أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - شادي الشماوي - مصر و تونس و الإنتفاضات العربية : كيف وصلت إلى طريق مسدود و كيف الخروج منه















المزيد.....



مصر و تونس و الإنتفاضات العربية : كيف وصلت إلى طريق مسدود و كيف الخروج منه


شادي الشماوي

الحوار المتمدن-العدد: 4343 - 2014 / 1 / 23 - 23:48
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


مصر و تونس و الإنتفاضات العربية : كيف وصلت إلى طريق مسدود و كيف الخروج منه
( مقال لسمويل ألبار بمجلّة الحزب الشيوعي الثوري ، الولايات المتحدة الأمريكية ،" تمايزات " عدد 3 / 2014 )
Demarcations Issue 3, Winter 2014
الرابط على الأنترنت :
http://www.demarcations-journal.org/issue03/egypt-tunisia-and-arab-revolts-impasse.htm
ملاحظة لا بدّ منها : هذه ترجمة غير رسمية .
This is not an official translation.
---------------------------------------------------
كلمة لكاتب المقال :
شرعنا فى تأليف المقال التالي فى بداية 2013 . و قد صدرت و نشرت نسخة سابقة منه ( " الربيع العربي فى طريق مسدود – هل هناك مخرج منه ؟ ") و وزّعت فى مارس من هذه السنة باللغة الأنجليزية ( فى مصر ) و بالفرنسية ( فى تونس ). و مذّاك شهدت المنطقة و شهد العالم تطوّرات دراماتيكية و صارت بعض المسائل و الديناميكية أوضح وثبتت أفكار معيّنة فى الممارسة و تقدّم فهمنا .
و صيغت هذه النسخة المنقّحة و الموسّعة بفضل تبادل أفكار و آراء مع أناس من تلك البلدان و بوجه خاص بفضل تعاليق و إقتراحات ناشري مجلّة " تمايزات ".
و ينطوي هذا المقال على جزئين . يتناول جزؤه الأوّل بالبحث قضايا و حججا برزت فى تلك البلدان و غيرها من الأماكن و يركّز على تجربة مصر و ظروفها . و جزؤه الثاني تحليل أشمل لما ستكون عليه الثورة الإشتراكية فى مثل هذا البلد و كيف يستطيع الشيوعيون الشروع فى جعل هذه الرؤية قوّة حية و ملموسة فى صفوف الشعب .
تعدّ مصر و تونس ساحتان أمامية لأنّهما البلدان الوحيدان أين أطاحت الإنتفاضات الجماهيرية بالأنظمة . و لم يحدث ذلك فى ليبيا ( أين لعب التدخّل الغربي الدور الحاسم ) ، و لم يحدث لا فى اليمن ( أين ظلّ النظام القديم تقريبا هو هو ) و لا فى سوريا و لا فى البحرين أو بلدان عربية أخرى حيث لم يتغيّر النظام القديم منذ 2011 . وقد أثار إنتصار هتين الإنتفاضتين قضايا جوهرية موضوع نزاع ليجعلها أوضح ، رغم الإختلافات الكبرى بين البلدين . و هذا صحيح بصفة خاصة فى ما يتعلّق بمصر حيث دون التنبّئ بالمستقبل ، يمكن أن نقول إنّ مرحلة تشارف على النهاية .
الجزء الأوّل
من شعب موحّد إلى شعب مقسّم :
"الشعب يريد إسقاط النظام " ! تعبّر هذه الكلمات عن وحدة إرادة نادرا ما رأيناها تاريخيّا و غالبا ما نتذكّرها ، حيث الناس بملايينهم نهضوا فجأة و ما كان يبدو أبديّا تداعي فجأة أيضا . نظامان – ظاهريّا عاتيان بقدر ما هما عنيفان – إنهارا و موجات الصدمة شملت الكوكب . لكن الإنتفاضات العفوية ضد الطغاة المكروهين التى بدت و كأنّها توحّد الشعب أو على الأقلّ أوسع القطاعات الناشطة منه ، أبرزت ظاهرة معقّدة و متناقضة . و الآن الشعب أبعد ما يكون عن الوحدة فى مصر و تونس ، تتنازعه عصابتان رجعيّتان تحت الرايات الحربية للإسلام السياسي و/ أو الديمقراطية الرأسمالية المدعومة من طرف الإمبريالية الغربية .
لقد كان هذان التيارات يعملان لمدّة طويلة فى تونس و مصر حتى منذ لحظة فرض ملايين الناس فى الشوارع طرد بن علي و مبارك. لكن قبل ذلك كان الشعب موحّدا نسبيّا وكان يمسك المبادرة بيده ممليّا على العسكريين فى البلدين التراجع و التخلّى عن الرجل القويّ الذى كان يعتبر فى وقت ما أحد ركائز الإستقرار . و طفقت الألسنة التى أجبرها القمع و التقاليد و إنقسام المجتمع إلى طبقات على الصمت تتكلّم فكان الناس يستمعون إلى كلّ شيء بذهن مفتوح و كان عدم الرضاء العميق على النظام القائم غير قابل للهزيمة .
و الآن الناس ليسوا متأثّرين و حسب بهذه التيارات بل إلى درجة كبيرة يهرعون إلى الإلتحاق بهذه الكتل أو تلك من " الكتل المتنافسة " التى يقف على رأسها ممثّلين للنظام الرجعي و أعداء لأفضل الطموحات التى قاتل الناس و ماتوا من أجلها منادين ب " الكرامة " و ب " الخبز و الحرّية و العدالة الإجتماعية " . و فى حين أنّ الإسلاميين جعلوا عديد الناس يخشونهم و يرمون بأنفسهم بين ذراعي الجنرالات ، فإنّ حصن الجيش المجرم ينحو نحو تعزيز دعوة الإسلام السياسي . و أسوء مشكل هو أنّ عددا كبيرا من الناس قد وقع إقناعهم بأنّه لا وجود لبديل آخر عدا شكل أو آخر من الحكم الرجعي .
من جهة ، تقف المكوّنات الليبرالية للقيم الغربية المتميّزة ب " الحرّية " لا سيما " السوق الحرّة " التى سحقت الغالبية العظمى من الناس فى كلّ بلد ، و الإعتقاد المناسبة لها فى الديمقراطية الرأسمالية من النمط الغربي و نظامها الإنتخابي الذى لم يأت أبدا بتغيّرات أساسية فى أي مكان . ليس لديهم سوى النزاع و القمع يوفّرانهما للجماهير المدينية المفقّرة و لغالبية السكّان الكثيفين فى المناطق الريفية . ففى مصر عندما تخلّى الليبراليون عن الكلام المنمّق عن حكم الغالبية و الحقوق السياسية و حكم القانون و مدّوا ايديهم إلى " القوات المسلّحة للأمّة " التى رغم إدعاءات العديد ممن يسمّون ماركسيين فى مصر ، لم تكن مطلقا " القوات المسلّحة للشعب و الأمّة " . لقد كان الجيش دائما العماد الأساسي للطبقات المستغِلّة الحاكمة المصرية المرتبطة بالإمبريالية و قد غذّته و قادته من أنفها الولايات المتحدة طوال العقود الأربعة الأخيرة .
لم تكن القوات المسلّحة لتقفز إلى الحلبة بهذه السهولة إن لم تتلقّى المساندة الجماهيرية التى نظّمها الليبراليون و " اليساريون " و منهم المنظّمات الشبابية التى عبّأت للمظاهرات فى ساحة التحرير و ساحات أخرى فى 30 جوان 2013 لدعم الجنرالات لإنقاذهم من الحكم الإسلامي ، و ثمّ لإصباغ الشرعية على إنقلاب 3 جويلية . فى تلك الأشهر كان بعض الذين يحاولون الآن أن يفصلوا أنفسهم عن جرائم الجيش يصرخون " الشعب و الجيش يد واحدة ". (1).
هذا الشعار الذى ظهر خلال الإنتفاضة ضد مبارك و بلغ قمّته عندما تخلّى عنه الجيش ، لم يفعل سوى التلاشي لاحقا تلك السنة لمّا أطلق الجيش النار على المسيحيين و الشباب و آخرين كانوا يتظاهرون ضدّه . حينذاك كان الإسلاميون يغازلون الجيش عوض معارضة ذلك القمع العنيف . و فى ما بعد أعطاهم الجيش موافقته على تشكيل حكومة و لو أنّه أبدا ما تخلّى عن الوزارات المفاتيح و مواقع أخرى و قوّة الفيتو . واليوم يمثّل ذلك الشعار أكثر من وهم . فى مواجهة الفوضى الحالية الصعبة و المخيفة ، هو برنامج لإعادة تركيز النظام القديم و أسوء . لا يمكن أن تحدث عملية " إعادة تركيب " لإعادة اللعب من جديد .
و من الجهة الأخرى ، يوجد الإسلاميون الذين يدّعون أنّهم يمثّلون " التحرّر " من الهيمنة الغربية و النفاق و الإذلال فى حين أنّهم يمأسسون الإقتصاد و العلاقات الإجتماعية و التفكير المتخلّفين الذين ساعدوا على إبقاء مصر ضعيفة و عُرضة لهيمنة رأس المال الأجنبي . مشروعهم هو مزج الإستغلال و الإضطهاد و اللامساواة مع عزاء ديني كاذب و إحسان جامع منافق و تضامن خانق ل " الجماعة المؤمنة " التى تلغى التفكير النقدي .
إنّهم لا يبحثون عن تحرير الأمّة فما بالك بأن يجعلوا ممكنا إزدهار إبداع الناس و المظاهر الإيجابية لثقافتهم كجزء متحرّر من الإنسانية جمعاء ، قادر على البناء على أساس كافة المكاسب الإنسانية . مبدؤهم الأكثر محورية – " الإسلام هو الحلّ " – يمنع توحيد الغالبية العظمى من الناس . عوض ذلك يرغبون فى توحيد الذين يريدون الخضوع لهم إنطلاقا من إيمان ديني خاص و إجبار البقية على القبول . وهو ما يستبعد المسيحيين و أتباع فرق إسلامية أخرى ( مثل الصوفيين ) و السُنّة الذين يرفضون الحكم التيوقراطي و اللاأدريين و الملحدين ، أو بكلمات أخرى ، نسبة كبيرة من السكّان . و حلّهم لل" فوضى" المنسوبة للغرب هو فرض الدولة للسلطة الدينية و العلاقات بين الناس يُمليها النظام الأبوي الذكوري المحوري فى رؤيتهم للنظام الإجتماعي و الأخلاقي .
لا يمكن توحيد " الشعب " بتفكير آمل :
و حتى و لو أنّ بعض معطيات أحداث جويلية و اوت 2013 تشبه أحداث 2011 ، على غرار الحشود الهائلة التى كانت تملئ الشوارع ، فإنّ لها طابعا مختلفا . و بالفعل ، كلمة " الشعب " لا تعنى ذات الشيء الآن .
هل كون الحكومات الإسلامية وقع إنتخابها فى تونس و مصر و أنّه بوسع الإسلاميين أن يوحّدوا أعدادا كبرى فى كلا البلدين ، أو العكس ، أنّ جنرالات مصر إستطاعوا أن يجعلوا الملايين يساندون إنقلابهم ، يجعلنا نغضّ النظر عن أمر أساسي أكثر حتى ألا وهو أنّ الجانبين يمثّلان إستعبادا للغالبية العظمى من الشعب – سواء فهم الشعب ذلك أم لم يفهمه ؟ لقد كانت الحشود فى ساحة التحرير و فى الإسكندرية و مدن أخرى ، المطالبة بتنحّى مبارك فى جانفي 2011 تمثّل أقلّية من السكّان ، بيد أنّها كانت تمثّل مصالح الشعب . و حشود 30 جوان 2013 و بعده المساندة للإنقلاب – و كذلك المساندة للإخوان المسلمين – مهما كانت كبيرة ، لم تكن تمثّل تلك المصالح الشعبية .
و مع ذلك ، عقب سقوط مبارك ، غالبية ما يسمّى نفسه يسارا و غالبية المنظّمات الشبابية التى شقّت الطريق فى مقدّمة الحركة المناهضة لمبارك أمست تطوّح بين هذين البديلين الرجعيين .
و على سبيل المثال ، ساندت المنظّمة التروتسكية المصرية ، الإشتراكيون الثوريون ، مرشّح الإخوان المسلمين ، محمّد مرسي ، فى الإنتخابات الرئاسية بتعلّة أنّ إنتصاره سيمثّل صفعة لقوى النظام القديم . (2) . ثمّ لمّا إكتشفت فجأة أنّ الإسلاميين يتصرّفون كإسلاميين ، و لمّا تراجعت المساندة الشعبية لحكومة الإخوان ، ساعدت على تنظيم المظاهرات فى صالح الجيش و باركت الإنقلاب معتبرة إستبعاد مرسي " ديمقراطية الثورة الشعبية ، ديمقراطية مباشرة تخلق الشرعية الثورية " . و بعد ذلك ، لمّا تصرّف الجيش الرجعي كجيش رجعي – مستعملا قنّاصة و سيارات مصفّحة و مجرمين معروفين و كلّ شيء آخر إستخدموه ضد متمرّدي ساحة التحرير طوال 2011- و خاصة بعد أن وجد حتى محمد البرادعي و قادة ليبراليون آخرون من الضروري أن ينأوا بأنفسهم عن مجازر الطغمة العسكرية و التحالف معها بدأ يتفكّك ،عندها تبعهم الإشتراكيون الثوريون إلى خارج ذلك التحالف .
و رغم إدّعائهم بأنّهم لم يقدّموا " أبدا و لا يوما واحدا " مساندة سواء للإخوان أو للجيش ، فى الواقع قد ساندهما الإشتراكيون الثوريون . و كذلك من غير الصحيح أن أي من هؤلاء الذين يهيمنون اليوم على الساحة السياسية ، الجيش و القادة السياسيون الليبراليون او الإسلاميون ، قد " خانوا الثورة " على حين غرّة . فقد بيّنت الأحداث أنّه لم توجد ثورة و أنّ هذه القوى الطبقية الحاكمة قد خدمت دائما المصالح الرجعية ، و لم تغيّر أبدا طبيعتها و أهدافها و قد وقعت المناورة بها وسط أوضاع معقّدة و متغيّرة . كلّ حركة ثورية لا ينبغى أن تفهم هي نفسها ذلك و حسب ، بل أن تبذل قصاري جهدها لتوصل ذلك الفهم لأكبر عدد ممكن من الناس ، عوض التذيّل لتركيبات متنوّعة من الديمقراطية البرجوازية و الأوهام الموالية للغرب و الأوهام الدينية التى قد نشرها الجانبان المتحاربان الآن صلب جماهير الشعب و التى تسبّبت لزمن طويل فى عذاب الشعب .
و الأفكار التى نظّرت لها هذه المجموعة ( التى لا هي ثورية و لا هي إشتراكية ) تجسّد مفاهيما أوفر إنتشارا بشكل أقلّ وعيا ذاتيّا و هذا ما يجعل من المهمّ دحضها : " عدد الناس الذين تظاهروا فى ذلك اليوم الأسطوري [ 30 جوان ] يقدّر بأنّه فاق 17 مليون مواطن وهو حدث غير مسبوق فى التاريخ . و هذا يتجاوز فى دلالته أية مشاركة لبقايا النظام القديم أو المساندة الظاهرة للجيش و الشرطة . إنّ المظاهرات الجماهيرية للملايين نادرة إلى أقصى حدّ فى تاريخ الإنسانية و تأثيرها على وعي الشعب و ثقته فى نفسه و فى قدرته على تغيير مجرى التاريخ يفوق حدود الشعارات المرفوعة و البدائل السياسية المعروضة ".(3)
حقّا ؟ هذّا المنطق – أنّ عدد الناس المساندين لشيء أهمّ من الشيء الذى يتمّ الدفاع عنه – هو ما جرّ الإشتراكيين الثوريين إلى مساندة الإخوان المسلمين و إسلاميون آخرون لسنوات ، و قد ساندوا حكومة مرسى ذاتها التى ينادون اليوم بالإطاحة بها . وفق هذا المنطق ، بما أنّ الإسلاميين فى تونس بإمكانهم أن ينظّموا مسيرات أكبر( وأكثر حيوية ) من سياسيي " اليسار" المتراجع و الليبراليين ،على" الثوريين" بعدُ أن يساندوا حزب النهضة. و مواصلين ذات المنطق ، ينبغى علينا أن نستخلص أنّ ظهور أعداد غفيرة فى المسيرات الجماهيرية للنازيين فى نورمبورغ ( حوالي المليون فى 1938 ) " تجاوز حدود الشعارات المرفوعة و البدائل السياسية المعروضة " و مثّل قفزة " نادرة إلى أبعد الحدود " فى " وعي وثقة الشعب فى نفسه و فى قدرتهعلى تغيير مجرى التاريخ " . و الذين خرجوا لمساندة بابا أو آخر – لعلّها من أعظم الأحداث الجماهيرية العالمية فى العقود الماضية - بثلاث ملايين فى ريو بالبرازيل فى جويلية 2013 ، يجب أن يكونوا متقدّمين " إلى أبعد الحدود " . و هذه المقارنة الأخيرة مفيدة بصفة خاصة لأنّ التعليل الذى يتقدّم به الإشتراكيون الثوريون للتذيّل للإسلاميين هو أنّ معظم المصريين يؤمنون بالدين – كما لو أنّه ليس بوسعهم أبدا بلوغ أي فهم آخر و إنّما محكوم عليهم بالتخلّف و بظلام الجهل .
إنّ مظاهرات جوان و جويلية الموالية للجيش فى مصر لم تكن تشبه مظاهرات النازيين – لقد كانت مضطربة و أسيئت قيادتها – لكن لها نتائج ضارة إلى أبعد الحدود : لم تمكّن العسكريين من الإنقضاض على الفرصة و العودة إلى الحكم بصفة مباشرة فقط ، بل وضعت أيضا المبادرة بأيدى الجنرالات و وفّرت إمكانية إيجاد وضع غير موالي – فظيع . لم يكن هذا تراجعا هائلا للحركة التى إنطلقت بالمطالبة ب "الخبز والحرّية و العدالة الإجتماعية " و حسب و إنّما مثّل إنقلابا فى المسار و خسارة كبرى" لوعي الشعب و ثقته فى نفسه و فى قدرته على تغيير مجرى التاريخ . " و هذا التلخيص للمجموعة التروتسكية ، لنستعير كلمات لينين ، يشبه أن نتمنّى للناس تكرار الأمر ، يوم جنازة . ما يحتفى به هو بالضبط الأكثر مأساوية حول هذه المظاهرات و الوضع مذّاك : ملايين الناس يتوحّدون حول شعارات و بدائل سياسية – من الجانبين و ليس فقط من جانب واحد – تمثّل طريقا مسدودا و تعكس إضطرابا منتشرا و من الوارد قاتلا . على الثوريين أن يتجاوزوا أنفسهم و ينقدوا إن كان الملايين قد إستيقضوا على الحياة السياسية و لن يفرض عليهم العودة إلى النوم .
أجل ، يمكن للمشاركة الجماهيرية فى الحياة السياسية أن تمثّل فرصا للتقدّم الثوري ، لا سيما فى زمن مثل زمن إزاحة مبارك عندما كان الناس يضعون النظام القديم موضع السؤال و ينوون التضحية للقضاء عليه . لكن التذيّل لما يُعتبر أغلبية كان على الدوام غلط ، حتى قبل أن يؤدّي إلى الحدّ المخزي لتبرير مدّ أيديهم للجيش للتخلّص من حكومة الإخوان المسلمين ثمّ وصف الإنقلاب – مقدّمة لحمّام دم - بإنتصار الشعب . هذا مثال للضرر الذي يمكن ان يحدثه ما إصطلح عليه ب" الإبستيمولوجيا الشعبوية " (4).
إنّ ما يفكّر فيه الناس مهمّ . و من واجب الشيوعيين المتسلّحين بفهم علمي للواقع أن يعملوا على التقدّم بذلك الفهم – ذلك الوعي – فى صفوف الجماهير الشعبية ذاتها ، التى لا يمكن لفهمها العفوي أن يتخلّص من براثن أفكار الطبقات الحاكمة – الإيديولوجيا السائدة – و ظروف حياتها التى أوجدتها أنظمة الإستغلال التى تغذى الجهل و تفرضه بالقوّة . هذه نقطة أساسية للفهم الشيوعي الثوري للثورة و للخطّ الفاصل بين الذين يهدفون إلى إلغاء كلّ العراقيل المادية و الإيديولوجية أمام مستقبل يكون فيه البشر جماعات و أفرادا أحرارا فى التغيير الواعي للعالم و لأنفسهم و أولئك " المنقذين المتواضعين " ( للإقتباس من نشيد الأممية ) الذين ليس بوسعهم رؤية مثل هذا العالم و الذين يعتبرون الجماهير الشعبية أنعاما.
أجل ، على الثوريين أن يعملوا على توحيد غالبية الجماهير الشعبية خلال سيرورة الأحداث لكن يجب أن تكون أيّة وحدة صلبة على أساس بديل ثوري حقيقي – علمي ، و ليس على أمنيات – و بالفعل ، هؤلاء " الإشتراكيين " و غيرهم يساهمون فى تقسيم الشعب وفق خطوط رجعية . سيوجد على الدوام إستقطاب فى صفوف شعب حول أقطاب إيديولوجية و سياسية – و ما نحتاجه هو إعادة صياغة الإستقطاب بحيث يكون أحد الأقطاب عمليّا يمثّل حلاّ ثوريّا و ليس إستقطابا رجعيّا بين حلّين رجعيين.
و بينما كان الناس من كافة الطبقات الإجتماعية متّحدون فى الأساس ، و إن كانت الوحدة بعيدة عن أن تكون تامة ، فى الإطاحة ببن علي ومبارك ، فإنّ الإستقطاب السياسي اليوم غير مناسب من وجهة نظرة الثورة . فى كلّ من مصر و تونس ، الطبقات الدنيا من المناطق الريفية و الأحياء القصديرية و الطبقات الوسطى المدينية منقسمة فيما بينها و ضد بعضها البعض . و هذا الوضع سيئ بما فيه الكفاية ، لكنه ينطوى على إمكانيات أسوأ حتى : كارثة دموية فيها تتقاتل الطبقات الشعبية ليس من أجل مصالحها المشتركة الحقيقية بل ضد تلك المصالح و ضد بعضها البعض مثلما هوالحال فى سوريا ، منتقمين لإضطهادهم الخاص ضد أمثالهم من المضطهَدين . قد يبدو من غير المعقول أن تنزلق مصر و تونس و بلدان عربية أخرى إلى هذا المسار ، و صحيح أنّ مصر و تونس و سوريا مختلفة جدّا ، إلاّ أنّه قبل سنتين من الآن كان غير معقول لدي غالبية السوريين أن يتصوّروا إمكانية إنتهاء بلدهم إلى ما إنتهى إليه اليوم .
و تجدر اليوم عقد مقارنة بين الوضع المزري فى سوريا الآن بتاريخ الحرب العالمية الأولى ، ليس لقول إنّ وضع اليوم متساوي مع وضع الحرب العالمية لكن للتشديد على ما يمكن أن ينهض به تحليل نظري ، إن كان صحيحا و يعترف بالبديل الثوري الذى لا تعترف به " الحكمة السائدة ". حينها كافة " الإشتراكيين" الأوروبيين ، بإستثناء بارز للينين و الحزب البلشفي فى روسيا ، إنتهوا إلى مساندة كلّ لطبقاته الحاكمة فى الهجوم المتبادل . و وُجد إعتقاد عام مقبول عالميّا بأنّ الخيار الوحيد للجماهير كان من من الطبقات الحاكمة ستنتصر فى الحرب ، أو ما ستكون عليه أسس مثل هذا الإنتصار. برؤية ثاقبة علمية عظيمة ، شدّد لينين على أنّ الحرب التى إنطلقت كحرب إمبريالية لن تنتهي بالضرورة كحرب إمبريالية و إنّما يمكن تغييرها إلى نوع مختلف من الحرب الأهلية الثورية التحرّرية ، إلى ثورة بروليتارية . و هذا بالضبط ما قاد البلاشفة و الجماهير الثورية فى إنجازه فى روسيا .
من غير الممكن أن نمحو العوامل التى تجعل من الوضع الراهن فى البلدان العربية غاية فى الخطورة و الرعب – لا يمكن القبول بحصر الشعب فى " خيارات " مميتة تعرض عليه . إنّ ذات عوامل التفكّك والرعب تحمل أيضا معها إمكانيات إستقطاب سريع و أكثر مواتاة فى المجتمع و ظهور بديل ثوري حقيقي . و هذا الإستقطاب ليس بوسعه أن يفرز إلاّ إذا كان بمستطاعه على الأقلّ التعويل على قوّة أوّلية تمثّل و تقاتل من أجل المصالح و المسؤوليات المشتركة الثورية الحقيقية للشعب و أن تشرع فى الظهور و تصمد جيدا. على هذا النحو يمكن لبديل ثوري أن يبدأ فى التحوّل إلى قوّة ماديّة حقيقية فى المجتمع متحدّيا البدائل الرجعية التى يجد الشعب نفسه اليوم مضطرّا للإختيار بينها – حركة تقاتل لإرساء دولة ثورية ضد هذه البدائل .
الإنتفاضات و الثورة :
لقد وفّرت الإنقسامات ضمن الطبقات الحاكمة التى أبقت الجيشين التونسي والمصري بعيدا عن التدخّل الحاسم لإنقاذ النظام القديم و منفذا للتمرّدات لكنّها أيضا منبع للتفكير الآمل – حول حيادية الجيش و مصالح و نوايا الولايات المتحدة و حلفائها و قوّة الحركة العفوية .
الإطاحة بطاغية لا تساوي الإطاحة بنظام . حدثت تغييرات فى الحكومات لكن لم تحدث بعدُ ثورة بالمعنى العلمي . و فوق ذلك ، النظام القديم يدقّ الباب عائدا مع قتال الممثلين الجدد و القدامي للعلاقات الإقتصادية والإجتماعية السائدة لفرض نهاية للفوضى حسب معاييرهم الرجعية الخاصة.
لم يكن الجيش المصري على الدوام فقط حجر زاوية الدولة مثلما هو الحال دائما فى ظلّ كلّ من الديمقراطية الإنتخابية و الطغيان السافر ، إلاّ أنه إضافة إلى ذلك لم يتخلّى هذا الجيش الخاص أبدا عن مواقعه المفاتيح . فقد سمح لمرسى بأنّ يصبح رئيسا فى ظلّ صفقة ضِمن بموجبها للقوات المسلّحة أن تتحكّم مباشرة فى وزارة الدفاع ( مع حصانة تامة من المراقبة المدنية ) و وزارة الداخلية ( الشرطة و العصابات المتنوّعة من المجرمين التى نظّمها مبارك ) والتمتّع بسلطة فيتو بشأن السياسة الخارجية .(5)
و لا يعنى هذا أنّه لم توجد إختلافات عميقة بين الإخوان المسلمين و القوات المسلّحة مثلما سنناقش لاحقا ولا ينكر أهمّية التغييرات السياسية التى يسعى الجنرال السيسي إلى فرضها . بيد أنّ جوهر المسألة هو أنّ ذلك الشكل من الدكتاتورية البرجوازية – الديمقراطية الإنتخابية – وقع تعويضه بآخر ، بحكم عسكري سافر تقريبا على الأقلّ مؤقتا ، رغم الوعد بإجراء إنتخابات . المسألة هي أنّ الولايات المتحدة و الطبقات الحاكمة لمصر المرتبطة بها ستستعمل كلّ مزيج من العنف و المغالطة تعلّة للحفاظ على قبضتها على مصر ولا يهمّ من يشغل الوظائف الحكومية .
ومع ذلك ، كامل هذه السلسلة من الأحداث لم تبيّن أنّ القوّة الأمريكية غير قابلة للهزيمة . بالعكس تماما – على الدوام كانت الولايات المتحدة تحاول تحويل الأمور لصالحها وسط وضع غير متوقّع و عادة خارج عن السيطرة . هذا هو المأزق الذى يواجهه صناع سياسة واشنطن فى مصر و تونس و بعض البلدان العربية الأخرى : مع الإسلاميين أم ضدّهم ، الوضع فى منتهى التعقيد و الخطورة بالنسبة للإمبريالية الأمريكية .
عدم الإعتراف بالعوامل المستمرّة المواتية للثورة فى المنطقة سيكون مأساويّا . إنّ التناقضات الإقتصادية و السياسية و الإجتماعية و الإيديولوجية العميقة التى أفرزت اإفنتفاضات العربية لم يقع حلّها ؛ فى غالبية هذه البلدان لا يمكن للأشياء أن تعود إلى سابق عهدها . لقد إستيقظ الناس على الحياة السياسية و صاروا أكثر ثقة فى قوّتهم الخاصة و قوّة بعضهم البعض ، و أظهروا قدرة على الشجاعة و التضحية الهائلتين و كسبوا معنى أنّه حتى أنظمة قائمة لوقت طويل و متخندقة بعمق يمكن الإطاحة بها . و كذلك ، لا يوفّر الوضع العالمي إستقرارا محلّيا طويل الأمد ، بخاصّة فى مثل هذه المنطقة الإستراتيجية و المتنازعة مثل الشرق الأوسط .
و سيكون أيضا من الخطأ و المأساوى التعويل على معالجة مواتية لهذه التناقضات عبر السير العفوي للأحداث . سيعنى ذلك ترك المستقبل بأيدى مختلف القوى الرجعية المتنازعة – و مهما حصل ، يمكن أن نكون متأكّدين أنّ ذلك المستقبل سيكون بشعا . وهذا ليس ما ضحّى من أجله الكثير من الناس .
كيف يمكن لقيادة شيوعية ثورية أن " تغيّر اللعبة " :
فى هذه اللحظة ، فى كافة البلدان العربية ، و عموما فى العالم بالمناسبة ، لم يقدر الشيوعيون الثوريون على تعبئة الشعب و بصورة أخصّ الشرائح المفقّرة من الجماهير فى قوّة سياسية تنجز نوع التغيير الجذري الذى تتطلّبه ظروفهم و تحرير البلدان المضطهَدة و تحرير الإنسانية . و هذا جزء مركزي من المشكل الذى لم يقدر الشباب و غيرهم من الثوريين الواعين على معالجته على أساس الممارسة وحدها ، رغم نضالهم و تضحياتهم البطولية . إنّه جزء مفتاح يتعيّن على كلّ من يبحث عن تغيير ثوري حقيقي أن يعمل على تغييره .
أفضل ما وُجد فى الحركات ضد بن علي و مبارك لا يمكن أن يزدهر اليوم دون قيادة جديدة بإمكانها أن تحدّد بصورة صحيحة المصالح الواقعية ، الأساسية للشعب و على ذلك الأساس تميّز بين الأصدقاء و الأعداء و تشرع فى توحيد قطاعات واسعة من جماهير مختلف الشرائح و تحشدها لإلحاق الهزيمة بهؤلاء الأعداء و تفتكّ سلطة الدولة و تمارسها لتغيير البلاد و الناس و فى النهاية العالم .
ما هناك حاجة إليه هو " مغيّر لعب " حقيقي ، نواة من النساء والرجال تقودهم أعلى الأهداف الثورية و النظرية العلمية – شيوعيون ثوريون – يمكن أن يقودوا الآلاف ثمّ الملايين و يعالجوا هذه التناقضات على نحو يكون فى مصلحة الغالبية العظمى من الناس فى المنطقة و العالم بأسره .
و يقتضى هذا تشكّل مجموعة من أناس يمتلكون هذه الرؤية و مخطّط لتحقيقها فى الواقع و جرأة و تصميم قائمين على العلم لتخطّى العراقيل و إنجاز مهمّات غاية فى الصعوبة . فى عالم اليوم ، هناك النظرية الشيوعية الثورية التى يمكن تطبيقها لجعل هذا ممكنا : الخلاصة الجديدة للشيوعية الثورية التى تقدّم بها بوب أفاكيان .(6) هذا المنهج و هذه المقاربة و جملة الأعمال تحتاج إلى أن ندرسها بعمق و نناقشها بشراسة و نقارنها بلا رحمة بالإستراتيجيات السياسية الخاطئة و الأفكار الكامنة وراءها التى تمثّل عائقا لإغتنام فرص الثورة فى مصر و تونس و بلدان أخرى .
مشدّدا على رؤية ثاقبة عبّر عنها ماركس و مطوّرا إيّاها ، أشار أفاكيان إلى أنّه " فى الواقع الإطاحة الفعلية بالنظام القائم غير ممكنة عمليّا إن لم تقع الإطاحة به أوّلا نظريّا ، أي ، فى فهم عديد الناس ". (7) و قد يبدو هذا منافيا للبصيرة فى جوّ سياسي يعتقد فيه بعض الناس بأنّ الحقيقة و الهدف يكمنان فى المظاهرات الأضخم – الأغلبية . و هذا ما يعيدنا إلى النقطة التى صغناها فى الجدال ضد الإشتراكيين الثوريين : دون فهم علمي للواقع ، لا يمكن رؤية إمكانية الثورة . لا يمكن رؤيتها بالعين المجرّدة ، دون مساعدة إطار نظري صحيح – حقيقة ).
بالملموس ، عامل حيوي ينقص الإنتفاضات العربية هو فهم صحيح لبديل للعالم كما هو و كيف أنّ بلدانا خاصة يمكن تغييرها إقتصاديّا و سياسيّا لتصبح مناطق إرتكاز لذلك المستقبل ، رؤية معتمدة على العلم يمكن أن تبدأ فى التحوّل إلى قوّة ماديّة فى سيرورة فيها أعداد نامية من الناس تعارض اللاحلول التى يمثّلها الإسلاميون و الليبراليون و الكفاح من أجل هدف بلوغ السلطة السياسية الثورية . هذا هو الطريق الوحيد الذى يمكّن الشعب من التخلّص من عوائقه الذهنية و تخطّى الإنقسامات فى صفوفه و التوحّد فى سبيل تحرير الإنسانية من كافة أشكال الإستغلال و الإضطهاد . و مهما كان ذلك صعبا فإنّ كلّ حلّ سواه وهم .
قوّتان متنافستان " عفا عليهما الزمن " – و تعزّز الواحدة منهما الأخرى :
إلى درجة كبيرة يمتاز الوضع السياسي فى العالم العربي بصدام بين متنافسين يمثلان الوضع السائد ، كلّ يدعو إلى إيديولوجيا إستعبادية . و هذا جزء من ظاهرة عالمية . فى مقال " التقدّم بطريقة أخرى" المكتوب غداة هجمات 11 سبتمبر 2011 ، حلّل بوب أفاكيان :
" ما نراه فى نزاع هنا بين الجهاد من جهة و ماك العالم / ماك الحروب من جهة أخرى ،هي شرائح تاريخيّا عفا عليها الزمن ضمن الإنسانية بين المستعمَرين و المضطهَدين ضد الشريحة الحاكمة للنظام الإمبريالي عفا عليها الزمن تاريخيّا . و هذان القطبان الرجعيّان يعزّز كلّ منهم الآخر ، حتى بينما يعارض الواحد منهم الآخر . إن وقفت إلى جانب واحد من هذين القطبين الذين "عفا عليهما الزمن "، تنتهى إلى تعزيز الإثنين .
و فى حين أنّ هذه الصيغة هامّة جدّا و حيوية لفهم الكثير من الديناميكية التى تدفع الأشياء فى العالم فى هذه الفترة ، فى نفس الوقت يجب أن نكون واضحين حول من من هاتين القوّتين اللتين " عفا عليهما الزمن تاريخيّا " قد تسبّبت فى أكبر الأضرار و تمثّل تهديدا أكبر للإنسانية : إنّها " الشريحة الحاكمة للنظام الإمبريالي التى عفا عليها الزمن تاريخيا " و بوجه خاص الإمبرياليون الأمريكان " .
و اليوم تلك الرؤية الثاقبة الرائدة مهمّة حتى أكثر بمعنى فهم الوضع فى العالم العربي( و أبعد منه) الآن حيث كلّ من الجهاديين الذين يخوضون حربا مع الغرب و الإسلاميين الذين يبحثون عن القبول السياسي الغربي يزدهرون على وجه التحديد بسبب ، من جهة ، التغيرات الإقتصادية و إضعاف و فقدان الثقة فى هياكل السلطة القديمة و الإيديولوجيات الرسمية ، و من جهة أخرى ، كردّ فعل على القوّة الدموية المستعملة لترميم الدولة القائمة . و حظر الإخوان المسلمين فى مصر لن يحلّ المسألة .
الأصولية الإسلامية ليست تواصلا لتديّن ساحق القدم . فقد تكوّنت فى عشرينات القرن العشرين ، أيام كانت القوى العظمى الغربية تتقاسم فيما بينها الشرق الأوسط عقب تفكّك الإمبراطورية العثمانية . و السلف يعنى الأجداد الأولين و السلفية تبحث عن العودة إلى ما يفترض أنّه نمط حياة الرسول و أصحابه. فى زمن تغيّر كبير غدت هذه الرؤية أساسا لبرنامج و حركة سياسيين ، الإخوان المسلمون . و قد تشكّلت أوّلا فى مصر ، سرعان ما صارت مرتبطة بآل سعود و لاحقا العربية السعودية ، نظام قبلي رعته أنجلترا و مع إكتشاف النفط فى 1938 بات و ظلّ وثيق الصلة بالولايات المتحدة . و لم تكن المسألة مسألة كيفية العودة إلى المجتمع شبه البدوي البائد بل مسألة كيفية إرساء أنظمة و مجتمعات تستطيع أن تنسجم مع مصالح الغرب فيما تتبنّى إيديولوجيا يمكن أن تحافظ على النظام الإجتماعي الرجعي و توفّر للحكّام الجدد شرعية .
فى بعض البلدان ، شرع هؤلاء الإسلاميين كممثلين للطبقات المستغِلّة التقليدية و إن تغيّر هذا بفعل علاقاتهم مع الرأسمال الإمبريالي مثلما حدث ذلك فى إيران . وفى بلدان أخرى – و مصر مثال بارز – إرتبط نجاح الإخوان المسلمين بنموّ الرأسماليين الجدد خارج الأوساط الحاكمة التى كانت على صلة بالدولة القديمة . (8) . و من المهمّ تفحّص كيف ظهروا و الظروف التى جعلتهم يتجهون إلى الفكر الإسلامي . و هنا سنشير إلى عاملين كبيرين دون محاولة التعمّق أكثر ممّا بوسع الفهم الراهن للكاتب و من ما تسمح به المعطيات المتوفّرة لديه . عموما ما نجم عن ذلك هو تطوّر رأسمالي غير تام ، مشوّه و متفكّك و التأثير المستمرّ لأنماط الإنتاج الإقطاعية و ما قبل الرأسمالية الحالية و التاريخية .
فى الصعيد ، على طول أعلى النيل ، لا يزال الهرم الإجتماعي تهيمن عليه العائلات الأرستقراطية التقليدية التى تدّعى الإنحدار من الرسول و سليلين آخرين من الغزاة العرب ، مع الفلاحين فى أسفل الهرم . و فى دلتا النيل ، ناورت عائلات الملاكين العقاريين الأقباط المسيحيين و المسلمين للحفاظ على ملكية أراضي شاسعة بالرغم من الإصلاح الزراعي الواسع الذى قام به عبد الناصر و الجهود العامة لكسر سلطة الإقطاعيين المرتبطين ببريطانيا . و " الإصلاح الزراعي المضاد " فى ظلّ مبارك و ظهور الإنتاج الرأسمالي – الشديد من أجل السوق العالمية . و إلى جانب سياسة متعمّدة لسحق ممتلكات الزراعة المعيشية العائلية ، تميّز الوضع بعودة العائلات الإقطاعية السابقة التى لم تكن سلطتها أبدا مجرّد سلطة إقتصادية ، و اليوم تحمل الفلاحة الرأسمالية هذه الآثار . و مثلما سنناقش لاحقا ، لا يعيش فقط حوالي نصف السكّان – فى الغالب بالكاد يعيشون – فى المناطق الريفية بل إنّ الريف قد زحف إلى المدينة فى شكل موجات كبيرة من النازحين الذين حلّوا بالمدن و ظلّوا إقتصايّا و إجتماعيّا و ثقافيا مهمّشين عن الحياة العصرية .
و علاوة على ذلك ، فى مصر كما فى بلدان أخرى ، النموّ الضخم لعدد طلبة الجامعات و المحترفين الذين تدرّبوا فى الجامعات قد تأثّر بكلّ من الهيكلة الطبقية التقليدية للبلاد و كونه لا يتوفّر تشغيل مناسب لهم فى بلادهم . فعدد لا بأس به ينحدر من عائلات الملاكين العقاريين الحاليين أو السابقين و أعضاء آخرين من الفئات الحاكمة التقليدية . و قد عمل عديد ملايين المصريين من تقنيين و مهندسين و غيرهم من الأخصّائيين و كذلك العمّال ذوى المؤهلات و أناس من الطبقات الدنيا فى مكان آخر فى المنطقة . و بالفعل ، عادة ما إختار الطلبة مهنتهم بفكرة الحصول على الثروة بالخارج . و خلال العقود العديدة الأخيرة ، زهاء ثلاثة ملايين مصري من الطبقات الدنيا و الوسطى إنتقل إلى العمل فى بلدان الخليج أين راكم العديد منهم رأس مال إلى جانب تحمّس للإسلام الوهابي ( السلفية ) و خاصة للعادات المتخلّفة و أنماط التعابير الدينية غير المعروفة سابقا فى مصر ، مثل النقاب .
و القنوات التلفزية الفضائية التى يملكونها و التى تفسح المجال للدعوة إلى السلفية تتجاوز كثيرا الأنترنت و الشبكات الإجتماعية بمعنى مدى تأثيرها على الكثيرمن السكّان . و قد أغدقت قطر أكياسا من المال على جهاز الإخوان المسلمين وقام السعوديون بالشيء ذاته تجاه السلفيين . وفضلا عن التدريب والتمويل فإنّ النموذج الذى توفّره الأنظمة الملكية فى الخليج فى منتهى القوّة بإعتبارها بلدانا غنية بكلّ الرفاه المعاصر و آخر السلع الإستهلاكية و تحكمها هياكل و إيديولوجيا قراوسطية .
و مثلما سنناقش لاحقا ، عامل هام آخر هو التأثير الإيديولوجي لنهاية الموجة الأولى من الثورة الإشتراكية ، لا سيما خسارة الصين الثورية و إعادة تركيز الرأسمالية فيها و إنهيار تقريبا كافة الحركات الثورية و الوطنية التى كانت تقريبا تحدّق بنظرها إلى الصين ، فى البلدان العربية ( كما هو الحال فى صفوف الفلسطينيين ) . و ينبغى أن يكون واضحا أنّ هذا يعنى غياب عرض لبديل ثوري للإمبريالية و إيديولوجيتها العالمية و ليس مجرّد أو أساسا الضعف التنظيمي ل" يسار" . و تُغفل حجّة أنّ الإسلاميين الجيّدي التنظيم إستغلّوا ضعف " اليسار" التقليدي مسألة لماذا خسرت الأحزاب المأثّرة سابقا فعاليتها . (10)
قد تسلّط هذه العوامل الضوء على لماذا هيمن الإخوان المسلمون على جمعيات مهنية كبرى ( مثل المهندسين و الأطبّاء و أطبّاء الأسنان) و جامعة القاهرة ، رغم أنّ بعض أكثر الذين يخافون حكمهم يتركّزون أيضا فى ذات المهن . لكن القاعدة الإسلامية ضمن هذه الفئات يجب أن يُنظر إليها فى علاقة بالطرف الآخر من " السلّم الإجتماعي " ايضا – عديد ملايين المصريين الذين يعيشون بطرق تقليدية فى الريف و الملايين الذين دفعوا خارج الأرض وإلى المدن حيث يحرمون من أية مكانة لائقة فى ما يسمّى بالمجتمع المعاصر . و خلال تشديد الإجراءات عقب الإنقلاب ، أغلق الجيش السكك الحديدية الرابطة بين الشمال و الجنوب و الحاملة لآلاف القرويين لمساندة إعتصام الإخوان المسلمين فى القاهرة . و قد جاء فى تقارير أن مظاهرات و صدامات حصلت فى أماكن بجنوب القاهرة مثل الفيوم و مصر الوسطى و العليا وهي أماكن عادة غير معروفة بنشاطها السياسي .
و قد أشار عديد الجامعيين إلى أنّ سياسات الإخوان المسلمين الإجتماعية و الإقتصادية منسجمة تماما مع النموذج الذى فرضه صندوق النقد الدولي و البنك العالمي . بينما تفقد بحدّة الغرب أو تأمل قبوله ، ليس لهذه القوى برنامج لتجاوز تبعيّة البلدان للسوق العالمية و للرأسمال الإمبريالي .
لكن البعض من هؤلاء الجامعيين شأنهم فى ذلك شأن عديد الناس الآخرين سقطوا فى خطأ إستنتاج أنّه لا وجود لنزاع حقيقي بين الإمبريالية و هؤلاء أو أولئك من الإسلاميين . الحركة الإسلامية حركة سياسية و إيديولوجية تتحدّى ليس فحسب البنية الفوقية السياسية و الكثير من الإيديولوجية التى فرضها الغرب على هذه البلدان لكن أيضا الصلوحية العالمية للقيم التى يدعو لها الغرب – و إن كان الأمر لا يتعلّق عموما بالرأسمالية ، فإنّه يخصّ على الأقلّ النظام الإمبريالي العالمي الحالي . و تقترح أخرى ، تقترح نظرة عالمية أخرى . و هذا مرتبط بمعارضتها ،إن لم تكن للرأسمالية عموما فعلى الأقلّ لبعض مظاهر النظام الإمبريالي العالمي الراهن حتى بينما تبحث فى الأساس عن موقع صلب النظام الإمبريالي ، أي الهيمنة على العالم وتنظيم إقتصادها من قبل – و لفائدة – الطبقات الرأسمالية الإحتكارية الحاكمة للبلدان الإمبريالية .
لم تفضّل الولايات المتحدة وصول الإخوان المسلمين فى مصر أو النهضة فى تونس إلى السلطة إلاّ انّها نظرا لفقدان هياكل السلطة القديمة الشرعية و تفكّكها ، فإنّ القبول بدخول الإسلاميين إلى هيكلة الدولة كان ينظر له كأفضل خيار متوفّر لواشنطن . لقد كان الإمبرياليون و مستشاريهم قادرين تماما على تصوّرالكارثة التى كان يمكن أن تحدث لو أنّ الجيش دُعي إلى إرتكاب مجزرة لإنقاذ مبارك فى 2011 عوض خلع مرسى فى 2013 . إلى حدود إنقلاب 2013 ، واصلت الولايات المتحدة تمويل حكومة الإخوان المسلمين المصريين إلى نفس درجة ما قامت به مع مبارك ، بينما ظلّت معظم مساعدتها توجّه إلى الجيش المصري . و بصفة مشابهة ، حاليّا ، قدّرت الولايات المتحدة أنّ حكومة النهضة فى تونس مقبولة .
و مع ذلك ، اللقاء المؤقّت بين الإخوان المسلمين والنهضة إلخ و المصالح الغربية ليس سوى جانب من المسألة . فللحركة الإسلامية منطقها الخاص . و فى حين يقول الإخوان المسلمون و النهضة إنّهم تطوّروا و إبتعدوا عن جذورهم الأصولية السلفية ، عندما يتخذ الدين كآخر مصدر للأخلاق الصحيحة و الشرعية السياسية ، عندئذ تكون الحدود بين التنويعات الإسلامية أكثر نفاذا . حتى فى تركيا المفترضة نموذجا للإسلام السياسي " المعتدل " قد تلقّت تحفيزا و لم يتوقّف ظهور أشكال أكثر " تطرّفا " داخل و خارج حكومة حزب العدالة و التنمية . و " النجاح " الإقتصادي لحزب العدالة و التنمية – المترئّس لعملية مزيد إدماج تركيا فى النظام الرأسمالي العالمي – جعل أسلمة المجتمع التركي بالقوّة أكثر ضرورة لمشروع أردوغان من جهة ، و دعّم نزاعا أحدّ بين القوى الإسلامية والعلمانية من جهة أخرى. قد أثبتت ما جرت العادة على تسميته ب " الحركة الإسلامية المعتدلة " لأردوغان أنّها غير قابلة للإستقرار بفعل تناقضاتها الداخلية .
و بوجه عام تبحث الحركة الإسلامية عن السلطة السياسية لتكريس نظرة و إيديولوجية شاملة بينما تخاطب المظاهر الأكثر تخلّفا لتقاليد و علاقات إجتماعية يقطّعها التطوّر الرأسمالي الذى تهيمن عليه الإمبريالية . هناك ديناميكية إيديولوجية حقيقية تعمل متماسكة فى هذه المنظّمات و ضمن الحركة الإسلامية ككلّ . فقد زاد تأثير الأشكال الأصولية و الجهادية من الفكر الإسلامي فى ظلّ الحكومات الإسلامية " المعتدلة " فى مصر و تونس .
وأهمّ إنقسام فى صفوف الإسلاميين ليس مدى علاقة برنامجهم الديني ب" المعتدلين" مقابل" الجهاديين". و إنّما هو العلاقة التى ينوون أن تربطهم بالولايات المتحدة و الغرب . فمثلا ، بينما من الأكيد أنّها ليست من " المعتدلين " من السلفية ، دولة السعودية هي التى وفرت ملجأ للعلماني نسبيّا بن علي و ساندت مبارك و الإنقلاب ضد الإخوان المسلمين . و هي بلد نظام ملكي قائم على القبلية و ليس تيوقراطيّا و تخشى العائلة الملكية أن تشهّر بها السلطة الدينية السعودية على أنّه مرتدّ نظرا لعلاقاته الوثيقة بالولايات المتحدة . و نضرب مثالا آخر هو أنّ أيمن الظواهري ، وريث بن لادن على رأس القاعدة إنحدر من ذات الحركة الإخوانية المصرية التى قالت إنّها تنشد علاقات طيبة مع الولايات المتحدة . التياران متداخلان و يتفاعلان – و تاريخيّا ضمّ الإخوان المسلمون و ضمّت النهضة التياران صلبهما .
و أبعد من ذلك ، هناك تناقض كامن بين إرادة الولايات المتحدة للمناداة بالشرعية الإسلامية لإرساء هيمنتها على المنطقة و دور إسرائيل كأكبر متنفّذ يمكن التعويل عليه من أجل هذه الهيمنة . و مجدّدا ، لنأخذ مثال تركيا ، ليس من اليسير جدّا على أية حكومة إسلامية أن تكون لها علاقات جيدة مع إسرائيل و تظلّ تحتفظ بشرعيتها . و قد بات هذا بديهيّا فى حادث باخرة مرمارا لمّا سمحت الحكومة التركية حينها ، وهي معتبرة أفضل صديق لإسرائيل فى الشرق الأوسط ، أوّلا لمجموعة بواخر بمحاولة كسر الحصار الإسرائيلي و إيصال معونة لغزّة ، و ثمّ لما هاجمت إسرائيل الباخرة القائدة للمجموعة و قتلت تسعة أشخاص ، زأرت الحكومة التركية فى غضب عاجز و لم تفعل شيئا .
ينشد الإخوان المسلمون تخطّى هذا التناقض . و قد وعدوا بحماية إسرائيل و كذلك عزّزت حماس فرع الإخوان المسلمين المصري . و مهما كانت نوايا الإخوان المسلمين ، فإنّه فى ظلّ حكومتهم نمى تسليح الإسلاميين القبليين فى صحراء سيناء ما مثّل تحذيرا كبيرا للولايات المتحدة و معاونها الأصغر الصهيوني . يبدو أنّ حماية إسرائيل كانت عاملا هاما فى كلّ من قبول الولايات المتحدة بحكومة الإخوان المسلمين طالما أنّ الجيش كان ظاهريّا غير قادر على أن يفرض شكلا مفتوحا من النظام الإجتماعي فى مصر و ظلّت الولايات المتحدة متحمّسة لإغراق الإخوان المسلمين و هم يواصلون معانقة غير منقطعة للقوات المسلحة المصرية .
ميكانيكية الماركسية المزيّفة مقابل المادية الجدلية :
فى صفوف أناس كثر يسمّون أنفسهم ماركسيين ، وُجد عدم فهم جدّي للأصولية الإسلامية النابعة من محاولاتهم أن يجروا " تحليلا طبقيّا " ميكانيكيّا لا أساس له . و هذه المقاربة المنهجية مرتبطة بوجهات النظر السياسية وتعزّزها وجهات النظر التى تنزع إلى التذيّل إلى واحدة أو الأخرى من القوّتين اللتين " عفا عليهما الزمن " ، الحركة الإسلامية و الإمبريالية الغربية و ممثليها السياسيين العرب ، الأحزاب السياسية الليبرالية الموالية للغرب . و القيام بمعادلة واحد لواحد بين الطبقة و الإيديولوجيا عمليّا يذهب ضد الجدلية الماركسية و الفهم المادي . (11)
من ناحية ، هناك النظرة التى يمكن أن ترى فقط ما تدّعي أنّه تشكيلة طبقية للحركة الإسلامية . فالمنظّر التروتسكي كريس هارمون أنجز تحليلا واسع التأثير يدعى أن " الإسلام الرديكالي ... " طوباوية " نابعة من القطاع المفقّر من الطبقة الوسطى الجديدة " (12). و روايته هذه لا تصف بدقّة الدور الحقيقي للدين على أنّه ليس مجرّد " أفيون للشعوب " بمعنى مصدر للعزاء وحسب بل أيضا إيديولوجيا أي نظرة إلى العالم ، جملة منسجمة من الأفكار التى تعكس و تعزّز – و تجسد- على نطاق الكرة الأرضية علاقات إنسانية إضطهادية و إستغلالية .
و حتى فكرة أنّ الأصولية الإسلامية " تنبع " من الفقر تسطّح و تشوّه الهياكل الإجتماعية المعقّدة . فهي لا تشرح لماذا يتخذ الغضب العميق للجماهير الشعبية هذا الشكل بالذات ، حتى ضمن المجموعات الإجتماعية التى كانت سابقا تنجذب إلى الشيوعية ( كالمجموعات الشيعية المدينية فى العراق مثلا ) ، أو لماذا أضحت الأصولية الدينية قوّة ضخمة على هذا النحو فى هذه اللحظة من التطوّر العالمي ، و ليس قبلا ، عندما كان هناك مطلقا فقر أكبر و تخلّف أكبر حتى . لماذا ترعرعت الأصولية الدينية فى دول الخليج الغنية بالنفط – و ضمن طبقات إجتماعية متباينة جدّا ؟ لماذا أعضاء من ذات الشريحة ( عليا أو دنيا ) يساندون حركة إسلامية أو أخرى فى حين يرفض آخرون هذه الحركات و بشراسة ؟ لماذا يستتضيف أمير قطر كلاّ من القواعد العسكرية الأمريكية و يساند الإخوان المسلمين المصريين فيما الإمارات المتحدة العربية المتحدة التابعة للولايات المتحدة و النظام الملكي السعودي يكرهان الإخوان المسلمين ؟ لا يبدو أنّ هذه الظواهر " تنبع " مباشرة من المواقع الطبقية .
لم يتشكّل الجانبان أبدا بوضوح على أساس طبقي و ليس بإمكان المادية الميكانيكية متنكّرة فى " تحليل إقتصادي " أن توفّر لنا أية دلالة .
و من ناحية ثانية ، هناك تحليل منتشر جدّا للأصولية الإسلامية يستعمل منهجا مشابها واحد لواحد ، " ماركسي " مزيّف لبلوغ الإستنتاج المعاكس : يعزى ظهور الأصولية الإسلامية بالأساس إلى دعم الإمبريالية الأمريكية و حلفائها لأنّها " تخفى التناقضات الطبقية " و يمثّل عائقا أمام تطوّر حركة تحرّر وطني . و من أهمّ ذوى التأثير الأكبر المدافعين عن هذه النظرة الإقتصادي المصري و المفكّر السياسي سمير أمين . (13)
يحلّل أفاكيان العلاقة بين الدين و الإقتصاد بطريقة مغايرة جدّا . متمعّنا فى الأصولية الدينية المسيحية و مستعملا المنهج ذاته و مطبّقا إيّاه على الأصولية الإسلامية أيضا ، كتب : " بعض الناس المنحدرين من نوع من النظرة الإقتصادية و الديمقراطية – الإشتراكية الضيقة قد سقطوا فى التأكيد على أنّ كلّ هذا " الفكر الإجتماعي المحافظ " أو الأصولية الدينية ليس سوى تلهية لإبعاد الناس عمليّا عن الفعل على أساس مصالحهم الإقتصادية الخاصّة . و هذا خطأ جدّي يعنى الإخفاق فى إدراك كيف أن هذه الأشياء من البنية الفوقية ، وعلى وجه الخصوص هذه الأصولية الدينية برمّتها ، فى حين أنّه لها فى نهاية التحليل قاعدة فى التغييرات الإقتصادية و التغييرات الإجتماعية فى المجتمع ، لها حياة خاصة بها نسبيّا، لها إستقلالية نسبية كتعبير إيديولوجي ... يستعمل هؤلاء الديمقراطيين – الإشتراكيين و التقدّميين الديمقراطيين – البرجوازيين مقاربة تستهين بالإستقلالية النسبية للبنية الفوقية و كيفية ردّ فعلها بدورها على الأشياء فى القاعدة الإقتصادية و فى العلاقات الإجتماعية ...
لا وجود لتناسب واحد لواحد فجّ مباشر بين ما يحدث للناس إقتصاديّا و كيفية رؤيتهم لذلك مثلما ينعكس عبر كافة العلاقات الإجتماعية المختلفة – كما ينزع إلى ذلك ، إن أردتم ، حينما يدخل المجال العام للبنية الفوقية للأفكار و الثقافة و ما إلى ذلك . هذه الأفكار و هذه الثقافة بما فيها الأصولية المسيحية الرجعية ، تجد تحديدها فى نهاية التحليل فى القاعدة الإقتصادية الأساسية لكن هذا تحديدها فى نهاية التحليل . و علينا أن ندرك جدلية ذلك و لن تسعفنا فى ذلك المادية الميكانيكية الفجّة " (14).
ليست الأصولية الدينية خارجة عن نطاق المجتمعات التى تزدهر فيها و لا هي فى الأساس خدعة يروّج لها الرأسماليون صلب الجماهير الجاهلة . يعود ظهورها بقدر كبير إلى المال السعودي و عمليات تغطية إسرائيلية و دعم الولايات المتحدة و قوى إمبريالية اخرى تهدف إلى مواجهة كلّ من التأثير السوفياتي و الحركات الثورية الحقيقية – و هذا يحتاج أن نشير إليه و نفضحه بالتفصيل بإستمرار .(15) لكن هذا لا يفسّر القبول العالمي للفكر الإسلامي . فهذا القبول فى جزء كبير منه مردّه لظروف موضوعية خلقها سير الهيمنة الإمبريالية الذى أفرز تغييرات عميقة و متواصلة - ليس كمؤامرة ( رغم انّ الإمبرياليين يتآمرون دائما ) بل نتيجة لسير النظام و تأثيرات جرائمه فى هذا الوضع .
و مثلما شرح أفاكيان : " من ضمن المظاهر الأبرز للوضع اليوم ،هناك القفزات التى تحدث فى العولمة والمرتبطة بتسريع فى سيرورة المراكمة الرأسمالية فى عالم يهيمن عليه النظام الرأسمالي - الإمبريالي . و قد أدّى هذا إلى تغييرات ذات دلالة و عادة مأساوية فى حياة أعدادهائلة من الناس ما قوّض عادة العلاقات و العادات التقليدية ... [و ] ساهم فى النموّ الحالي للأصولية الدينية ...
عبر ما يسمى بالعالم الثالث ، يدفع الناس بالملايين كلّ سنة بعيدا عن الأراضي الزراعية أين عاشوا و حاولوا أن يدبّروا أمر معيشتهم فى ظلّ الظروف الإضطهادية للغاية لكنهم الآن لم يعودوا قادرين حتى على ذلك : يُرمى بهم فى المناطق المدينية ، فى غالب الأحيان و جولة بعد جولة ، فى مدن الصفيح الممتدّة و فى الأحياء القصديرية الواقعة حول نواة المدن . لأوّل مرّة فى التاريخ ، الحال الآن هو أنّ نصف سكّان العالم يعيشون فى المناطق المدينية بما فى ذلك مدن الصفيح الكثيرة و الدائمة النموّ.
و قد إجتثّوا من ظروفهم التقليدية – و الأشكال التقليدية التى تستغلّهم و تضطهدهم – يقع القذف بهم إلى حياة غير آمنة و غير مستقرّة ، غير قادرين على الإندماج بأي نوع من " الطرق الملائمة " ، فى المصنع الإقتصادي و الإجتماعي لسير المجتمع . فى عديد بلدان ما يسمى بالعالم الثالث هذه ، غالبية الناس فى المناطق المدينية يُستغلّون فى الإقتصاد غير الرسمي – مثلا ، كباعة متجوّلين أو تجّار على نطاق ضيّق من أنواع شتّى ، أو فى النشاط السرّي و غير القانوني . إلى درجة ذات دلالة بسبب هذا ، بتحوّل عديد الناس إلى الأصولية الدينية ليحاولوا أن يجدوا ما يعتمدون عليه وسط كلّ هذا التفكّك و الوضع المتزعزع .
و عامل إضافي فى كلّ هذا هو أنّه فى العالم الثالث ، هذه التغييرات و التفكّكات الكبرى و السريعة تحدث فى إطار هيمنة الإمبرياليين الأجانب و إستغلالهم - و هذا فى إرتباط بالطبقات الحاكمة "المحلّية" التابعة إقتصاديا و سياسيّا للإمبريالية ، و يُنظر إليها كعميلة فاسدة فى خدمة قوى غربية و كمشجّعة على " ثقافة غربية منحطّة " . و هذا ، على المدى المنظور قد يعزّز يد قوى الأصولية الدينية و قادتها الذين يأطّرون معارضة ط الفساد " و " الإنحطاط الغربي " للطبقات الحاكمة المحليّة و الإمبرياليين الذين يدينون لهم بالشكر ، بمعنى العودة و التعزيز بإنتقام للعلاقات و العادات و الأفكار و القيم التقليدية التى هي ذاتها متجذّرة فى الماضي و تجسّد أشكالا قصوى من الإستغلال و الإضطهاد ... لكن ظهور الأصولية يُعزى أيضا إلى تغييرات سياسية كبرى و سياسة و أعمال واعية من طرف الإمبرياليين فى المجال السياسي ما كان له أعمق الأثر على الوضع فى الكثير من بلدان ما يسمّى بالعالم الثالث و منها بلدان الشرق الأوسط .
و كبعد من الأبعاد المفاتيح لهذا ، فى غاية الأهمية عدم التغاضي عن أو الإستهانة بتأثير التطوّرات فى الصين منذ وفاة ماو تسى تونغ و التغيّر الكلّي فى ذلك البلد ، من بلد كان يتقدّم على طريق الإشتراكية إلى بلد حيث بالفعل وقعت إعادة تركيز الرأسمالية و و قع تعويض توجّه تشجيع الثورة و دعمها فى الصين و عبر العالم ببلد يبحث عن تركيز موقع أقوى للصين فى إطار سياسات قوى العالم التى تهيمن عليه الإمبريالية . و كان لهذا أثر عميق – سلبي – فى تقويض ، على المدى القصير ، ضمن عدد كبير من الناس المضطهَدين فى العالم ، معنى أنّ الثورة الإشتراكية كانت توفّر مخرجا من بؤسها ، وفى توفير المزيد من الأرضية للذين ، و منهم خاصة الأصوليون الدينيون ، يبحثون عن توحيد الناس وراء شيء بطرق معيّنة يعارض القوّة المضطهِدة المهيمنة على العالم و لكنهم يمثّل هم ذاتهم نظرة للعالم و برنامج رجعيين ...
و هؤلاء الشباب نفسهم و غيرهم الذين يندفعون عندئذ نحو الأصوليات الإسلامية و الدينية الأخرى ، كانوا عوض ذلك سيندفعون نحو القطب المختلف جذريّا أي القطب الثوري للشيوعية . و قد تعزّزت هذه الظاهرة أكثر بإنهيار الإتحاد السوفياتي و " الكتلة الإشتراكية " التى كان يتزعّمها ...
و أدّى كلّ هذا – و فى علاقة به ، هجوم إيديولوجي بلا هوادة من قبل الإمبرياليين و كتلة أتباعهم من المثقفين – إلى مفهوم إنتشر و أذيع على نطاق واسع ، عن هزيمة الشيوعية و موتها وقتذاك ،مزعزعا الثقة فى الشيوعية فى صفوف القطاعات العريضة من الناس بما فيهم الذين يبحثون بلا توقف عن طريق لمواجهة الهيمنة و الإضطهاد و الإنحطاط الإمبرياليين . لكن ليست الشيوعية وحدها هي التى عمل الإمبرياليون وسعهم لإلحاق الهزيمة بها و تلويث سمعتها فى التراب. فقد إستهدفوا أيضا القوى و الحكومات العلمانية الأخرى التى إلى درجة أو أخرى عارضت أو مثّلت موضوعيّا عوائقا أمام مصالح الإمبرياليين و أهدافم ، لا سيما فى أجزاء من العالم كانوا يعتبرونها ذات أهمّية إستراتيجية ". (16)
إنّ نظرة إقتصادوية سطحية للعلاقة بين السياسة و الإقتصاد لا تستطيع أن تفسّر كيف يمكن أن توجد أنظمة إقتصاديّا منسجمة مع السوق العالمية غير أنّها إشكالية سياسيّا بالنسبة للولايات المتحدة و / أو إمبرياليون آخرون مثل نظام الأسد فى سوريا و جمهورية إيران الإسلامية ( و بالمناسبة ، مثل هذه الرؤى لا يمكن أن تفهم ظواهرا من مثل الحروب الإمبريالية التى لا يقودها دائما الربح المباشر ). مثل هذه الإختزالية تستهين بتعقّد العلاقة بين الإمبريالية الغربية و الأصولية الإسلامية و تنتهى إلى التحالف مع قوّة من القوتين اللتين "عفا عليهما الزمن " .
إنّ الوقوف إلى جانب و تعزيز قوّة من القوتين اللتين " عفا عليهما الزمن " هو ما تشترك فيه هذه الرؤى الخاطئة المعروضة . و هذا جزء من سبب كون بعض الناس الذين يعتبرون أنفسهم تقدّميون أو ثوريون قد يتخذون مثل هذه المواقف السياسية الرجعية . و هذا التفكير قد برّر الموقف الذى إتخذه غالبية اليسار التاريخي و القوى التى تعدّ نفسها علمانية فى مصر و تونس و أماكن أخرى ، والذى توصّل إلى رؤية الإسلاميين كعدّوه الرئيسي و صار من أتباع الأحزاب الليبرالية ( و إلاّ بالنسبة إلى سوريا ، أتباع لحزب البعث الحاكم الذى هو أكثر علمانية و ليبرالية إقتصاديّا وحتى تسامحا من بعض " اليسار" مقارنة بغالبية الأنظمة فى الشرق الأوسط – مجدّدا ، العلاقة بين السياسة و الإقتصاد ليست بهذه السهولة . هنا بإمكاننا كذلك أن نشاهد إفلاس الأحزاب " اليسارية " ذات الرؤية فى شكلها الأكثر راديكالية محدّدة بنظام يشبه نظام الأسد ).
حلقة مفرغة من التعزيز المتبادل :
يعدّ الأمل الذى وقعت تغذيته على نطاق واسع ، أمل أنّ الإنقلاب فى مصر سيعرقل الإسلام السياسي فى المنطقة تفكير آمل . و بالضبط لأنّ الولايات المتحدة و الإمبرياليين الآخرين هم الذين يهيمنون على العالم و يضطهدونه ، فإنّه إلى درجة عدم تمكّن الناس من رؤية أي بديل عدا التخندق سواء مع القوى الإسلامية أو القوى الموالية للغرب ، قد يزوّد الوضع اليوم فى مصر فى النهاية الإسلاميين فى كلّ مكان بالقوّة .
يحبّ الإسلاميون أن يشيروا إلى النفاق الصارخ و إضطهادية القيم و الأخلاق التى يشجّع عليها الإمبرياليون الغربيون . و بينما كانت الولايات المتحدة تدعو إلى حقوق الإنسان ، كانت تزوّد بأدوات التعذيب و كتيبات التعليمات و قائمات الأسئلة التى يجب طرحها و كانت حتى تجعل من مبارك و بشار الأسد ضحايا و تدعم كلّ جريمة تقترفها إسرائيل . لقد حوّلوا الأرض إلى جحيم لغالبية السكّان و هم يهدّدون تواصل الحياة على الكوكب . إنّهم يهذون بإنقاذ النساء العربيات من الرجال العرب و فى نفس الوقت يشجّعون على الحطّ من مكانة النساء فى بلدانهم الخاصّة بتقليصهن إلى أدوات للإشباع الجنسي للرجال (17). و هؤلاء الإمبرياليين و القادة السياسيين الليبراليين العرب الذين يمثّلون الإمبرياليين محلّيا ليس بوسعهم أن يقدّموا حلاّ للإحباط و الآلام التى تميّز الحياة اليومية لغالبية الناس و لا أي بديل للنظرة الدينية التى تعبّر عن اليأس و الخضوع .
ستكون للإسلاميين ميزة طالما أنّهم يصوّرون النزاع على أنّه نزاع بين الجماهير العريضة من المقهورين من جهة و مداحي الهيمنة الغربية ذوى الإمتيازات من جهة أخرى . و محاولة تصوير العلمانيين على أنهم أقلّية لا تهتم سوى بإمتيازاتها موضع الخطر يساعد عليها الليبراليون الذين يخشون الطبقات الدنيا و بالكاد يهتمّون بمعالجة حاجياتها الأساسية .
و حتى و إن كان ممكنا لمصر و تونس مثلا أن تصبحا ما يعد به الليبراليون ، خاليتين من الفساد و التعذيب لكن مرتبطتين وثيق الإرتباط بالرأسمال الأجنبي و السوق العالمية مثلما كانوا دائما ، مع كلّ التفقير و التخلّف و اللامساواة لجماهير الشعب الحتميين الناجمين عن ذلك – كيف يمكن لذلك أن يلبّي مطلب " خبز ، حرّية عدالة إجتماعية " ؟
و كيف تظهر الديمقراطية البرجوازية فى العالم الحقيقي ؟ أنظروا إلى جنوب أفريقيا التى تملك أحد أكثر الدساتير الديمقراطية البرجوازية تقدّما فى العالم الضامن ليس للمساواة السياسية فقط و إنّما أيضا لحق كافة المواطنين فى السكن و الرعاية الصحّية و المرافق الصحّية و الأكل و الماء و التعليم . و مع ذلك ، نمت فى هذا البلد اللامساواة منذ نهاية حكم الأبرتايد قبل عقدين ، حتى مع أنّ حجم الإقتصاد قد تضاعف ثلاث مرّات ، فى هذا البلد لا تزال الأغلبية من السود تعيش فى بؤس ولا يزال العمّال المضربون يقتلون بالرصاص . أو الهند ، " أكبر ديمقراطية فى العالم " أين إنتشرت مراكز المكالمات الهاتفية العالمية – الطبقية و المعامل وسط الفضلات و قاذورات المجاري التى على الجماهير أن تعيش فيها ، أين توفّر صناعة التقنية العالية ثروة للبعض و تقريبا الكلّ ليس لديهم كهرباء معوّل عليه ، أين تستخدم التقنية الطبّية للتعرّف على جنس الجنين و تحطيمه إذا كان أنثى ، و الهند بلد يتميّز بمنتهى الفقر و منتهى الفساد و نظام كاست و إضطهاد ديني و إثني .
أو أنظروا إلى الولايات المتحدة الأمريكية ذاتها ، و هي بالمناسبة أغنى ديمقراطية برجوازية إطلاقا ، أين تحكم طبقة منتفخة جراء الإفتراس و الإستغلال العالميين و أين تنتشر فى المجتمع الرائحة العفنة لبقايا النظام العبودي حتى لا نذكر سحق الحياة و الطموحات بفعل السير العادي للسوق .
و الذين يدّعون أن ما يُحتاج إليه هو مزيد التطوّر الرأسمالي يخفقون فى التعرّف على أو الإقرار بأنّ التطوّر الرأسمالي الذى لا يمكن إلاّ أن يعني ، فى عالم اليوم ، تطوّرا رأسماليّا مرتبطا بالرأسمال الإمبريالي ، إقتصاد قطاعاته مرتبطة بالسوق العالمية و ليس إقتصادا وطنيّا مندمجا هو ما أوصل هذه البلدان إلى ما هي عليه اليوم . لقد كانت نسبة النموّ الإقتصادي فى مصر و تونس طوال العقود الأخيرة أعلى من عديد البلدان الأخرى . يثقل الفقر و التخلّف المستمرّان تماما على عدد من المجتمعات العربية و ينتجان إحساسا شاملا بالإحباط و الإذلال . مجدّدا للعودة إلى تحليل أفاكيان ، هذا جزء من الإطار الذى صارت فيه الحركة الإسلامية عاملا هاما جديدا فى عالم اليوم .
أمّا بالنسبة للإدعاءات الليبرالية فى المجال السياسي بأنّهم يمثلون " الحرّية " فمن جديد يحبّ الإسلاميون أن يشيروا إلى كيف أنّ القوى الإمبريالية التى يمثّلها هؤلاء الليبراليون تغزو البلاد تلو البلاد و على وجه العموم تتحكّم أيما تحكّم فى العالم . عندما خسر الممثلون المحلّيون الذين إختارهم الإمبرياليون المناورة الإنتخابية ، فجأة صرّحوا بأنّ حكم الأغلبية و الحقوق الدستورية إلخ لم تعد مقدّسة بالنسبة لهم – على غرار ما حدث فى مصر . و بالضبط مثل الإسلاميين ، فى رأيهم الإنتخابات و البرلمان وسائل لغايات و لا يمكن أن يكون الأمر عكس ذلك. و بينما من الضروري خوض نضال إيديولوجي و كذلك سياسي ضد الأصولية الدينية ، من الضروري بشكل متساوي عدم معارضة البرنامج الإقتصادي لليبراليين و حسب بل أيضا إيديولوجيتهم الديمقراطية البرجوازية التى ليست أقلّ تسميما لعقول الجماهير من الدين .
و للعودة إلى نقاش أفاكيان للعلاقة بين السياسة و الإقتصاد : " الآن بالنظر إلى مسألة الحرّية و الديمقراطية و حقوق الشعب ، هناك نقطة جوهرية حين تكون علاقات الإنتاج على نحو يمنع جماهير الشعب من إمتلاك وسائل الإنتاج - و بالتالي هي مرتهنة ، فى ذات حياتها و معاشها بمجموعة صغيرة ، أو طبقة تحتكر ملكية وسائل الإنتاج - هناك فى جوهر الأمور بالذات وضع فيه قد منعت الجماهير من القدرة الأساسية أو إن شئتم " حق " ممارسة التحكّم الأساسي فى حياتها ذاتها ، فما بالك بالمجتمع ... و هذه العلاقة الإقتصادية التى تمارس فيها طبقة سلطة الحياة و الموت على الآخرين - لا تحدّد نوعيّا فقط بطرق عدّة قدرة أولئك " الآخرين " على المساهمة فى و لعب أي دور حاسم فى تحديد توجّه المجتمع... بل تنعكس هذه العلاقة الإقتصادية و لا يمكنها إلاّ أن تنعكس فى البنية الفوقية خاصة فى الطرق التى تتجسّد فيها السلطة السياسية وتمارس لتعزّز العلاقات الإقتصادية الإستغلالية " ( 18).
وحتى بإنتخابات حقيقية ، الديمقراطية البرلمانية منسجمة تمام الإنسجام وهي عادة أفضل شكل من أشكال دكتاتورية الطبقة المستغِلة مثلما يمكننا مشاهدة ذلك عند النظر فى الواقع الإجتماعي و السياسي فى بلدان عبر العالم أين تجرى مثل هذه الإنتخابات . تخفى المساواة الشكلية للمواطنين أمام القانون و تفرز كلّيا لامساواة هائلة تميّز كلّ بلد .
و مثلما صاغ ذلك أفاكيان :
" فى عالم يتميّز بإنقسامات طبقية ولامساواة إجتماعية عميقين ، الحديث عن "الديمقراطية " دون الحديث عن الطبيعة الطبقية لهذه الديمقراطية ، بلا معنى وأسوأ. طالما أنّ المجتمع منقسم إلى طبقات، لن توجد " ديمقراطية للجميع " : ستحكم طبقة أو أخرى وستدافع عن وتروّج لهذا النوع من الديمقراطية الذى يخدم مصالحها و أهدافها. المسألة هي : ما هي الطبقة التى ستحكم وإذا ما كان حكمها ونظام ديمقراطيتها، سيخدم تواصل أو فى النهاية القضاء على الإنقسامات الطبقية و علاقات الإستغلال والإضطهاد و اللامساواة المتناسبة معه." (19)
و إضافة إلى ذلك ، فى البلدان التى تهيمن عليها الإمبريالية ، لن تكون الديمقراطية البرلمانية شكلا فحسب لدكتاتورية الطبقات المستغِلة لا وزن فيها لمصالح الشعب و أعمق مطامحه فى القرارات الأساسية والحال كذلك فى الغرب ، بل ستكون أيضا فارغة بصورة مضاعفة لأنّ الحياة المحلّية تتحدّد فى النهاية بمصالح و قرارات القوى الإمبريالية و أجهزة إخضاعها التوأم ألا وهي جيشها و السوق العالمية . و هذه العوامل ، إلى جانب فقر مدقع وتواصل العلاقات الإجتماعية و الإقتصادية ما قبل الرأسمالية ، تجعل من الصعب تطبيق نوع من الديمقراطية البرلمانية الذى يستخدمه عامة الرأسماليون ليحكموا فى البلدان الإمبريالية .
غياب الحقوق السياسية و السنسرة و الصحافة المأجورة هي عموما مظاهر من الديمقراطية التى تمارس فى البلدان التى تضطهدها الإمبريالية . هذه أسباب تشرح لماذا تلجأ غالبا أكثر الحكومات فى بلدان يبقى شعبها فى يأس بفعل الطبقة الحاكمة التابعة للإمبريالية إلى القمع الخبيث و التعذيب إلى جانب الدين و الأسلمة المتصاعدة للمجتمع ( التى شجّع عليها كلّ من مبارك و بن علي حتى لمّا كانا يحاولان التغطية على المنظّمات الإسلامية ).
فى 1958 ، الحبيب بورقيبة ، أوّل رئيس لتونس بعد الإستقلال الشكلي ، شرب خلال شهر رمضان كأس عصير و عرض ذلك فى التلفزة فى محاولة منه أن يحبط ما إعتبره خسارة إقتصادية للبلاد فقط أثناء شهر الصيام . و هذا لا يمكن تصوّره فى أي بلد من البلدان العربية اليوم ، أين يحتاج بشّار الأسد ، القائد الأكثر لائكية فى المنطقة ، كلّ المساعدة التى قد يحصل عليها من الدين . هكذا هو تفشّى اليأس و ما رافق صعود الدين فى عالم اليوم .
و عندما يتعلّق الأمر بالإمبرياليين ( و السياسيين المحلّيين المدلّلين الموالين للغرب ) من جهة و الإسلاميين من جهة أخرى ، لا وجود لإختيار مقبول . و بالفعل مهما حصل ، دون ظهور الحركة الثورية بقيادة شيوعية يمكن أن تغيّر الساحة السياسية اليوم فى الشرق الأوسط ، فإنّ الناس فى المنطقة و أبعد منها سيشكون من الإملاءات الإمبريالية و نير الدين على حدّ السواء ؛ و التوتّرات و النزاعات التى تنشأ عن تفاعلها .
لماذا مصر على ما هي عليه اليوم :
ليست الإمبريالية مجرّد كلمة فارغة أو جملة من السياسات . إنّها تعنى نظاما حيث الإحتكارات و المؤسسات المالية تتحكّم فى الإقتصاديات و الهياكل السياسية فى البلدان الأوطان مثل الولايات المتحدة و " الغرب " عامة و فى العالم بأسره أيضا . إقتصاديات – و حياة ناس – البلدان المهيمن عليها خاضعة لمراكمة رأس المال المرتكز فى البلدان الإمبريالية . و مثلما تمّ شرح ذلك فى " إنهيار أمريكا " لريموند لوتا و فرانك شانون ، (20) " هذا لا يعنى أنّ الإمبريالية ببساطة تخضع البلدان المضطهَدة أو أنّها تستخرج لا غير الثروة من خلال تجارة لامتساوية أو نهب سافر ، رغم أنّ هذا يحدث بالتأكيد . بإمكان رأس المال ، و على المدى الطويل عليه ، أن يطوّر إقتصاد هذه البلدان . لكن عليه أن يطوّرها على أساس إمبريالي – بوجه خاص ، على أساس ملائم للرأسمال الأجنبي – و فى تناقض مع كلّ من رفاه أوسع جماهير تلك البلدان و مع التطوّر المندمج نسبيّا للتشكيلة الإجتماعية . و حتى حيث يقع إدخال العلاقات الرأسمالية على نطاق واسع فى تلك البلدان ، ليست هذه البلدان على طريق التطوّر الرأسمالي المستقلّ ". و من ضمن التشويهات الأخرى التى يحدثها هذا النوع من التطوّر الرأسمالي ، ينزع ملكية الكثير من الفلاحين و طبقات إجتماعية تقليدية أخرى لكنّه لا يستطيع أو يوظّفهم بشكل مربح و النتيجة هي " شريحة " سكّان مدينيين ضخمة فى بطالة مقنّعة أو بطالة مستمرّة وإهدار هائل (عدم إستعمال) للعمل فى الريف .
هذه هي علامات فاقعة لدي عديد البلدان العربية . وهو وضع مزمن فى تونس ، التى لوقت طويل صدّرت جزءا من سكّانها الريفيين و كمثال دقيق آخر لنأخذ الأزمة الفجئية فى السنوات القليلة الأخيرة نظرا لإنفتاح سوريا على السوق العالمية .
و مع إندماج مصر بصورة تامة أكثر فى الأسواق المالية العالمية طوال العقود العديدة الأخيرة ، تضخّمت بعض قطاعات الإقتصاد لكن الحياة صارت مؤلمة أكثر بالنسبة للغالبية . و فى المناطق الريفية حيث لا يزال يعيش نصف السكّان ،" الإصلاح الزراعي المضاد " للفلاحة الذى إستهدف تشجيع الفلاحة الرأسمالية المعاصرة فى ريف متميّز بملكيات صغيرة جدّا ، حوّل عديد الفلاحين إلى عمّال و عن قصد دفع بالكثيرين خارج نطاق الأرض تماما . و بالتالي ، العمل الرخيص متوفّر جدّا لمصانع النسيج و مصانع اللباس و غيرها من المصانع الواقعة فى دلتا النيل ، حتى أنّ الصين الرأسمالية بزادها الخاص الواسع من العمّال المفقّرين و الفلاحين المهجّرين ، وجدت من المفيد أن تركّز مصانع تصدير هناك .
و تظلّ الفلاحة و الصناعة على حدّ السواء معرقلتان لأنّ إندماج مصر فى النظام الإمبريالي العالمي يحدّد و يعيّن حدود تطوّرها . (21) و التطوّر الذى حصل كان عادة تأويليّا أكثر أو مرتبطا بالخدمات و الإستهلاك أكثر من الإنتاج الأساسي .
مثلا ، غدت مصر أين ساعدت الظروف الفلاحية المناسبة على إرساء قاعدة لإحدى الحضارات الإنسانية الأولى ( بعض الأرض السقوية بوسعها أن تنتج ثلاث محاصيل سنويّا ) ، بصفة متصاعدة مرتهنة للتوريد من الولايات المتحدة ، إلى جانب بلدان أخرى ، لحاجيات غذائية أساسية مثل الذرة و القمح ، رغم الثروة الفلاحية الممكنة للبلاد .(22) و الكثير من مصادرها الفلاحية ومحاصيلها موجهة للتصدير. وبدأ هذا فى السنوات الأولى من 1800 لمّا أضحى إنتاج القطن هوالموقع المحدّد لمصر فى تقسيم العمل فى الإقتصاد العالمي – كلمة سرّ الإستغلال الرأسمالي و الإمبريالي .
و لنضرب مثالا آخر . تورّد مصر المنتوجات البترولية المكرّرة حتى بالرغم من كونها منتج كبير للنفط و الغاز . و فى حين أوصلت أنابيب الغاز الطبيعي إلى إسرائيل ( بسعر جدّ منخفض ) ، كان عديد المصريين مضطرّين إلى حمل قوارير غاز ثقيلة و غير آمنة و صعود الدرج بها لطبخ الطعام و ذلك لنقص فى أنابيب الغاز المحلّية و البنية التحتية . يتمّ توريد غاز البوتان و كذلك منتوجات البترول المكرّرة كالديازال و البنزين . و ببساطة يعنى تحديد الحكومة للأسعار أنّ هذه الأشياء غير متوفّرة عادة عبر القنوات الرسمية و يضطرّ الناس إلى إضاعة وقت للتعامل فى السوق السوداء.
و قنال السويس الذى بناه العمل الإجباري للفلاحين و إستعيد بالقوّة من بريطانيا التى إستولت عليه ، مصدر هام للمداخيل و التشغيل لا سيما للعمّال ذوى المؤهلات لكنّها أيضا موجهة للتصدير ولا تساهم كثيرا فى تطوير البلاد .
و نتيجة كلّ هذا ، قطاع كبير من السكّان فى المدن و الأرياف لم يعد يعيش حياة تقليدية لكن لم يقع إدماجه فى الإقتصاد الرسمي . و إستمرار هذا الوضع لأزيد من نصف قرن دليل على أن المشكل ليس التطوّر و إنّما أي نوع من التطوّر . (23)
القاهرة إحدى مدن العالم الأكثر تعقيدا ، غير أنّ غياب الشغل القار و الإعتماد على العلاقات الإقطاعية و القبلية و غيرها من العلاقات الشخصية و المنّة لأجل البقاء على قيد الحياة ، وظروف الحياة مرتجلة و مضطربة بالنسبة لعديد سكّانها و حتى حجمها غير القابل للثبات ، هي أوضاع مرتبطة وثيق الإرتباط بكيفية عرقلة الإقتصاد و التطوّر الإجتماعي الشامل نظرا لتبعية البلاد للرأسمال المرتكز فى البلدان الإمبريالية . و يعمل عدد ضخم من الناس فى مكان الآلات ( فى البناء مثلا ، حيث ظهر العمّال أرخص من رفّاعة ) أو كبوّابين و حرّاس و مساعدين و ما إلى ذلك . هذا إهدار إجرامي للإمكانيات البشرية .
وفى نفس الوقت ، بفضل التلفزة و الأنترنت معايير أنماط العيش الأمريكية و الأوروبية معروفة جدّا لدى ملايين الشباب الذين لديهم القليل من التعمّق و إمكانيات محدودة للإلتحاق بالجامعات و لا أمل فى القبول بهم فى هذا النوع من المعاصرة . وهو وضع منتشر فى الكثير من بلدان العالم العربي .
و مثال مذهل للطابع الخاوي لتطوّر البلاد ، منظور إليه من آفاق مصالح الشعب ، هو النظام الصحّي المصري . تقريبا كلّ فرد يوجد نظريّا ضمن مسافة قصيرة من المصحّات و المستشفيات التى توفّر علاجا مجانيّا . لكن الرشاوي المطلوبة للحصول على الرعاية الصحية بعيدة جدّا عن متناول الكثير من الناس. و بالرغم من الخدمات الطبّية المعاصرة ، لمصر نسبة وفايات أطفال عالية وهو مؤشّر عن الوضع الحقيقي للصحّة . وفى ذات الوقت ، بينما يتخرّج الكثير من الأطبّاء من المعاهد الطبّية المصرية و يتوجّه الكثير منهم إلى الخارج ، ليس فحسب بحثا عن المال ، بل كذلك بسبب كونهم كأشخاص ليس بإمكانهم ما يقومون به لتغيير هذا الوضع . فكميات ضخمة من الموارد الإجتماعية و الجهود الفردية التى تنصبّ فى التعليم الجامعي تهدر عندما ينتهى الشخص إلى العمل كسائق فى لندن أو يدير متجرا غذائيّا فى نيويورك.
التمرّدات فى مصر و تونس و أماكن أخرى لا يمكن تفسيرها بالحرمان الإقتصادي وحده بما أنّ ذلك ليس بالأمر الجديد . فهناك شعور عام عبر هذه المجتمعات بأنّ حياة الناس و البلاد قد إنتهت إلى طريق مسدود . (24). هذه هي الظروف التى تحدّد إطار كلّ من الأزمة السياسية التى أطاحت ببن علي و مبارك و بصعود الحركة الإسلامية .
هل هناك طريق وسطي بين الرأسمالية و الإشتراكية :
ثمّة بعض الناس الذين يحاولون أن ينأوا بأنفسهم عن الليبراليين والإسلاميين على حدّ سواء رغم أنّهم ينزعون إلى السقوط فى المعسكر الليبرالي لأنّهم يأملون فى أنّ " الفضاء الديمقراطي " يمكن أن يسمح بتغيير تدريجي . إنّهم يتقدّمون بتنويعات من فكرة السياسة " الإنتقالية " و الهيكلة الإقتصادية حيث الرأسمالية ستعمل بطريقة مختلفة . ينادون بتدخّل الدولة لتفرض على المستثمرين مطاوعة الأهداف الوطنية و الإجتماعية .
مثلا ، فى مقال فى ربيع 2013 المنشور على موقع المنتدى الإجتماعي العالمي ، يرسم سمير أمين سلسلة من الخطوات الملموسة التى يحاجج بأنّه فى مقدورها أن تجنّب كلّ من " الرأسمالية الهرمة " لمبارك التى فيها يمكن أن تزدهر حفنة من الناس المرتبطين بالنظام و خاصة بمبارك و عائلته ( وهو أمر يشبه كثيرا بن علي تونس و عائلة الأسد فى سوريا ) والرأسمالية " الليبرالية " ( السوق الحرّة دون ضوابط ) التى يتبنّاها كلّ من الليبراليين و الإخوان المسلمين . و نودّ أن نتفحّص مقترحاته ليس فقط بسبب تأثيرأمين بل كذلك بسبب أنّ نقاطه دقيقة فى الوقت الذى كانت فيه البرامج الإقتصادية لما يسمّوا باليساريين فى جبهة الإنقاذ الوطني الليبرالية ، لا سيما الأبرز منهم ، المرشّح للرئاسة حمدين الصباحي الذى سانده أمين ، قد كانت ضبابية جدّا عمدا . و تجسّد أفكار أمين البرنامج الواضح أو الخفي لغالبية " اليسار" فى مصر وتونس .
1- وضع حدّ ل " الرأسمالية الهرمة " بأن يفرض على الذين سُمح لهم بشراء ملكية الدولة بأسعار المزاد العلني أن يدفعوا القيمة الحقيقية لما تحصّلوا عليه .
2- رفع الأجر الأدنى و تبنّى تسقيف الأجر .
3- إنشاء لجنة ثلاثية بين النقابات ( بما فى ذلك النقابات غير المعترف بها قانونيّا حاليّا ) و الأعراف و الدولة للتفاوض فى الحقوق والأرباح .
4- إلغاء منح الدولة للمؤسسات الإحتكارية .
5- الترفيع فى أداءات المؤسسات الكبرى و الأجنبية و التخفيض فى أداءات المؤسسات الصغرى .
6- تقديم منح لميزانية الرعاية الصحّية لتغطية عجزها هي و الخدمات العامة الأخرى .
7- مركزة القروض لدى بنك مركزي .
8- و بالنسبة للفلاحين الصغار ، تحسين الطرق الفلاحية و قروض الدولة للإستثمار و توزيع التعاونيات و تجميد إيجار الأرض و قوانين جديدة تجعل من الأصعب طرد الفلاحين من أراضيهم . (25)
و تقف ضخامة مشاكل البلاد فى تعارض حاد مع تفاهة هذه الحلول المقترحة . ولنتفحّص فقط ثلاثة من العيوب الأساسية فى هذه الحجّة .
أوّلا ، إنّها تغالي فى الإختلاف بين " الرأسمالية الهرمة " و الرأسمالية " الليبرالية " . و بالفعل أوّل نقطة صاغها أمين مؤكّدا على أنّ يدفع الرأسماليون القيمة " العادلة " ( التى ليس بوسعها إلاّ أن تكون قيمة السوق ) للمقتنيات القديمة و الجديدة هو بالضبط ما يدعو إليه منظّرو السوق الحرّة .
الرأسمالية ، أكانت هرمة أم غير ذلك ، يجب أن تبحث عن اعلى نسب الربح . مثلا ، الفلاحة التى يقرّ أمين أنّها المشكل الأعوص فى قائمته يتجنّبها تماما عديد اليساريين . و تكون الفائدة أزيد إن تركّز رأس المال فى مزارع كبرى تنتج مجموعة صغيرة من المحاصيل الموجهة للتصدير مثل القطن ، و توريد المواد الغذائية و ترك بقية الفلاحة فى ركود ، من تشجيع تطوّر و تنويع شاملين .
و علاوة على ذلك ، فإنّ ما ينجم عن هذا من عدد هائل من الناس المحرومين من أرض قابلة للفلاحة و يائسين من أعمال أخرى هي بالضبط بسبب وجود إستثمار دولة و إستثمار أجنبي فى إنتاج المصانع ، مرّة أخرى ، بالأساس بضائع قطنية للتصدير. ما هو الشيء الآخر الذى سيجلب الرأسمال الأجنبي إلى مصر ؟ طالما أنّ أي إقتصاد يقوم على المبدأ الرأسمالي لجني الربح ، يجب أن يخضع لمقتضيات السوق العالمية .
ثانيا ، تحمل هذه المقاربة فرضية غير مباشرة تشدّد على أنّ الدولة محايدة و يمكن أن تُستعمل ضد الطبقة الرأسمالية الحاكمة فى حين أنّها عمليّا تمثّل تلك الطبقة . و كلّ من له إطلاع على هيكلة السلطة المصرة ، مثلا ، سيجد من العسير إنكار أنّ القوات المسلّحة و أجهزة الأمن هي لبّ الدولة . و هذا ليس لمجرّد كون للجيش الدور القيادي فى الإقتصاد . و ينطبق الشيء نفسه على تونس أين القوّات المسلّحة أقلّ بكثير عدديّا و لا تتمتّع بذات الدور الإقتصادي الكبير . جهاز الدولة برمّه ، بما فيه القضائي البيروقراطي من قمّته إلى قاعدته ، يخدم تلك المصالح الطبقية . و قد بقيت هذه الأجهزة تقريبا دون مساس رغم الإستقالة المفروضة على مبارك و بن علي ، مواصلة تعزيز النظام الإقتصادي و الإجتماعي . و بالفعل دور الدولة كمعزّز لجملة العلاقات الإقتصادية و الإجتماعية السائدة ، و فى هذه الحال الرأسمالية و الإمبريالية ،هي مبدأ محوري فى الماركسية يتعيّن نصح منظرينا " الماركسيين " بتذكّره .
ثالثا ، تعتمد هذه المقاربة أيضا على فرضية أخرى أساسية غير مصرّح بها : أنّ ثورة حقيقية غير ممكنة فى مصر ( أو أي بلد آخر ، واقعيّا ) وانّ المطلوب هو فترة طويلة من التطوّر الإقتصادي لتوفير الشروط اللازمة . و تجربة روسيا و الصين اللتان كانتا فى أوجه عدّة إقتصادية أقلّ تطوّرا بكثير زمن ثورتيهما من مصر اليوم ، تفنّد هذه الفرضية . و قد ناقشنا التطوّر المفكّك فى البلدان المضطهَدة من قبل الإمبريالية و كيف أنّ النموّ الإقتصادي فى ظلّ هذه الظروف يخلق مشاكلا جديدة عوض تقديم حلول – هذا النموّ هو الذى أوصل مصر و تونس إلى حيث توجدان اليوم . سواء بسبب نظرية أمين للتطوّر أم بسبب فهمه الخاص للتجارب الإشتراكية فى الإتحاد السوفياتي و الصين ، فإنّ نقطة الإنطلاق المضمرة لهذا الخطّ من المحاججة هو أنّ الثورة و الإشتراكية ليستا خيارا واردا .
و هناك مشكل كبير آخر مع برنامج أمين ، مشكل لنكون منصفين تتقاسمه معه غالبية القوى التى تسمى نفسها يسارية أو إشتراكية عموما : لا إشارة إلى نصف المجتمع ، النساء . كلّ من الحياة اليومية و أهداف الإسلام السياسي جعلا من مكانة المرأة ومعاملتها من أحدّ المواضيع الراهنة التى تواجه المصريين و التونسيين و الإنتفاضات ككلّ و مع ذلك غالبية اليسار التقليدي و العلماني فى هذه البلدان يحاول تجنّب هذه المسألة .
و على سبيل المثال ، فى تونس ومصر سمح المفترض أنّهم علمانيون للإسلاميين بإستعمال كلّ من الوسائل القانونية و العنف لمنع عرض شريط برسيبوليس وهو قصّة فتاة تبحث عن الإزدهار كشخص فى ظلّ جمهورية إيران الإسلامية . ومثال آخر شهير و معبّر جدّا فى تونس هو عرض طالبة صورة لها عارية الصدر على الأنترنت مصرّحة " جسدي ملكي و ليس مصدر شرف لأحد " . حينها فى إرتباط بمجموعة " فيمن " الأوروبية ، نساء تعرضن صدورا عارية كتبت عليها شعارات ضد الدين و البطرياركية ، حُكم عليها بأربعة أشهر سجن لكتابتها كلمة " فيمن" على جدار مقبرة . و مثلما وضع ذلك كاتب تونسي ، أمين السبوعي ، لقد حقّقت ما لم يستطع تحقيقه أحد منذ بن علي – توحيد جميع الطيف السياسي و المجتمع الرسمي ضدّها . (26) و قبل ذلك ، عندما عرضت شابة مصرية صورة وهي عارية لأسباب مماثلة ، حركة شباب 6 أفريل وهي من أبرز تنظيمات " الشباب الثوري " فى الإطاحة بمبارك ، لم تدن تصرّفها و حسب بل قالت إنّها لا يمكن أن تكون عضوا فى منظمتهم لأنّها كانت ملحدة . (27)
و كانت هذه لتكون مجرّد حكايات إن لم تكن تكشف الموقف المضمر لليسار و حتى عديد الناس من الطبقة الوسطى الذين يريدون نمط عيش علماني هم أنفسهم بينما يعترفون بسلطة الدين فى تحديد الحياة العامة و حياة الآخرين . و هذا ليس مجرّد نفاق حتى أسوأ من البرّ ؛ إنّه مؤشّر على القبول بشرعية قوانين البطرياركية التى هي فى موقع اللبّ من العلاقات الإجتماعية و التفكير الفاسدين اللذين يستعبدان العالم العربي و تعرّى النساء يتحدّى حقّا النظام الإجتماعي والإيديولوجي برمته بطريقة جدّ مباشرة و النظام العالمي برُمّته بصورة أعمّ. (28)
و مثال قاسي بصفة خاصة هوالتالي : تشهد مصر وباء إغتصاب و إعتداءات جنسية على الملأ ( مسموح بها على الملأ ) . و الفرق المتنافسة من الإخوان المسلمين - الدعاة الملمين الملتحين و الجنرالات المتزيّنين - قد برّرا كلاهما صراحة و وفّرا بما لا يدع مجالا للشكّ الجوّ العام وربّما تنظيم إغتصاب المتظاهرات من النساء فى ساحة التحرير . (29) هذا مظهر فظيع لما حلّله أفاكيان كتبعات للتناقض الجوهري للرأسمالية و عالم اليوم الإمبريالي . كيف أنّ التطوّر الرأسمالي من جهة يكسر العلاقات الإجتماعية القديمة و يدفع النساء إلى الحياة العامة ، فى حين أنّه من جهة أخرى لا يأكّد القيم و الإمتيازات التقليدية نفسها فحسب بل يتعزّز بعنف – ليس فقط فى البلدان العربية بل عالميّا .
لنكن واضحين ، هناك بعض الإختلافات بين مختلف أنواع المجتمعات . و يبحث الإسلاميون عن تقنين و تشديد القبضة على وضع موجود بعدُ و يزداد سوءا . لكن فى أفضل الأحوال ،غالبية القوى"العلمانية" التى تنادي بحقوق النساء لا تتحدّاهم . بجرأة فى هذا حتى و إن كانت المساواة القانونية للنساء جزء من برنامجها . وهذا مذهل بالخصوص نظرا للطريقة التى يستعمل بها الليبراليون فى الغرب عادة الأشكال القروسطية من الإضطهاد فى ما يسمى بالعالم الثالث للترويج لمصالح الإمبريالية الغربية و برامجها السياسية بينما تحجب الأشكال الأكثر عصرية لإضطهاد النساء .
هنا ثمّة نقطتان . واحدة هي أنّ النساء مضطهَدات فى كلّ بلد من بلدان العالم " بينما قد يبدوان مختلفين جدا ، فرضت الأصولية الإسلامية المتعصبة الخمار من جهة و " سير من الجلد " معلن على نحو واسع و مروّج له على أنه " لباس داخلي جنسي" بالنسبة للنساء فى المجتمع الرأسمالي "الحديث "، من جهة أخرى ، كلاهما رمزان و تجسيدان قبيحان لمهانة النساء . " (30) و يحاجج الإسلاميون بأنّ جسد المرأة كقطعة شوكولاطة: أليس من الأفضل إبقاؤه مخلّفا ، نضرا و آمنا بعيدا عن العيون الطامعة ؟ و الجواب السائد فى الغرب هو : تباع الشوكولاطة أكثر عندما تجعل لعاب الرجل يسيل – عرض أجساد النساء يزيد فى قيمتها فى السوق . أين - فى أي مجتمع على الكرة الأرضية اليوم- يمكن للمرأة أن تكون إنسانا و ليس قطعة سكّر ؟
و النقطة الثانية هي أنّه إلى درجة إمتلاك النساء أوفر إختيارات فى البلدان الإمبريالية و وجود بعض الحقوق - أنّه من " الأيسر أن تكون إمرأة " فى لندن أو نيويورك من القاهرة أو دلهي – فإنّ هذا لا يعود إلى التفوّق المفترض للثقافة الغربية و إنّما إلى كون التطوّر الإمبريالي – مراكمة رأس المال فى البلدان الإمبريالية و نوع التطوّر المفروض على البلدان التى تضطهدها – هو ما يجعل هذا ممكنا ، رغم أنّ هذه الحقوق نسبية وهي الآن متنازعة تنازعا عنيفا . (31)
و بالرغم من المشاركة الواسعة للنساء فى النضالات المناهضة للنظام ، لا وجود لبلد فى الإنتفاضات العربية أين صار تحرير المرأة صرخة توحيد كبرى كما يجب أن يكون . إنّ إضطهاد النساء متداخل بصفة حاسمة بالتحدّيات الجذرية لكافة نظام العلاقات الإجتماعية . يمكن لحركة تحرير النساء كجزء جوهري من هويّتها أن تواجه عمليّا القوتين اللتين " عفا عليهما الزمن " كلاهما ن بما فى ذلك فى مناطق و ضمن شرائح إجتماعية هي فى الوقت الحاضر معاقل للأصولية الإسلامية ، و تفرز قوّة من النساء و الرجال و تشرع فى تغيير المشهد السياسي . و يمكن لمقاربة يجسّدها شعار " لنطلق غضب النساء كقوّة جبّارة من أجل الثورة " أن تساعد على دفع إختراق القبضة القويّة للقوتين اللتين " عفا عليهما الزمن " فى السياسة و كذلك فى تفكير الكثير من الناس .



#شادي_الشماوي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أساليب التفكير و أساليب العمل - الفصل 22 من - مقتطفات من أقو ...
- فهارس كتب شادي الشماوي- ( الماوية : نظرية و ممارسة - من العد ...
- طريق إفتكاك السلطة فى إيران - برنامج الحزب الشيوعي الإيراني ...
- عن بعض أمراض المجتمع - برنامج الحزب الشيوعي الإيراني ( المار ...
- الخطوات الفورية و إرساء إتجاه التغيير-- برنامج الحزب الشيوعي ...
- طبيعة الثورة و آفاقها- فى إيران - برنامج الحزب الشيوعي الإير ...
- بعض التناقضات الإجتماعية المفاتيح - برنامج الحزب الشيوعي الإ ...
- الطبقات و موقعها فى سيرورة الثورة فى إيران - برنامج الحزب ال ...
- لمحة عن إيران المعاصرة - برنامج الحزب الشيوعي الإيراني ( الم ...
- السياسة و الثقافة و الإقتصاد فى المجتمع الإشتراكي - برنامج ا ...
- برنامج الحزب الشيوعي الإيراني ( الماركسي– اللينيني – الماوي) ...
- مقدّمة مترجم برنامج الحزب الشيوعي الإيراني ( الماركسي– اللين ...
- مراجع كتاب - عن الخطوات البدائية و القفزات المستقبلية -
- عن الخطوات البدائية و القفزات المستقبلية - بحث فى ظهور الإنس ...
- إبراهيم كايباكايا قائد بروليتاري شيوعي ماوي.
- العلم أم البراغماتية ؟ مقتطف من : الخلاصة الجديدة للشيوعية و ...
- القومية أم الأممية ؟ مقتطف من : الخلاصة الجديدة للشيوعية و ب ...
- وحدة من أجل تحرير الإنسانية أم وحدة بلا مبادئ للحصول على- قو ...
- لن يتحرّر أي إمرء دون تحطيم الدولة البرجوازية : دروس النيبال ...
- كوريا الشمالية ليست بلدا إشتراكيّا


المزيد.....




- صدور أسبوعية المناضل-ة عدد 18 أبريل 2024
- الحوار الاجتماعي آلية برجوازية لتدبير المسألة العمالية
- الهجمة الإسرائيلية القادمة على إيران
- بلاغ صحفي حول اجتماع المكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية ...
- من اشتوكة آيت باها: التنظيم النقابي يقابله الطرد والشغل يقاب ...
- الرئيس الجزائري يستقبل زعيم جبهة البوليساريو (فيديو)
- طريق الشعب.. الفلاح العراقي وعيده الاغر
- تراجع 2000 جنيه.. سعر الارز اليوم الثلاثاء 16 أبريل 2024 في ...
- عيدنا بانتصار المقاومة.. ومازال الحراك الشعبي الأردني مستمرً ...
- قول في الثقافة والمثقف


المزيد.....

- مساهمة في تقييم التجربة الاشتراكية السوفياتية (حوصلة كتاب صا ... / جيلاني الهمامي
- كراسات شيوعية:الفاشية منذ النشأة إلى تأسيس النظام (الذراع ال ... / عبدالرؤوف بطيخ
- lمواجهة الشيوعيّين الحقيقيّين عالميّا الإنقلاب التحريفي و إع ... / شادي الشماوي
- حول الجوهري والثانوي في دراسة الدين / مالك ابوعليا
- بيان الأممية الشيوعية الثورية / التيار الماركسي الأممي
- بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة ف. آي. لينين (النص كاملا) / مرتضى العبيدي
- من خيمة النزوح ، حديث حول مفهوم الأخلاق وتطوره الفلسفي والتا ... / غازي الصوراني
- لينين، الشيوعية وتحرر النساء / ماري فريدريكسن
- تحديد اضطهادي: النيوليبرالية ومطالب الضحية / تشي-تشي شي
- مقالات بوب أفاكيان 2022 – الجزء الأوّل من كتاب : مقالات بوب ... / شادي الشماوي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - شادي الشماوي - مصر و تونس و الإنتفاضات العربية : كيف وصلت إلى طريق مسدود و كيف الخروج منه