبغي أن تكون قادرة على الإحاطة بتلابيب القضية برمتها ، و أن لا تكتفي بإثارة الغبار المتراكم من سُبات القشريين ، و الغريب في أمر النقد المعاش الآن في تجربة الإسلام و خطابه المعاصر تكمن في أن المتصدين له ، في إطارهم العريض ، هم من يبحثون عن النقد لأجل النقد ، و عن السلبيات بغية التشهير ، فقلة من يحملهم هَمْ المعرفية و ألَم ايديولوجية الأنا التي تربّوا بين ظهرانيها للنهوض بحثاً عن مخارج لانسدادات الفكر المستنير ، و مع كل هذا تبقى إمكانية النقد البناء متاحة ، لا سيما و أن الدين الإسلامي لم يمنعها و إنما دعا إليها بشرطها و شروطها ...
تبقى مساحة النقد متوشجة بالقضية المُراد ممارسة النقد تجاهها ، إذ من غير الممكن التعاطي مع جميع القضايا بنفس المديات ، خصوصاً إذا ما أُريد الحديث عن تلك التي لها ارتباط بموضوعة إنتاج الوعي ، أو تلك التي تتعلق بممارسة السلطة السياسية ، أو على العموم بالقضايا التي لها ارتباط بالحراك الاجتماعي – السياسي بشكل عام ، فهي بحاجة إلى مساحة نقدية أوسع من غيرها ، بخلاف القضايا التي ترتبط بالبعد العقدي / النظري المجرد من قبيل هل القران الكريم مخلوق أو لا(6)، و نعتقد أن جانبي القطيعة ، أو لنقل جانبي التمترس القطيعي(7) لم يُسهما في السيطرة على مجرى المسار الفكري كما أرادوه هم ، و إنما أسهموا في تشكيل ضرب من الدوغما المتسربلة بلباس الذات أو الآخر ، و إن عُبر عن الأمر عندهم بحجج اعتقدوا أنها تصلح كمبرر إيديولوجي .
إن عدم التفريق بين القضايا التي تُمكّن المنشغلين بالنقد الفكري بأخذ مساحة واسعة ، و بين تلك التي لا تُبيح ، أو لنقل لا تحتمل ، إعطاء مساحة واسعة جعلت الكثير من الذين ظنوا أن السعي لإيجاد أرضية نقد فاعل ، و من ثم تطبيقه بشكله الإجرائي ، يرزحون تحت وطأة المراوحة في المكان ، بل التقهقر إلى الوراء و وصد الباب بوجه إنجاز نقدٍ ربما سيسهم ، لو تحقق ، في إنضاج التجربة الدينية في مختلف المستويات ، لا سيما في خضم التضارب و التعارض الايديولوجي و حملات تشويه الآخر و إضعافه و غيرها من الممارسات غير الشرعية إبان التعاطي مع نتاج الآخر و منجزه في عالم اليوم .
لقد تركت التجربة الإسلامية ، بحمولاتها كافة ، مكانة لإجراء النقد الفكري بغية مواكبة الحياة المتسارعة ذات التطورات المتباينة ، لكن ( بعض ) أصحاب القراءات النقدية إنطلقوا ، بقراءاتهم ذات النتائج المسبقة ، من منطلق استحالة إحتمال هذه التجربة للمواكبة و التطور ، لانها سارت في طريق اللا عودة هذا من جهة ، و من جهة مقابلة لهذا الطرح ، أن اللازم عدم إجراء النقد لكونها – التجربة – ليست بحاجة إلى المراجعة ، فهي كانت و لم تزل في مسارها الصحيح و لم تتعرض إلى أي شيء من الخلل أو النكوص ، و قد أنتج هذان التياران جملة من القراءات المسهمة في تصعيب الإشكالية ، من هنا ينبغي أن يتم الالتفات إلى أن النقد الفكري إذا أُريد له النجاح فمن المحتم أن يتم استبعاد ، أو على الأقل تقليل ، سطوة هذه القراءات التي ستؤدي ، في حال استمرارها ، إلى إضعاف النقد الهادف و المُطوّر للفكر الديني و خطابه المعتدل .
• القراءات المغلوطة للخطاب(8):
تعددت هذه القراءات بتعدد مشارب أربابها و بتعدد المناهج التي أُرتِكزَ عليها و المنطلقات – المنطوية على إجابات قبلية – التي أُنطِلقَ منها ، بيد أن هذا التعدد قاسمه المشترك هو العجز عن إيتاء التوليفة الفاعلة لإنضاج الخطاب الاسلامي لجعله قادراً على تجاوز عقباته و مشكلاته التي تعتريه جراء تقادم الزمن و تطور آلية التفكير من جهة ، و الاحتكاك بالآخر الذي تختلف بيئته المعرفية و منجزه التاريخي من جهة أخرى ، إن العجز عن تقديم صورة اقناعية لرؤى تدعي أنها تتحرك بهاجس الحس الذاتي بآلام الأنا و معاناتها و بدافع الرغبة العارمة لرسم خارطة طريق تضمن السير نحو المُرام ، لا يمكن أن يكشف عن مجرد فشل في إيجاد حلٍ ، إنما عن إسهام ، ايضاً ، في تمتين عُرى الصِعاب ، و جعلها أكثر عصياناً للانصياع و التذليل ، فلم يتم التعاطي مع رحابة التجربة الإسلامية مع قدرتها على أن تحتوي نقداً هادفاً إلى الصلاح و الإصلاح ، لذا برز إلينا جملة من الكُتاب الذين اعتقدوا ان الحل يكمن في إتباع آلية النقد القطيعي التام مع كل ما يربط مجتمع اليوم بما مضى و بسابقه الحضاري ، فبرز ( شبلي شميل ) متأثراً بالمنجز الدارويني و تنظيراته الإلحادية ليدعو إلى تجاوز النظر إلى السابق مهما كانت منطوياته ايجابية ، و ( عبد الله العروي ) بقطيعته الكبرى ليدعو إلى إلزامية تجاوز الأنا برمتها و ضرورة النظر إليها على أنها مجرى تاريخي ، بل تاريخاني ، و لا بد من اللجوء إلى الماركسية بشكلها المُشذب عروياً !! و ( طه حسين ) الساعي في ( مستقبل الثقافة في مصر ) إلى تبيئه قطيعة ليست مع التراث فحسب ، إنما مع البنية الفكرية للمجتمع العربي ، فذهب إلى أن عقلية الشعب المصري تختلف عن عقلية الشعوب العربية الأخرى ، فهي غربية و إن نمت بين ظهراني العرب ، و غيرها من آليات النقد الفكري داخل التجربة الإسلامية ، و التي من الممكن إطلاق عليها تسمية ( آليات النسف الشامل ) ، فهي تنسف كل المنتج الإسلامي بذريعة تعارضه مع العقل الحداثي ، فراحت تُؤسس لنتاجات لا تكشف بشكل موضوعي عن حقيقة المضمون الديني و مديات نقاط القوة و الإيجاب داخله .
و ايضاً هناك قراءات سعت إلى إيجاد الحل ، لكنها ، و على الرغم من تحريكها للعقل الإسلامي الذي سعى جاهداً صوب ردها ، اثّرت عكسياً في مساره التحركي تجاه التقدم في الطريق الصحيح ، فظهرت قراءة ( محمد اركون ) بقطيعتها الوسطى مع التراث ، و ( محمد عابد الجابري ) بقطيعتها الصغرى ، و ( نصر حامد أبو زيد ) بفلسفته التأويلية و مقاصد الشريعة التي سعى لتغييرها ، هي قراءات مغلوطة ، لا بسبب التحامل عليها نتيجةً للاختلاف الايديولوجي ، بل بسبب أنها إستخدمت مباضع غربية في تشريح جسد الفكر الإسلامي ، و هذه المباضع صُنعت للتلاؤم مع محيطها الغربي الذي استدعت ظروفه و مساراته التاريخية هكذا تصميم ، ما أدى إلى إنتاج فكر لا يتلائم مع البيئة الإسلامية ، و الغريب أن العنصر الطائفي في هذه القراءات كان حاضراً ، بتراوح بين القوة و الضعف ، في التحليل و النتائج ، و الملاحظ أن هكذا عمليات يُراد منها تجاوز إشكالية الأنا ، التي ابرز مشكلاتها هي الطائفية و عدم التعايش السلمي ( في الفكر خصوصاً ) بين الطوائف الإسلامية ، لكن النفس الطائفي ظل متجلياً في الكثير من الطروحات و التنظيرات التي تجلببت بجلباب الحداثة و ما بعدها .
و في الوقت الذي تظهر فيه تعابير التأدلجات القطيعية بثلاثيتها ( الكبرى – الوسطى – الصغرى ) مع المنجز الإسلامي ، فإن التيار المعارض لها ، من جانب أنصار التمسك التشددي بالنص الديني و تفسيراته الحرفية الجامدة ، وقف على الضد التام من ممارسة أي شكل من أشكال المراجعة و النقد للتراث ، فإعتقد أنصاره أن الخطاب الديني يُشكل نصاً إلهياً خالداً بجميع تشكلاته و أركانه ، دونما تمييز بين النص الإلهي و شروحاته ، و من دون تفريق بين ما قاله النبي (ص) و ما قاله احد العلماء !! ، فكل شيء أضحى مقدساً ، ما أدى إلى نشوء رؤية رجعية اثّرت ، و بدرجات غير قليلة ، في تأخر هذا الخطاب و إبعاده عن النقد الذي قد يؤدي به إلى التطور و محاكاة الوثبات المتباعدة لعالم اليوم ، فأن يأتي شخص في القرن الحادي و العشرين و يدّعى تمثيله للاسلام ليُحرم القراءة و الكتابة بذريعة أن تعلمها الآن قد يؤدي إلى الاطلاع على أفكار تُفسد عقلية المسلم لهو أمر يعبر عن سطحية بعض الذين لم يأخذوا من الدين إلا القشور الظاهرية التي لا تمت إلى الجوهر و اللب بأية صلة ، أو ليعلن آخر أن الذهاب إلى الطبيب بغية التداوي عنده حرام ، لأنه يعني الرغبة في البقاء على قيد الحياة و رفض لقاء الله تعالى !!! ، إن هذه العقليات القشرية التي تسعى إلى تقديم قراءات جامدة و مغلوطة للنص الديني ، و تهدف إلى ربط كل تُرهاتها بالدين الإسلامي ، لهي أكثر خطراً على الأخير من تلك الساعية إلى مقاطعته .
ليس بالضرورة أن يكون رجل الدين أكثر قرباً لله تعالى من غيره من الناس ، كما ليس مؤكد أن يكون كل شخص قادر على فهم النص الديني ليخرج منه حكماً شرعياً ، إن انعدامية الضرورة و التأكيد هنا يُراد منها أن تشير الى ضرورة تبني الحذر و اليقظة إبان السعي لمعرفة من يمتلك أهلية تفسير النص الديني و تأويله بما ينسجم و حقيقة النص ، لا يمكن القول أن إبن لادن و أتباعه هم قريبون من الله تعالى لمجرد إعلانهم شعارات الدفاع عن التوحيد و مقاومة الكافر ، و بنفس الإطار ، من غير الصحيح فسح المجال أمام الجميع لإنتاج أحكام يدّعون أنها إسلامية و هي بعيدة عن روح الدين ، كأن يأتي محمد اركون و نصر حامد أبو زيد ليقدما للناس فهمهما الخاص للدين بذريعة أن الجميع سواسية في قراءة النص الديني !!
إن آلية ( الجمود النصي ) التي يتمترس بها أصحاب القراءة المبتسرة للنص الديني ، هي ايضاً آلية لنقد الخطاب الاسلامي و لكن بشكلها المقلوب ، و ببيان آخر ، هي آلية نقدية و لكنها لا تُفهم بهذا المظهر ( مظهر آلية النقد الفكري ) لأنها تنطلق من مقولة رفض النقد كلياً ، لكنها في الوقت نفسه تقوم به على أساس طائفي يتبنى تكفير الجهات التي لا تتفق معها في المذهب أو المعتقد الجزئي داخل الحاضنة الإسلامية ، أو أنها تمارسه لعين الطائفة و لكن لجماعة أخرى ، و هذا الشكل من النقد يُشكل قراءة مغلوطة للنص الديني ، إن الأخير بحاجة إلى قراءات تقفز على الخصوصية الطائفية ، و تتعالى على سلوكية الانتماءات الجزئية و الضيقة ، إنما هو بحاجة إلى تلك القراءات التي تهدف أن تؤسس لبناء فكري ينفع الخطاب الاسلامي بشكله العام و يرفد المسلمين بأدوات التماشي مع روح العقيدة الفعلية بغض النظر عما هي انتماءاتهم الجانبية ، فقراءة كتلك التي قدمها ( محمد باقر الصدر ) ، و هو يسعى إلى تأسيس ( فقه النظرية ) في مجال الاقتصاد الإسلامي أو غيره من المجالات ، هي التي يمكنها أن تنفع خطاب اسلام اليوم ، لأنها تمازج بذكاء و بفاعلية بين المنجز الإسلامي بتشكلاته كافة ، و بين التطور العلمي و روح العصر ، و لكن للأسف هكذا إنموذج لم يكتب لتياره الاستمرار و السيطرة الكلية ضمن سياق التيارات المشكلة للعقل الإسلامي المعاصر ، و هذه إحدى آفات هذا العقل ، فالأخير يُراد له الآن ان يُهيمن عليه الانموذجين القطيعي و التشددي و تمثيلاتهما المتجهة نحو إضعافه ، إن هذه المسالة لها بالغ الأهمية لارتباطها بإمكانات التطوير المستقبلي و عقبات التأصيل لعقلانية إسلامية تشكل روح الإسلام و غاياته من دون تعارض أو ترجيح طرفي النزاع ( العقل – النص ) .
إن الحديث عن وجود قراءات مغلوطة عمدت إلى ممارسة النقد الفكري داخل التجربة ، و هي قراءات يصعب التعرض لها جميعاً في هذه العجالة ، لا يعني بالضرورة انعدام وجود قراءات نشطة استطاعت أن تؤسس لنفسها مكانة ضمن تراتبية التيارات المشكلة للعقل الإسلامي ، و بالتالي خطابه الكلي ، فمن المؤكد وجود قراءات ممتازة قُدمت من قبل مفكرين وعوا القضية بمتعلقاتها كافة ، و تمكنوا لمديات معينة من أن يقدموا نقداً فكرياً باليات عقلانية نظرت إلى الخطاب الإسلامي على انه خطاب بإمكانه الارتقاء و التطور و التماشي مع العصر و روحه ، و قدمت البدائل الحضارية للقراءات المغلوطة ...
• الخطاب الإسلامي بين الإحياء و الإماتة :
أن موت خطابٍ ما لا يعني عدم وجود من يؤمن به أو يدعو له ، بقدر ما يعني انه لم يعد قادراً على تفعيل أدواته لإنتاج رؤاه العصرية بما يتلائم مع ثوابته و مرتكزاته الذاتية ، و قد شكلت النزعة الإحيائية للخطاب الديني إشارة دلالية على التحديات الحقيقية التي واجهت و تواجه هذا الخطاب ، فتحدياته جمة و أعداؤه كثر ، و قد برزت فكرة موت هذا الخطاب على يد جملة من الكُتاب الذين آمنوا بان الإسلام ، كونه يُعبر عن أهم و أنجع الخطابات الدينية و أكثرها فاعلية ، لم يعد قادراً على اخذ مساحة ضمن خارطة المنظومة الفكرية لعالم اليوم ، و بقدر إبتعاد هذه الفكرة عن جوهر الإسلام و خطابه الحقيقي ، لكن تم تسويق متبنياتها على أنها تُشكل الواقع الفعلي لآليات إنتاج المعرفة و القيّم إسلامياً ، لذا تم الارتكان إلى أفول التجارب الدينية – و الإسلام معنياً بدرجة أساسية – عن موقعها التراتبي ضمن خارطة الفكر المعاصر ، و لقد أجاد أرباب هذا المُدعى ، و بطريقة غير علمية ، في ممارسة إجرائية إنتقائية إبان تقديم المصاديق التي روّجوا بأنها تمثل حقيقة الخطاب و أهم مضامينه ، فأضحى الاتجاه السلفي المتشدد ذو الفكر السطحي هو الكاشف الفعلي ، كما روجوا ، عن بنية الخطاب ، لذا لم يكن مستغرباً أن يتوصلوا إلى أن الخطاب الإسلامي أصبح على شفا حفرة الموت المحتم ، بل قد مات ، و ما محاولات الإحياء إلا ردود فعل العُجّز من الذين لم تشرئب عقولهم بنور الحداثة الغربية ... ، هكذا تم تأيين الإشكالية بلحاظات السطوة المعاصرة لبعض الرؤى الغربية في عالم الإسلام لدرجة جعلت من إيجابيات الفكر الإسلامي ، المتمثلة باتجاه خطابه المعتدل و التيارات التي عبّرت عن الأخير ، ليست إلا محاولات يائسة لترتيش صورة تجربة قد عفى عليها الدهر!!
من هنا تمت تبيئة موضوعة ( موت الخطاب ) بشكل يُسهم في رفض جميع مقولات تعارض بعض الأفكار الوافدة من الآخر / الغربي ، لكونها تختلف عن سياقات التطور التاريخي للمُنجز الإسلامي ، فلم يعد هناك إمكانية وجود خطاب فاعل في ساحة المعرفة ، كيما تُبرر عملية المقارنة و البحث عن نقاط الاشتراك و الافتراق ، و لعمري إنها لعملية وأد اشد عنفاً من تلك التي كان يمارسها جُهال قريش بغضاً بالنساء ، فكيف إستساغ مثقفو اليوم ، من الذين يدعون سعيهم الحثيث صوب بناء حداثة في الحيز الإسلامي ، أن يقتلوا نتاج أمتهم ، بكل ما انطوى عليه من إفرازات فكرية و سلوكية مهمة ، بذريعة انه لم يعد حياً ؟؟
إن هذا المدعى غير العلمي لو كان صحيحاً لما استطاعت ان تنجح منهجية الإصلاح التي دعا إليها و مارسها أرباب الفكر و النهوض المعرفي و الإصلاح الديني في الإسلام كجمال الدين الأفغاني و محمد عبده و خير الدين التونسي و الكواكبي و مالك بن نبي و محمد باقر الصدر و محمد محمد صادق الصدر و روح الله الخميني و مرتضى مطهري و علي شريعتي و محمد حسين فضل الله ، و الكثير من المفكرين المجددين الذين حملوا هم المسؤولية و نفس الأصالة و إيجابيات بناء الآباء ، و راحوا تجاه تطوير الفكر الإسلامي بشكل يُسهم بجعله قادراً على التقديم و العطاء و مواصلة شَغله حيزه الحضاري ، هل كل هذه المساعي عبارة عن مجرد عملية لتنفس إصطناعي لفكر أوشك على الموت أو مات فعلاً ؟؟؟
لو كانت إجابة النعم كفيلة بإيجاد الإقناع ، فلماذا عجز أرباب الإستغراب(9) للان عن انتياش مجتمعهم مما يرزح تحت وطأته إنطلاقاً من ان المعطى الفكري للاتجاه الآخر قد مات ؟؟ إذ كيف يعقل أن يتمكن فكر متحجر من الوقوف بوجه الحداثة التي تقدر على إعطاء إجابات مقنعة لأسئلة إنسان اليوم الحائر ؟؟ و ليس هذا فحسب ، بل كيف استطاع أن يصرع فكر الارتماء في أحضان الغرب بسَلْبِه و إيجابه مع الفارق في العقلنة و العلمية كما يدعون ؟؟ يبدو أن القضية ليست بالسهولة التي صُورت عليها من قبل البعض ، لان الخطاب الميت – خصوصاً الديني – يجب أن لا يكون قادراً على مجاراة الفكر الحر و العقلاني في زمن لم يعد ممكناً فيه إرجاء كل الأمور و الحوادث إلى أسباب غيبية بعيداً عن معلِلات معقلَنة ، إن الأمر الذي اذكى مدعى موت الخطاب الإسلامي ، هو الفكر الديني المتيبس الذي يبحث عن تفسيرات جامدة و حرفية للنص الديني ، و يرفض الإقرار بأحقية و واقعية التباين الزمكاني بين وقت الهبوط النصي و الوقت المعاش(10)، لان هذا الفكر هو في نتائجه يعلن موت الخطاب و يدفنه بطروحاته العاجزة ، و هذا يكشف لما اعتكز أنصار نزعة الإماتة على تجميع الفكر السطحي كتعبيرات عن صدق مُدعاهم .
لعل من الأهمية بمكان القول إن إسدال الستار على الخطاب الإسلامي و الذهاب إلى موته لن يُنتج سوى ردة فعل قد لا يمكن التنبؤ بها أو السيطرة عليها بعد حين ، لان الإقصاء لا يوّلد إلا روح الثار و الانتقام في صف من وقع عليهم ، بيد أن الحل الأنجع لهذه الإشكالية يكمن في إحياء الخطاب الإسلامي إحياءاً يكفل عقلانية الطرح المقدم و إمكانية محاكاته للعلم و التطور ، و هذا أمر ليس بالمستحيل ، ربما تكتنفه بعض الصعوبات ، و هذا أمر طبيعي في إطار الحِراك الاجتماعي ، لكنه يبقى مدعوماً بجملة أمور :
الأمر الأول : سيسهم الإحياء في تمتين عُرى الخط الذي أسسته أراده الله تعالى في أرضه ، ذلك إن الإماتة ستُفضي ، بملازماتها و اسقاطاتها كافة ، إلى قطيعة مع التدين في المجتمع ، لموت الدافع العملي لبقاءها و هو الخطاب الإسلامي ، و لما أن الإحياء يُشكل عنصراً داعماً لبقاء الدين و إشراقاته ، فإن التأييد الإلهي سيكون موجوداً و بقوة لقوله تعالى ( إن تنصروا الله ينصركم و يثبت أقدامكم )(11) ، و هذا بدوره سيجعل النزعة الإحيائية موفقة و ممكنة الحدوث .
الأمر الثاني : إن الخطاب الإسلامي قد اخذ حيزاً كبيراً داخل العقل الجمعي المسلم ، و هو يؤثر بفاعلية مهمة في تحريك قِطاعات المجتمع ، و إن أية محاولة لاقصاءه و تهميشه سينجم عنها فعل انعكاسي قد يُسهم ، في ابسط أشكاله ، بتغويل الفكر السطحي العاطفي المتمترس باستماتة الدفاع عن المقدس ، على العكس من ذلك ، فان الإحياء سيؤدي إلى استثمار الطاقات المجتمعية ، مندفعة بخدمة المعتقد المقدس ، في سبيل التطوير و الارتقاء .
الأمر الثالث : إن مقارنة النتائج المتحصلة من نزعتي ( الإحياء ) و ( الإماتة ) خلال عصرين من عصور الخطاب الإسلامي ، و هما ( الحديث و المعاصر ) ، تكفي لان تكون مؤشراً ضامناً على تسهيل أهمية الإحياء المعقلن ، إذ اثّر الأفغاني و عبده و الصدر و الخميني و ... بشكل كبير مقارنة بما استطاع شبلي شميل و العروي و ... ، إذ تمكن دُعاة الإحياء من أن يشغلوا مساحة واسعة داخل العقل الجمعي المسلم بدرجة تشي بان تفعيل مقولاتهم ، مع تشذيبات تفرضها تغيرات الظروف ، يمكن أن يُنجح موضوعة الإحياء للخروج بتوليفة حية ضامنة لحركية إسلامية / علمية تتعالى على خرافات الادلجة الطائفية الرجعية و نكرانيات العقلنة المتطرفة .
الأمر الرابع : بقدر ما ستؤول الإماتة إلى تفكيك حلقات الارتباط بين الماضي و الحاضر ، بقدر ما أن الإحياء سيؤدي إلى إنجاز تجانس ( هرموني ) بينهما بغية تحقيق مستقبل أفضل ، و هذا بدوره سيُسهّل الطريق أمام بقاء الخطاب الإسلامي نشطاً .
الأمر الخامس : يمكن أن يساعد النقد ، الذي أجازته التجربة الإسلامية ، و تركت له مساحةً ضمن بنيتها ، في إقامة الإحياء الذي هو بحاجة إلى هكذا آلية ، لان تقويم المنجز يحتاج إلى إعادة مراجعة و إلى قراءة متأنية تستدعي استبعاد اللوازم غير الضرورية التي ربما تطلبتها لازمة معينة إبان تاريخ التجربة العريض ، و إبقاء الذاتيات المُشكلة لأسس الخطاب ، إن موت الخطاب الإسلامي لن يؤدي إلى تأسيس عقلانية تحررية في المجتمع ، و إنما إلى شكل تأصيلي لإباحية اجتماعية تهدف إلى الانعتاق من كل الالتزامات ، و لن تكون ضامنة لسلامة المجتمع و نظرته للوجود ، بل على العكس ، ربما ستقود إلى مستقبل مدلهم للمجتمع الإسلامي .
محمد هاشم البطاط

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
(1)محمد باقر الصدر ( إقتصادنا ) ج 2 ص 380 .
(2)محمد حسين الطباطبائي ( نظرية السياسة و الحكم في الإسلام ) ترجمة : محمد مهدي الآصفي ، الطبعة الثالثة 1402 هـ ، ص 24 – 25 .
(3)محمد حسين الطباطبائي ( مقالات تأسيسية في الفكر الإسلامي ) ترجمة : خالد توفيق ، الطبعة الأولى 1415 هـ ، ص 109 .
(4)على الرغم من أن موضوعة ( إن للكون خالق ) من الموضوعات الفطرية التي جُبلت عليها النفس الإنسانية ، لكن فلسفتها بإطار له مديات معقدة تجعلها أمر قد يثير الشك في نفوس العامة الذي لا قِبل لهم على الأمور المعقدة ، من هنا يُلاحظ أن بعض الذين يدّعون التحرر و حرية التعبير و ( الثقافة ) يحاولون إثارة الشك في نفوس البسطاء من خلال استخدام مفردات لا يفهمها سواد الناس ....
(5)سورة سبأ – آية 24
(6)من الأهمية بمكان الالتفات إلى إننا لا نقصد أعلاه أن قضايا البعد العقدي / النظري يجب أن لا يطالها النقد ، و إنما اقصد أن مديات النقد فيها يجب أن تكون اقل قياساً بتلك المرتبطة بالحِراك الاجتماعي – السياسي و هكذا ....
(7)المراد بجانبي القطيعة هما التيار الرافض للنقد بأشكاله كافة ، و التيار المؤيد لمطلق النقد و الرافض للإبقاء على شيء من نتاجات و خصوصيات الأنا .
(8)سيُلاحظ القارئ انه تم الدمج، خلال الحديث عن القراءات المغلوطة ، بين الخطاب و التجربة ، و هذا لايماننا ان اصحاب هذه القراءات وعوا حقيقة ان الاسس الذي يرتكز عليها متبنوا الخطاب الديني تتمثل في التجربة الدينية بشكلها العام .
(9)المقصود بــ ( الاستغراب ) أعلاه ليس الفعل الكاشف عن حالة من حالات أنفعال النفس الانسانية ، و إنما المتماشي مع ( حسن حنفي ) في ( مقدمة في علم الاستغراب ) ، و لكن بخصيصة إضافية هي أن المراد بالاستغراب هنا ليس مجرد قراءة الغرب من قبل الشرق ، بقدر ما هو ايضاً الارتماء في أحضانه و الإيمان المطلق بمتبنياته كافة ...
(10)ربما يمكن القول أن أفضل محاولة للإقرار بهذا التباين ضمن الخطاب الإسلامي ، هي تلك التي أفرزتها نظرية ولاية الفقيه المنطوية على تصدي الولي الفقيه لتحليل الأوضاع و موضعتها داخل سياقاتها اللازمة ، بحيث يتحصل تحقيق مواءمة بين زمكانيات الواقعين الماضي و الحاضر و ايجاد إبتكارات بديلة لملئ منطقة الفراغ .
(11)سورة محمد – آية 7



#محمد_هاشم_البطاط (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- لماذا لانكتب للاطفال
- اتمنى.. ان لا اتمنى
- حدود الذات واوهام العنى
- قد ياتي القمر
- لعنة التاريخ
- القراءة
- العراق من الديمقراطية الى الديمعراقية
- العربية سبعة وعشون حرفا
- النصوص المطلقة
- الديمقراطية بين المناخ سياسي والحاضنة الشعبية
- صراع القوى بين سلطة العشيرة وسلطة الدولة
- هل كنا مخطئين


المزيد.....




- المقاومة الإسلامية في العراق تعلن استهداف قاعدة -عوفدا- الجو ...
- معرض روسي مصري في دار الإفتاء المصرية
- -مستمرون في عملياتنا-.. -المقاومة الإسلامية في العراق- تعلن ...
- تونس: إلغاء الاحتفال السنوي لليهود في جربة بسبب الحرب في غزة ...
- اليهود الإيرانيون في إسرائيل.. مشاعر مختلطة وسط التوتر
- تونس تلغي الاحتفال السنوي لليهود لهذا العام
- تونس: إلغاء الاحتفالات اليهودية بجزيرة جربة بسبب الحرب على غ ...
- المسلمون.. الغائب الأكبر في الانتخابات الهندية
- نزل قناة mbc3 الجديدة 2024 على النايل سات وعرب سات واستمتع ب ...
- “محتوى إسلامي هادف لأطفالك” إليكم تردد قنوات الأطفال الإسلام ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - محمد هاشم البطاط - النقد في الخطاب الاسلامي المعاصر