أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - فاطمة ناعوت - شكرًا للمصادفات!














المزيد.....

شكرًا للمصادفات!


فاطمة ناعوت

الحوار المتمدن-العدد: 4340 - 2014 / 1 / 20 - 06:18
المحور: سيرة ذاتية
    


‬-;-طفلٌ صغير اسمه محمود. من أسرة رقيقة الحال تسكن أحد الأحياء الشعبية القديمة بالقاهرة هو "الدرب الأحمر". يُفصل الصبيُّ من مدرسته في عشرينيات القرن الماضي لأنه لم يسدّد المصروفات. فالتعليمُ في مصر الملكية لم يكن مجانيًّا قبل ثورة يوليو 52. أطبقتِ الأمُّ كفَّها حول كفّ صغيرها ومشت به إلى مطبعة في الحيّ ليعمل في صفّ الحروف وتجميع الكلمات. سرعان ما يتعلّم الصبيُّ الحِرفةَ وتبدأ ملامح مستقبله ترتسم. سيغدو "أسطى" في الطباعة لو حالفه الحظ. لكن اعتباطيةَ المصادفات، أو "عبثَ الأقدار"، حسب نجيب محفوظ، أو الأوفق أن نقول ذكاء الأقدار وانتقائيتها وتفوقها الحدْسيّ، كان لها رأيٌ آخر بشأن "محمود"؛ إذ رسمت لمستقبله خطّةً أخرى.
يمرض فؤاد الأول، ملك مصر آنذاك، بمرض خطير. ثم يُشفى منه بمعجزة ما، أو" بمصادفة" ما. فيقرر، ذات لحظة كرم مباغتة، أن يدفع مصروفات التعليم لكل فقراء مصر ذاك العام. فيعود الصبيُّ محمود إلى مقعد المدرسة ويكمل تعليمه الذي كاد يُحرم منه. ويدرج في سني الدراسة حتى ينال ليسانس الفلسفة من جامعة فؤاد الأول. تحدثُ مثل هذه المصادفات لكي تحظى مصرُ بمفكر كبير ومناضل سياسي رفيع الطراز اسمه "محمود أمين العالم". الذي رحل عن دنيانا في مثل هذه الأيام عام 2009.
وهنا، ليس من قبيل المصادفة أن تكون رسالة الماجستير التي قدّمها بعد تخرّجه بعنوان "فلسفة المصادفة". وفيها يحاول أن يربط بين المصادفة الموضوعية، من حيث مُدخلاتها الفيزيائية وقانونها الرياضيّ تبعا لنظرية الاحتمالات، وبين دلالاتها الفلسفية والسوسيولوجية. لكي يعلّمنا أن نعيد التفكير، على نحو مغاير، في كل مشهد يحدث أمامنا.
ماذا لو أن رجلا ما، يسير في شارعٍ ما، فتسقط على رأسه شرفةٌ ما، ويموت؟ هل هذه سلسلة مصادفات؟ أم أن المصادفة هي ألا يسيرَ هذا الرجلُ في ذلك الشارع بالتحديد، فلا تسقط فوق رأسه تلك الشرفةُ عينُها، في اللحظة تلك بالذات؟ تقول فلسفة المصادفة إن المصادفة هي ألا يحدث كلُّ هذا.
حياتنا سلسالٌ متصلٌ من المصادفات. أو ما نحسبه مصادفات. لنقل إنها ترتيبات عُلوية مُحكمة تأتينا في ثوب المصادفة، تغيّر من مصائرنا وتعيد ترتيب الأوراق في شجرة الأقدار البديلة التي ترسم مستقبلنا. أنا مثلا، غيّرتْ مصادفةٌ فانتازية مسارَ حياتي كُليًّا. كانت أمي تُعدّني لدخول كلية الطب مثل شقيقي الوحيد الذي يكبرني. وفي عطلاتي المدرسية، كان يصحبني معه إلى الكلية لأتعود على جو الطب والمحاضرات. وذات يوم قال سندخل المشرحة لدراسة "الكُلى البشرية". قلتُ: "لا، أخاف مرأى الدم!” فقال: "اطمئني، لا دم هناك.” تعجبت! لا دم!؟ كيف؟ بالتأكيد سأرى جثثًا ودماءً وأشلاءً متناثرة. سأرى الموت. لكن المفزعَ أنني لم أر جثة ولا دمًا. لم أر الموت. رأيت ما هو أبشع.
هذا أخي يفتح صندوقًا. يمد شوكة معدنية كبيرة ويُخرج شيئًا لم أتبينه أول الأمر. ثم قال إنه "جذع" امرأة. دون رأس ودون ساقين. وبدأ في فتح الجسد بالمشرط. لدقائق، كأنها الدهر، أحاول أن أربط بين ما أراه وبين تصوري عن الجسد البشري؛ فلا أقدر. السيدة نامت في حامض الفورمالين سنوات حتى غابت عنها معالمُ البشرية. البشرة متجعدة متغضنة رمادية اللون زرقاء. واكتشفتُ لأول مرة أن ثمة ما هو أبشع من مرأى الموت. إنه الموتُ "القديم”. الموت الضاربُ في الوقت. وكرهتُ الطبَّ والأطباء. وما شعرتُ إلا والعالمُ يدور والأرضُ تميد تحت قدمي ولم أفق إلا وأنا في سريري أصرخ في وجه أمي: "حوّلي أوراقي من قسم العلوم إلى الرياضيااااات! سأدخل الهندسة.” وكانت المرة الأولى التي أقول فيها: "لا" لأمي الحاسمة الحازمة التي لا يُعصى لها أمرٌ.
وكتبت قصيدة حول رأس هذه المرأة الذي لم أره أبدا. ولن أراه. الرأس المنزوع الغائب. الرأس الذي رسم مستقبلي على غير ما رُسم لي، وقرّر لي نوع دراستي. رأسٌ غائبٌ غير موجود نسخَ ونسفَ قرارات "رأس" أمي العنيد الصعب!
في اسكتلندا، جسرٌ يقطع عرض نهر" تاي" ويصل بين مدينتيْ فايف وداندي. في 28 ديسمبر العام 1879 ضرب الجسرَ إعصارٌ عنيف وحطمه. وسقط القطارُ من فوقه ليغوص إلى الأبد في قاع النهر ويغرق المسافرون جميعهم. إلا واحدًا. ظلَّ محتفظا بتذكرة السفر من إدنبره إلى داندي بعدما فاته القطار لسبب ميتافيزيقيّ غامض! إنه كارل ماركس.
يحدثُ هذا. نعم. يحدث كل يوم. كم من مصادفة جمعت بين قلبين كان من المستحيل أن يتلاقيا سوى بمحض مصادفة. وكم من مصادفة فرّقت بين قلبين ما كان لهما أن يفترقا إلا بالموت. إنها فلسفة المصادفات العجيبة التي تكتب أقدارنا.
في ذكرى رحيله (10 يناير) أهدي إليه حبي، أستاذي وُمعلّمي العظيم محمود أمين العالم، الذي كافأني بتصدير أحد كتبي "الكتابة بالطباشير" عام 2003. نَمْ في سلام أيها الشريف.
‬-;-



#فاطمة_ناعوت (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- طفل اسمه سيف
- عام في منزلة بين منزلتين
- زيارة البابا
- الماريونيت تتمرد على صانعها
- ميري كريسماس يا مصر
- حكاية العمّ العجوز
- إخوان صهيون
- صورة السيسي وحطّة فلسطين
- اقتلْ واحرق بس بسلمية
- دولة الأوبر
- أراجوزات الإخوان
- عود الثقاب الإخوانىّ
- نحتاج عُصبة من المجانين
- لماذا أُسميها: -دولة الأوبرا-؟
- الموتُ أكثر نبلًا
- بالقلم الكوبيا
- عش ألف عام يا مانديلا
- احنا الكفار
- فيروز حبيبتي
- إنها الإسكندرية يا صديقتي الخائفة


المزيد.....




- الطلاب الأمريكيون.. مع فلسطين ضد إسرائيل
- لماذا اتشحت مدينة أثينا اليونانية باللون البرتقالي؟
- مسؤول في وزارة الدفاع الإسرائيلية: الجيش الإسرائيلي ينتظر ال ...
- في أول ضربات من نوعها ضد القوات الروسية أوكرانيا تستخدم صوار ...
- الجامعة العربية تعقد اجتماعًا طارئًا بشأن غزة
- وفد من جامعة روسية يزور الجزائر لتعزيز التعاون بين الجامعات ...
- لحظة قنص ضابط إسرائيلي شمال غزة (فيديو)
- البيت الأبيض: نعول على أن تكفي الموارد المخصصة لمساعدة أوكرا ...
- المرصد الأورومتوسطي يطالب بتحرك دولي عاجل بعد كشفه تفاصيل -م ...
- تأكيد إدانة رئيس وزراء فرنسا الأسبق فرانسو فيون بقضية الوظائ ...


المزيد.....

- سيرة القيد والقلم / نبهان خريشة
- سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن / خطاب عمران الضامن
- على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم / سعيد العليمى
- الجاسوسية بنكهة مغربية / جدو جبريل
- رواية سيدي قنصل بابل / نبيل نوري لگزار موحان
- الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة / أيمن زهري
- يوميات الحرب والحب والخوف / حسين علي الحمداني
- ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية / جورج كتن
- بصراحة.. لا غير.. / وديع العبيدي
- تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون / سعيد العليمى


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - فاطمة ناعوت - شكرًا للمصادفات!