أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - وديع العبيدي - سعدي يوسف.. صورة في الثمانين (الكتاب كاملاً)















المزيد.....



سعدي يوسف.. صورة في الثمانين (الكتاب كاملاً)


وديع العبيدي

الحوار المتمدن-العدد: 4335 - 2014 / 1 / 15 - 18:28
المحور: الادب والفن
    


وديع العبيدي


سعدي يوسف..
"صورة في الثمانين"
(مرحلة ما بعد عام 2000 من تجربته الشعرية)

(الكتاب كاملاً)




أن الشِعرَ يقدِّمُ الخطوةَ الأولى في السُّـلَّـمِ الذي يحملُ البشرَ إلى السماءِ.
ومن هنا إغراؤهُ.
وأقولُ عن نفسي : ليس لي من حياةٍ فِعليّةٍ ، خارج الشِعر .
الشِعرُ خبزي اليومي .
وأريدُ له أن يكونَ خبزَ الناسِ جميعاً .
"سعدي يوسف"


بَدَهيّة
سعدي يوسف
لستُ الـمُـقـامرَ
أنت تعرفُني ، طويلاً ، من نخيلِ أبي الخصيبِ
إلى تمارينِ الصباحِ بـ " نقرة السلمانِ " ...
حتى لندنَ ... الآن !
انتبهْتَ ؟
أريدُ أن تُصْغي إليّ الآنَ :
لم أكن المقامرَ
هكذا !
لكنني غامرتُ ... كنتُ ولا أزالُ ، هنا ،
المغامرَ
لا الـمُقامرَ ...
هل فهِمْتَ؟
عليكَ أن تُصْغي إليّ الآنَ !
واحفَظْ ما أقولُ
احفَظْ
نعمْ
عن ظَهرِ قلبٍ ...

قُلْ لأهلي: بين دجلةَ والفراتِ ،
هنالكَ اسمٌ واحدٌ
هو ما ظللتُ لأجْلهِ ، أبداً ، أغامرُ
هو أوّلُ الأسماءِ
آخرُها
وأعظمُهــــا ،
وما يصِلُ الحمادةَ بالسماءِ :
هو العراقُ الأولُ العربيّ


"هذا وصفُ غريبٍ نأى عَنْ وطنٍ بُنيَ بالماءِ والطينِ‏
وبَعُدَ عن أُلافٍ له، عهدُهم الخشونةَ واللينَ..
فأين أنت من غريبٍ قد طالتْ غربتُه
وقلَّ حظهُ ونصيبُه من حبيبهِ‏ وسَكنهِ!
وأين أنت من غريبٍ لا سبيل له إلى الأوطان،‏
ولا طاقة به على الاستيطان؟
بل الغريبُ من هو في غربته‏ غريب..،
الغريبُ من نطق وَصْفُهُ بالمحنةِ بَعد المحنةِ..‏
إنْ حضَرَ كان غائباً، وإن غاب كان حاضراً.‏
هذا غريبٌ لم يتزحزح عن مسقطِ رأسه،
ولم يتزعزع عن مهبِّ أنفاسهِ،
وأغْرَب الغُرَباءِ مَنْ صَارَ غريباً في وطَنِهِ،‏
وأَبْعَدَ البُعَدَاءِ مَنْ كانَ قريباً في مَحلِّ قرْبِهِ".
(أبو حيان التوحيدي)
(1)
تقديم..
سعدي يوسف.. صورة الشاعر في الثمانين
سعدي يوسف.. صوت قوي في الضمير العراقي.. بدأ قويّا.. واستمرّ يقوى ويقوى.. دون أن يتسنى له أن يتراجع أو يخفت قليلاً.. وكأنّ ظهوره كان قدرا عراقيا.. له قوّة القدر وحكمة القدر الذي لا يستطيع التراجع، ولا يمكن دفعه للتراجع ولو اجتمعت عليه الأقدار.
ذلك القدر الذي ربط ظهوره، بظهور جيل الحداثة العراقية.. ليس كتوأم.. ولكن ك(يعقوب) .. ولنتصوّر لحظة.. ظاهرة الحداثة العراقية من غير (سعدي يوسف)!!..
لنجمع كلّ حصيلة أولئك الروّاد ومن يدخل تحت تصنيفهم في كفة، ونضع حصيلة سعدي يوسف في كفة مقابلة!.. لا أعتقد أن معادلة الريادة أو الحداثة، كان لها أن يكون هذا الزخم، لولا وجود (توربينات دفع رباعية) حملت تلك الظاهرة، وارتقت بها بقوة وزخم ثقافي وجماهيري، لم يهدأ أو يتوانى منذ انطلاقته، مع بواكير النصف الثاني للقرن العشرين المنصرم، دخولا عارما في القرن التالي، وكأنه يكتسب ويجتذب قوة على قوّة.. فشعريّة سعدي يوسف ليست موجة في بحر الزمن، وانما هي القوّة الموازية والمناظرة له. ان مبدأ شعريّة سعدي منذ انطلاقتها تجترح زمنها الخاص، وتسعى لتجيير الزمن لصالحها، تجيير الزمن العام لزمنها الشعري الخالص. ومن هنا سرّ قوّتها، وديمومتها، وقدرتها على المناجزة والمناكدة واختراق المجهول.
سرّ قوّة شاعرية سعدي، انّها عصيّة على التنميط، عصيّة على القولبة والتشخيص. خلال أكثر من نصف قرن، اجترحت شاعرية سعدي عديد الأنماط والظواهر والقوالب، التي تركت أثرها على الآخرين، وبعضهم تنمّط بها وعجز عن الخروج منها. بينما كانت قاطرة سعدي تتجاوز تلك الأنماط والظواهر، مثل المحطات، وتتجه لاستشراف محطات وطرق جديدة، تقرّب الشعر من الحياة، وتقدّم الحياة للناس، وترفع الناس إلى مستوى التاريخانية.
لم يكتفِ سعدي بالتجديد.. وانما كان منفتحا على كلّ التجارب الأدبية والشعرية، الفنية واللغوية، الفلسفية والظاهراتية، المحلية والتراثية والعالمية. ولعلّه كان من أوائل الذين حوّلوا النص الشعري العربي إلى لوحة فنية، فكرية، نفسية، صورية صائتة.
منذ أبي نؤاس حتى بول شاؤول والزهاوي ونازك والسيّاب.. راهن كثيرون على التجديد والخروج على النمط، سواء من باب الموضة أو النزوة أو التقليد. أما التجديد لدى سعدي يوسف فقد كان جزء من فهمه لحيوية القصيدة وتفاعلها مع اللحظة والواقع، جعل عملياته التجديدية جزء من النمو العضوي للشعر.. فلا يمكن فهم أو استيعاب قصيدة سعدي الأخيرة، دون مراجعة مراحل نموها وخصائصها البنيوية والنصية على مدى سنيّها السالفة.
"أن الشِعرَ يقدِّمُ الخطوةَ الأولى في السُّـلَّـمِ، الذي يحملُ البشرَ إلى السماءِ. ومن هنا إغراؤهُ. وأقولُ عن نفسي : ليس لي من حياةٍ فِعليّةٍ ، خارج الشِعر . الشِعرُ خبزي اليومي ."
فَهْمُ سعدي للشعرِ، حالة سابقة لقصيدته. فهو لا - يُشَعْرِنُ- اللحظة والمفردة والخبز، وانما يجدُ الشعر مبثوثا في كلّ شيء، الشعر كحالة سابقة للغة، أي أنها شعرية الوجود، شعرية النسمة، شعرية السعفة، شعرية الصوت. هذه الرؤية الوجودية للشعر، تعطي نصوص سعدي مذاقا ونكهة على درجة من الخصوصية.
ويحسب له، قيامه بشعرنة كثير من الحالات الانسانية والألفاظ الدارجة والأجنبية، إلى جانب مصطلحات "حياة" ما بعد الحداثة، كالنت والفيس بوك والهيدفون وما إليها.
شاعرية سعدي يوسف لها سلطة، مثل سلطة الكهنوت، تجعل الشخص عاجزا عن رؤيتها من الخارج، وعاجزا عن فصل ذاته عنها من الداخل. القصيدة عند سعدي حالة تلبّس، تخرج من ذات الشاعر لتتلبّس المتلقي. ثمة ليس كثير من الشعر الذي تشعر وأنت تقرأه أنك تتكلم عن نفسك أو من ذاتك. وأعتقد أن هذه أحد خصائص الشعر. فالشعر ليس ظاهرة خارجية أو حالة وصفية، أو فذلكة بلاغية، انّه روح وحياة. وسعدي اليوم شاب في الثمانين بفعل الحيوية المتدفقة من نبع الشعر، وتماهيه العجيب في اللحظة الشعريّة.
صوته واسع.. عند استعارة التصنيف الموسيقى.. واسع جدا.. ويكاد لا تتناهى شواطئه في باصرة الراهن.. هذه اللامتناهية الشعرية هي نظير اللامتناهية الزمنية الفيزيائية..
نخلُ السّماااااااااااااااااااااوةِ أمْ نخلُ السّماااااااااااااااووووووووووواااااااااااااااااااااااااااةِ
ان الواقف على شاطئ البحر لا يستطيع رؤية حدودِ البحرِ أو شاطئه الآخر.. ذلك في مجال فيزياء التعبير.. لأنّ الشعر الحقيقي يستخدم الألفاظ كمادة فيزياوية لصناعة اللغة، ولكنه يمتح من أعماق الروح التي ترى وتعرف، ما لا نرى ونعرف في الحالة العيانية. هذه الروح أيضا هي سرّ قوّة سعدي يوسف الانسان، وسرّ قوّة شاعريته.
من مظاهر سعة الصوت استيعابه الشعر العربي المعاصر، بكل اتجاهاته وتياراته وأنماطه وآفاقه، دون أن يتوقف أو يتأخر لدى أيّ منها، أو يتعثّر بها ويتلكّأ. فالشاعر الذي يصفه البعض بالخمسينيّ ، طبع أول خمسينيّة الشعر العربي الحديث ببصماته. وليس من السهل التوقف لدى جيل شعريّ لا تجد فيه نبرات صوت سعدي أو أفكاره أو اعتمالاته الشعرية. فسعدي يوسف من القلة القليلة، على شاكلة الجواهري، يتماهى داخل الحالة الشعرية، ويستغرق في المفردة الشعرية وكأنها العالم كلّه.. كأنها القصيدة!.
وإذا كانت القصيدة – كما يراها أدونيس- طقسا صوفيا، فأنها لدى سعدي حالة صوفية متصلة، طالما اندمجت القصيدة والحياة اليومية في سياق واحد. لكن صوفية سعدي ليست "روحية"، وانما صوفية "ذهنية" كما يجسدها الطاهر بن جلون في (تلك العتمة الباهرة) أو ابن سبعين في (وحدة الوجود)، أو كولن ولسن في (طفيليات العقل). سعدي يتماس مع كلّ شيء في الطبيعة والحياة باعتباره جزء منها وهي جزء منه؛ وهو يعيش في المجتمع ومتغيراته دون أن يخضع لها أو يتركها تقتنصه. فالشعر هنا حالة كونية، حالة استبصار ومعايشة متجاوزة، تستمدّ طاقتها من نقطة بعيدة في روح الكون.
قصيدة سعدي تقتنص طقسها الخاص، وحضورها الفاعل لدى المتلقي. انها تطرق أو تخترق غشاء الحسّ، وتنمو هناك مثل لحن أو أغنية. وقد ظهر أثر قصيدة سعدي بقوة واسعة وعمق، في القصيدة الستينية والثمانينية العراقية، بشكل رسّخ البصمات العراقية للحداثة الشعرية وسهّل اندفاعها خارج الحدود. فعلى خلاف السبعينيين، عاد الثمانينيون لاستعادة الاشتغال على المنجز الستيني العراقي، ولم يخطر لهم أنهم يتشرّبون بصمات سعدي من طرف آخر. لقد حرّر سعدي يوسف الشعر الحديث، من نمطية التقطيع الشعري إلى انسيابية الايقاع والنقلات اللحنية داخل الصوت.. وأتاح للشاعر الحديث حرية أو صلاحيات كثيرة، ما كان لغيره اجتراحها أمام قداسة القصيدة السيّابيّة (النمطية).
رفع سعدي الواقع اليومي محلّ الاسطورة في قصيدة السيّاب، وجعل اللحظة اليومية تتدفق بحيوية الملفوظ الشعري المتدفق.. فظهرت شخصية الشاعر (الذات الفردية) [شخصيات الناس البسطاء]، لتحتل مكانة الرمز التاريخي أو الاسطوري، واتحدت العناصر الثلاثة [الشعر، اللحظة، الذات] لتشكّل هوية القصيدة الجديدة التي اصطلح عليها السبعينيون [القصيدة اليومية] وحاول التسعينيون ترجمتها لتكون اطارا يمنطق الفوضى التي انتهى اليها الرّاهن العراقي.
الظاهرة الثالثة في صوت سعدي يوسف هي عمقه!.
هذا العمق هو الذي يحرّر الصوت من أيّة نمطية أو ظاهرة زمنية لحظوية. انه منفتح باستمرار على التدفق والتجدد وفتح سواقي جديدة. ويجمع على حفاوته وتقدير تجديده معظم النقاد منذ الخمسينيات، لكنه ما كان يمكن، استشراف أو استقراء صور وملامح الجدّة والكثرة المتدفقة لديه..
وعندما نقف اليوم بعد منجز ستة عقود من هذه الظاهرة الشعرية المشرقة، فليس ثمة عرّاف قادر على التكهّن بالجديد اللاحق.. حتى ولا الشاعر نفسه، يجازف بتلك المعرفة؛ لأنّ القصيدة هي بنت ذاتها، وبنت اللحظة التي لم تتجسّد للآن، والعصيّة على التصوّر. لكن جدلية هذه الظاهرة الشعرية لها منطقها الخاص، منطقها الذي يوازي منطق الزمن ولا يخذل نفسه، أو ناسه.
*

القسم الأول: مشارف مرحلة تختلف..
(2)
عمّان 1992
تسعينيات القرن العشرين لم تكن امتدادا عاديا لما سبقها.. انما كانت بداية جديدة في التاريخ العراقي والعربي، ونقلة نوعية في الثقافة العراقية.. ففي أحد الليالي الساخنة جدا من صيف 1990 خرج المارد العراقي عن طوره، واختلّت معادلة التوازن بين العقل والعضلة. وكانت تلك بداية انقضاض النظام العراقي على نفسه.. ولسان حاله يقول..
كلهه بيده.. كلهه بيده
اليريد يعيش.. يزرع ورده بيده
واليريد ايموت.. يحفر قبره بيده – فلاح عسكر
وفي لحظة انتهت حكاية الشبابيك والستائر الملونة، والشمس التي كان يفترض بها أن ترسل خيوطها الذهبية على أحياء الفقراء ودور السكك... - حتى نهاية الحكاية-. بدلا منها تم تدشين موعد جديد لهجرات سومرية جديدة تأمل فرصة قيامة أخرى، خارج (بيت نهرين)..
الغزو العراقي للكويت استتبعه أمران: صدور عقوبات اقتصادية وسياسية ضدّ العراق؛ بدء عمليات حرب الخليج في النصف الثاني من يناير 1991 بقيادة القوات الأميركية ومشاركة أكثر من ثلاثين دولة عربية وأجنبية ضدّ العراق. وقد ترتب على تلك الحرب الأولية أمران : اندلاع انتفاضة عارمة ضدّ النظام في جنوب البلاد وشمالها، استتبعت اعلان مجلس الأمن الدولي (المنطقة الكردية) شمال البلاد منطقة حظر جوي وعسكري (شمال خط عرض 36 درجة)؛ انعقاد اجتماع بيروت (مارس 1991) للشخصيات المعارضة للنظام العراقي في أعقاب فشل الانتفاضة، والذي تبعه مؤتمرا فيننا وأربيل (يونيو، سبتمبر 1992) لتنسيق وتأطير نشاطات المعارضة في إطار المؤتمر الوطني العراقي المدعوم مباشرة من دوائر البيت الأبيض والمخابرات الأميركية والحكومة البريطانية.
في شهر ديسمبر 1992 شهدت العاصمة الأردنية "عمّان" انعقاد المؤتمر الثاني عشر لاتحاد الأدباء العرب.. وبينما شاركت النقابات الأدبية العربية بوفود رسمية تضم بضعة أنفار، جاءت المشاركة العراقية فوق كلّ التصورات.. باص مليان (44 راكبا) من باصات المنشأة العامة لنقل المسافرين، إضافة للوفد الرسمي وآخرين بسياراتهم الرسمية أو الشخصية..
كانت الأردن.. إلى جانب اليمن والسودان وليبيا، البلدان العربية الوحيدة التي تسمح بدخول العراقيين بدون تأشيرة.. لكنها في خريف 1991 عادت لفرض الرسوم أمام طوفان سيل الهجرة العراقية الجديد. وكانت لبنان وسوريا تسمحان بدخول العراقيين لقاء تأشيرة رسمية. وهكذا كانت هناك في مطلع التسعينيات، ست دول عربية فقط تستقبل الوجه العراقي، ثلاثة منها بتأشيرة دخول وشروط [الأردن، لبنان، سوريا]، وثلاثة منها بدون تأشيرة [اليمن، السودان، ليبيا]. ومن هذه الدول كان العراقيون يبدأون رحلة الولادة الجديدة..
كان بعض الأدباء العراقيين وصلوا الأردن قبل المؤتمر، دون علاقة مباشرة به، ومنهم الشاعر عبد الوهاب البياتي الذي كان مقيما في العاصمة الأردنية من قبل. في أروقة المؤتمر أو المهرجان الذي جرى افتتاحه في مركز مجمع النقابات في الشميساني، كان همس حول حضور الشاعر سعدي يوسف ضمن تشكيلة الوفد الجزائري، البلد الذي أقام فيه سعدي منذ الستينيات..
في كواليس المؤتمر تدور أسئلة بين بعض الأردنيين عن سبب عدم وجود اسم سعدي يوسف ضمن لائحة الوفد الأدبي لبلده "العراق".. ذلك الوفد الذي كان يضمّ يومها أسماء حميد سعيد وسامي مهدي وغيرهم من رؤساء تحرير الصحف الرئيسية وصدارة المؤسسة الثقافية الرسمية.. ولم يغب عن الأردنيين الطابع الأمني/ الحزبي للوفد العراقي الرسمي أكثر من كونه أدبيا.. البياتي أيضا لم يكن مع الوفد الرسمي، وكان يحضر النشاطات بعد المقدمات والخطب، بصفته الشخصية المستقلة خارج الوفد، وكان يفصل نفسه عنهم في مكان جلوسه أيضا.. كان الموقف السياسي والفكري للشاعر سعدي يوسف واضحا ومميزا، وكذلك خلافه مع المؤسسة الثقافية الرسمية الممثلة للنظام العراقي..
عند انتهاء أعمال المؤتمر، تخلف كثير من جماعة الباص عن العودة لبلدهم.. وكذلك بعض الذين حضروا بأبهتهم الرسمية.. وفي السنة اللاحقة تضاعف وصول الأدباء العراقيين للأردن، ليتفاقم أكثر في أواسط التسعينيات، حيث شكلت عمّان ودمشق وبيروت منافذ لجوء، توزعوا منها في أطراف العالم.
الملاحظة الأثيرة هنا، أن غالبية المشهد الأدبي والمؤسسة الثقافية الرسمية العراقية غادرت مواقعها في الداخل، وانتقلت للضفة المقابلة خارج الحدود. الهجرة الثقافية لم تقتصر على العراقيين، وانما تضمنت الأدباء العرب والفلسطينيين الذين كانوا يعملون ضمن المؤسسة الثقافية الرسمية والحزبية، والذين خرجوا مع أواخر 1990 وبداية 1991، عائدين إلى بلدانهم أو مهاجرهم الأصلية. فتغيير السواري أو تنكيس الأعلام لم يكن عراقيا في التشكيلة، وانما عربيا ومن باطن مؤسسة النظام الرسمية والحزبية.
مغادرة العراق يومذاك لم تكن مجرد سفر أو سياحة أو هجرة أو محاولة للموت خارج الحدود. المغادرة في الحالة العراقية وفي ذلك المفرق الزمني كان موقفا معارضا للنظام. ولربما.. للمرة الأولى، في تاريخ العراق المعاصر، صارت المعارضة الثقافية أو الثقافة والأدب المعارض، فصيلا اعلاميا يضاهي المعارضة السياسية وينافسها. وكان من جرائه ظهور مصطلح "ثقافة معارضة" و "أدب معارض" في الثقافة العراقية.
تعريف الأدب المعارض وتحديده وتصنيفه ما زال بكرا على الدراسة المنهجية والتشخيص الأكاديمي رغم مرور ربع قرن عليه. هذا التصنيف لا يشمل كلّ أدباء الخارج ولا يعني كل انتاجهم جملة، وهناك أدب معارض وأدباء معارضون داخل بلدانهم أيضا. كما أنه لا توجد وصفة جاهزة تنطبق معاييرها على النص ليكون معارضا، وانما يختلف الأدباء وتختلف نصوصهم بحسب اجتهاداتهم الابداعية وتجاربهم السياسية. ويختلف النص الثقافي عن النص السياسي عموما، بأن الأول يتوجه لوعي الانسان واستنهاض مداركه ومعنوياته، نحو ادراك أفضل وممارسة أكثر لياقة بالحياة؛ فيما يتجه الأدب السياسي لخدمة عجلة الحكم والمصالح السياسية الشخصية والحزبية، وتسخير الناس لخدمة اتجاهاته وأطماعه.
سبقت مصطلح المعارضة مصطلحات "المنفى" و "الاغتراب" و"المهاجر"، ولكن أيا منها لم يستقر أو يثبت فنيا أو اعلاميا، رغم العدد الهائل للعراقيين المقيمين خارج العراق منذ عقود، وبينهم أدباء وفنانون وأكادميون وعلماء، حكم عليهم بالضياع والتجهيل والنسيان. ووراء تقاليد الإهمال والنكران والنسيان، دوافع ونزعات كثيرة بحاجة إلى دراسات اجتماعية ونفسية. فصلة المرء واعتزازه ببلده ورموزه وشخصياته الثقافية والتاريخية تترجم معنى الوطنية والانتماء.
لا يخطر سؤال ببال الفرد العراقي أو المسئول والسياسي ما هو مصير وحال ملايين العراقيين خارج بلدهم، ولماذا تعاقبهم بلادهم بالتنكر والالغاء؟ لقد كان كثيرون يلومون نظام البعث لاهماله مواطنيه في الخارج!.. أما اليوم.. فأن المجتمع عموما إلى جانب الحكومة لا تهتم بعراقيي الخارج، رغم وجود وزارة شكلية للهجرة.
ما زال أمام العراق الكثير ليستطيع ان يكون وطنا.. وطنا وليس عشيرة أو طائفة أو مقبرة. وما زال هناك قرن أو قرون.. لكي تنبت أزهار الوطنية والمواطنة وحرارة الانتماء والوحدة الاجتماعية الفعلية على الأرض، وليس في التصورات والأوراق.. عندها ستبدأ فصول جديدة للعلاقة بالماضي، فصول جديدة تضاف إلى بكائيات جلجامش وبابل وسنحاريب والحسين والمتنبي حتى المقبرة الملكية ببغداد.. فاكتشاف الأشياء يأتي متأخرا تماما.. وظيفة الماضي هي النواح والتباكي.. أما الحاضر فوظيفته استفراغ التناحرات الفردية وحروب التباغض والتحاسد بكل مستوياتها. هنا.. حيث يتنافس الناس ليس في الطعام والثياب والألقاب فقط، وانما يتنافسون في بناء القبور وطول مسيرات الجنائز وحدّة الصراخ أيضا.
سوف يذهب هذا العراقُ إلى آخر المقبرة
سوف يدفن أبناءه في البطائح، جيلاً فجيلاً
ويمنحُ جلاده المغفرة...
لن يعودَ العراقُ المسمّى
ولن تصدح القبّرة...
(قصيدة رؤيا- من مجموعة حانة القرد المفكر)
*


(3)
شواطئ وبلدان..
"في الغالب أغادر المدن مرغما، وفي الغالب أدخلها أيضا مرغما!"/ سعدي
حييت سفحك عن بعدٍ فحيّيني.. يا دجلةَ الخيرِ يا أمَّ البساتينِ
يا دجلة َ الخيرِ يا نبعاً أفارقه.. على الكراهةِ بين الحينِ والحينِ - الجواهري
ما كانت تلك البلدان - لنا- يوما
نحن أتيناها خطأ، ثم أقمنا سنوات مرتحلين بعيدا عنها، لكنْ
ما أحببنا يوما أن نرحل في الحلم إليها.
رغم اتصال ابي الخصيب بالماء والميناء والبحر الذي يمضي ويقترف الشواطئ والجزائر والبلاد.. إلا أنني لا أعتقد أن سعدي سوف يعرف سرّ تسمية انطلاقته الأولى المبكرة بالقرصان، وهو يومذاك لم يكمل العقدين من سنيه. هل كان حلم القرصان يراود طفولته، أم ثمة مبررا سياسيا، أم رغبة مبكرة في استلام دفة القيادة.
القرصان كان قدر الشاعر، كان كارماه حسب عرافة الخيميائي لباولو كويلهو. تلك الكارما التي حكمت عليه بالتنقل من بحر إلى بحر، ومن قارة إلى قارة، ومن سماء إلى سماء، ومن مدينة إلى مدينة.. ومن بيت إل بيت.. حتى وجد نفسه متعبا من الترحال والتنقل..
بلا امرأة، وبلا بيت..
في عام 1994 أكمل الشاعر سعدي يوسف عامه الستين، السنّ المحددة للتقاعد من عمله التدريسي، والتفرغ التام للعمل الثقافي والأدبي الحرّ. وتؤرخ له احدى الدراسات الحديثة أنه أصدر عشر مجموعات شعرية خلال عقد التسعينيات. هذه المرحلة وما بعدها أشرت ارتفاعا كبيرا في معدل انتاجه الشعري، إضافة لانهماكه في العمل السياسي والوطني. حيث يكون حضور الوطن - السياسي والنوستالجي- مركزيا في معظم شعره لهذه المرحلة. ويمكن القول أنه.. كلما تراجع الهمّ المعيشيّ، تضاعفت الهموم الفكرية والوجوديّة.
كانت هجرة سعدي يوسف مبكرة جدا.. تعود إلى أيام الخمسينيات، ثم الستينيات ثم السبعينيات، وكان خلالها يعود لماما ثم يهاجر ثانية.. ولكن هجرته الأخيرة كانت عام 1978 التي لم يعد أثرها ثانية.
والحقبة السبعينية تتحدد بتجربة الجبهة الوطنية التي لم تتجاوز صلاحيتها الخمس سنوات [1972- 1977]. فكانت الظروف السياسية مهماز علاقة الشاعر ببلده، من حيث طبيعة النظام السائد والسياسات الأمنية ومجالات حرية الرأي والتعبير والنشر.
سعدي يوسف لم يولد شاعرا فحسب، وإنما ولد شاعرا سياسيا مناضلا، برؤية ومنهج وموقف واضح جدا، لا لبس فيه ولا التباس.. ولم يتغير في/ عن موقفه ومنهجه خلال مسيرته الأدبية والسياسية الطويلة.. بل الأطول على الإطلاق في المدوّنة العراقية الثقافية حتى الآن.
بين الملكية والجمهوريات الأربعة أو الخمسة وعديد الانقلابات والاحتلالات، تغيرت أشياء كثيرة في العراق والمنطقة والعالم، ولكن رؤية سعدي وموقفه لم تقتصر على نظام أو وضع سياسي أو مرحلة، دون سواها. ذلك أن موقفه ورؤيته استندت منذ البدء إلى مبادئ واضحة وثابتة، إنسانية في جوهرها، وطنية تقدمية في توجهها، فكرية متسامية في هدفها.
هنا يقتضي التنويه لأمرين..
1- ان ثبات موقف الشاعر السياسي لا يعني الجمود وعدم التفاعل مع المتغيرات الدولية والمحلية.
2- وضوح مبادئ الشاعر لا يعني أنه ينتظر –انتظارا سلبيا- ولادة عراق جاهز ينسجم مع تطلعاته، لكي يعود إليه.
ان في مثل هذا الرأي كثير من التجني والافتراء الشخصي، وكثير من الجهل والتجاهل لمسيرته الذاتية والأدبية الواضحة وضوح الشمس. أن أحد مقومات تجربة سعدي ومحفزاتها التاريخية هي سمتها النضالية المكافحة، وهي المبرر الأكيد لاستمرار هجرته وتشرده الطويل، بدون تراجع أو مهادنة، أو استكانة، سواء في ظل الدكتاتورية أو الاحتلال أو العولمة. بل ان المبرر الأكيد والوحيد لهذه الوقفة والاشادة هي موقفه الانساني والشعري المناضل ضدّ آليات وبرامج الدمار والتخريب الوطني والعالمي الذي تقوده الامبريالية الأميركية وأدواتها، بدء من بلده العراق. وليست هذه مجرد دراسة أدبية فنية، انما هي تحية حب وتقدير وإكبار، لقامة شعرية نضالية متفردة في عالمنا العربي، وصوت متفرد يصرخ في برية العولمة والخدر الأمريكية.
سعدي لم يترك العراق، حمله معه.. مثل أم تحمل طفلها و(تلولي) له كي يهدأ.. كان يدور حوالي العراق.. عمّان.. دمشق.. صنعاء.. عدن، مسقط، وكلما يبتعد.. يعود ويدنو.. طيلة الثمانينيات والتسعينيات لم يبتعد سعدي.. في أيام الحصار الفلسطيني كان معهم في بيروت.. وفي يوميات خلايا الأنصار الشيوعيين كان معهم في رباياهم ومغاورهم الجبلية.. كان الشاعر يترجم حبّه وقصائده للرفاق..
كان بمستطاع سعدي الاقامة في احدى الدول الغربية مثل كثيرين، والارتياح من لجة التنقل وعدم الاستقرار، وقد تقدمت به سنوّ العمر.. ولكنه آثر البقاء قريبا من الناس.. قريبا من حركتهم واضطرابهم وبحثهم عن المستحيل..
كلّ الأغاني انتهت.. إلا أغاني الناس
والصوت لو يشترى.. ما تشتريه الناس
عمداً نسيت الذي .. بيني وبين الناس
منهم أنا.. مثلهم.. والصوت منهم عاد!..
بين شقق عمّان ودمشق.. واليمن.. في كل مدينة يقيم شهرا.. وفي شهر يسجل ديوانا شعريا.. [ديوان (قصائد ساذجة) مثلا]. يذكرني هذا بانتقالات عزرا باوند وقلقه المستمرّ.. بين لندن وباريس وجنيف وميلانو.. في كلّ بلد كان يكتب وينشر ويصدر مجلة ويعرف امرأة ثم يغادر.. لكن باوند استقر في ايطاليا.. والتبسته اشكاليات كثيرة، شخصية وعائلية وسياسية.. في ارتحالاته وسجنه كتب قصائده التي سمّاها [Cantos] ووضع لها أرقاما، وهي آخر ما أصدره. في الكانتوز كان يسجل يومياته..
كان عزرا باوند [1885- 1972م] شاعر عظيما.. وإنسانا كبيرا.. له بصمات أدبية وإنسانية واضحة في حياة كثيرين من الأدباء الآخرين.. ساعدهم في بداياتهم.. أمثال ايليوت ، جيمس جويس، همنغواي وروبرت فروست ممن حصلوا على جوائز نوبل، أما هو فقد تعرض للإهمال والأذى.. لكن عزرا باوند شاعر خالد.. بأدبه ومواقفه وأثره في حياة كبار الأدباء وصداقاته الواسعة مع الناس. علاقة عزرا باوند كانت مع البحر.. السفن التي حملته من أميركا الى أوربا.. والتي حملته مرغما ليسجن هناك على يد مواطنيه الأميركان في نهاية الحرب العالمية الثانية.. والسفينة التي أعادته إلى أوربا.. لكنه كان يكره البحر والسفن..
في 1999 يقرر الشاعر القرصان النزول في الجزيرة وقد بلغ الخامسة والستين، وقرف من المدن والشوارع والشواطئ المتشابهة.. وقرف اكثر من لغط الشعارات ولهو الاجتماعات وترف الانشقاقات ومزاعم البطولات.. قبل عام من ذلك كانت الادارة الأميركية قد صادقت على قانون تحرير العراق وهاجمت الأراضي العراقية مجددا في عملية (ثعلب الصحراء)..
لستُ معنيا بما يفعله الساسة في المستنقع الآن
ليَ الحلمُ..
(..)
لستُ معنيا بما قد كنت أعني
أنا في الحلمِ
فتاتي أمسكت بي من يدي قالت
لماذا أنت حتى الآن في هذا الرصيف؟..
العربات ابتعدت منذ سنين..
- قصيدة ذبذبة من مجموعة صلاة الوثني-
وفي لندن تستمر رحلة الشاعر وتجربته الأدبية والسياسية المميزة في وضوح الموقف وثباته، وتمييزه بين النظام الحاكم والوطن الفريسة الذي ينتقل من سيئ إلى أسوأ. وحين يرى تساقط الساسة وتلاهثهم بين أقدام سلطة الاحتلال، يفضح هشاشة المبادئ وفراغ الشعارات.. وفي هذا الصدد يكتب أحمد الناصري: "سعدي يوسف متابع دقيق للوضع السياسي العراقي والكارثة الوطنية، وله مصادره الكثيرة. والخلاف الحقيقي معه من قبل البعض قائم على أساس الموقف الأصلي من الاحتلال وتفاصيله، لمن مارس خيانة وسقوط ثقافي وسياسي وشخصي وأخلاقي قبض ثمنه المحدد، وبأساليب رخيصة بائسة. وهو موقف مسبق جرى على أساسه محاولة عزل سعدي والهجوم عليه لاقصائه وإسكاته، والتخلص من ثقله الثقافي وتأثيره المعنوي في كشف ذلّهم وعارهم وخيانتهم التاريخية المدوية؛ والخلاف العميق على تفاصيل الجريمة والكارثة الحالية ومن يتحمل مسؤوليتها".
ويكتب عنه الدكتور عبد العزيز المقالح: (سعدي يوسف.. الموقف والخصوصية) "لم يسارع إلى بغداد بعد سقوط التمثال، ونأى بنفسه عن أن يدخل مع الدبابات الغازية التي اجتاحت أرض الرافدين، لأنه كان معارضا وطنيا صادقا.. ذلك هو الشاعر الكبير سعدي يوسف، ابن العراق الذي يرفض أن يستبدل جسدا مريضا بالسرطان، بجسد مريض بالحمى، أو أن يبدل الجرح النازف بالغنغرينا.
وكم كان الكاتب اللبناني الياس خوري صادقا، وهو يصف سعدي يوسف الأمين المؤتمن على الحلم (سعدي الذي اختارته الغربة كي يبقى غريبا، ويستوطن الكلمات التي لبسته وجعلته شاهدا على الساعة المثعلبة، يعني العراق والفجيعة)". [جريدة الحياة 14 نوفمبر 2007].
أما الناقد مهدي شاكر العبيدي فيقول عنه: "في مجال توكيده ضرورة وقوف الشاعر إلى جانب شعبه في معاركه الفاصلة مع أعدائه من قوى الاستعمار والعبودية، فيعنو لما يتتابع عليه من صنوف البليّات والمصائب، وينهد لتصويرها في شعره، مجسدا تطلعاته ورغائبه، مهيبا به أن يصابر الأيام والليالي، فلا يهن عزما ويلين جانبا، حتى يوفي على البغية، ويبلغ القصد ثانيا. من هنا سبب التقدير الجمّ، وهذا التثمين الفائق لشاعرية سعدي يوسف وعطائه. [موقع مركز النور الثقافي 23 مايو 2012].
*


(4)
الآن فقط..
نحن اليوم لسنا قبل قرن من الآن.. ولا نصف قرن.. ولسنا في شرق المتوسط.. الآن مختلف جدا.. عن كلّ لحظة سالفة.. ونحن أيضا اختلفنا.. اختلفنا كثيرا عن أنفسنا.. اختلف كلّ شيء فينا، حتى أفكارنا ومشاعرنا ورؤانا ومحبتنا ورغبتنا.. اختلفت علاقتنا بالشعر والكتابة والوجود.. وانتم أيضا اختلفتم.. اختلفتم كثيرا.. وهذا ليس وقت محاكمة.. ولا أحد يحبّ الاعتراف.. هكذا اختلفت طرقاتنا واتجاهاتنا وأسماء المقاهي والحانات التي تحتوينا أو نحتويها.. اختلفت المدن والبلاد والجزر التي تحملنا ولا نحملها.. والبلاد والمدن والمقاهي التي حملناها طويلا وما زلنا.. رغم أنها نسيتنا.. وذلك حسب القانون البلدي المشئوم..
الما تشوفه العين.. تنساه القلوب!..
نحن على الأقلّ لم ننسَ.. ليس لأننا أبطال، ولا لمنّة فينا.. ولكنا عاجزون عن النسيان.. ولأنّ زمن القرف الذي نعيشه لم يترك لنا شيئا جميلا أو جديرا، جعلنا عاجزين عن الموت.. الديناصورات كانت أكثر شجاعة منا وكذلك بغال الموت.. لأنها اختارت موتها.. لذلك صارت الذكريات هي الحبل السري الوحيد الذي يربطنا بالعالم.. العالم الذي هو الوطن الماضي..
وأنتم أيها الاخوة والأخوات والأصدقاء والصديقات.. يا من دفنتونا أحياء بدافع من الخجل أو أمر من الحاكم الأمريكي.. لم تموتوا.. ما زلتم في ذكرياتنا، بنفس ابتساماتكم القديمة وكلماتكم التي لا تهش ولا تنش، ولكنكم ما زلتم أصدقاءنا.. وما زلنا نحبّكم.. كأنكم لم تتغيّروا.. ولذلك لا نريد ملاحظة قمصانكم الجديدة.. ولا نريد سماع شتائمكم إلينا كأنكم ورثتم عقلية دكتاتور عقب مقتله..
الشعر أيضا اختلف طعمه.. اختلف مذاقه ورائحته.. العولمة جعلت الألفاظ أكثر بلاستيكية وبلادة.. لذلك نحن نجترّ أحيانا.. وأحيانا نتقيأ أو نتجشأ بصوت مسموع.. لكننا ما نزال نمتلك كثيرا من الحرية التي تجعلنا شعراء.. ما زلنا نمتلك كثيرا من الجرأة لمواجهة موت لم يعد حكرا على معتقلات ابي غريب.. ولا يتحدّد بنصوص القانون ومؤسسات النظام.. فالعولمة أنتجت مشاعية الموت والذل والجوع.. وهذه أول ثلاثة مصطلحات شيوعية فاتت على الأمريكان.. الكتابة على الأثير هي صورة موت بلا ملامح.. عدوّ يترصدك ولا تراه.. يغريك كالعنكبوت.. ليسحبك إلى داخل الشبكة..
الكتابة والرغبة والغاية اليوم أكثر صعوبة.. لأنها كتابة تعترف بتغير كمية الهواء واختلاف كثافته.. كتابة لا تتجاهل نسبة الـ(fake) في بضاعة السوق المفتوحة.. التي طالت حتى المفاهيم والآداب والأيديولوجيات والكرامات الشخصية.. لا أستطيع في هذه العجالة تأليف قاموس جديد مثل – معجم العين- لتداول مفردات جديدة لم تتلوث بالعولمة والاحتلال وتجارة السوق.. ولكنّ هذا أيضا ليس اعتذارا ولا بيانا للاحتجاج أو التنديد.. ولا دعوة من أجل موقف أو مراجعة موقف.. انه مجرد "بوح" افترضته لحظة الكتابة التي ما زال ثمة كفاية من ايمان، لامتلاك نفسها، والانتصار للحقيقة والمحبة والوجود حسب ما تراه..
خيار الكتابة عن الأخضر سعدي بن يوسف هو خيار التاريخ والجغرافيا والشعر والفلسفة والواقع والاحتمال المثقف.. لا شكّ.. ان الكتابة عن الأخضر سعدي ليست نزهة ولا تسلية.. خاصة في هذا الوقت.. والآن!.. ولكن..
إذا كان للكتابة ثمة مبرر.. وثمة فعل، وثمة معنى.. فأنها لا تكون إلا الآن، وبالتحديد المطلق للآن!.. حيث الكتابة عن سعدي بن يوسف ليست الكتابة عن سعدي يوسف.. الكتابة عن سعدي بن يوسف هي كتابة عن الموقف الغائب.. الموقف الذي طال غيابه.. الكتابة عن سعدي يوسف هي المواجهة الأكثر مباشرة مع العالم والامبريالية وكلّ أعداء الشعر والحقيقة والخليقة الكادحة.. الكتابة عن الأخضر بن يوسف هي امتحان الضمير.. في زمن ليس فيه شيء لم يتلوث.. حتى الكلمات والمشاعر والحنين للوطن والأم والحبيبة..
من زمن طويل والأخضر بن يوسف يحاصرنا.. ينثر علينا حبّات الرمل وقطرات المنفى وألوانا من أقواس قزح المدن والبلدان والقارات والجزر.. ونحن نهرب منه.. نسدّ الشبابيك ونرتج الأبواب ونتسلى برسوم الستائر المخملية..
أنا أحمد الأعمى
أنا الطوّاف في الطرقات
والساري مع النجم الذي في جبهتي
أنا سيّد الأصوات
أعرفها
أعزفها
عصاي جوادي الأبهى
ومركبتي خطاي
ورحلتي أوبات
أنا أحمد الأعمى
أدق سدى على أبوابكم
لا تفتحوا
...
أنا أحمد الأعمى
ظلامي واضح..
/ اغنية الاعمى

زمنا طويلا تركنا فيه الأخضر بن يوسف وحيدا.. خلف ستائرنا.. يستقبل مدينة وتطرده مدينة.. يخرج من قارة ويدخل جزيرة.. مرة يبحر ومرة يطير.. ونحن نغطى عنه أوجهنا ونرفع أصوات البرامج والأفلام الأميركية وحركة نقل أساطيلها وموسيقى انفجاراتها باسم الحرية والدمقراطية على القنوات الفضائية.. نتسلى بجثثنا المشوّهة المبعثرة بين بساطيل جنود اليانكي ونخدع أنفسنا ونقول لا بأس.. الغد لأطفالنا.. وقد كبر أطفالنا اليوم.. وتلاشى الغد.. مثل أشياء أخرى كثيرة..
رأيت كتّاب الأمير، سألتهم ، وخرجتُ. هل امضي
إلى (قيثارة العميان)؟ ريثما سمعت قصيدة وشربت
كأسا، لم تكن (قيثارة العميان) قد فتحت، طرقت
الباب ، قالت لي فتاة:
ـ غادر الشعراء!
أين؟
ـ إلى الوليمة!
كلّهم؟
ـ كلّ الذين عرفتهم!
ودّعتها قبل انطباق الباب، ثم مضيت عبر أزقة
الفقراء، نحو النهر مغتما، جلست ونخلة قربي.
- / قصيدة الرماة

لقد انزلقت الأرض من تحت أقدامنا والتراب ساح.. والشجر ارتدى أجنحة وطار إلى أرض تمنحه ماء وتربة مستقرة.. اشجارُنا صارت تنمو في بلاد أخرى.. وتمرُ البصرة لا يشرب من ماء البصرة.. والعراق السومريّ يحتضن رأسه مختفيا في ثقب كوني أسود..
هربنا من الصوت طويلا.. هربنا منك طويلا يا سعدي ابن يوسف.. وأنت تدقّ على أبواب بيوتنا في الليالي الطويلة ونحن نتظاهر بالصّمم..
سيّدي
سيّدي الأخضر المرّْ
يا سيّدي يا بن يوسف
من لي سواك إذا أغلقت حانة بالرباط؟
ومن لي سواك إذا أغلقت بالعراق النوافذ؟
..
ويا سيّدي الأخضر المرّ
يا سيّدي بن يوسف
من قال أنا شقينا
ومن قال أنّا لقينا
ومن قال أنا حكمنا معا...
- حوار مع الأخضر بن يوسف

على مدى ستة عقود كان الأخضر ابن يوسف نبيا جوّالا يبيع كلماته في كلّ أحياء العرب.. في المدن البحرية والبرية.. في أحياء الفقراء وفي ورشات العمل وحقول الفلاحين.. في ساحات المدارس والمحلات ودرابين الطفولة.. كان سعدي يوزع كلماته تارة مثل مناشير وتارة مثل طيارات ملونة.. في ساحات بيروت.. أيام الحصار الفلسطيني.. والأردن ودمشق.. وصنعاء وعدن والقاهرة وعُمان.. في الرباط والجزائر وفي شقوق الأطلسي.. وعندما كفّت عن السمع المدن.. والبلاد انفتحت للعدوّ والمريب والمغتصب.. حمل الأخضر صوته وعبر البحر نحو الشمال.. مدينة مدينة استقبل المنفى وقال وجدت عشيرة من ألف بيت.. قال وجدت أبي الخصيب.. فإذا البلاد تسيح كالبراكين الجوفية.. ساحت البلاد والعباد حتى وجد العبدُ الفقير نفسه وحيدا..
"لم يتبقَّ لديَّ اليوم، ومنذ سنين
من سأصافحه
في منعطف الشارع
- لا شارع –
أو في الحفلة
- قد راحت حفلتنا –
ولهذا كانت قفازاتي.
................
...............
..............
قفازاتي
تمنعني أن ألمس ما لا يتلامسُ
حقاً
والآنَ أفكّر في أن أبتاعَ
لأذنيّ القفازات
فلا أسمع ما لا يُسمَع
أبتاع الـ Headphones
مثلاً...
................
..............
.............
لكنْ ، ماذا عن عينيَّ؟
، فلأكنِ الأعمى!"
- حانة القرد المفكر- قصيدة القفازات-
*

(5)
الشعر والموقف..
ثمة مشغلان عظيمان في الشعرية العراقية،- والانسان العراقي يفكر شعرا-، أحدهما هو الحصار الدولي الجائر في أعقاب الاعتداء الأمريكي الأول على العراق في تسعينيات القرن العشرين [1991- 2003م]، وثانيهما هو الغزو الأمريكي في مستهل القرن الحادي والعشرين والعمل على انجاز ما فشل الهجوم العسكري الأول والحصار عن تحقيقه.
وقد نجحت القصيدة العراقية التسعينية في الاشتغال على جوانب المشغل الأول وانجاز أعمال رائعة. أما المشغل الثاني فقد قصرت عنه الشعرية العراقية إلى حدّ كبير للأسف، وذلك بفعل عاملين رئيسين، الاحباط الوطني العام الذي أصاب الانسان والمثقف العراقي جراء خيبة أمله بنوعية التغيير، وانعدام فضاء الحرية والتعبير عقب الغزو. وباستثناء أصوات وأنشطة محدودة، فأن عهد الاحتلال وما أعقبه سجل غيابا ثقافيا وانقطاعا للاشتغال الشعري العراقي. هذا الغياب أو الانقطاع هو بمعنى الانحراف عن الشعرية والرقص في قاعة مجاورة. مثل هذا الحكم قد يكون مخيبا للكثيرين، سيما لمروجي الدمقراطية والعهد الجديد. ومن هنا مبدأ اشتغال هذا الكتاب والقراءات النقدية المعاصرة لمرحلة ما بعد 1991م.
أنتجت التسعينيات مرحلة جديدة في مسيرة الشاعر، وشهدت اقترابا حميما من الوطن.
وتحولا نوعيا في طريقة تعاطي الشعر والمفردة مع اللحظة اليومية. كما ترتب على حالة الاحتلال مرحلة أخرى تطورت فيها أدوات المواجهة والتفاعل. وكان من مضاعفاتها اختلاف الشاعر مع العملية السياسية وأطرافها ومواقفها عامة لما بعد الاحتلال. وكان أبرز نقطتين في ذلك، موقفه من المقاومة، واختلافه مع نهج الحزب الشيوعي العراقي كطرف في العملية السياسية الجديدة.
ففيما يخص الموقف من المقاومة، كان موقف الشاعر سعدي يوسف جزء من موقف غير قليل من العراقيين والذي تمحور أساسا على مسألة أساسية تتمثل في الموقف من حالة الاحتلال العسكري والاقتصادي والسياسي التي أحكمت بموجبه الولايات المتحدة قبضتها على العراق ومقدراته الراهنة والمستقبلية. ويترتب على واقع الاحتلال ما يدعى بالعملية السياسية المعقدة في طبيعتها وتفاصيلها وأطراف المتعاونين والمناوئين لها.
وبحسب طبيعة الأوضاع التي أحكمتها قوات الاحتلال وسلطاتها المحلية لم يسمح بنشوء تيار وطني معارض للاحتلال وسياساته، لا في داخل العراق ولا خارجه. وبعد حملات التشويه والتسقيط والتصفية المباشرة، جرى انتاج نوع من معارضة شكلية برلمانية من داخل العملية السياسية. وبذلك نفت أي احتمال لمعارضي الاحتلال والعملية السياسية، وهو أساس الوطنية العراقية الوحيد. وهو ما دفع [الذات (العراقية) الجريحة] إلى مزيد من التمزق والتناقض الداخلي.
جراء ذلك، ظهرت حالات متفرقة لمعارضات فردية، أغلبها في أوساط المثقفين والأدباء، الذين سخروا أقلامهم وقدراتهم الثقافية لتوصيل أفكارهم. وكان الشاعر سعدي يوسف في مقدمة المعارضات الفردية نصا وإطارا، وأكثر بروزا ومواصلة. وقد استخدم الشاعر كل مستويات وأدوات التعبير والنشر والتوصيل في هذا المجال. فاستمر في نشر كتبه ونشر مقالاته وقصائده في الصحافة الورقية والالكترونية، وتقديم أماسي ومحاضرات أدبية في أكثر من بلد ومدينة عربية وأوربية. وللشاعر صفحة الكترونية وحسابات في مواقع التواصل الاجتماعي يساهم فيها في التعليق على الأحداث والمتغيرات، والتواصل مع القراء. ان الجهد الجبار الذي سخر له سعدي يوسف كل قدراته، أكثر مما يمكن تصوره أو احتماله، وهو في سنّ متقدمة، ويعاني من عدم استقرار وتنقل مستمر بين بلاد الدنيا، وأولى أن يركن إلى الراحة والهدوء، وينعم بالرعاية والاهتمام والتقدير من بلده وشعبه ومحبيه.
يمكن مَرْحَلةُ مُواجَهَةِ الشاعرِ مع الاحتلال في ثلاثة أحقاب..
- الاحتلال وربابنته
- الحزب الشيوعي وقادته
- الولايات المتحدة ورموز إداراتها
كما يمكن تأشير عدّة عناوين شعرية تكاد تجري على منوال واحد، تتأكد من خلاله نزعة الأنا.. حفيد امرئ القيس، الشيوعي الأخير، صلاة الوثني.


القسم الثاني: الغربة الآن.. السؤال!
(6)
سعدي.. الأكثر عروبة.. الأعمق انتماء..
واليوم.. بعد عشر سنوات منه.. ماذا نقول للأخضر بن يوسف في ثمانينه.. ما الذي تغير.. ما الذي بقي ولم يتغير.. أين هو سعدي الآن.. ومن معه.. من مع الشيوعي الأخير- حفيد امرئ القيس- صياد السمك- النبي الوثني؟!..
في العشر سنوات الأخيرة كبر الأخضر بن يوسف كثيرا.. كثيرا جدا.. أكثر من كلّ سنواته السابقة.. كبر سبعين سنة أخرى، دفعة واحدة.. لقد صار سعدي صوت العراق الصارخ، بدل فم العراق المكبل.. صار فكر العراق وشعر العراق ونخل العراق.. حين انحنى الآخرون.. صار سعدي صوت الثورة ولون الثورة.. قميص الثورة وعلم الثورة.. والثورة صارت سعدي يوسف.. كبر الأخضر ليملأ كلّ الفراغ المتطاول على شاشات التلفزة والنت.. صار سعدي نشيدا وخبزا وأغنية فلاحية.. صار ابي الخصيب وغابة حمدان ونخل السماوات وبيروت وطنجة.. دمشق وعدن ووهران وباريس ولندن.. صار الشيوعي الأخير في كلّ مكان.. في كلّ مكان.. وما يزال يحنّ الى بصرته.. بصرته القديمة..
الريح من منفاك تأتي نحو بصرتنا القديمة
الريح تحمل كلّ شيء نحو بصرتنا القديمة / قصيدة الى عبد الوهاب البياتي
نحن الآن أكثر أمانا بوجود الأخضر بن يوسف.. العراق الآن أكثر أمانا في ظل قصائد سعدي بن يوسف.. نحن الآن نرفع قاماتنا عاليا بقصائد الأخضر بن يوسف.. نحن الآن أكثر ايمانا بنيل حرية أوطاننا، لأن لدينا قوة سعدي وشجاعة حروفه وعمق انتباهته للعدوّ.. سعدي هزم الأمريكان قبل أن ينسحبوا من أمام عيون العراقيين.. قصائد سعدي تهزم الامبريالية وفوضى السوق في كلّ مكان.. وسوف تبقى السوط الذي يجلد ظهور الادارة الأميركية على مدى التاريخ.. سعدي اليوم هو رايتنا.. راية ثورتنا الكبرى، وقصائده ألوان الراية ونشيدها الوطني!!..
عبر عقود ستة التبست الغربة في ثياب الأخضر بن يوسف.. والتبست الغربة بالشعر.. لكن سعدي الذي كان غريبا على الدوام.. لم يألف الغربة.. ولا المنفى صار له وطنا.. بقي الوطن احتمالا مؤجلا في ضمير الشاعر بانتظار التحقق.. صار الوطن احتمالا مؤجلا.. بعيدا عن التحقق.. وهذا هو سرّ إشكالية سعدي البصري.. حضور العراق في كلّ حرف ولفظة وجملة.. كلّ ما كتبه سعدي كان أمام مدفأة تتوهج بنار العراق وعبق البصرة.. واليوم.. بعد كلّ المدن والنساء والسنين واللغات.. ما يزال سعدي بصريا حتى النخاع.. وما زال عراقيا في كلّ مركباته الدموية.. لم تتغير صورة سعدي.. لم تتغير ملامحه.. وكلما كبر سعدي.. صار أكثر عراقية وبصرية.. من كلّ البصريين والعراقيين والعرب.. هذه الهوية العراقية البصرية الأصيلة في ملامح الأخضر سعدي دفعت غير واحد إلى رسمه (الفنان حميد المشهداني /2013).. أو وضع صورته على تي شيرت (الشاعر ناصر مؤنس) أو المقارنة بينه وبين سيزان رائد الانطباعية (الناقد مثنى حميد مجيد).. لقد تحول سعدي إلى قصيدة شاهقة حية.. فكيف يكون الشعر.. بغير سعدي!..
في القرن الحادي والعشرين.. من اغتراب الفكر والموقف والعروبة.. يقف الأخضر بن يوسف وحيدا.. غريبا ومغتربا.. يقف ابن يوسف البصري أعزل في مواجهة الامبريالية العالمية..واليمين العربي. يقف الشيوعي العربي الأخير ثابتا على وحدة المبدأ ونور الفكر ونار القضية.. في فكر الأخضر لم تتحول الأيديولوجيا إلى خط دياغرام.. يتحرك مؤشره نحو اليسار واليمين.. يتأرجح فوق خط الوسط، يمين الوسط .. يسار الوسط. فالعقيدة الحقيقية والقضية الشريفة لا تخضع للمساومة.. ولا تنزل إلى قوانين السوق.. سعدي في مسيرته النضالية الطويلة.. لم يتعلم ربط موقفه بوضعها على طاولة المصالح.. في برنامج خليجي يسأل المذيع أحد شعراء العراق العاشقين لوطنهم..
" هل كانت لديك مصلحة في حبّ الوطن؟!!!!!"..
ففي ثقافة العرب الأمريكية، يتم تقزيم الوطن ـ مثل كلّ شيءـ، وتحويله مجرّد سلعة للمضاربة وتحقيق المكاسب. وفي مثله يقول الشاعر المناضل سعدي يوسف..
اني امرؤ غافلٌ
وغبيٌّ
وأحفظ عهدي
وأحفظ للناس ما كان عندي...
لهذا، سأخطو على الجسرِ، أولى خطاي.
لكي لا تختلط الأمور كثيرا، ولكي نفهم سعدي بدون التباس.. لا بدّ ان نميز بين الثقافة الجادة الحقيقية كما تشربناها؛ وبين الثقافة الاعلامية الاستهلاكية الجديدة بعد دخول الأمركة في حياتنا، أو دخول العالم في العولمة، وانقلاب المفاهيم وتزييفها وتجويفها. فثقافة الأمركة هي ثقافة سوق، تتحكم فيها المصالح الشخصية وعوامل العرض والطلب.. فعندما وضع (العراق) قضية على الطاولة، صار موضوعا للمزايدة والمضاربة والسمسرة لكلّ من يشتري ويبيع.. وعندما وضعت (سوريا) على الطاولة، شارك كثيرون للمضاربة والسمسرة، وهكذا كلّ شيء.. فمن أجل تدمير القيم، لابدّ من تحويلها إلى سلعة، ولتحويلها إلى سلعة، لابد أن تعرف كيف تحقق مكاسب من ورائها.. ولغة المكاسب هي (دائما) لغة شخصية معولمة.. عابرة للحدود والقارات..
فالقضية العراقية في أحد أوجه تمشكلاتها، أنها ارتبطت بغياب المعسكر الاشتراكي وتحول العالم إلى أحادي القطبية.. وهو ما أدخل العراقيين في إشكالية بنيوية في طريقة التعامل والتفاوض في ظل قيم ضبابية منقلبة.. حيث لا مكان للمبادئ.. ولكن السمسرة. وهو ما ينطبق كذلك على حال القضية الفلسطينية، وتدمير أسسها ورموزها بعد رحيل عرفات.
وفي حين كانت الاشكالية التقليدية بين المثقف والسياسي، صارت الاشكالية المحدثة بين المثقف الملتزم والتاجر.. فموقف الرفض لا يقتصر على الاحتلال.. وانما رفض السمسرة والتجارة في الموقف السياسي، ورفض النزعة السوقية في طرق العلاقات العامة..
ان سعدي يوسف بهذا المنظور، لا يتحدد بالحالة العراقية.. لا يتحدد في موضوع الاحتلال أو الاشكالية الحزبية والرفاق السابقين.. ولا حتى بموقف ديني أو قصيدة يتم توظيفها ضدّ الشاعر.. وانما هي أكبر من كلّ ذلك، موقف ثابت وسابق من الامبريالية والفاشية كما سبقت في الأدبيات النضالية واليسارية القديمة.. موقف من الاستغلال والتمايز بين البشر والعبودية.. موقف بين القيم اليسارية الحقيقية وبين قيم السوق وتفريغ القيم..
لهذا.. ينحاز مرتزقة الثقافة العولمية لاستعادة سعدي يوسف داخل السوق العربية واستثارة مسألة دينية يمينية.. تشغله وتشاغله عن قضية الامبريالية ومسائل الهيمنة الأميركية على المنطقة والعالم.. ولذا ارتأيت في الفصول المقبلة من هذه الدراسة.. التأكيد على عمق الانتماء العربي الفكري والانحياز السياسي للشاعر سعدي ابن يوسف لوطنه العربي والعراقي وقضاياه السياسية قبل كلّ شيء. وسوف نجد أن الشيوعي الحقيقي.. الشيوعي الأخير.. حفيد امرئ القيس.. هو عاشق عربي ومحارب عربي وقرصان عربي، ما زال ملتصقا بالبصرة واليمن.. قبل أن يكون شاعر وعاشقا أمميا.. يعاني من الوحدة والغربة خارج فضائه المائي الأول..
هذه الزوبعة الفارغة سوف تزول.. ولن يكسب عرابوها غير خزيهم ودولاراتهم اليتيمة.. وسوف يبقى الأخضر ابن يوسف علما من أجل الحرية وكرامة الانسان ومحبة الناس.
سوف يبقى الأخضر بن يوسف.. حفيد امرئ القيس الملك.. حامل لواء الشعر والنضال الى عصر ما بعد الامبريالية والأمركة.. إلى فجر الانسان الجديد.. القريب.. وراء ضباب الصباح المتلألئ في قصائد سعدي الأخيرة..!
*




(7)
عن الالتزام والهوية..
"الكتابة بالعربية، وكتابة الشعر بالعربية، ليست كتابة!". سعدي
جملة قاسية تترجم عمق معاناة شاعر-وهي نص نقضي-. شاعر يعيش لغته كجزء منه، مثل لون بشرته، أو لكنته البصرية. شاعر عاش كلّ حياته مطارَدا باللغة وباحثا عنها في آن. هذه اللغة التي اقترنت بالاستبداد والعبودية بيئة لولادتها. ولذلك يقول: "في لغتنا لا تمتلك كلمة (الحرية) حريتها. لا نعرف الحرية إلا بالعبودية. هكذا جرت العادة. (الحرّ والعبدُ). وفي هذه الحالة لا يعود الحرّ حرّا، لأنّ شرطه وجود العبد. وفي نفوسنا التاريخية يعيش هذان الشخصان معا، يقتتلان، ويصطلحان. ان ملكوت الحرية يعني قطيعة تامة مع الضرورة. وبهذا المعنى، لا أجد كلمة (الحرية) في لغتنا مؤهلة لبلوغ ذلك الملكوت!". [خطوات الكنغر/ 184] لذلك.." صار يوسف يتطلع إلى عالم مختلف، صار يريد الفرار من ربقة السيد، وينتظر يوما يرحل فيه عن المكان وأهله!". [ن. م./ 190]
لقد نجحت الشعرية في تغييب واختزال كثير من شذرات فكر سعدي، وطبع غيرها بطابع العمومية. والواقع أن فكر سعدي هو البحر الأوسع والأعمق الذي لا يشكل الشعر غير مجرى واحد فيه. نعتز جميعا بشاعرية سعدي وعروبة سعدي، ولكنني أعتقد أننا افتقدنا أيضا، الشخصية الفكرية لابن يوسف. هذا الفكر ليس المقصود به الفكر الشيوعي أو الماركسي أو اليساري، وانما الفكر السعدي اليوسفي، الذي نتلمسه في (خطوات الكنغر) وكتبه النثرية الأخرى القليلة في هذا المجال. افتقدنا شخصية سعدي المفكر والمنظر، افتقدنا شخصية سعدي القاص والروائي، لا نفتقد شخصية السياسي لو كان تفرغ لها بدون طغيان الثقافي، [دون إغفال تجارب يزيد ابن معاوية وابن المعتز والرصافي وشفيق الكمالي ] ولكني أعتقد، ثمة هناك جوانب أخرى، غير الشعر، جديرة بالوجود والاهتمام وقمينة بفضول القارئ، لم يفت الوقت لو منحها الأخضر السعدي بعض الوقت، أعني الفكر والرواية.
لقد طغت الشعرية على شخصية الأخضر بن يوسف ووسمت صورته. والشعر العربي يبقى موروثا عربيا، مهما تقنع بالحداثة أو تلبسته العولمة. ففي مخارج الحروف ودلالات الألفاظ إحالة رجعية على البيئة الماضوية. الشعر العربي حين ولادته كان صوتا للثورة والثورة كانت هوية والهوية كانت ثالوث [الكبرياء والحرية والكرامة]. يومها كان العرب كفاحيين ثوريين يعيشون طفولة دائمة، لا يرضون بالذل والعبودية والانحناء. ارتضوا لفح الصحراء ولم يرتضوا الانحناء للقوانين. تلك الحالة التي وصفها المفكر هادي العلوي [1933- 1998م] باللقاحية، وبقي العقل الكوفي يفتخر بها في صورة البداوة والنقاوة والشفاهية.
لكن هؤلاء العرب تعبوا من الوقوف، والتوت ظهورهم مع الزمن ولم يعودوا يطيقون نصال الحروف، وضراوة الكلمات، فأعطوا الشعر صورة المعلقات الذهبية، ودفنوها في الكعبة وقدّسوها؛ إسوة باليهود الذي دفنوا لوحي الحجر وعصا موسى في تابوت ووضعوها في قلب الهيكل. ديوان العرب يعني تاريخ العرب، والتاريخ جسد ميت، ماضٍ، يجري استنطاقه عبر الذاكرة، وعبر الكهنة والعرافين (الشعراء والرواة). ويخطئ فيليب حتيته إذ يرى ان الروم لم يتعرضوا لعرب البادية. ففي الواقع ان العرب تعرضوا للروم واعجبوا بنمط حياتهم ولون جلودهم ونعومتها، وبدأوا في الانزياح عن الحبشيات والمصريات نحو الروميات ونسل الأمزونيات. وكما يحدث في أيامنا، من هجرات يعربية نحو الغرب، فقد زاد تطوع الأعراب في جيوش الروم، وأبلوا معهم بلاء حسنا. وسيما منهم أهل الحجاز الأدوميون الذين شعورهم حمراء. فحروب الروم الدائمة أكثر تطورا من حروب القبائل البدائية وسيوف يهود اليمن الملتوية.
الشعر الذي عرفناه في طبقات الشعراء والأغاني هو تاريخ الشعر وشعر التقليد الذي لا يشنف الأسماع. وظيفة الذاكرة عند العرب هي مثل (تاسك) الانترنيت، البحث عما يشنف الأسماع ويغري النفس بدل راهنية الفكر الهابط. ونحن اليوم لا نعتز بالشعر من أجل الشعر، وانما نعتز بالعروبة التي في داخل الشعر، نعتز بالطفولة والبراءة التي في ضمير الماضي البعيد.
الشاعر العربي المعاصر، حتى وهو يتنقل بالقطارات والسيارات والطائرات ويحتضن اللابتوب والنوتبوك، يحن في داخله الطفل إلى وقع خطى الجمل على الرمل الوافر والمتدارك، ولا تعتريه النشوة بغير نقر الايقاع القديم في أعماقه. وسعدي الأخضر، احد رواد الحداثة الشعرية المعاصرين ما يزال يكتب شعر التفعيلة. حتى قصائده النثرية (المدورة) محكومة بالايقاع والتفعيلة. ولكي تدخل في قصيدة سعدي عليك أن تقرأها صائتا، ويفضل أن تكون لك خبرة ودربة في المقامات الموسيقية التي كان تأسيسها من قبل المعلم الثاني أبي نصر الفارابي [872- 950م] ضرورة لضبط الدرس القرائي للقصيدة العربية التي سهر الفراهيدي [718- 786م] وابن المعتز [861- 909م] والأصفهاني [897- 967م] وغيرهم على توضيبها داخل متحف الشمع العربي.
يذكر ان سعدي يوسف يحاول نثر قراءته الشعرية [أي تجريدها من أثر الموسيقى واللحن]، ربما ليحرر كتابته من تهمة الأوزان، وهو ما يحاوله لدى الكتابة، في طريقة (نثر) كلمات الأسطر ومنحها بعدا تشكيليا يقربها في عين القارئ للحداثة. قصيدة سعدي ما زالت غنائية صائتة. وقد وصف النقاد قصيدته بأنها جماع تفاعل الايقاع مع الحالة النفسية (د. محمد التوتنجي). ورغم عتوّ الايقاع الداخلي، فلا يجوز سحقه بالقراءة. وما ينطبق على سعدي ينطبق على شعر مظفر النواب وعبد الرزاق عبد الواحد وكثيرين من شعراء الستينيات. فالقراءة الصامتة تقتل (تخنق) الشعر العربي، قديمه وحديثه. والعبوات النفسية داخل الشعر الحديث أكثر مما في القديم (د. يوسف عزالدين). والشعور والانفعال النفسي لا يمكن تنفيسه بالصمت أو حتى بالرسم، لا يمكن تنفيس الانفعال بغير الصوت والتغني والحداء أو النواح.
المغزى من هذا الاستطراد، هو الكشف عن السطر المفقود داخل شعرية الأخضر بن يوسف وعلاقته السياميّة بالشعر العربي (تحديدا) وموقفه السلبي من الكتابة النثرية أو الكتابة بلغة أخرى. السطر المفقود هو عمق وحميمية صلة سعدي بعروبته عرقا ولغة. بله عمق علاقته واعتزازه بجنوبيته، ليس الجنوبية العراقية فحسب، وانما الجنوبية العربية اليمنية تحديدا.
"بين عدن وحضرموت ، في محاولةٍ لقراءة المكان الشعريّ الأول للعرب : دمّون . قطن . حومل . ".
ولو لم يتعرف سعدي الماركسية الشيوعية في سن مبكرة في بدايات دراسته الثانوية، لكان أكثر قومية من أي شاعر عربي قومي. وهو السطر الذي لم يقرأه نقاده العراقيون [الماركسيون عموما]، ولم يتوصل إليه النقاد العرب، لطغيان صفة الشيوعية عليه. ولا اجازف هنا إذا قلت بتجاور شخصين داخل شخصية الأخضر ابن يوسف، العربي القومي، والأممي الشيوعي. ويمكن لمس هذا في كلّ شعره، وشعر ربع القرن الأخير منه تحديدا. وتصفح كتاباته النثرية لا يفجأ بمنافحته الضارية عن العروبة والعرب واللغة العربية.
فكرة التعارض بين القومي والشيوعي، هي جزء من ثقافة الثنائيات. الأبيض والأسود، اليمين واليسار. ومبدأ الثنائية قديم في أصول الفكر البشري، أكثر قدما من أرسطو نفسه. ولكنه أخذ طابعا فكريا سياسيا في ظل الحرب الباردة. وعندما انتهت الحرب، استمر العرب في تداول اساليبها ومنتجاتها. فالمثقف الأممي ليس بالضرورة ممنوعا من الاعتزاز بوطنه وقومه. والقومية –كما يناقشها سعدي في بعض كتاباته- ليست يمينية وعنصرية بالضرورة. كما أن الشيوعية وبوصلة اليسار لم تعد يسارية تماما، بعد أن عامت في مياه العولمة. وهذا يستدعي ظهور طريق ثالث، نظرية جديدة. وكما حدث في خمسينيات القرن الماضي، للاستفلال وعدم الانحياز لأي من الفريقين، نحتاج لظهور اتجاه ثالث لا يذوب في العولمة ومناهجها، ولا يتجمد في خندق المحلية الضيق؛ وهنا تتقدم صورة سعدي الجديدة.
سعدي يوسف، لم يقرأ ناثرا، لم يقرأ قاصا وروائيا، ولم يقرأ مترجما للرواية. خصوصية سعدي يوسف الفنية تتركز في لغته، التي دأب نحاة العرب بتلخيصها في [جزالة اللفظ ومتانة الصياغة وقوة الاسلوب]. انه هو خليفة محمد مهدي الجواهري في رفعة لغته، والتي يؤطر ويدبج بها بعض مقالاته، ولا أقول قصائده. ولكن ميله للبساطة والتواضع يدفعه أكثر إلى تبسيط لغته الأدبية والشعرية. وهو أحد أبرز المؤسسين في تبسيط الفصحى (شعريا)، كما أن رفيقه مظفر النواب رائد تفصيح العامية في الشعر الشعبي والأغنية العراقية.
ولا يخفي سعدي حبّه وهيامه باللغة العربية التي تتجاوز لديه حدود اللغة للغوص في أعماق ثقافتها وتراث العرب. وثمة.. فان سرّ تعلق سعدي الشعري هو صورة لتعلقه باللغة من وراء الشعر، وبانتمائه للعروبة عبر اللغة.
".. كنتُ أشعرُ أنني أدخلُ في أرضي الأولى:
هنا وُلِدْنا أُمّةً.
وهنا تشكّلَتْ لغتُنا العربيةُ ، أجملَ لغةٍ جرَتْ على لسانٍ.
هنا التنزيلُ والتآويلُ.
ومن هنا ، من هذا الرملِ ، وعبرَ هذا الرمل ، انفتحْنا على العالَمِ ، وافتتحْنا ، ومَصَّرْنا الأمصارَ.
وأتذكّرُ نشيداً لنا في المدرسة الابتدائية بالبصرة :

لثراها فضلٌ على الشُّهُبِ وحصاها خيرٌ من الذهبِ
لستُ أرضى السماءَ لي وطناً بدلاً من جزيرةِ العربِ!"

سعدي الشاعر بعد تجاوزه الستين من العمر، اكتسب خصائص وسمات جديدة، -وهي ما يدعوها المفكر ادوارد سعيد [1935- 2003م] (late style)-، طبعت شعره وشعوره، فكره وشخصيته، بينما روّضت جوانب أخرى من خصائصه السابقة، ورسخت من بعضها الآخر. وهو أمر طبيعي ووارد في منطق النمو والتطور والتغيّر، ولكنه غالبا ما يغيب في مجالات الدراسة الأدبية والاجتماعية.
وقد وضعت العولمة ثقافات العالم في مواجهة محرجة مع ذاتها، بين الذوبان في بحر (الأمركة) قلبا وقالبا، وبين الانعزال داخل الهويات المحلية. وردّ الفعل هنا قد يكون عاديا على العموم، ولكنه ليس كذلك لدى شاعر نشأ على هوية أممية (عولمة بالمفهوم الشرقي الانساني "اليساري")، تلزمه الضرورة بفك ارتباط العولمة بالأممية أولا، وترسيخ جذوره الوطنية والقومية (المحلية/ الشرقية) لمواجهة الآثار السلبية للعولمة وفلسفة مسخ الثقافات.
فاللغة الانجليزية في تقدم مضطرد عبر مشاعة الانترنت وعولمة الاتصالات وانتشار الأميركان- ستايل. وعلينا التسلح بمضادات كافية تقينا التحول الى مسوخ. نحتاج قراءة سعدي من جديد، دون التوقف في حالة القصيدة، وانما استغوارها والعبور الى ضفتها الأخرى- الداخلية، فالشاعر الأعمى.. يرى ما لا نرى، فلنمتدّ الى رؤيته، قبل أن يأخذنا الدوار، أو الطوفان.
*



(8)
إشكاليات سعدي يوسف..
ما الذي كان يمنع سعدي أن يكون فرنسيا أو انجليزيا أو أمريكيا أو سويديا أو ايطاليا أو اسبانيا أو يونانيا أو مندمجا في أية هوية وجواز سفر أجنبي، ويودع سحنته ولكنته ويستبدل ثياب قصيدته ودماءها وملامح وجهها بما يحرره من اجترار تبعات هوية مهزومة وثقافة لا تكف عن التراجع، وجماعة بشرية كتب التاريخ عليها أن لا يكون لها مكان فوق الأرض.
المنفيون
يحبون ملابسهم
ونباتات الزينة والقطط
****
المنفيون
يحبون اللغة الأخرى
وقطارات مواعيد الليل
/ قصيدة (المنفيون)

لماذا استمر سعدي يكتب باللغة العربية والهمّ العربي ستة عقود متصلة وهو المترجم وصاحب اللغات الأوربية المتعددة.. ألم يكن أجدر به الكتابة بلغة أخرى تكسبه من الشهرة والجاه والمال والجوائز الغربية شأن كثير من أدباء هنود وروس وجنوب أميركان وعرب.. أولئك الأقل منه شاعرية ومكنة لغوية كتبوا واخترقوا اللغات الأوربية، أدباء كثيرون من أميركا اللاتينية وأوربا الشرقية وشرق آسيا كتبوا باللغات الأسبانية والفرنسية والألمانية والانجليزية وحصلوا على مراكز متقدمة في الأدب العالمي، بينما سعدي يروّض ألفاظ هذه اللغة ومفاهيمها، ويحفر في لا وعيها الثقافي ليصنع منها لغة تحمل الهم العالمي.. لكي يعيد لهذه اللغة كرامتها التي أهدرها الاستجداء والاستخذاء والعولمة..

To Dostena Lavergn
If we went deep in the sea
At dawn
What we will loose but our heavy fetters?
Let us be along Aegean shores
Night
And day.
So to dip our fingers in the Greek wine
Night is free
We tasted it with our fingers.
I said: I love you!
You didn’t laugh.
You didn’t say: I love you.
*
Then, I believed that went so deep!
London 01.08.2011

مفارقة اللغة عند سعدي إشكالية ملغزة حقا.. وهو الشاعر الأممي الذي يمتدّ حبه وفكره وشعره عبر الحدود.. ولا يقف لدى لون أو لغة أو هوية قومية.. هل هو ينتظر أن يأتي إليه العالم وينقله إلى لغاته، كما نقل هو عن لغاته لبني جلدته؟. ألا تقدم الترجمات والأعمال المسرحية المأخوذة من شعره، حافزا لاختراق حاجز اللغة والموانع الثقافية، وهو يعيش داخل الحاضنة الأوربية؟.
المسألة الأخرى الي تستحق ادراجها في باب الاشكاليات، هي علاقته المبكرة بوالت ويتمان [1819- 1892م]، والمتمثلة بترجمة ديوانه شبه الوحيد (أوراق العشب) للعربية. فقد بقي الشعر الانجليزي أولا، والشعر الفرنسي ثانيا، مصدرا للشعر العربي الحديث، وسعدي هو أول من فتح الباب في وقت غير متأخر (1979) للتعرف إلى الشعر الأمريكي. ويتمان نفسه له وضع خاص في الشعر الأميركي والشعر الغربي عموما. وترجمته لا تخلو من مجازفة. وفي نفس الوقت، شعر ويتمان هو الشعر الوحيد الذي ينطبق عليه اصطلاح [Free Verse]. هذا الشعر الحرّ لم يتحقق عربيا في تجارب الرواد، واستخدامه لوصف تجاربهم يخلو من الدقة، بما فيه كتاب نازلك الملائكة [1923- 2007م] الأكاديمي في التنظير له. وربما تم تسويغ التساهل فيه على ذمة التعبير الانجليزي. كما أن لفظة (الحرية) قاصرة في اللغة العربية، عن تحقيق معناها –كما سلف القول لدى سعدي-. نازك الملائكة أضافت بحرا لبحور الشعر، والبحر العروضي قيد يغلّ لغة القصيدة، بدل اطلاق حريته.
لكن الملاحظة ان شعر سعدي يوسف ما يزال خاضعا للتفعيلة العروضية ولا يتنكر لايقاع موسيقاه.. ورغم تنوع شعره وانفتاحه شكلا ومضمونا، لم تتحرر لغة الشاعر من ذلك حتى في شعره "المدوّر" أو القصصي حسب تصنيفات النقاد. لقد نوّع كثيرا في موضوعاته وادخل موضوعات لم يكن في الشعر العربي أثر لها، وتفرد في كثير منها وانفرد، ولكن التفعيلة والايقاع بقيت تغلغل لغته الشعرية.
من الممكن القول ان ترجمته ويتمان لا شأن لها بالتأثر الشعري الذي يخلخل التجربة، أو ربما كان لويتمان أثر في انفتاح تجربة سعدي على الطبيعة والشجر والماء. وهو أمر متروك للدراسات. فسعدي المترجم نقل نصوصا أخرى –ربما في نفس الفترة- لريتسوس وكافافي وسواهم...[ تأثير يانيس ريتسوس في الشﱢ-;---;--عر العربيّ الحديث: سعدي يوسف نموذجًا- بقلم: مفلح الحويطات- مجلة جامعة النجاح للأبحاث والعلوم الانسانية/ مج 2011]
ان التجديد الأوسع في شعر سعدي هو في خانة الاسلوب وحجم وطبيعة الموضوعات والمواد الداخلة في القصيدة. ومرد ذلك كثرة اطلاع الشاعر وتثاقفه في الأدب العالمي، إلى جانب نزعته المنفتحة أدبيا على التجارب والحالات التي يتعرفها. فهو لا يكتفي بالنص، وانما يذهب ما وراء النص المتعلق بالحيثية التاريخية والفكرية، أو استغوار سيرة الشاعر. ففي تاريخ الأدب الغربي، يتعمق الباحث للظروف والعوامل الحاضنة للنص الشعري أو الروائي، وتفاصيل سيرة الشاعر خلال الكتابة وما قبلها. وهي أمور غير واردة في النقد العربي لعدم الاهتمام بفن السيرة الذاتية وفقر جانب التأليف التاريخي والاجتماعي، ناهيك عن احجام كثير من الشخصيات الاجتماعية والثقافية عن تدوين مذكراتهم وسيرهم، وافتقاد الصدق والصراحة والشفافية، إلى جانب عوامل الخجل والخوف ومزاعم التواضع.
وفي الأدب الغربي باحثون يتخصصون في تدوين سيرة الأديب وفق أسس منهجية اكادمية، والالمام بدراسة أدبه وجمع آثاره، مما يشكل مرجعا دراسيا حول الأديب ومرحلته التاريخية والسياسية. وهو قطاع ما زال غائبا عند العرب.
وهذا يقود إلى سؤال عن سبب افتقاد سيرة تفصيلية لحياة سعدي يوسف حتى الآن، رغم بلوغه الثمانين من العمر، وانعكاسات هذا النقص على دراسات شعره وفهم كثير من مواقفه وأفكاره وظروفه التي تبقى، في كنف الغموض، بدون توفر النص السيري.
*





القسم الثالث.. اعتمالات العشق..
(9)
القصيدة الطازجة..
الشعر والأنماط الأدبية قد تستنفد حرارتها وطزاجتها بعد عدد من الكتب أو بلوغ مرحلة معينة من المجد الأدبي أو السنّ.. وقد تجاوز سعدي كلّ ذلك.. وما يزال يشعر بحرارة النار الأولى ولذة الاكتشاف الأولى .. وقد يرتأي البعض تشبيه الأمر بالمرأة، ولكن حتى المرأة قد يقتلها التكرار.. والشعر هو الآخر تكرار كما يصفه العرب..
ما أرانا نقول إلا معارا.. أو معادا من شعرنا مكرورا
يقتل الشاعر التكرار بالتجدد والتجريب المستمرّ.. وهو في ذلك يرفض الخضوع لأية نمطية اجتماعية أو أدبية، فكرية أو سياسية.. وما زال عصيا على التأقلم في نمط شعري أو أدبي معين.. ذلك يعني أيضا صعوبة توقع خطوته المقبلة.. بانتظار حضور اللحظة.. قصيدة سعدي وخطوته مرتهنة باللحظة الشعرية.. واللحظة الشعرية ليست اللحظة الزمنية.. انما هي لحظة كونية خاصة بالشاعر.. ولكلّ شاعر زمنه الكوني ولحظته الكونية التي يتمازج ويتراسل معها وهي التي تتولى صياغة شخصيته ونصه الشعري.. هذه العروة اللحظوية الداخلية في شعرية سعدي كانت وراء الربط بينه وبين الانطباعية.. رغم ما يقتضيه ذلك من تحفظ.. لأن سوء فهم الانطباعية أو أي منهج فني، سوف يقود إلى سوء في التطبيق..
يوصف الشاعر كذلك بشغفه المبهر بالتفاصيل.. وهو من مميزاته الشخصية والشعرية.. وسبب تداخل الأدبي والفني في نصوصه أيضا.. وحاول البعض الربط بين الغربة واعتبارها سببا لاهتمامه المسرف بالتفاصيل.. لغرض تعبيري، يخص الافصاح عن حالة الغربة واغتراب المكان، أو الشعور بالفراغ النفسي الذي يحفزه لتأسيس نوع جديد من العلاقات.. والسؤال هنا: لماذا سعدي فقط يهتم بالتفاصيل.. ماذا عن الشعراء المغتربين غيره؟..
للتأكد من دور الغربة في شغف التفاصيل، يمكن اللجوء لدراسة نصوصه غير المغتربة.. المكتوبة داخل الوطن أو قبل ركوب المنفى..
ان حفاوة الشاعر بالتفاصيل، لا تتجه لذات الأشياء نفسها، وانما تحتفي بالعلاقة معها.. أي أن موضوع الشاعر هو العلاقة.. ذلك الخيط الذي يمتدّ.. بينه وبين الأشياء.. وهنا تتركز الأهمية كمركز دفق شعوري أو نفسي أو فكري. وقد يكون لذلك أثر من الغربة، أو صلة بطبيعة الشاعر النفسية.
الواقع.. ان البعد النفسي على درجة من الوضوح والقوة في نصوص الشاعر، ما يميزها عن سواها.. ومردّ تميزها يمكن تلخيصه في أمرين..
- حيوية النص وبهجته الحاضرة..
- امكانية الوقوع في حبّ النص..
في فن التلقي لا أهمية لحضور الحبّ في القراءة أو الاتصال بالنص.. لكن نصوص سعدي تطرح هذه الاحتمالية بشكل مركّز.. موضوع الحبّ يتصل بسلطة النص في جانب منه، وهو أمر لا يمكن تجاهله هنا، ولكنه يتصل أيضا بالقاعدة النفسية المتينة أو العميقة للنص.
كشاعر -أيديولوجي- يتصور المرء قصائده نصوصا ذهنية مجردة، أو خطابات سياسية فكرية تهيمن عليها المباشرة والقعقعة.. ولكن الشاعر حريص جدا على خذلان كثير من الأحكام المسبقة والسهلة حول شعره.
التعويل على البعد النفسي الطبيعي في قراءة الشاعر، إحالة على الخصوصية الاجتماعية والنفسية والثقافية للشخصية البصرية الحقيقية، كما أتيح لي لمسها ومعايشتها عن قرب. هذه الخصوصية قد تكون اجتماعية أو عائلية ونادرا ما تنعكس أو تفيض في النتاج الثقافي. فالشاعر بدر شاكر السياب – في شعره- يخضع للمهيمنة الثقافية البغدادية (العراقية) أكثر من المهيمنة الثقافية البصرية، رغم كونه والشاعر سعدي من نفس البيئة [حمدان، ابي الخصيب]. وللقارئ أن يفهم أبعاد المرجعيات الغربية في شعر محمود البريكان [1931- 2002]، أو سرّ تميز محمد خضير وتفرده ككاتب بصري..
ما أعنيه هنا ليس البعد المكاني أو الجغرافيا المحلية، وانما الخصوصية النفسية والاجتماعية لأهل البصرة كحاضرة ثقافية حضارية متوطنة عريقة، لا أعتقد ان علماء البحث الاجتماعي العراقي فطنوا لها.
*

(10)
سعدي.. الشاعر والانسان
من خواص العمق.. التأمّليّة الفكرية.
غالبا ما يجري تغييب الفكر في محضر الشعر. وينسب العرب الشعر للحظة الانفعال المنقطعة في ذاتها. لحظة الانفعال التي يتم المبالغة في خارقيتها حتى يجري نسبتها للجنّ. الجنّ.. ذلك العالم المجهول، الغريب في بحر الغيب. وقد ألف العرب تعطيل الوعي أمام الطبيعة. فوجدوا في الطواعية والتدفق التلقائي والانسيابية المنسجمة حالة تتجاوز العادي، وظاهرة فوق طبيعية. ذلك ان النظرة البدوية لم تألف رؤية الأنهار وانسياب الجداول وموسيقى الخرير وزقزقات العصافير وحفيف أوراق الشجر. فكان الشعر هو العالم البديل لموسيقى الروح وهارمونيكا الطبيعة. شيء لا (يكاد) يمت بصلة لواقعهم، فنسبوه للغيب والجنّ.
فلا غرو.. أن ترتبط نقلة الشعر بالجغرافيا. الانتقال من بيئة البداوة، إلى المدينة، -حسب تشخيص أدونيس- ، تسبّب في خلخلة بيت القريض الشعري. لكني أودّ القول أيضا، أن طبيعة البيئة الزراعية شمال شبه الجزيرة، ووفرة المياه والأنهار والجداول والبساتين والحدائق وما يترتب عليها ويتخللها، من صور الشفافية والشاعرية، جعل ظهور البحتري [820- 897 م] متأخرا، بنفس مستوى تأخر ظهور المتنبي [915- 965 م] والمعرّي [973- 1057 م].
سطوة اللفظ والموسيقى والتشكيل في قصيدة سعدي لا تنفصل عن العمق الفكري والتحليل المنطقي للحظة الراهن واتصالها بالبعد التاريخي. يتصف سعدي بغزارة الانتاج الشعري.. وهو يعترف: [ليس لي من حياةٍ فِعليّةٍ ، خارج الشِعر. الشِعرُ خبزي اليومي .]. انه يعيش حياته اليومية بالشعر. فالشاعر والانسان غير منفصلين في شخصيته. لقد اختزل الشاعر سعدي سعدي الانسان، واتحدا في ذات واحدة، عصيّة على الفصل، بكلّ ما لهذا الابتلاع من مساوئ ومحاسن. فهو يتناول طعامه كشاعر، يحتسي قهوته كشاعر، يحب ويضحك، يتكلم ويصمت كشاعر. لا توجد نقطة تنتهي فيها حدود سعدي الانسان، وتبدأ حدود سعدي الشاعر. وعندما يختلف سعدي الانسان، ويزعل ويتشاجر، يختلف معه الشعر ويزعل ويتشاجر. ولأنّ سعدي الانسان محكوم بكارما التنقل واستقراء الأماكن، يتنقل معه الشعر ويقرأ ويستقرئ المكان والهيولي.
ويمكن ملاحظة ان أكثر الاشكاليات، ترتبت على قصائده النثرية، والتي ربما اعتبرها البعض أقرب للكلام اليومي أو السياسي المنثور. ذلك أن تلك القصائد، لم تكن غير بوح برئ .. تسجيل يومي.. تعبيرا عن رأي في موقف أو خبر أو حدث سياسي معين، أفلتت لغته في خضم المهيمنة الشعرية للغة سعدي. فاللغة الشاعرية لها سطوة واضحة، ليس في شعر سعدي، ولكن في حديثه اليومي.. ولغة مقالاته، التي ترتقي إلى - نصوص- أيضا.
سعدي يوسف ليس شاعرا فحسب، وانما هو انسان له متطلباته وحاجاته وانفعالاته وهفواته، سعدي قاص وروائي، سياسي ومترجم، عاشق وصديق، متجول وسائح، مغترب ومهاجر وقرصان. ولكن الناس اختزلوه في صورة واحدة، صورة الشاعر.
ولما كان للشاعر في أرشيف الذاكرة العربية صورة نمطية جماهيرية ذات بعد مزدوج: رمزي وشعبي. وقع سعدي يوسف، وبدافع محض من محبّة الناس، ضحية تلك الصورة النمطية. أراد الناس سعدي الشاعر المنسجم مع صورة الأرشيف، واعتبروا ما يخرج عنها، (شغبا) خارجا عن السياق!.
لكن الناس – وليس النخبة الثقافية- فاتهم اعتبار الزمن ودوران العقود، وعمق التحولات السياسية التي جعلتهم يرفضون أي تغيير على صورة الشاعر التقليدية لديهم. فحيويّة الشاعر سعدي يوسف خارقة للمألوف، إذا تم مقارنتها بالصورة النمطية للشعراء والأدباء المعاصرين.
ففي الأرشيف الثقافي أو الشعبي يوجد لكل أديب بورتريه يطلق عليه - صورة الشاعر في شبابه-. ذلك البورتريه الذي لا يتغير، ومنه يستمدّ الشاعر أو الفنان حياته الجامدة في ذاكرة بلده. رامبو، فيرلين، لوركا، اليوت، باوند، ويتمان، بليك، باسترناك، أوريل، أراغون، مايكوفسكي، بوشكين، الرصافي، الزهاوي، بدر، اليياتي، حجازي، الفيتوري، حسين مردان، سعدي، .... إلخ.. ترتبط ذكرى كلّ منهم بصورة أو قصيدة أو كتاب أو موقف.
ثمة نوع من قانون تقاعد مبكر للأديب أو الفنان في الحياة الثقافية. ولا يجوز له تجاوز حدود تقاعده، لكي يبقى ثابتا، واضحا، مكررا، منمطا ومصنّفا في أرشيف الذاكرة الثقافية. صمت البياتي في سنواته الأخيرة مستسلما للمقهى والتدخين، وانصرف أدونيس للدراسات والرسم، واتجه عبد المعطي حجازي للمقالة، وخفتت أصوات بلند الحيدري ونزار قباني عندما وصلا لندن. بينما بدأ النيل من جانب محمود درويش الذي رفض التقاعد الأدبي عقب أوسلو، وتمرد على صورته النمطية في المشهد الثقافي.
فالاستاتيكية.. صورة النظام القديم ما زالت تفرض نفسها في التصور العربي للعالم. وما يزال الجديد مصدر رعب وقلق. وقد انتهى كثير من الأدباء ضحية الصمت والاسكات المبكر، وغابوا دون أن يفطن لهم أحد، بغير ما يحفظه لهم من كتب المدرسة، أو صورة صحفية قديمة. وما يصح على الثقافي، ينطبق على بقية الظواهر الاجتماعية والسياسية.
هل يمكن ربط أبعاد هذه الصّنمية (الأصحّ تصنيم الشخص)، ببقايا حالة قديمة من تقديس الظواهر وعبادتها بغاية التفاؤل بها أو التبرّك بذكرها أو لمسها أو رؤيتها. أم هي خاصة عجز عقلي وكسل فكري عن المتابعة والتغير، دون التوهان عن البؤرة. ان الكتابة والبحث في هذا المجال نادرة جدا، لكن جذور الطوطمية والألوهة قديمة في تراث الشرق القديم، التي تركت آثارها المتعلقة بالغيب والقدر والتعلق بالمجهول.
تنميط صورة الشاعر لدى الجمهور العربي، امتداد للنمطية الدينية وتنميط طقوسه ورموزه حتى لو أصابها العفن بفعل التكرار والعجز عن رؤية ما وراء الصورة أو بجانبها. كما تتصل تلك النمطية العقلية بموقف العرب من الأشخاص أو الأقوام أو البلدان أو القيم الاجتماعية، والتي تستمر الذاكرة الشفاهية في اجترار مآثرها حتى اليوم وبقدرة خارقة على تعطيل آلية الزمن.
ولكنني سوف أنسى المدينةَ
والناسَ
والبحرَ
حين أُحِسُّ بأنيَ لست المهدهَدَ بين ذراعيكِ
هذا الصباح ! / [طنجة 26. 1. 2012]
لا ينكر أن سعدي يوسف شاعر جماهيري. بشعره وشخصه كان لسان حال الشارع العراقي والعربي منذ خمسينيات القرن الماضي. عاش مع الناس البسطاء والكادحين ولم يألف مثل آخرين إلى حياة الأبراج والبرجوازية والدبلوماسية. فالبساطة والزهد مذهب في عقيدة سعدي يوسف، البساطة في ملبسه وغذائه وكلامه وعلاقاته اليومية وتلفوناته. هذه البساطة بحدّ ذاتها كسر للنمطية الجامدة الدارجة في العقلية العربية، وعنصر يقرّبه من الناس وطلائعه الشبابية المتعلمة والمثقفة.
ولم يبتعد سعدي عن الناس، ولا انفصل عن همومهم وقضاياهم وظروفهم داخل الوطن أو خارجه، عندما كانت كتائب الأنصار (الشيوعيين) إلى جانب مليشيات الكرد (بيش مركه) تقاتل ضدّ نظام صدام حسين، زار الشاعر كتائب الشباب في مواضعهم الجبلية وشاركهم يومياتهم ومعاناتهم واقتسم معهم الخبز والشعر. وهو أمر ينطوي على كثير من المجازفة، وكثير من المسؤولية والانسانية والايمان بأهمية الكفاح الشعبي والقرب من الناس.
جماهيرية سعدي يوسف واقع وحقيقة، ولكنها تختلف عن المألوف والسائد. هذه الجماهيرية هي دافع كتابة ورقته الأثيرة (الشعر والجمهور) عندما اختلفت المرحلة السياسية والتاريخية للفصل بين الظروف والمفاهيم. وعندما تنفصل الجماهير عن الثقافي، وتعود أسيرة العبودية والصحافة الصفراء والمنابر الاعلامية التقليدية، تعظم مسؤولية المثقف والسياسي المسؤول في أهمية الفرز.
هنا لابد من الفصل، على صعيد المفاهيم والمصطلحات بين مرحلتين، على درجة عالية من الحساسية. فالثقافة والجماهير والاعلام المسؤول، مفاهيم يسارية في أصلها، تقتضي المحافظة عليها وصيانتها، وعدم الخلط بينها وبين.. الثقافة الامبريالية والثقافة الشعبية واتجاهات الرأي العام والعلاقات العامة، كمفاهيم ومصطلحات رأسمالية يمينية، يتم استخدامها لتضليل الناس والتحكم بهم وتوجيههم بما يخدم مصالح الفئات البرجوازية وطبقات المصالح الاقتصادية والسياسية.
بساطة سعدي الفلسفية، تتكامل مع عمقه الفكري واتساع ثقافته وجمعه بين بلاغته اللغوية ومقدرته على التواصل الثقافي الأممي بأكثر من لغة، تشهد له ترجماته المبكرة والمتعددة والمستمرة عبر سني ابداعه الفكري. فكان لثقافته التعددية والمنفتحة أثر في أغناء منتجه الأدبي وبناء الجملة واللوحة الفنية في لغته.
سعدي يوسف، لم يرفض النمطية الفنية في الشعر، وانما رفض أيّ نوع من التنميط، وانتمى للتجدد المستمر مذهبا دائما، بما فيه التنميط أو التصنيف الفكري أو السياسي. وعلاقته الديناميكية بالزمن وحركة التغير لم نجعله متلوّنا، حسب لغة الشارع العربي. ولعّل الاستقلالية – عن الذوبان في التيارات السائدة- والاعتداد بالذات حتى لو كبّده العزلة عن الناس، مما يضيف لتجربته خصائص الحيوية والنماء.
سعدي يوسف.. ظاهرة صحيّة في الحياة العراقية، ومصدر ثرّ لترسيخ فاعلية الكلمة المثقفة في الوعي الجماهيري. وفرصة حقيقية لتعلّم كيفية التعامل مع المفردة والعبارة والموقف. وأن أمامنا أرشيفا حافلا بالتنوع والعمق والفائدة، ينتظر من الجميع، الدراسة والبحث وتعلّم المزيد، للامتداد في المستقبل، وتجاوز الأخطاء والضعفات.
سعدي يوسف.. القرصان.. انطلق عراقيا.. وجاب بحار الدنيا، وجرّب أكثر من سماء ولغة وبحر، حتى عبر السماء الأخرى. لكن سعدي يوسف اليوم، وهو على أعتاب الثمانين.. ما زال يفخر بعراقيته وبصريته وأطايب منابعه الأولى.
*


(11)
الشعر.. إكسير الغربة..
ان قراءة أي نص، لا بدّ أن تكون نابعة من داخل حيثيات النص. والحكم على شاعر معين، لا بدّ أن يكون نابعاً من فهم تجربته الأدبية والانسانية. وبغير ذلك، سوف تكون كلّ قراءة أو حكم من باب التسلط والقمع. القراءة النقدية بحسب هذا، منهجية كانت، أم انطباعية، ان لم تكن نابعة من الحبّ والايمان بالكلمة، فهي سيف أجرد، يراد بها مآرب أخرى، لا تمت إلى العملية الابداعية، قدر تبعيتها إلى منطق السوق.
وأتساءل هنا.. ما هي الكتابة؟..
لماذا يتجه البعض للتجارة، والبعض للزراعة، والبعض للسياسة، والبعض للكتابة؟..
أن تعامل التاجر مع الكلمة، غير تعامل الفلاح معها، وعلاقة السياسي بالكلمة غير علاقة الشاعر بها!.
المختلف هنا هو المغزى، الدافع للكلمة.
الكلمة هنا سرّ مقدّس، لا يدرك كنه قدسيته غير المولودين بالكلمة ومن الكلمة. والذي يعرف السرّ، غير الذي لا يرى غير الشكل، ومن يحسّ بجوانية الحرف، غير الذي لا يطربه سوى جعجعة الايقاع. المولود بالكلمة لا يشعر بالكلمة، وانما يحيا بالكلمة، ولا يحيا بالكلمة إلا الذي فيه الكلمة تحيا.
الكلمة هي برشوم الغربة، والمعادل الكيمياوي لتجارب الاغتراب الفكري والأدبي، والنسبة الثابتة في هيولي المجهول. الكلمة هي السؤال، وهي الجواب، هي الآه، وهي الفرح والأغنية. هي البكاء والضحك، حيث لا نسبة للبكاء ولا للضحك. وميزة سعدي يوسف، الثائر والقرصان، العاشق حدّ الوقوع في الحلم، والطفل الذي لم يكبر في لا عقلانية هذا العالم، ميزته أنه يعيش ليكتب، ويكتب ليعيش. فحينما تحترق الجدوى في ناموس الخليقة، يلزم الكائن قوة غير عادية تمدّه بالحياة، هذه القوة تتجسّد بالكلمة، الكلمة هي الشعر. والشعر عند سعدي يوسف هو قهوة الصباح، وسيجارة الظهيرة، وكأس آخر المساء. هو البرشومة قبل الأكل وبعد الأكل، قبل النوم، وبعد الاستيقاظ. يصبح على شعر ويمسي على شعر.. وما بينهما حلم.. بسعة القصيدة. يقول فرانسوا بيشو.. ان الفيلسوف يفكر ولا يعيش، أما الحكيم، فهو يعيش ويفكر، أو يفكر ويعيش. والفكرة لا تكون فكرة، إلا عندما تتجسد، في كلمة أو خط. التاجر يفكر بلغة مضارباته الاقتصادية، والسياسي يفكر بلغة تكتيكاته الاستراتيجية، أما الشاعر فأنه يفكر بالحلم، ويحلم بالكلمة. قصيدة الشاعر رحلة، هجرة، خروج آخر من المكان إلى الهيولي.. من قفص الواقع، إلى فضاء القصيدة.
الغربة والشعر توأم في حياة سعدي يوسف. فالغربة حاضرة في عنوان كتابه الشعري الأول (القرصان). والقرصان لا يمكن إلا أن يكون غريبا. والغريب هو من لا تجمعه أرض، وتعجز عن حمله اليابسة، وتضيق به الأمكنة. أول الغرباء البحارة كان جلجامش الذي عاقر الخمرة والشعر. امرؤ القيس الملك الضليل هو صورة عن جلجامش الباحث عن مجد يعود دونه. الغربة والشعر متوالية أو مترادفة أثيرة في روح الشعر الغريبة والمغتربة عن فيزياء العالم ودونيته الاستهلاكية. الشاعر الحقيقي لا يمكن إلا أن يكون غريبا، لأن الشعر الحقيقي لا يولد ولا يتفجر في الحالات العادية والمناسبات التقليدية. الشعر لغة الاستثناء والتفرد والتوحد والاغتراب، وكلّ ما دون ذلك يفتقد روح الشعر. الشعر ليس لغة عادية، ولا يليق به ذلك. أنه خروج على العادة والمألوف والتقليد. أكثر من ذلك، الشعر روح وليس أصوات يابسة. ووصفه بالشعور كناية على تلك الصلة الكائنة غير المرئية، والفاعلة الصعبة المنال. ويبقى الشعر مفتاحا سريا يفك به لغز الكون وسرّ الوجود. ولذا دأب الكهنة والرهبان الأوائل استخدام اللغة الشعرية في الصلوات والمناجاة والمناسك الدينية. والأصول الحقيقية للكتب الدينية مكتوبة شعرا، بحسب ذائقة زمانها. والأصول الفلسفية القديمة اعتمدت لغة الشعر قبل سواد النثر، باعتبار الشعر لغة مفتاحية لباب الأسرار العلوية.
السندباد صورة أخرى لروح البحث والقلق والاغتراب التي تجاوزت المهيمنة الثقافية العربية إلى العالم أجمع، وليس ابن بطوطة وماركو بولو غير نسخ زمنية للسندباد وجلجامش، وماني وابن سبعين.
بدايات الغربة تعود إلى الشعور ولحظات الطفولة الأولى في اكتشاف المكان. ذلك الشعور المبكر باكتشاف المكان هو بداية فقدانه. كثيرون يولدون ويكبرون ويموتون في نفس المكان دون أن يشعروا به. أما الذين اهتموا بالمكان وتغلغل أحدهما في الآخر، فهؤلاء في هاجس مستمر في البحث عنه ومحاولة الامساك به. وفي ذلك يقول سعدي يوسف أنه كلما دخل مدينة أو بلدا فكّر أن لا يخرج منه، وأنه لم يخرج من بلد إلا مرغما، كما دخله (خطوات الكنغر). ويمكن استكناه بواكير احساس الشاعر بالمكان في طفولته من خلال تعبير (الساحة). فالساحة مكان تجمع الأطفال في القرية كما الدربونة والمحلة في المدينة العراقية هي دالة عميقة ليس بالمكان وانما بفقدانه أيضا. في وقت متأخر نسبيا من شعرية بدر شاكر السياب ظهرت صورة (المعبد الغريق) القريبة من صورة القصر العائد لجدّه حيث كان يقضي معظم وقته مع الفلاحين والخدم في طفولته. فالقصر عند السياب دالة غربته المبكرة التي وسمت لوحة حياته الكاملة.
ويمثل الموت معلما جدليا وشيجا بجوانيات الغربة. الغربة بتعبير معين هي كناية عن الموت، أو صورة عنه، باعتبار الغربة غيابا عن المكان/ الحضور. وفي سيرة الدكتور صلاح نيازي، عندما قرر مغادرة وطنه، وصفه بالموت في أرض أخرى. لكن حضور الموت في الشعر هو أيضا من الخصائص الانسانية له.
صورة البحر والقرصان ليست مرادفة وحيدة للغربة وقلق المكان، وانما هي كناية عن روح البحث والشوق للمغامرة والتعارف الانساني. وقد مثلت البصرة، كغيرها من الموانئ والمدن البحرية، ملتقى عالميا للموانئ ومراكز الحضارة والتبادل التجاري والثقافي القريبة كالهند واليمن وأفريقيا. فالبحر، كان على الدوام، مجالا للاتصال والتواصل، عكس اليابسة التي تختزن صورا كثيرة للتناحر والقطيعة.
غربة سعدي هي التي أخرجته من بصرته الأولى مسلمة إياه للبحر.. البحر حيث لا حدود ولا جغرافيا، لا عسس ولا عساكر.. البحر حيث القراصنة.. مجموعته المبكرة كانت نبوءته التي لم تفقد طزاجتها، أو الفأل الذي وسم حياته كلها. والشاعر سعدي يوسف في تجربته المتمثلة بصور البحر والسماوات، الشاعر العراقي أو العربي المتفرد الأكثر تنقلا وتوطنا بين البصرة واليمن، حتى نهايات الشمال الأفريقي وسماوات أخرى وثانية، نقلته إلى الساحل المتوسطي الأوربي ولعلها انتهت به إلى ضباب لندن، في تلك الجزيرة ذات التاريخ المتميز في صناعة السفن والناقلات وركوب البحر حتى أطراف الأرض.
يمكن القول، أن البحر وأمواجه وتقلباته العنيفة ارتبطت في شعره بالمرحلة السياسية والغليان الثوري وتقلباته، والتي وسمت شعره حتى الثمانينيات. حيث تبتدئ ملامح وأجواء جديدة تتخلل قصيدة سعدي وانشغالاته بالحدائق والزهور تجمع بين الطبيعة والمكان والذاتية. ورغم أهمية المكان المائي والأوربي في تمييز نقلاته الشعرية، لابد من ارتباطها بتطور العوامل النفسية والبيولوجية للتقدم في السن والآلام الجسدية، يضاف لها عامل ثالث هو تغيرات السياسة الدولية مع انتهاء الحرب الباردة، والمخططات الجديدة في الشرق الأوسط.
وعند تأمل بورتريه صورة الشاعر، كما جاء في نص مثنى حميد مجيد.. "بتجريدها من الجغرافيا المحلية ووضعها في سياقها الكوني كمفردة بيوغرافية من ظاهرته الحياتية والشعرية.." /[الحوار المتمدن ع 2512 في 31 ديسمبر 2008] تبين فيها ملامح مدن متداخلة وأرصفة متقاطعة وهويات ما كتب لها أن تلتقي خارج ذاكرة الطريد. وحين يقايس الناقد مثنى بين بورتريه الشاعر العراقي والرسام الهولندي (فان كوخ)، يشير إلى آثار الظلال الطويلة التي سحبتها خطى الشاعر خلال أكثر من خمسين عاماً، حافلة بالبلاد واللغات والنساء والنبيذ. ثمة أكثر من سيزان وفان كوخ يختفي في ملامح سعدي.
هذا البورتريه السريع للشاعر سعدي يوسف، لا يعكس غير صورة جانبية لمرحلة من تجربة الشاعر. مرحلة هي الأقرب إلى الراهن.
*


(12)
الجملة المصورة..
للصورة مكانة بؤرية في البناء الشعري لقصيدة سعدي. ثمة نوعان من الصور الشعرية..
- صورة لغوية بلاغية..
- صورة واقعية حسية..
والصورتان لهما وجود حاذق في شعره، لكنّما الصور الحسية أكثر مساحة ونبضا. ويمكن تقسيم تجربة الشاعر إلى مرحلتين رئيستين حسب مقتضيات التجربة السياسية ..
- مرحلة الأيديولوجيا والخطاب الأممي..
- مرحلة الذات ومركزية الفرد..
المرحلة الأولى تتمثل تجربة جلجامش الساعي للخلود والتأله، معتمدة على قوة العبارة وشكيمة الصور البلاغية.
"أي فتى هذا!
كم كانت رحلته مرعبة هوجاء..
خاض وحول الموتى
واجتاز جبال الشمس
وأرض العقرب
والغابات المسكونة
وبساتين الفاكهة الذهبية...
أي رياح ألقته هنا
أي هواجس أطلقت البدنا
من محبسه خلف الأسوار؟"
- مسرحية حانة سيدوري- مشهد 2-
المرحلة الثانية تتمثل في حانة سيدوري وحكمتها الذهبية، حيث ترتفع الأنثى من الصورة إلى الواقع وتتمحور الكأس مائدة اللذة..
"فلنشربْ يا سيدوري
ولنشربْ يا حكماء الحانة...
...
ها هي ذي الشمس تطلُّ
وتغسلُ موجَ البحرِ وسقف الحان بقرمزها
فلتأتِ الأكوابُ
ولنفرح يا حكماء الحانة!" - ن. م. مشهد3-
لقد رفض جلجامش المناضل والمفكر عروض عشتار المتتالية بالزواج، أما في المرحلة الثانية فأنه يُقبِل على مائدة الحياة في شغف وافراط [قارن: سيرة امرئ القيس ومقولته (اليومَ خمرٌ وغدا أمرٌ)!] حتى لَتبدو كل لحظة أمامه زمنا طويلا.. زمنا طويلا في التاريخ الشعري. والملاحظة الجديرة هنا، أن متابعة تواريخ قصائد سعدي ترسم تقويما متدرّجا.. حيث بالكاد يمرّ يوم بلا قصيدة، سيما إذ يرتبط ذلك بذاكرة مدينة جديدة.. أن مجموعة شعرية تعني شهرا واحدا من الشعر على الأغلب.
[(ايروتيكا)- مجموعة شعرية صادرة عن دار المدى سنة 1995- كتبت القصائد بدمشق بين 12 و 22 تموز 1994- عدد قصائد المجموعة (32) قصيدة.]
بينما حفلت مجموعات أخرى بتواريخ متفاوتة ضمن جدول زمني وزمكاني معين أو متلاحق. وللشاعر عناية خاصة بتثبيت المكان والزمان في نهايات نصوصه، لما له من دالة نفسية وذاتية أثيرة. وبالشكل الذي يمنح القصيدة نكهة المذكرات اليومية. ان مجرد الاحساس بالزمن، الشعور بمولد يوم جديد، يتضمن إشارة ضمنية للنوء بالحياة ورتابتها أو العبث وعدم الجدوى بالمعنى الوجودي أو الاجتماعي.
" كنت أفكر أن الموت عدوّ شخصي لي
أن حياتي ليست إلا سنواتي
لكني آمنت الآن
بأن حياتي والموت هما الوجهان." - ن. م. مشهد (3)-
لكن التحوّل الآنف بين المرحلتين لا يقتصر على المتغير السياسي العالمي وتغير صورة التوازن الدولي، انما يتدعم بالهاوية التي ينزلق فيها العراق - وطن الشاعر- وانتقاله من براثن الدكتاتورية إلى مستنقع الاحتلال الذي سوف يأتي على نهاية كلّ شيء؛ حيث تبلغ مرارة الشاعر مديات تتجاوز البعد النظري أو الوجودي لمسألة الحياة والموت، إلى المعنى الأكثر جدارة لمسألة الوجود على قيد الحياة، والشهادة التاريخية على انقلاب معادلات الوعي والمنطق على أعتاب ألفية جديدة.. كان أحرى بها نقل البشرية للأمام، فإذا بها تنقلب القهقرى..
" ألا تعرف أن الليل والفلسفة
شيئان لا يجمعان؟"
- ن. م. مسرحية حانة الطرق الأربعة-
ويمكن إعادة تصنيف المرحلتين آنفتي الذكر بتعبير أكثر وضوحا في مسيرة الشاعر ألا وهو الانتقال ..
- من التعبير بلغة الذات الجمعية..
- إلى التعبير بلغة الذات الشخصية..
في هذه المرحلة تتفكك العرى بين الشعر والجمهور الذي يبدو أكثر التصاقا بطوابير الخبز منه إلى طوابير الشعر. هذا الجمهور هو الذي تراجع عن المواكبة العامة تحت وطأة ارتفاع الأعباء الحياتية وعزلة الانسان وفرديته إزاء تفكك المؤسسات العامة، للتحول من الثقافي إلى النزوع الاستهلاكي المادي، هذا التحول الذي يصفه عبدالله الغذامي بالانتقال من الثقافي إلى التفاهي، حيث يُختزِل مفهوم النخبة والطبقة المتوسطة لصالح تقسيم اجتماعي طبقي وعولمي يماهي بين الطبقات والهويات، ويرفع النزعة الفردية إلى أقصى مدياتها. ويظهر صدى ذلك في عناوين مجاميع الشاعر الأخيرة، وهي أكثر وضوحا منذ التسعينيات، رغم سابقين سبعينيتين [الأخضر بن يوسف ومشاغله، كيف كتب الأخضر بن يوسف قصيدته الجديدة] أمثال .. الوحيد يستيقظ، ايروتيكا، حانة القرد المفكر، يوميات أسير القلعة، يوميات حياة صريحة، صلاة الوثني، حفيد امرئ القيس، الشيوعي الأخير يدخل الجنة ، أغنية صياد السمك. وهي مرحلة تختلف عن مرحلة (سيدوري) حيث الخمرة والأنثى تعزية وحيدة.
التعويل على الصورة في الجملة الشعرية، يعني تراجع التعويل على اللغة في شعرية سعدي يوسف، ببعديها الشكلاني والايقاعي. كلّ ما له علاقة باللغة والصوت يتراجع لصالح كلّ ما له علاقة بالصورة. الصورة هي الصوت، الصوت هو الآخر، كلّ ما له علاقة بالآخر، الوجود الاجتماعي للفرد (communication)..
"لم يتبقَّ لديَّ اليوم، ومنذ سنين
من سأصافحه
في منعطف الشارع
- لا شارع –
أو في الحفلة
- قد راحت حفلتنا –
ولهذا كانت قفازاتي
- حانة القرد المفكر- قصيدة القفازات-
*



(13)
القصيدة (التسجيلية).. اليوميّات..
لا يكفي القول أن سعدي شاعر القصيدة اليومية أو اللحظة اليومية، دون رصد توقفاته الصباحية في طريق صعود النهار.
الغيومُ صباحيّة
هكذا يبدأ النملُ يستافُ دربَ المؤونة
والقطُّ يبحث عن مخبأ
والعصافير عن شجر،
وأنا الجهمُ،
أبحث عن كوّة في الجدار...
....
....
....
كيف تأتي الفصولُ
لتذهبَ؟
قد كنت أحسبُ أن الربيع
- مثلاً-
يتداخلُ في العرق، كالنسغ في الغصن
أو كالمواءِ المباغتِ
أو صيحة الديك في الفجرِ، / [قصيدة (غيوم صباحية) من (حانة القرد المفكر)]
*
للنص وشيجة حميمة تربطه برحم الواقع المندفق منه، ومن غيرها يفتقد النص هويته الخاصة به. هذا يعني وجود خصائص مشتركة تجمع بين النص وواقعه الموضوعي، يفترض وجود درجة من الانسجام بينهما. بعبارة أخرى أن عناصر الثبات والاستقرار في الواقع تنعكس في خصائص الثبات والاستقرار التي تسم النص. بينما صفات الاضطراب والتغير في الواقع، تنعكس في عناصر الحركة والمغايرة والاختلاف في النص.
قصيدة العروض استمرت طيلة قرون، كانت عناصر البداوة مستقرة ومستمرة في الكيان الاجتماعي للجماعة والفرد، ولكن عندما تقدمت عوامل الاستقرار والمدنية في المجتمع، ظهرت الحاجة للمغايرة. وقد ربط أدونيس بين حركة التحضر والتمدن أيام العباسيين وبوادر التجديد في الشعر والعقلية العربية. ومع بدايات القرن العشرين أدرك الفكر العربي مستلزمات التغيير والتحديث .
لكن استقرار مظاهر الحداثة في الحياة العربية، بما فيها ظاهرة الدولة المدنية ومجتمع المدينة، استغرق نصف قرن، ولم يؤت ثماره في الميدان الثقافي إلا عقب الحرب العالمية الثانية في العراق، بينما كان ذلك أكثر بكوراً في مصر لاستباق ظاهرة الدولة الحديثة ومجتمع المدنية فيها قبل غيرها بقرن تقريباً. ومع ذلك فأن تيار التجريب والحداثة ارتبط بجيل الستينات في مصر أسوة بسواها كالعراق والشام. ولا يقتصر هذا التجديد والتحديث على مجال الشعر، وانما يتجاوزه إلى عموم الأنواع الأدبية بما فيه القصة والرواية ذاتي الريادة المصرية بامتياز. لكن الخروج من دائرة الكلاسيك جاء على يد الستينيين حسب رؤية ادور الخراط. وظهور الجيلية منذ ستينات القرن الماضي أو خمسيناته، بحسب ذلك، انما هو صدى لوتيرة التغير والتجديد المستمرة عقب الحرب العالمية الثانية في الشرق الأوسط وغيرها.
نمط التغير المستمر هذا هو ما منح شعراء الخمسينات وما بعدهم دفقا متواصلا من التغير والتجدد، انعكس في نتاجهم الثقافي وأنماطهم الأدبية. من هذا المنظور يبدو التغيير في قصيدة السيّاب ، محدوداً بالقياس، إلى تجارب زملائه بلند الحيدري والبياتي وسعدي وصلاح نيازي وغيرهم، ممن قاربت تجاربهم أو تجاوزت نصف القرن.
هذا لا يعني، لغرض الدقة، منظارا ميكانيكيا ثابتا على الجميع، ودون اعتبار مبدأ النسبية والملامح الذاتية. ان التجربة الشعرية لا تقاس بطول العمر وعديد السنوات حساييا. فثمة شعراء توقفوا عن الانتاج ومنهم من ارتدّوا عن التجربة ، ومنهم الذين استمروا في تكرار أنفسهم وفق نمطية مقيتة بغية تقديسها أو لعجزهم عن تجاوزها أو ملامسة حرارة التجدد والحداثة.
يبقى أن النص (الأدبي) شهادة، والشاعر شاهد على عصره وزمنه. وبمقدار اخلاصه لنفسه ووعيه التاريخي ورسالته الانسانية تتميز تجربته وشهادته ازاء العصر، دون القفز على الواقع، أو مراءاة الحقيقة والضمير.
كيف يمكن للنص موازاة الواقع؟..
في الأدب الانجليزي يمكن استنتاج تاريخانية النص من بين سطوره. يمكن التعرف إذا كان موضع النص يتطرق لحالة راهنية يعيشها المؤلف، أو حالة تاريخية يعيد انتاجها مثل (الفردوس المفقود) أو معظم مسرحيات شيكسبير. الملاحظة الأخرى في الأدب الانكليزي ان النص الابداعي سابق للنقد، وان المقاييس والأطر النقدية جرى اشتقاقها من داخل النص. هذه الحالة مفقودة في الثقافة العربية، فالنص الأدبي يستقرئ ويقلد، والنقد الأدبي يستعير ويستورد أدواته ومناهجه من الغرب، أو من التراث القديم، وهذا ينتج حالة مستمرة من التشوه النقدي وتقزيم النصوص.
لذلك لم تظهر لدينا نصوص فطرية تجترئ على الواقع صياغة ونقدا. ربما يعود السبب لانعدام فكرة المسرح في تراثنا، أو قسوة الاستبداد والخوف في واقعنا الاجتماعي. هذا ايضا يتصل بانعدام الفنون والمرح وغياب النكتة في حياتنا. فالنكتة نص مسرحي ملخص، ولها دور كبير في نضج الأنواع الأدبية في مصر دون سواها من بلداننا.
وبالمقابل كان لسيادة الشعر العربي دور تخريبي في تنمية الذائفة الأدبية والنقدية. فالشعر العربي سلعة منمقة مقولبة حسب أغراض جامدة متوارثة بين المدح والفخر والرثاء والهجاء التقليدي العامر بالتكرار والاجترار. وميدان الشعر هو قصر الخليفة أو الوالي حيث يتنافس كيس الذهب والسيف على عنق الشاعر. فالحرية الجرأة التي سنحت للشاعر الانجليزي فاتت على الشعراء الذين أخذوا عنهم الشكل الخارجي، وحاولوا تقليده عربيا. ولذلك عدمت الملحمة في تراثنا الأدبي بينما شاعت الغنائية والرومانسية والنصوص الذهنية التي تحاكي رموزا وأحداثا تراثية أو أجنبية. وهي حالة سائدة ومستمرة في خطابنا الاجتماعي والسياسي في استعارة التاريخ والتراث والشعر القديم للتعبير عن حاجات راهنية أكثر بساطة وراهنية. وبالنتيجة، يتفاقم لدينا شعور العجز عن معالجة الواقع، لأننا لا نتعامل معه مباشرة، وانما مع صورته المؤدلجة في اللاوعي الجمعي. ولعل أخطر تلك المظاهر ترتبط بالرموز والنصوص الدينية التي استحالت إلى أشكال وقوالب مقدسة، يكفي استحضارها واستعارتها لصنع جماعة تطهيرية تستبد بأمرها.
من هذا المنظور، اشتهرت في الوسط الأدبي دعوات الغموض والقناع و(التلميح لا التصريح) كفضائل شعرية والوضوح والمباشرة كعيوب جاهزة. وهما ترجمة مباشرة لآداب الستر والتقية المرتبطة بالمجتمع البدوي والإرهاب الفكري.
هنا يقدم الشاعر الأخضر بن يوسف تجربة قيمة، اصطلح عليها نقاده بالقصة الشعرية أو القصيدة الاقصوصة، حيث يستعير الواقعة الميدانية ويعيد انتاجها شعرا أو قصيدة..
هي بين الزّيّاديّةِ ، خضراءَ ، و كُوتِ الزَّينِ
أراها الآن كما كانتْ :
مرسى عوّاماتٍ خمسٍ
أتكونُ ثلاثاً ؟
هي مأوى مَن يُرشِدُ كلَّ السفنِ البحريةِ إذ تدخلُ شطَّ العربِ
لا أدري كيفَ دخلتُ إلى إحدى العوّاماتِ ...
صعبٌ أن أتذكّر ...
قد مرّتْ خمسون من الأعوامِ ...!
ولكني أتذكّرُ كيف استقبلَني مرشِدُ تلك السفنِ البحريّةِ :
قالَ : البحرُ هنا
وأشارَ إلى الطاولة
الوقتُ مساءٌ رطِبٌ
في البصرةِ ، كلُّ مساءٍ رطِبٌ
كان على مائدةِ المرشدِ عبدِ اللهِ الديراويّ
نبيذٌ
وزجاجةُ وِسكي
White Horse
وثمّتَ روبيانٌ
وشــرائحُ حبّارٍ
جُبْنٌ
وبقايا عرَقٍ ...
قال الديراويُّ :
لنبدأْ ... / الزيادية- ديوان غرفة شيراز
فالشاعر هنا يترجم نصا سيريا كما يصفه، ولكنه قد ينقل نصا تاريخيا يصوره في استجابة ذهنية أخرى..
*
وقد يكتب الشاعر قطعة شعرية وكأنه يسجل صفحة من يومياته بعنوان..
أمسِ ، قرّرتُ أن أتمشّى على طولِ تلك القناةِ العجيبةِ
تلك القناةِ التي شهدتْ بدءَ حُبَّـيـنِ
ثمّ نهايةَ حُبَّـينِ ...
تلكَ القناةِ التي قسمتْنيَ نصفَينِ
تلك القناةِ التي أغرقتْني ...
قلتُ : فَـلْـيَكُنِ !
اليومَ أمشي على ضفة ٍمثلَ حدِّ الصراطِ :
أحاولُ أن أتصالحَ
والماءَ
والعشبَ
والطيرَ ...
كانت سماءُ الخريفِ ، على غيرِ عادتها ، شبهَ زرقاءَ
والماءُ أخضرَ
والطيرُ أخضرَ
والعشبُ عند الضفافِ الخفيضةِ أخضرَ ...
مَن كانَ في الـبُــعْــدِ ؟
مَن كان يوشكُ أن يعبرَ الجسرَ ؟ / [قصيدة (كنتُ أتمشّى ظُهرا)ً ]
*
ابتعدت قصيدة سعدي بالتدريج عن طروحات الأيديولوجيا التي وسمت تاريخ الشعر الاجتماعي وأدب الواقعية الاشتراكية إلى لغة أكثر انتماء للانسان ومحنته الاغترابية. اصبحت ذات الشاعر بوصلته، ورؤيته الذاتية رؤيته الشعرية للكون والوجود. وبقدر تماهيه في رؤيته، كان تماهي المرأة في شعره، فضاء تتكامل فيه ذاته وتختزل غربته وتعوّض خسائره غير المنتهية.
في الضباب الذي يختفي تحته النخلُ والنملُ والطيرُ
فكّرتُ أن أعبرَ النهرَ..
أن أجدَ الجسرَ، ذاك الرهيفَ، وأن أبلغَ الضفةَ...
الصبحُ يهدأُ في نومه
والمدينةُ لم يبقَ منها سوى مسربٍ واحدٍ لخطايَ... / [قصيدة (تهويم المسافر)- (حانة القرد المفكر)]
*
كانت سماءُ الخريفِ ، على غيرِ عادتها ، شبهَ زرقاءَ
والماءُ أخضرَ
والطيرُ أخضرَ
والعشبُ عند الضفافِ الخفيضةِ أخضرَ ...
مَن كانَ في الـبُــعْــدِ ؟
مَن كان يوشكُ أن يعبرَ الجسرَ ؟ / ديوان طنجة


القسم الرابع.. مفاتيح الغيب..
(14)
الشعريّ والدينيّ..
الواقع الاجتماعي والتراث الشعبي هما مجال اشتغال شعرية سعدي يوسف منذ أمد بعيد، وكان له دور تأسيس في أسطرة كثير من الحالات والظواهر والأفراد شعريا، ويمكن تصنيف هذا المَشغَل على ثلاثة أنماط تبعا للمرحلة الظرفية التي توزعت الشاعر:
1- مرحلة الكفاح السياسي اليساري: وتطبعه الشخصيات الاجتماعية لعمال وفلاحين وصيادين وطلبة، والظواهر النضالية لمواجهة الطغمة الحاكمة، وتوزيع المناشير والتكاتف النضالي، وقد استمرت هذه المرحلة زمنيا حتى الثمانينيات بشكل عام، كما في ديوان [النجم والرماد] مثلا.
2- مرحلة الهجرة والتنقل والسفر الدائم في الجغرافيا العربية: وتتمثل في قصائد ذات بعد اركيولوجي واستنطاق للتاريخ والجغرافيا، وهي المرحلة التي استنهضت حالة من الاعتزاز بالجذور والانتماء العروبي والقومي الذي امتد للغة وحيثيات المكان، ورسّخ البعد التراثي كما يتبدى في ديوان [شرفة المنزل الفقير]- قصيدة العقبة انموذجا.
3- مرحلة الاغتراب الأوربي والإقامة في لندن، حيث تتطور فلسفة المكان في تجربة الشاعر وتتعمق وتتسع. والمعروف ان العلاقة بالمكان هي من نتائج المرحلة (الوسيطة) السابقة والتي تتجذر الآن شعريا وتتخذ من نقطة المكان بؤرة نفسية شعرية، بحيث يرى الشاعر انه لا يستطيع الكتابة بدون وجود المكان وتحديده. والواضح، في لغة سعدي أن وجود المكان يعني العلاقة بالمكان. وهذه الظاهرة أكثر شيوعا وعمقا في انتاج هذه المرحلة، والأكثر شغفا وعمقا (نفسيا) في تجربته كما في الديوان الآيطالي ، قصائد نيويورك، ديوان طنجة وديوان شيراز. - انموذجا-.
ويمكن إعادة تصنيف المراحل الثلاثة بايجاز أشدّ، بأنها مراحل [سياسية، قومية، نفسية] . والمرحلة الثالثة النفسية، مرحلة الاغتراب والنفي من الجغرافيا العربية هي المستمرة حتى الآن، وهي النطاق الرئيس لهذه القراءة تحديدا.
فالعناصر الأساسية المكونة لشعرية سعدي هي: المكان، الجذور والخصائص، الرمز الانساني في بعده التراثي أو الراهني.
في المشغل الشعري لسعدي لا يلعب الزمن الدور الرئيس، وانما اللحظة النفسية. واللحظة النفسية قد تتركز في نقطة الراهن، أو قدحة الذاكرة. وطالما، كانت الذاكرة/ اللحظة النفسية هي العامل الرئيس المهيمن عند الانسان بعد تجاوزه سن الخمسين (بيولوجيا). فأن قصائد الأخضر بن يوسف في الثلاثين سنة الأخيرة –على الأقل- هي من بنات الذاكرة في تلاقحها مع الراهن، أو هي من بنات الراهن (الانطباعي) في تلاقحها مع أصول وعوامل الذاكراتية.
أين هي ذاكرة سعدي يوسف الغنية والواسعة والعميقة!..
تلك هي التي احتفظ بمفاتيحها لنفسه ومنعها من المصادرة أو الوصاية من الخارج.
حتى رفاقه الذين قاسموه جانبا من تلك اللحظات لا يملكون مفاتيحها، لأن الذاكرة النفسية المعتقة وحدها تمتلك حقّ التصوير والتفسير والتأويل، بينما يمتلك الأفراد الغير.. حقوقهم الفردية، ولا وصاية لهم على سواهم.
الذاكرة هي سلطة فردية مستبدة، كالرغبة والحب والجنس، ولا يتشابه فيها اثنان، كالبصمات. الذاكرة، اللحظة، القصيدة هي خصوصية سعدي، سعدي وحده!.
في إطار دراسة تنوع الفضاء المعرفي والنفسي لقصيدة الشاعر في مرحلته الثالثة، تتقدم الرموز الدينية بوضوح- دأب سعدي- وتمثلاتها النفسية المتأثرة بعوامل المكان واللحظة.
هل يلتقي الشيوعي مع الدين؟.. سؤال تقليدي.. والجواب: نعم!. يلتقي الشيوعي مع الدين عبر الانسان. الشيوعي انسان.. والدين حاجة انسانية. والحاجات الانسانية تتوزع في أربع: [اجتماعية، جسدية، فكرية، نفسية]. ويختلف ترتيبها من شخص لآخر. وبالنسبة للشاعر المفكر المبدع، تتقدم الحاجات الفكرية والنفسية على البقية.
الدين هو جزء من الواقع الاجتماعي أيضا، وجانب من التراث الشعبي أيضا.
علاقة الأخضر اليوسفي بالدين هي حاجة نفسية، حاجة اجتماعية!..
علاقة سعدي يوسف بالدين هي من خلال الفلكلور الشعبي أو الطقوس الاجتماعية!..
لكن السؤال الدائم هو.. هل اشتغال الشاعر على ثيمة الدين، أم ثيمة الفلكلور والتراث؟..
في محيط إقامته التونسية - ذاتعهد-، قام الشاعر بمراجعة أعماله الكاملة، واستخرج منها أربعة دفاتر فئة المائة ورقة من قصائده. معياره في المختارات كان ثلاثي اللاءات: لا زمن، لا غرض، لا قيم!. تلك المختارات.. صدرت لاحقا في مصر.
إذا كان هذا منظور الشاعر في شعره، فهل يجوز لأحد تجاوز منظوره لتأويل ما لا يتأوّل؟ .. هذا السؤال مهم جدا.. ايمانا أن المؤلف هو صاحب حقوق الملكية الفكرية الكاملة لأعماله. هذه الحقوق الفكرية تشمل حق التفسير والتأويل، وهي مصونة بضمانة القوانين والأعراف الدولية. لا أحد يستطيع تقويل شيكسبير أو غوتة أو ماركس أو أورويل على هواه. هل يصل المؤلف العربي يوميا، لمصاف المؤلف الغربي في بلده؟.
الرموز التراثية الدينية التي وظفها الأخضر بن سعدي هي أربعة، كما يلي:
1- مرموزية بوذا
2- رموز مسيحية
3- رموز اسلامية
4- مرموزية خضر الياس
ومحاولة الفهم هنا لا يجوز قصرها على جانب دون سواه، أو على رمز دون غيره، أو على قصيدة دون ما عداها. أما اجتراء نص وتعميمه على الشاعر أو الانسان، فهو غير جائز أكادميا ولا منهجيا، ولا أقول أنه مثار سخرية في المحافل الغربية.
أولاَ: مرموز بوذا
المثال (1) قصيدة (الناطور)- مجموعة [حانة القرد المفكر].. النص...
يجلس تحت غصون التينة
ملتفا بغمامته
مختصرا من قامته
وهو يلفّ التبغ الهولنديّ...
ويختلس النظرات
إلى آخر ما يسّاقط من أوراق التين
.......
.......
.......
سوف يجيء مساء آخر
فيعود إلى غرفته
ويرتب من وضع حشيته
ولسوف يرى إذ يغمض عينيه
ملائكة بملابس بحارة
ونساء في لوحة خمارة
ورجالاً يمضون إلى الجنة بالأغلال.
.......
.......
.......
أحيانا يتساءل:
ما معنى أن يجلس تحت غصون التين
وأيلول أتى
والتينة ليس بها حبّة تين؟
(عمان- 1996)
في هذه القصيدة ثلاثة رموز، أثنان منها داخل النص وهما [بوذا، شجرة التين] والرمز الثالث خارج القصيدة، وهو شخص الشاعر. سعدي هنا يقدم صورة عصرية لشخصية بوذا [480- 556 ق.م.] الأمير الثري الذي اعتزل الخلق (متوحدا) تحت شجرة تين لا يبرحها. ولفهم القصيدة نحتاج فهم الرمزين [بوذا، التينة]، - طبعا، كل شخص سيفهمها بحسب قدرته-، ثم يلزم فهم الرمز الثالث –الحاضر الغائب- من النص وهو شخص الشاعر. لكي نفهم الشاعر يلزمنا العودة إلى نص شعري آخر، على شديد الصلة والتماس مع هذا النص. وهو قصيدة (هدوء) من نفس المجموعة/ نفس العام.. وهذا هو النص...
إهدأ الآنَ
إهدأ ولو ساعة
واترك للشرايين عاداتها...
أنت أرهقتها،
وهي لا تحتمل...
أرهقتها
فاهدأ الآنَ
مسّدْ غضون الجبين التي ارتسمت منذ عشرين عاما
و لا تلتبس في سؤال
ولا تلتمس جلنارا بوادي الرّمال
أنت لن تبرأ الكون من طين كفيك
لن ترسم النجم أحمر فوق البيارق
لن تغتذي بالرحيق...
.......
.......
.......
اتئدْ
واهدأ الآنَ
وانظر إلى مطر الياسمينة أبيض
انظر إلى الظلّ
قبل فوات الأوان.
(عمان- 1996)
قصيدة (الهدوء) تصف معاناة مرضية جسدية لشخص في الستين من عمره، مغترب، مهاجر، وحيد، خارج وطنه وبيته وليس بين عائلته وأهله. في هذه القصيدة يتحدث الشاعر مع نفسه، و(الهدوء) - فعل أمر- يوجهه لنفسه، كأنه – شخص آخر- فهو لا يحتمل الآلام، النفسية والجسدية، ويأمر نفسه ب(الهدوء) حيث يكرر الأمر.. أهدأ الآن.. أهدأ الآن!..
ثيمة الهدوء ترد كذلك في قصيدة أخرى من ديوان [حانة القرد المفكر] الذي يؤرخ لمرحلة عمان/ العام 1996 وهي قصيدة (في بلدة ثانوية).. يرد فيها...
الحياة
الهادئة هنا، مثل حجر
الممتلئة مثل حجر
هذه الحياة...
لماذا نتشبث بها
إن كان امتلاؤها عصياً،
وكان الهدوء، هو، المتاح، حسبُ؟.
فالهدوء= كناية عن المرض وطريقة للهروب منه. ولفهم ثيمة الهدوء(هروب) هنا يمكن العودة للطاهر بن جلون في [تلك العتمة الباهرة].. حيث يعمد البطل عبر تمرين (يوغي) لنقل أحاسيسه نحو الداخل والحياة داخل عقله، لتعطيل علاقته بالعالم الخارجي الموضوع فيه [سجن معتم تحت الأرض]، مما يتيح له البقاء حيا حتى مغادرته السجن بينما يموت أكثر زملائه. هذا التمرين اليوغي هو "حالة من حالات الفكر تؤدي بمن يمارسها الى الانعتاق من التوتر الدائم المفروض عليه من حياته العملية اليومية (حيث أن) الانسان الذي تعمل قشرة دماغه عملا نظاميا، يستطيع وقف أعظم الآم في أدنى نشاط ممكن لدماغه"/ [اليوغا سيطرة على النفس والجسد للمستشرق ج. توندريو والعالم النفسي ب. رئال- ترجمة الياس يعقوب العبدلي/ بيروت- دار المعارف ص9، 22]. وهناك قصائد كثيرة في دواوين الشاعر الأخيرة تتناول الألم والمرض والوحدة وعوارضها.
أما شجرة التين = فهي كناية عن اللعنة حسب مصدرها الانجيلي: (وفي صباح اليوم التالي ، وهو راجع إلى المدينة، جاعَ. وإذ رأى شجرة تين على جانب الطريق اتجه إليها، ولكنه لم يجد عليها إلا الورق، فقال لها: لا يكن منك ثمر بعد إلى الأبد!. فيبست التينة في الحال.) (متى 21: 18- 20). فرمز التينة أنها مغرية ولكنها عديمة الثمر، مورثة للألم. وجلوس بوذا تحتها –بحسب القصيدة- يمثل وجود الانسان تحت اللعنة = (لا جدوى الحياة).
هذه اللعنة التي لا تبدو بعيدة أو منقطعة عن دلالتها التاريخية في حياة بوذا الذي تجمعه بيسوع ووصاياه تناصات أثيرة. إلى جانب اعتبارها رمزا للعهد القديم في المنظور اللاهوتي المسيحي، مقابل الكرمة رمز العهد الجديد. فجلوس بوذا (تحت التين وأوراقه المتساقطة) دالة للقنوط واليأس، كما يعود الشاعر ليكشفه لاحقا.. [ما معنى أن يجلس تحت غصون التين وأيلول أتى، والتينة ليس بها حبّة تين!]. الشاعر هنا يخرج (بوذا) من إطار بوذيّته، ويمنحه – إذا صحّ القول- صورة بشريّة عادية (شخصنة)؛ فهو يأكل ويدخّن ويفكر بالنساء، مما ينزل به عن صورته التأمّلية الروحيّة التي هي عماد التصوّف. لكن الشاعر من خلال ذلك يعمل على التقريب بين الشاعر والمتصوف، لكي يجتمعا على طاولة واحدة أو ربما نقطة واحدة.
نبي يقاسمني شقتي
يسكن الغرفة المستطيلة
وكل صباح يشاركني قهوتي والحليب وسر الليالي الطويلة
قصيدة (الأخضر بن يوسف ومشاغله)
وهناك مجال واسع للاستطراد في هذا المجال، مما لا يدخل في منهج هذه الدراسة، لذا أكتفي بالايجاز الشديد، للقول، أن الشاعر هنا يماهي بين حالة الوحدة والألم وشعور العبث السارتري التي تحاصره في منفاه، وبين صورة بوذا الذي نقل الألم الفكري والجسدي إلى مستوى روحي ذهني للانتصار على العالم، وهي صورة قريبة من احتمال يسوع للآلام.
تعبتُ منها ؛
من متاهتِها : الـمُطارِدِ والـمُطارَدِ ...
بل تعبتُ من الكلامِ
من المجاملة التي تَزِنُ الحروفَ كأنّها ذهبٌ !
ومن سفَري تعبتُ
من المساءِ تعبتُ
من نفسي تعبْتُ !
لندن 25.08.2012
*
المثال (2) قصيدة (جِلسة اللوتس).. النص...
مثلَ بوذا ، أُزمزِمُ ، منتظراً لحظةً لا مثيلَ لها :
لحظةَ
أن يسقطَ الثلجُ أوّلَ !
لستُ أنعَمُ في جِلسةِ اللوتْسِ
جِلسةِ بوذا ،
تيبّسَ عَظمي
سأختارُ نافذةً من ثلاثٍ ،
وأجلسُ ؛
لكنني ، مثل بوذا ، أُزمزِمُ ، منتظراً ، مثلَـهُ
أن أرى الثلجَ أوّلَ .
قد هدأَ الدّغْلُ
والريحُ واقفةٌ مثل شُرْطيّ سَـيرٍ ،
وآخرُ طيرٍ توارى ...
و لا رفّةٌ في الغصونِ التي عَرِيَتْ منذُ دهرٍ .
سماءٌ رصاصيّةٌ تتبدّلُ بيضاءَ ،
هل نصُعَ الكونُ ؟
هل ألقت الأرضُ أوزارَها ؟
ثَـمَّ في الـهُـدْبِ مُرتجَفٌ .
في العيونِ بريقٌ .
وفي نقطةٍ من أديمِ الزجاجِ الفُجاءةُ :
قد سقطَ الثلج ...
لندن 12.01.2013
ربما كانت (جلسة اللوتس) أكثر وضوحا من قصيدة (الناطور) وأكثر بساطة..
منذ السطر الأول يكشف الشاعر تماهيه مع (بوذا)، فهما الآن واحد متحد (مثل بوذا)، وليس اثنين منفصلين.. فبلفظة (مثل) ألغى المسافة والفارق.. وهو لا يجذب الرمز إليه كما في القصيدة السابقة، وانما هو الشاعر الذاهب اليه ليكون مثله. وبعد أداة التشبيه والمطابقة (مثل) تسود القصيدة صيغة المتكلم (أنا) والعبارات الفعلية بامتياز.. [أزمزم، أنعم، سأختار، أجلس، أزمزم، أرى،..]..لكن حضور (ذات) الشاعر المكثف ليس الغرض منه ابراز الذات، فقد اختزل نفسه مبتدأ في معطف (بوذا) لتحقيق حالة من الاتحاد [نفسفكري] للدخول في اللحظة الصوفية (العتمة الباهرة) بتعبير الطاهر بن جلون. هذه العتمة الداخلية/ الصوفية هي عتمة بيضاء، نوارنية، يعبر عنها الشاعر بالثلج، وهو المهيمنة الفكرية الثانية الى جانب مهيمنة (الأنا) في النصف الأول للنص.
يقول الشاعر- بوذا.. ان الغرض من جلوسه هو انتظار هطول الثلج، رؤية أول هطول الثلج. ولهذه اللقطة الأولية متعة ماتعة وحبور نفسي عميق.. في النصف الثاني تسود حالة من (هدوء) أيضا .. [قد هدأَ الدّغْلُ
والريحُ واقفةٌ مثل شُرْطيّ سَـيرٍ ، وآخرُ طيرٍ توارى ...و لا رفّةٌ في الغصونِ التي عَرِيَتْ منذُ دهرٍ .]
يقتنص الشاعر مراحل الهدأة الكونية تلك.. وكأن الطبيعة كلّها تتحضر لتشهد هطول أولى ذرات الثلج. والثلج ابيض. البياض يحتل مساحة شاسعة من شعرية سعدي، ويمكن تخصيص باب خاص بها.
أفُقٌ أبيضُ .الساحةُ الدائريّةُ بيضاءُ . سقفُ البناياتِ أبيضُ.
والشجرُ المتضائلُ أبيضُ .في البُعْدِ تبدو البحيرةُ بيضاءَ بيضاءَ .
حتى السياجُ الذي فقدَ اللونَ قد صار أبيضَ . ممشايَ أبيضُ.
شَعري الذي طالَ دهراً لأضفِرَهُ ... أبيضُ . الغـيمُ فوقَ
الـمَراكبِ أبيضُ . والورَقُ المتناثرُ في غرفتي أبيضُ . الضوءُ
أبيضُ. ذاكرتي تأفُلُ الآنَ ، بيضاءَ . لا نخلَ فيها ولا نهرَ ...
كلُّ النساءِ اللواتي مررْنَ على شرشفي، يرتدِينَ العباءاتِ بيضاَ.
سأبسِطُ كفّيَ بيضاءَ من غيرِ ســوءٍ . دمي أتخَـيّـلُُهُ أبيضَ.
القِطُّ ، هذا الذي يتربّصُ بالطيرِ ، أبيضُ . والطيرُ أبيضُ .
أغمضتُ عينيَّ حتى أرى ، مثلَ ما أنتَ ، دوماً ، ترى ...
قصيدة (سـيمفونيّةٌ مَـرْئِـيّـةٌ) / 15- 1- 2013

[سماءٌ رصاصيّةٌ تتبدّلُ بيضاءَ ، هل نصُعَ الكونُ ؟].. الطبيعة كلّها تعيش حالة تحوّل، حالة ولادة جديدة، نوروز آخر.. فكلّ الألوان تتحول للأبيض. اللون الأبيض غني بالدلالات، ووظيفته رمزية في القصيدة. دلالتها الأهم عند سعدي ارتباطها باحتفالات عيد الميلاد (رأس السنة الميلادية). ويساعد التاريخ الذي يذيل القصيدة في تعيين هوية الرمز غالبا. الدالة الثانية للبياض هي الاشارة للموت، - حسب تشخيص الدكتور صلاح نيازي لوظيفة البياض في مسرح شيكسبير-. والبياض يمكن أن تكون له دالة الصفاء الذهني والحياة الروحية في حالة الصوفية كذلك.
لكن سعدي يوسف يضيف دالة جديدة للبياض ولفكرة التحول السنوي ممثلة بقوله [هل ألقت الأرضُ أوزارَها ؟] والدالة على فكرة/ طقس.. التطهير. والتطهير حاجة انسانية ملحة، احتلت مساحة مرموقة من فكر أرسطو، وانعكست في الفكر المسيحي، المذهب الكاثوليكي تحديدا.
التطهير في البوذية والديانات اليونانية والكاثوليكية يحصل من خلال احتمال الآلام، والسيطرة على الغرائز والمشاعر الجسدية. وهناك جماعات غالت في الممارسة والعقيدة هذه إلى حد ايذاء الجسد كالرهبان الفرنشسكان أو الطائفة المورافية التي تغالي في البكاء وتبكيت النفس [كما لدى بعض اليهود الأرثوذكس]. وتوجد جماعات وطقوس بوذية مغالية في شرق آسيا، وكذلك السيخ وبعض الشيعة في العراق. أما فكرة التطهير في الاسلام فتتم بمجرد أداء مراسيم زيارة (الكعبة).
لكن المضمون الأعمق وراء فكرة التطهير تتمثل بالولادة الجديدة، والتخلص من الانسان (العتيق) وأفضل من وصفها وعبّر عنها هو بولس الرسول.
نصاعة الكون وهطول الثلج وسيادة البياض في الطبيعة هو دالة اجتماع السماء والأرض لمباركة بداية جديدة في حياة الطبيعة..
الـمرْجُ زهورٌ بِيضٌ
درْبُ الحيّ السّكنيّ الموحشِ ( حيثُ أُقِيمُ ) زهورٌ بيضٌ
سقفُ دفيئةِ جاري الأسكتلنديّ زهورٌ بيض
ساحتُنا الخـلْـفـيّةُ والبستان زهورٌ بيض
مَرقَى البيتِ زهورٌ بيض
فوق قميصي الورديّ زهورٌ بيض
وحذائي في الممشى ملأتْـهُ زهورٌ بيض
وعلى السيّاراتِ ( كأنّ زواجَ الإسكندرِ حَلَّ ) زهورٌ بيض
بابُ الحانةِ غطّـتْـهُ زهورٌ بيض
وعلى شَعري تاجٌ ضفَرَتْهُ زهورٌ بيض
وصديقتيَ النمساويّةُ تصنعُ ( في الموسمِ ) حلوى من زُبْدٍ وزهورٍ بيض
قصيدة (بَـيــاضٌ) / 11-5-2012
تبقى العلاقة مع رموزية بوذا في شعر سعدي هي علاقة نفسذهنية داخلية، تمتد عبر مشاعر الوحدة ووحشة الوجود ومعاناة الألم، وهي علاقة مستمرة حاضرة كلما حضرت عواملها، وبشكل يمكن معه القول: أنها احد شواطئ الصوفية في شعر سعدي يوسف، اذا اتفقنا مع أدونيس.. أن الشعر - بحدّ ذاته- تجربة صوفية!.
في المقارنة بين بوذا (الناطور) وبوذا (جلسة اللوتس) يلحظ ارتباط الأولى بحالة التشاؤم، والكناية عن الألم والمرض والوحشة واللاجدوى (دالة التين)، بينما تكشف الثانية عن حالة الامتلاء والتفاؤل (دالة اللوتس) واستقبال عام جديد في دورة من دورات الطبيعة تتوجها حالة تطهر الطبيعة من (أوزارها) وأشنات الماضي.
في القصيدة الثانية تتحقق حالة الاتحاد والانسجام بين الشاعر والنبي القديس (بوذا). يصبح الاثنان واحدا. ويلعب البياض الشمولي الذي - يتوّج رأس- السنة الجديدة، دالة انطلاقة وعنفوان ولادة وبداية جديدة مباركة في احتفالية تشترك فيها السماء والأرض والبشر.. وهو ما يقودنا للمرموز الآخر في هذا المبحث.. مراميز مسيحية..
أطْبِقْ جَفنَيكَ
لتســمعَ .
أطبِقْ جفنَيكَ
لتفتحَ باباً سِــرِّيّـاً في القلعةِ .
أطبِقْ جفنَيكَ
لتدخلَ بستانَ الخشخاشِ البـرّيّ ...
الليلةَ لن تَـتَـنَزَّلَ روحٌ
لن تأتيكَ ملائكةٌ في هيأةِ طَـيرٍ
لن تسمعَ قيثاراً
أو أجراسَ لُـجَـينٍ في الماءِ
ولن تلمحَ غزلانَ الرنّــةِ في السهْبِ الأبيضِ ...
هذي الليلةَ
تُطْـبِـقُ جفنَيكَ لِـتُـبْـصِــرَ .
أطبِقْ جفنَيكَ
ولا تستيقظْ
إلاّ عندَ صياحِ الديكِ الذهبيّ !
قصيدة (ترنيمة للميلاد) / لندن 24.12.2010


(15)
ثانيا: رموز مسيحية..
حضور الرموز المسيحية في شعر سعدي لا يخرج عن أمرين: علاقته المباشرة بالناس والفلكلور، وحضور راهنية اللحظة في منطلق قصيدته. وراهنية اللحظة هي راهنية جغرافية تصل بمقام مغتربه الأوربي. هذا المغترب الأوربي عند العربي المقيم المنقطع اليه، ليس غير غربة واغتراب، ووحشة وافتقاد، حياة داخلية أكثر منه حياة خارجية. المغترب الأوربي أو الأجنبي لغير أبنائها هي حياة (غيتوات)، أي اجتماع أبناء الجاليات مع بعضهم. ولكن إذا افتقدت تلك الرابطة –كما في الحالة العراقية-، يعاني الأفراد من متاعب الوحدة والغربة واعتلاج الأشواق المستحيلة.
وشعر سعدي الأوربي يقدم أفضل تمثيل للغربة والوحدة وآلامها وهلاوسها والتحفز الدائم للذاكرة وحضور الماضي في الراهن. الشاعر لا يعيش الراهن إلا في صورة الماضي. الذكرى تؤطر يومياته. وكلّ مادة أو إشارة راهنية تحيل على مقارَب ماضوي. من هذا الباب يشتد استحضار الشاعر للفلكلور، لطفولته وعائلته وكلّ ما يمكن استنقاذه واستحياؤه مجددا ليشرق في لبوس الراهن الحيّ. وتقدم قصيدة (تنويع على " ما مقامي بأرض نخلةَ " للمتنبي) فكرة عن منظور علاقته بالمرموز (المسيح)..
مثال (1): المسيح وشعبه..
ما مقامي بريفِ لندنَ إلاّ كمقامِ المسيحِ بينَ اليهودِ ،
الليلُ أعمى ، والهاتفُ الأسوَدُ ملقىً ، هامدٌ في بُحيرةٍ من همودٍ
ليس من زائرٍ . تلَبَّثَ حتى الطيرُ . أمّا أبناءُ جِلْدي العراقيّونَ ... لا تنْكأ الفضيحةَ و القيحَ ! رذاذٌ على النوافذِ . ريحٌ لا أُحِسُّــها دخلتْ بين قميصي والجِـلْدِ . ماذا سوف ألقى إنْ عشتُ عاماً آخرَ ؟
الهاتفُ ملقى .
والموتُ دونَ شهودِ ...
خَــلِّها ،
خَــلِّها تمرُّ
سأبقى ، الفرْدَ ، سيفاً
لم يذهب الناسُ الأُلى قد حـبَـبْــتُهمْ .
إنهم في كلِّ غصْنٍ خَضــدْتُــهُ
إنهم في كلِ كأسٍ شربتُها
كلِ رقصي
من ركعةٍ وســجودِ .
................
................
................
ما مقامي بريفِ لندنَ إلاّ كمقامِ المسيحِ بينَ اليهودِ
لستُ ألقى سوى العجائزِ
بُرْصاً
والمريضاتِ
من ليالي الجنودِ .
*
ما مقامي بريف ِلندنَ إلاّ كمقامِ المسيحِ بين اليهودِ .
(تنويع على " ما مقامي بأرض نخلةَ " للمتنبي) / لندن 04.03.2012
التمعن في هذه القصيدة يكتشف أمرين: الأول أن القصيدة ليس لها علاقة مباشرة بالمسيح، بقدر ما هي محاولة محاكاة نص تراثي شائع؛ والثاني أن النص لا يتحدث عن المتنبي وانما يستعير قصيدته مدخلا للتعبير عن حالته الخاصة في مقام الغربة.
على عكس (البياض) في الحالة الصوفية (بوذا) يهيمن اللون الأسود في هذه القصيدة [الليلُ أعمى ، والهاتفُ الأسوَدُ ملقىً ، والموتُ دونَ شهودِ ...] أما البياض فيأخذ صورة (البرص/ المرض). فالتشاؤم هنا في ذروته بسبب الوضع النفسي، ما ينعكس على نظرته للعام الجديد [ماذا سوف ألقى إنْ عشتُ عاماً آخرَ ؟].. فدالة المسيح هنا تحيل على التشاؤم بسبب قرفه من العزلة. هذه النتيجة تتأكد في نص آخر أيضا مما يتصل برموزية المسيح ..
مثال (2): مريم والمسيح..
ويقولُ بدْرٌ :
مريمُ العذراءُ ...
" تاجُ وليدِكِ الأنوارُ لا الذهبُ "
ولكني هنا ، في لندن الكبرى
مع المذياع والـمِـشوافِ ، يا بدرُ العزيزُ
يَـؤودُني الذهبُ ؛
لا مريمُ العذراءُ تحت النخلةِ الفَرعاءِ
لا الطفلُ الإلهيُّ ...
المدينةُ ، سيّدي ، عطَبُ .
عذارى !
ربما ، من بعدِ عشرينَ افتراشاً !
أيَّ طفلٍ نحنُ ننتظرُ ؟
المسيحُ مضى ، كما تمضي الأغاني دائماً ...
صلَبوهُ
أو قالوا لنا : اخترَعوهُ من بُرْديّةٍ ...
والآنَ
في الميلاد
عند عشيّة الميلادِ
تنفتحُ المخازنُ :
ليلُنا ذهبُ !
.................
.................
.................
سلاماً ، بدرُ
وحدَكَ قلتَ :
" تاجُ وليدِكِ الأنوارُ لا الذهبُ "
قصيدة (عشيّةُ الميلاد) / لندن 22.12.2012
ميزة هذه القصيدة أنها (نص مقارَن) يضعه الشاعر قبالة نص لشاعر آخر هو بدر شاكر السياب. ويمكن القول ان كلا النصين –مما يتصل بمرموزية المسيح- هما من النصوص المقارَنة، سواء كانت المقارَنة موجبة كما في [تنويع على أرض نخلة] = نص على نص، = (محاكاة)؛ أو كانت المقارنة سلبية نقضية كما في [عشية الميلاد] = نص تعارضي = نص مقابل نص.
لكن لماذا اختص الشاعر مرموزية المسيح بهذه السلبية والتشاؤم، وهي غير مألوفة بالقياس لصورة المسيح المتصلة بالإلفة والمحبة والسلام الداخلي؟.
الجواب.. انه حاول استعارة رمز يسقط عليه حالته الشخصية، فهو هنا يتحدث عن نفسه اكثر مما يتحدث عن المسيح. فالشاعر –وكما سلف القول-، لا يركز على الموضوع [object] في تعامله معه، وانما يؤكد على علاقته به، وطبيعي أن تشتق العلاقة سماتها من المصدر [factor] الذي هو الشاعر، منشئ القصيدة. وبالنتيجة فأن كلّ من سعدي وبدر يلتقيان في طريقة معالجتهما لرمز المسيح في شعرهما، أي اخضاعه للحالة الشخصية للشاعر واستنطاق الرمز بما يستجيب لحاجة الشاعر، وهو ما سبق للناقد احسان عباس تشخيصه في دراسته لشعر السياب. والملاحظة الثانية التي وصف بها الناقد عباس معالجة السياب للمسيح، تكاد تنطبق أيضا على الشاعر سعدي، وهي اعتماده مصادر غير مسيحية (الانجيل) في التعامل مع الموضوع. مما يؤكد قوة الثقافة الشفاهية (الشعبية) في التعامل مع كثير من الرموز الشعبية الشائعة، حتى من قبل الأدباء والمثقفين المعروفين كالسياب وسعدي والبياتي. وتتأكد المرجعية الشفاهية لسعدي بقوله [لا مريمُ العذراءُ تحت النخلةِ الفَرعاءِ ، أو قالوا لنا : اخترَعوهُ من بُرْديّةٍ ...]. بل يكاد يكذب الأمر جملة: [لا مريمُ العذراءُ تحت النخلةِ الفَرعاءِ/ لا الطفلُ الإلهيُّ . المدينةُ ، سيّدي ، عطَبُ ./ عذارى !/ ربما ، من بعدِ عشرينَ افتراشاً !/ أيَّ طفلٍ نحنُ ننتظرُ ؟/ المسيحُ مضى ، كما تمضي الأغاني دائماً ... ].
وبينما كان طموح الشاعر الحصول على تعزية من خلال رمز المسيح، يعمل على تحطيم الرمز، وتحويل سياق الاستعارة، إلى مجال جدل فكري مع نص عمره ستة عقود لشاعر مضى قرابة نصف قرن على وفاته [1964- 2012]. علما ان السياب لم يكتب نصا للجدل ولم يخص به شخصا محددا. ربما لم تظهر صورة الجدل والمناكدة في نص المحاكاة [مع المتنبي(915- 965م)]، كما يظهر في نص معارض [مع السيّاب (1926- 1964)].
يعتبر بدر شاكر السياب وسعدي يوسف، أكثر الشعراء العرب المعاصرين اهتماما وشغفا بالرموز والأفكار المسيحية، مع الأخذ بنظر الاعتبار شسع المسافة الزمنية في علاقتهما بتلك الرموز والتي تصل إلى نصف قرن. وبحسب الباحثة الايرانية فاطمة فائزي، فأن السيّاب منذ عام 1953 يكتب قصائد [ممهورة بهذا الطابع «المسيحي»]. وينسب الدكتور يوسف عزالدين [1920- 2013م] كثرة الرموز المسيحية في شعر السيّاب إلى تأثره (العاطفي) بالشاعرة الانجليزية أديث ستويل [1892- 1969م] وما يتردد في شعرها من رموز المسيح والصليب، فوظفها في شعره وتميز بها. و وكان الأديب جبرا ابراهيم جبرا [1920- 1994م] يعير السيّاب ما يصله ويتوفر عليه من كتب الشعر الانجليزي.
فيما يعود ظهور تلك الرموز في قصائد سعدي يوسف إلى شعره المتأخر، والمقترن بإقامته في الغرب [منذ 1999]. وبينما تنسحب حالة المعاناة والألم الشخصية لدى الشاعرين على تعاملهما مع رموزهما الشعرية، فأن فلسفة التعامل مع الرمز مختلفة بين الأثنين. ان هذه المقارنة بين الأثنين، تقتضي الاشارة إلى جملة المتلازمات المشتركة بين الأثنين وهي في العموم..
وحدة مسقط الرأس ومواطن الطفولة في أبي الخصيب من محافظة البصرة. كلاهما من عوائل فلاحية، وتأثرا بالأفكار الشيوعية في وقت مبكر. السياب يكبر سعدي بثمانية أعوام، وهذا يشير الى اشتراكهما في فترة الشباب في أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات. كلا الشاعرين لم ينشرا سيرهما الذاتية، مما يضيع كثيرا من الخيوط والمعلومات المشتركة مما يدعم واقع البحث الأدبي. يقول الشاعر سعدي يوسف أنه زار بدرا في فترة مرضه الأخير، وأن بدرا كان يطلعه على قصائده الجديدة ويأتمنه عليها قبل أن تنشر. ولكن سعدي كان في الجزائر في عام 1964، والذي توفي فيه السيّاب.
توفي الشاعر السيّاب عن ثمانية وثلاثين عاما، وعن أربعة مجاميع شعرية. والسيّاب الشيوعي، مثله مثل سعدي ومحمود درويش [1942- 2008] وخليل حاوي [1919- 1982] وغيرهم، انتكس في سنواته الأخيرة، وعانى من حروب الرفاق القدماء ومن خصائص الخذلان والعزلة والموت وحيدا وغريبا. فهذه الأمة لا تترك عظماءها يموتون قبل ان تنال منهم، بل تدفعهم للموت دفعا.. وليست هذه خصيصة أو نظرية جديدة، وانما تعود بجذورها إلى امرئ القيس والمتنبي والحرب مستمرة.
ان الظروف المتشابهة والأقدار المستنسخة تدفع الشعراء للتماهي في بعضهم، واستعادة (- استعارة) محطاتهم ومعالجاتهم، وكأنهم يشتركون في حياة وتجربة واحدة. والشاعر سعدي هنا، يستعيد السياب في استعاراته المسيحية، كما في غيرها من مظاهر فلكلور الطفولة مثل (اهزوجة بنات الجلبي) المشهورة لدى السياب. ويبقى السؤال: هل كان رمز المسيح ضحية خلاف الشاعرين؟.. هل ثمة خلاف حقا، مباشر أو غير مباشر بينهما؟.. لقد مضى السياب قبل ستة عقود، دون أن يصدر قرار غفرانه من قادة الكليروس الشيوعي العراقي حتى اليوم. رغم أن الفاتيكان غفرت للكثيرين مما تمردوا عليها وخرجوا عنها، ومنحت بعض ضحاياها درجات النعمة والقداسة (saint). وليس حال الشيوعي الأخير بأفضل كثيرا من مواطنه القديم!..
*
مثال (3): عيد الميلاد..
نص- أ
قبل منتصف الليلِ
كانت كنيسةُ قريتِنا في الظلامِ الأليفِ :
الطيورُ التي هجعت سوف تبقى إلى أوّلِ الفجــر .. هاجعةً
وطريقُ الكنيسةِ يبقى الـمُـغَـيَّبَ ...
والسَّــرْوُ في حُلْــمِهِ .
قبل منتصفِ الليلِ
لا شــيءَ إلاّ الظلام ...
........................
........................
........................
أتسمعُ منتصَفَ الليلِ ؟
طيرٌ بلا موعدٍ أعلَنَ الوقتَ بين الغصونِ التي لا نرى .
فجأةً لألأَ النورُ .
بابُ الكنيسةِ يبدو طريقَ نجومٍ،
وأسوارُها سُــلَّـماً للمَجَـرّاتِ.
ها نحن أولاءِ ندخلُ :
نستقبلُ الطفلَ يُولَدُ ، تمتمةً في شفاهٍ عَلاها النبيــذ .

Comm--union-- مُــنــاوَلــةٌ / لندن 27.12.2008
في هذه القصيدة يصف الشاعر أجواء ليلة الميلاد، محاولة نقل صورة (تلفزة) من الخارج حيث القرية يخيم عليها هدوء.. صمت.. وانتظار حدوث شيء. علامة الحدوث هو ظهور نور، أو صدى أجراس الكنيسة. الطقس الذي ينقله الشاعر هنا يعود الى كنيسة كاثوليكية قبل منتصف الليل، وفي أول الساعة (صفر) تفتح الأضواء وتقرع الأجراس، ويتبادل المحتفلون المنتظرون التهاني والتبريكات بالميلاد المجيد.
الطقس رمزي، ذو إطار مسرحي درامي. وفي بعض الكنائس تقوم فرقة تمثيلية من الأطفال بتقديم مشاهد ميلاد يسوع في حظيرة للحيوانات، لعدم حصول مريم ويوسف على مأوى في منزل، وخلال انتظارهما تلك الليلة في الحظيرة يفاجئها الوضع. والقصة حافلة بالرموز. فاطفاء الأضواء قبل منتصف الليل، يرمز للظلمة التي كانت تسيطر على العالم. والطفل يسوع هو النور الذي يشع في لحظة ميلاده، لينقل البشرية من الظلمة (عبودية الخطيئة) إلى النور (الحرية والطريق) وذلك بحسب الانجيل [أنا هو نور العالم، فمن يتبعني لا يعيش في الظلمة أبدا] (يوحنا ). أما الولادة في حظيرة الحيوانات فترمز إلى رسالة التواضع الممثلة بشخص يسوع [أنا وديع ومتواضع القلب]. و(المناولة) في عنوان القصيدة تمثل طقسا رمزيا يتضمن تناول قطعة من فتات خبز فطير (kosher) وقليل من نبيذ (الكرمة) أحمر، يرمزان للمشاركة في جسد ودم المسيح، وبحسب وصية يسوع [كونوا واحدا كما أنا والأب واحد!]. وكلّ هذه الطقوس اختيارية غير ملزمة، وقرار المشاركة فيها هو قرار شخصي بحت.
*
نص- ب
لم أسمع الأجراسَ ...
قد أرهفْتُ ســمعي طولَ ليلٍ لا يكادُ يزولُ
لكنْ ، ولأَقُلْ ما قُـلْــتُــهُ ، لم أسمع الأجراسَ ...
كان الليلُ يثوي هـامداً
لا ريحَ في الدَّغْلِ القريبِ
ولا نُباحَ
ولم تُرَدَّدْ صيحةٌ من أيّ طيرٍ ؛
والبحيرةُ أعتمَتْ.
لم أسمع الأجراسَ ...
.................
.................
.................
في الفجرِ كان ندىً على عشبِ الحديقةِ
ثعلبُ الدغْلِ القريبِ أتى ،
وسنجابٌ
ونورسَتانِ جائعتانِ ،
ثمّتَ عقْعَقٌ يدنو ...
وطائرُ تَدْرُجٍ ،
والشمسُ تومِيءُ. هل أراها؟
......................
......................
......................
أسمعُ الأجراس...
(اجراس الميلاد) / لندن 25.12.2009
تقدم هذه القصيدة صورة عكسية سالبة للقصيدة السابقة، رغم أنهما – بحسب العنوان والاتجاه- تتناولان موضوعا واحدا. يبدأ الشاعر قصيدته بحرف النفي والجزم (لم أسمع الأجراس). أي ان القصيدة هذه تبدأ مع حلول نقطة منتصف الليل حيث تنار الأضواء وتقرع الأجراس. ونفي الأجراس (نفي سماعها) دالة نفي الحدث الذي هو الميلاد. وهي الفكرة التي سبق ورودها في قصيدته المعارضة والمناكدة لقصيدة بدر ورأيه. وحري بالقول ان عنوان تلك القصيدة هو (عشية الميلاد) ومضمونها (نفي الميلاد) ونفي القصة كلّها، ليدفع ببدر إلى زاوية مفردة [سلاماً ، بدرُ/ وحدَكَ قلتَ :" تاجُ وليدِكِ الأنوارُ لا الذهبُ "]. ويمكن ملاحظة ان النصوص الثلاثة تحمل عناوين تتعلق بالميلاد [مناولة/ أجراس الميلاد/ عشية الميلاد] وتواريخها بتدرج الأعوام [2008- 2009- 2012]، ذلك إذا اريد استقراء سياق فكري من التدرج. فالشاعر هنا يكذب الأمر، وينفي حصوله، ويعتبره - ربما- من باب الخرافة والتأليف.
هنا يحق للقارئ التساؤل عن معنى ومبرر ارتباط قصائد الشاعر بتلك الرموز وتفاصيلها التي لا يعنى بها غير شخص له ميل أو شغف بالأمر. وهو ما لا تتأخر صراحة الشاعر في الاعراب عنه، دون موارَبة.
*
مثال (4): عيد الفصح
نص- أ
Easter Sunday in Uxbridge

لا يعرف الناسُ ماذا يفعلونَ
بعيدِ الفِصْحِ ...
يمشونَ في الشارعِ ؟
الأسواقُ مغلقةٌ !
يبقَونَ في البيتِ ، ألواحاً مُسَـمَّرةً أمامَ شاشاتهم ؟
يا ضيعةَ العيدِ ...
ماذا يفعلونَ؟
وأبوابُ الكنيسةِ ؟
حتى هذه انفتحتْ على الرياحِ ...
فلا قُدّاسَ يُغْري !
.........................
.........................
.........................
سيأتي اللحظةَ ، المــطَــرُ !

(أحد الفصح في اكسبرج) / لندن 12.04.2009
يبدأ اسبوع الآلام بالتحضير للفصح الذي يسبق الصلب. التسمية الحقيقية للفصح هو (العبور) [pass over] أي الانتقال من حالة العبودية للحرية. وترجع تاريخانية المناسبة لخروج العبرانيين من (أرض العبودية مصر) وعبور البحر الأحمر إلى أرض الحرية سيناي. اما الفلسفة المسيحية فقد استعارت مفهوم الفصح/ العبور للتعبير عن الانتقال من حال العبودية (الحياة بالجسد وغرائزه) إلى حال الحياة بالروح (حياة التعفف والسموّ والزهد). وفي دعاء بولس الرسول يقول [ربّ قرّبني من السماويات، وابعدني عن الأرضيات]. فالفكر المسيحي في جوهره هو فكر رموز، والحياة المسيحية تعتمد على مدى فهم الرموز وعمق تأويلها الروحي، وليس طقوسا خارجية وجملة حركات وكلمات مجردة.
في خلال تحضيرات الفصح يخلو طعام المفصح من أي مادة حيوانية [لحم، زيت، بيض] إسوة بالطعام النباتي السماوي [المنّ] الذي تغذى به العبرانيون في سيناي. وهو ما يلمح اليه الشاعر في مكان آخر.. [وصديقتيَ النمساويّةُ تصنعُ ( في الموسمِ ) حلوى من زُبْدٍ وزهورٍ بيض / قصيدة (بَـيــاضٌ) / 11-5-2012]. وهو نوع من خبز (فطير) يابس [Kosher] ولا يدخل فيه زبد أو بيض.
قصيدة (أحد الفصح) تنحو منحى قصائد الميلاد في تقديم صورة فيلمية خارجية لحالة القرية وشوارعها وصورة الكنيسة من الخارج. ثمة حالة من الهدوء والسكون تطبع المجتمع، وفي أيام الآحاد لا تفتح المحلات والمتاجر أبوابها، فتكون الكنيسة هي الملاذ، فهو يوم مخصص للعبادة. لكن صورة الشاعر تبقى خارجية، دون المضامين الروحية والداخلية للمناسبة ورمزها.
الجمعة التالية لأحد الفصح، هي جمعة الصلب، كما في القصيدة التالية..
نص- ب
Good Friday

لَكأنني أمسَيتُ مقذوفاً من البــحرِ المحيطِ على رمالِ الشاطئ المجهولِ.
أطرافي مُخَلْخَــلــةٌ ، وأثوابي ممزّقةٌ ، وملءَ فمي طحالبُ.كانت الشمسُ
الخفيفةُ تختفي . يأتي سحابٌ أسْودُ . المطرُ المباغِتُ يغسلُ المِـلْحَ الثخينَ
على ضفائريَ .انتبهتُ إلى شُجَيراتٍ قريباتٍ من الكُثبانِ. أزحفُ.كـــــان
وجهي يمسحُ الرملَ الطريَّ . يدايَ ترتجفانِ . يَمْرُقُ نورسٌ ويغيبُ .أزحفُ.
أبلُغُ الشجرَ .المساءُ يكادُ يأتي. البحرُ يأخذُ مثل َما يُعطي.وهاأنذا هُلامٌ
من عطايا البحرِ.ساقاي اللتانِ اصطَـكَّـتا لن تحملاني أبعَــدَ. الأشجــارُ
مـأوىً لي وسقفٌ .سوف يأتي الليلُ بالأشــــباحِ.هل تــأتي الذئابُ ؟
بُـنَـيَّتي: أرجوكِ أن تتذكّريني الآنَ ...
أرجوكِ !

(الجمعة الحزينة) / لندن الجمعة 10.04.2009
يحرص الشاعر على متابعة المناسبات والاحتفالات المسيحية في مجتمع وكنيسة القرية الانجليزية المقيم فيها، وهما أثنان رئيستان: مناسبة الميلاد [ولادة يسوع] مع بداية كل سنة جدية في التقويم الميلادي، ومناسبة الفصح المسيحي [صلب يسوع وقيامته] مع أول الربيع. ولا تعامل المناسبات المسيحية كأحداث وطقوس ملزمة، وانما كمعاني روحية ورسائل اجتماعية للاجتماع والتسامح وترسيخ قيم الغفران والمحبة، وتناسي العتيق.
تعبير (الجمعة الحزينة) [Good Friday, Kar Freitag ] إشارة لواقعة الصلب في ذلك اليوم، ولا يقابل من قبل المسيحيين بالحزن وانما بالأمل المترتب عليه في رجاء القيامة من الأموات (الخلاص من عبودية الخطيئة والموت). وتتحقق القيامة (الولادة الجديدة) يوم الأحد حيث تنطلق الاحتفالات وتبادل الفرح والتبريكات.
وقد تخذ الشاعر من اسم المناسبة، عنوانا لقصيدته، دون أن ينعكس ذلك في مضمون النص. فهو هنا يتناول حالة ذاتية، وربما كانت تصويرا لحلم دهمه في نومه وهو يغرق في لجة الموت وقواه تخذله.. وتبلغ القصيدة ذروتها في السطر الأخير في صورة نداء يرفعه الى ابنته [ بُـنَـيَّتي: أرجوكِ أن تتذكّريني الآنَ ...أرجوكِ !]. والقصيدة قطعة انسانية شعورية رائعة وعميقة، تؤكد عمق حاجة الانسان للانسان والتذكر. فالخلود في معناه أيضا حياة مستمرة في الذاكرة الاجتماعية والتاريخية. والموت هو النسيان. النسيان هو الموت. والمسيح اليوم هو حيّ في الذاكرة الانسانية والعالمية، تتجدد ذكراه سنويا، ويستذكره أتباعه باستمرار ويجتمعون باسمه كل اسبوع.
هل ثمة صلة بين الحادثة ومادة النص المغرقة في الذاتية. هل قابل الشاعر بين موت المسيح وصورة موته في الحلم. وهل دعوة بنته لتذكره هي صورة التشبث بالخلود. هذه الصورة تشارف تعلق السياب باسطورة تموز والميلاد بعد الموت، صورة خلود جلجامش عبر الملحمة.. لكن فكرة المسيح ليست مجرد خلود جامد، وانما هي حياة جديدة، حياة ثانية تنتصر على المادة والجسد والنفس، الأشياء الثلاثة التي تجذب البشر الى اسفل، للعبودية واللامنتهى.
وفي مجال المقارنة مع السيّاب، ترى فاطمة فائزي أنه [في «المسيح بعد الصلب» يغادر السيّاب وضعية الإحالة الجزئية على الرمز ـ المسيح ليعتمد هذا الأخير رمزاً كليّاً و عاماً تشاد القصيدة بأكملها على أساسه. يشكلّ هذا التحوّل إنعطافاً مهماً في عمل السيّاب الشعري يمكّن اعتباره في المعطيات الخاصة بالمرحلة التي جاء فيها تطويراً للتعبير الرمزي الذي كان يلجأ إليه، و إرتقاء به إلى مستوى أشدّ إكتمالاً و أكثر غنى.]. فأن استعارات سعدي للرموز تبقى مجتزأة، وانعكاسية في مرآة الذات او الحالة النفسية للشاعر. وفيما ترى الباحثة فائزي ان السياب يستعير فكرة القيامة من الصلب وإعادة بعث الحياة في (جيكور)، والتي تقابل فكرة عودة تموز السومري لبعث الحياة في الربيع، المختلفة عن جوهر فكرة قيامة المسيح، لا تصل قصيدة سعدي الى هذه الذروة. فهو هنا لا يتجاوز البعد الذاتي لأزمته النفسية، بينما يتجاوز السيّاب أزمته وآلامه ويبقى ملتصقا بعقيدته الجوهرية في الأمل والتغيير الاجتماعي والغد الأفضل.
*
مثال (5):
نص- أ
غيومٌ رمادٌ تُـغطِّـي أعالي التلالِ
البحيرةُ قد أوشكتْ تتجمّـدُ ،
والطيرُ غابْ .
سنذهبُ عصراً إلى حانةِ القريةِ
البيرةُ ابتردَتْ
والستائرُ مثقلةٌ بالضّبابْ .
تظلُّ الكنيســـةُ ، دوماً ، كما هيَ ، في السفحِ
في الساحةِ ، الـجُـنْـدُ قتلى
وفي الـبُرجِ كان الغرابْ .
مساءٌ بلا لَـوعة ، أو شُــموعٍٍ لذكرى
مساءٌ ، و لا مِن أغانٍ
مساءٌ يُطَـوِّحُ بي في الـمـفازةِ ، حيثُ الخرابْ .
(رُبـاعيّـــــةٌ) / لندن 20.12.2011
تعتمد القصيدة البنية الوصفية الخارجية (تصوير فيلمي) كما في قصائد سالفة. مكان التصوير هو ساحة القرية الانجليزية. التصوير – وهذه ملاحظة جديرة بالانتباه والدراسة- يبدأ من السماء.. [أن الشِعرَ يقدِّمُ الخطوةَ الأولى في السُّـلَّـمِ الذي يحملُ البشرَ إلى السماءِ.- س. ي] الغيوم/ أعالي التلال، نزولا نحو العمق/ الوادي [البحيرةُ قد أوشكتْ تتجمّـدُ] – صورة البحيرة في الشتاء الأوربي-،وعودة إلى (الطير)، ذلك الرسول المتنقل بين السماء والأرض. عين الشاعر هنا تتنزل من السموات.. تتابع رحلة الطير إلى الماء.. المتجمد، ثم تعود نحو السماء.
خط الأفق = خط النظر= نقطة التقاء السماء بالأرض/ الماء= نقطة الأفق هي الطير المتحرك= عين الشاعر.
حركة عين الكامرا (الشاعر في النص)، تتم في حالة تامة من غياب المشاعر، دالة غياب الذات. اقتصار لغة السرد/ الوصف على الموضوع [الشخص الثالث]. هل ثمة صلة بين شتاء الانجماد وبرود المشاعر، أم مقتضيات التصوير الفيلمي الموضوعي (المحايد).
المقطع الثاني يختص بوصف أرضية القرية.. وهي تتحدد بين (حانة القرية) وغرفة الشاعر حيث يراقب الخارج عبر (الستائر) والنوافذ الممسوحة بالصباب. ثمة ايحاء هنا للعزلة والحنين للحركة والناس والمشاركة – في صورة الحانة-. الحانة ليست مكان للسكر والعربدة كما في (أفلام الكابوي الأميركية!!)، وانما مكان للقاء والمشاركة الانسانية. [البيرة ابتردت] تعبر عن دعوة للاجماع، حيث البيرة يفضلها الشارب باردة. وربما اريد بها القول أنها (سخنت) لطول الانتظار، أو لأن الحانة مغلقة، والعبارة هنا غير واضحة المغزى. يبدو ان التعبير الأصلي كان (القهوة ابتردت)!.
في المقطع الثالث تظهر الكنيسة. مكانها على سفح التل، طريق الصعور الى السماء. الكنيسة ينظر اليها من خلال البرج (المنارة) حيث تبني الطيور أعشاشها، وتضرب النواقيس بدعوة الاجتماع.
خلال حركة العين من الكنيسة إلى البرج، يقع النظر على صورة مقحمة [في الساحةِ ، الـجُـنْـدُ قتلى]. هنا يقتضي مزيد ضوء لانارة أجواء النص وتوصيفه للمكان.
تتشكل جغرافيا المكان في القرية الأوربية من تزاوج الجبل والسهل. الكنيسة تحتل جانب الجبل، وهي نقطة البؤرة في عالم القرية [نظرية المكان الأوربي]. بجانب الكنيسة وأمامها ساحة، هي ساحة القرية، ومركز نشاطها الاقتصادي والاجتماعي، تحيط به بعض المتاجر. وفي مكان قريب [مجاور، مقابل] للكنيسة دار ضيافة [Guesthouse] تشتمل على قاعة واسعة للطعام وغرف لمبيت الضيوف (الغرباء). وغالبا يكون للمطعم ملحق صيفي يطل على الساحة وبوابة الكنيسة، يعتمد نشاط المطعم على يومي السبتت والأحد، ومعظم رواده هم من الخارجين من صلاة الكنيسة، حيث يواصلون اجتماعهم ومرحهم حتى قبيل المساء. وفي مكان غير بعيد من ساحة القرية والكنيسة يقوم مقر دار البلدية (حكومة القرية) ودائرة البريد. وحوالي هذا المركز.. تمتد مساكن الأهلين وتتقاطع الشوارع الموصلة بالمراكز الأخرى. ونتيجة لأهوال الحرب التي شهدتها أوربا، والتخلخل السكاني والدمار المادي الذي لحق بها، تحتضن ساحة قرية، نصبا تذكاريا، يوضع في جانب أو مقدمة مدخل الكنيسة، يتضمن أسماء الناس القتلى والأحداث المؤسفة خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية. ويحاط النصب بالزهور والمياه غالبا كناية عن الخلود.
فالاشارة الواردة في القصيدة عن الجنود القتلي في الساحة، انما هي اشارة للنصب التذكاري للجنود القتلى الخالدين في ذاكرة المكان والانسان الاوربي. وكان أفضل لو وصفها الشاعر [في الساحة، نصب القتلى] أو [ذكرى القتلى] وهي صورة مدنية للحضارة والوفاء لمن ماتوا لكي تستمر الحياة في القرية من بعدهم. حري بنا نقل هذه الصور والشواهد الانسانية المشرقة لمجتمعاتنا وبلادنا الأم، لربما تتذكر المجتمعات أسماء القتلى وضحايا الحروب والعنف والارهاب، فينشأ وعي جديد ينبذ العنف والأحقاد ويخدم التسامح والانسجام والحياة.
في المقطع الرابع تظهر أربع كلمات [ذكرى، لوعة، أغانٍ، مفازة] يقوم الشاعر باسقاطها على صورة (ساحة) القرية، ويختم بكلمة واحدة هي [الخراب]. نص آخر من بنات التشاؤم اليوسفي المعبرة عن عمق آثار الوحشة والعزلة وصعوبة الانسجام في المكان/ المجتمع الجديد، ومبرر آخر لالتصاقه الحميم باللغة واستغوار أطلال التراث والثقافة الشفاهية، لاطفاء (لوعة) النوستالجيا، ولكن، دون نجاح يذكر، كما سبق في العلاقة مع بوذا.
ان تأسيس الشاعر لعلاقته بالمكان الأوربي، على أساس نصي [المتنبي، بدر السيّاب]، قاد إلى علاقة سلبية مجترة بالمكان والمرأة الأوربية، ومنع رؤية الشاعر للجوانب الانسانية والحضارية المشرقة في الحياة الأوربية، وقيمها الحيوية في الانفتاح والانطلاق والقبول. والشاعر عبر حنينه الطاغي للمكان العربي والبصري، وعجزه عن التواصل معه، كأنه يلقي ياللائمة على الرموز الغربية ويحكم منذ البدء برفض المكان الغربي، معتبرا أنه لا يصلح أن يكون له وطنا، وهو ما يذكر بموقف المفكر هادي العلوي، لكن رفض العلوي اقترن برفض الاقامة في أوربا، والبقاء في المكان العربي حتى موته في سوريا (1998)، وهو ما ينطبق على أدباء ومفكرين آخرين، كالجواهري والبياتي.

نص- ب
قدّيسُ إيرلندةَ سانت باترِك
Saint Patrick
تراه اليومَ في الحاناتِ :
ملفوفٌ وخنزيرٌ وما يطفحُ من بيرتها السوداءِ ...
(مجّاناً ! )
و دوماً ، كنت أمضي ، ظُهرَ هذا اليومِ نحو البارِ
كي أحظى بملفوفٍ وخنزيرٍ
وبالبيرةِ مجّاناً ...
ولكنيَ لم أذهبْ هناكَ اليومَ ؛
لم أذهبْ لأني كنتُ وحدي :
ليس من سيّدةٍ تُعينني على احتمالِ العيدِ و الملفوفِ والخنزيرِ ...
هل كنتُ شقيّاً ؟
ربّما
ليس لأني لم أكنْ في البارِ ...
(القدّيس الإيرلنديّ) / لندن 17.03.2012
في هذا النص لا ذكر للكنيسة أو المسيح، وانما لقديس ابرلندة [سانت باترك (385- 461م) يجري الاحتفال بيوم وفاته سنويا في السابع عشر من مارس]. والاحالة منه على الحانة. وهي صورة اخرى لضيق الشاعر واستيائه، الذي يفرغه عبر هذه الرموز.. في مكان آخر، يشير الشاعر لكرهه للبيرة السوداة، وهي هنا منسوبة -مجازا- للقديس [Of Ireland Patron Saint]. وكأن سبب استيائه هو افتقاده المرأة التي كان يحضر رفقتها تلك المناسبات [و دوماً ، كنت أمضي ، ظُهرَ هذا اليومِ نحو البارِ/ كي أحظى بملفوفٍ وخنزيرٍ / وبالبيرةِ مجّاناً . ولكنيَ لم أذهبْ هناكَ اليومَ ؛/ لم أذهبْ لأني كنتُ وحدي :/ ليس من سيّدةٍ تُعينني على احتمالِ العيدِ و الملفوفِ والخنزيرِ . هل كنتُ شقيّاً ؟].

نص- ج
تسمعُ الريحَ؟
هل تسمعُ الريحَ ؟
هل تسمعُ الريحَ تَجْأرُ ؟
هل تسمعُ الريحَ تجأرُ بين الصنوبرِ والسنديانِ ؟
لقد بدأ التلُّ يبدو لعينيكَ أبعدَ
أجردَ ،
ما عدتَ من مطرٍ صائتٍ تَـتَـبَـيّـنُـهُ
أنتَ تبحثُ عن ذلكَ التلِّ
والتلُّ ذكرى من الصيفِ ،
ذكرى تسَـلُّـقِـهِ مع مَن كنتَ تهوى
( أكانت تُـغَـنّي ؟ )
الكنيسةُ في القاعِ
والعوسجُ المتناثرُ في القمّـةِ ...
القلبُ ينبضُ ،
تسمعُ ناقوسَ تلكَ الكنيسةِ كالصنجِ
قلبُكَ ينبضُ كالصنجِ .
أنت وراء الزجاجِ
فهل تسمعُ الريحَ؟
................
................
نبْضُكَ يخفتُ حتى كأنك أغمضتَ عينيكَ
مستسلماً للطبيعةِ ،
منتظِراً أن تموت ...
(نفسٌ مُطـمـئـنّـةٌ) / لندن 14.12.2012
تختلف هذه القصيدة عن البقية، بينما تقترب من أجواء قصيدة [الجمعة الحزينة في 10- 4- 2009]. هنا تلوح حالة (طمأنة) منسجمة في الجوّ الكنسي. تتحدث القصيدة عن [الدخول في] الموت، حيث تبدأ بلفظة (الريح) وتكرارها الرباعي.. والريح في الشعر العربي نذير سيء [وحشة، خوف، فراق، موت]، ثم يذكر (التلّ) الذي يحيل على صورة المقبرة في سفحه. هناك أيضا [العوسج المتناثر في القمة] وهو يحيط بالقبور.. العوسج والريح والغراب [صورة الموت].
الكنيسة تنتقل من سفح التل إلى عمق الوادي، [الكنيسةُ في القاعِ]، القاع كناية عن (العالم الآخر).. والأصوات تأتي من هناك [تسمعُ ناقوسَ تلكَ الكنيسةِ كالصنجِ]. يتكرر ذكر (القلب ينبض)/ دينمو الحياة، مرتين في وسط القصيدة، فالشاعر هنا يراقب الأشياء عبر زجاجة الموت، - ليس ميتا-، الموت حالة أخرى من حياة مختلفة. فهو يرى ويسمع ويتذكر، ويماهي بين نبض القلب ودقة الناقوس [تسمعُ ناقوسَ تلكَ الكنيسةِ كالصنجِ، قلبُكَ ينبضُ كالصنجِ]. فالنبض المتعالي هنا كأنه ضربات الناقوس، أو هي صورة الكنيسة المنعكة عبر صدى نبضه. يلحظ ان ذكر القلب الثاني تخذ سمة شخصية، والشاعر هنا لا يتحدث، وانما يحادث شخصا آخر.. وكأن الشاعر -الخالد- ينفصل عن الجسد الذي يموت، ويشيعه الشاعر بكلماته وكامرته البصرية.
النبض الذي تماهى في ضربات الناقوس، يتخافت الآن.. يتخافت حتى بلوغ السكون.. [نبْضُكَ يخفتُ حتى كأنك أغمضتَ عينيكَ / مستسلماً للطبيعةِ ،/ منتظِراً أن تموت ...].. واحدة من النصوص الباراسيكولوجية المبدعة إلى جانب نص (الجمعة الحزينة).. حيث تتألق النفس وتتوهج اللحظة الشعرية، ويتكامل الانسجام والطبيعة، ولكن في حالة مقترنة بالخروج من المكان والعالم. هذه المشاعر التي تكتنف المرء في ذروة لاحساس بالوحشة والغربة، هي أيضا تأكيد للانتماء الكوني للانسان، سواء في صورة الذات أو الآخر. والشاعر -عموما- في مثل هاته النصوص يستعمل (كاف المخاطب) لفصل الذات عن النص. في واحدة من كتاباته يتحدث عن مساء برليني حيث تعتريه حالة برودة تدفعه –مع صديقته- للانتقال الى الطابق الثاني من البار، لكن البرودة الداخلية تستمر و لا يستطيع تذوق شرابه. وفي اليوم الثاني يصله خبر وفاة صديقه محمود درويش (2008)، كان ذلك في السابعة مساء، عندما كان درويش يعاني سكرات الموت في المشفى الأمريكي.. كان سعدي يتحسس ألمه في برلين. إذن، لمن تعود (كاف) الخطاب في هذه القصيدة. ثمة روح شعرية واحدة، تجمع أشلاء الكون، وتختزل الجغرافيا.



(16)
ثالثا: رموز اسلامية..
ليس ثمة مدخل مباشر يجمع الشعري والاسلامي في قصيدة سعدي يوسف. ولكن ثمة مداخل غير مباشرة يغلب عليها سياق اللغة أو الحافظة الشفاهية.. ويمكن ادراجها كما يلي:
1- تأثيرات لغوية – شفاهية تراثية
2- تداعيات المكان- الشاغل السياسي
3- تداعيات اجتماعية- الفقر والتفاوت الطبقي
كما يمكن اعتماد تصنيف ثلاثي متدرج [الله، الاسلام دينا، محمد نبيا] لدراسة تعاملات الشاعر مع الرموز والاشارات المتعلقة بكلّ منها.
التأثيرات اللغوية- الشفاهية ومساحتها الثقافة الدينية المنعكسة في أنماط التعبير والتفكير الغيبي في الحياة الاجتماعية اليومية.. ممثلة بقوله..
قد كان " وعدُ الله " وعدَ الـحقِّ ...
(وعد الله)- 14. 11. 2012
*
كنا فقراءَ إلى الله!

لندن 09.01.2009 (سباحة في خليج عدن)/
*
والطيورُ تهاجرُ
منذ الصباحِ الطيورُ تهاجرُ
منذ أن خلَقَ اللهُ تلكَ السماءَ ، الطيورُ تهاجرُ ...
ما كان قبلَ دقائقَ بحراً مُحِيطاً تَدافَعُ حيتانُهُ والخيولُ استوى حاجزاً من دخانٍ وماءٍ ثقيلٍ
(أيلول)- 20. 9. 2010
فالعبارات [وعد الله حقّ، كلنا فقراء إلى الله] من قبيل المكرور الشفاهي الشعبي الذي يتخلل كلام العامة، في إطار التسليم الغيبي والتعويل على الإرادة الإلهية العاملة في مجريات التاريخ. ومنه القناعة بأن الله هو خالق السموات والأرض، ويرد هذا النص في قصيدة (أيلول) بشكل عابر – كما هو غيره- دون أن يمثل غرضا للقصيدة أو يحمل رسالة قيمية [منذ أن خلق الله تلك السماء]، والطيور لدى الشعر هي مخلوقات سماوية – كما سلف-.
وفي السطر التالي يلحظ محاولة محاكاة اللغة الدينية [القرآنية] في طريقة تركيب الصور والتعاقب المتداخل للجمل القصيرة [بحراً مُحِيطاً تَدافَعُ حيتانُهُ والخيولُ استوى حاجزاً من دخانٍ وماءٍ ثقيلٍ].
بينما يعمد الشاعر لاستعارات لغوية مجردة من [النص القرآني] لوصف التقدم في السنّ..
حتى الهواءُ الذي أتنفّسُ قد صارَ مُـرّاً .
فهل وهنَ العظمُ مني ؟
هل اشتعلَ الرأسُ شَيباً ...
(شتاء يختلف)- 5. 11. 2012
*
تداعيات المكان- الشاغل السياسي
للمكان دور قائد في استنبات قصيدة سعدي وتوجيه فكرتها. وقد لوحظ أرتباط القصائد المتصلة برموز مسيحية بالمكان الأوربي [لندن، استوكهوام، برلين، باريس، ايرلنده، ايطالبا]، بينما يلعب المكان العربي [طنجة، عدن، حضرموت، عُمان، اندلس] دورا في توجيه أنفاس الرموز الاسلامية وأجوائها في قصائد أخرى.
المكان كقيمة لدى الشاعر لا يتحدد في ذاته كموضوع [object] وانما في مدى انسجام اللحظة النفسية للشاعر معه كعلاقة [relation]. وبديهي تتحكم الرفقة والألفة في توجيه الحالة النفسية وتداعياتها. لكن إشكالية سعدي في علاقته بالمكان والزمان في مرحلة ما -بعد عام ألفين- هي هيمنة النوستالجيا [حنين الى الماضي البعيد/ زمان الطفولة] على فكره ومشاعره، ووقوفها حاجزا بينه وبين علاقته باللحظة الراهنية. هذه النوستالجيا تضعف من أهمية مهيمنة المكان في شعره من جهة، وتعزله عن لحظة الراهن من جهة ثانية، ليعيش ويتعذب في أشواق الماضي المستحيل. ولا غرابة حينئذ.. في ظهور مشاعر متناقضة، سلبية، جارحة، إزاء العجز عن استعادة الماضي، أو استيهام يوتوبيا الحلم التي نجح السيّاب وزملاؤه في استحضارها عبر التماهي في الرمز والأسطورة.
لقد عاش عديد الشعراء مرحلة التحول الفكري والنفسي والاجتماعي منذ خمسينيات القرن الماضي، وحاولوا التكيف أو الانسجام مع مبررات التحول.. أمثال: السياب والنواب ومحمود درويش، متفوقين على عوامل الزمن والخذلان، بينما عجز آخرون عن مجاراة التحول – ليس بالمعنى السلبي/ الذيلي- أمثال: خليل حاوي وأمل دنقل. فأين تكمن أشكالية سعدي يوسف الذي عايش عد تبدلات وتمرحلات سياسية وطنية وقومية، دون تراجع خطابه السياسي وموقفه الفكري؟..
يمكن القول ان سعدي ما زال في طور معالجة اختلال المعادلات الفكرية ومحاولة تحقيق مصالحة جديدة بين الذات والموضوع، بين القصيدة والجوّ العام. وربما لوحظ أن الشاعر لم يكتب قصيدة طويلة خلال هذه المرحلة، تناقش هذه الثيمة وتحسمها فكريا. قصيدة (العقبة) تناولت المرحلة الوسيطة (العروبية)، ولكن الطابع العام لمعظم قصائده الأخيرة هو القصر والقطع. ينبغي الاشارة –هنا- إلى وظيفة [السطور الثلاثة المنقطة] قبل قفلة القصيدة، دالة على نهاية قسرية، نهاية قبل ان تنتهي القصيدة. أخيرا .. وجد الشاعر أن (الحنين) وراء ارتباكاته، لذا اعتبره (عدوّا) في القصيدة.. لكن هذا مجرد محاولة/ بداية للوصول الى مصالحة ما -قريبا-.
والآن؟.. إنْ كانت أسبابُ الذكرى مُـنْــبَـتّـةً ، فعلى أيّ أرضٍ تتأسّسُ الذاكرةُ؟
العراقُ كان مُغَيَّباً عني. وهو الآنَ ممعنٌ في الغياب.
لقد استولى عليه آخَرُ ثانٍ أو ثالثٌ بعد آخرَ ســالِفٍ. هذا الآخَرُ سيظلُّ مستولياً ، مُطْلقَ الزمانِ. والسببُ بسيطٌ : إنه امبراطوريةٌ صناعيةٌ ، وليسَ شخصاً.
العراقُ مُسِـخَ مســتعمَرةً .هل أعتبرُ الأرضَ المغصوبةَ وطناً ؟.. إنْ كانت الصلاةُ نفسُها لاتجوزُ في أرضٍ مغصوبةٍ ، فكيفَ الـخَـلْقُ ؟
أعليَّ أن أنتظرَ مُطْلَقَ الزمانِ ، ابتغاءَ المكانِ ؟.. جســدي ، الواهنُ مع ماراثونِ العذابِ المديدِ ، لن يفعلَ ذلكَ حُكْماً. إذاً ، أين المكانُ ؟
(راح الوطن.. راح المنفى)- يوميات / لندن 31.10.2008
فالشواخص المكانية هي أيضا جزء من علاقته بالمكان العربي، وقد لا تتصل بالمرموز الديني تماما، كما في قوله..
لو كان لنا أن نعتصــمَ الليلةَ
في مكّــةَ ؛
لو كان لنا ...
(اعتصام في داوننغ ستريت) - لندن – 30 / 11 / 2001
الخيبة الوطنية للشاعر، تدفعه للعودة برؤيته الثورية نحو (الاسلام) باعتباره ثورة اجتماعية/ سياسية في حينه، فهو يربط مفهوم الانتفاضات الشعبية [ما يدعى بالربيع العربي] وبين المركزية الدينية، كما في المقطع السابق. هذه الرؤية الثورية للدين تظهر في قصيدة (نشيد ساحة التحرير) ذات العفوية التلقائية إزاء اعتصام –شباب عراقيين- في ساحة التحرير من بغداد، وتظهر فيها حماسة متأثرة بوقع الانتفاضة المصرية في (ميدان التحرير) في القاهرة، إذ يرد لفظ الجلالة (عفوا) في مستهل النص، وكأنه جزء من الجملة، بينما يفترض وضعه بين خطين كجملة عرضية.. فالقراءة الأصلية للنص تكون [في (ساحة تحريرٍ) –يا الله/ يا لله- نقيم].. وليس لها معنى غيره..
في " ساحة تحرير" الله نقيمُ
نُقيمُ مساءَ صباحَ
نقيمُ صباحَ مساءَ
نقيمُ إلى أن نجعلَ من إسمِ عراقٍ وطناً .. .
بغدادُ المحروسةُ بالإسمِ الأعظمِ
بغدادُ المحروسةُ بالشعبِ
المحروسـةُ بالعمّالِ
المحروسـةُ بالطلاّبِ
المحروسـةُ بالجنديّ ( وإنْ دَرَّبَهُ الأميريكيّون ) ...
بغدادُ المحروسةُ بالإسمِ الأعظمِ : بغداد
ستجعلُ من إسمِ عراقٍ وطناً
وطناً حُرّاً
وسعيداً ...
(نشيد ساحة التحرير) /لندن 13.03.2011
*
الاسلام عموما لدى الشاعر في هذه المرحلة هو جزء من الحالة الثورية البديلة، بعد خيبته من الحالة السياسية الحزبية، وهو خط مقاربة آخر في تجربة السيّاب السياسية، [فبعد إنفصاله عن الحزب الشيوعي كان يحسّ أنّه بحاجة إلى تبنّي مشاعر جديدة تعوّض إهتزاز المقاييس المادية في نفسه، فتعلّق بالصفحة الإسلامية من القومية العربية، و لكن ماديته القديمة كانت تجعله جريئاً في التعبير عن بعض «المقدسات»]/(فاطمة فائزي- م, س.). وتتضح هذه الرؤية أكثر في قصيدة (الاسلام دينا) نقلا عن الثقافة الجمعية..
كان الإسلامُ ، الحائطَ
آخرَ ما نلتاذُ به ، حين تضيقُ بنا
الدنيا
ويحاصرُنا الأعداء ُ ...
الإسلامُ هو
الجذعُ
الـمُدّرَعُ
الخيمةُ حينَ يُطيحُ الأعداءُ البيتَ
الإسلامُ هو
المنبِتُ
والنبْتُ
وآياتُ حُفاةٍ وشُــراةٍ
الإسلامُ
عليٌّ
عُمَرُ
الخنساءُ
وطارقٌ بنُ زياد
الإسلامُ هو المرأةُ في السوقِ
هو الشاعرُ في الدسكرةِ
الإسلامُ هو الحريّةُ في ألاّ تؤمنَ
بالإسلامِ
ليس الإسلامُ قميصَ الأميركيّ
ولا جزمةَ ذاكَ النرويجيَ
أو الغاليَ ،
وليس سلاحَ ذوي الأحداقِ الزُّرقِ
الإسلامُ
هو
الحلمُ بآخرةٍ بيضاءَ
وأسرابِ حَمام ...
(الإسلامُ ديناً) /طنجة 12.02.2012
*
تأثيرات اجتماعية- الفقر والفوارق الطبقية
مشاهد الناس البسطاء وهم يفترشون (البسطات) يبتاعون ما يكفيهم حق قوتهم وقوت عوائلهم في أيام نهاية الأسبوع.. كما في قصيدة [نساء سوق المصلى] في طنجة، هي محور استثاراته الشعرية. وللطقس دور في حياة تلك (البسطات) وامتناعها بسبب المطر والظروف الجوية المتغيرة..
مطرٌ فوق طنجةَ ...
هذا الصباحَ تكون النساءُ بـ " سوق الـمُــصَـلّى " بلا درهمٍ :
كيف يجلسنَ تحت المطرْ
يـبِــعْنَ الخضارَ
وأرغفةَ الخبزِ
والجبنةَ المنزليّــةَ ؟
هذا المطرْ
نعمةٌ للمزارعِ ، للأغنياءِ الأُلى يملكونَ المزارعَ
أمّا النساءُ بــ "سوق الـمُـصَـلّى"
النساءُ اللواتي يبِعْنَ الخضارَ وأرغفةَ الخبزِ
والجبنةَ المنزليّةَ ...
فلتكُنْ رحمةُ اللهِ خيمتَهنّ التي ليس من رحمةٍ غيرها
في السماءِ السخيّةِ دوماً على الأغنياء !
(نساءُ " سوق الـمُـصَـلّـى ") / طنجة 02.02.2012

أما في قصيدة (ساحة العاجزين) فيتناول التاريخ العربي في الأندلس وآثاره الباقية، تحت مجريات أصابع الزمن..
ثَـمّ ، في " ساحة العاجزين " المدافعُ
تلكَ التي صـبَّـها ، منذُ قرنٍ ، مغاربةٌ ... غادَروا الأندلُس
والمدافعُ ظلّتْ مصَـوَّبةً نحو ما كان يُعرَفُ بـ " الأندلس" ...
أنتَ تأتي إلى الساحةِ ، الصبحَ
تأتي إلى الساحةِ ، الليلَ
لكنّ تلكَ المدافعَ ، قد تختفي ، بغتةً ...
قد تصيرُ قواربَ
أو شاحناتٍ
ورُبّــتَــما أصبحتْ طائراتٍ لنقلِ الجنودِ
أو السائحاتِ ...
المدافعُ قد تتبدّلُ أسماؤها مثلَ ما تتبدّلُ أسماؤنا ...
مثلاً :
إنّ اسمي ... محمّد!
(سـاحة العاجزينَ) / طنجة 04.02.2012
باستثناء الاشارة الأخيرة في السطر الأخير.. قد لا يجد القارئ إشارة دينية مباشرة.
*
في قصيدة (العرائش " نهارَ المولد النبويّ) يستمر المكان الأندلسي في استفزاز ذاكرة الشاعر لايجاد مقاربة بين الماضي والراهن، والعكس أيضا.
كانت " ساحة إسبانيا " السابقةُ القَوراءُ ، تضجُّ بأصواتِ الباعةِ
بالعرباتِ اليدويّةِ
والنسوةِ شيهِ الملتحفاتِ
تضجُّ بما لم يَكُ إسبانيّـاً
أو عربيّاً
ولم يكُ ، بالطبع ، أمازيغيّاً ...
كانت " ساحةُ إسبانيا " تنهقُ مثل حمارٍ أرهقَه ما يحملُ .
مَن يتذكّرُ ؟
مَن يذْكرُ أنّ نبيّاً وُلِدَ اليومَ لـتُرضعهُ خادمةٌ ؟
أين محمدٌ الأوّلُ في الساحةِ ؟
.................
.................
.................
في " ساحة إسبانيا " لافتةٌ من قطنٍ أبيضَ :
أغنيةٌ للسيّدةِ المصريّةِ :
وُلِدَ الهدى فالكائناتُ ضياءُ
وفمُ الزمانِ تبسُّمٌ وغناءُ ...
*
في " العرائش" لا يُغَنّي أحدٌ:
الحانتان القذرتان : في الساحة ، وعند البحرِ
الحانتان الوحيدتان
مغلقتان اليومً
وفي مثلِ هذا اليومِ
كلَّ عامٍ
كلَّ يومِ مولدٍ نبويٍّ.
(العرائش " نهارَ المولد النبويّ) / طنجة 05.02.2012
*
في القصيدة -التالية- يتحدث الشاعر إلى نفسه، في شبه مراجعة شخصية بلغة لا تخلو من الشعور باليأس والألم، وإن كانت القصيدة الوحيدة التي يحاول فيها الشاعر التماهي في الرمز الديني، عبر استعارة الوصف القرآني (المدثر).. في إحالة نفسذهنية على تغير المعادلات السياسية والفكرية. وكأن الشاعر ينبه نفسه، لضرورة التغيير، وتحولات الأزمنة.
قالوا :
أكنتَ تريدُ أن تغدو الشهيرَ
وأنت تعزفُ أسطوانتَكَ " الشيوعيّ الأخير ... ؟ "
لقد ملَلْنا !
منذُ أن دُفِنَتْ لينينغراد في صحراءِ نيفادا
تبدّلت الأمورُ
ولم تعُدْ ، أبداً ، معادَلةَ الشيوعيّين ضدّ الرأسماليّين ...
قالوا:
أيّها الـمُدَّثِرُ المقرورُ
قُمْ
وانظُرْ تَرَ العجَبَ ...
....................
....................
....................
البسيطةُ أتلَعَتْ رِسّــاً جديداً
ليس من أصلٍ
ولا فَصْلٍ ، لهُ ...
رِسّــاً لـئيماً يقتلُ العمّالَ حتى في مناجمِهم ...
يُبيدُ نباتَ هذي الأرضِ ، شعباً بعدَ شعبٍ
مِلَّةَ الإســلامِ
زولو
أُمّةَ الأزتيكِ
والمايا
عراقيّين
صابئـةً ، بَهائيّينَ ، أنباطاً
فلسطينيّةً ...
يا أيّها الـمُـدَّثِّـرُ المقرورُ
غَـيِّـرْ أسطوانتَكَ
الأمورُ تغَيَّرَتْ !
(الرسّ النغل) / لندن 21.11.2010
ولا يخفي الشاعر –هنا- تأكيد موقفه من النظام العالمي الجديد [رِسّــاً جديداً / ليس من أصلٍ / ولا فَصْلٍ ، لهُ . رِسّــاً لـئيماً]، والمعروف بالعولمة التي تمسخ كلّ شيء، بل هي تبيد كلّ ما كان [تبيد نبات هذي الأرض، شعبا بعد شعب]..
ويلحظ في مجموعة القصائد الأربعة الأخيرة اعتماد تقنية القصيدة على النبر الأخير. حيث تلعب نهاية القصيدة دورا حاسما في المعنى أو الخروج بالمعنى عن مستوى العادي. والملاحظة الأخرى، أن هذه القصائد الثلاثة –ما عدا الأخيرة- كتبت في طنجة -بالمغرب- خلال أسبوع واحد في الأيام [الثاني والرابع والخامس من فبراير 2012]، مما يبرّر التشابه والتناص في أجوائها.
*



الخلاصة..
الشاعر العراقي سركون بولص [1944- 2007] قال: "كلما ابتعدنا عنى العراق، اقتربنا منه أكثر"- [شهود على الضفاف/ دار الجمل]، وهذا هو سعدي يوسف، عاش قرابة نصف قرن خارج بلده، وما زالت رائحة لعراق تفوح من مسام جلده وكلماته وثيابه. كتابه الأخير الصادر بالانجليزية (أيها الحنين.. يا عدوّي) يترجم عمق معاناة الشاعر، ورغبته في الانعتاق من الألم والنوستالجيا التي صارت تربك خطواته في شعر الغربة..
الرموز التراثية والدينية في شعر سعدي، جسر يعبر عليه ليطلّ على أبي الخطيب والطبكة والجنبية.. يطل على النخيل والتكية النقشبندية وجدار مدرسة الطين.. لكن احتدام المشاعر الذي يمثل ذروة الحنين، هو نفسه الذي يربك اللغة ويولد التعارض والانعكاس.
دخل الشاعر الكنيسة من بوابة تراث المتنبي مستلهما شغف السيّاب بالأساطير والرموز، فاستغرق في ذاته و صلته بالمكان المسلوب/ الفردوس المفقود، ليأتي الاحتلال الأمريكي ويدمر تشكيلات اللوحة من الداخل.. تتدمر صورة العراق الجميلة الحالمة بغد حرّ وسعيد.. قتل الأمريكان حلم العراق وحلم الشاعر.. وعندما رهف قلبه نحو موقف وطني ينحاز فيه ضد المحتلّ.. وجد رفاقه السابقين في الخندق الأخر.. وجد نفسه وحيدا.. في غربته، وحيدا في موقفه، معزولا عن وطنه.. وآليات القرار في راهن بلده ومصيره..
قصيدة سعدي ما بعد الاحتلال اشكالية، تتداخل فيها عوامل كثيرة.. وعندما يتعامل داخل القصيدة.. بيت الشاعر الأول.. تنعكس الاشكاليات، وتضطرب المشاعر، وتتداخل الأفكار.. لكن الشاعر الذي يعمل على تحرير نصه من الزمن والقيم.. يحلم ببلوغ شاطئ الحياد والموضوعية.. عزل الفكر عن الشعور.. ذلك الحلم الصعب!..
نجح الشاعر إلى حدّ ما في التعامل مع رموزية بوذا، ربما لعدم وجود تناصات تراثية ذاكراتية مباشرة، ولكن تعامله مع الرموز المسيحية لم يتحرر من جملة الثقافة الشفاهية والأحكام المسبقة عن قصة المسيح والصلب وفكرة القيامة. ولذلك لم يرد ذكر المسيح الا عفوا في نقل ما قاله المتنبي قبل أكثر من ألف عام. واختفت منه لفظة الصليب ودلالاته المركزية العميقة، بينما يتكرر لديه ذكر الكنيسة، باعتبارها جزء من لوحة المكان، وفي إحالة غير مباشرة على ثيمتي الحانة والمرأة.
في لحظات الصفاء النفسي والروحي، تلك اللمسات الصوفية التي سبق ذكرها في الحديث عن بوذا، سيما (جلسة اللوتس) ثمة لحظة انسجام، كما في نصي [الجمعة الحزينة، نفس مطمئنة]. والانسجام فيها لا يتصل مباشرة بالرمز، وانما بالحالة الدينية التصوفية التي تسكن إليها النفس، بغض النظر عن المرموز وتجلياته. وكلّ ذلك لا يخرج في أساسه عن تقلبات ومتطلبات الحياة الانسانية والنفسية، وطبيعة الحاضنة الاجتماعية والثقافية العربية!.
*
القسم الخامس.. مفتاح الغياب..
(17)
رابعا: رموزية الأخضر..
قبل الدخول في التفاصيل، لا بدّ من تنويه إلى أن..
- ان شخصية الأخضر ظهرت في أول سبعينيات القرن الماضي، ومضى عليها اليوم أربعة عقود، وليست من نتاج المرحلة (الألفينية) التي يغطيها هذا البحث.
- يكاد معظم النقاد والباحثين العرب يتفق عن أن هذه الشخصية من ابتكارات الشاعر وليست كغيرها من الرموز/ الأقنعة التاريخية التي تعارف الشعراء على تداولها وتوظيفها شعريا.
- ثمة إشارة – قد تكون مفردة- أوردها الباحث عبد القادر جبار طه حول تجذير علاقة الأخضر بشخصية (الخضر) وذلك نقلا عن دراسة للباحثة ريتا عوض.
- ان الشاعر –كما يرى أحد النقاد- لا يتخذ الأخضر [رمزا/ قناعا] يختفي وراءه، وانما الأخضر يتخذ من الشاعر قناعا يتحدث من خلاله.
- شخصية (الخضر) رغم طابعها العام الديني، فهي تكاد تفتقد الملامح والتفاصيل، ما عدا الصورة الميثولوجية المتراكمة في اللاوعي الشعبي. وهو أكثر عناية ورواجا بين النساء مما بين الرجال، وربما ارتبط بخصوصية (الانجاب) وفك عقدة العقم [صفة تموزية]. ومقامه (مزاره) غالبا عند ضفاف المياه قريبا من مراكز المدن. وفي العراق له (مقامات) على كلّ الأنهار، إن لم يكن كلّ المدن والقصبات.
- مكانة (الخضر) الدينية غير متفق عليها عند العامة، فهو قد يكون [نبي، إمام (قديس)، رجل صالح]، لكن المتفق عليه أنه يظهر وعليه ثياب خضراء. وهناك من يراه خارجا من الماء، أو ماشيا على الماء يعبر الضفة. ونقلا عن والدتي قولها: ان الثياب الخضراء في الرؤيا دالة على الأنبياء، وقد تكون لهم درجات كالرتب العسكرية، أما الثياب البيضاء فهي دالة على الملائكة.
صفة المشي على الماء خاصة بالسيد المسيح [مرقس 6: 48، 49/يوحنا 6: 19] وظهوره في الرؤيا يكون بثياب بيضاء.
الاسم الملحق بالخضر أو اسمه الكامل هو (خضر الياس)، و(الياس) تعريب للفظة (ايلياء) العائدة على أحد أنبياء التوراة الذي كانت خدمته في الفترة [875- 848 ق. م.] في عهد ملك اسرائيل أخآب وزوجته ايزابل من عبدة البعل، وصفته (النبي الناري) ولكنه مشهور بأنه دعا ربه فانقطع المطر ثلاث سنوات ونصف، ولم يعد المطر للهطول إلا بعد صلاته لذلك. يعتبر أيليا من أهم أنبياء اليهود وأكثرهم قوة روحية، وبحسب التعليم الديني هو أحد ثلاثة لم يشملهم الموت من البشر [أخنوخ، ايليا، يسوع المسيح].
الاشارة المهمة في هذا الخصوص، تتعلق بالعلاقة الملغزة بين (ايليا النبي) – من القرن التاسع قبل الميلاد- وبين (النبي يوحنا المعمدان) – من القرن الأول الميلادي-، والتي وردت في سفرين من العهد القديم والجديد. اولاها في سفر ملاخي 4: 5 [ها أنا مرسل إليكم ايليا النبي قبل أن يجيء يوم قضاء الربّ!]، وثانيها في انجيل متي 11: 10، 14 [فهذا هو الذي كُتِبَ عنه: ها أنا مرسل قدامك رسولي الذي يمهّد لك طريقك! (ملاخي: 3: 1). وإن شئتم أن تصدّقوا، فإنّ يوحنا هذا، هو ايليا الذي كان رجوعه منتظرا!]. ويوحنا المعمدان أحد أقوى الأنبياء (روحيا ومبدأية) والمعروف بقطع رأسه ووضعه على طبق لارضاء الراقصة (سالومه) وأمها (هيروديا).
إذن هناك حالة تماهي بين ايليا النبي ويوحنا المعمدان – بينهما ثمانية قرون-، وحالة توافق بين قصة الرأس بين يوحنا والحسين – بينهما سبعة قرون-. وصفة المعمدان تعود إلى خدمته في التعميد (التغطيس) بالماء في نهر الأردن، حيث عاش معظم الوقت. صحيح أن ايليا عاش فترة ثلاث سنوات عند أرملة صرفة، على ضفة نهر، وأنه كان يتحكم في المياه ونزول المطر، إلا ان فاعلية العلاقة بالماء تظهر عند يوحنا حيث عاش وكان يعمّد الناس (معمودية التوبة). وهو أقرب عهدا للمخيلة الشعبية والذاكرة الشفاهية.
ولهذا، تبدو صورة شخصية الخضر أقرب إلى خصائص وصفات يوحنا المعمدان من سواه. علما ان كثيرا من الرموز والقصص التراثية الاسلامية هي قصص توراتية وغير توراتية من الموروث الشرقي القديم، جرى تعريبه بما يناسب اللغة والعقيدة الاسلامية.
وفي الصلة بالماء إذا تجاوزنا أجواء ملحمة جلجامش، ثمة قصيدة منسوبة لسرجون الأكدي، يصف نفسه فيها باعتباره (لقيط الماء) والتي يربط العلماء بينها وبين تسمية موسى النبي وقصته الشبيهة بأنه (منتشَل من الماء).. وللماء دور مركزي في قصة الخلق والحياة وحركة الوجود عامة.
والواقع.. ان صورة (خضر الياس) لا تقتصر على ما مرّ ذكره فحسب، وانما تلحقها جملة من الطقوس والمراسيم الشعبية التي تمارس لدى كثير من الشعوب بالعلاقة مع الماء، مثل (شموع الخضر) التي توضع على سطح الماء في ليال معينة، ولدى بعض الشعوب تصنع قوارب ورقية صغيرة تكتب عليها رسائل وتحيات لأشخاص مفقودين أو مجهولين بأمل عودتهم، وأحيانا توضع في مغلفات بلاستيكية تطفو على الماء وغير ذلك. وقد تداخل بعض تلك الطقوس بمراسيم احتفالات عاشوراء في جنوب العراق، حيث تصنع مائدة من الأطعمة والحلويات تتوزعها الشموع وزهور (الياس) الخضراء، ويدار بها في الأزقة في مناسبات معينة، أو توضع في الماء حيث تطفو وتمضي مع مجرى النهر. وثمة من يعتقد أن لتلك الطقوس والمراسيم تقاليد شعبية نهرية قديمة تعود في جذورها للسومريين.
ان الأساس في مرموزية الخضر هو الماء، ووجوده على ضفة الماء، والدالة الثانية هي الشجر والخضرة. بينما تحدد ريتا عوض الماء والسمك كدالة على الخضر، وهو ما يشكل تداخلا مع صورة المسيح الذي تشكل (السمكة) أحد رموزه إلى جانب الصليب، وذلك لوقوع ولادته تحت برج السمك. وتتطابق هذه الصورة [الماء والخضرة] تماما مع البيئة الجغرافية لأبي الخصيب، غابة النخيل والثمار المعلقة فوق الماء، - أقول معلقة حسب موقف الرائي اليها من الضفة المقابلة، أو من السماء-. يتسع شط العرب في تلك المنطقة ليبلغ مدى كبيرا، بينما تنتشر على ضفتيه غابات النخيل والخضرة الكثيفة [صورة ما قبل الثمانينيات]. وعى الشواطئ حيث يرتفع منسوب المياء ويتماس مع سطح الأرض، يمكن ملاحظة أشجار ظهرت (عروق) جذورها على حافة الشطّ، أو أشجار استعرضت في نموها نحو سطح الماء قبل أن ترتفع بقامتها عاليا حيث تصطاد الضوء. على تلك الجذوع المستعرضة يمكن الجلوس وتدلية السيقان في المياه الباردة، كمصاطب اصطنعتها الطبيعة لتخلق صورة الانسجام العجيب. ولا أعرف ثمة، إذا كانت شواطئ أبي الخصيب تلك تتضمن بعض ظهورات [صاحب الماء] وفيما إذا كان له (مقام/ مزار) – حسب ذاكرة الشاعر-.
صورة الأخضر (الخضر) هذه غير بعيدة عن صورة القرصان الذي يعيش في الماء ويتنقل بين البلدان والشواطئ والمدن. ويبقى الماء والخضرة، أكثر ورودا في شعرية سعدي على مدى مسيرته، وقد زادت أكثر، منذ اعتناقه المنفى الأوربي.
بين رموزية القرصان ورموزية الأخضر ثمة عشرين عاما [1952- 1972]، لكن الصفة الأخير هي الأكثر استمرارا وتواردا في شعريته في الثمانينيات وحتى ما بعد عام ألفين.[ لقد رافقت هذه الشخصية الشاعر منذ قصيدته الأولى "فالأخضر بن يوسف ومشاغله" التي كتبها عام‏ 1972، وكانت عنواناً لديوانه، ثم عاد إليها في ديوانه "الليالي كلها" بقصيدتين هما (حوار مع الأخضر بن يوسف) و (عن الأخضر أيضاً) ثم ظهرت هذه الشخصية من جديد عام 1979 في قصيدة (انغمار) وهي عن الأخضر أيضاً ضمن ديوانه (قصائد أقل صمتاً) ثم (أوهام الأخضر بن يوسف) عام 1981. في ديوانه (من يعرف الوردة).‏]/ (الباحث محمد رضوان). إلى جانب ظهوراتها المتأخرة، كما في نص (تناوبات) المذيل لعام 2011 في ستوكهولم.
والسؤال المترتب على تطور فكرة (القرصان) إلى (الأخضر الياس (اليوسف))، هو لماذا اختار هذه الشخصية الروحية ذات التعالقات المتداخلة في ميثولوجيا الشرق القديم والمنعكسة في دياناته الرئيسية؟.. لماذا لم تتطور فكرة (القرصان) إلى رمز علماني محايد مثل (السندباد) (أبن ماجد) (ماجلان)؟..
[هل الشعرُ قراءةٌ للحياةِ فقط ؟..أعتقدُ أن الأمرَ أوسعُ وأعمقُ . للبشــرِ ، طرائقُ عِدّةٌ في قراءة حياتهم ، طرائقُ بينَها العِلمُ والسياسةُ . لكنّ شأنَ الشِعرِ مختلفٌ .] (س. ي.)
*

(18)
الأخضر.. بأقلام النقاد..
حظي الأخضر بمساحة واسعة من الأصداء والترددات النقدية والشعرية منذ ظهوره، ورغم اجتماعهم في الاشادة بكونه منجزا مميزا عن سابقيه، وتسجيل البعض له بكونه ابتكارا غير مسبوق في تاريخ الحداثة الشعرية منذ ظهورها، نلمس ثمة اختلافات في الرؤية والمنظور النقدي والمعرفي إليه، وذلك بحسب الاتجاهات المنهجية والمدرسية التي تمثل ميول النقاد والباحثين واتجاهاتهم. ويمكن تصنيف زوايا الرؤى بحسب ذلك الى..
- اتجاهات عنيت بتوظيف "الرموز" في الشعر..
- اتجاهات عنيت بتوظيف "الأساطير" في الشعر..
- اتجاهات عنيت بتوظيف "القناع" في الشعر..
وقد نتج عن تعدد هذه الاتجاهات وعدم حسم اختلافاتها، أو التوصل لقاعدة أكادمية واضحة تميز بين تلك المفاهيم وتوضح الفوارق بينها، أن العلامات والتقنيات الفنية في الشعر الحديث اختلفت تسميتها ومعالجتها من ناقد لآخر بحسب انحيازه/(مزاجه) النقدي. فالباحث في مجال الرموز يضمّ التوظيفات الفنية والتراثية للشاعر ضمن مبحثه، وتجد نفس التوظيفات والنصوص في مبحث آخر يعنى بدراسة الأساطير في الشعر العربي، بينما يتكرر الأمر نفسه ويجري اختزال الرمز والأسطورة، لصالح منظور القناع في القصيدة الحديثة. وإذا كان لذلك من مبرر، فهو يؤكد هشاشة الأسس الفكرية والقواعد النظرية لاتجاهات النقد العربي التي ما زال ينقصها الوضوح والاستقرار، وتغلبها المزاجية والرؤى الانطباعية، وإن تلبّست بأطر المنهجية الأكادمية ومنحت أصحابها -درجات علمية- ترفعهم لصف مدرّسيهم.
وقد وقع الأخضر بن يوسف ضحية التباس الرؤى النقدية هذه، فمنهم من وصفه بـ"الرمز"، ومنهم من نسبه لـ"لأسطورة"، وآخر اعتبره "قناعا" يختفي وراءه المؤلف لتوصيل خطاب معين.. وأدناه محاولة لتمثيل بعض تلك الطروحات..
أولا: الأخضر.. رمزا" شعريا..
الدكتور جابر عصفور..
[هذا الصوت الأول لغربة المنفى لا يخفي علامات البداية, سواء في توحده, أو رومانتيكيته الناضجة بالحزن, أو إطلاقه الحكم الذي يدنو بالمعنى من أفعل التفضيل, لكنه - مع ذلك كله أو رغم ذلك كله - يرهص بما سوف يغدو تقنية لاحقة, ناضجة, مكتملة, مائزة.

هي تقنية التركيز على التفاصيل الصغيرة, والعثور فيها على الموازيات الرمزية لتوحد المغترب المنفي عن وطنه. وسوف يغدو هذا الغصن الحزين الذي كتب عنه الشاعر - في الجزائر سنة 1965 - فرعا مقطوعا من غصن بعد ما يزيد على ربع قرن, في باريس سنة 1991, حيث كتب الشاعر قصيدته (مصير) التي نقرأ فيها:

في الصالة

هذا الفرعُ المقطوعُ عن الغصنِ

الفرع المنقوعُ بكأس الماء

مع الأوراق الخمس

الصامت في غير هواء الشجرهْ

والثابتُ

والنابتُ

والباهتُ

هذا الفرع إلى كم سيدومْ

منقوعا في كأس الماءْ

مقطوعا عن سر الشجرة

مرتعشا كلّ مساء

مختلفا عن كل أثاث الصالةْ
وهي قصيدة تتحدث عن المنفى, وعن تجربة النفي, من غير أن تذكر كلمة واحدة عنه, فلا لزوم للتصريح في مقام الموازيات الرمزية التي تؤدي المعنى المقصود بالتلميح, مستغلة القرينة التي تصل الحضور بالغياب, أو ترد علاقات الغياب على علاقات الحضور, فتبين عن مصير الانقطاع عن الجذور, الابتعاد عن الأصل والحياة في أرض غريبة, تحت سماء أخرى بعيدة عن السماء الأولى, وفي ماء محبوس في كأس مقطوع عن أصله المتدفق, تماما كالفرع المقطوع عن الغصن, وعن سر الشجرة, رغم إرادته, أو بإرادة غيره, فإرادته المنفية ماثلة في البقاء الصامت في غير هواء الشجرة, البقاء الثابت الباهت بلا نمو. وذلك وضع يطرح السؤال عن النهاية, عن المدى الزمني الذي يدوم فيه هذا الفرع, أو يبقى مرتعشا في اختلافه عن كل أثاث الصالة, ولا حاجة إلى الإجابة, فمصير الفرع المقطوع عن الغصن, وعن سر الشجرة, كمصير الماء المحبوس بكأس الماء, العطن والموت. وكل ذلك دون صراخ, أو إعلانات حزن, أو حتى تصريح, بل استغلال الموازاة الرمزية الدالة التي تبين عن تجربة المنفى في أعمق معنى لاغترابها وانقطاعها بصاحبها عن نسغ عصارة الحياة في شجرة الأصل تحت السماء الأولى.]/ (سعدي يوسف شاعر مرتحل عبر المنافي)
..
الباحث عبد القادر جبار طه..
[الجدلية المولدة للرمز والاسطورة:
يلعب استثمار الاسطورة ورمزها دورا مهما في قصيدة سعدي يوسف، وينبع هذا الدور من دوافع متعددة لعل اهمها الجوانب الثقافية والنفسية والايديولوجية والسياسية والفنية، اذ اتيح للشاعر الاطلاع على الفكر الانساني العالمي ضمن ثقافته الاممية(1) ويعد رمز الاخضر بن يوسف من ابرز الرموز التي استخدمها الشاعر، وتقنع بها، ففي ديوان (الليالي كلها)(2)، يستخدم الشاعر قناع الاخضر في قصيدة بعنوان (حوار مع الاخضر بن يوسف) (3) ، يقول فيها:
سيدي
سيدي الاخضر المرْ
ياسيدي يا بن يوسف
من لي سواك اذا اغلقت حانة بالرباط؟
ومن لي سواك اذا اغلقت بالعراق النوافذ؟
وفي مقطع اخر يقول:
ويا سيدي الاخضر المر
يا سيدي بن يوسف
من قال انا شقينا
ومن قال انّا لقينا
ومن قال انا حكمنا معا... بالتداخل
وفي قصيدة بعنوان (الاخضر ايضا) (1) يقول الشاعر:
حين يضغط هذا الحديد الثقيل
على موضع العقدة الناتئة
خلف عنقي
ايها الاخضر المتطاول
اين تكون المدينة؟
كما اصدر الشاعر ديوانا بعنوان (الاخضر بن يوسف ومشاغله)(2)، ومن القصائد الاخرى التي كتبها الشاعر عن الاخضر قصيدة، (كيف كتب الاخضر بن يوسف قصائده)(3)، يطرح فيها معاناته في كتابة الشعر، ويقول في مقطع منها: (وعندما يبتعد الاخضر بن يوسف عن الارض يفقد قواه هكذا يظل جناحه مشدودا بخيط سائب.. خيط يمسح وجه الارض) وهذا مقطع نثري ضمن قصيدة من الشعر الحر.
وفي القصائد الاخيرة اوضح الشاعر ما يريده من الرمز اذ يقول:
قلت: التجىء الصباح الى قميص الخضر، او خضراء (لوركا) او الى هذا النبات المعتلي بابي..
ويحمّل سعدي يوسف في هذه المقاطع صورة الخضر رمزها واسطوريتها، جاعلا اياها معادلا موضوعيا لذاته، واحيانا قناعا لوجوده الذي يتحرك في الموضوع، فالخضر شخصية اسطورية متحولة في رمزها سواء أكان ذلك في الاساطير القديمة ام في الاديان. ففي الدين الاسلامي يتفق المفسرون لايات القران الكريم على ان العبد الذي التقاه النبي موسى وفتاه هو الخضر(4)، في قوله تعالى ((فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلَّمناه من لدنا علما))(5).
وتقع حكاية الخضر في القسم الاوثق في تفسير الاسرائيليات بالنسبة لمفسري القرآن الكريم(1)، اما في الاسطورة البابلية فهو مصدر الحياة، وفي الثقافة الهندية اصبح الخضر إلها نهريا يصور جالسا على سمكه(2) وفي الديانة المسيحية قيل ((انما سمي الخضر لانه اينما صلى اخضر حوله))(3). ان هذا الاطار الانساني لرمز الخضر يتوافق مع الاتجاه الفكري والعقائدي للشاعر، لذلك استخدم العلائم التي ترتبط بالخضر للتعبير عن موقفه في النضال السياسي ضد الطغيان والظلم، ففي قصيدة (حوار مع الاخضر بن يوسف)(4)، يكون المغرب العربي هو المشكِّل لموقف الشاعر مكانيا، ولكن زمانيا، يستدرج الشاعر الاسطورة في الصورة الشعرية لتوليد صور ذات طابع معاصر بروح اسطورية اذ يقول:
وبين الجبال ـ القبيلة... كنّا غريبين
لم نأكل القمح اخضر
والورد اخضر
لم نعرف الورد المتساقط
هذا البذار البعيد ، وتلك النجوم القليلة
غريبين كنا عن الصخر تحت المياه
عن الماء تحت الصخور.
وفي هذا المقطع اشارات اخرى غير الخصب تومىء الى شخصية الخضر، (الصخرة، المياه، موقع الصخرة)، وهذه الاشارات جاءت في قصص الثعلبي حين قال: ((سأل موسى الله اين يطلب الخضر فقال على الساحل عند الصخرة)) (5).
وتمثل هذه القصيدة الصراع السياسي في المغرب العربي ففي هذا المكان يلتقي، الماء المالح بالماء العذب حيث يرتبط بهما اسم (الخضر) في الاساطير، ويتضح ذلك من التفاصيل اليومية لحياة السياسيين في القصيدة اذ يقول الشاعر فيها:
في ان تكون الرباط الحياد،
في ان يكون المحيط الخليج...
بأطراف تطوان ادركنا الليل والبندقية
عبداللطيف الذي لم يكن بعد في السجن ادركنا
والجبال الشقية بالماء ما ادركتنا
وتقع تطوان في اقصى المغرب العربي وهي الموقع الدقيق لالتقاء الماء المالح بالماء العذب.
ولاحظ الباحث ان اللون (الاخضر) هو اللون الطاغي في قصائد الشاعر، الامر الذي يؤكد حركة الرمز الاسطورية المتعلقة بـ(الخضر) داخل القصيدة، فالعلاقات المتولدة في قصائد الشاعر تستند إلى هذه الشخصية ورمزها الاسطوري ،ففي القصائد السياسية غالبا، ما يكون (الاخضر بن يوسف) حاضرا برموزه فيها ويتضح ذلك في قصيدته (دائرة المثلث)(1) ، التي يتناول فيها الشاعر الصراع السياسي في التاريخ العربي اذ يقول:
(سومريون يخفون تحت السماوات اسماكهم)
وفي مقطع آخر يقول:
(فلنعترف الليلة ان الماء يحاصرنا.. والصحراء بعيدة).
وفي هذه القصيدة هناك اشارتان لرمز (الخضر)، وهما (السمكة والماء) اللذان يؤكدان ان الخضر هو رمز الخصب، وتذهب الناقدة ريتا عوض في هذا الصدد قائلة ((يتأكد من رمزي الماء والسمكة ان الخضر رمز الخصب والحياة))(2] عبد القادر جبار طه- البنية الفنية في شعر سعدي يوسف/ 2007-

ثانيا: الأخضر.. "أسطورة" شعرية..
الناقد جابر عصفور..
[لا يعرف شعر سعدي الشعائر التمهيدية لهذا المنفى - الملكوت, التي استحضرت أقنعة الخلاص الكونية أو التموزية بلا فارق, كما لا تعرف الأبطال الأسطوريين من الآلهة أو أشباه الآلهة, بل لا تعرف الشاعر المتأله أو المتنبئ, ولا تغوص في الرؤيا حتى تضيق بها العبارة, ولا تستهويها قرارة القرار من أندلس الأعماق التي تتفجر فيها حمم اللاوعي, مدمرة قواعد المنطلق والمنظور وحدود المكان والزمان, وإنما تعرف الشاعر الإنسان, العادي, المواطن البسيط, الماكر, المراوغ كالقنفذ, المرهف الحواس, الشاعر الذي يفتح العينين على ملامح العالم الدالة مهما دَقْت, مشرعا حواسه التي تتلقى أصغر هذه الملامح وتواجه العالم بها وفيها, مستبدلا الفيزيقي بالميتافيزيقي, المجاز بالتصريح, الكناية المباشرة بتداخلات الاستعارة المكنية, مأخوذا بالأشياء كالطفل, مشدودا كجلد القوس:

والعينان تشتفان صوت النمل

والرجفة في الماء الذي يخترق الجذع]/ (سعدي يوسف شاعر مرتحل عبر المنافي)
..
عبد القادر جبار طه.. [الأطروحة نفسها في باب الرمز تصلح هنا، طبقا لقوله (يلعب استثمار الاسطورة ورمزها دورا مهما في قصيدة سعدي يوسف،..)] م. س.

ثالثا: الأخضر.. "قناعا" شعريا..
الناقد جابر عصفور..
[ ولاأزال أذكر, إلى اليوم, كيف قرأت قصيدة سعدي يوسف (الأخضر بن يوسف ومشاغله) مع أمل دنقل في مطالع السبعينيات, وشدّنا "القناع" الذي تتبعت تجلياته في الدواوين اللاحقة, ولاأزال معجبا بقدرته على الانقطاع عن الامتداد الأسطوري للأقنعة التموزية, وحرصه على تقديم نموذج إنساني ينتسب إلى زمننا السبعيني, ويشبهنا نحن البسطاء الذين رأينا فيه تحطيما إبداعيا متعمدا لمجلى الشاعر المتمددي, واستبدال مجلى من نوع آخر به. مجلى لكائن مألوف, ملموس, يقاسمنا شقتنا ويسبقنا إلى حدود المنافي التي يعيش فيها, والتي تصل النوافذ المغلقة في الرباط بالنوافذ المغلقة في العراق, على امتداد النوافذ المغلقة في كل مكان, فيلفتنا هذا الكائن, ولايزال إلى أهمية المنافي في صياغة تجارب سعدي يوسف الشعرية, وإكسابها الملامح التي مايزت بينها وبين غيرها من التجارب التي اعتصمت بالأقنعة التموزية, ورأت فيها سبيلا إلى تجسيد أحلام الزمن الآتي بالبعث.]/ (سعدي يوسف شاعر مرتحل عبر المنافي)

الباحث أحمد ياسين السليماني..
[أما سعدي يوسف، فتبدو عنده ظاهرة توظيف صوت آخر ينوب عن صوته، واضحة، وهو بهذا ينأى بنفسه عن الغنائية والمباشرة، أو كما حددها طراد الكبيسي باستخدام الصوت الثاني، أو الشخص الثاني، أي ما يمكن أن نسميه بـ"كوموفلاج" بديلاً عن الصوت الأول، أو الشخص الأول (الشاعر). هذا الخط (النفس – اجتماعي) الذي انتهجه سعدي يوسف في بعض قصائده، أو حين اتجه نحو الدخول في حوار مع صوت آخر، أو (شخص آخر) يتجاذب معه أطراف الحديث، كل هذه الأصوات كما في "الأخضر بن يوسف". و"الشخص الثاني"، و"العمل اليومي"، تنبع من موقف أيديولوجي يتحرر الشاعر فيه من ذاتيته، متجهًا نحو الآخر، مخاطبًا ذاته وغاصًّا في أعماقها. هذه العملية انطوت على مكاشفة، جعلت سعدي يوسف نادر الاستخدام للشخصية قناعًا، إلا في قناع "الأخضر بن يوسف" مرة واحدة، لأن لغة سعدي تعتمد دائمًا على بساطة التركيب التي تحيي من داخلها عمقًا مؤثرًا في المتلقي. وشخصية "الأخضر بن يوسف" شخصية موظفة بطريقة جديدة عند سعدي، فهو لا يلبسها قناعًا مباشرًا أسوة بغيره من الشعراء، ولكنه يجعلها تلبس نفسها هذا القناع، هي ليست قناعًا له، بل هو قناع لها من خلال ما يسوق من حوار معها، فتجيء شخصية مخترعة، ممزوجة الاسم من قبل، مركبة من اسم شخصية في جزئها الأول، ومن اسمه في جزئها الثاني.]
.. [ سنجلس – إن شئتَ – حينًا
نفكر في أمرنا مرةً
نفكر في أمرنا مرتين.
إنه يحاول في قصيدة "الأخضر بن يوسف ومشاغله"، أن يتحسس القناع، ويباشر في تقمصه من خلال "الشخصية المركبة" التي اخترعها، وحاول أن يطورها ليتخذها قناعًا له في هذا القصيدة، وهي شخصية، دونًا عن غيره، ليست مستدعاة من التراث الإنساني الأسطوري أو الإغريقي القديم، ولا من التراث العربي والإسلامي، ولا إشكاليتها في الغياب تتداخل مع إشكاليته؛ إنه هنا يجعلها حاضرة اسمًا وإشكاليةً، يجعل الحضور هو الذي يستدعيه الغياب؛ لأن الحضور هنا، بإشكاليته، يمكن أن يحيل إلى الغياب. يريد سعدي أن يكون أكثر إيمانًا وقربًا بالواقع، وأكثر التحامًا معه.
سأستخدم اسمك...
معذرةً
ثم وجهك...
أنت ترى أن وجهك في الصفحة الثانية
قناع لوجهي
وأنت ترى أنني أرتدي الربطة القانية
أتذكرها؟/ (ديوان الليالي كلها)]- (د. احمد ياسين السليماني/ نفسية القناع الشعري (2)- مجلة غيمان/ ع4- ربيع 2008).
..
الدكتور كمال أبو اصبع..
[قناع سعدي يوسف "الأخضر بن يوسف"، حين قال: "وهذه الشخصيّة هي النموذج الأكثر كمالاً وإثارة في شعر سعدي يوسف لمفهوم الظل - الآخر، وقد وصل في تطويره صيغة "القناع". ويبدو لي أن جميع الابتكارات التي ظهرت في شعر الحداثة، ابتداء من أوائل الستينيات لشخصيّات قناعيّة قابلة للتفسير في إطار ظهور مفهوم الظل – الآخر، كما أصفه هنا، وقابلة للوصف في إطار مصطلح مثل "الذات الأخرى" أو "الأنا الآخر". وينطبق ما أقترحه على شخصيّات مثل مهيار والحلاج والخيّام... لدى أدونيس وصلاح عبد الصبور وعبد الوهاب البياتي... وقد أسهمت هذه التجليّات لمفهوم "الذات الآخر" أو "الظل" أو "الشخص الآخر" في خلق لغة الغياب وتجذيرها وتناميها في قصيدة الحداثة"]/ (د. كما ابو ديب- عن: د. أحمد ياسين السليماني- م. س.)
..
الباحث محمد رضوان..
[استخدم الشاعر أسلوب "القناع" كغيره من الشعراء، للتعبير عن موقف ما، فاختيار شخصية "الأخضر بن يوسف" وهو رجل خَلقه سعدي يوسف من عامة الناس وجعله مادة للتعبير عن ذاته.‏
إن سعدي يوسف عَبْرَ التنويع على شخصية واحدة، في حواره مع الذات بقي مفتوحاً على هاجس التجديد باستمرار. فالأخضر بن يوسف قرين الشاعر وقناعه، هو محاولة لخلق حالة شعرية تقترب من فهم الواقع، بمكوناته الدرامية. عَبْرَ معاينة الذات، في فهم تناقضاته، وجدل الصراع داخلها، في القصيدة الأولى يمثّل الأخضر حالة من القوة والترفّع والنبوّة:‏
"نبي يقاسمني شقتي‏
يسكن الغرفة المستطيلةْ‏
وكل صباح يشاركني قهوتي والحليب،..‏
وسرّ الليالي الطويلةْ"
وظلّ لصيقاً به كظلّهِ، يخضع إلى تعاليمه،.. كاشفاً له أسرار الحياة الصعبة التي ينبغي اجتيازها:‏
"كان يلبس يوماً قميصي‏
وألبس يوماً قميصَهْ‏
ولكنه حين يحتدُّ.. يرفضُ أن يرتدي غيرَ بُرنُسهِ الصوفِ..‏
يرفضني دفعةً واحدةْ‏
ويدخل كل المزارع: يحرث‏
أو يشتري سكراً‏
أو يقول العلامة"
لكن القناع في القصيدة الثانية (حوار مع الأخضر بن يوسف) يتحول إلى جليس يصغي بكل جوارحه إلى شكوى القرين. إنه يتحول إلى مرآة يرى الشاعر فيها نفسه، يحاورها دون أن يتوقع جواباً:‏
"سيدي الأخضر المر‏
يا سيدي يا بن يوسف‏
من لي سواك إذا أغلقت حانة في الرباط؟‏
من لي سواك إذا أغلقت بالعراق النوافذ؟"
ويستمر في حواره مع الذات /القناع/ /المرآة/، مخضباً بوحشة الغربة وقسوة الحصار، وفجيعة الزمن المساوم. عبر مازوشية مؤلمة:‏
"رأيتك في قرطبة‏
وكنت تبيع الجلود التي حملت رسمنا‏
والجلود التي حملت وسمنا‏
والجلود التي نرتديها"
ثم ينتقل بالأخضر إلى موقف آخر، في حكاية أخرى، وبناء فني آخر في قصيدة أخرى استخدم فيها الشاعر ما سمي بقصيدة النثر، جنباً إلى جنب مع قصيدة التفعيلة. فالأخضر ما يزال يعيش المحنة على مستويين، الشخصي والفني، أراد أن يمسك بها- عبر تلك الوصايا الملحوظة في القصيدة- من طرفيها، ويحيلها نسيجاً فنياً مركباً، يمثل صوت الجماعة:‏
"حسناً ها هو الأخضر بن يوسف أمام مهمة أكثر تعقيداً‏
مما كان يظن. صحيح أنه حين يكتب القصيدة يفكر قليلاً‏
بمصيرها.. إلا أن الكتابة تصبح يسيرة عندما يستطيع‏
التركيز على شيء. لحظة. رجفة. ورقة عشب..‏
أما الآن فهو أمام وصايا عشر. لا يدري أيها يختار..‏
والأهم من هذا كله: كيف يبتدئ‏
النهايات مفتوحة دائماً. والبدايات مغلقة. "
هكذا، عندما يبتعد الأخضر بن يوسف عن الأرض، يفقد قواه، يتحول إلى طائرٍ يحلّق في منطقة انعدام الوزن.. بجناحين منفصلين سائبين..!‏]/ (محمد رضوان- المنفيّ إلى الشعر)
..
الباحث بنعيسى بوحماله..
[وحسبنا أن نتفطن إلى عنوانه, >, وهي التسمية المتخيلة, رغما من رنتها الجزائرية الواضحة, التي استحدثها, لتقنيع أناه الشعرية في إبان مقامه المغاربي, وسهر عليها بالتنشئة والإنماء حتى أمست واحدة من مبتكراته الترميزية,]/ بن عيسى بوحمالة- أرض التاريخ.. أرض القصيدة- مج نزوى- 2009.

الخلاصة..
ثمة خلط أكاديمي بين "الاسطورة" و"الرمز" كما يلحظ لدى الباحث (عبد القادر جبار طه)، واعتبار ["القناع" أداة رمزية] - أحمد ياسين السليماني-. جاءت إشارة الدكتور جابر عصفور لتوظيفات "الرمز" في غير قصائد الأخضر، كما نفى – د. عصفور- التوظيفات الاسطورية وشبه الاسطورية في شعر سعدي. مما يضعف التوظيف الرمزي والاسطوري في شعر سعدي/ شخصية الأخضر تحديدا.
بينما أيدت بحوث عديدة اعتبار (الأخضر) "قناعا" شعريا.
تقوم فكرة "القناع" على أغراض [التخفي، التقمص] – بحث الدكتور أحمد ياسين السليماني (م. س.)-، وهذا يقتضي شعريا استخدام لغة تصطنع نوعا من القطيعة بين الذات الشاعرة والذات الناطقة داخل القصيدة، بينما تؤكد شخصية (الأخضر بن يوسف) حالة من التماهي والتطابق والوحدة العضوية والفكرية بين الشخصية والشاعر. واللغة الشعرية للأخضر، أو في القصائد المسجلة تحت هذا العنوان، تسمها حالة من الوضوح والشفافية التي هي سمة عامة في لغة سعدي يوسف، بعيدا عن أي موارَبة أو مراوَغة أو محاولة التفاف على القارئ.
شفافية لغة سعدي/ الأخضر وبساطتها تنسف أرضية القناع التي التجأت إليها بعض الدراسات مدخلا لدراسة هذه الظاهرة الشعرية. فالأخضر ليس رمزا، ولا استعارة اسطورية، ولا قناعا، وانما هي صورة أخرى (مطابقة) للشاعر. لا احد يستطيع اعتبار شخصية (جورج أرويل) رمزا أو اسطورة أو قناعا لصاحبها [أريك آرثر بلير(1903- 1950)]، وكذلك لورد بايرون [جورج غوردن بايرون/ جورج غوردن نويل(1788- 1824)]، باعتباره البارون السادس في عائلته؟.. وهل ثمة بعدا رمزيا أو اسطوريا أو قناعيا وراء لغز المؤلف الأكثر شهرة بالمعروف بـ (شيكسبير)؟ أو إسم (أدونيس) الذي تخذه الشاعر علي أحمد سعيد إسبر منذ 1948؟؟!!..



(19)
الأخضر.. الصوفيّ..
الشعرُ حالة كونية ميتافيزيقية لا تتيسّر مفاتيحها إلا لسلالة معينة حافظت على صلتها الرحمية الأولى عبر حبل سريري اسمُه اللغة وصفته الشعرية. واللغة الشعرية الأصلية هي جملة إشارات وعلامات وأصوات وأصداء كهربائية يترجمها شاعرها في أوعية لغوية تناسب ثقافة المجتمع المستوطن فيه.
وكما أن عقول العلماء تنماز بخواص ووظائف معينة لا تنشط لدى سواهم من البشر، فأن عقول الشعراء الملهَمين تنماز بمجسّات خاصة قادرة على استلام وتمييز إشارات كونية وترجمتها إلى مفردات وصور وتعابير تناسب المتلقي. وقد أدرك القدماء البعد الغيبي للشعر فنسبوه لقوى فوق بشرية وجعلوا للشعراء مكانة خاصة في مجتمعاتهم، وأعاروا لغاتهم ونصوصهم أهمية مميزة. وقد نقل العرب عن ذلك نسبة الشعر إلى قوى خارجية. ولتمييز عالم (الشعر) عن عالم (الدين)، اختصوا الوحي الديني بالملائكة، ونسبوا وحي الشعر للجنّ. ثم خصّوا الشعر بمكان مميز سمّوه بوادي (عبقر) أو – وادي الجنّ-.
فلا غرو أن يقع الشعر ضحية صعود نجم الدين- كما في بدايات الاسلام- وتمييز لغة القرآن بالنثر المسجوع عن لغة العروض الشعري. وقد عُرِفَ العربُ بالشعر واشتهروا به، وكانت الكتب الدينية تأتي كلّ قوم بما اشتهروا به وتسودهم. ولم يعرف العرب بالنثر، الذي هو لغة الأغريق وأهل الكلام (الفلسفة). وبها انمازت الأناجيل المكتوبة بلغة الأغريق، بينما جاءت التوراة حافظة لروح الشعر السومري ولغة بابل القديمة التي هي لغة التوراة البابلية. بينما كانت اللغة البابلية الحديثة لغة التلمود البابلي المحفوظة حتى اليوم، والمختلف بشأنها بين أتباع الهيكل وأتباع جبل جرزيم.
الشعرُ سابقٌ الدينَ في ثقافة الانسان على الأرض، وأوائل الشعراء في سومر عرفوا بالعرّافين [صيغة مبالغة من المصدر ع ر ف]. وكان أولئك جوّالين في البريّة، يخرج إليهم الناس، أو يمرّون بأطرف الحواضر، يستمع إليهم الناس ويحتفون بهم رغبة في بركاتهم. وبعد تطور الفكر الديني وهندسة المعابد، استمرت آثار العراّافين الجوّالة الزهاد إلا مما يقوتهم، منهم الرهابنة أو المتصوفة أو الغورو أي المعلمين الناطقين بحقائق وأسرار المطلق.
لقد كان - وما زال وسيبقى- الدين في أساسه صناعة لغوية وفنا لغويا، تلين له الألباب. وهو سرّ تعلق الديانات باللغة واعتبارها أساسا ولازمة للعبادة وتقوية عرى الجماعة [العرب انموذجا]. ومن الأمثلة البارزة على ظاهرة العارفين الجوّالين السيد يسوع المسيح المشهور أنه [كان يجول ويصنع خيرا]، ويوصف من قبل الجمهور بقولهم: [لم نسمع قطّ إنسانا يتكلّم بمثل كلامه!]/ (يوحنا 7: 46). ويصف المسيح اولئك الملهَمين [receiver] في صلاته [أحمدك أيّها الأبُ، ربّ السماء والأرض، لأنّك حجبت هذه الأمور عن الحُكماء والفُهَماء، وكشفتها للأطفال، نعم، أيّها الأبُ، لأنّه هكذا حسُنَ في نظرك!]/ (لوقا 10: 21).
أنا أحمد (الأعمى)
أنا (الطوّاف) في الطرقات
والساري مع النجم الذي في جبهتي
أنا (سيّد الأصوات)
أعرفها
أعزفها
عصاي جوادي الأبهى
ومركبتي (خطاي)
ورحلتي أوبات
أنا أحمد الأعمى
أدق سدى على أبوابكم!
[الكلمات داخل الأقواس للتأكيد، من قبل المؤلف]
ان الشعر الذي يجري دراسته وتدريسه في دور العلم والكتابة، هو الشعر الاجتماعي أو فن لغوي استساغ هزيمته على يد الكهنوت، وارتضى لنفسه الخروج من سوق المنافسة على سلطة الغيب. بل أن المغالاة في تحديد معاني الشعر وأغراضه وعروضه، هو من باب الافتئات على حرية الشعر وتحجيم سلطته وحصرها في أغراض تتبع الناس ورغباتهم، بعدما كان الشعر يقود الناس ويوجه أفكارهم وغرائزهم.
الشعرُ ليس صنعة لغوية، ولا رياضة وتسلية ذهنية، وانما هو رحلة (روحية) للبحث عن الذات، ليس الذات الفيزياوية وانما الذات الكونية الأولى التي منها يصدر النور والعرفان والطريق، الذي تؤسسه الغربة والخلوة، ولا تحدّه حدود أو تنتظره نهاية، إلا في حالة الاتحاد أو الذوبان، (الوجد الصوفي).
والأدب الصوفي والشعر منه بخاصة، هو محاولة لاستعادة الريادة الأصلية، لغة وفكرا وروحا وسلوكا. وقد قطع الشعر الحديث مسيرة غير هيّنة للخروج على النمط السائد، واختطاط القضايا الاجتماعية، والتماهي في هموم الفقراء والكادحين، طريقا للعروج في مدارج الروح وتجاوز الظاهر لما وراءه. ومنذ ستينيات القرن الماضي تتلبس شعر الحداثة أجواء وتهويمات وإشارات تتجاوز المألوف والمادي وتستنطق الغيبي بأشكال وأنماط ودرجات تتفاوت من نص لآخر، ومن شاعر لغيره. ومعظم شعراء الحداثة تتردد في نصوصهم تلك الأصداء قليلا أو كثيرا.
ويعتبر سعدي يوسف أحد أكثر شعراء الحداثة وعيا بجوهر كونية الشعر كما يراه في بيانه الشعري: [أن الشِعرَ يقدِّمُ الخطوةَ الأولى في السُّـلَّـمِ الذي يحملُ البشرَ إلى السماءِ.] والتي ينبغي استحضارها الدائم لقراءة سعدي وفهمه. السماء -كمفردة- هي إحالة على الغيب والميتافيزيك، أكثر مما هي الصورة الشعبية المتداولة. وفي شعر سعدي – أكثر من أي شاعر آخر- تتردد لفظة السماء/ السماوات= كناية عن الغيب، والعمى والظلام= كناية عن الرؤية القلبية والنور المطلق، والماء والنبات= كناية عن الخلق والحياة.
[الشعر خبزي اليومي]
يقول الشاعر في فقرة أخرى واصفا علاقته بالشعر، كحالة يومية مستمرة= حالة الوجد لدى المتصوفة. الخبز هو حياة الجسد، والشعر حياة الروح. مركزية الخبز/الشعر لدى سعدي تعني أيضا تهميش ما عداها من رغبات ومتطلبات. وهنا يبرز سؤال عن سرّ استمرار شعرية سعدي بنفس الحماس والشوق كما لو كان في بدء مسيرته الشعرية. [الملاحظة هنا ان بعض الشعراء تراجع انتاجهم أو توقف قبل هذه السن؛ (البياتي، النواب، مثلا)]. والواقع أن علاقته الشعرية تتمثل في سباق دائم مع الشعر، ليس من أجل الشعر ذاته، وانما ما هو وراء ذلك. يكتب الشاعر نصوصا يومية، وأحيانا أكثر من نص في اليوم، متأملا أن يُبلِغَه النصُّ الجديد ما لم يُبلِغْهُ سابقُه. فهو لا ينظر للمنظور، وانما للروحي خلف رداء الكلمات.
توصيف الشعر بالخبز، يذكر بعبارة يسوع الشهيرة [أناهو خبز الحياة]/ (يوحنا 9: 35). وعندما يخاطب المسيح الجمهور قائلا: [لا تسعوا وراء الطعام الفاني، بل الطعام الباقي إلى الحياة الأبدية؛ الذي يعطيكم إياه ابن الانسان، لأن هذا الطعام قد وضع الله ختمه عليه .]/ (يوحنا 9: 27) يقول الشاعر في بيانه الشعري: [الشِعرُ خبزي اليومي. وأريدُ له أن يكونَ خبزَ الناسِ جميعاً.]. فالشاعر هنا لا يتحدث عن أوزان وقوافي، أو عروض وبيان، وانما ينظر إلى جوهر روح الشعر التي سحقتها عجلات التطور السياسي والمادي، روح الشعر التي تضيء وتعمل وتمنح حياة وقوة.
قصيدة سعدي يوسف هي السهل الممتنع في لغته وانسجامه النفسي، وهي اللحظة اليومية التي يعيشها الناس ويتشاركون بها، وكأنهم فرد واحد. [ليكونوا واحداً، كما نحن واحد]/ (يوحنا 17: 22). هذا الذوبان الجمعي في [الواحد] هو أحد أركان نظرية التصوف الثلاثة : [وحدة الوجود- المعرفة الألهية- المحبة الالهية].
علاقة سعدي بالشعر لا تكتمل بدون الناس، طريقا لتحقيق نظرية الأبعاد الثلاثة للمكان النفسي [psycho- poetic-atmosphare]. ويعتبر أدونيس أول من وصف أثر هندسة البناء الداخلي للكنيسة والموسيقى الكنسية في تهيأة نفس المتلقي للدخول في الجوّ الروحي للعبادة، والانفصال عن جغرافيا المادة، وصولا لادراك المعنى الحقيقي لكلمة الشعر.


(20)
اللون.. وما بعده!..
يعتمد التصوف على [العلامات، الإشارات، الأصوات]. واللون أحد العلامات المقترنة بالظاهر من ثياب أو أعلام أو أصباغ. والألوان تتعدد عند المتصوفة تبعا لتعدد طرائقهم وتمييز أنفسهم عن بعضهم حسب مشايخهم وأقطابهم. ويعتبر اللون (الأخضر) دالة على الطريقة القادرية [أتباع الشيخ عبد القادر الجيلاني المتوفي 561هـ]. واللون (الأحمر) دالة على الطريقة الأحمدية [أتباع الشيخ أحمد البدوي المتوفي 627هـ]. واللون (الأسود) علامة الرفاعية [أتباع الشيخ أحمد الرفاعي المتوفي 578هـ]. واللون (الأبيض) علامة الطريقة البرهانية [أتباع الشيخ ابراهيم الدسوقي المتوفي 676هـ]. واللون (الأصفر) علامة الطريقة الشاذلية [أتباع الشيخ أبي الحسن الشاذلي المتوفي 656هـ]. وللون (الأخضر) في التصوف الاسلامي امتياز على ما عداه، لكنايته عن الانتساب للبيت النبوي.
الألوان تسم - كذلك- (عمائم) رجال الدين الشيعة من المجتهدين، إذ يشير اللون (الأبيض) للعالمية [عالم دين]، واللون (الأسود) خاصة بالسادة (ذرية فاطمة بنت محمد وعلي بن ابي طالب). واللون (الأخضر) دالة على الأشراف [النسب النبوي الهاشمي]. وفي بعض الصور المتداولة للأمام علي بن ابي طالب، تتشح ثيابه باللون (الأخضر) بينما عمامته باللون (الأسود)، دالة اجتماع أصول النبوة والأمامة في شخصه.
وفي الديانة المسيحية يتشح الرهبان ورجال الدين الأرثوذكس بالمسوح والعمائم (السّود)، بينما يتشح رجال الدين الكاثوليك باللون (الأبيض).
وفي الرسومات المسيحية التي ظهرت في القرون الوسطى، يرمز اللون (الأحمر) للأصل السماوي للسيد المسيح، ويرمز اللون (الأبيض) للملائكة –ذوي الأجنحة-، ويرمز اللون (الأصفر) للروح القدُس.
وقد انتقلت رموزية اللون في التاريخ الاجتماعي الأوربي ومنه السياسي المعاصر حسب جداول لها جانب من الأهمية الاعلامية. فاللون (الأحمر) دالة الاشتراكيين الدمقراطيين، واللون (الأزرق) دالة القوميين المحافظين، واللون (الأصفر) دالة اللبراليين الأحرار، واللون (الأسود) دالة المسيحيين الوطنيين، واللون (الأخضر) لأنصار البيئة وجماعة الخضر.
وتدخل الألوان كذلك في مدرج يعقوب لدى (القبالاه) [Kabalah] التي يعتبرها البعض منهجا للتصوف العبري. كما تحتل أهمية في الديانات الهندية والبوذية والتراث الأغريقي والروماني.

يقول الشاعر في قصيدة (الشيوعي الأخير يعود إلى البصرة)..
في البصرة رايات سود
في البصرة رايات بيض،
في البصرة رايات من نخل ذي أعجاز خاوية (اللون الأخضر)
لكن في البصرة ، أيضاً، وبلا أي كلام (أرجوكم!): رايات الملكة الأعلى من كل الرايات!
[المقصود بالملكة هنا اليزابيث الثانية (الأولى كانت تمول – القرصان- فرانسس دربك في القرن السادس عشر، الميلادي طبعاً) واليزابيث الثانية هي ملكة انجلترا والبصرة وما جاورها في القرن الحادي والعشرين].
*
لكنني، وأنا الشيوعي الأخير،
أظل أحمل رايتي الحمراء.. /[ لندن في 25. 5. 2006]
وفي قصيدة (سيمفونية مرئية) المؤرخة في [لندن 15. 1. 2013] تتشكل القصيدة من ثلاثة مقاطع يسم كلا منها لون واحد من الألوان التالية [أبيض، أخضر، أحمر] بالتدرج.
يتعامل الشاعر سعدي يوسف بوعي وقصدية تامّة داخل مشغَله الشعري، أي أن اهتمامه [بالألوان] وترتييها ليس محض مصادفة أو ظاهرة عفوية، وللقارئ اعتماد المرجعية المناسبة له لترجيح المعنى والدلالة.
وسمة (الأخضر) لدى الشاعر هي إحالة من (الأحمر) الأكثر سبقا وأكثر شهرة لديه. وإذا كان اللون (الأحمر) يلتقي ويتناص في [القرمزيّ، القانيّ، الورد] الواردة في شعره، فأن اللون (الأخضر) أكثر حضورا في دوال النبات والشجر التي يحفل بها شعره.
المرجح في تأويل (الأخضر) لا يبتعد عن –العمق- الديني الذي يشكل بؤرة تجتمع الأفكار الاجتماعية والمشاعر الانسانية المذابة في [الآخر] – الناس أو الانسان في مفهومه المطلق.
يا سيدي يا بن يوسف‏
من لي سواك إذا أغلقت حانة في الرباط؟‏
من لي سواك إذا أغلقت بالعراق النوافذ؟ / قصيدة (حوار مع الأخضر بن يوسف)
شخصية الأخضر بن يوسف ليست تاريخية، -ولا ينبغي لها-، ولا هي تراثية وإن التبست في الذاكراتية، أو استعارت من (عهد طفولته) ما يبتني به قوامها، وليست في أفضل تجلياتها، غير (- ابن يوسف) نفسه الذي قد لا يجد (سعدا) في اسمه، أو يكتشف -كارماه- الجديدة في (الأخضر) كما سبق وتماهى معه في صورة بوذا (جلسة للوتس).
فالبعد الأبتسمولوجي للأخضر أكبر بكثير من التحديد الأيديولوجي الضيق لدالة الأحمر التي عصفت بها رياح الأخفاقات وتبدّلات مؤشر السّاعة.
جاء اعتناق الشاعر لهذه الشخصية بحماس واندفاع غير عادي، عبر اتخاذها عنوانا لكتابين خلال (نصف) عقد واحد [1972، 1977]، وغير واحد من قصائده عبر أربعة عقود من ظهورها. بالمقابل لم يحتل اللون (الأحمر) ولا لفظ (الشيوعي) غلاف أحد كتبه خلال ذلك. التغير المفاجئ في هذا المجال، كان من انعكاسات الاحتلال الأميركي -كما تورده المصادر الغربية [American Invasion of Iraq]- لبلده (2003)، ممثلة في خيبته من ردود الأفعال الوطنية..
[يشتمونني يا أدريان ريتش لأني ضدّ الاحتلال . ومن بين هؤلاء رفاقٌ لي لم يُسَمـوا الاحتلال احتلالاً حتى الآن.] / قصيدة (21 إطلاقة لأدريان ريتش)/ 7. 9. 2012
والعنوان الوحيد في هذا الاتجاه هو ديوان (الشيوعي الأخير يدخل الجنة) الصادر عام 2007 (دار توبقال بالمغرب)، حيث تتكرر صفة (الشيوعي الأخير) بإلحاج وقصدية في عناوين قصائده، لتأكيد المتغافَل عنه، واستحضار المُغيّب. ولكن حتى هذا العنوان لم ينفصل عن دائرة المصطلح الديني (.. يدخل الجنة)، وديوان (صلاة الوثني) الصادر عام 2004 (دمشق).
ورغم استمرار معاودة الشاعر لسميّه (الأخضر)، في نص [تناوبات/ 2011]، يمكن القول.. بتراجع جهد الشاعر وحماسه في استكمال وتدعيم تلك الشخصية المبتكَرة والتي سوف يكون لها شأن متزايد مستقبلا، في دراسة شعره واسهاماته الحداثية في التجديد والاضافة.
طيلة الفترة من (1977) حتى (1993) استمرت دولة الأخضر بدون منافس، حيث ظهرت مجموعته (الوحيد يستيقظ)، بعد عقدين من أول ظهور للأخضر بن يوسف (1972). وبعد عقد من صدور (الوحيد يستيقظ)، وهي فترة ما بعد الاحتلال ومضاعفاتها الفكرية والنفسية والسياسية، حيث يصدر الشاعر جملة استحالات حكائية تتداخل في شخصه ويتناص فيها، مثل: (صلاة الوثني) عام 2004، (حفيد امرئ القيس) عام 2006، (الشيوعي الأخير يدخل الجنة) عام 2006، و(أغنية صيّاد السمك..) عام 2008،
لكن كلّ هذه الشخصيات والمراميز المتعددة والمتنوعة، لا تخرج في جوهرها عن إطار وفضاء وخطاب (الأخضر بن يوسف)، حيث يحمل كلّ من أولئك شيئا من تفاصيل الأخضر ومسوحه ولغته.
أنتَ
حفيدُ كندةَ
وامرؤ القيسِ... النبيُّ
أفقْ
لماذا أنت في أرضٍ لقيصرَ
أيُّ معنى أن تكون بلندن الصغرى
أو الكبرى
أقول لك النصيحة يا رفيقي..
غادرِ الآنَ..
امرؤ القيسِ الذي قد جاء.. لا تتركه ينتظر! / [قصيدة (غادر الآن)/ لندن في 22. 11. 2011]
أنّ سعدي يوسف عصيّ على التنميط في قالب فني أو فكري أو شخصية أو لون، ولكن تواصلية الأخضر معه تعدّ رقما قياسيا.
هل يمكن، عبر كلّ تلك الرموز والاستعارات والتناصات أو الاستحالات الشعرية والذاتية، استكناه ما يريد الشاعر سعدي يوسف أن يقوله؟.. ما هي رسالته أو كلمته التي ما زالت تتحشرج منذ ستة عقود.. ذلك ما يحتاج مزيدا من القراءة والاطلاع على تجربته وجوانبها. ولكن.. ليس قبل أن ينتهي الشاعر من رحلة البحث عن كارماه الأصلية..
آهِ ...
لا بُدَّ
أنّ الذي يتراءى ، وما لا ترى :
مطرٌ .
غيرَ أنكَ في ظُلمةٍ ، لا ترى .
أنتَ لستَ تُحِسُّ بما أرعشَ الشجرةْ
أنتَ لستَ تُحسُّ بما جعلَ الطيرَ يدخلُ في الشجرةْ.
مطرٌ لا يُرى
مطرٌ قد أحَسَّ به الطيرُ قبلكَ
والشجرةْ .

مطرٌ سوف يهطلُ في الليلِ
تحتَ المخدةِ
أغزرَ ممّا دعا الطيرَ أن يحتمي بدمِ الشجرةْ
....................
....................
....................
وها أنتذا
مثلَ أعمى
ترى!
قصيدة (غفلةٌ)/ أمستردام 11.08.2012
*



(21)
الشاعر.. النبيّ..
ثمة مفردات وصور وإشارات تتكرر في لغة سعدي الشعرية بشكل متفاوت عبر مجاميعه المتعاقبة، وبشكل يسهم تجميعها في تكوين قاموس شعري خاص بألفاظه ورموزه وصوره وأفكاره؛ وبما يعني كذلك مركزية البؤرة التي يصدر عنها عبر تاريخه الشعري، كما يعكس وجود غائية واضحة كامنة يسعى نحوها أو نحو تحققها شعريا –كحدّ أدنى-.
وقد سبق الالماح لذلك في المائيات والنباتات والألوان والعمق الغيبي. وأتوقف هنا لدى صفة أخرى في دائرة المصطلح الديني المقابلة لصفة الشاعر.. النبيّ. هذه اللفظة الشائعة التكرار بشكل مباشر أو غير مباشر لتقود القصيدة في اتجاه ما خارج مساحة الورقة. وقد سلف القول.. أن معظم الرموز والمسميات التي ترد لدى سعدي يوسف تتناص مع الدلالات الدينية والنبوية حتى لو بدت بعيدة ومغرقة في علمانيتها، مثل صفة (الشيوعي الأخير) كصفة عصرية للنبي الثوري المناضل لتحرير الفقراء والكادحين من العبودية والاستبداد. ومن حق القارئ المعاصر التساؤل.. بل الاعتراض على علاقة (الشيوعي) ب (الجنّة)، بحسب القاموس الشعبي السائد. فالشيوعية وأهلها في طرف، والجنة كمفردة دينية وأهلها في طرف مقابل –إن يكن نقيض-. إذا كان المقصود بها (جنة شيوعية) فالتعبير المناسب هو (utopia) أو (paradise) بالمصطلح الانجيلي الغربي؛ أما (الجنّة) فهي مصطلح تراثي شرقي عميق الأثر في الوعي الجمعي للعرب الثابت الدلالة والتأثير. وحيث يتحول أمرؤ القيس الشاعر في القصيدة إلى نبي [قصيدة (غادر الآن)/ لندن في 22. 11. 2011]، يقول في نص آخر..
أجلسُ عند الشبّاكِ المفتوحِ قليلاً ...
أشهَدُ معجزةً :
كان الوشَعُ اللامرئيُّ ، الـمُرخى بزجاج الشبّاكِ ، يشِعُّ
الوشَعُ اللامرئيُّ يشِعُّ ، متيناً ، بلّوراً ...
أيُّ عناكبَ ظلّتْ تنسجُ هذا البلّورَ ؟
لأيّ نبيٍّ كانت تنسجُ هذا البلّورَ ؟
[(ما نسج العنكبوت)- 25. 11. 2012]
والنص تسجيل لمقطع من سيرة ذاتية، لكن دلالات العنكبوت ونسجه تستفز ذهنية القارئ باتجاه واضح، لا تكذبه الدلالات الأخرى لمفردات [معجزة، الوشع اللامرئي، البلور]، لينتهي بالتصريح الحاسم (لأيّ نبيّ كانت تنسج..)!. وفي نص آخر يصف نفسه بالنبيّ..
"غرفة العمليات حيث يموت النبيّ هي الغرفة 13 /[لندن في 13. 12. 2013]
في الدراسات الأدبية تسجل هذه الظاهرة في باب الأستعارة أو في مجال [رمز، اسطورة، قناع]، لكن ما لم يدرس أو يؤشر هو [المصادَرة].. حيث أفضل طريقة لمواجهة [منافسة/ محارَبة] طرف آخر هو الاستيلاء على لغته ومصادَرة مصطلحاته وشعاراته، وهو أمر، -قد- يعجز الطرف الآخر عن معالجته بالمثل.
وفي مثلِ معجزةٍ ،
مثل ما كان يَحْدُثُ للأنبياءِ
أتتْني مع الظُّهرِ ... آنُ التي هي مريمُ .
[قصيدة (درب الزجاجيين)/ لندن 20. 3. 2012]
في أيام الحرب الباردة، قام كلّ معسكر بوصف الآخر بالفاشية، واليوم ترفع العولمة شعارات الدمقراطية والثقافة الشعبية، المستعارة في أصلها من مفهوم (الجماهير) و(عصر الشعوب) الذي نادت به ثورة اكتوبر (1917) والمعبّرة في جوهرها عن حاجات الطبقات الشعبية الكادحة وحقوق الشغيلة والفئات المستغلة بحكم النظام الاقتصادي الطبقي. استولت الأمركة على المصطلحات وأفرغتها من مضامينها الجوهرية، بل حرّفتها إلى معنى مضادّ. وفي ظل العولمة، لم تتسطح الثقافة والفنون فحسب، وانما زادت معاناة الفقراء واستشرى الاستغلال والكذب والجريمة.
ان أحد الأسباب البنيوية للاشكالية الفكرية للشيوعية العربية هو موقفها التكتيكي في مسايرة التيارات الدينية والدخول معها في صفقات وتحالفات معلنة أو سريّة. واستقراء صلة اللغة الشعرية بالموروث عموما، وبالديني منه تحديدا، يفهم ضمن موقف عام و(قرار سابق) للشيوعية العربية تعود بتاريخها إلى تزايد اهتمام الباحثين والمنظرين الشيوعين بالتراث العربي والاسلامي كما لدى.. حسين مروة [1910- 1987] صاحب (النزعات المادية في الفلسفة العربية الاسلامية). وهادي العلوي [1933- 1998] في أبحاثه التراثية.
ان تحطيم القوالب وتليين الحافات واستزادة التناصات، ضرورات تقتضيها اللغة والثقافة والظواهر الاجتماعية لتحقيق مزيد من الانسجام والسلم المجتمعي، عندما تستند للعقل وتتسم بالجدية، لتكون منهجا عاما في حركة التطور الاجتماعي والثقافي.. وبالتزامن التاريخي، يشكل ظهور شخصية (الأخضر..) جزء من تلك الموجة، والتي يمكن استقراؤها لدى أدباء وشعراء عرب كثيرين أيضا، باتجاهات ومستويات متفاوتة.
مثل هذا الاستنتاج قد يبدو متعسفا في توصيف ظاهرة معينة، لكنه يؤكد ان نبتة الشعر لا تنمو وتكبر في أنبوبة (مفرغة من الهواء) كما في التجارب المختبرية. مع الآخذ بنظر الاعتبار التصريح الواضح والمكرر وبلغة لا تخلو من [إصرار ومفاخَرة] من قبل الشاعر بانتمائه السياسي وولائه لأيديولوجية عالمية معروفة.
الهوية الأيديولجية للشعر، شاعت في ظل الحرب الباردة [الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين] ولعبت دورا في مجال الدعاية [ضدّ الامبريالية الأمريكية!]، مترافقة مع أفكار سارتر [1905- 1980] عن الأديب الملتزم والالتزام في الأدب. ومنذ السبعينيات اتجه الأدب للتحرر من (الأيديولوجيا) والاتجاه للهويات والمفاهيم الوطنية والانسانية العامة. مما يدفع لسؤال عن عودة دعوة [الشيوعي الأخير..]!.
مبرر ذلك مرتبط بزمكانيته كراهن سياسي. حيث يضع الشاعر نفسه حارسا للمبادئ والأفكار والمواقف الأصلية للحركة الشيوعية، التي يجدها تراجعت لدى [رفاقه (الذين) لم يُسَمـوا الاحتلال احتلالاً.]. لكن (الشيوعي) وتوارده المتجدد، هو تعبير خارجي عن استمرار آلية الصراع بين الوعي واللاوعي لديه أيضا؛ بين الراهنية القلقة وبين الأعماق الهادئة وراء طفولة بعيدة. ثمة محاولات حثيثة للتقريب بين (الأخضر) و (الشيوعي) لمدة الشاعر، وهي مفاهيم مفتوحة خارج النمطية والقولبة في شعره، وتقدم قصيدته الجديدة نموذجا للتقريب أو التماهي بين (الشيوعي) و(المسيح).. [المسيح رفيقنا..]
هو لم يكُنْ يدري بأنّ العامَ أوشكَ أو يكادُ
فأيُّ معنىً للتتالي ؟ ساعةٌ من بَعدِ أُخرى ...
ثمّ ماذا ؟
كانت الأعوامُ شاخصةً لديه مع اندفاعِ الكونِ
أحمرَ : ثورةً من بعدِ أخرى .
ثَمَّ في باريسَ راياتٌ لكوموناتها .
في قلب بتروغراد يستهدي لنينُ برايةِ الفقراءِ.
في بغدادَ جسرٌ ...
أيُّ معنىً للتتالي الآنَ ؟
.................
.................
.................
يلتفتُ الشيوعيُّ الأخيرُ إلى رفيقته ، يقولُ لها :
لـنُمضِ مساءَ هذا اليومِ ، يا إقبالُ ، في بارِ الضواحي !
هكذا نمضي ...
تقولُ له رفيقتُه :
أنحتفلُ العشيّةَ بانتهاءِ العامِ ؟
أم نستقبلُ الآتي ؟
يقولُ لها الشيوعيُّ الأخيرُ ، مُقَبِّلاً ،ثمِلاً ، أناملَها :
سنحتفلُ!
المسيحُ رفيقُنا ، حتى وإنْ جعلوه ، عن قصْدٍ ، نبيّــاً ...
إننا، من أجْلِ هذا الكونِ ، نحتفلُ !

[قصيدة (الشيوعي الأخير في رأس السنة)/ لندن 9/1/2014]
صفة الانتماء (الكوني) هي بديل للانتماء (الأممي) المحدد في مجال التاريخ. والكونية – خارج سياق الفيزياء- هي جزء من القاموس الديني وأحد المهيمنات التكرارية لدى الشاعر..
لقد همد الكون الكون أعمى.. [قصيدة (عناد) / لندن 11. 12. 2010]
هل ينفجر الكون إذا انطلقت صيحة طير؟ [ قصيدة (محاولة تثبيت)/ لندن 19. 12. 2012]
ومن مرادفات (الكون) [مجرات، العالم، الدنيا]..
من نقطةٍ فُـقِئَتْ على إحدى الـمَجـرّاتِ.. / [قصيدة (رباعية الضوء البعيد)/ 19. 11. 2010]
كأنّ العالمَ لم يتكون بعدُ.. / [قصيدة (منظر صباحي)/ لندن 30. 6. 2012]
سنجوب بحار العالم.. [(في تلك الثمانينيات)/ لندن 1. 1. 2009]
أعتمت الدنيا (كنّا في السادسةِ) / [قصيدة (ما نسج العنكبوت)/ لندن 25. 12. 2012]
فالصلة بين (الشاعر) و(النبيّ) هي عود للبعد الصوفي في وحدة المصدر والوحي واختلاف طرائق التعبير والوصول.
أنا أجلسُ عند الشبّاكِ المفتوحِ قليلاً
لأدخِّنَ ...
أعتمت الدنيا (كنّا في السادسة..)
صدَقَ العرّافونَ :
المطرُ الصامتُ ينهمرُ.
لكني أسمعُ ...
ماذا ؟
أغصاناً تتقصّفُ ؟
ممشى غزلانِ الغابةِ ؟
خرخشةً لثعالبَ ؟
أهوَ الوبْلُ المتدافعُ في الريحِ الليليّةِ ؟
أجلسُ عند الشبّاكِ المفتوحِ قليلاً ...
أشهَدُ معجزةً :
كان الوشَعُ اللامرئيُّ ، الـمُرخى بزجاج الشبّاكِ ، يشِعُّ
الوشَعُ اللامرئيُّ يشِعُّ ، متيناً ، بلّوراً ...
أيُّ عناكبَ ظلّتْ تنسجُ هذا البلّورَ ؟
لأيّ نبيٍّ كانت تنسجُ هذا البلّورَ ؟
...............
...............
...............
أنا أجلسُ عند الشبّاكِ المفتوحِ قليلاً
لأُدَخِّنَ .
[قصيدة (ما نسجَ العنكبوتُ)/ لندن 25.11.2012]




(22) أرض لا ترى..!
المحطة السويدية
Sundbyberg
سعدي يوسف
ثَــــــــمَّ كان القطارُ الوحيدُ الذي يبلغُ الأرضَ تلك التي لا نَرى
يبلغُ الأرضَ تلك التي لا تُرى
لا تُرى بالعيون ْ
لا تُرى بالجنونْ
رُبّما كان لي أن أُغادرَني .....
ربما كان لي أن أغادرَ بيتي ، وما خلَّفَ العُـمُــرُ الجهْمُ لي من متاعْ
ربما سيكون الضَّياع
سبيلاً
إلى تلكمُ الأرضِِ ...
............
............
...........
مَنْ يا تُرى ستكونُ هنالكَ واقفةً بانتظاري ؟
04.04.2011
الصورة البصرية، التصوير البصري، جانب من الوصف الذي وسم به النقاد تقنية القصيدة/ اللقطة في شعرية سعدي. البصرية من (حاسة البصر) – وليس البصرة المدينة-، هي أحدى الحواس الخمس، والمقصود بها حاسة النظر - العين-. الصورة البصرية هي أيضا الصورة السينمائية التي تلعب فيها (الكامره) دور (العين) لتسجيل من يظهر أمامها من أجسام ومظاهر.
الصورة أو اللقطة البصرية في قصيدة سعدي هي كناية (ضدّيّة) يستخدمها الشاعر لتجاوز الكائن والمرئ
والمحدود لما وراءها. ان الوجود الحقيقي حسب هايدغر هو ما ينحقق في الذهن، وفي قصائد سعدي تحلّ (الذاكرة) محلّ الذهن، وتنسحب الحواس تدريجا من الخارج لتعمل الحواس الباطنية أثرها في النص. فالصورة الحسية اظاهرة التي دفعت النقاد لوسم الشاعر بالانطباعية، هي مجرد قناع أو واجهة، أو لبوس المتحقق الشعري، المتقاطع مبدئيا مع معاملات العالم الخارجي في بعديه: المكاني (المنفى)، والسياسي (الأمركة).
ولا تقتصر آلية ردّ الفعل إزاء ذلك، على تعطيل عمل الحواس الخارجية، فحسب؛ وانما استعادة الطفولة من بواطن اللاوعي الذاكراتي واستحياؤه كواقع بديل، يستمد حرارة راهنية.
هذا الفعل الشعري يذكر بفكرة (الفردوس المفقود) في الشعر الأوربي الوسيط، الذي كان له دور (إحيائي) في انتاج أوربا الحديثة وبلوة هويتها الثقافية، بينما دوافع الشاعر هنا (إلغائية) تسعى نحو تحقيق واقع (تعويضي) بديل للراهن. فالقصيدة اللندنية- الألفينية لا تكتفي بتحرير الشاعر من الراهن (!)، وانما تساعده في استبصار مستقبل مشرق وسعيد [في أعماق ذاكراتية الطفولة!].
الغائية هي مركز العناية الرئيسة في منهج التصوّف، وهي تتمثل بتعبيرات متعددة، من بينها [التماهي، التخلي، الاختفاء، الذوبان، الغياب]. أما آلية تحققها فهي تكاد تكون واحدة، التحول من الحضور (المادي) إلى الغياب= الحضور الغائي [الذهني أو الروحي]، وهنا ينبغي إضافة فهم جديد لوظيفة الايقاع النفسية في قصيدة سعدي.
(كان الشيخ أحمد الرفاعي الملقب ب"شيخ الطرائق..(..) يقول : "أنا أحمد اللا شيء" ، " أنا لا شيء اللاشيء".). /[حذام الودغيري -الحوار المتمدن-العدد: 4322 - 2013 / 12 / 31 - 18:20 / من محاضرة الدكتور يوسف زيدان - تراثنا الروحي- بمركز دربة للتدريب دبي. أو - التصوف هو تجاوز الذات إلى الموضوع-]
ثمة صيغ وأساليب متعددة استخدمها المتصوفة لوصف ذلك الحضور الكائن وراء عوالم النفس والفيزياء، من أبرزها في قصيدة سعدي هي فكرة (الأعمى) – أحمد الأعمى-، وتمييز الرؤية المادية عن (الرؤية الغيبية)، كما في الآتي..
- أين تمضي؟
- أنا أعبرُ الجسرَ...
- لكن، إلى أين؟
- أمضي إلى الضفة الثانية.
- كلُّ جسرٍ له ضفتان...
فأنى تريدُ؟
- أنا أقصدُ المنتأى.
- لستُ أفهمُ...
- سيدتي!
- أنا عمياء...
- في مثل هذا الضبابِ، أنا الآنَ مثلك أعمى / [قصيدة (تهويم المسافر)- حانة القرد المفكر].
كنت أتبعه كاعمى في متاهته.. / [لندن 10. 2. 2010]
الكون أعمى..
.. سوف أبرئ ذلك العمى..
.. في مساء بلا رقة أو سماء.. / [قصيدة (عناد)/ لندن 11. 12. 2010]
قفازاتي
تمنعني أن ألمس ما لا يتلامسُ
حقاً
والآنَ أفكّر في أن أبتاعَ
لأذنيّ القفازات
فلا أسمع ما لا يُسمَع
أبتاع الـ Headphones
مثلاً...
................
..............
.............
لكنْ ، ماذا عن عينيَّ؟
، فلأكنِ الأعمى!" / [- مجموعة حانة القرد المفكر-]

ان الذي يتراءى، وما لا ترى
مطر،
غير أنك في ظلمة، لا ترى..
.. وها أنتذا..
مثل أعمى..
ترى! / [قصيدة (غفلة)/ امستردام 11. 2. 2012]
هل تبصرُ الطيرُ ما نبصرُ.. / [قصيدة (أيلول)/ لندن 20. 9. 2010]
سوف أمضي إذن، نحو هدبي..
سأسأله أن يطيل –كما يقدر- الغمضَ..
أسأله أن أنام! / [من ديوان – حانة القرد المفكر]
وفي قصائد أخرى تتجسد حالة الغياب كما في النماذج التالية..
أحيانا.. في الليل الهادر
في منتبذي الأوربي..
أغادرُ غرفة نومي..
وأسير إلى باب المنزل..
معصوبَ العينين، برائحة من سمك وسراطين..
فأهبط درجات السلّم أعمى..
إلا من رائحة الساحل! / [قصيدة (السباحة في خليج عدن)/ لندن 9. 1. 2009]
(-رائحة الساحل، رائحة من سمك وسراطين- هي أحالة ماضوية ذاكراتية تؤثث حالة غيابه!)
لحظة وأكون خارج برجي الحجري.. / [قصيدة (رباعية الضوء البعيد)/ لندن 19. 11. 2010]
فالعمى، التماهي، التناهي، التلاشي والرغبة الجامحة في السفر والانتقال والتغيير [مكان، مرأة] ما هي إلا صدى تلك الروح المحلقة المتردة الشائقة لتحققها ولو في طفولة بعيدة تتلبّس القصيدة.. وماذا كان قدماء كبار المتصوفة.. الحلاج والعجلي وابن عربي.. أليسوا شعراء..!
التجلي شعرا.. (نماذج)..
دربُ الـزَجّـاجـين Rue de la Verrerie
قبل عشرين عاماً وأكثرَ كان الطريقُ إلى الدرْبِ طَوفي الذي أتشبّثُ بالحبْلِ منهُ ،
لقد كدتُ أغرقُ في مَهْمَـهٍ من أزقـّـةِ باريسَ . ما قالَ لي أحدٌّ : مرحبـاً.
لم أجالسْ بمقهىً ، صديقاً . و لا قالت امرأةٌ : كيف أنتَ؟ أمُرُّ على واجهاتِ
المخابزِ ، أستافُ رائحةَ الخبزِ . ثَمَّ تلالٌ من الجبْنِ.ثَمَّ شــواءٌ وجــابيـةٌ
من نبيذ . لقدكدتُ أسقطُ جوعاً. قميصي تَهدّلَ.والبصَرُ الـمَحْـضُ غامَ .
وفي مثلِ معجزةٍ ،
مثل ما كان يَحْدُثُ للأنبياءِ
أتتْني مع الظُّهرِ ... آنُ التي هي مريمُ .
قالت: سلاماً.
أقِمْ ههنا
ادخُلْ
ولا تخف ...
البيتُ بيتُكَ .
أرجوكَ :
فتّحْتُ بوّابةَ اللوحِ
طهّـرتُها بزجاجةِ ماءٍ من النهر ...
فادخلْ !
لندن 20.03.2012
ليليّةٌ في ليلٍ عاصفٍ
أصخرةٌ في مهبّ الريحِ ، أنتَ ؟
إذاً
لأيّ معنىً تهبّ الريحُ ؟
ربّتما أرادت الريحُ أن تنأى ... وتهدأَ
أنتَ ، اللحظةَ ، الصمَدُ
والريحُ تعرفُ أن الصخرةَ احتفلتْ بعُسْرِها
فكأنّ الريحَ تُخْتضَـدُ ...
تقولُ :
وحدَكَ
لا أهلٌ
ولا بلدُ ،
وليس مَن تُغْمِضُ العينينِ إنْ دنتِ المنـيّـةُ .
أنت الواحدُ الأحدُ ...
فاهدأْ
وكُنْ مثلَ ما أنتَ :
الطريقُ إلى بغدادَ أعقَدُ ممّا كنتَ تعتقدُ .
فاهدأْ
ودعْ طائرَ الليلِ الشحيحَ يقُلْ شيئاً ؛
ودعْ ريحَ هذا الليلِ تـتّـئـدُ ...
لندن 26.04.2012
رباعية الضوء البعيد
(1)
ضوءٌ بعيدٌ بين أغصانٍ مُعَرّاةٍ ... أرى من فُرجةٍ في منتهى الصِّغَرِ
انثَنَتْ وسطَ الستارةِ ، لَمْحَ ذاك الضوءِ . كان الليلُ يَـنـتصفُ .
الحديقةُ تختفي.أشباحُها الأغصانُ عاريةً . أُحِسُّ على ذراعي لَسْعةً.
أتكونُ من بردٍ ، أم الأشباحُ وهيَ تَنوسُ تُرعبُني ؟ أَم الضوءُ البعيد؟
(2)
مُحَدِّقاً في عَتمةِ الزمنِ .انتبهتُ ... أكانَ ذاك الضوءُ يأتي من زمانٍ
سالفٍ ؟ من نقطةٍ فُـقِئَتْ على إحدى الـمَجـرّاتِ ؟ الحـديقةُ
لا ضياءَ بها . وفي الـبُعْدِ البحيرةُ لاءمَتْ أمواهَها في البردِ والتمّتْ.
أصيّادون ؟ هل ذئبٌ يُقَضْقِضُ عُـصْـلَـهُ؟ أم أنني أتوهَّـمُ الأشياء؟
(3)
لكنّ هذا الضوءَ يأتي . بل أكادُ الآنَ ألْـمُـسُــه .يكادُ الضوءُ
يلسَعُ عينيَ الـيُســرى.أغادرُ فَرْشَــتي ، وأُطِلُّ بين ستارتَينِ.
الضوءُ غَـمّــازٌ ، وتلك الدوحةُ الجرداءُ تُفْسِحُ مَنفَذاً .أحسستُ
أنّ زجاجَ نافذتي الـمُضاعَفَ صارَ فضّـيّـاً ، وأني في الـمَـدار.
(4)
يا مرحباً !
يا مرحباً بكَ ، أيها الضوءُ البعيدُ ، شقيقُ روحي !
مرحباً !
والآنَ أتبَعُكَ ...
السبيلُ إليك أنتَ.
النورُ يجعلُني خفيفاً ، طائراً
والنورُ يجعلُني شفيفاً .
................
................
................
لحظةً ، وأكونُ خارج بُرجيَ الـحَجريّ .
سوف أكونُ أنت!
لندن 19.11.2010


القسم السادس.. استحالات المكان..
"هل تقودُ نُعْمى الاستقرارِ إلى مدخلٍ معيَّنٍ ؟
نعم . إنها تؤكدُ أمرَينِ : ذهابَ الوطنِ وذهابَ المنفى في آنٍ."/ س. ي.

(23)
فردوس أبي الخصيب..
أكثر من ثلاثة عقود عاش الشاعر سعدي يوسف خارج بلده دون أن يستقرّ في مكان أو بلد واحد. وبحكم ذلك تنقل في معظم البلدان العربية وأقام في معظمها. خلال كلّ ذلك لم يعبر المتوسط نحو الشمال. وهو موقف يمكن أن نتقراه لدى مثقفين عراقيين غيره، مثل الشاعر مظفر النواب والمفكر هادي العلوي وفنانين مثل فؤاد سالم.
لكنه فجأة، طورد في عمّان، ولم يستطع الاستقرار في دمشق المشرعة لكلّ أنواع السمسرة السياسية واتجاهاتها، ولبنان التسعينيات لم تعد لبنان. كان سعدي محبطا ووحيدا، وكما تفصح قصيدة (القفازات) لم يعد ثمة من يصافحه.
في أواخر التسعينيات، استقر في لندن، وبدأ مرحلة جديدة ليس في تجربته الشعرية فحسب، وانما، في سياق احساسه بازدواجية المكان. في كل تنقلاته العربية كانت الأرض والسماء حاضرتين في شعره وشعوره، في إطار من الانسجام والتكامل مع الوطن والذات. ولكن.. ذلك الانسجام تراجع في شمال المتوسط واستحال إلى حالة من الصراع غير المتكافئ.
(سعدي يوسف كان شديد الارتباط بالمكان الذي يمكث فيه أو يغادره. صارت كل الأمكنة لديه مؤقتة ومستمرة بآن معاً. فنشأت القصيدة لديه على المكان والاغتراب. فجاءت معظم عناوين قصائده في (بعيداً عن السماء الأولى) أسماء لمدن وأمكنة وشوارع وبحار، استقى منها الشاعر صورته الشعرية من قيمة المكان وجماليته.‏) / [محمد رضوان- م. س.]
يشكل الوطن بقدمه العرجاء أرضية منظومة سعدي يوسف الشعرية الباعثة والمشكّلة لكل أحلامه وتطلعاته وآلامه.
سوف يذهب هذا العراقُ إلى آخر المقبرة
سوف يدفن أبناءه في البطائح، جيلاً فجيلاً
ويمنحُ جلاده المغفرة...
لن يعودَ العراقُ المسمّى
ولن تصدح القبّرة...
فامشِِ - إن شئت- دهرا طويلا
وادعُ – إن شئتَ – كلّ ملائكة الكون
كلّ شياطينه،
ادعُ ثيران آشور
عنقاءَ مغربه...
ادعُها
وانتظرْ في دخان التهاويل
معجزة المبخرة.
(1997- عمان)- رؤيا- (حانة القرد..)
ليس من اليسير رسم صورة مكتملة لوطن الشاعر خارج الشعر. الوطن ما زال يمثل إشكالية جدلية تاريخية على مستوى الواقع، حيث تتعدد مستويات القراءة وتتفاوت الرؤى والمفاهيم تبع تفاوت معادلات الوعي واتجاهات الأدلجة. لكن الثابت في هذه المعادلة هو وقوع الشاعر في الطرف الآخر، الخاص مقابل العام، والنخبوي مقابل السائد، والخارج مقابل الداخل، والمعارض مقابل الحكومة، الفكري مقابل السياسي.
ليست الأطلالُ ما نهجسُهُ
أغنيةً
أو نجتليهِ
شاخصاً يَبْلى مع الريحِ ...
هي الأطلالُ تنمو خِلْسةً
كالعشبِ
تغفو ، خلسةً ، كالعشبِ
تذوي ، خلسةً ، كالعشبِ.
والأطلالُ ليستْ حجراً
أو رملةً
أو ما تَبَقّى من رمادِ الموقدِ .
الأطلالُ
ما تُمسكُهُ الراحةُ ، من أيّامنا ، كالماءِ ...
ما نُمسكُهُ ، نحن ، من الأرضِ الهباء !/ [قصيدة (الأطلال)/ طنجة 24.01.2012]
الوطن.. في الشعر وفي أحاديث العرب هو موضوع رومانسي، أكثر منه معطى واقعي مرتبط بظروف وسياسات ومصالح داخلية وخارجية. العلاقة بالوطن ليست مجرد حبّ وكره، وشعارات وموقف من الحاكم، انما هي جزء من الوجود الشخصي للفرد، مادة رئيسة في بطاقته الشخصية. البدوي القديم كان يتنقل بدون بطاقة وتصريح رسمي، بينما عالم اليوم تحكمه الحدود الرسمية والعسس والمخابرات وبصمات الأصابع. الانسان المعاصر ورقة. يولد بورقة ويعيش بورقة، يتنقل بورقة ويدفع الايجار بورقة، ولا يفتح له حساب بنكي بدون ورقة. الورقة هي جواز السفر، أو بطاقة الهوية التي استفزت الفلسطيني محمود درويش أمام السلطات الاسرائيلية ليكتب قصيدته الشهيرة (البطاقة الشخصية)، هي أيضا إشكالية كل فرد عربي أو شرقي أوسطي تتحدد علاقته بوطنه بجواز سفره، وقيمة جوازه الوطني تتذبذب مثل قشة في مهب الريح!.. ذلك ما حصل للجواز العراقي غب قرارات الحصار الدولي [1991- 2003] والذي تجمع الهيئات الحقوقية الدولية والشخصيات السياسية والأكادمية على أنه الأول من نوعه في التاريخ، والأكثر غرابة ووحشية، لأنه لم يقتصر على الأسلحة، وانما استهدف حياة الفرد العراقي وحاجاته الشخصية. ففي لحظة من لحظات الجنون الدولي قررت معظم الدول العربية والغربية غلق حدودها وسفاراتها في وجه الجواز العراقي. وكثير من تلك السفارات –في الأردن وسوريا وغيرها- علقت يافطة على أبوابها أو شيابيك المراجعة [لا نتعامل بالجواز العراقي]-اختصارا للوقت والجهد-!.
اسقاط الدول التعامل بالجواز العراقي وضع وجود العراقيين خارج بلدهم في خطر الترحيل القسري دون اعتبار للمخاطر السياسية والانسانية المترتبة على ذلك. وقد قامت دول معينة ومنها دول عربية بهذا الاجراء، وحصلت جراءه على شهادات دولية في مجال حقوق الانسان!.
أمام هذا القلق الوطني والانساني، ظهرت الحاجة لبلاد ذات استقرار سياسي ومدني تؤمن للفرد استقراره الشخصي والنفسي. لقد عرضت هذه السياسة غير الاخلاقية كثيرا من العراقيين والفلسطينيين ومن في وضعهم لآلام ومواقف كان من مظاهرها الضياع أو الموت أو الانتحار، ومن بين أولئك أطفال ونساء وعوائل. فالبلدان كلّها بذلك المعيار، وليس العراق، كانت اقطاعيات مغلقة بختم الحاكم الذي لا يعترف بقانون غير الولاء الرخيص.
*
جواز السفر
حين يلغى الثابت ويتحول الوطن إلى حقيبة وطائرة ونقطة متحركة، يصبح السفر الدائم بديلا عن الاستقرار في سيرورة الحياة. وفي بلد العراق لا تمثل الوثائق الشخصية حقوق مواطنة أساسية بضمانة القانون، قدر ما هي (جاهة) يحدب بها صاحب الملك على الموالين . حيث الوطن هو الحاكم، والحاكم هو الوطن، يصبح الولاء الشخصي والسياسي بديلا عن المواطنة والانتماء. يمكن القول، أن كثيرين من العراقيين المهاجرين عانوا من تبعات نفسية وفكرية وسياسية سوريالية كلما اقتضت الظروف تجديد جواز السفر أو القيام باجراءات معينة.. ويصوّر الشاعر هذا الكابوس في قصيدة (السفارة) المسجلة في (عمّان- 1996).
يحصر الشاعر بين قوسين صغيرين " سوف أمضي إليهم، حين يعلو الضحى في أواسط آذار...". هذه العبارة تقوم على ثلاث أعمدة أو مرجعيات.. أولاها: المرجعية النفسية والتي تماهي بين حالة العادي والاستثنائي، وهي صورة للتحدي والاقتحام القائم على ايمان منطقي بالحق الشخصي والعام. وثانيها: مرجعية تراثية شعبية، أيام كان السفر والانتقال يتم سيرا على الأقدام أو باستخدام الدواب في أحسن الأحوال، فيقتضي الانطلاق مبكرا مع طلوع الشمس لانجاز الأعمال قبل المغيب. وهي تذكر-شخصيا- هنا صورة توصية الأم للأبن، فهي تتضمن قدرا من الحميمية والنوستالجيا الدفينية بين حروفها. وثالثها: مرجعية الميثولوجيا والتاريخ القديم، حيث كان العام يبدأ بالربيع والخضرة وذوبان الثلوج واعتدال الجوّ؛ وهو ما يفهم من تعبير (أواسط آذار) أي نوروز- اليوم أو العام الجديد.
في قراره الشخصي، يجمع الشاعر بين الميثولوجي التاريخي القائم في منطقة اللاوعي، والتراثي الاجتماعي المتمفصل في الدائرة النفسية، وبين إرادة الوعي وإرادة الحياة والقناعة بالمطلب الذاتي والموضوعي. وربما يتعمّد الشاعر السخرية الممزوجة بحالة من التوعد والتحدي.. أو صورة القلق والاضطراب الذي يراد له الانتهاء على أرضية الواقع مع مطلع الفجر. ولذلك تأتي الجملة الأولى في القصيدة على درجة مناسبة من التهكّم..
واليوم، جاء الضحى عاليا:
أنت تقطع خط المشاة لكي تبلغ السور
حيث رؤوس الشجر...
ثم تخطو، يمينا، إلى النافذة
(شبك من حديد صديء).
لك أن تتملى من النافذة
وجه من سوف يضغط زراً لينفتح البابُ...
تدخلُ:
شخصان، تنهيك خطفاً، عيونهما.
ثم تدخلُ
- عبر الممرّ المكهرَب، عبر العيون التي صوّبت جيدا-
بابَ عشتارَ،
ها أنتذا
تهبط الدرجات
لتلقاك أرشكيجال التي تتبسّمُ
ها أنتذا
تتلفّتُ في السرّ...
.......
.......
.......
باب يُرَدُّ وراءك، في لحظة:
أنت تهوي، عميقا، بوادي الذين أهانوا وهانوا
ترى ما ترى
ثم نهجسُ أنك قد لا ترى ما لا ترى...
قد ترى الغلق يطبق في لحظة،
قد تقرر أرشكيجال التي عبست فجأة:
لن يعود...
.......
.......
.......
ثم ماذا؟
أليس السفر
ينتهي بجواز السفر؟ / [قصيدة (السفارة)/ (عمان- 1996)]
في هذه القصيدة تصوير لطبيعة العلاقة بين المواطن والدولة، مراجعة الفرد لسفارة بلده وما تختلجه من مشاعر ومخاوف ورهبة، حالة تلغي كلّ امكانية لودّ أو ألفة واحترام. تذكر القصيدة بالسور العالي لسفارة العراق في عمّان، المطابقة لسور سجن أحكام ثقيلة أو مرضي عقليين خطرين، تعلق على كل نقطة منه عبارة نفسية صارخة [الداخل إليها مفقود والخارج منها مولود]، عبارة ابن بطوطة في وصف صحراء العرب، وأوطانهم وسجونهم.
"أليس السفر..
ينتهي بجواز السفر؟"
بمعنى أن جواز السفر.. وثيقة ينتهي مفعولها بعبور الحدود،أي انقطاع الصلة بالبلد الأم. وهي دالة للظروف غير العادية في العراق، الدافعة للهجرة واللاعودة.
مضى صيفُ القرنفلِ ...
لا تَقُلْ لي : أجيءُ غداً إليكَ
وثَمَّ كأسٌ ستجمعُنا
وأسماكٌ
ونخل.ٌ
ولا تلجأْ لسومرَ ، والمراثي ببابلَ ، والسوادِ ...
إلخ
إلخ ...
لا!
مضى صيفُ القرَنفُلِ
واستقرّتْ عميقاً وردةُ الزرنيخِ .
أبعِدْ
ولا تأتِ .
العراقُ الذي أحببتَ لم يَعُدِ.
العراقُ الذي أحببتُ لم يَعُدِ ...
انتظرْنا
وانتظرْنا.
قد مضى صيفُ القرنفلِ ٌ
وانتهَينا ... / [قصيدة (اعتــذارٌ)/ لندن 23. 5. 2012]
*
العراق.. الجريح!..


للّذينَ ارتضَوا أن يكون العراق
فندقاً عائماً لا بلاداً .
للّذين ارتضَوا أن يكون العراق
جبلاً من دشاديشِ غرقى.
للذين ارتضَوا أن يكون العراق
سوارَ العشيقةِ ...
أن تمسيَ البصرةُ الأُمُّ مبغى الخليجِ
وأن تتنصّلَ بغدادُ من إسمِها ...
للّذين ارتضَوا أن يكونوا الأدِلاّءَ
أن يَهَبوا كلَّ ما كنَزَتْ أرضُنا للغريبِ المدجَّجِ
أن يعبِدوا أبرَهةْ
أن يقولوا : العراقَ انتهى ...
............
............
............
هؤلاء
سوف أجمعُهم ، ذاتَ فجرٍ ، بمقهىً على جَزْرةٍ بالفراتِ
وأحفرُ أسماءَهمْ في جماجمِهِم
وهمُ الصاغرون ... /[قصيدة (الــمُـحـاكَــمــة) / لندن12.11.2010]
غير بعيد من هذا، قول الجواهري الكبير..
أنا حتفهم.. ألجُ البيوتَ عليهمو.. أدعو الوليدَ لشتمهم والحاجبا
عندما يكون الوطن محتلا ومصادَرا، ومعروضا للمزايدات، تكون أغانيه قصائد ألم، وصرخات تمرّد، واحتجاجا يصل إلى نهايات الكون.. لا وقت ثمة لقصائد الحبّ والمجاملات الحزبية والمناسبات الدينية.. لا بدّ أن (يسخن سطح الحوت) وتنفجر الثورة التي تغسل عار الموت.
سوف يأتي العراقُ الجميلُ
سوف يأتي العراقُ
بعدَ أن يرحلَ الأمريكيُّ
والخادمُ الفارسيُّ الـمُـعَـمّـمُ ...
هذا العراقُ الجميلُ
قادمٌ في الهواءِ الذي نتنفّسُ
في الشاي عند أعالي الفرات
وفي العَرَقِ الـمُرِّ في جبهةِ النهرِ ...
هذا العراقُ الجميلُ
قادمٌ في عباءةِ أُمّي التي رحلتْ - وأنا جاهلٌ أنها رحلتْ
كنتُ أذرعُ زنْقاتِ باريسَ ...
هذا العراقُ العجيبُ
سوف يأتي بنا من مَـنـابِـذنا في الديارِ التي لم نُحِبّ
الديارِ التي لم تُحِبَّ ملامحَنا
وضراوةَ أجسادِنا ...
ولَسوفَ نكونُ سعيدينَ
مرتجفينَ
حُفاةً
خِفافاً
وممتلئينَ عفافاً
ورُعباً ...
وسوف نقولُ لـهُ :
أيُّهذا العراقُ
لم يَعُدْ في الطبيعةِ مُـتَّسَــعٌ
للفراقْ
أيُّهذا العراقْ ... / [قصيدة (العراقُ آتٍ) / لندن 11.11.2011]

العراق.. الوطن، لم يغب عن فكر الشاعر. وهو.. إن لم يقرأ مباشرة، فهو كائن بين السطور، ودافع رئيسي وراءها. بل أن ثيمة الغربة/ الاغتراب التي يشخصها كثير من نقاده، ليست في الحقيقة، غير دالة حنينه وشوقه الدائم لوطنه. الشخص الذي لا يشكل له بلده خصوصية معينة، هو شخص لا يشعر بالغربة، وتتساوى في نظره البلدان. علاقته المضطربة بالمدن، محاولاته التماهي في طنجة أو دمشق، هي انعكاسات صراع نفسي مضنٍ في استعارة وطن عصيّ على التحقق، وعصيّ على الانفلات. وقد تنقل الشاعر في غير بلد عربي، قريب من بلده، بينما اختصته سنواته الأخيرة بالغربة الحقيقية والبعاد خلف البحار. فلا غرو.. أن يتزايد ارتباط الشاعر ببلده ومتابعته لما يجري فيه، من سياسات وبرامج وسيناريوهات، تفصل بين الوطن وأبنائه، حتى أولئك الذين في الداخل.
أتملّـى سماءَ الشتاءِ بلندنَ ، هذا المساءَ .
السماءُ التي قد تُرى ،
لا تُرى .
والصقيعُ المبَكِّرُ في العشبِ
أو في الزجاجِ الثخينِ لسيّارتي ، وهي تهمدُ في الساحةِ
الليلُ يدخلُ ( قبل الأوانِ ) ؟
ولكنه الليلُ ...
يأتي ، سُدىً بهواجسِهِ ، والكلامِ عن الليلِ ...
ها أنذا
أتملّى السماءَ التي لا أرى
أتملّى العراقَ الذي لا أرى :
رُبّما بعدَ قرنٍ ، يعودُ العراق
وفي العامِ 2112
مثلَ ما هو في هذهِ اللحظةِ ...
سوفَ يأتي لنا مقتدى الصدر بالأغنيات
ويأتي الصبيّ المعمّمُ عمّارُ بالراقصاتِ
ويأتي لنا المالكيُّ بألويةٍ من طُوَيريجَ ، متخَمةٍ ، ومدجّجةٍ
سوف يأتي لنا البارزانيُّ
والطالبانيُّ
بالشقشقاتِ ...
.................
................ .
.................
الطريقُ طويلٌ إذاً يا رفيقي ! / [قصيدة (رؤيا عام 2112) / لندن 10.12.2011]
*


(24)
البَصْرَةُ.. [بَصُرَ- يَبْصُرُ- (فهو) بَصيرٌ]!..
كم غاضت الأرض حتى غدت محض زنزانة.
لا تسكن في كلمات المنفى حين يضيق البيت.
*
هنا بيني وبين النخل آلاف الفراسخ, بيننا الصحراء والبحر,

وبين البحر والصحراء آلاف الفراسخ, بيننا القبرُ.

وبيتي في جذور النخل كان ستارة خضراء مفتوحة

تمرّ بها الرياح الأربع الرطبات أرجوحة

وكان الليل فيه يضمّه الفجرُ

ويسقى ورده الشوكيّ إما يبخل النهرُ

وكانت بابه للشمس مفتوحهْ

فكيف أغلّق الأبواب, والأصوات تأتيني

أكفاً لا تُرى, مائية اللين

تحشرج, ثم تعلو, ثم تعلو, ثم تلقيني.

وتشربني وتسقيني

فأسمع سرها وحدي.

البصرة هي البيت، هي العائلة والذكريات وصورة الأم التي تضيء فضاء اللوحة والطفولة المترقرقة في مياه الذاكرة.. الذاكرة قوة فعالة وراء كثير من قصائده في هذه المرحلة. لكن البصرة المدينة هنا، مثل أي فكرة أخرى تدور حولها عجلة الشعر، ليست فكرة مجردة في أفق الخيال، وانما هي مرتبطة بحركة متغيرات الواقع المضطرب للحظة الراهنية، وهي من هذا المفصل تؤثر في الذاكرة عبر استقزاز الصور النائمة، وتتأثر بالمقابل بالأسئلة والاعتمالات الذهنية المتدفقة..
وتبعا لحركة المتغيرات، تتعدد قراءات التاريخ.. وتنتقل نقطة الزمن في تدرجات غير منفصلة عن حركة الشعور والايقاع الداخلي الذي يتوحد في القصيدة.. ويمكن مبدئيا الامساك بثلاثة خيوط تساهم في رسم الصورة..
1- البصرة السومرية..
هذه الأرض لنا
نحن برأناها من الماء
وأعلينا على مضطرَب من طينها، سقف
السماء النخل
والذاكرة الأولى
- قصيدة (اذهبْ وقلْها للجبل)- مج صلاة الوثني

2- البصرة العربية..
من نحن؟
بداة دخلوا القرية بالسيف
اقاموا خيمة...
وبعد الابل العجفاء، صاروا يحلبون البقر الفاقع، نيرانهمو والروث
وأضيافهمو أهل الربابات،
يمرّ الصبية الأيتام
آباؤهم نحن قتلناهم...
نحن البدو مرميون
في خيماتنا الطين.

3- بصرة الطفولة كما تتراءى للشاعر..
الوقتُ مساءٌ رطِبٌ
في البصرةِ ، كلُّ مساءٍ رطِبٌ
كان على مائدةِ المرشدِ عبدِ اللهِ الديراويّ
نبيذٌ
وزجاجةُ وِسكي
White Horse
وثمّتَ روبيانٌ
وشــرائحُ حبّارٍ
جُبْنٌ
وبقايا عرَقٍ ...
قال الديراويُّ :
لنبدأْ ... / قصيدة الزيادية

يلحظ ان البصرة بدأت من الماء في عمليات بزل الطين – كما يصفها ارنولد توينبي- وانتهت بشط العرب وشاطئ أبي الخصيب.. تلك البيئة التي جعلت البدو الصحراويين رعاة بقر وجواميس (النقطة الثانية).. عبر رحلة التاريخ من الماء إلى الماء.. يقف النخل والشجر والطير المهاجر في جدلية كالقدر..
منذ الصباحِ الطيورُ تهاجرُ
منذ أن خلَقَ اللهُ تلكَ السماءَ ، الطيورُ تهاجرُ ...
ما كان قبلَ دقائقَ بحراً مُحِيطاً تَدافَعُ حيتانُهُ والخيولُ استوى حاجزاً من دخانٍ وماءٍ ثقيلٍ
ولكنّ تلك الطيورَ التي بدأتْ في الصباحِ تهاجِرُ
ظلّتْ تهاجرُ . / [قصيدة (أيلول)/ لندن 20. 9. 2010]
فلفظة السماء التي سبق ورودها في النقطة الأولى، يتضمن كناية الماء والهور حيث تعيش أنواع من الطيور التي يهاجر بعضها – في رحلات جماعية- نحو الشمال الأوربي. بيد أن الشاعر استكنى بها عن هجرة البشر، ووصف أجواء الحرب والدخان (حرب بحرية) .. [مُحِيطاً تَدافَعُ حيتانُهُ والخيولُ استوى حاجزاً من دخانٍ وماءٍ ثقيلٍ] في إشارة الى حرب الخليج الأولى (1991) وحملة الغزو الأخير (مارس 2003).. المستمرة آثارها، بكناية استمرار هجرة الطيور.

ان لكل انسان وطنا، سواء كان يعيش فيه، أو يحمله في ذاكرته وأحاسيسه. لكن الوطن أيضا حاجة موضوعية لا يتكامل وجود الانسان بدونها، كالطعام والثياب والأمان.. الوطن مادة يلمسها المرء ويستند إليها، صدر يحمله وكتف ينام عليه.. وهذا هو بيت القصيدة من كلّ كفاح الانسان وتعبه في أيام حياته.. لا أحد يتعب لكي يفقد وطنه.. أو يجد نفسه عرض الضياع.. وإذا كانت الاسطةرة الدينية وصفت حياة ادم الأول، بالخروج والنفي من الفردوس.. فأن تعبه وكفاحه اللاحق، المادي والروحي، هو بغاية الفوز بالفردوس المفقود والعودة إليه ثانية. وهو ما عبر عنه سيجموند فرويد في مرموزية علاقة الفرد بالأم. فالوطن، بعد كلّ تجلياته، لا بدّ أن يتوج ببيت حاص وغرفة خاصة يختلي المرء بها بنفسه ويستقل بوجوده. وقد عاد غير قليل من العراقيين الى وطنهم، فلم يجدوا دارا تأويهم أو حجرة تنغلق بابها عليهم، فاضطروا للمغادرة ثانية، أو الموت كمدا، ومنهم أدباء وفنانون يعرفون كثيرون قصصهم.. وهو ما يتوسمه الشاعر في [الوطن/ البصرة/ البيت]..
كيف لي أن أسافر هذا المساء، إلى غرفتي؟
(يذكر المرء في الليل أصفى أماكنه)
لم يكن لي، إذا ما أردت الصراحةَ، بيت ولا غرفة،
غير أني أريد المكان
غرفة ليس يدخلها غير نبضي
غرفة ليس فيها هواء كهذا الهواء
غرفة لا تضاء
غرفة لا تداهمها عتمة
غرفة في الفضاء...
....... (1997- عمان)- محاولة الانفلات- (حانة القرد..)
ولعلّ من المفارقة بالمقارنة ببلاد الدنيا أن لا تسمح ثمانية عقود ولو بقدر محدود من المصالحة ، مما يعدم من كينونة الشاعر الانسان أهم عنصرين..
(1)
لم يتبقَّ لديَّ اليوم، ومنذ سنين
من سأصافحه
(2)
لم يكن لي، إذا ما أردت الصراحةَ، بيت ولا غرفة.
..
الشعر في جذوره امتداد للأسطورة.. - في نظريات الشعر على الأقل-، والشاعر في المفهوم الشعبي – بحسب ذلك- تجسيد للبطولة الخارقة، الانسان فوق العادي، الذي يتحمل الجوع والعطش وكلّ أنواع الحرمان، ويذهب إلى الموت حاملا دمه على راحتيه – كما يقول الشاعر الفلسطيني (عبد الرحيم محمود).. ولا يموت.. لكن الشاعر الحديث أكثر واقعية وبشرية من سكان الأساطير وعقلياتها.. الشاعر المعاصر خرج من أطار الاسطورة ونزل على ارض الواقع، ليعيش مع الناس، ويحبهم ويحبوه.. سعدي يوسف تحديدا.. كان أكثر التصاقا بالواقع اليومي منه بالأسطورة.. ولذلك، فهو –كما سبق- يعبر عن مشاعره الانسانية الطبيعية في الحاجة للاستقرار والحبّ.. وإنْ.. في صورة لا تخلو من الانفعال.. الذي هو داينمو الشعر..
ولكنني سوف أنسى المدينةَ
والناسَ
والبحرَ
حين أُحِسُّ بأنيَ لست المهدهَدَ بين ذراعيكِ
هذا الصباح !
طنجة 26.01.2012
*
الشاعر والمكان
"أحسسنا اليومَ بأنّ الأرض لها معنى!"
"هل يقدّر لي، مثل هان فوك – بطل هيرمان هيسه في (الشاعر الصيني)- أن أرى قريتي، حتى لو وهن العظم مني، واشتعل الرأس شيبا؟"
لتعريف المكان، أيّ مكان.. لا بدّ من تحديده؛ فكلّ ما لا يحدّد ليس مكانا!
والمكان العراقي غير قابل للتحديد، وليس له اتجاه. فلا الماء ولا اليابسة، لا النهر ولا الجبل، لا الرمل ولا الأشجار، نفعت أن ترسم حدودا واتجاهات للبيئة العراقية. وهذا هو مردّ التلكؤ أو الارتباك الذي ظلّ أرنولد توينبي يعانيه، وهو يحاول اعلان المكان السومري، كأقدم مركز استيطان بشري فوق سطح الأرض. فالريادة العراقية والمبادأة السومرية ذات غفل من التاريخ؛ كانت وظلت ولما تزل محكومة بالقلق.
قلق المكان، هو الشفرة التي تضمنها التعريف أو التسمية الأغريقية لأرض سومر، وهي ترتأي حصرها، "بين نهرين" عملاقين؛ (Mesopotamia)!.
هذه الأرض لنا
نحن برأناها من الماء
وأعلينا على مضطرَب من طينها، سقف
السماء النخل
والذاكرة الأولى
- قصيدة (اذهبْ وقلْها للجبل)- مج صلاة الوثني
الوطن السومري كان وطنا مائيا.. وطنا داخل الماء. يوم كان الماء عصيّا على المهادنة!.. يزرعون ويحصدون ويبنون ويحكمون داخل الماء.. وعندما أرادوا التوسع والخروج من الماء.. وجدوا العدوّ في انتظارهم..
انّ غزاة دخلوا سومر..
(..) ضباط الحامية الأكدية
(من هواجس رجل، سنة 20 ق. م.)
ومن هنا سرّ (مركزية) الماء لدى الشاعر سعدي يوسف منذ إصداره الأول (القرصان)، وحسب تعبير البعض – قصائد مائية- أو – مائيات شعرية-، فالماء انما هو كناية عن المكان.. كناية عن الأرض (الوطن)..
يا ربّ النهر، لك الحمدُ
امنحني نعمة أن أدخلَ في الماء
لقد جفَّ دمي
ونشفتُ،..
- قصيدة (صلاة الوثني)- الديوان
يحدد الشاعر "سومر" بالاسم وينتسب إليه، وتحفل مجموعته (صلاة الوثني) برموزية الماء وسومر وجلجامش الملحمة، وتستمدّ هذه المجموعة أهميتها من ارتباطها الزمني المباشر بردود أفعال الشاعر على الغزو الأميركي لبلده، والمؤرخة نصوصها ما بين [أبريل 2003- مايو 2004]، حيث تشكل آثار الغزو وثيمة الأرض/ الوطن عماد المجموعة. وتطبع المهيمنات المائية صدارة المجموعة من بدئها: زخة ربيعية/ الألياف المائية/ ثلج/ دموع/ ضفائره المياه/ عرائس مائه بالدمع/ شطوط أبي الخصيب/ نحن برأناها من الماء/ طين/ ويلي على الشطآن/ جسر المسيّب/ سلام على هضبات العراق وشطيه والجرف/ سحائبها / البحر الخافت/ البحر الهادئ/ البحر الحاضر/ البحر الهادر/ وديان الأعماق/ قطرات أولى/ أنتظر القطرات/ دخان الورق المبتلّ يبلل أعيننا بالدمع/ نمسح عن أعيننا دمعا/ لكن المطر الموحل كان كثيفا وغزيرا/ غصنا حتى الركب المقرورة في الوحل/ وما زال المطر الموحل يهطل/ ساء الماء فلا أشربه/ النهر/ الماء/ جفّ دمي، نشفتُ/ جسر من الخشاب ينضح بالرطوبة/ المستنقع/ نهرين/ أفعى الماء الأول/ الثلج/ ..
إذا كانت المرجعية التاريخية وراء الدالة المائية للمكان عند الشاعر، وهي مرجعية بحكم التطابق الجغرافي للمكان (حيث البصرة موطن الشاعر تشكل الزاوية الجنوبية للهور السومري)؛ تلعب مرجعية سيرة الشاعر وطفولته الركن الثاني لعمارة الوطن المائية في شعره..
تمتدّ البصرة على جانبي (نهر) شطّ العرب، والذي يولد من اتحاد نهري الفرات ودجلة. ان صورة الكاليغرافيا التي يرسمها امتدادا كل من الفرات ودجلة جديرة بالتمعن والقراءة الشعرية. ثمة جبال عالية ومعقدة في جنوبي شرقي هضبة الأناضول، تتولى تجميع مياه الثلوج وضبّها في بحيرة (وان) التي تقابل بحيرة (فيكتوريا) الأثيوبية بالنسبة لنهر النيل. وبحسب استمرار انحدار توبرغرافيا التربة، تخرج وديان رفيعة تستمر نحو الجنوب، يدخل أحدها أرض أشور نينوى، ويدخل الآخر أرض أرام سوريا، وفيما يكاد امتداد دجلة يستمر باستقامة حتى منتصف البلاد (جنوبي بغداد)، فأن الفرات عقب اجتيازه الحدود، يتجه شرقا، وكأنه منجذب لشقيقه، ويستمر في الانجذاب حتى يدخل الحدود العراقية في أرض الأنبار وباستقامة عرضية حتى يبلغ أقرب مسافة له من دجلة (جنوبي بغداد). ولكن ما يحدث بعد التجاذب والتقارب المغناتي، هو انتشارهما مبتعدين، تاركين بينهما مساحة بيضوية واسعة تحتل ثلث مساحة البلاد، وعلى امتداد ضفاف الرافدين المنفتحين وما بينهما نشأت حواضر المدنية السومرية.
السؤال المفتوح في هذه البقعة، هو العلاقة بين كلّ من الفرات ودجلة بمنطقة الأهوار في جنوبي العراق. وأيّها أقدم ممّن!. فبيئة الأهوار قديمة تاريخيا، وسابقة لتاريخ سومر، وكانت من قبلهم موطن أسلافهم. ان الدراسات الجيولوجية محدودة هنا، ولا توجد نظرية أو طروحات علمية حول احتمالات نشأتها وتأريخها، مما يترك المجال خاليا للرؤية التوراتية حول الطوفان القديم، والمأخوذة بدورها أو المذكورة في ملحمة جلجامش، أقدم نص شعري عثر عليه حتى الآن.
لكن انفتاح نهري الفرات ودجلة جنوبي بغداد، يرسمهما مثل ذراعين تحتضنان الهور من الجانبين، وترفعانه من الجنوب. ولكنهما – في صورة أخرى- يرتسمان صورة رحم ينتفخ ثم ينفتح جنوبا متخذا صورة بحر يصعب رؤية ضفته الأخرى في مناطق أبي الخصيب مثلا. فشطّ العرب أكبر من مجرد نهر، عند المقارنة بأنهار دجلة والفرات والدانوب والتيمز. وتبقى الصورة الشعرية أوسع وأعمق من الصورة الجغرافية.
هذه الصورة.. وهذا المكان، سومر والهور.. ليست أسيرة القلق والاضطراب.. انما هي أسيرة الغياب بوضوح العبارة وبعيدا عن المراءاة. وكما يقول مؤرخ بولوني.. ما هي سومر؟.. أين هم السومريون؟.. نعم!.. أين هم السومريون اليوم؟.. ما يزال يمكن تشخيص بعض ملامح الفراعنة قدماء المصريين.. ويعتبر العلماء الفراعنة أحد أجناس/ أعراق تشكل الشخصية والهوية المصرية الحاضرة؛ فهل يمكن تقديم زعم مقابل في الحالة العراقية.. الشخصية والهوية الاجتماعية!..
"يلْ- جمالك سومري
ونظرات عينك بابليّه"
كلمات أغنية غزلية من عراق السبعينيات، - للفنان فاضل عواد- ولكن ملامح الجمال السومري والعيون البابلية لم تترك طابعها في الفن والأدب والثقافة العراقية. ثمة قصائد سومرية حزينة..
"لقد نفتنا الآلهة..
غرباء حتى مع أنفسنا
نجوس أزمنة التاريخ والمستقبل
دون قيثارات
هكذا كان حكمنا الأبدي
رحلة بحارة يعضون النبيذ.."
- شاعر بابلي قديم-
(أبي الخصيب)- مدينة طفولة الشاعر، وتحديدا – قرية حمدان- والتي هي موطن طفولة الشاعر بدر شاكر السياب أيضا، تظهر غير مرّة في ديوان (صلاة الوثني)، سواء تخذت صورة الذكرى أو النوستالجيا أو الأمل المستحيل أو التحدي..
ففي قصيدة (تحت المطر الموحل) يصف الشاعر طفولة شتائية..
ها نحن أولاء نقرفص تحت سقيفتنا السعف قريبين من الموقد
كان دخان الورق المبتلّ يبلل أعيننا بالدمع ويحجب عنا المرأى
حتى لكأنّ
أصابعنا بترت
نحن نحسّ بها
لكن نعجز عن أن نطبقها أو نفتحها
ما أغرب ما تفعله العين إذا عشيت
ما أغرب ما تفعله أوراق التين...
ها نحن أولاء نراقب عند الباب الساحة
(أعني ساحة قريتنا)
نمسح عن أعيننا دمعا وسخاما ونحاول أن نبصر ما يجري
وفي قصيدة (تحقق) يشي عن أمل سابق له برؤية عراقه..
قد كنت...
ياما كنت آملُ
والخريف يلوّن الغابات بالذهب
وبالجوزي
أو بالقرمز المكتوم
ياما كنت آمل أن أرى وجه العراق ضحى
أن أرخي ضفائره علي
أن أرخي عرائس مائه بالدمع ملحا
أن أطوف في شطوط أبي الخصيب، لأسأل الأشجار
هل تعرفن يا أشجار أنى كان قبر أبي؟..
وفي قصيدة (طبيعة غير ميتة) يرسم صورة أخرى مقابلة لذلك الأمل.. فمن البحث عن صورة (الأب)، يحاول أن ينقل صورته (للأبن)..
يمرّ أبو الخصيب
كما يمرّ الضباب، الصبح، أزرق
كان جسر من الأخشاب ينضح بالرطوبة
كان نخل ولبلاب
وكانت في السماء نعومة النعمى
سأسأل عنك يا ولدي
إذا ما غامت الأشياء
أسأل عنك
أسأل عنك
لكني أراك الآن
يوما يعد يوم
ليلة في أثر أخرى
فانتظرني يا بني، سنلتقي
حيث الضباب، الصبح، أزرق.
هذه القصيدة مؤرخة في (الأول من فبراير 2004)، أي أنها تحمل أشواق رجل في السبعين من عمره، بينما تاريخ القصيدة السابقة لها، - التي يسأل فيها عن الأب- يسبقها بعام. وحري بالذكر هنا، أن ظروف العراق السياسية والدولية المضطربة في ربع القرن الأخير من القرن العشرين، وضعت كثيرا من العراقيين في ظل قطيعة استثنائية عن وطنهم، وكان حلم غير قليلين منهم، بعودة الحياة العادية إلى العراق بعد تغيير النظام. لكن الصدمة على غير توقع، كانت مريرة، بانحدار الأمور إلى أسوأ ما لا يحتمل التصور، تحت طائلة آثار الاحتلال وما تبعه من سيناريو تكشفت صفحاته لتزيد من مرارة الأمل العراقي وتدفعه في مهاوي اليأس. فما تشي به مجموعة (صلاة الوثني) من مشاعر وأحلام وأفكار وردود أفعال نفسية وعاطفية وفكرية، ما كان لها أن تأخذ هذه الأبعاد، لو لم تكن المخططات السياسية الدولية والاقليمية والمحلية بالانحطاط ومعاداة الانسان الذي تكشفت عنه.
في هذه المجموعة أيضا قصيدة ذات مغزى عميق يستحضرها الشاعر هنا تحت عنوان (أحد أصدقائي) يقول في جانب منها..
ظلّ، كما كان شيوعيا
يعمل في قبو المبنى، سرّا
ويسمّى، (أي يتسمّى).. سين
يقرأ ما في الصحف الأولى
يستقرئ تاريخ العالم، والعمّال
ويطلب ما يتقراه ولو في الصين
أحيانا يتذكر من ظلوا معه في الدرب
فيفرح حين يعدّدهم
أفذاذا
وملائكة من عليين
وأحيانا يتذكر من خذلوه بمنعطفات الدرب
فيأسى حين يصنّفهم
موتى
ومرابين
وأعوانا للمحتلين
ويقول.. الدرب طويل
الليل رتيب
تسكنه الوحشة في قبو المبنى
رطب وطويل
لكني صرت أخيرا أعرف
كيف أعلّق في الساعات
(لئلا يخنقني خيط الساعات)
نجوما من ورق، ورياحين
صورة أخرى للمرارة ومناهضة اليأس ولو بنجوم من ورق.
لقد تم افتعال عدد لا يحصى من المعارك الجانبية ذات الجوانب الشخصية، والمتعلقة بتفاصيل باهتة، استغرقت كبار الأدباء والمفكرين وتنازعت الوسط الثقافي والاجتماعي والسياسي، لمشاغلة الجميع عن أبعاد الحرب الحقيقية الجارية داخل الوطن. ففي تلك اللحظات العصيبة، والتي سوف تبقى عصيبة طالما بقي الأحتلال ورموزه وسياساته في العراق والمنطقة، تم إشغال الفكر العراقي عن برامج تفكيك الهوية/ الشخصية العراقية وهندسة وضع شاذ شائن يتجاوز الحالة السياسية إلى الحالة الثقافية –الاجتماعية- التربوية والصحية. واستخدم النظام الجديد وأعوانه تهما جاهزة ضدّ كلّ صوت معادٍ للاحتلال وبرامجه ورموزه. فانتحرت (من الفعل- نحر) الوطنية العراقية وآصرة الانتماء للأرض والهوية التاريخية، وجرى استبدالها بقيم استهلاكية (أمريكية) سريعة تتلخص في البطن والثروة. وفي هذه الحال، لم يقتصر السقوط على النظام أو السياسيين، وانما الأحزاب والمنظومات الاجتماعية والفردية والأفراد. وهكذا بلغ التمزق العراق مداه. وإذا كان في ظل الدكتاتورية تمزقا محتملا قابلا للعلاج، فقد تجاوز التمزق الجديد احتمالات العلاج.
"العراق التاريخيّ يظلّ قائما، بجدل تاريخه، وحضاراته، ولغاته."
هذه القصيدة المتسربة من – قبو المبنى- سوف تنمو لاحقا لتلد مجموعة (الشيوعي الأخير). ولأن الشيوعي الأخير هو في الحقيقة، انذار العودة إلى – الشيوعي الأول- فهو جرس استعادة الأدوات والرايات الحقيقة الأولى.. راية الثورة والرفض، كما تتجلى في قصيدة (اذهبْ وقلْها للجبل).. بكلّ ما تتضمنه من حرقة وغضب واعتداد وايمان بالانتماء للأرض والانسان..
هذه الأرضُ لنا
نحن برأناها من الماء
وأعلينا على مضطرَبٍ من طينها، سقفَ السماء، النخل
والذاكرة الأولى
وكنا أوّلَ الأسلافِ، والموتى بها والقادمين
الأرضُ لن تتركنا
حتى وإن كنا تركناها
سترخي هذه الأرضُ، لنا، المنجاةَ،
مرسا من حرير الشّعر مجدولا
ستعطينا أخيرا اسمَها

ويلي على الشطآن
ويلي على أهل الحمى والشان
ويلي على أهلي
ويلي على جسر المسيّب، والزبير
وقريتي حمدان
ويلي على ظلي الذي يمحوه أمريكان

كيف...
أنت الساحةُ الآن
فكن أدرى بمَنْ أنتَ
وكنْ أدرى بما تفعل
فالساحةُ- حتى لو تناست اسمَها أو غفلت عنه- هي الساحةُ
أنت الآن معنى
لا تحاورْ
ولتدعْ مَنْ خاننا يأكلْ طويلا شجر الزقوم
واثبتْ
لا تحاورْ
هذه الأرضُ لنا
هذه الأرضُ لنا
هذه الأرضُ لنا
مذ برأناها من الماء
وأعلينا، على مضطرَب من طينها، سقف السماء
فالشاعر، لا يترك مفردة الأرض، التي تحمل الوطن والانسان، غائمة، غائبة، عائبة، دون أن يضع لها كامل رتوشها وحروفها ونقاطها التي لا تقبل أي عملية حسابية أو هندسية، خارج روح الشاعر والشعر.. (هذه الأرض لنا) وتكرارها الثلاثي قبل انتهاء الأغنية، هو قسم الشاعر الذي رفعته روحه نحو السماء.. يستطيع الغازي.. بغض النظر عن تسلسله الطويل، منذ - الغازي الأكدي قبل الميلاد، والمقدوني والرومان ووو.. لكن الأرض بقيت لنا، وستبقى لنا.. ويبقى لها سكانها وأهلها.. ولن يهنأ الأمريكان بمسح ظلّ الشاعر الملتصق بجسر المسيّب والزبير وجسر السراجي وأبي الخصيب وقرية حمدان.. لأن للشاعر صوتا.. صوتا يصهل في الأبدية.. مثل صوت جلجامش.. وكلّ حرارة الدماء المرتفعة للسماء دون أن تفقد حرارتها.. نعم.. (هذه الأرض لنا)!.
في اللحظة التي يتربّص فيها العدو باقتناص المستقبل، يتولد فعل ذاتي للالتصاق بالبدايات.. الانسان عندما يهرم يستغرق في استذكار عهد طفولته.. والشعوب تعود لاستذكار قديم تاريخها – سومر هنا- بعدما كانت تناسته طويلا.. ويجدر التنويه بالتفصيل الذي يورده الشاعر عن سومر دون أن يكتفي بترديد شعاري انفعالي أجوف بالاسم.. وهي تتكرر مرتين.. في بداية القصيدة وفي نهايتها للتأكيد أو للتذكير..
نحن برأناها من الماء
مذ برأناها من الماء
إذ عمل سكان سومر - بجهد شاق وطويل- على كشط الغرين لاستصلاح الأرض وتهيئتها للزراعة، كما يؤكده توينبي في كتابه – تاريخ البشرية-، وقد اشتهر أهل سومر أو شنعار بزراعة الرز، وانتاج (الشلب) حسب تسميته القديمة المستعملة حتى في لغة العراقيين، وكانت سومر وبابل تتصدر العالم القديم في صادراتها الزراعية كما تكشفه سجلات بابل، وذلك هو مغزى اتخاذ الاسكندر المقدوني بابل قاعدة لحملته العسكرية نحو الشرق، وكان للتكاليف الباهظة لحملة الاسكندر أثرها المباشر في تراجع صادرات بابل والاضرار بالنتيجة باستقرارها الاقتصادي. وقد حلّ النفط العراقي بالنسبة للجيش الأميركي محل الاقتصاد الزراعي المتقدم لبابل القديمة. وينسب لسومر كزنها أول من استخدم منظمات المياه وعمل السدود في أعالي الفرات، حيث يقتضي الشلب التحكم بمستوى محدد من المياه للمحافظة على جودة نوعيته، كما جاء في دراسة للدكتور أحمد سوسة حول هندسة الري ومنظمات المياه في العراق القديم. فالولايات المتحدة، التي ظهرت للوجود ككيان سياسي منذ القرن السابع عشر، باحتلالها للعراق، وبموجب قائمة أكاذيب اعترف بها رئيسها عقب الاحتلال وتوالت الفضائح بعدها.. تسعى باصرار ووعي على سحق وتدمير أقدم مركز للحضارة والمدنية والكتابة والتكنولوجيا التي شكلت نسغ النهضة العلمية الغربية لاحقا.. فاحتلال العراق ليس مسألة سياسية ولا اقتصادية كما يستسهل فهمها الكثيرون.. ولكنها أبعد من ذلك وأعمق.. وذلك مغزى تخريب البلد وتدمير أية بادرة أو امكانية لاستعادة البناء أو اصلاح آثار الدمار المستمرة أثر ما ينيف على العقد.. فيما تستمر آليات العنف والمهاترات السياسية على كافة مستويات الحكومة والبرلمان والأحزاب..
حمدانُ الساحرُ ، أجملُ مَن غنّى أغنيةً ما بين النهرَينِ
وحمدان الساحرُ ( لا أحدٌ )
سَمّى حمدانَ الساحرَ ، حمدانَ الساحرْ !
ولهذا سيكونُ لـهُ ، ما كانَ لـهُ :
دشداشتُه السوداءُ
وأغنيةُ الطرُقاتِ ...
وحمدانُ الساحرُ كان جميلاً
كانت دشداشتُهُ السوداءُ تَرِفُّ على الدربِ الـمُـترِبِ بيضاءَ
ترِفُّ على الدربِ الـمُـتْرِب غصناً ذهباً
وبَخوراً ؛
وتقول:
مرْكَبْ هوانا
من البصرةْ جانا ...
حمدانُ الساحرُ
يمضي في الطرُقاتِ ، خفيفاً ، أبداً
( يشبه حمدانَ الساحر )
أمّا نحن الأوباش
فلن نذكرَ من حمدانَ الساحرِ
إلاّ دشداشتَه ...
سوداء ! / [قصيدة (حمدان الســاحر) / لندن 09.11.2012]

كيمياء صعبة، هي معادلة الشعر، أصعب من كأس سقراط، وكأس يسوع المسيح.. في الحالين الأخيرين، كانت الكأس ممرا للخروج من العالم.. بينما الشاعر، يرفض الانكسار أو ثني الراية الحمراء، ويصرّ على الحياة، على البقاء..
لن نرفع أيدينا في الساحة
حتى لو كانت أيدينا لا تحمل أسلحة
نحن سلالة أفعى الماء الأوّل
نحن سلالة من عبدوا ثيرانا تحمل أجنحة
وسلالة من عبدوا نيرانا في قنن الثلج
ولم نرفع أيدينا إلا للأحد الواحد
حين وهبناه نبوّتنا
نحن سلالة من رفضوا عربات الرومان فما انقرضوا
لن نرفع أيدينا في الساحة
لن نرفع أيدينا... / [من قصيدة (عراقيون أحرار) ]
هذه القصيدة مكتوبة [في 15 ابريل 2004] بعد مرور عام واحد على احتلال بغداد [التاسع من ابريل 2003]، وتؤكد المضمون الثوري للقصيدة السابقة لها (هذه الأرض لنا)..
في ديوان (صلاة الوثني) المكتوبة عقب احتلال العراق، تجعل من الحدث موضوعا مركزيا لها – كما سبق القول-، تنطلق أولا من تجربة ذاتية – بحسب تعريف الشعر- ولكنها، أيضا لا تتردد في الالتصاق بالانسان والجماهير في ترجمة ضمير الأرض التي هي هنا -الوطن-. وتحمل مرموزية (الساحة) التي تتردد عبر الديوان، نقطة اتحاد الفرد بالجماعة، والشاعر بالجماهير. وقد تتركز مرموزية الساحة كذلك، في جماعة نخبوية محددة، هي موضع عتاب الشاعر وموئل أمله القديم "المتجدّد" أيضا.

*
البصرة ميناء.. هي ميناء العراق الوحيد. لأن العراق من البلدان النادرة في المنطقة، ليس له بحر. لا يطلّ على بحر. وللغياب البحري هذا انعكاس عميق في نفس العراقي. يوحي بالعزلة عن العالمين. لذلك يلجأ العراقي للقراءة برغبة محمومة لمعرفة ما يجري في الخارج.
"لا أحد من أهالي البصرة القاطنين على مبعدة ميل من هذه الناحية (..) يعتقد أن هناك بشرا يتحمّلون العيش في ذلك النأي، بين أخاديد غابات النخيل وأراضي الطين، إلا من كابدَ الألم وقاومه، إلا من عانى وتحدى قدره. فساكن تلك الأدغال النخلية يمتلك قوّة التأقلم والصبر، قوّة الاقامة، حيث لا يستطيع العاديّون عليها، ولا يطيقون العيش في مخاطرها.."
/ جنان جاسم حلاوي- أماكن حارة/ رواية- دار الآداب- 2006
ولادة سعدي ومنزله الأول كانت في أبي الخصيب، في قرية حمدان التي تقبع في غابة من النخيل. وهو يصغر بدر شاكر السيّاب المولود في أبي الخصيب أيضا (قرية جيكور)، بعقد من السنوات فقط. الواقع أن أبي الخصيب – مصنفة قضاء إداريا-، هي عبارة عن غابة كثيفة من أشجار النخيل العالية، - حسب صورتها قبل الثمانينات-، وتنتهي حافات الغابة هذه في مياه شطّ العرب. وشطّ العرب في محاذاته لأبي الخصيب يتسع إلى آخر مداه، حتى كأنه بحر، حيث تنتهي مياهه عند خط الأفق، سيما في مركز المدينة. ويبدو أن شطّ العرب يأخذ في الاتساع بعد (السّرّاجي).
اللمحة الأخرى لتلك البيئة -الزراعية- النادرة، هي أن كثافة أشجار النخيل العالية والمتقاربة، تقلل من احتمال رؤية السماء بوضوح، او اصطياد قرص الشمس. فالخضرة والماء هي الأكثر حضورا.. بينما السماء والشمس المتاحة في كلّ مكان آخر، نادرة في تلك البقعة، أي جغرافية – حمدان- القرية.
وقد نقل السيّاب أجواء تلك البيئة النخيلية الخلابة في قصيدته (انشودة المطر)..
عيناك غابتا نخيل ساعة السحر
أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر..
عيناك حين تبسمان تورق الكروم
ويرقص الم كالمجذاف في نهر
ربما يوصف السياب بأنه شاعر مدينة، لكنّ ذلك يبقى وصفا عاما بالنسبة لبيئة طبيعية غير عادية مثل أبي الخصيب، وهو ما ينطبق على سعدي يوسف. أكثر منه، شكلت بيئة أبي الخصيب جزء من لا وعي سعدي، وامتدت ملامحها على سعة جغرافيته الشعرية، سيما في مرموزية الماء والبحارة والحانة والسماوات والرفقة. فالرفقة- الاجتماعية عنصر أساس في حياة البحر والبحارة، كما هي الحانة والخمر. وتكاد قصائد سعدي لا تخلو من الحضور الجمعي، للجماهير. قوة الحضور الاجتماعي – الجمعي داخل قصيدة سعدي، سيكون له أثر شديد في قسوة ظلال الوحدة والعزلة في المرحلة الأخيرة من تجربته، والتي تسعى هذه القراءة لمعالجتها.

*

(25)
سعدي يوسف ..
الشيوعي الأخير (لا) يعود إلى البصرة.. في قراءة مزدوجة
يشكل العنوان مفتاحاً دلالياً كبيراً في علاقة سعدي يوسف بالكلمة، إلى حدّ أن العنوان قد يشكل نصاً مستقلاً قائماً بذاته في الطريق إلى النص الآخر.. وفي هاته الحال تختلف طبيعة العلاقة ودرجة التعاشق بين العنوان والنص الملحق. ان النص هو الشخصية. ودراسة طبيعة وخواص البنى الدلالية والتقنيات اللغوية والتعبيرية يقدم صورة قلمية عن النزعات النفسية والفكرية المستكنهة وراء أو خلل النص. وليس سعدي يوسف ذي التجربة الريادية الطويلة والمتنوعة ممن يخشى الوضوح أو يتستر بالقناع والتخفي وراء الحروف. ولذلك قد يبدو العنوان (الشيوعي الأخير يذهب للبصرة) أكثر وضوحاً من الوضوح تحت أضواء نيون كلماته العريضة. الخاصة الثانية للعنوان، كمدخل للنص وللشخصية، هو المحتوى الموضوعي. فتعبير (الشيوعي) واضح وغني عن الشرح، وصفة (الشيوعي الأخير) غنية بالدلالات والمعاني الواضحة لمن يعنيه النص، وأن (يعود) إلى (البصرة)، دلالة العودة من جهة والبصرة تحديداً كنص مكاني مجموعة قوائم أو أوتاد تحمل خيمة القصيدة. ولو أن سعدي يوسف لم يكتب غير العنوان وترك صفحة الورقة بياضاً تتخلله سطور منقطة كما يفعل أحياناً، لاستحقت القصيدة الدراسة والتحليل والعناية الفكرية والاجتماعية. لكن سعدي يوسف الأكثر شفافية وقرباً من القارئ، والمترهل بالحزن والغربة وعذابات المنافي المتعددة لا يبني علاقاته مع الحياة والوجود والمجتمع على جسور من الفراغ . سعدي يوسف المتهم بالافراط في (الكتابة) لا يجيد غير الكتابة، أنه ولد ليكتب. واللغة هي لعبته وعشيقته وخنجره البدوي. وعندما تتقرن ملامح الزمن العولمي وتتكشر القباحة تبقى أصابع البدوي امرؤ القيس المعاصر على مقبض لغته وحروفه. لقد ترجم، وهذا ما يحسب له، حياته شعراً على مدى أكثر من خمسين سنة. ترجم تاريخ بلاده وحياة مجتمعه وناسه وصيرورة فكره وإرهاصاته كلمات وموسيقى وحباً. ويعرف المتعامل في هذا المجال أي نزيف هو عندما تكون حياة المرء إقامة دائمة داخل اللغة، داخل الشعور، داخل الفكر. رهين محابس ثلاثة وليس اثنتين. لكن سعدي، الذي أصدر قصيدته الطويلة الأولى قبل أن يبلغ العشرين بعنوان مثير للالتفات [القرصان/ 1952] معبراً عن كثير من الاعتداد بالنفس والعميق من الانتماء للوطن واللغة والعصر، ليس أسير ذاتية نرجسية منطوية وانما تتماهى لديه الذات بالموضوع، ويختلف هنا عن آخرين أيضاً، بتلك الجرأة والصلابة والاندفاع التي لم تجعل لعقدة الفوبيا مكاناً في علاقته بالوجود والعالم، لذلك أمكن له أن يحرق مراحل نفسية وزمنية، بينما يراوح غيره سنوات طويلة داخل مساحة مقننة.
*
خصائص لغوية واسلوبية
تنتظم المقاطع الثلاثة الأخيرة من قصيدته [الشيوعي الأخير يعود إلى البصرة] والتي تنصبّ عليها هذه الدراسة المقاربة، ثلاثة أزمان (نفسية). وهو يدخل الموضوع بتأنٍ وحذر. يمرّ القارئ عبر مقاطع طويلة ومتعددة، كمن يريد أن يخبر بشيء ويتردد، أو يتطير، أو يخاف أن يجرح الكلمة. وفي اللحظة التي يقرر الأفصاح، يخرج عن صفة الشاعر متقمصاً صفة الراوي في مسرحيات (بغداد الأزل بين الجد والهزل)* أو (الفرحة والحسرة في أخبار البصرة) مستهلاً القول بدلاً من صيغة المسرحية (يا سادة يا كرام) بعبارة [القصة وما فيها، يا أصحابي، ويا رفاقي]. وكأنه يعتذر عن الاسهاب والإطالة في المقاطع السالفة، مقرراً كشف الحقيقة على ظهور الملأ. ويبدو من السياق استخدام الراهن للإخبار عن شيء حدث في زمن آخر (ماضٍ)، ويتأكد ذلك من استخدام الفعل الماضي [ذهَبَ قاصِداً البَصْرَةَ]. وإذا كانت المقاطع الأولية قد أتعبت القارئ، وزادت من فضوله للدخول في الموضوع، فقد شكلت للشاعر عبئاً نفسياً مضاعفاً، بعد أن بقي يدور حول البؤرة ويتحاشاها زمناً لذلك جاء (استهلال القصة) مندفقاً في جملة واحدة طويلة وبلا توقف [القصة وما فيها يا أصحابي ويا رفاقي (لا أدري إذا كنتم تستعملون كلمة رفيق.. لا يهم!) أن الشيوعي الأخير ذهب قاصداً البصرة بعد أن ودّع حبيبته (ليزا) التي أوصته بألا يدخل البصرة بعد طول غياب إلا تحت الراية الحمراء]. وقد أسقط في خضم الاندفاق جملة اعتراضية داخل القوس تقديرها (لا أدري إذا كنتم – لا زلتم- تستعملون كلمة رفيق.. لا يهمّ). بينما تبدو ثمة كلمة في مكان آخر كأنها وضعت مقصودة وحذفها لا يخل من السياق، بالقول: (ان الشيوعي الأخير ذهب إلى البصرة بعد أن ودّع حبيبته)/ فمفردة (قاصد) التي تفيد (التوكيد والنية) في الجملة قد تكون كناية عن (إسم) شخص [ذهب إلى البصرة] بدون راية حمراء. وهنا تبرز مفارقة النص. فالشاعر يستخدم الفعل الماضي ويؤكده، وهذا هو مغزى (الحكاية) وما يتعلق بالرايات السود والبيض ورايات من نخل ورايات الملكة الأعلى. ويدعم هذه القراءة تاريخ القصيدة (25/ 5/ 2006) التالي على زيارة (قاصد) قبلها بشهرين. وهنا نلمس جانب عتاب شفيف يقطره في أذن مدينته الأولى. ويذكر أن البصرة شهدت أكثر من مهرجان لتكريم رواد المدينة كالسياب ومحمود البريكان وأغفلت الشاعر الذي كان زميلاً لهما، وله من المكانة والأهمية ما يدعو للفخر والكبرياء، ليس للمدينة ولكن للعراق والعرب أجمع. لكن معادلات الراهن العراقي، وكما شخصها أحد ادباء الداخل* بقيت مطابقة لمعادلات ما قبل (الدمقراطية)، فمن كان متصدراً المشهد أمس استمر في تصدره ومن كان ممنوعاً ومهمشاً استمرّ منعه وتهميشه. وسعدي يوسف المصادرة كتبه وإسمه في ظل النظام السابق لم يقدم له (تحرير العراق) تغييراً حقيقياً. ونجد ملامح هذا العتاب في تقديمه لكتابه الشعري الأخير (حفيد امرئ القيس) وشبه التعتيم الذي ووجه به، ناهيك عن تفاصيل أخرى. وكل تلك مسائل جديرة بالتوقف والتأمل ليس في معنى الثقافة والدمقراطية وإنما في معنى الوطن والحكومة والمواطن والانتماء. [أسماء ليس لها سوى ألفاظها..] حسب تشخيص الرصافي، وهو ما أشار إليه كاتب عراقي آخر في مداخلة بعنوان (حرية.. دمقراطية!!!)***. ويستدل من هذا المنظور أن صياغة العنوان (الشيوعي الأخير يذهب إلى البصرة) تتضمن مستويين من المراوغة، الأول لغوي، والثاني نصي. فصيغة المضارعة في العنوان لا تنسجم مع صيغة الماضي في القص والنص. واختلاف ألوان الرايات [لا يدخل البصرة بعد طول غياب إلا تحت الراية الحمراء] لا تسمح بتحقق المفروض. وتهيمن صيغة المضارع على التشكيلات الاسمية (المبتدأ والخبر). ويتكون هذا المقطع كذلك من جملة واحدة متكررة في صيغة التأكيد أو البدل مفتاحها [في البصرة (ثلاث مرات) + لكن في البصرة] وهي جملة طويلة تتضمن جملة اعتراضية أو تفصيلية داخل قوس. وفي هذا المقطع والسابق له، استخدم الشاعر اسلوب الجملة الاعتراضية من جهة، واسلوب (البوح المباشر الحميم) مع المتلقي [يا اصحابي.. يا رفاقي.. لا أدري إن كنتم..] و [وبلا أيّ كلام (أرجوكم!)]. أما المقطع الثالث فتتداخل فيه الأزمان الثلاثة [ها هي ذي..، تتبع، أظلّ (مضارع)/ ضاعت، نسيناها، ضعنا، تخذنا (ماضي)/ سوف نعود، يطلق ، نرفع، سنكون (صيغة المستقبل)]. وهي ختام القصيدة،الذي يشكل دعامة ثانية لعدم (تحقق) العودة حتى الآن، من جهة، وأن المقصود هو (عودة) أخرى اتخذها الشاعر قناعاً لتمرير فكرة النص.
*
جدلية المكان ومقومات السرد واللغة
تتميز قصيدة سعدي يوسف بشخصية واقعية موضوعية لا تمتح من الميتا فيزيقا ولا تحلق في مجازات اللغة واستعارات الاسطورة، فهي بذلك كائن اجتماعي مرتبط بجغرافيا وانتماء وهوية. وهذه أحد خصائص الشعرية العربية والحداثوية التي اختزلتها نصوص المتأخرين، في حمأة استنساخ النص الأجنبي أو تهيؤات العالمية. أحد أبرز مقومات كيان القصيدة هو المكان. المكان كنص اجتماعي سياسي حميم ومؤثر. وقد لا نجد قصيدة لسعدي لا تصرح بانتمائها للمكان، بأبعاده الوجودية والوطنية والشخصية. حتى صور سعدي المنشورة لا تغفل انتماءها لخصائص المكان المحدد، وهذا يختلف عن صور يبدو المرء فيها داخل فراغ أو فضاء أثيري. وفي هذه القصيدة يحتل المكان (البصرة) القسم الرئيسي من المضمون ومحور حركة النص اللولبية خلال مقاطع متعددة ومتمهلة وصولاً إلى الذروة (Top) التي ينقطع عندها الكلام ويترك المجال للصمت والتأمل [سنكون أجمل من نهايتنا!].
وقد تكرر ذكر البصرة في المقاطع الأخيرة ثمانية مرات، مرتين في المقطع الثالث (من نهاية القصيدة)، خمسة مرات في المقطع التالي له. أما في المقطع الأخير فلم يرد لها ذكر. وقد وردت منصوبة (مفعول به) في المقطع الثالث [قاصداً البصرةََ / يدخل البصرةَ]. بينما وردت مجرورة ومكسورة خمسة مرات (حرف الجر أربع مرات ومجرورة بالاضافة مرة واحدة) في المقطع (التالي) ما قبل الأخير [في البصرةِ (4)+ ملكة انجلترا والبصرةِ]. ولعلَّ من حق القارئ أن يفاجأ لماذا لم ترد مرفوعة مرة؟؟!. [نحن نحبّ العراق فنرفعه!!]، قال الجواهري مرة. هنا تكمن المفارقة. فالبصرة التي يريدها الشاعر، ويشغل بها وجدان القصيدة، ليست عائدة له، لأنها ليست عائدة لنفسها، وانما هي قبض الغزو، والغزو يكسر ويجرّ، وليس من شيم الغزو الرفع.
*
تقاسيم حبّ وانتماء
أولاً: علاقة الشاعر بالبصرة، هي علاقة الانسان بالأرض الأولى، وعلاقة العاشق بالمنزل الأول، علاقة روحية غير قابلة للفصم أو القسمة أو التبديل والتزوير. يجسد سياق المعنى العام للقصيدة وقوف الشاعر على جانب مدينته واعتداه بحياته وأصدقائه وذكرياته فيها ووعده بالعودة إليها. في أبي الخصيب ولد، وفيها درس، وطبع كتابه الشعري الأول وهو لما يبلغ العشرين بعد، و فيها صدر كتابه الثاني وهو طالب في الجامعة. وعندما ارتحل.. وبدأت علاقة قدمه بالبراري والبحار، نظر إلى الأفق.. نظر إلى نفسه، ليكتشف كم هي بعيدة عنه، تلك الجنة المسيجة بالنخيل يشقها نهرها العرمرم الدفاق مثل جمل يحمل ضفتيه على ظهره منذ الأزل ويتقدم نحو الأبدية.. نحو الجنوب.. نحو الخليج.. أما الشاعر فقد اتخذ طريقاً أخرى (بعيداً عن السماء الأولى)/ 1970، نحو بيروت، نحو (نهايات الشمال الأفريقي)/ 1972، معتقداً أنه من هناك.. سيرى بصرته أفضل.. كم يلزمنا أن نبتعد.. لنرى أنفسنا افضل!.. هل يستوي الخليج والبحر الأبيض.. هل يتشابه المحيط الهندي والمحيط الأطلسي ،
[قديماً كان آلهة/ لنا من تمر في البصرة/ تحلي الروح في فمنا/ ومنها تعصر الخمرة]!. منذئذ لم تهدأ حركة الأرض، ولم يستقم دوران الأشياء، وكلما كانت الحركة تزيد، كان الناموس يضطرب، والمياه تختلط، والجغرافيا تضيع.. وعندما أصبح العدو في عقر داره، بصرته، كان سعدي يوسف يدور الحركة المعاكسة، ويحتل العدو في عقر داره، بكلماته، بشعره، بكيانه وروحه . ومن هنا (/هناك) صار يرى الأشياء أفضل (ربما!)، يعدّ سنواته المتراكضة ويحتفل بعيد ميلاده بصمت ووحشة ونافذة مسدولة الستائر. كلما تقدم المرء في الزمن، صار أكثر التحاماً بالماضي واستغراقاً فيه. فليس أجمل في هذه السنوات غير فرد الأصابع على مدفأة الماضي السحيق، حياة الطلبة، النصيرة والنصير [لا أدري إن كنتم تستعملون كلمة رفيق.. لا يهم!]. لا أدري إذا كان وصف اليسار بالتطرف ووصف الاشتراكية بالطوباوية بريئاً ومنسجماً مع العقل السوي، كما أشكّ في صحة وصف الرأسمالية المتراكمة - حسب تعريف نعوم تشومسكي- للعولمة بالنيوليبرالزم [New Libralism] أو اعتبار (الأمبريالية) الفاشية نهاية التاريخ حسب الموظف المخلص في خدمة الادارة الأميركية فرانسز فوكوياما. كما أشكّ، في صدق شعار [تحرير العراق] شكي في أغراض (عاصفة الصحراء) و (ثعلب الصحراء) وكل ما تنجبه الصحارى العاقرة. [لكنني، وأنا الشيوعي الأخير، أظل أحمل رايتي الحمراء]. ذلك [أن النهر يظل لمجراه وفياً.. أن النهر يظل.. يظل..] يقول مظفر النواب، والبصرة نهر، لأنه لا بصرة بلا نهر.. وابن البصرة هو ابن النهر.. الذي لا يغيره مجراه، حتى وإن حاولت الحكومة تضليله بين [القرنة والمدينة]. بين الرايات السود أو البيض، بين العجم أو الانجليز، بين التحرير أو الاحتلال ، بين الفتح أو الغزو.
ثانياً:- الشاعر الذي يحبّ بصرته ويرتبط بها بمشيمة الانتماء الجذري لا يتركها مجرورة مكسورة أو منصوبة على المفعولية، وانما يبعث فيها من روحه وينتشلها من رمادها ويرفعها عالياً.. يرفعها عاليا مساوياً بينها وبين المقابل فيقول [ملكة انجلترا والبصرة] ، واضعاً البصرة نداً لأنجلترا، رغم أن البصرة مدينة أو ولاية جزء من دولة تحت الاحتلال بينما انجلترا دولة سيادية متنفذة وهي تحتل (البصرة) وما جاورها بالجيش والجواسيس والشرطة والسياسة والاقتصاد. أما الدلالة الثانية التي يسجلها الشاعر لمدينته الحبيبة فهو اختزال سلطة المقابل. لأن اليزابيث الثانية هي ملكة المملكة المتحدة للجزر البريتانية المنتشرة في العالم الشمالي والجنوبي وليست (انجلترا) غير جزء منها. وعلى الصعيد القياسي أو المعادلات الحسابية يكون الشاعر قد حافظ على الانسجام داخل المعادلة بوضعه (جزء) البريتاني مقابل (الجزء) العراقي. هذه المعادلة الجيو- بولتيكية هي نموذج للانتماء الحقيقي الذي يمليه المكنزم الشعوري والفكري والفطري من أرضه ووطنه ومسقط رأسه وأهله، مؤمنا أن القصيدة كنص تاريخي واللغة سلاح أكثر مضاء من أساليب وظواهر وادعاءات أخرى. ولكن موقفاً بهذا المضاء والوضوح، لا يقدمه غير سعدي يوسف، أبرز رواد الحداثة الشعرية العرب المعاصرين، بكل ثقل تاريخه السياسي وجهده الفكري وانتمائه الأسمى من أبواق الاعلام الصفراء. [بوق القيامة نحن] . سعدي.. هذا الجبل الوطني.. لا يرد كلمة بكلمة. لا يلاسن. وهو ذلك الأب الروحي الذي صرم سنواته الثمانين وهو يحرث حقول المنافي الخصبة بلداً أثر بلد، بينما حقول بلده يحرثها جراد أسود وأبقع. (أنا حتفهم) قال الجواهري ذات يوم. ثمة بلد يتمزق. ثمة كيان يتهزأ. ثمة أمة ضاعت أو تضيع [ هل ضاعت بنادقنا.. أم أننا ضعنا وقد ضاعت بنادقنا؟]. لقد حدث ما حدث، بتغييب حقيقي لرواد فكر العراق وصانعي ثقافته ومستقبله الحقيقي. وما سيادة الجهل وطقوس الظلام إلا نتيجة لغياب الدور الثقافي الحقيقي وتزوير جوهر البلاد العلماني ومظاهرها الثقافية والعلمية.
ثالثاً:- الجمل الأسمية في المقطع ما قبل الأخير اعتمدت تقديم (الخبر) على المبتدأ. وقد تشكل الخبر من (شبه جملة) تتكون من (جار ومجرور). وارتبط مغزى تقديم شبه جملة الخبر بورود البصرة فلم يشأ تركها في نهاية الجملة ليقول [رايات سود في البصرة/ رايات بيض في البصرة/ رايات من نخل ذي أعجاز خاوية في البصرة/ لكن، وبلا أي كلام (أرجوكم!) رايات الملكة الأعلى من كل الرايات في البصرة أيضاً]. فتقدمت البصرة على المبتدأ، تقدمت البصرة على الرايات السود والبيض كل حسب دلالاتها، وتقدمت البصرة على (رايات الملكة الأعلى). وهي إشارة متعددة لارتفاع قيمة الوطن على ولاته وغزاته. ولئن وردت مجرورة أو مكسورة، فقد حرص الشاعر على حفظ مكانتها ومقامها على سواها. وكما سبقت الاشارة، فان الحطّ من قيمة الآخر دالة نفسية لرفع مدينته والفخر بها. ويدخل في باب الاشادة والانتماء القسم الذي يسوقه النص [سوف نعود/ أحراراً/ شيوعيين/ نرفع راية مروية بدم وأوحال/ وندخل أرضنا]. قسم العودة والانتصار والخلود مضمخ بعبق خطاب وطني (منتمي) تأخر ظهوره في الأدب العراقي ويتحاشى كثيرون التقرب منه. ومن جهة أخرى، فعبارة (أرضنا) هي رفع البصرة من مدينة جنوبية لتكون رمزاً للوطن والأرض، وهو يتقابل هنا مع الوجه الآخر عندما جعل (البصرة) في مضاهاة انجلترا يضعها الان بمضاهاة [وطن / عراق].
رابعاً:- في سياق الاستهلال التدريجي للنص لدخول البصرة المُفترَض يستخدم الشاعر خاصة لغوية نفسية أخرى بتهيئة جوانيات المتلقي للمفردة. فنجد توارد حرف (الصاد) وهو حرف [النبر] القوي في ملفوظ (البصرة) خلال النص : [القصة~ أصحابي ~ قاصد~أوصته] ولا يرد لفظ (البصرة) إلا بعد سبقه بموسيقى (صول) داخلية. وفي المقطع التالي رغم تكرار البصرة المتعاقب في بدايات الجمل، استكمال أنغامها في [المقصود ~ القرصان]. وفي المقطع الأخير [نصيرة~ نصير~ صباح]. ومن الأحرف التي تنسجم مع الصاد [سين / ضاد – شين / طاء] وقد تكررت في أبنية لغوية متعددة مضيفة درجة من التلوين والتنوع النغمي في اللغة. ما يقتضي الاشارة هنا هو جدلية الضاد. وهي من أقرب أخوات الصاد النبرية في البصرة. فقد وردت في مفردتين في المقطع الأخير تحديداً، مرتبطة بـ [أرض~ ضياع]. فبعد تكرار مقصود لملفوظات (الضياع) .. [ضاعت~ ضعنا~ ضاعت] في صيغة استفهام محيلة على [نحن- بنادق] المنسجمة مع واقع معين (غزو)، ترد لفظة (أرض) في صيغة إثبات خبري وتأكيدي [سـنعود .. وندخل أرضنا] محددة الجملة ما قبل الأخيرة في ملفوظ النص. وثمة لفظتان وردتا في المقطع ما قبل الأخير [أيضاً - طبعاً] ولكل منهما دلالة واضحة فيما يخص معادلة المدينة والغزو.
وإزاء تجمع مبررات وضرورات لاختصاص النص بالبصرة، وعدم الاشارة المباشرة لبقية أجزاء الوطن، نجد خيطاً متيناً بين إقامة الشاعر في انجلترا وقيام هذه باحتلال مدينة طفولته وصباه وشبابه المبكر، فكل صباح وكل نسمة تخترق النافذة تذكره بصباح ونسمة مغتصبة. وما بين الغاصب والمغصوب يقف الشاعر وحلمه.
*
القصيدة:
سعدي يوسف
الشيوعي الأخير يعود إلى البصرة
(هنا المقاطع الثلاثة الأخيرة فقط من القصيدة لغرض الدراسة)*
" القصة وما فيها، يا أصحابي، ويا رفاقي (لا أدري أن كنتم تستعملون كلمة رفيق.. لا يهم!)
ان الشيوعي الأخير، ذهب قاصداً البصرة، بعد أن ودّع حبيبته (ليزا) التي أوصته بألاّ يدخل البصرة بعد طول غياب، إلاّ تحت الراية الحمراء.
*
في البصرة رايات سود
في البصرة رايات بيض،
في البصرة رايات من نخل ذي أعجاز خاوية
لكن في البصرة ، أيضاً، وبلا أي كلام (أرجوكم!): رايات الملكة الأعلى من كل الرايات!
[المقصود بالملكة هنا اليزابيث الثانية (الأولى كانت تمول – القرصان- فرانسس دربك في القرن السادس عشر، الميلادي طبعاً) واليزابيث الثانية هي ملكة انجلترا والبصرة وما جاورها في القرن الحادي والعشرين].
*
وها هي ذي، إذا...
إسطورة الآيات تتبع فوهات من بنادق أهلها،
لكنني، وأنا الشيوعي الأخير،
أظل أحمل رايتي الحمراء..
هل ضاعت بنادقنا؟ نسيناها؟
اتخذنا غيرها؟.. أم أننا ضعنا وقد ضاعت بنادقنا..
سلاماً ..
للنصيرة،
للنصير،
لفتية وضعوا على القنن الغريبة والروابي..
الراية الحمراء.
سوف نعود للقمم..
الصباح الجهم يطلق بوقنا؟؟
بوق القيامة نحن..
أحرارا، شيوعيين
نرفع راية مروية بدم وأوحال
وندخل أرضنا..
.................
..............
.........
سنكون أجمل من نهايتنا. "
لندن 25/ 5/ 2006


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
• سعدي يوسف – كلّ حانات العالم من جلجامش إلى مراكش- المؤسسة العربية للنشر- بيروت/ عمان- ط1- 1994
• سعدي يوسف – ايروتيكا- دار المدى للنشر- دمشق- 1995
• سعدي يوسف – قصائد ساذجة- دار المدى للنشر- دمشق- 1996
• سعدي يوسف - حانة القرد المفكر – دار النهار للنشر- 1997
• مثنى حميد مجيد – فان كوخ وسعدي يوسف.. خارقية العملية الابداعية - مجلة الحوار المتمدن – ع 2512– تاريخ 31- 12- 2008.
• برهان الخطيب- ديوان العرب المغلق –(هم العالمية للكتاب أفقد الرواية العربية الاشعاع بوجهها المحلي)- ص22- جريدة العرب الاسبوعي - ع185- 3- 1- 2009- لندن.
• ادور الخراط- أصوات الحداثة – دار الآداب- 1995 - بيروت.
• في بدايات القرن العشرين تنازع المجتمع العربي تياران.. تيار يدعو إلى الاصالة وإعادة بعث التراث، وتيار اعتبر النمط الغربي طريقا وحيدا للتقدم والعصرنة. وتمثل مصر الحالة الأكثر وضوحا في هذا المجال.
• الإشارة إلى أواخر الستينات وبدايات السبعينات.
• مستوطنة آرامية قديمة، أعيد استيطانها مجددا في العهد الاسلامي عقب ابتناء ضريح للامام علي بن أبي طالب فيها، وهي مزار الشيعة وقبلتهم المقدسة يحجون إليها سنويا من كل العالم.
• سميت كذلك على إسم ناصر باشا السعدون الذي ابتنى قصراً فيها على أواخر آل عثمان، واتخذت من بعد مركزا للحامية الانجليزية والحقت بها خدمات ادرية ومدنية، لكن مركز المدينة لم يتطور كثيرا للأسباب عدة، ومن أسمائها المنتفك وذي قار. وموقعها مجاور من أور التاريخية وعاصمتها الوركاء التي تعاني من الاهمال الدائم.
• اكتسبت خانقين أهميتها التاريخية كونها مركز رئيسا على طريق النقل الدولي بين العراق وايران، أو مرحلة في طريق الحرير الشهير. تراجعت أهمية المدينة إلى قصبة ادارية تعسكر فيها نقطة حدود دولية وإلى الشمال منها تمر طرق تهريب البضائع بين البلدين. يتكون اسم المدينة من مقطعين.. خان بمعنى قصر أو دار استراحة، وقين الذي تختلف الاراء في معناه من اسم أميرة فارسية، على غرار (قصر شيرين) المحاذية لها، أو كلمة بمعنى الدم بالفارسية.
• مصطفى مردان – شعراء العبث في العراق- بغداد.
• ادور الخراط – ن. م.
• أدونيس – الثابت والمتحول – ج1.
• ادور الخراط- ن. م.
• حسن النصار – وقال نسوة- قصيدة مطولة- منشورات ضفاف – النمسا- 2001.
• (ليس للأخضر بن يوسف من يكاتبه) بناء على صيغة عنوان رواية ماركيز الشهيرة .
• أشعياء – سفر أشعياء 65: 1-2)- الكتاب المقدس- العهد القديم.
• سفر الجامعة (سفر سليمان)- الكتاب المقدس- العهد القديم.
• ملحمة جلجامش – طه باقر- النص العربي.

• من أعداد واخراج الفنان قاسم محمد – تقديم الفرقة القومية للتمثيل وفرقة المسرح الفني الحديث.
• الكاتب حسن عبد الرزاق – جريدة المدى ..
• الكاتب مهند حسن السماوي (حرية دمقراطية..) على الشبكة.
• القصيدة منشورة في صفحة الشاعر في (الحوار المتمدن) وفي موقعه الشخصي على الشبكة/ مجموعته الشعرية (الشيوعي الأخير يدخل الجنة).



(26) الخلاصة..
سعدي يوسف شاعر عراقي حفر طريقه بنفسه ونجح في طبع بصماته في خريطة الشعر العربي منذ النصف الثاني للقرن العشرين المنصرم وما زال مستمرا في انتاجه وتجدّده الابداعي. تميّز الشاعر في طبيعة علاقته بالشعر مما جعل لقصيدته نكهة خاصة ووقع منفرد، وفي جملة تلك العلاقة احترامه لقصيدته وحبّه لها؛ فلم يستخدم شعره وسيلة للتعيش وجمع المال، أو بلوغ مطمح أو نيل مكسب [سياسي، بيرقراطي، أكاديمي]. ورغم كونه شاعرا سياسيا ومعارضا ، فهو لم يوظف تاريخه [السياسي المعارض] للمطالبة أو اللهاث وراء صدارة أو زعامة في المشهد السياسي ، فكان حلمه وطموحه ورؤيته لمستقبل بلده وأمته أكبر من منتجات البراغماتية السياسية الامبريالية، أو الحاجات الشخصية المؤقتة. لذلك استمرّ في ايمانه وموقفه المبدأي، ولم يتراجع عن نهجه المعارض وانحيازه الثابت للأغلبية الكادحة والمناضلة من أجل غد حرّ وحياة كريمة.
وقد بذل الشاعر سعدي يوسف حياته وشعره جرّاء مواقفه الوطنية والقومية، وعاش مغتربا خارج بلده وأرضه، دون أن يفقد الأمل في الغد.. فآلى على نفسه أن يبقى قريبا من رائحة الأرض وأنفاس العربية وجغرافيتها، حتى "غلّقت" الأبواب عليه أو كادت، فلم يجدْ بدّا من الاتجاه شمالا. فأقام في لندن منذ 1999، مستمرا في شعره ونهجه ومتواصلا مع أهله وبني قومه.
وقد تمثلت حصيلة الشاعر خلال هذه المرحلة في حوالي (15) كتابا شعريا.. هي بحسب تواريخ صدورها:
العام 2000- (يوميات أسير القلعة) – دار المدى
العام 2001- (قصائد العاصمة القديمة)- دار المدى
العام 2001- (حياة صريحة)- دار المدى
العام 2003- (الخطوة الخامسة)- دار المدى
العام 2004- (صلاة الوثني)- دمشق
العام 2006- (حفيد امرئ القيس)- دار المدى
العام 2007- (الشيوعي الأخير يدخل الجنة)- دار المدى/ توبقال
العام 2008- (أغنية صيّاد السمك وقصائد نيويورك)-
العام 2009- (قصائد الحديقة العامة)- دار الجمل
العام 2010- (الديوان الايطالي)- دار الجمل
العام 2010- (في البراري حيث البرق)- دار الجمل
العام ؟ - (صورة أندريا)-
العام ؟ - (ديوان شيراز)-
العام 2012- (ديوان طنجة)-
العام 2013- (عيشة بنت الباشا)- دار الجمل
[ملحوظة: في صفحة الموقع الالكتروني للشاعر وردت (أغنية صيّاد السمك) و (قصائد نيويورك) كتابين مستقلين، مما يجعل رصيد الشاعر (16) كتابا شعريا!]..
وهذا الكتاب (سعدي يوسف.. صورة في الثمانين)، محاولة في دراسة المرحلة اللندنية في تجربته الشعرية والنضالية.. تقديرا للتجربة الشعرية ، وتثمينا للموقف الوطني والقومي والانساني، وتكريما لمناسبة بلوغه عامه الثمانين.. في وقت تتعرض فيه ثقافتنا وأوطاننا وقيمنا الثقافية والأدبية لتحديات التفتيت والتبخيس والتهميش والمُصادَرة محليا ودوليا، وفي المقدمة منها التيارات والهويات الأصيلة التي لا تخضع لشروط اللعبة الجديدة.
اعتمدت مادة الكتاب على نصوص الشاعر الشعرية والنثرية بشكل أساس، مع الأعتبار بما ينسجم مع رؤيتها من آراء النقاد والباحثين ممن تناول تجربة الشاعر. وإلى جانب المتاح من الكتب والمصادر الورقية، اعتمد الباحث على مصادر المكتبة الألكترونية، وفي مقدمتها الصفحة الشخصية للشاعر سعدي يوسف على الشبكة.
وقد استفاد الكتاب من المناهج البحثية الاجتماعية والنفسية في دراسة الأدب لاستقراء واستبطان بعض رؤى الشاعر وما ورائيات النص لتجسير الهوة ما بين المصدر والمتلقي؛ وكذلك بعض طروحات ما يدعى (الانموذج الأخير) أو [late style] التي اهتمّ بها المفكر ادوارد سعيد في قراءاته الأدبية والفنية، لما لها من أثر مباشر في تقديم الصورة الأخيرة للنص ، وما يتكلفه من ألم وتضحية على حساب آلام الجسد وقلق الروح، ليس لمواجهة اللحظة الراهنية للنص فحسب، وانما محاولة الاجابة على الأسئلة الكونية والوجودية من خلال النصّ.
فمن خلال موقفه الشعري والانساني، ساهم الشاعر سعدي يوسف في الاجابة عن سؤال.. دور المثقف في اللحظات التاريخية الصعبة، وفي نقاط الحدود الساخنة بين سلطان الارادة [The Power of Will] وبين الخضوع والتبعية؛ بين أن تسود أو يساد عليك، بين أن تكون أو لا تكون [To Be´-or-Not To Be]/ [Sein, Oder Nicht Sein!]؛ والذي يعود اليوم للوجود بصورة أكثر إشكالية وشائكية!.

وديع العبيدي
لندن
الرابع عشر من يناير 2014

القسم السابع.. ملاحق
(27) ملحق- أ
سيرة سعدي يوسف.. بقلمه.. (محاولة- كولاج – مستقاة من بين كتاباته!)

لِحصاها فضلٌ على الشُّهُبِ وثراها خيرٌ من الذهبِ
لستُ أرضى السماءَ لي وطناً بدلاً من جزيرةِ العربِ
إنْ بدا الآلُ في مفاوزها قُلْ لنهر المجرّةِ احتجبِ
أو ( بدا ؟ ) البرقُ ....
تتمنى ( العروسُ ؟ ) لو لبِسَتْ حُلّةً من طرازِها العجبِ
" نشيدٌ في المدرسة الابتدائية "
*
يا أوروبّا ، لا تغالي لا تقولي ( الوقتُ ؟ ) طابْ
سوف تأتيكِ الليالي نورُها لَـمْع ُ الحِرابْ
" نشيدٌ في المدرسة الابتدائية "
*
الروحُ بعدَ فراقِها الوطنا لا ساكناً ألِفَت ْ ولا سكَنا
" خير الدين الزركلي "
شاعرٌ سوريّ في حاشية فيصل الأول
ـــــــــــــــــ
مديح جزيرة العرب ، الذي تلقّيتُهُ في المدرسة الابتدائية ، بالعراق الجنوبي ، نشيداً ، آنَ تحية العَلم الصباحية ، كلّ
خميسٍ ، هذا المديحُ تحوّل مع مَرِّ الأحداث والسنين ، من نشيدٍ ، إلى أغنيةٍ . هذه الأغنيةُ ، بدَورِها ، تحوّلتْ ، في
الحُلمِ ، والكابوسِ ، في تفكُّراتِْ الليالي الطوالِ ( ما أطولَها حقاً ! ) ، إلى سيمفونية ، سيمفونية ناقصة ...
الطفولة ُ تُختَرَمُ
جزيرة العرب ، البهية في الأغنية – النشيدِ ، تُختَرَمُ
الذاكرةُ ، ذاكرة الطفل والنخل ، والرملِ المتلأليْ ماءً سحرياً مثل نهر المجرّة ...
هذه الذاكرةُ تُخترَم ...
الآنَ :
من يأتيني بالقصيدة ؟
مَن يأتيني بالنصّ الأول لمديح جزيرة العرب ؟
سأكونُ ممتنّاً .
أرجوك ، أيها الصديق ....
لندن 11.9.2006
*
كان لنا بالبصرة أرضٌ ، وقفٌ لمكّةَ . وفي كل عامٍ كان يأتي خَصِيٌّ من هناك ليأخذ عوائد الوقف المكيّ . مرةً ، وأنا صبيٌّ ، اصحبني عمٌّ لي ، عبد الجبار الشهاب ، إلى مكتب الخِصيان بالبصرة ، وهناك رأيتُهم . كانوا من ذوي البشرة السمراء ، وإذا تكلّموا كان صوتُهم رفيعاً ، كصوت امرأة . كدتُ أضحكُ ، لكن عمّي لكزني .
حكم الغلامين- لندن 18/6/2013
*
التكية النقشبندية في أبي الخصيب..
قال لي عز الدين مصطفى رسول : للنقشبنديّةِ الخانقاه ، لا التكيّة.
عزّ الدين أعلمُ مني أكيداً. لكننا في أبو الخصيب ، كنا نسمّيها التَكْـيَـة .أتحدّث عن أبو الخصيب الأربعينيّات.
يبدو أننا كنا في زمنٍ بدأتْ فيه التكيّة تتدهورُ ، بعد وفاةِ الشيخ.
برهان ، الأخ الأكبر والذي كان سجيناً شيوعياً ترك أبو الخصيب وتكيّةَ أبيه وعاد إلى السليمانية. تولّى عاصم العناية بالتكيّة . عثمان لم يكن متديّناً . ومحيي لا يزال غِرّاً .
وقد كانت التكيّة النقشبندية في أبي الخصيب شهدت ازدهاراً ونفوذاً عجيبَين ، وكان للشيخ أتباعٌ ومريدون. وتروى حكاياتٌ عن الوجد والشطح الصوفيّينِ ، وكيف أن أحد مريدي الشيخ طارَ
من أعلى سطحِ التكيّةِ ، في تقليدٍ لِما يروى عن طيران الشيخ عبد القادر الكيلاني ، ليسقطَ هذا المريدُ المسكينُ مرتطماً بالأرض الرطبةِ ، مهشَّم الأضلاعِ ، ميّتاً !
*
في التكيّة النقشبندية ، تهجَّينا الحروفَ الأولى من شــيوعيّةٍ عجيبة ، ملأى بالأساطير عن عمّالٍ يبنون بلداً ، وجيشٍ أحمرَ لا يُقهَـرْ .
في ظهيرة الصيف القائظة ، كانت التكيّــةُ برداً وسلاماً.
بينما تتّـقدُ في أعماقنا الغضّة ِنارٌ من حلمٍ أحمر.
رسائلُ إخوانِ الصفا كانت في خزانة التكية .
ومصاحفُ
وتفاسير .
كانت التكيّة النقشبنديةُ معهدَنا الفكريّ الأوّل.
*
1948.. البصرة القديمة
أتذكّـرُ البصرة في تلك الأيام ، الأيام التي تلتْ هجرة الفلسطينيين الكبرى . كنا نسكنُ منزلاً عتيقاً في البصرة القديمة ، في ما كان يدعى " سوق الدجاج " . مالك العقار يهوديٌّ مُسِنٌّ ، يأتينا نهاية كل شهر ليأخذ الإيجار الزهيد . كان في منتهى الخُلقِ والوداعة . أحياناً أراه يدخل الكنيسَ ، بمواجهة بيتنا . أعتقدُ أن الكنيس قديمٌ جداً ، ولربما أوحت إليّ عتمتُه الدائمة بهذا الاستنتاج .
في أحد الأيام جاءت عائلة فلسطينيةٌ لتسكن بيت شخصٍ يهوديٍّ غادرَ البصرةَ إلى فلسطين ، حيث كانت إسرائيل تتأسس ، وتستقدمُ سكّــاناً .
استقبلْـنا العائلة الفلسطينية ، كما يستقبلُ الجارُ ، جارَه الجديدَ .
عرفتُ في ما بعدُ أن خالد علي مصطفى ، الشاعر ، كان ابنَ تلك العائلة التي جاورتْنا .
إذاً ، الفلسطينيون أقاموا بيننا حوالي ستين عاماً .
ألا تشكِّلُ الأعوامُ الستّــون أساساً لعلاقة ؟
منطلَقاً لحقوقٍ ؟
*
ابي الخصيب 1954
في 1954 ، في أغلب الظنّ ، نُسِّــبتُ إلى التدريس في متوسطة أبي الخصيب ،
*
البصرة 1954..
في العام 1954 ، أي قبل نصف قرنٍ من هذا اليوم المعتم ، في الشتاء الإنجليزي الرطب ، كنت أمثِّـل ، على صندوق الإنتخاب ، مرشحَ الجبهة الوطنية في البصرة ، الدكتور فيصل السامر ، أستاذي الذي صار في وزارة 14 تموز ، وزيراً للإرشاد .
أذكرُ من بين مرشحي الجبهة ، المحامي إدكار سركيس وجعفر البدر أيضاً .
في تلك الإنتخابات المباشرة ، فاز عددٌ من مرشحي الجبهة الوطنية ، ليكوِّنوا للمرة الأولى في تاريخ البرلمان العراقي ، كتلةً برلمانيةً .
تلك الذكرى أثيرةٌ لديّ …
كنت في المركز الإنتخابي ، أمثل المرشح الدكتور فيصل السامر ، وكان لكل مرشحٍ ممثلٌ يقف وراء الصندوق ، كما كان في المركز الإنتخابي حاكم تحقيق ، وشرطيّ أو اثنان .
أراقبُ الناخبين يدخلون ، واحداً واحداً … يلقون بأوراقهم في الصندوق ، وينصرفون ، في هدوءٍ عجيب .
لم يفُــزْ من مثّــلتُـه .
كان الفلاحون ، الفقراء ، يصوتون لصالح مرشح حزب صالح جبر ( حزب الأمّــة الإشتراكي ) ، الذي صار في قاموسهم يسمى ( حزب الأئمّـة (…
كأنهم لم يعرفوا أن فيصل السامر هو المدافع الحقيقي عن مصالحهم ، وأكيداً أنهم لم يعرفوه مؤلفاً لأهمّ كتابٍ عن ثورة أسلافهم من أرقّــاء الأرض في البصرة ، أعني " ثورة الزنج " .
لندن 23/12/2003

*
في 1960 ، ببغداد ، ترجمتُ مع الصديق الراحل ناظم توفيق كتاب " لو تِن غيِي " ، لتتفتّح الأزهار .
في أواسطِ السبعينيات ، ومع هادي العلوي الذي لا يرحل ، وكاظم السماوي ، دُعِينا من الجانب الصينيّ للعمل في قسم الدراسات العربية بالعاصمة الصينية . كان الشيخ جلال الحنفي هناك ، وقد أقنعَ هادي العلوي بجدوى الذهاب إلى بايجينغ .
دعانا السفيرُ الصينيّ ببغداد إلى عشاءٍ في منزله .
العشاء صينيٌّ مائة بالمائة .
وهناك ساكي الرزّ الذي يُلْهِبُ حتى حَلقي !
ذهبَ هادي العلوي ، وكاظم السماوي إلى الصين .
لم أذهبْ لأني أحسستُ بترددٍ ، من أسبابه أنني كنتُ أريد الاستزادة من طَعمِ بغداد ، بعد طولِ غيابٍ .
ذهب الرجلانِ ليقيما هناك نحواً من سنين عَشــرٍ !
*
1963 نقرة السلمان
أنت تبلغُ بادية بادية السماوة ، حيث قُتِل المتنبي .
تبدو الباديةُ ، حمادةً ، قاسيةً ، لا معالمَ فيها . لا نبتٌ ولا شجرُ.
*
نَـكَّبَ أبو محسَّدٍ ، السماوةَ والعراقَ يوماً
تركْنا من وراءِ العيسِ نجداً
ونَكَّـبْـنا السماوةَ والعراقا ...
فجأةً ، من وهدةٍ ما ، تلمحُ شجراً ، ربما كان أثَلاً .
ثم تنحدرُ الحمادةُ إلى قلعة الجنرال جلوب ، جلوب باشا ، الملقّب " أبو حنَيك " بسببِ تشوُّهٍ طفيفٍ في حِنكِه .
إنها نقرة السلمان ...
السجن الصحراويّ
والقلعةُ التي تصدُّ الجِمالَ الوهّابيّةَ الـمُغيرةَ
هنا أيضاً ذوى مهزومو ثورة العشرين ، ومعارضو الهاشميين وحكوماتِ نوري السعيد
هنا كان فهدٌ
والناجون من قطار الموت في 1963
هنا كان مظفّر النوّاب
وهنا أقمتُ
(أنا ، مثلاً ، سُجِنتُ ، لأنني ، بصفتي شيوعيّاً عربيّاً ، طالبتُ بإيقاف الحرب ضد الأكراد/ لندن 06.08.2013)
عشرون برج مراقَبةٍ ، تعلو السورَ
الماءُ يأتي في صهاريج سيّاراتٍ ، تقطع صهدَ الباديةِ ، لتمنحنا ماءَ الحياةِ ، عبرَ أنبوبٍ يُدَسُّ في فتحةٍ أسفلَ السورِ
كان وعدُ الله يحيى ، بجانبي ، لحظةَ وصولِ الماءِ...
في الصباحِ سوف يأخذون وعدَ الله يحيى إلى بغداد ، لـيُشــنَقَ
مديرُ السجن، التركمانيّ ، سيأتي في جولة تفتيشٍ
علينا أن نلزمَ رَدهاتِنا
قال لنا رفاقُنا : نستقبلُه واقفينَ
*
أحياناً أذهبُ إلى القلعةِ القديمةِ ، المهجورةِ الآنَ
إنها النزهةُ الوحيدةُ
في المساء ، تبدو النجومُ أشدَّ سطوعاً من مصابيح السجن
*
أتذكّــرُ أنني كتبتُ في أواخر الستينيات قصيدةً بعنوان " قصيدة وفاءٍ إلى نـقرة السلمان " بعد أن قيل إن السجن أُغلِقَ نهائياً
الأمرُ لم يحدُث البتّةَ
كانت " نقرة السلمان " مثل استراحةِ المحارِب
نبلُغـها كما نبْلغ واحةً بعد رحلة العذاب والتعذيب
*
الجزائر 1964..
منذ أن حللتُ الأرضَ الجزائريةَ ، في العام 1964 ، أي بعد عامَينِ من الاستقلالِ ، بدأتْ ثنائيةُ الوطنِ- المنفى تتبلورُ لتتعقّد. كان التعقيدُ جارحاً ، راديكاليّاً.
إنْ كانت الجزائرُ منفىً ، وهي الأعَزُّ لديكَ بلداً مختاراً ، والأكرمُ وِفادةً ، فلِمَ الإقامةُ ؟ لِمَ الإقامةُ بالزّوراءِ ، لا سَكَني فيها ، ولا ناقتي فيها ، ولا جَمَلي ...
بالرُّغمِ من هذا التساؤلِ الحادّ ، والجادّ ، ظلّت ثنائيةُ الوطنِ- المنفى قائمةً ، تنخرُ في الروحِ والنصّ ، مثل سُلِّ العظامِ.
من أسبابِ ذلكَ ، قُربُ العهدِ بمفارقة الدارِ ، والاحتمالُ النغّارُ بعودةٍ وشيكةٍ.
لكن الأيامَ تكِرُّ ، والأعوام . الأعوامُ تغدو عقوداً. والعقودُ تتراكم ُ.
في لحظة ما ، قرّرتُ ، ببرودةِ دمٍ ، أن أحاربَ الحنين. تساءلتُ مع نفسي : إلامَ أحِنُّ ؟ وجاءَ الجوابُ بَـدَهيّاً : إلى لا شيء . هل كنتُ ، إذاً ، أقلِّدُ الآخرين ؟ معنى ذلك أنني كنتُ كاذباً ، مع نفسي ، ومع الناس.

بغداد السبعينيات..
في النصف الثاني من السبعينيات ، نُقِلْتُ بأمرٍ من طـارق عزيز وزير الثقافة والإعلام في العــراق آنذاك ، من " المركز الفولكلوري " حيث كنت سكرتير تحرير لمجلة " التراث الشعبي " ، إلى منصب " نائب مساعد أمين مكتبة " في دائرة ملحقة بوزارة الريّ ، تقع قرب السدّة ، غير بعيدة عن " مقهى عرب " الذي كنا نرتاده أيام الدراسة الجامعية .
كنتُ في تلك المكتبة القديمة ، التي تعود أصولُها إلى الاحتلال البريطاني ، وكانت في سابق مجدها اصطبلاً لخيول العثمانيين .
هناك كانت كتب الريّ ، والسدود ، والفيضانات ، وكتب الرحّالة الأقدمين ، ومشاريع الريّ الكبرى ، المنفّذ منها ، وغير المنفّذ . وكنتُ مكلفاً بمتابعة ترسُّب الطين في أنهار العراق وجداوله ، وتقديم تقارير رسمية إلى جهات رسمية عن هذا الترسُّب !
كنت أجلس في أعماق المكتبة ، وأقرأ عن حضارة الأنهار والحروب .
هناك قرأت ، أنا المغضوب عليه ، " أناباز " زينوفون ...
لم يكن أحدٌ يجرؤ على زيارتي .
أعرفُ هذا ، وأعرفُ ما قد يتعرّض له من يجرؤ على زيارتي .
*
في ضحى أحد الأيام ، قال لي عبّاس ( وهو مساعد أمين المكتبة ، إذ ليس في هذه المكتبة العتيقة أمينٌ ) إن أحداً يريد أن يراني .
قلت له : ليتفضّل .
أمجد ناصر كان الزائر !
عرفتُ منه أنه في زيارة إلى بغداد ، وأنه طلب من المسؤولين في وزارة الثقافة والإعلام أن يراني فسمحوا له .
الحديث محدود ، بالطبع ، فللجدران آذانٌ ، كما يقال ...
أعتقدُ الآن أن موافقة المسؤولين مَرَدُّها كون أمجد يعمل في مجلة " الهدف " .
ما زلتُ أقدِّرُ للرجل هذا الموقفَ ، فعديدُ زوّار بغداد كان عظيماً ، أيّامَها ، لكنـه كان الوحيد الذي زارني في ممتحَني بالمكتبة القديمة لوزارة الريّ ! لندن 29.12.2007
*
كل الشعب بعثيّة . كنت أسمع الهدير وأنا في مكتبة الريّ ، بعد أن أوصيتُ أمين المكتبة ، عباس ، أن يقفل عليّ الباب . لم ألتحقْ بالمظاهرة الإجبارية . لكنني كنت أسمع الهدير : كل الشعب بعثية ، فلتسقط الأميّة !
قلت لعبد الرحمن منيف : يا عبد الرحمن يريدون أن يجعلوني بعثيّاً !
قال : سأذهب إلى ميشيل عفلق أخبره .
بعد أسبوع ، قال لي عبد الرحمن : يا سعدي ، يقول ميشيل عفلق ، اترك البلد رجاءً . العالم العربي أرحمُ بك .
هكذا تركتُ وطني
*
لقد أردتُ أن أُعطيَ المكانَ حقّه ما دامَ هذا المكانُ متاحاً.هل من غرابةٍ في هذا الأمرِ؟ ليس من غرابةٍ لو كنتُ في أرضي الأولى ، مع المشهد الأوّل. لكني منذ أواسط الستينياتِ كنتُ : بعيداً عن السماء الأولى ...
وما زلتُ .
إذاً أين المكانُ ؟
ليس من مكانٍ ، إنْ كان الأمرُ محدداً بالجغرافيا.
السماء الأولى إيّاها كانت ممنوعةً أو شِبْــهَ ممنوعةٍ. أتذكّرُ أنني أردتُ زيارة أبو الخصيب مودِّعاً وداعاً أخيراً ، نهايةَ السبعينيات.استقللتُ سيارة أجرةٍ ، وبلغتُ المكانَ ، مقهىً عند مرآب السيارات. طلبتُ شاياً. لم أُتْمِمْ شُربَه. كان شرطيٌّ يقف بمواجهتي يسألُني لِمَ أنا هنا. ماذا أفعلُ في المكان. نصحَني بالعودة من حيث أتيتُ. وهذا ما حصلَ.
هل كان بإمكاني التأمُّلُ بأمواهِ دجلةَ؟
لم أعرف الفراتَ إلاّ حينَ سبحتُ في الرّقّةِ بأعالي سوريّا ، متنعِّــماً بمائه ، خيرِ ماءٍ .
سألتُ طالب عبد العزيز ، الشاعر ، مؤخراً ، عن مدرسة المحمودية بأبي الخصيب حيث أتممتُ الإبتدائية. قالَ: هُدِمَتْ.
إذاً ، أين المكانُ ؟
*
1993
لكنني رحلتُ عن الأردنّ ، فراراً من وضعٍ شخصيّ مؤسفٍ ، وأقمتُ في المملكة المتحدة .
*
1995
تأخذني " بَيني " إلى حيدر. أرى ولدي ممدّداً، صبيحَ الوجه ، ينامُ عميقاً . التابوتُ ذو غطاءِ زجاجٍ. كأني رأيتُ بعوضةً دقيقةً على وجه حيدر . كيف أُبعِدُها ؟
تذكّرتُ ، بعد طول نسيانٍ ، سورةَ الفاتحة . تلوتُها ســرّاً كأني أزمزمُ في بيتِ نارٍ .
قلتُ للقوم: توقّفت مراسيمُ الدفن.
لن يدفَنَ ، كاثوليكيّاً ، في مقبرة البلدةِ .
سآخذه معي إلى دمشق.
حيدر ، يثوي الآن ، قرب هادي العلوي ، والجواهري ، في مقبرة الغرباء ، بالسيدة زينب .
*
الحزب الشيوعي الكردستاني..
زرت أبو سعود ( الرفيق عزيز محمد ) أكثر من مرّة في بيته المتواضع ، لألحّ على مقترح حزب شيوعيّ كردستانيّ .
قلت للرفيق : حتى في الاتحاد السوفييتي هناك حزب شيوعيّ أرمني ، و آخر أوكرانيّ ... إلخ
والعراق مقبلٌ على التشظّي.
( الأميركيون كانوا فرضوا منطقة الحظر الجوي ).
والساحة للقوميّين الأكراد.
يوماً بعد يوم ، بدأت معارضة الرفيق عزيز محمد لأطروحة حزب شيوعيّ كردستانيّ تخِفُّ قليلاً .
في المساء كان الرفاق المتحمسون للأطروحة يغرقونني بالعرَق والكباب ، مع أني مُقِلٌّ في الإثنين .
المشكل الآن مع الحزب الشيوعيّ العراقيّ .
المفترَض بعد تأسيس الحزب الشيوعيّ الكردستانيّ أن يهتمّ الحزب الشيوعيّ العراقيّ ، بالعرب ، القومية الرئيسة ، وبالعراق العربيّ .
لكني ، في متابعتي الشأن العراقيّ ، أرى أن الحزب الشيوعيّ العراقيّ ، هو نسخة من الحزب الشيوعيّ الكردستانيّ.
زعماؤه يقيمون في كردستان . بعضهم ( مثل كاظم حبيب ) تذكّر فجأةً أنه كرديّ.
أنصاره يقبضون معاشاتهم من كردستان.
صحافته تابعة.
حتى كأن العراق العربيّ لم يعُدْ قائماً .
لكن العرب باقون.
العراق العربيّ حقيقة.
ومن الانتحار السياسيّ ، ألاّ تؤخذ هذه الحقيقة مأخذَ اعتبارٍ واحترامٍ .
*
لندن 1999
مستقرٌّ في مُـنْـــتبَــذي هذا استقرارَ دوحةِ التوتِ.
دِيَكةٌ أو لا دِيَكــةٌ !
هل تقودُ نُعْمى الاستقرارِ إلى مدخلٍ معيَّنٍ ؟
نعم . إنها تؤكدُ أمرَينِ : ذهابَ الوطنِ وذهابَ المنفى في آنٍ.
لكنْ كيفَ أقولُ بذهابِ المنفى وأنا أحِلُّ خارجَ أرضِ المشهدِ الأوّلِ ؟
التساؤلُ معقولٌ لو لم أكُنْ انتهَيتُ ، روحاً وجسداً ، من وطأةِ تلك الأرضِ التي لن أقولَ عنها أبداً :
بنفسيَ تلكَ الأرضَ . ما أطْيَبَ الـرُّبى !
وما أحسنَ المصطافَ والـمُـتَـرَبَّعا
*
أنا لا أستطيعُ أن أكتب منطلِقاً ممّا هو مجرّدٌ . لا أستطيعُ ذلك مطْلَقاً.
عليّ ، أوّلاً أن أجدَ أرضي ، مكاني، مساحتي الواضحة ، مَـعالِـمَ خارطتي الفعليّة. بتعبير آخرَ : عليّ أن أتوطّنَ ، وأُوَطِّنَ نفسي.
هل بمقدوري أن ألـمُسَ جذورَ النخلِ المعَرّاةَ عند حافةِ الجدولِ ، وأنا أسكنُ كوخاً خشباً في قريةٍ بجبالِ الألْبِ ؟ صحيحٌ أن بمقدوري التخيُّلَ ، والتجريدَ ، والترميزَ . لكني لا أتحدثُ عن هذا . أنا أتحدّثُ عن الإرتطامِ الأوّلِ الذي يقْدَحُ شــرارةَ البدءِ بالعملية الفنيةِ ، وهي عمليةٌ سايكولوجيةٌ بالغةُ التعقيدِ والشروطِ ، أساساً.
كنتُ أتحدثُ مرةً مع محمود درويش حول التخييلِ . قلتُ له : ليس شرطاً أن يعيش المرءُ في القطبِ كي يعرف الثلجَ.
لكن المسألة ليست في المعرفة.
مَن قال إن الشعر معرفةٌ ؟
الـبَدْئيةُ والـبِـدائيةُ ، مبدآنِ جوهرانِ في الشعر.
الإحساسُ أوّلاً.
المعرفةُ تاليةٌ ، أو لا لزومَ لها !
*
لقد ظلّت الدكتاتورية تخنق البلد ، ثلاثين عاماً أو نحوها ، لكنها أخفقت في خنق أنفاســي ، لأنني وضعتُ تلك الدكتاتورية على رفّ الاحتقار ، ولم أعتبرْها همّي الأول .
الآن أفعل الأمرَ نفسَـــه
*
بوابة الربع الخالي..
.. كنتُ أشعرُ أنني أدخلُ في أرضي الأولى:
هنا وُلِدْنا أُمّةً.
وهنا تشكّلَتْ لغتُنا العربيةُ ، أجملَ لغةٍ جرَتْ على لسانٍ.
هنا التنزيلُ والتآويلُ.
ومن هنا ، من هذا الرملِ ، وعبرَ هذا الرمل ، انفتحْنا على العالَمِ ، وافتتحْنا ، ومَصَّرْنا الأمصارَ.
وأتذكّرُ نشيداً لنا في المدرسة الابتدائية بالبصرة :

لثراها فضلٌ على الشُّهُبِ وحصاها خيرٌ من الذهبِ
لستُ أرضى السماءَ لي وطناً بدلاً من جزيرةِ العربِ
*
الآن ، عليّ ، أنا العراقي ، أن أستعين بنفسي :
أرفضُ الإحتلالَ ، ومافيا الفالاشا .
لندن 9 / 4 / 2003

ولسوف يطول منفاي إلى الأبد …
لن أعود إلى عراقٍ هو الولاية الثانية والخمسون .
لندن 2 / 5 / 2003
يؤكد سعدي يوسف تعريف المنفى بقوله: ((انه يتضمن فكرة الالغاء ، الغاء علاقة الفرد بالسماء والارض والمجتمع ،فثمة خط عمودي يصل بين السماء حيث المعبود والارض حيث الاسلاف في هدأة الموت الطويل ، وثمة خط افقي ينتظم القرية او البلدة حيث المنازل والذكرى وملاعب الطفولة ،وفي نقطة تقاطع الخطين يقف الفرد... هول المنفى هو في اقتلاع الفرد من نقطة التقاطع هذه )

*


(28) ملحق- ب
سيرة بديلة للقرصان.. ســعدي يوسـف.. أيضا!

" إحياءً لذكرى كيفن يونغ "
لم أُكَـتِّـمْ يوماً إعجاباً أكنُّــهُ لـ" كيفن يونغ " Gavin Young 1928 –2001 ، بل لقد حضرتُ قدّاساً أُقيمَ لراحة نفسه بعد رحيله عنا في العام 2001 ، كما قدّمتُ التعازي لأخته ، وأسـهمتُ في ندوةٍ أقيمت هنا ، في العاصمة البريطانية ، إحياءً لذكراه .
كان كيفن يونغ من المهتمين مبكراً بالمشهد العراقي ، وله في هذا كتابان :
نهرانِ توأمان ، كنزان توأمان Twin Rivers , Twin Treasures
العودة إلى الأهوار Return to the Marshes
*
لكني الآن بعيدٌ تماماً عن اهتمامات يونغ العراقية واهتماماتي . بل بعيدٌ البعدَ كله جغرافياً وثقافياً عن الشرق الأوسط وأهله ، فأنا أرحلُ خفيفاً وعميقاً مع كيفن يونغ ، عبر مضائق جنوبيّ شرقيّ آسيا والأرخبيلات ، في تتبُّــعٍ مخْـلصٍ لروائيّ وبحّـارٍ أحببتهُ أنا أيضاً هو جوزيف كونراد 1857 – 1924 ( تُرجِـمَ إلى العربية عملان له فقط هما " لورد جِـمْ " و " قلب الظلام " ) …
وكما تتبّــعَ يونغ ، روبرت لويس ستيفنسون وجاك لندن وغوغان وسواهما في الكاريبي ، عبر كتابه " مراكب بطيئة إلى الوطن " ، نراه هنا يتتبّع شخصاً واحداً حسبُ هو جوزيف كونراد عبر كتابه ( أي يونغ ) : بحثاً عن كونراد ، الصادر في العام 1991 .
*
يقول جوزيف كونراد في " رسائل إلى مارغاريت بارادوفسكا " :
انتِ تعتقدينَ أن الشرارة الإلهية هي في داخلكِ. أنتِ في هذا ستكونينَ مثل الآخرين . هل ستختلفينَ عنهم في إيمانٍ يؤججُ تلك الشرارةَ ناراً مـتّـقـدةً ؟
لِـمَ أنتِ خائفـةٌ ؟ ومِــمَّ ؟ من الوحدة أو الموت؟ أيّ خوفٍ غريبٍ !
إنهما الأمرانِ الوحيدانِ اللذانِ يجعلانِ الحياةَ تُــطــاقُ .
لندن 29/8/2004
جوزيف كونراد في البَرّ اللاتينيّ

ثم تلي ذلك كتابةٌ تقول :
رقادٌ بعد عناء ، مرفأٌ بعد بحارٍ هائجة
طمأنينةٌ بعد حرب ، موتٌ مُسَــرٌّ بعد حياة .
لندن 22/9/2004
*
أيّ مشهدٍ أوّلَ هذا الذي يتغنّى به رونالد بارْت ؟
مبارَكٌ له ، التغنِّي بفرنسا الـحُرّةِ ، التغَنّي بأرضه ، ماءً وشجراً.
أمّا أنا فلم يكنْ لي من أرض المشهدِ الأول سوى السجنِ والانتهاك والاحتقار وســوءِ القولِ والفِعل.
بل لم يَنْجُ وجهي من بصاقِ أهلِها البذيءِ ، حتى وأنا على هذه الـمَـبْـعــدةِ .
أيُّ مَشهدٍ أوّلَ هذا ؟
*
إريك هوبسباوم يساريّ ، كان منذ الخامسة عشــرة عضواً في الحزب الشيوعيّ الألمانيّ ، وظلَّ
على مذهبِه ، ثابتاً .
لكنه ، هنا ، أيضاً ، يظلّ مرتدِياً مسوحَ المؤرِّخِ ، لا بِزّةَ المحارِب .
من شبه المؤكَّـدِ أن يحسبَ المرءُ ، هوبسباوم ، متفائلاً .
التفاؤلَ التاريخيَّ المعروف.
برلين 08.7.2010
*


(29) ملحق- ج
مختارات شعرية..
..
دربُ الـزَجّـاجـين Rue de la Verrerie
قبل عشرين عاماً وأكثرَ كان الطريقُ إلى الدرْبِ طَوفي الذي أتشبّثُ بالحبْلِ منهُ ،
لقد كدتُ أغرقُ في مَهْمَـهٍ من أزقـّـةِ باريسَ . ما قالَ لي أحدٌّ : مرحبـاً.
لم أجالسْ بمقهىً ، صديقاً . و لا قالت امرأةٌ : كيف أنتَ؟ أمُرُّ على واجهاتِ
المخابزِ ، أستافُ رائحةَ الخبزِ . ثَمَّ تلالٌ من الجبْنِ.ثَمَّ شــواءٌ وجــابيـةٌ
من نبيذ . لقدكدتُ أسقطُ جوعاً. قميصي تَهدّلَ.والبصَرُ الـمَحْـضُ غامَ .
وفي مثلِ معجزةٍ ،
مثل ما كان يَحْدُثُ للأنبياءِ
أتتْني مع الظُّهرِ ... آنُ التي هي مريمُ .
قالت: سلاماً.
أقِمْ ههنا
ادخُلْ
ولا تخف ...
البيتُ بيتُكَ .
أرجوكَ :
فتّحْتُ بوّابةَ اللوحِ
طهّـرتُها بزجاجةِ ماءٍ من النهر ...
فادخلْ !
لندن 20.03.2012
*
ليليّةٌ في ليلٍ عاصفٍ
أصخرةٌ في مهبّ الريحِ ، أنتَ ؟
إذاً
لأيّ معنىً تهبّ الريحُ ؟
ربّتما أرادت الريحُ أن تنأى ... وتهدأَ
أنتَ ، اللحظةَ ، الصمَدُ
والريحُ تعرفُ أن الصخرةَ احتفلتْ بعُسْرِها
فكأنّ الريحَ تُخْتضَـدُ ...
تقولُ :
وحدَكَ
لا أهلٌ
ولا بلدُ ،
وليس مَن تُغْمِضُ العينينِ إنْ دنتِ المنـيّـةُ .
أنت الواحدُ الأحدُ ...
فاهدأْ
وكُنْ مثلَ ما أنتَ :
الطريقُ إلى بغدادَ أعقَدُ ممّا كنتَ تعتقدُ .
فاهدأْ
ودعْ طائرَ الليلِ الشحيحَ يقُلْ شيئاً ؛
ودعْ ريحَ هذا الليلِ تـتّـئـدُ ...
لندن 26.04.2012
*
رباعية الضوء البعيد
(1)
ضوءٌ بعيدٌ بين أغصانٍ مُعَرّاةٍ ... أرى من فُرجةٍ في منتهى الصِّغَرِ
انثَنَتْ وسطَ الستارةِ ، لَمْحَ ذاك الضوءِ . كان الليلُ يَـنـتصفُ .
الحديقةُ تختفي.أشباحُها الأغصانُ عاريةً . أُحِسُّ على ذراعي لَسْعةً.
أتكونُ من بردٍ ، أم الأشباحُ وهيَ تَنوسُ تُرعبُني ؟ أَم الضوءُ البعيد؟
(2)
مُحَدِّقاً في عَتمةِ الزمنِ .انتبهتُ ... أكانَ ذاك الضوءُ يأتي من زمانٍ
سالفٍ ؟ من نقطةٍ فُـقِئَتْ على إحدى الـمَجـرّاتِ ؟ الحـديقةُ
لا ضياءَ بها . وفي الـبُعْدِ البحيرةُ لاءمَتْ أمواهَها في البردِ والتمّتْ.
أصيّادون ؟ هل ذئبٌ يُقَضْقِضُ عُـصْـلَـهُ؟ أم أنني أتوهَّـمُ الأشياء؟
(3)
لكنّ هذا الضوءَ يأتي . بل أكادُ الآنَ ألْـمُـسُــه .يكادُ الضوءُ
يلسَعُ عينيَ الـيُســرى.أغادرُ فَرْشَــتي ، وأُطِلُّ بين ستارتَينِ.
الضوءُ غَـمّــازٌ ، وتلك الدوحةُ الجرداءُ تُفْسِحُ مَنفَذاً .أحسستُ
أنّ زجاجَ نافذتي الـمُضاعَفَ صارَ فضّـيّـاً ، وأني في الـمَـدار.
(4)
يا مرحباً !
يا مرحباً بكَ ، أيها الضوءُ البعيدُ ، شقيقُ روحي !
مرحباً !
والآنَ أتبَعُكَ ...
السبيلُ إليك أنتَ.
النورُ يجعلُني خفيفاً ، طائراً
والنورُ يجعلُني شفيفاً .
................
................
................
لحظةً ، وأكونُ خارج بُرجيَ الـحَجريّ .
سوف أكونُ أنت!
لندن 19.11.2010
*
شُجيرة الرند
شجيرةُ الرندِ في أقصى الحديقةِ مأوىً للندى وحَمامِ الدغْلِ .
كنتُ أرى ، من حولِها ، قططاً مثلَ النمورِ ، أرى مِن حولها
ريشَ عصفورٍ تناثرَ. شيئاً من بقايا صيوفٍ : علبةً فرِغَتْ من
بيرةٍ . سِيخَ مَشْوىً . فحمةً ...
وأرى شُجيرةَ الرندِ
بيتاً أستكنُّ له في الحلمِ ؛
بيتاً ، له ، أبداً ، بابً ومئذنةٌ ، ونَمْرَقٌ .
قد تضيقُ الأرضُ بي
حسناً
لقد ألِفْتُ مقامً الضِيقِ !
غير أنّ فتىً ، مثلي ، له خيطُ مَنْجاةٍ
له شَـبَـهٌ :
شُجيرةُ الرندِ في أقصى الحديقةِ ...
لندن 30.10.2012
*
يا ربّ النهر، لك الحمدُ
امنحني نعمة أن أدخلَ في الماء
لقد جفَّ دمي
ونشفتُ،..

يا ربَّ النخلِ
رضاكَ وعفوَكَ
لا تتركْني في هذه المحنةِ
أرجوكَ
امنحْني يا ربَّ النخلةِ، قامةَ نخلة!
ديوان صلاة الوثني-
*
تناوبات
الشمسُ التي غابتْ لم تُـتِممْ ساعتَينِ . ربما لأننا لم نَـعُـدْ نهتمُّ بأنفسِنا . الشمسُ التي غابتْ لم تَقُلْ : وداعاً . ليس لأنها لن تعود . نحن قد لا نعود إليها وإلى النافذة المخطّطةِ بالستارة المعدنية.
ومن الغابةِ التي استضافتْ عاصمةً ، سوف يدخلُ ارتجاجٌ من قطاراتٍ سريعةٍ . قطاراتٍ ترمي بنا إلى حيثُ لا ندري أو نريدُ . ليس في الحقيبة التي تحمل رسمةَ حيوانٍ مفترِسٍ زادٌ أو قصيــدةٌ .
ً
الأخضرُ بنُ يوسفَ ، الجالسُ كالمقرورِ في غرفتِهِ ، في طرَفِ استكهولْمَ ، لايعرفُ ما معنى الجلوسِ الـمَحْـضِ.
حيناً يرتدي ما كان يوماً دِرعَه : بُرنُسَــه الصوفَ ، وحيناً يسألُ البائعةَ الحسناءَ أن تُلبِسَــه شالاً من الكشميرِ . لكنّ ثيابَ الأخضرِ الجالسِ في الغرفةِ ليستْ كالثيابِ . الأخضرُ الجالسُ يُلقي دُفعةً واحدةً كلَّ الذي
كان له ... أو ربّما ... كان عليهِ . الأخضرُ ، الآنَ ، طليقٌ مثلَ ما كانَ . ولن يجلسَ مقروراً هنا في غرفةِ استكْهولم.

البحرُ ليس بعيداً . البحرُ قريبٌ كالغابةِ . البحرُ قريبٌ من رئاتِنا التي أثقلَها استنشاقُ الرملِ المسمومِ .
لن نبحثَ عن السمكةِ الذهبِ . لن نبحثَ عن صندوقِ الـمُســافرِ. لن نبحثَ عن اللؤلؤ . نحن
أسرى سلالةٍ تنقرضُ . نحن السّلالةُ التي تنقرضُ . أمسِ على الشاطيء الذي لم يَعُدْ فيه قراصنــةٌ
كانت قِطَعُ الثلجِ الطافيةُ تحملُ ما لم يَـعُدْ يترقرقُ تحتَ قمصاننا : الشمسَ التي تُفْرِزُ قوسَ قُزَح.

الأخضرُ بنُ يوسفَ ، استنشَــقَ ، في غرفتِهِ التي غابت تماماً ، ضوعَ غصْنٍ صندَلٍ . نفحةَ نَدٍّ ...
هَـفّـةً من ثوبِ مَنْ كان أحَبَّ . الأخضرُ استعملَ ما كانَ يُداريهِ قديماً : أن يَرى في لحظةٍ خاطفةٍ
ما لا يُرى . فـلْـيتركِ الغرفةَ واستكهولمَ ، والمبنى ، وهذا البحرَ ، والغابةَ ، والثلجَ الذي يطفو ...
ليخرجْ مرّةً واحدةً من جِلْــدِهِ ، ولْـيَـندفِــعْ في لُـجّــةِ الثورةْ !
استكهولم 05.04.2011
*
إحساسٌ مضطــربٌ
أمسِ ،
قلتُ : انتهتْ ســنواتُ العذابْ
أنا ظَـهري إلى حائطٍ
والقبورُ أمامي بغَــربيِّ لندنَ
والفجـرُ ، دوماً ، ضَـبابْ .
............
............
............
أمسِ ، قلتُ...
ولكنّ تلكَ الصنوبرةَ المستقيمةَ في البُـعدِ ، لم تَـتَّـركْ لي ،
ولو لحظةً ، شـاطئاً للتأمُّـلِ. تلكَ الصنوبرةُ استقدمتْ ،منذُ
يومينِ كِـيزانَـها وثعالبَـها والسّـــناجيبَ والطيــرَ،
واستقدمتْ غيمةً تسـتقـرُّ على جبهتي ، ثم نَـسراً بأجنحةٍ
من هُـلامِ ، ومَـدّتْ على مَدخلِ البيتِ أغصـانَـــها
وهي مضفــورةٌ كالـشِّـباكِ الخرابْ.
انتظرتُ...
الصباحُ انقضى. واسـتراحتْ على الشُّـرُفاتِ الظهـيرةُ.
قَـلَّـتْ على الشارعِ الحافلاتُ.ولم يبقَ إلا المســـاءُ .
اقتنعتُ بأني سـجينٌ ، وأنيَ لا أكرهُ الســـــجـنَ
( فالمرءُ يألَـفُ ) قالَ لنا المتنبِّـيءُ. في بغتةٍ ألمـحُ الشيبَ
يَنبتُ في راحتَـيَّ. الكلامُ العجيبُ ، إذاً، قد تَـحــقّقَ.
ها أنذا ألمحُ الشيبَ، فعلاً، على راحَـتَـيَّ،بلونِ التـرابْ.
انتظرتُ...
الصنوبرةُ استجمعتْ ، كالرياضيِّ، أنفاسَــها. والصـنوبرةُ
اندفعتْ بثعالبِـها والسناجيبِ والغيمِ والطيرِ والنَّـسرِ ....
وال...وال...
وراحتْ تدقُّ على البابِ مجــنونةً ، تتــقاذَفُ كيزانُـها؛
والفــروعُ علـــى جبــهتي إبَـرٌ واضــطـرابْ.
أنا ظَــهري إلى حائطٍ...
والقبــورُ أمـامي بغــربيِّ لندنَ
والفجــرُ ، دوماً ، ضــبابْ .
لندن 17 – 4- 2002
*
أفقرُ الفقراء
لم تبْقَ أرضٌ لم تحاولْ أن تُـثَـبِّتَ خيمةً فيها ؛
هل الأرَضونَ قُدَّتْ من حديدٍ ؟
ربّما ...
*
و الآنَ ، في السبعينَ ،
يبدو المشهدُ الأبديُّ أوضحَ :
لن يرى فان كوخ أرحمَ من طبيبٍ للمجانينِ .
*
الحياةُ جميلةٌ
وجديرةٌ أبداً بأن نحيا بها ...
الأشجارُ تحيا
والعصافيرُ ،
القنافذُ
والذئابُ
النملُ ، والحلزونُ ، والأفعى الجميلةُ
*
لا تَقُلْ لي إنني أمسيتُ كالشعراءِ !
إني أفقرُ الفقراءِ
كم حاولتُ ، حتى هذه السبعينَ ، شيئاً تافهاً
وفشِلْتُ :
تلكَ الخيمةُ !
12.03.2012 لندن
*
في المقهى مع قهوة سوداء بلا سُكّر
مَن كان يعرفُ أنّ عُمقَ البحرِ مرساتي التي انجرفَتْ ؟
أُفيقُ مُـدَوّخاً
لا تلكما العينانِ ثابتتانِ
لا الخُطُـواتُ تعرفُ أين تمضي ...
والسماءُ كثيفةٌ ،
مطرٌ
رصاصٌ باردٌ ،
شفتانِ يابستانِ .
أحياناً ، أفكِرُ أنّ أغنيتي الأثيرةَ :
أن أموتَ ...
كما يموتُ الطحلبُ البحريُّ ،
أخضرَ ...
هل تظنّينَ الحياةَ كريمةً ؟
أعني :
أحقٌّ أن تُعاشَ ؟
لقد تعبْتُ ...
فأصدِقيني القولَ ، يا ميسون
أسْدي لي النصيحةَ :
هل أظلُّ مُرَنَّــحاً بين ارتساماتِ النبوّةِ والجنون ؟
أمستردام 14.08.2012
*
لقد ضاقتْ بنازلةٍ ذراعي !
" أقِلِّي قد أضاقَ بُكاكِ ذرعي وما ضاقتْ بنازلةٍ ذراعي "
أبو تمّام
لم تُعطِني مفتاحَ شـقّتِها
و لا العنوانَ حتى ...
ربّما خوفاً ؟
تخافُ عليَّ ...
أم منِّـي ؟
لقد خلّفتُ لندنَ ، ثم باريسَ الضواحي
كي أُلامِسَ في يديها رقّةً نَـدُرَتْ
وكي أحظى بمرآها تهروِلُ نحو مَهوى الموجِ في بحر الشمالِ
وكي أقَبِّلَها ولو فوقَ الجبينِ ...
...............
...............
...............
تعبتُ منها ؛
من متاهتِها : الـمُطارِدِ والـمُطارَدِ ...
بل تعبتُ من الكلامِ
من المجاملة التي تَزِنُ الحروفَ كأنّها ذهبٌ !
ومن سفَري تعبتُ
من المساءِ تعبتُ
من نفسي تعبْتُ !
لندن 25.08.2012
*
حــــــوار
قال لي آنَ كانت رياحُ الخريف
تتناوحُ بين التلالِ المحيطةِ :
هل نحن ، ياصاحبي ، صخرتان ؟
كم تناوحتِ الريحُ
كم نابَـنا القَـرُّ
والضُّـرُّ
كم ضاعَ منّـا الرهان ...
ولكننا ، ههنا ، الواقفان .
.............
..............
..............
قلتُ : لا تبتئسْ
نحن عينُ الزمان...
لندن 27-6-2002
*
رؤيا عام 2112
أتملّـى سماءَ الشتاءِ بلندنَ ، هذا المساءَ .
السماءُ التي قد تُرى ،
لا تُرى .
والصقيعُ المبَكِّرُ في العشبِ
أو في الزجاجِ الثخينِ لسيّارتي ، وهي تهمدُ في الساحةِ
الليلُ يدخلُ ( قبل الأوانِ ) ؟
ولكنه الليلُ ...
يأتي ، سُدىً بهواجسِهِ ، والكلامِ عن الليلِ ...
هاأنذا
أتملّى السماءَ التي لا أرى
أتملّى العراقَ الذي لا أرى :
رُبّما بعدَ قرنٍ ، يعودُ العراق
وفي العامِ 2112
مثلَ ما هو في هذهِ اللحظةِ ...
سوفَ يأتي لنا مقتدى الصدر بالأغنيات
ويأتي الصبيّ المعمّمُ عمّارُ بالراقصاتِ
ويأتي لنا المالكيُّ بألويةٍ من طُوَيريجَ ، متخَمةٍ ، ومدجّجةٍ
سوف يأتي لنا البارزانيُّ
والطالبانيُّ
بالشقشقاتِ ...
.................
.................
.................
الطريقُ طويلٌ إذاً يارفيقي !
لندن 10.12.2011
*
اعتــذارٌ
مضى صيفُ القرنفلِ ...
لا تَقُلْ لي : أجيءُ غداً إليكَ
وثَمَّ كأسٌ ستجمعُنا
وأسماكٌ
ونخل.ٌ
ولا تلجأْ لسومرَ ، والمراثي ببابلَ ، والسوادِ ...
إلخ
إلخ ...
لا!
مضى صيفُ القرَنفُلِ
واستقرّتْ عميقاً وردةُ الزرنيخِ .
أبعِدْ
ولا تأتِ .
العراقُ الذي أحببتَ لم يَعُدِ.
العراقُ الذي أحببتُ لم يَعُدِ ...
انتظرْنا
وانتظرْنا.
قد مضى صيفُ القرنفلِ ٌ
وانتهَينا ...
لندن 23.05.2012
*
الكلامُ الكريهُ
كيف تنسى المساءَ الخريفيّ في حانةِ " الأسدِ الأحمرِ " ؟
السنواتُ تمرُّ ، ورُبّتَما نسيَ المرءُ
( أفهمُ ذلكَ )
لكنّ ما قـلـتُـهُ ، يا رفيقيَ ، ذاكَ المساءَ الخريفيّ
أثقلُ من أن يقولَ امرؤٌ :
كدتُ أنساهُ
أو أتناســاهُ ...
في حانةِ " الأسدِ الأحمرِ " اللندنيةِ قلتُ :
العراقُ انتهى
منذُ أن قالَ أهلُ العراقِ ، لـ" جورج بوش " ...
أنتَ الوليُّ
وأنتَ الفقيه
وأنت النبيُّ المسلّحُ تأخذنا خارجَ التيه ؛
أقدِمْ !
أقِـمْ !
فالنساءُ اللواتي انتظرْنَ طويلاً ، سباياك
غلمانُنا لجنودِكَ ُ
والأرضُ لكْ
وما تكْنِزُ الأرضُ لكْ ...
والفراتان ماءٌ لخيلِكَ
والله لكْ !
هكذا لن يدورَ الفلَكْ ...
...............
...............
...............
يا رفيقَ الضنى !
اليومَ
مرّتْ على جلسةِ " الأسدِ الأحمرِ " اللندنيةِ ، عشْــرٌ ...
نعم !
هل تذكّرتَ ؟
لا !
هكذا لن يدورَ الفلَكْ !
هكذا ، سأظلُّ أقولُ :
العراقُ انتهى!
لندن 10.07.2012
*

الــمُـحـاكَــمــة

للّذينَ ارتضَوا أن يكون العراق
فندقاً عائماً لا بلاداً .
للّذين ارتضَوا أن يكون العراق
جبلاً من دشاديشِ غرقى.
للذين ارتضَوا أن يكون العراق
سوارَ العشيقةِ ...
أن تمسيَ البصرةُ الأُمُّ مبغى الخليجِ
وأن تتنصّلَ بغدادُ من إسمِها ...
للّذين ارتضَوا أن يكونوا الأدِلاّءَ
أن يَهَبوا كلَّ ما كنَزَتْ أرضُنا للغريبِ المدجَّجِ
أن يعبِدوا أبرَهةْ
أن يقولوا : العراقَ انتهى ...
............
............
............
هؤلاء
سوف أجمعُهم ، ذاتَ فجرٍ ، بمقهىً على جَزْرةٍ بالفراتِ
وأحفرُ أسماءَهمْ في جماجمِهِم
وهمُ الصاغرون ...
لندن12.11.2010
*
تهويم المسافر
(1)
في الضباب الذي يختفي تحته النخلُ والنملُ والطيرُ
فكّرتُ أن أعبرَ النهرَ..
أن أجدَ الجسرَ، ذاك الرهيفَ، وأن أبلغَ الضفةَ...
الصبحُ يهدأُ في نومه
والمدينةُ لم يبقَ منها سوى مسربٍ واحدٍ لخطايَ...
هنا، قلتُ: فلأستمعْ، وأنا في سبيلي،
إلى نفَسِ الصبحِ
ولأرهفِ السمعَ...
قد يحدثُ الأمرُ في غفلتي
في رطوبة هذا الضبابِ
وفي رفَّةٍ من جناحٍ يفاجئ ...
.................
.................
............
من قال أن المدينةَ قد غادرتْ، بغتةً، في الضباب؟
تُرى، هل سأسمع منها ولو رفّةً؟
هل سأسمع منها ولو خفقةً؟
ثم أن المدينةَ كان لها قلبها، كالمدن...
هكذا، قد تحنُّ
هكذا، قد تئنُّ قليلاً
ربما حدث الأمرُ...
........
......
......
أو ربما سرتُ حتى النهايةِ
مستغرقاً في الضباب.
(2)
كيف يهبط هذا الضباب، كثيفاً، كثيفاً
بلا رحمةٍ...
كيف يخمدُ حتى الضفادعَ في الجرفِ
والعشبَ، والقصبَ المتطاولَ.... والموجَ؟
هذا الضباب الذي ليس ينبتُ إلا الضبابَ
انتهيتُ إلى بابه حيث يبتدئُ الجسرُ؟
لكن:
إلى أين يأخذني؟
أنني أجهلُ الضفةَ...
الناس قالوا: الحياة ضفاف.
فهل أنا في القاعِ؟
..........
........
........
أعرفُ أنني مريضٌ
وأعرفُ أني أجهلُ ما ينفعُ المرءَ، أو ما يضرُّ
وأعرفُ أني بلا سلعةٍ كي أتاجرَ...
أعرف هذا
ولكنني لا أريد المدينةَ هذي وقد أطبقت فمَها...
لا أريدُ الضبابَ

ولا أتردّد، مثل الشقاةِ، على حافة القصرِ
اني امرؤ غافلٌ
وغبيٌّ
وأحفظ عهدي
وأحفظ للناس ما كان عندي...
لهذا، سأخطو على الجسرِ، أولى خطاي.
(3)
عند منتصف الجسرِ
-كان الضبابُ هنا مطبقاً وعنيفاً-
هجستُ يداً باردة
تتلمَّس وجهي -ارتعشتُ-
وفي لحظة، خرج الشخصُ من سجنه الأبيضِ...
الشخصُ، كان امرأة.
.......
.......
......
- أين تمضي؟
- أنا أعبرُ الجسرَ...
- لكن، إلى أين؟
- أمضي إلى الضفة الثانية.
- كلُّ جسرٍ له ضفتان...
فأنى تريدُ؟
- أنا أقصدُ المنتأى.
- لستُ أفهمُ...
- سيدتي!
- أنا عمياء...
- في مثل هذا الضبابِ، أنا الآنَ مثلك أعمى
.....
.......
,,,,,,,,
تسقطُ اليدُ، باردةً، عن جبيني
وأخطو
لأدخلَ في التيهِ
والمرأةُ – اللغزُ تخطو
لتدخلَ في التيهِ...
والجسرُ – منتصفُ الجسرِ- في صمته، لا يؤدي.
ولكنني سوف أمضي إلى ضفتي.
سوف أمضي إلى المنتأى...
ديوان (حانة القرد المفكر)/ 1997- بيروت.
*
شمسٌ ساطعةٌ في أوائل أيلول
القطارُ يمرُّ على الجسرِ
عبْرَ القناةِ العريضةِ ...
هذا القطارُ المجلجِلُ يمضي إلى حيثُ لا أعلَمُ .
الصبحُ يُشْمِسُ
أينَ القطارُ المُدَرَّعُ ؟
أين البلاشفةُ الحالمون مع الصبحِ ؟
أين البلاشفةُ الحاملون مع الصبحِ راياتِنا الحمرَ
فوقَ القطارِ المدَرَّعِ ؟
..............
..............
..............
كان القطارُ يمرُّ على الجسرِ
عبرَ القناةِ العريضةِ.
ينتصفُ اليومُ :
الساعة 12
حانَ موعدُ كأسِ الجــعةْ
لندن 04.09.2012
*
تنويع على " ما مقامي بأرض نخلةَ " للمتنبي
ما مقامي بريفِ لندنَ إلاّ كمقامِ المسيحِ بينَ اليهودِ ، الليلُ أعمى ، والهاتفُ الأسوَدُ ملقىً ، هامدٌ في بُحيرةٍ من همودٍ
ليس من زائرٍ . تلَبَّثَ حتى الطيرُ . أمّا أبناءُ جِلْدي العراقيّونَ ... لا تنْكأ الفضيحةَ و القيحَ ! رذاذٌ على النوافذِ . ريحٌ لا أُحِسُّــها دخلتْ بين قميصي والجِـلْدِ . ماذا سوف ألقى إنْ عشتُ عاماً آخرَ ؟
الهاتفُ ملقى .
والموتُ دونَ شهودِ ...
خَــلِّها ،
خَــلِّها تمرُّ
سأبقى ، الفرْدَ ، سيفاً
لم يذهب الناسُ الأُلى قد حـبَـبْــتُهمْ .
إنهم في كلِّ غصْنٍ خَضــدْتُــهُ
إنهم في كلِ كأسٍ شربتُها
كلِ رقصي
من ركعةٍ وســجودِ .
................
................
................
ما مقامي بريفِ لندنَ إلاّ كمقامِ المسيحِ بينَ اليهودِ
لستُ ألقى سوى العجائزِ
بُرْصاً
والمريضاتِ
من ليالي الجنودِ .
*
ما مقامي بريف ِلندنَ إلاّ كمقامِ المسيحِ بين اليهودِ .
لندن 04.03.2012
*
غادِر الآنَ ....
وأيُّ بلادٍ أنتَ فيها ؟
لِـتُغـلقِ النوافذَ ( ليستْ بالنوافذِ )
أغلقِ المحطّةَ ... (موسيقى الأميراتِ ليستْ ما تحبًُّ )
- كأنني تعثّرتُ ليلاً بالأميرةِ ، فلْيَكُنْ! -
وتلكَ دوحةُ بلّوطٍ !
وما علاقةُ نخلِ البصرةِ ؟
انتبهِ :
البلادُ التي آوتْكَ ليستْ بلادَكَ !
البلادُ التي آوتْكَ ، آوتْكَ كي لا ترى بلادَكَ يوماً !
أغلقِ الخطَّ !
أغلقِ الهواتفَ ...
أغلِقْ قلبَكَ !
النساءُ اللواتي قد حـبَـبْـنَـكَ لم يَكُنَّ لـيُحْبِـبْـنَ إلاّ بالشروطِ
وإلاّ بالوثيقِة من يد الشُّرَطيّ
أنتَ
حفيدُ كِندةَ
وامرىءِ القيسِ ... النبيّ
أفِقْ !
لماذا أنتَ في أرضٍ لقيصرَ ؟
أيُّ معنىً أن تكونَ بلندنَ الصغرى ؟
أو الكبرى...
أقولُ لكَ النصيحةَ يا رفيقي :
غادِر الآنَ ...
امرؤُ القيسِ الذي قد جاءَ ، لا تتركْهُ ينتظرُ !
لندن 22.11.2011
*
التحديقُ إلى الأسفل

أنا في أعلى التلّ
لقد جاهدتُ طويلاً ، منذ الفجرِ ، لأبلغَ أعلى التلّ
حِـدَأٌ تتمهّلُ في الريحِ
القريةُ في القاعِ :
كنيستُها
ومنازلُها
و البارُ الأقربُ من مدخل ِ نادي الغولفِ .
الآنَ أرى ما لستُ أرى:
وطناً أعلنَ منذ 2003 – أنا مستعمرةٌ
أمّا أبناءُ الوطنِ المعلَنِ في لندنَ
( ليس عراقاً )
أعني من يكتبُ حرفاً
أو يرسُمُ ظِلْـفاً
أو يتوهّمُ ضربَ الطبلةِ والعود ِ ...
إلخ.
فقد اختاروا ، منذ 2003
وبكل الإصرار:
CIB
NI5
NI6
إلخ ...
كم هم سعداءُ !
ولكني في أعلى التلّ
في القمّةِ
تبدو القريةُ في القاعِ ، البلْقَعَ
تبدو اللاشيءَ .
.....................
....................
....................
ولكني سأظلُّ بأعلى التلّ !
أظلُّ كتلكَ الحِدأِ اللاتي تتمهّلُ في الريحِ
بأعلى التلّ ...
لندن 13.03.2012
*
إحدى وعشرون إطلاقةً متأخرةً لأدريان ريتش
سنواتٌ عشرٌ عجاف
نعم يا عزيزتي أدريان ريتش .
Brera Café
نعم يا عزيزتي ، المقهى إيّاه حيث اعتدتُ أن ألقى أناساً قد لا يكونون أحبّةً ، لكني ألتقيهم على أي حال ، ليكونوا أحبّةً مع أنفسهم في الأقل .
في مقهى بريرا التقيتُكِ.
كنتِ أكرمَ من رأيتُ في هذا البلد الأمين.
أهديتِ لي كتابكِ
متضامنةً.
كان احتلالُ بلدي وشيكاً .
لكنكِ ملاكُ الحريّة . تضامنتِ معي ، يا أدريان ريتش ، بينما أبناءُ بلدي هنا ، في لندن ، وهناك في الأرض الأخرى ، كانوا مولعين بشتمي لأني ضد احتلال بلدي من جانب الإدارة الأميركية . هم لايزالون يشتمونني يا أدريان ريتش لأني ضد الاحتلال . ومن بين هؤلاء رفاقٌ لي لم يُسَمـوا الاحتلال احتلالاً حتى الآن.
ماذا أقول؟
القهوة التي شربناها كانت مُرّةً .
القهوة ، قهوتنا ، نحن المارقين ، ستظلّ مُرّةً .
تذكّرتِ كولونتاي التي نفاها ستالين إلى سيبريا.
أنا الآن في المنفى.
أتعرفين يا أدريان ريتش أن لي في المنفى قرابة أربعين عاماً ؟
رقمٌ قياسيّ ؟
سارة ماغواير كانت معنا في المقهى.
كانت شاعرةً . هي الآن تشتغل في جامعة ذات سمعة . جامعة مثل جورج واشنطن التي تعرفينها جيداً .
عزيزتي أدريان ريتش
كنتِ في الحادية والعشرين حين اختاركِ أودن العظيم ، لجائزة الشعراء الشباب ، في جامعة ييل . بل أن الرجل كتبَ مقدمة ديوانكِ الأول !
لستُ أستعيدُكِ يا أدريان ...
أنا أغنّيكِ
أغنّيكِ أيتها المرأةُ التي حرّرتْني من تفاهة الرجولة الرجولة .
سيظل طعمُ القهوة المُرّة في فمي.
طعمُ القهوة المـرّة سيظلّ في دمي .
لندن 07.09.2012
اقـتِـســامٌ
بين شقّةِ " هَـيْـرْفِيلْد " والبصرةِ ، البحرُ
بينهما قارّتانِ
وسبْعٌ طِباقٌ ...
وبينهما كلُّ ما يَفصِلُ المرءَ عن أصلِهِ
كلُّ ما يصِلُ المرءَ ؛
بل كلُّ ما يصِلُ المرأة المستحيلةَ
بالمستحيلِ .
أتدري كم استمتعتْ نحلةٌ وهي تشتارُ مني العسلْ ؟
لا تقُلْ : إن نخلةَ حمدانَ أجملُ !
هل تعرفُ السنديانَ ؟
إذاً خَـلِّـنا نتفاهمُ :
خُذْ إلى بيتِكَ البصرةَ ، الأهلَ والنخلَ
واترُكْ ليَ الشقّـةَ المستكنّةَ بين الصنوبرِ والسنديان ...
لندن 11.01.2013

*
..
منذ عشرين عاما وعامين
لي منزل بدمشق العتيقةِ،
جدرانه راحتايَ
وأشجاره لهفتي،
منزل في دمشق العتيقة
حاذرتُ أن يطأ العابرُ المتعجّل أعشابه،
أو يراهُ المتاجرُ،
أو تدّعيه الغيوم الجديدهْ،
إنّه الآن يمشي معي
في البلاد التي كرهتْ
والبلاد التي هويتْ
والبلاد التي لا أراها
*
..
أنا أبحثُ عن بيتٍ
منذ سنينٍ وأنا أبحثُ عن بيتٍ
كم بلدانٍ طوّفْتُ بها وأنا أبحثُ عن بيتٍ !
كم قاراتٍ !
كم أثوابِ نساءٍ ...
كم ساحاتٍ للقتلِ !
وكم كتُبٍ ...
كم مدُنٍ !
وأخيراً :
أنا في طنجةَ أبحثُ عن بيتٍ
منذ سنينٍ وأنا في طنجةً أبحثُ عن بيتٍ !
لكني سأعودُ ( كما كنتُ ) بلا بيتٍ
اللابيتُ هو البيتُ ... إذاً !
طنجة 07.02.2012
*
مَــوعِـدٌ ؟
إنّ لي ، يا زُهَيرةُ ...
تسعاً وسبعينَ ؛
ماذا تريدين مني ؟
وماذا أريدُ ؟
تقولين : عَمّانُ بيتُكَ .
عَمّانُ بيتي ،
وها أنذا ، أسكنُ القَفْرَ ... أسكنُ لندنَ
حيثُ الضواري أحَنُّ من الناسِ .
قد جئتِني ( أتذكّرُ ) زاهيةً بالقلائدِ والبسمةِ الملكيّةِ
( كان الوشاحُ ندىً من فلسطينَ )
ثم انتهينا إلى الليلِ
والويلِ ...
.................
.................
.................
لكنّ لي الآنَ تسعاً وسبعينَ ...
*
سيّدتي
سوف أطرقُ باباً بعمّانَ
كي ألتقيك !
لندن 12.01.2013
*
صديقتي التي كانت شيوعيّةً في البصرةِ
تقولُ مَن كنتُ أردتُ أن تصحبَني في رِحْلتي الآنَ :
ولكنّكَ ، يا سعدي ، بلا بيتٍ !
أجـبْـتُها : لكنّ لي سقفاً ...
ولي بيتٌ بهِ بابٌ
به غرفةُ نومٍِ
و به مكتبةٌ مُثلى
وما أستقبلُ الناسَ بهِ : بيتُ معيشةٍ ؛
بل إنني ألمحُ من شُرفتهِ الغابةَ والبحيرةَ الكبرى ...
أنا شيوعيٌّ
ولا أريدُ أن أملِكَ .
مَنْ يملِكْ يكُنْ عبداً لِما يملِكُ ...
................
................
................
هل أسألُكِ الآنَ :
أما كنتِ، الشيوعيّةَ ، في البصرةِ ؟
قولي ...
ما الذي غيَّرَكِ اليومَ إذاً ؟
لندن 21.12.2012
*
Comm--union-- مُــنــاوَلــةٌ
قبل منتصف الليلِ
كانت كنيسةُ قريتِنا في الظلامِ الأليفِ :
الطيورُ التي هجعت سوف تبقى إلى أوّلِ الفجــر هاجعةً
وطريقُ الكنيسةِ يبقى الـمُـغَـيَّبَ ...
والسَّــرْوُ في حُلْــمِهِ .
قبل منتصفِ الليلِ
لا شــيءَ إلاّ الظلام ...
........................
........................
........................
أتسمعُ منتصَفَ الليلِ ؟
طيرٌ بلا موعدٍ أعلَنَ الوقتَ بين الغصونِ التي لا نرى .
فجأةً لألأَ النورُ .
بابُ الكنيسةِ يبدو طريقَ نجومٍ،
وأسوارُها سُــلَّـماً للمَجَـرّاتِ.
ها نحن أولاءِ ندخلُ :
نستقبلُ الطفلَ يُولَدُ ، تمتمةً في شفاهٍ عَلاها النبيــذ .

لندن 27.12.2008
*
ترنيمة للميلاد
أطْبِقْ جَفنَيكَ
لتســمعَ .
أطبِقْ جفنَيكَ
لتفتحَ باباً سِــرِّيّـاً في القلعةِ .
أطبِقْ جفنَيكَ
لتدخلَ بستانَ الخشخاشِ البـرّيّ ...
الليلةَ لن تَـتَـنَزَّلَ روحٌ
لن تأتيكَ ملائكةٌ في هيأةِ طَـيرٍ
لن تسمعَ قيثاراً
أو أجراسَ لُـجَـينٍ في الماءِ
ولن تلمحَ غزلانَ الرنّــةِ في السهْبِ الأبيضِ ...
هذي الليلةَ
تُطْـبِـقُ جفنَيكَ لِـتُـبْـصِــرَ .
أطبِقْ جفنَيكَ
ولا تستيقظْ
إلاّ عندَ صياحِ الديكِ الذهبيّ !
لندن 24.12.2010
*
الجمعة الحزينة
Good Friday

لَكأنني أمسَيتُ مقذوفاً من البــحرِ المحيطِ على رمالِ الشاطئ المجهولِ.
أطرافي مُخَلْخَــلــةٌ ، وأثوابي ممزّقةٌ ، وملءَ فمي طحالبُ.كانت الشمسُ
الخفيفةُ تختفي . يأتي سحابٌ أسْودُ . المطرُ المباغِتُ يغسلُ المِـلْحَ الثخينَ
على ضفائريَ .انتبهتُ إلى شُجَيراتٍ قريباتٍ من الكُثبانِ. أزحفُ.كـــــان
وجهي يمسحُ الرملَ الطريَّ . يدايَ ترتجفانِ . يَمْرُقُ نورسٌ ويغيبُ .أزحفُ.
أبلُغُ الشجرَ .المساءُ يكادُ يأتي. البحرُ يأخذُ مثل َما يُعطي.وهاأنذا هُلامٌ
من عطايا البحرِ.ساقاي اللتانِ اصطَـكَّـتا لن تحملاني أبعَــدَ. الأشجــارُ
مـأوىً لي وسقفٌ .سوف يأتي الليلُ بالأشــــباحِ.هل تــأتي الذئابُ ؟
بُـنَـيَّتي: أرجوكِ أن تتذكّريني الآنَ ...
أرجوكِ !

لندن الجمعة 10.04.2009
*
احد الفصح في اكسبرج
Easter Sunday in Uxbridge

لا يعرف الناسُ ماذا يفعلونَ
بعيدِ الفِصْحِ ...
يمشونَ في الشارعِ ؟
الأسواقُ مغلقةٌ !
يبقَونَ في البيتِ ، ألواحاً مُسَـمَّرةً أمامَ شاشاتهم ؟
يا ضيعةَ العيدِ ...
ماذا يفعلونَ؟
وأبوابُ الكنيسةِ ؟
حتى هذه انفتحتْ على الرياحِ ...
فلا قُدّاسَ يُغْري !
.........................
.........................
.........................
سيأتي اللحظةَ ، المــطَــرُ !

لندن 12.04.2009
*
القدّيس الإيرلنديّ
قدّيسُ إيرلندةَ سانت باترِك
Saint Patrick
تراه اليومَ في الحاناتِ :
ملفوفٌ وخنزيرٌ وما يطفحُ من بيرتها السوداءِ ...
(مجّاناً ! )
و دوماً ، كنت أمضي ، ظُهرَ هذا اليومِ نحو البارِ
كي أحظى بملفوفٍ وخنزيرٍ
وبالبيرةِ مجّاناً ...
ولكنيَ لم أذهبْ هناكَ اليومَ ؛
لم أذهبْ لأني كنتُ وحدي :
ليس من سيّدةٍ تُعينني على احتمالِ العيدِ و الملفوفِ والخنزيرِ ...
هل كنتُ شقيّاً ؟
ربّما
ليس لأني لم أكنْ في البارِ ...
لندن 17.03.2012
*
رُبـاعيّـــــةٌ
غيومٌ رمادٌ تُـغطِّـي أعالي التلالِ
البحيرةُ قد أوشكتْ تتجمّـدُ ،
والطيرُ غابْ .
سنذهبُ عصراً إلى حانةِ القريةِ
البيرةُ ابتردَتْ
والستائرُ مثقلةٌ بالضّبابْ .
تظلُّ الكنيســـةُ ، دوماً ، كما هيَ ، في السفحِ
في الساحةِ ، الـجُـنْـدُ قتلى
وفي الـبُرجِ كان الغرابْ .
مساءٌ بلا لَـوعة ، أو شُــموعٍٍ لذكرى
مساءٌ ، و لا مِن أغانٍ
مساءٌ يُطَـوِّحُ بي في الـمـفازةِ ، حيثُ الخرابْ .
لندن 20.12.2011
نفسٌ مُطـمـئـنّـةٌ
تسمعُ الريحَ؟
هل تسمعُ الريحَ ؟
هل تسمعُ الريحَ تَجْأرُ ؟
هل تسمعُ الريحَ تجأرُ بين الصنوبرِ والسنديانِ ؟
لقد بدأ التلُّ يبدو لعينيكَ أبعدَ
أجردَ ،
ما عدتَ من مطرٍ صائتٍ تَـتَـبَـيّـنُـهُ
أنتَ تبحثُ عن ذلكَ التلِّ
والتلُّ ذكرى من الصيفِ ،
ذكرى تسَـلُّـقِـهِ مع مَن كنتَ تهوى
( أكانت تُـغَـنّي ؟ )
الكنيسةُ في القاعِ
والعوسجُ المتناثرُ في القمّـةِ ...
القلبُ ينبضُ ،
تسمعُ ناقوسَ تلكَ الكنيسةِ كالصنجِ
قلبُكَ ينبضُ كالصنجِ .
أنت وراء الزجاجِ
فهل تسمعُ الريحَ؟
................
................
نبْضُكَ يخفتُ حتى كأنك أغمضتَ عينيكَ
مستسلماً للطبيعةِ ،
منتظِراً أن تموت ...
لندن 14.12.2012
*
الآتون
أنت لن تبصرَنا في الـمَنْزَهِ السادسِ
لن تسمعَ في " شارع باريسَ " أغانينا التي تبكي
ولن تلمُسَ في قِرطاجَ جمرَ الجوعِ والـحُـمّى ...
لقد ضاقتْ بنا الدنيا إلى أن عَذُبَ الموتُ
إلى أن أصبحَ الـمَقْتُ هواءً
أيّ ورْدٍ سنرى في وجنةِ الطفلِ الإلهيّ ؟
فهل نستمطِرُ الصخرَ ؟
وهل نعصِرُ ممّا جَفَّ من أعراقِنا كوبَ حليبٍ ؟
غيضةُ الزيتونِ باعوها فأمستْ حطباً للموقدِ ...
البحرُ لقُرصانٍ
وأعنابُ البلادِ اعتُصِرَتْ خمراً لسوّاحٍ صليبيّينَ أوباشٍ
وها نحنُ أولاءِ
الناس
منسيّينَ
منفيّينَ في أحوازِنا ،
لكننا آتونَ ...
لندن 12.01.2011
*
الإسلامُ ديناً
كان الإسلامُ ، الحائطَ
آخرَ ما نلتاذُ به ، حين تضيقُ بنا
الدنيا
ويحاصرُنا الأعداء ُ ...
الإسلامُ هو
الجذعُ
الـمُدّرَعُ
الخيمةُ حينَ يُطيحُ الأعداءُ البيتَ
الإسلامُ هو
المنبِتُ
والنبْتُ
وآياتُ حُفاةٍ وشُــراةٍ
الإسلامُ
عليٌّ
عُمَرُ
الخنساءُ
وطارقٌ بنُ زياد
الإسلامُ هو المرأةُ في السوقِ
هو الشاعرُ في الدسكرةِ
الإسلامُ هو الحريّةُ في ألاّ تؤمنَ
بالإسلامِ
ليس الإسلامُ قميصَ الأميركيّ
ولا جزمةَ ذاكَ النرويجيَ
أو الغاليَ ،
وليس سلاحَ ذوي الأحداقِ الزُّرقِ
الإسلامُ
هو
الحلمُ بآخرةٍ بيضاءَ
وأسرابِ حَمام ...
طنجة 12.02.2012

العرائش " نهارَ المولد النبويّ
كانت " ساحة إسبانيا " السابقةُ القَوراءُ ، تضجُّ بأصواتِ الباعةِ
بالعرباتِ اليدويّةِ
والنسوةِ شيهِ الملتحفاتِ
تضجُّ بما لم يَكُ إسبانيّـاً
أو عربيّاً
ولم يكُ ، بالطبع ، أمازيغيّاً ...
كانت " ساحةُ إسبانيا " تنهقُ مثل حمارٍ أرهقَه ما يحملُ .
مَن يتذكّرُ ؟
مَن يذْكرُ أنّ نبيّاً وُلِدَ اليومَ لـتُرضعهُ خادمةٌ ؟
أين محمدٌ الأوّلُ في الساحةِ ؟
.................
.................
.................
في " ساحة إسبانيا " لافتةٌ من قطنٍ أبيضَ :
أغنيةٌ للسيّدةِ المصريّةِ :
وُلِدَ الهدى فالكائناتُ ضياءُ
وفمُ الزمانِ تبسُّمٌ وغناءُ ...
*
في " العرائش" لا يُغَنّي أحدٌ:
الحانتان القذرتان : في الساحة ، وعند البحرِ
الحانتان الوحيدتان
مغلقتان اليومً
وفي مثلِ هذا اليومِ
كلَّ عامٍ
كلَّ يومِ مولدٍ نبويٍّ.
طنجة 05.02.2012
*
نساءُ " سوق الـمُـصَـلّـى "
مطرٌ فوق طنجةَ ...
هذا الصباحَ تكون النساءُ بـ " سوق الـمُــصَـلّى " بلا درهمٍ :
كيف يجلسنَ تحت المطرْ
يـبِــعْنَ الخضارَ
وأرغفةَ الخبزِ
والجبنةَ المنزليّــةَ ؟
هذا المطرْ
نعمةٌ للمزارعِ ، للأغنياءِ الأُلى يملكونَ المزارعَ
أمّا النساءُ بــ "سوق الـمُـصَـلّى"
النساءُ اللواتي يبِعْنَ الخضارَ وأرغفةَ الخبزِ
والجبنةَ المنزليّةَ ...
فلتكُنْ رحمةُ اللهِ خيمتَهنّ التي ليس من رحمةٍ غيرها
في السماءِ السخيّةِ دوماً على الأغنياء !
طنجة 02.02.2012
*
سـاحة العاجزينَ
ثَـمّ ، في " ساحة العاجزين " المدافعُ
تلكَ التي صـبَّـها ، منذُ قرنٍ ، مغاربةٌ ... غادَروا الأندلُس
والمدافعُ ظلّتْ مصَـوَّبةً نحو ما كان يُعرَفُ بـ " الأندلس" ...
أنتَ تأتي إلى الساحةِ ، الصبحَ
تأتي إلى الساحةِ ، الليلَ
لكنّ تلكَ المدافعَ ، قد تختفي ، بغتةً ...
قد تصيرُ قواربَ
أو شاحناتٍ
ورُبّــتَــما أصبحتْ طائراتٍ لنقلِ الجنودِ
أو السائحاتِ ...
المدافعُ قد تتبدّلُ أسماؤها مثلَ ما تتبدّلُ أسماؤنا ...
مثلاً :
إنّ اسمي ... محمّد!
طنجة 04.02.2012
*
الرسّ النغل
قالوا :
أكنتَ تريدُ أن تغدو الشهيرَ
وأنت تعزفُ أسطوانتَكَ " الشيوعيّ الأخير ... ؟ "
لقد ملَلْنا !
منذُ أن دُفِنَتْ لينينغراد في صحراءِ نيفادا
تبدّلت الأمورُ
ولم تعُدْ ، أبداً ، معادَلةَ الشيوعيّين ضدّ الرأسماليّين ...
قالوا:
أيّها الـمُدَّثِرُ المقرورُ
قُمْ
وانظُرْ تَرَ العجَبَ ...
....................
....................
....................
البسيطةُ أتلَعَتْ رِسّــاً جديداً
ليس من أصلٍ
ولا فَصْلٍ ، لهُ ...
رِسّــاً لـئيماً يقتلُ العمّالَ حتى في مناجمِهم ...
يُبيدُ نباتَ هذي الأرضِ ، شعباً بعدَ شعبٍ
مِلَّةَ الإســلامِ
زولو
أُمّةَ الأزتيكِ
والمايا
عراقيّين
صابئـةً ، بَهائيّينَ ، أنباطاً
فلسطينيّةً ...
يا أيّها الـمُـدَّثِّـرُ المقرورُ
غَـيِّـرْ أسطوانتَكَ
الأمورُ تغَيَّرَتْ !
لندن 21.11.2010
*
قصيدة الأخضر بن يوسف

نبيٌّ يقاسمني شقتي
يسكن الغرفة المستطيلة
وكل صباح يشاركني قهوتي والحليب
وسر الليالي الطويلة
وحين يجالسني وهو يتحدث عن موضع الكوب في المائدة
ـ وكانت فرنسية من زجاج ومعدن ـ
ارى حول عينيه دائرتين من الزرقة الكامدة.
*
شُجيرة الرند
شجيرةُ الرندِ في أقصى الحديقةِ مأوىً للندى وحَمامِ الدغْلِ .
كنتُ أرى ، من حولِها ، قططاً مثلَ النمورِ ، أرى مِن حولها
ريشَ عصفورٍ تناثرَ. شيئاً من بقايا صيوفٍ : علبةً فرِغَتْ من
بيرةٍ . سِيخَ مَشْوىً . فحمةً ...
وأرى شُجيرةَ الرندِ
بيتاً أستكنُّ له في الحلمِ ؛
بيتاً ، له ، أبداً ، بابً ومئذنةٌ ، ونَمْرَقٌ .
قد تضيقُ الأرضُ بي
حسناً
لقد ألِفْتُ مقامً الضِيقِ !
غير أنّ فتىً ، مثلي ، له خيطُ مَنْجاةٍ
له شَـبَـهٌ :
شُجيرةُ الرندِ في أقصى الحديقةِ ...
لندن 30.10.2012
*
ما نسجَ العنكبوتُ
أنا أجلسُ عند الشبّاكِ المفتوحِ قليلاً
لأدخِّنَ ...
أعتمت الدنيا (كنّا في السادسةِ ) .
صدَقَ العرّافونَ :
المطرُ الصامتُ ينهمرُ.
لكني أسمعُ ...
ماذا ؟
أغصاناً تتقصّفُ ؟
ممشى غزلانِ الغابةِ ؟
خرخشةً لثعالبَ ؟
أهوَ الوبْلُ المتدافعُ في الريحِ الليليّةِ ؟
أجلسُ عند الشبّاكِ المفتوحِ قليلاً ...
أشهَدُ معجزةً :
كان الوشَعُ اللامرئيُّ ، الـمُرخى بزجاج الشبّاكِ ، يشِعُّ
الوشَعُ اللامرئيُّ يشِعُّ ، متيناً ، بلّوراً ...
أيُّ عناكبَ ظلّتْ تنسجُ هذا البلّورَ ؟
لأيّ نبيٍّ كانت تنسجُ هذا البلّورَ ؟
...............
...............
...............
أنا أجلسُ عند الشبّاكِ المفتوحِ قليلاً
لأُدَخِّنَ .
لندن 25.11.2012

*
السّـــؤال الصّــريح

قُلْ لماذا يُـعَـذِّبـكَ الشوقُ لامرأةٍ ؟
أنتَ في منتهاكَ...
الحديقةُ مخضــرةٌ
والرفوفُ التي تتأملُ ملأى بما سوف تمضي بعيداً بهِ
والســماءُ انجلتْ بغتةً
والقميصُ الذي ترتدي الآنَ ... سَــبْطٌ نظيفٌ
وبَـعدَ دقائقَ عشــرٍ سـتأتيكَ ســيّـارةٌ
لتغادرَ نحوَ المــطارِ ...
إذاً
قــلْ : لماذا يُعذبكَ الشوقُ لامرأةٍ ؟
...........
...........
...........
هل سَــئمتَ الحياةَ الرخِـيّـةَ ؟
أَمْ هل سَــئمتَ الحياةَ الرضِـيّـةَ ؟
أمْ هل سئمتَ الحياةْ ؟
ـ المنزل الفقير لندن – 10 / 7 / 2002
*
الى وصال
لستُ أعرفُ في أيّ أرضٍ حللتِ
ولا أينَ أنتِ تَحِـلِّـينَ ،
عُمْرٌ ، كما يخطِفُ البرقُ ...
أَمْ ماراثونُ العذابِ ؟
السفينةُ قد غرِقَتْ منذُ قَرنٍ ببغدادَ ...
هل تَذْخَرينَ الأريكــةَ للرِّحْلةِ الأُمِّ ؟
غادرت ِشـارعَنا في فلسطين ( أقصدُ عندَ القناةِ ببغدادَ ) ؟
أينَ ذهبتِ ؟
وأينَ ذهبتِ ، بما لم يَكُنْ ؟
جاءني صوتُكِ الـتِّـبْـرُ أيّامَ حفلةِ قتلي بِعَمّانَ ...
هل كنتَِ أحسستِ أنيَ أُقتَلُ ؟
يا بنتَ عمّي
التي قطفتْ وردتي ،
يا وِصالُ ...
سأنتحبُ الليلةَ :
الريحُ غربيّـةٌ
والمطرْ
ليسَ ينقطعُ ...
الفضّــةُ ، الآنَ ، تبكي ، خيوطاً بشَعرِكِ .
أنتحبُ الليلةَ ...

لندن 19.01.2009
*
يا نبعةَ الرّيحان
يا نبعةَ الريحانِ ...
حِـنِّــي !
إنني أمسَيتُ في الوادِ المقدَّسِ ، في طُوىً
لكنني أرنو إلى غيرِ المقدّسِ
إنني أرنو إلى مَن جاورَتْني في دمي
أرنو إليكِ .
إليكِ وحدكِ: لا شــريكَ و لا شــريكةَ
إنني أرنو إليكِ
بكل ذُلّي
كلِّ حٌبّي
كلِّ ما يسَعُ الأذى
يا نبعةَ الريحان ...
..................
.................
.................
يا نبعةَ الريحانِ :
حِــنِّـي ...
إنني الولهانُ
حِنِّي !
الليلُ أقسى ، والحياةُ أشَـقُّ إنْ لم تصطفيني
أو تَحِــنّي !
يا نبعةَ الريحان !
لندن 14.10.2011
*
ســلامٌ من هناك
وكيفَ يومُكَ ؟
كان الليلُ يهبطُ ...
والأشجارُ تُمسي رصاصاً .
هل تحيّتُها ، تلك البعيدة ، تُدْنيني؟
هل اقتربَتْ مني الروائحُ ؟
نَدٌّ نافذٌ
عبَقٌ من دوحةِ التين
ضوعٌ من مَنابتِ فخْذَيها ...
وضحكتِها :
وكيفَ يومُكَ ؟
يا مَن أستريحُ لها ، وهي البعيدةُ
يا مَن أستريحُ إلى انكسارِ لَـثغتِــها
لا تقطعي هاتفاً في الليلِ
واتَّــرِكي لي أن أُمَصْمِصَ ما تحكينَ ...
أن أجدَ النبضَ الخفيَّ
وأن أستروِحَ العِرْقَ ، حتى يستوي عرَقــا ...
وكيفَ يومُكِ ؟
لندن 27.02.2012
*
الهاتـفُ يخـتـنـقُ
كانت تئِنُّ ...
الصوتُ عبْرَ الهاتفِ المبحوحِ مختنقٌ .
وفي طرَفِ الحديقةِ ، عند بابي ، صفرةٌُ من كستناءَ عتيقةٍ .
في نبتةِ الزيتونِ ، ثَـمَّ ، براعمُ اخضرّت ، وأتلعت الرؤوسَ بـخُضرةٍ صفراءَ
كالزيتونِ ...
كان الصوتُ مختنقاً :
أُحِـبُّـكَ !
كيف غادرتَ المدينةَ ، هائماً ، في الفجرِ ؟
كيفَ عرفتَ أن تصلَ المحطّةَ ؟
ليس من تاكسي ، هنا ، في الفجرِ ؟
لا عرباتِ خيلٍ
لا زوارقَ ، بَعْدُ ، في القنَواتِ ...
كيفَ بلغْتَ مُنتبَذاً بلندنَ ، قبلَ أن أصحوْ ؟
أُحِبُّكَ !
أنت دوماً هكذا ...
...............
...............
...............
هل تذكرُ البارَ القديمَ ، هناك في باريسَ ... حيثُ الشاحناتُ ،
وسائقوها الأشقياءُ ؟
ألم تغادرْ ، فجأةً ، كاليومِ ؟
لكني أحبُّكَ .
أنتَ دوماً هكذا ...
لندن 30.04.2012
*
اُحِبُّ النحيلةَ
اُحِبُ النحيلةَ
تلكَ التي تتثنّى ،
وقد تنثني
مثلَ ما ينثني الخيزرانُ المبلّـلُ ...
في اللحظةِ الصّعْبِ
في لحظةِ الـحُبِّ
......................
......................
......................
إني أحبُّ النحيلةَ
يا طالَ ما طوّقتْني بأرجوحة الخيزرانِ
بساقَينِ من قصبٍ سُكّرٍ
وبنهدَينِ لم يـبْـزُغا بَعْدُ ...
إني أحبُّ النحيلةَ
إني أحبُّ الحياةْ !
لندن 31.05.2012
*
غرفة الاستقبال
قالت : سأنام هنا ، في هذي الغرفةِ ...
( كانت عائدةً من سفرٍ لتظلَّ معي أيّاماً )
قلتُ لها : البيتُ لكِ
اختارِي أيَّ مكانٍ منه مبيتاً .
قالت : لن تزعلَ مني ؟
قلتُ : وهل أنا إلاّ أنتِ ؟
البيتُ صغيرٌ
والغرفةُ صُغرى ، لكنكِ سوف تنامين وأحلامَكِ
سوف تنامين وأحلامي ؛
سننامُ معاً ، معتنقَينِ ، وإنْ كنّا في غُرُفاتٍ مختلفاتٍ !
................
................
................
كانت تلك الليلةُ باردةً
والثلجُ نديفٌ يتألّقُ بلّوراً فسفوريّاً في الأشجارِ.
دخلتُ إلى الغرفةِ حيث تنامُ ، مُنَعّمةً كالطفلِ
وألقَيتُ عليها مُطْرَفَ صوفٍ من مرّاكشَ ...
لم تتحرّكْ
لكنّ الوجنةَ صارت تتورّدُ .
كنتُ سعيداً .
لندن 18.10.2012
*
مطار هيثرو – المحطة الخامسة
Heathrow Airport – Terminal 5
لقد كان ذاك الصباحُ المـبكِّرُ محتدِماً :
هي راحلةٌ نحو عاصمةٍ عند بحرِ الشمالِ
وأنا ، الـغِـرَّ ، أدخلُ شيئاً فشيئاً ، إلى عُمْقِ قوقعتي ...
مطرٌ ورياحٌ ترافقُنا .
كان سائقُ سيّارةِ الأجرةِ ، الجهمُ ، ممتقعاً
( هوَ من أسفلِ الهندِ )
كاد الطريقُ يغيبُ ...
*
لم أعرفْ لماذا الصمتُ ؟
لم تنطقْ .
ولم أنطقْ ...
كأني لستُ أقدرُ أن أُوَدِّعَها .
*
لقد أفنَيتُ عُمري في الطريقِ إلى المطاراتِ العجيبةِ
غير أني الآنَ أفقدُ أيَّ إحساسٍ ؛
وأيّةَ وجهةٍ ...
والسائقُ الهنديُّ يمضي .
أين يمضي بي؟
بها ؟
*
كان الطريقُ يغيمُ
كان يغيبُ ...
قالت لي صديقتيَ التي ستكونُ في بيتٍ على بحر الشمالِ :
أراكَ تبكي !
لندن 21.10.2012
*
ليس على العاشقة حرَجٌ
قالت ( وكان الصوتُ عبرَ الهاتفِ المحمولِ مرتجفاً ) :
أريدُكَ أن تجيبَ صراحةً !
ما الأمرُ ؟
قالتْ : إن أتيتُ إليكَ ...
إنْ يـمّـمْتُ بيتَكَ في الضواحي ذاتَ يومٍ
أو مساءٍ غامضِ الأغصانِ مثلكَ ،
هل تنامُ معي؟
أقولُ : سيّدتي الجميلةَ
لن أكونَ مؤدَّباً إن قلتُ : لا !
مَن يرفضُ الوردَ الـمُـفَـتّـحَ ؟
مَن يقولُ لِـمُزْنةٍ هطلتْ : كفى !
مَنْ يمنعُ الغِزلانَ ؟
والماعونَ ...
مَن لا يفرشُ الريحانَ تحتَ المرمرِ العاري؟
أريدُكِ
هكذا ...
لا تسألي ، أرجوكِ ، ثانيةً ؛
تعالي!
لندن 09.12.2012
*
الشيخُ الأخضرُ
في بار " الشيخِ الأخضرِ "
أي في :
Ald Greene Mann
( إنجليزيةٌ من زمانٍ قبل سيّدنا شكسبير )
في هذا البار الماثلِ بين تقاطُعِ نورث وود و هَيرفيلد )
Northwood and Harefield
أجلسُ ( أحياناً ) مع أندريا ...
نتحدّثُ
أو نتناولُ كأساً .
ثم نغادرُ :
كلٌّ يمضي نحوَ الزنزانةِ تلكَ ... البيتِ الشخصيّ ؛
لم يكن الأمرُ ، كما أبْسِطُهُ لكَ ، أو لكِ ، هذا اليومَ ؛
لقد كنا عشّاقاً !
ولقد طوّفْنا العالَمَ ، حُرّينِ ، شيوعيّينِ ،
نغنّي ،
ونناضلُ
لكنّا في الليلِ ، نكون على الفَرْشةِ ، بوهيميّينِ .
*
أندريا هجرتْني
وأنا أمسيتُ ، سعيداً ، بين ذراعَي أُخرى .
عجباً !
لِمَ أحكي لكَ ؟
بل أنا لا أعرفُكَ ...
فلماذا أحكي لكَ ؟
*
قالوا : حسناً !
حسناً ...
كانت أندريا شاحبةً ، وهي تواجهُني عبر المائدةِ.
الجوعُ ؟
أكيداً ...
كنتُ أُمازحُها دوماً ، وأقولُ : كأنكِ ذئبٌ يتضوّرُ جوعاً !
لكن شحوبَ الجلسةِ هذي ما كان شحوبَ الجوعِ .
لقد كانت تعرفُ أني سأسافرُ
تعرفُ أني سأسافرُ نحو بلادٍ أخرى
نحو امرأةٍ أخرى ...
.....................
.....................
.....................
كان نبيذُ الشيلي الأحمرُ مُرّاً .
لندن 12.12.2012

*
إنطباعاتٌ مقطوعةٌ عن ســياق

دائماً في هذا الخريفِ الذي لا يشبهني
في هذا الخريفِ الذي يشبهني
في هذا الخريفِ الذي...
أسـألُ عن ورقةٍ واحدةٍ. ورقةٍ واحدةٍ ، حســبُ.
لكنْ ، ماذا نفعلُ بالأغاني؟
ورقُ الحائطِ مثقَـلٌ بالأناشيد
أناشيدِ الموتى
وأناشيدِ مَن يموتون...
مثقَـلٌ أيضاً بظلِّ بياضٍ خَفِـيّ.
فتاةٌ هنديةٌ
ربما كانت زعيمَ قبيلةٍ في البيرو
قبلَ ثلاثةِ آلافِ عامٍ
دخلتْ غرفتي ، لثلاثِ لحظاتٍ فقط
لكنها لم تخرجْ...
سـأبحثُ عنها حينَ تمرقُ المذَنّـباتُ
عندَ الوسادة.
البحارُ التي نعبــرُها
لن تكونَ بحاراً بَـعدُ
والأرَضـونَ التي ركزنا عليها الرماحَ
لن تُـنبتَ وردةً...
هكذا نختصـمُ والعالَـمَ
كأننا في التشـوّشِ الأول.
عــشرةُ آلافِ متشــردٍ
يلوذون بمُـلاءتي الصوفِ ـ
أنا النائمِ على الرصيف.
هكذا سـأظلُّ على الرصيف
حتى لو ابتنيتُ لي خيمةً من أدَمٍ
في سهوب " حُـلم آباد ".
لا تقولي : نحن اثنان ...
- نحن الواحدُ المتشـظِّـي
قدرَ ما تحتملُ الشهبُ
قدرَ ما لانحتملُ...طبعاً .
، المنزل الفقير كولومبيا ( ميدايين ) / 9- 6 - 2001
*
وحشة

أفكِرُ فيكِ أحياناً ...
خريفٌ .
وهذا الـحُرْجُ أصفرُ .
قد تحاشتْ سياجَ حديقتي الصفراءِ حتى الثعالبُ ...
كيف أُصغي ، إليَّ ؟ وكانت الأوراقُ تأتي
تدقُّ البابَ ... يا مهجورُ ، دَعْنا نكُنْ معكَ !
الخريفُ ، هو الخريفُ ...
أفكرُ فيكِ أحياناً.
أليسَ السلامُ وُرَيقةً في الريحِ ؟
إني أفكرُ فيكِ أحياناً
كأني أريدُ وُرَيقةً في الريحِ ...
أيَّ السماواتِ الطِباقِ أرودُ ؟
إني أفكرُ فيكِ أحياناً ...
وأحكي
إلى الصّقْرِ الذي لم يَلْقَ شِبْراً يحِطُّ عليهِ
من أسَلٍ وشوكِ ...
...................
...................
...................
أُفكِّرُ فيكِ أحياناً !
5/12/ 2013 لندن
سأكون صديقي
سأجلسُ على المصطــــبةِ الخشبِ . إلـــى يمين الباب . باب بيتي الذي هو ليس بيتي.
سأجلسُ. أحدِّقُ في العشب الذي لا يذوي. أحدِّقُ في الأغنيةِ التي تغيب.لم تكن السـماءُ
عاليةً هنا ، أبداً. الطيورُ تَبْلغُها والطائراتُ وأدخنة المدافيء الغازية.أسمعُ ؟ ربما مَسْــــرى
الدمِ في ذراعي الشمالِ.لم يَعُد البريدُ يحدِّثُــــني.ماذا أنتظرُ هذا الصباح؟ السنجابُ الوحيدُ
الذي يقتربُ مني اختفى اليومَ. وطائرا الزريابِ رحلا . لستُ أدري متى يعودانِ. سيكون
المساءُ بارداً.أقولُ لكِ شيئاً : أنا منذُ اليومِ سأكونُ الـمُــدَوِّنَ. الساعاتُ ليستْ فارغةً.ملايينُ
النوابضِ والنبضاتِ تنتظرُ مني أن أكونَ وفِيّــاً. إذاً ، سأجلسُ على المصطبةِ الخشـــبِ .
سأظلُّ جالساً حتى تحت نثيرِ الثلجِ.لا أنتظرُ شمساً ولا مصافَحةً . سأكونُ صديقي ...
لندن 18.12.2009
*
القفازات
"لم يتبقَّ لديَّ اليوم، ومنذ سنين
من سأصافحه
في منعطف الشارع
- لا شارع –
أو في الحفلة
- قد راحت حفلتنا –
ولهذا كانت قفازاتي.
................
...............
..............
قفازاتي
تمنعني أن ألمس ما لا يتلامسُ
حقاً
والآنَ أفكّر في أن أبتاعَ
لأذنيّ القفازات
فلا أسمع ما لا يُسمَع
أبتاع الـ Headphones
مثلاً...
................
..............
.............
لكنْ ، ماذا عن عينيَّ؟
، فلأكنِ الأعمى!"
- مجموعة حانة القرد المفكر-
*
غبطة
أصابعُ القَدَمِ اليســرى ، تُـنَـمِّـلُ ...
جسمي واهنٌ
وعلى مَشْـتى البسيطةِ ، كان الليلُ
أطولَ حتى من مُعَلَّقةِ امرىء القيسِ
كان الليلُ ...
..............
..............
..............
أنهضُ
أخطو
أنثني وجِلاً ، مستَنفَداً ، صوبَ شُبّاكي
وألـمُسُــهُ
لعلَّ روحَ الزجاجِ ....
.............
.............
.............
الليلُ يَـثْـخُـنُ
حتى في البحيرةِ أمسى الماءُ
لوحَ رصاصٍ .
لا أرى أحداً في الـبُعْدِ
لا ضوءَ
لا نَوءَ
لا أغصانَ ....
أدخلُ في بعضي
أُلَـمْـلِـمُ ، مثلَ المصطفى ، الـخُـصُـلاتِ البِيضَ
أضفِرُها
تاجاً
وآوي إلى عرشــي
وأغتبِطُ .
لندن 19.10.2010
*
جدل
آنَ أُمســي وحيداً
في الضواحي الغريبةِ
في مِثْلِ هذا المساءِ الذي يتضوّعُ بالثلجِ
هذا المساءِ الذي لا أرى نجمةً فيهِ أو شــمعةً ...
ليس لي أن أُحَدِّقَ في الـبُعْدِ
كي ألـمُـسَ النجمَ ،
ليس عليّ اشــتواءُ يدي لأرى شــمعــةً .
هكذا ، ليس صعباً عليّ اعترافي بأني وحيــدٌ
( لأنيَ ، فعلاً ، وحيدٌ ! )
ولكنني
مثل أسلافيَ الخاطـئينَ
سأُعلِنُ هذا المســاء
أمامَ الحديقةِ مهجورةً
والعصافيرِ مقرورةً
أمام قميصِ التي رحلتْ ، بغتةً ، دونَ أن تتذكّر أحلى قميصٍ ...
أمامَ السناجبِ
والثعلبِ الـمتـضوِّرِ ...
أُعـلـنُ :
لســتُ الوحــيــد !
لندن 21.12.2010
*
اليومَ
أقتُلُ " موسى " بالرصاصِ ...
من الصباحِ تَفَحّصْتُ المسدّسَ
سِتّاً كانت الطلَقاتُ
قد دوّرتُها
دارتْ .
سأُطْلِقُها جميعاً ،
سوق أقتُلُ ، هادئاً ، موسى
وأضحكُ إذْ أراه يموتُ ...
موسى ليس يعرفُني
وهذا يجعلُ القتلَ المقرَّرَ أسهلَ ...
..................
..................
..................
الطلَقاتُ ستٌّ
والمسدَّسُ جاهزٌ
ومُجَهَّزٌ بالكاتمِ الصوتيّ .
..................
........,.........
..................
مَن سيكونُ موسى؟
أهوَ مَن ألقاه في المرآةِ ؟
مَن أخشاه في المرآةِ ؟
كيف يموتُ موسى ؟
لندن 30.01.2011
رباعية الضوء البعيد
(1)
ضوءٌ بعيدٌ بين أغصانٍ مُعَرّاةٍ ... أرى من فُرجةٍ في منتهى الصِّغَرِ
انثَنَتْ وسطَ الستارةِ ، لَمْحَ ذاك الضوءِ . كان الليلُ يَـنـتصفُ .
الحديقةُ تختفي.أشباحُها الأغصانُ عاريةً . أُحِسُّ على ذراعي لَسْعةً.
أتكونُ من بردٍ ، أم الأشباحُ وهيَ تَنوسُ تُرعبُني ؟ أَم الضوءُ البعيد؟
(2)
مُحَدِّقاً في عَتمةِ الزمنِ .انتبهتُ ... أكانَ ذاك الضوءُ يأتي من زمانٍ
سالفٍ ؟ من نقطةٍ فُـقِئَتْ على إحدى الـمَجـرّاتِ ؟ الحـديقةُ
لا ضياءَ بها . وفي الـبُعْدِ البحيرةُ لاءمَتْ أمواهَها في البردِ والتمّتْ.
أصيّادون ؟ هل ذئبٌ يُقَضْقِضُ عُـصْـلَـهُ؟ أم أنني أتوهَّـمُ الأشياء؟
(3)
لكنّ هذا الضوءَ يأتي . بل أكادُ الآنَ ألْـمُـسُــه .يكادُ الضوءُ
يلسَعُ عينيَ الـيُســرى.أغادرُ فَرْشَــتي ، وأُطِلُّ بين ستارتَينِ.
الضوءُ غَـمّــازٌ ، وتلك الدوحةُ الجرداءُ تُفْسِحُ مَنفَذاً .أحسستُ
أنّ زجاجَ نافذتي الـمُضاعَفَ صارَ فضّـيّـاً ، وأني في الـمَـدار.
(4)
يا مرحباً !
يا مرحباً بكَ ، أيها الضوءُ البعيدُ ، شقيقُ روحي !
مرحباً !
والآنَ أتبَعُكَ ...
السبيلُ إليك أنتَ.
النورُ يجعلُني خفيفاً ، طائراً
والنورُ يجعلُني شفيفاً .
................
................
................
لحظةً ، وأكونُ خارج بُرجيَ الـحَجريّ .
سوف أكونُ أنت!
لندن 19.11.2010
*
بَـيــاضٌ
الـمرْجُ زهورٌ بِيضٌ
درْبُ الحيّ السّكنيّ الموحشِ ( حيثُ أُقِيمُ ) زهورٌ بيضٌ
سقفُ دفيئةِ جاري الأسكتلنديّ زهورٌ بيض
ساحتُنا الخـلْـفـيّةُ والبستان زهورٌ بيض
مَرقَى البيتِ زهورٌ بيض
فوق قميصي الورديّ زهورٌ بيض
وحذائي في الممشى ملأتْـهُ زهورٌ بيض
وعلى السيّاراتِ ( كأنّ زواجَ الإسكندرِ حَلَّ ) زهورٌ بيض
بابُ الحانةِ غطّـتْـهُ زهورٌ بيض
وعلى شَعري تاجٌ ضفَرَتْهُ زهورٌ بيض
وصديقتيَ النمساويّةُ تصنعُ ( في الموسمِ ) حلوى من زُبْدٍ وزهورٍ بيض
..................
..................
..................
لكنّ فراشــي الباردَ
ليس به أيُّ زهورٍ بيض !
لندن 11.05.2012
*
سـيمفونيّةٌ مَـرْئِـيّـةٌ
أفُقٌ أبيضُ .الساحةُ الدائريّةُ بيضاءُ . سقفُ البناياتِ أبيضُ.
والشجرُ المتضائلُ أبيضُ .في البُعْدِ تبدو البحيرةُ بيضاءَ بيضاءَ .
حتى السياجُ الذي فقدَ اللونَ قد صار أبيضَ . ممشايَ أبيضُ.
شَعري الذي طالَ دهراً لأضفِرَهُ ... أبيضُ . الغـيمُ فوقَ
الـمَراكبِ أبيضُ .والورَقُ المتناثرُ في غرفتي أبيضُ . الضوءُ
أبيضُ.ذاكرتي تأفُلُ الآنَ ، بيضاءَ . لا نخلَ فيها ولا نهرَ ...
كلُّ النساءِ اللواتي مررْنَ على شرشفي، يرتدِينَ العباءاتِ بيضاَ.
سأبسِطُ كفّيَ بيضاءَ من غيرِ ســوءٍ . دمي أتخَـيّـلُُهُ أبيضَ.
القِطُّ ، هذا الذي يتربّصُ بالطيرِ ، أبيضُ . والطيرُ أبيضُ .
أغمضتُ عينيَّ حتى أرى ، مثلَ ما أنتَ ، دوماً ، ترى ...
*
أتَـقَـرّى المآذنَ في أصفهانَ : كأنّ لِـزُرْقَـتِها خُضرةَ البحرِ.
هل كنتَ في فاسَ ، حيثُ العباءاتُ تخرجُ زرقاءَ من جَـفْـنةٍ ؟
هل رأيتَ حديقةَ مُرّاكشَ : الزُّرقةَ الملَكيّةَ والشّوكَ ؟ فَخّارَ دَلْفِتْ ؟
عيونَ التي كنتَ أحببتَ يوماً بباريسَ ؟ زرقاء . زرقاء . إني أُحِبُّكِ
زرقاء . لوركا الذي قال: خضراء . خضراء . إني أحبُّكِ خضراءَ.
قُلْ : ما الذي يجمعُ الأزرقَ الفذَّ والأخضرَ ؟ الـمَعْشباتُ التي تتألّقُ
خــضراءَ عندَ السواحلِ ... إفريقيا . والأساطيرُ كانت تقولُ :
دمُ الأُسَــر الملَكيّةِ أزرقُ . لكنّ ماري انطوانيت ذاتُ دمٍ أحمرَ.
الغابةُ المطريّةُ تبدو من البُعدِ زرقاءَ . ما يرتديه الطوارقُ أزرقُ ...
قبلَ ليالٍ ثلاثٍ حلمْتُ بأنيَ أغرَقُ ما بينَ نهدَينِ. والبحرُ أزرق .
*
أنا في عدنٍ .
1986
كنتُ أرنو إلى جبلٍ كانَ يُسْمى حديداً . ولكنه اليومَ أحمرُ .
قد قال رامبو : أنا الآنَ أسكنُ في الفُوّهةْ .
ليتَ رامبو رأى ما رأيتُ !
الجحيمُ الذي كان في عهدِهِ خامداً ، لم يَعُدْ خامداً ...
كان أحمرَ في بهجة الإنتحار .
وفي صيف موسكو أسيرُ إلى الساحةِ . العلَمُ الأحمرُ المتألِّقُ منعقدٌ في الجبينِ.
وفي صيفِ بايجينغ لوّحتُ بالرايةِ الأمميّةِ : حمراء . حمراء . إني أحبُّكِ حمراء.
في 61
كان العراقُ الجميلُ سيُشرِقُ أجملَ
كان العراقُ سيُشرِقُ أحمرَ
كان العراقُ سيُشرِقُ
كان العراق ...
لندن 15.01.2013
*
طهر
لِكَسْتَنــاءِ الضواحي اشتقتُ في ســفَري
لا نخلةُ اللهِ شـاقَتْني
ولا الأثَلُ
ولا ذوائبُ لَبلابٍ
ولا قمرٌ يلاعِبُ الماءَ ...
قالوا : ثَـمَّ فاخِتَةٌ تأوي إليكَ مساءً ،
قلتُ : مُـنْـتَـبـذي مأوى العذارى ذواتِ الريشِ
لا قِـططٌ قد آنَـسَـتْـني
ولا ليلى تُرَطِّبُ لي مَتْنَ الفِراشِ
فلا نُعْمى
ولا قُبَلُ ...
كأنّ قُطْنَ فراشــي حينَ ألـمُـسُـهُ
سجّادةٌ بالبياضِ الـمَـحْـضِ تحتفلُ !
لندن 19.05.2005
*
منظرٌ صباحيٌّ
في الغبْشــةِ
كان ضَبابُ الغابةِ أبيضَ أزرقَ
والطيرُ بلا صوتٍ ؛
ثـمّتَ ، عند قناة الماءِ العظمى ، تبدو أشباحُ مَراكبَ
خيطٌ من مدخنةٍ يتلوّى صُـعُـداً .
لا هجْسَ حفيفٍ من شجرٍ
لا رفّـةَ من أجنحةٍ أو أهدابٍ ...
لَكأنَّ اللحظةَ جامدةٌ
وكأنَّ العالَمَ لم يتكوَّنْ بَعْدُ .
لندن 30.05.2012
*
رِضــــا
هل تريدين أن تعرفي بعضَ ما أنا فيهِ :
الزهورُ التي لستُ أعرفُ أسماءَها ، وسماواتِها
والسماءُ التي لستُ أبصِرُ أزهارَها
والمروجُ التي تتمرّغُ فيها الخيولُ مجلّلةً بالقطيفةِ
والنسوةُ المغْرَماتُ بيومِ القيامةِ
والكنيسةُ حيثُ الصبيُّ الذي يتعهّدُ إيقادَ كلِ الشموعِ
بنصْفِ جُـنَـيْـهٍ ،
أقولُ :
الحياةُ مبارَكةٌ
والدروبُ مبارَكةُ السَّعْيِ
حتى وإنْ لم تُـؤَدِّ ...
لندن 31.05.2012
*
الشتاءُ يختلفُ
منذُ عامَينِ لم يدخل الوردُ بيتي ، لتأتلقَ المائدةْ
لم أضعْ شمعةً للعشاءِ تضيءُ النبيذَ
ووجهَ التي أستلذُّ ابتسامتَها وهي تبدأُ من لمعةِ العينِ ...
عامانِ مَـرّا
ولم أسترِحْ في مدارٍ
ولا في سِفارٍ ،
ولم أستسِغْ أن أقولَ لكأسٍ : سأشربُ حتى الثمالةِ .
حتى الهواءُ الذي أتنفّسُ قد صارَ مُـرّاً .
فهل وهنَ العظمُ مني ؟
هل اشتعلَ الرأسُ شَيباً ...
................
................
................
أفِقْ يا بُـنَـيّ !
أفِقْ
واستَرِدَّ التي لن تغادرَ ، عبرَ السنين العجيباتِ :
تلكَ الحماقةَ ...
قُمْ ، هاتِ وردَكَ !
أوقِدْ شموعكَ ...
ولْـتُرْهِفِ السمعَ :
ها هي ذي مَن تُحِبُّ تدقُّ على الباب !
لندن 05.11.2012
*
محاولةُ تثبيتٍ
أوراقٌ باقيةٌ في الغصنِ العاري
تخفقُ مثل عصافيرَ من المعْدِنِ ،
حولي :
زمنٌ رطْبٌ
وضُحىً أبيضُ
عشبٌ أبيضُ
حتى لكأنّ مياهاً ثابتةً تكســو الغابةَ والأفقَ الأبعدَ.
لا ريحَ
ولا نسمةَ
لا نأمةَ ...
هل ينفجرُ الكونُ إذا انطلقتْ صيحةُ طيرٍ ؟
هل أتحسّسُ صُدغي ...
لندن 19.12.2012
*
تنويعاتُ النبتة المنزليّة
بَعدَها
بعدَ تلكَ التي كنتُ سمَّيتُها
أوّلاً ،
أقصدُ : النبتةَ المنزليّةَ ...
أمسيتُ ذا أربعٍ :
نبتةٌ عند زاويةِ البارِ .
أُخرى تُفَضِّلُ أن تتفتّحَ في غرفةِ النومِ .
ثالثةٌ تتألّقُ في شُرفتي وهي تستقبلُ الشمسَ.
رابعةٌ تومِيءُ الآنَ ، مُتْرَفةً ، من أصيلِ الحِجازِ.
ولكنني أحفظُ العهدَ
أحفظُ أنّ التي كانت النبتةَ المنزليّةَ
سوف تظلُّ (كما كانت) النبتةَ المنزليّةَ
تلك التي كنتُ سـمَّـيْـتُـها
أوّلاً !
21.12.2012 لندن
*
معجزةُ مَطْلعِ 2013
إنني أتشاءمُ ، مثلَ كثيرٍ ، من الرقم :
13
أنا لا أسكنُ الغرفةَ
13
في الفنادقِ.
منزلُ أوكتافيا في بْروكْسل كان يحملُ رقمي المخيفَ
13
( ولهذا سُلِبْتُ قلادةَ بغدادَ ، ليلَ المحطّةِ )
رِحلةُ الشؤمِ نحو شواطيء مَسْقطَ كانت شباط
13
غرفةُ العمَليّاتِ حيثُ يموتُ النبيُّ ، هي الغرفةُ
13
آخرُ منفى أعيشُ به الآنَ يحملُ رقمي العنيفَ
13
وإلى أن أموتَ ، أظلُّ أُشِيحُ عن الرقمِ
13
....................
....................
....................
وإذاً
أيُّ معجزةٍ هي في مطْلعِ العام
2013 ؟
*
نبتتي المنزليةُ
تلك التي عند نافذةٍ تشربُ الشمسَ
قد أطْلَعَتْ زهرةً
زهرةً ليس أنصعَ منها بياضاً
زهرةً لا تكادُ تُرى ...
زهرةً هي أُولى ،
زهرةً واحدةْ !
لندن 31.12.2012
*
أصواتٌ خفيضةٌ
كان الصُُّبحُ شتائيّاً ، أبـيضَ
والورَقُ المتكرمشُ ... أسودَ
أسمعُ من جهةِ الغابةِ خَــفْقاً ... هل تَخْفُقُ أغصانٌ عاريةٌ ؟
فَـلأُرْهِفْ سمــعي : يقترِبُ الخـَفَـقانُ . أسيرُ إلى النافذةِ.
الـمَشهدُ كالــلوحةِ ، دونَ تضاريسَ . الثُلثُ الثاني أملَسُ .
أُلْصِقُ وجهي بزجاجِ النافذةِ . أسمعُ خفْقاً . أسمعُهُ من جهةِ القلب
كان الـصبحُ شـتائيّاً ، أزرقَ
والورقُ الـمُسّاقِطُ ، بُـنّـيّاً
مطرٌ يدخلُ في العشبِ ، وبين لِحاءِ الدوحةِ والجذعِ ، نــثيثاً
لا ريحَ . و لا طيرَ .سياجُ الخشبِ المتشرِّبُ يبدو لي مُـهترئا .
لن يبدو خلفَ سياجِ الخشبِ المتهرّيءِ خِشْفٌ . لن تصدحَ قُبَّرةٌ.
لكني أسمعُ خشخشةً . أهوَ الثعلبُ ؟ أم أنّ الخِشْــفَ يجيء ؟
كان الصبحُ شـتائيّاً ، أخضرَ
والورقُ الـمُتبـرْعمُ ، أبيضَ
أهو نهارُ الأحدِ ؟
اليومَ ، إذاً ، ستكونُ زيارتُــها !
سوف أروحُ إلى الحانةِ ظُهراً
أتمشّــى
وعلى شفتَيَّ صفيرٌ من أغنيةٍ كنتُ أردِّدُها في باريس !
لندن 10.01.2013
*
السباحة في خليج عدن
لا أدري إنْ كان الجولدمور
The Gold Mohur
ما زال على الشاطئ ...
رُبَّـتَــما غارَ الفندقُ هذا في قاعِ البحرِ
أو ارتَدَّ صخوراً في الجبلِ الأســودِ .
( إنّ مَساكـنَـنـا تسكنُ فينا )
أحياناً ، في الليلِ الهامدِ ،في مُنْتَبَذي الأوربيّ ،أغادِرُ غرفةَ نومي
وأسيرُ إلى بابِ المنزلِ
معصوبَ العينينِ برائحةٍ من سمكٍ وســراطينَ
فأهبِطُ درْجاتِ السُّـلَّـمِ أعمى إلاّ من رائحةِ الساحلِ
والريحِ الرّطبةِ بين شُجَيراتِ غَضــاً ...
أُرهِفُ سَــمعي :
هل ثَـمَّ حضارمةٌ بلغوا الفندقَ في سُفُنٍ خشبٍ ؟
أَمْ يافِعُ تدنو ؟
إني أسمعُ أغنيةً عن بحرٍ ومَحارٍ ...
أسمعُ تهليلةَ بَحّارٍ .
أسمعُ صوتي !
...................
...................
...................
في الجولدمور
كنا نصنعُ ، في ليلةِ قيظٍ ، سُفناً من ورقٍ
لتطيرَ بنا ...
كنا فقراءَ إلى الله!

لندن 09.01.2009
*
في تلك الثمانينيات
كان أفارقةٌ ثوريّونَ
يعودون إلى الشاطئ في زورقِ مطّاطٍ .
والزورقُ منطلِقٌ
من قَيدومِ سفينةِ شحنٍ سوفييتيّــةْ .

في صمتِ البحرِ الأحمرِ
في صمتِ الليلِ
وفي صمتِ الموجِ
أفارقةٌ ثوريّونَ يعودون إلى شــاطئهم
غيرَ بعيدٍ عن جيبوتي ...
*
في الصبحِ المتوهجِ ( لا فجرَ هنا )
نبْلغُ مرفأَ جيبوتي :
طرّادٌ حربيٌّ لفرنسا يحرسُ بوّابةَ جيبوتي ،
والأرضُ الإفريقيةُ لا تعلو أكثرَ من مترٍ عن سطحِ البحرِ .
.........................
.........................
.........................
أفارقةٌ ثوريّونَ أعادتْهُم في زورقِ مطّاطٍ
أمسِ
سفينةُ شحنٍ ســوفييتيّةْ .
لكنّا سنلوبُ بحارَ العالَمِ في زورقِ مطّاطٍ لن يُبْلِــغَــنا أرضاً
أبداً ...

لندن 10.01.2009
*
غفلةٌ
آهِ ...
لا بُدَّ
أنّ الذي يتراءى ، وما لا ترى :
مطرٌ .
غيرَ أنكَ في ظُلمةٍ ، لا ترى .
أنتَ لستَ تُحِسُّ بما أرعشَ الشجرةْ
أنتَ لستَ تُحسُّ بما جعلَ الطيرَ يدخلُ في الشجرةْ.
مطرٌ لا يُرى
مطرٌ قد أحَسَّ به الطيرُ قبلكَ
والشجرةْ .

مطرٌ سوف يهطلُ في الليلِ
تحتَ المخدةِ
أغزرَ ممّا دعا الطيرَ أن يحتمي بدمِ الشجرةْ
....................
....................
....................
وها أنتذا
مثلَ أعمى
ترى!
أمستردام 11.08.2012
*
أيلول
وهاهوذا الغيمُ ، تَدفَعُ قُطعانَ حِيتانِهِ والخيولِ التي تترنّحُ ، ريحٌ شماليّةٌ
والطيورُ تهاجرُ
منذ الصباحِ الطيورُ تهاجرُ
منذ أن خلَقَ اللهُ تلكَ السماءَ ، الطيورُ تهاجرُ ...
ما كان قبلَ دقائقَ بحراً مُحِيطاً تَدافَعُ حيتانُهُ والخيولُ استوى حاجزاً من دخانٍ وماءٍ ثقيلٍ
ولكنّ تلك الطيورَ التي بدأتْ في الصباحِ تهاجِرُ
ظلّتْ تهاجرُ .
هل تبصرُ الطيرُ ما نُبصرُ :
البحرَ ؟
حيتانَه
والخيولَ
وذاكَ الدخانَ
وماءَ السماءِ الثقيلَ ؟
وهل تعرفُ الطيرُ
أنّا هنا ،
سجناءُ منازلِنا الحجريّةِ
ذاتِ الحدائقِ ؟
أنّا هنا ،
الموثَقونَ إلى طينِ أجسادِنا ؟
وهل تعرفُ الطيرُ
أنّا هنا
الزائلون؟
لندن 20.09.2010
*
عناد
إلى أين تذهبُ هذي الطيورُ ؟
المساءُ الذي يَكْفَهِـــرُِّ يُغادِرُ ما كانَ يُسْـمى السماءَ
لقد همَدَ الكونُ ...
تلك الطيورُ التي ذهبتْ لم تَعُدْ تملأُ اللوحةَ.
الكونُ أعمى
ولكنني سأُلَـمْـلِمُ نفسي
وأشلاءَهُ
سوفَ أُبْريءُ ذاك العمى
وأتابعُ تلك الطيورَ التي ذهبَتْ
في مساءٍ
بلا رفّةٍ أو ســماء .
لندن 11.12.2010
*
ليليّــةٌ Nocturne
أمضَيتُ ليلي أسمعُ المطرَ . المياهُ تدقُّ ألواحَ الزجاجِ . تكادُ تدخلُ . آهِ لو دخلتْ !
لقد غرقتْ شُجيراتُ الحديقةِ . والسناجبُ تختفي في الليل .ثَمَّ عواءُ ذئبٍ ! ربما ...
لو كنتِ عندي لاكتفَيتُ بما تجودينَ : الدعابةِ والأغاني و الطفولةِ في الجنوبِ.
فكيفَ أُمضي الليلَ ؟ أدري أنّ ألواحَ الزجاجِ ثخينةٌ . لن يدخلَ المطرُ المزمجر ُ؛
غيرَ أنكِ تدخلين !
*
والريحُ ؟ كنتُ أرى الصنوبرَ مائلاً ، والكستناءَ الدّوحَ يَهدُرُ ، والسياجَ يكادُ يئنُّ.
يا ما طوّحتْ بي الريحُ ! يا ما ورّطتْني في معاركَ لا أرى أفُقاً بها .يا ما انجرفتُ لأنني
أهوى هواءَ الإنجراف ! الآنَ أشعرُ أن عُقدةَ محبِسي أمستْ تضيقُ ، وأن هذي الغرفةَ
العليا بلندنَ ... طوفيَ المفتوحُ . هُبّي يا رياحُ ، وطَوِّحي بي في مهَبِّ البحرِ ...
حيثُ الإنجراف !
*
مَن يوقدُ النيرانَ في الليلِ ؟ النثيثُ ووافدُ الطّلِّ استباحا نارَ حطّابينَ مرتــعِدينَ برداً .
لم يَعُدْ في الغابةِ السوداءِ حطّابونَ . لكني أرى النيرانَ تتّقدُ ! الظلامُ الـمُطْبِقُ انكسرَ.
الحديقةُ أقبلَتْ . من أين تلكَ النارُ ؟ أهيَ قواربُ السكنى؟ اليراعاتُ المضيئةُ ؟ أهْـيَ
ما أذكتْ قِلادتُكِ الطويلةُ مثلَ جِيدِكِ ؟ لستُ أهذي ... أنتِ واقفةٌ هنالك في الحديقةِ.
أنتِ ناري !
*
قد كنتُ ألتهمُ الترابَ . الطفلُ يلتهمُ الترابَ . ملاعقٌ ذهبٌ ترابُكَ أيها الطفلُ الفقيرُ.
فما تقولُ الآنَ ؟
أنتَ هنا ، كأنك لم تغادرْ أغنياتِ أبي الخصيبِ !
ترابُكَ الـتِـبْـرُ الـمُـعَـفّـرُ بالروائحِ من أعالي النخلِ ، والسمكِ الـمُـهاجرِ
في الربيعِ. أتبصرُ الفجرَ ؟ انتبِهْ !
هي ساحةُ المبنى وقد غُسِلَت ، طويلاً ، بالنثيثِ ووافدِ الطلِّ .المماشي لا ترابَ بها ...
وداعاً !
لندن 17.10.2012
*
الغيومُ صباحيّة
هكذا يبدأ النملُ يستافُ دربَ المؤونة
والقطُّ يبحث عن مخبأ
والعصافير عن شجر،
وأنا الجهمُ،
أبحث عن كوّة في الجدار...
....
....
....
كيف تأتي الفصولُ
لتذهبَ؟
قد كنت أحسبُ أن الربيع
- مثلاً-
يتداخلُ في العرق، كالنسغ في الغصن
أو كالمواءِ المباغتِ
أو صيحة الديك في الفجرِ،
....
....
....
ها أنذا، مثل ما كنتُ،
لا نبضَ يسرعُ
أو يتطامنُ
لا رفةٌ من جناحٍ تطوِّح بي نحو مهوى
ولا موجة للغرق.
....
....
....
سوف أمضي، إذا، نحو هدبي
سأسأله أن يطيل – كما يقدر- الغمضَ
أسأله أن أنام...
- من مجموعة (حانة القرد المفكر)-
*
المحطة السويدية
Sundbyberg
سعدي يوسف
ثَــــــــمَّ كان القطارُ الوحيدُ الذي يبلغُ الأرضَ تلك التي لا نَرى
يبلغُ الأرضَ تلك التي لا تُرى
لا تُرى بالعيون ْ
لا تُرى بالجنونْ
رُبّما كان لي أن أُغادرَني .....
ربما كان لي أن أغادرَ بيتي ، وما خلَّفَ العُـمُــرُ الجهْمُ لي من متاعْ
ربما سيكون الضَّياع
سبيلاً
إلى تلكمُ الأرضِِ ...
............
............
...........
مَنْ يا تُرى ستكونُ هنالكَ واقفةً بانتظاري ؟
04.04.2011
*
مدرسة المحمودية
المرايا هي الجدران ، وهي السقف . مرايا ذواتُ أشكالٍ : مثلّث . معين . مربّع . مستطيل. دائرة – المرايا ذواتُ ألوانٍ : أزرق. أخضر . سماويّ – المرايا نورٌ ملصَقٌ على الجدران – المرايا نورٌ يتدلّى من السقف _ الخشب شفيفٌ. من النافذة تأتي سعفةٌ تترجّحُ مع نسيمٍ خفيفٍ ساخنٍ . الجســرُ ( ما زال خشباً ) يبدو من النافذة الأخيرة.والنهر الذي يقالُ إن في منتهاه المنزل الذي لن نراه : منزل بنات الشلبي . مطر. مطر. يا حلبي. عَبِّرْ بناتِ الشلبي .مطر. مطر. يا شاشا. عَبِّرْ بناتِ الباشا. يا مطرأً من ذهبِ ! السيد علي الطبيب الهنديّ يسكنُ هو أيضاً في
أقاصي النهر التي لن نبْلغَها. حيّاتُ الماءِ تقطعُ النهرَ من ضفةٍ إلى أخرى. نحاولُ أن نُمسِكَ بخيطِ الفضّةِ المتعرِّجِ. الحيّاتُ تنزلقُ مراوِغةً .ســمَكُ الجِـرِّيّ يلتقطُ الطُّعْمَ الفقيرَ ، العجينةَ أو التمرةَ . سنجففُ جِلْــدَ الجِرِّيّ لنصنع طبولَنا في الهاجرةِ القائظة.خليل الطويل يُعَـلِّمُنا العربيةَ والجغرافيا . نحن الآنَ نعرف القارات . في أي قارةٍ نحنُ ؟إفريقيا معَنا. ستدقّ الطبولُ في الليلِ المحتدمِ.ونحن نختبيْ تحت ثياب أمّهاتِنا الطويلة لنتسلّلَ إلى حلقةِ الزارِ المختنقة بالبخور.أبو الخصيب كلُّها تدور حول المدرسة . أبو الخصيب هي المدرســة .المحموديّةُ هُدِمَت. المحموديةُ هُدِمَتْ على رؤوســنا ، نحن، أبنائها اليتامى.
لندن 17.12.2009
*
يوم المعلم
في ساحةِ مدرسةِ المحموديّةِ
في الصبحِ
نحيّي العلَمَ الوطنيَّ ( أعودُ إلى سبعينَ خلَتْ ).
كنّا ننشِــدُ :
يا أوروبّا لا تُغالي
لا تقولي : الفتحُ طابْ
سوف تأتيكِ الليالي
نورُها لَمْعُ الحِراب ْ ...
يا أوروبّا !
*
الآنَ
وفي لندنَ ( بعدَ الأعوامِ السبعينَ )
وبعدَ غرامِ الموسيقى وغرائمِها ،
أعرفُ ما كنّا نُنشِدُ ،
كنّا نُنشِــدُ
ريتشارد فاجْـنر
في مفتتَحِ الأسطوريّ سيجفرِيد ...
*
يا أوروبّا !
لندن 19.01.2010
*
اضراب بحارة
ربما كان أوّلَ إضرابِ بَحّارةٍ في المياهِ التي تتسوّرُ أرضَ العربْ
كان إضرابَ بَحّارةٍ في مياهٍ عراقيةٍ
كان إضرابَ بحّارةٍ بين مِلْحِ الخليجِ وسَلْسـالِ شطِّ العربْ ...
أتذكّرُ عَمِّي : حميدَ الشهابِ ،
حميدَ الذي لم أزلْ أتمَـثَّـلُــهُ كالفتى ...
قالَ:
كنّا وحيدينَ بين الرصاصــةِ والبحرِ.
لا أتذكّرُ ما قالَ عن ســجنِــهِ ...
كان أصغرَ أعماميَ .
الآنَ أسألُ : مَن يتذكّرُ إضرابَ بَحّارةٍ غير عمّي حميــد الشهاب ،
غيرَ عمّي حميد...
لندن 26.12.2009
*
حناء الفاو
حنّاءُ نساءِ البصرةِ تأتي مع مِلْحِ البحرِ
وأسماكِ البحرِ
ورُوبيانِ البحرِ
من الفاوِ ...
الأوراقُ الـخُضْـرُ ، مخشخشةً تأتي ، في أكياسٍ من خيشٍ.
ستكون الأوراقُ طحيناً أخضرَ مُـغْـبَــرّاً
ستكونُ عجيناً أخضرَ
أخضرَ ، مُـحْـمَــرّاً بعد دقائقَ .
حنّاءُ الفاوِ
خِضابُ لِحىً وجدائلَ
راحاتُ عرائسَ
أخفافُ حُفاةٍ شــقّقَ أقدامَهمو السّـعيُ على طرُقاتِ اللهِ ...
وحِــنّاءُ الفاوِ
كأسماكِ الفاوِ
ومِلْحِ البحرِ
وروبيانِ البحرِ
تَناءتْ ، حتى غابتْ في ما كانَ يُـسَــمَّــى الفاو ...
.....................
.....................
.....................
خالاتي المسكيناتُ سَــكَـنَّ الفاو .
لندن 12.02.2010
*
رأيتُ أبـــي
كنتُ أمشي ، وأبي ، في غابةِ النخلِ
وأحسستُ أبي يرفـعُـني بين ذراعَـيـهِ :
لقد كنتُ خفيفاً
ريشـــةً...
وأبي كان خفيفاً
غيمةً كانَ
وفي القطنِ الذي يفترشُ الغيمةَ
أغمضتُ ( كما في الحلمِ ) عينيّ...
أبي!
المنزل الفقير لندن/ 2 – 7 - 2002
*
تقليد عبد السلام عيون السُّـود
لكـأنّ وجهَكِ ، يا صديقةُ ، في المتاهةِ ، وجهُ أختي
ألَـقٌ له ألقٌ ، ومعنىً غيرُ معنىً ، أو كــــلامِ
لا بُـدَّ أن أمضي ، وأن أجدَ التفرُّدَ في الزِّحــامِ
ولَئنْ تعثّـرتِ الخُـطَى ، ونسيتُ ما مَرمى سهامي
فلأنّ ما يعني الكلامُ الآنَ قــد يعنيهِ صمتــي
" أنا يا صديقةُ متعَـبٌ حتى العَياء فكيف أنتِ ؟
أمشي ، ولكني الـمُـسَـمّـرُ ، والسّـحابُ الجونُ بيتي
ماذا؟ أأهجسُ في الهجيرِ مَـتالعَ الثلجِ البعيـــدِ ؟
هل تُولَـدُ البيداءُ من كَـفّـيَّ، أم كفّايَ بِـيْدي؟
والنهرُ هل غنّى؟ ام الماءُ المتعتعُ بالنشـــــيدِ؟
إني انتظرتُكِ لم تجيئي، وارتجيتُكِ ...لم تَبتِّــي
" أنا يا صديقةُ متعبٌ حتى العَيــاء ، فكيف أنتِ؟
في الطائراتِ أحومُ ، أسألُ عن مَداركِ حيثُ حُـمتِ
زوّادتي بِـيَـدي، وملء مسدّسي الطلَقاتُ مـلأى
أيظلُّ هذا الكونُ أشيبَ؟ كيف لم أعرفْـه بـدءا ؟
ساُهاجمُ الـثُّـكناتِ ، أمنحُ جُندَها خبزاً ومنـأى
وأصيحُ بالمدنِ التي نامت: لأجلكِ كـان صـوتي
" أنا ياصديقةُ متعَـبٌ حتى العياء ، فكيف أنتِ؟
في لندنَ الخضراءِ تأخذني الشوارعُ نحــوَ نَـبْـتي
لي نخلةٌ في أولِ الدنيا ، ولي في النخلِ ســعــفةْ
والكأسُ ماءُ الطَّـلعِ...يا ما كانتِ الأيامُ رشفةْ!
يا ما ، و يا ما ...فلتَغِـمْ عيناكَ، ولْـتُـجْـفِلْـكَ رجفةْ
الليلُ يُضويني ...أنا المقطوعَ عن ولَدي وبنتـي
" أنا ياصديقةُ متعبٌ حتى العياء ، فكيف أنتِ ؟
هل يستقيمُ الخَـطُّ ، حتى عبرَ أنـمُـلةٍ ونَـحْـتِ؟
أم هل تدورُ دوائرُ الدنيا كما كنّـا نــريدُ ؟
بالأمس ِكنّـا أمسِ ، أمّـا اليوم فالأمسُ الجديدُ
أتقول لي عيناكِ إني في التســاؤلِ أسـتزيدُ ؟
قسَــماً بآلهةِ العراقِ لأختمَـنَّ عليكِ صـوتي
" أنا يا صديقةُ متعَبٌ حتى العَياء ، فكيف أنتِ ؟
لندن 18 – 2 - 2001
ــــــــــ
* اللازمة هي لعبد السلام عيون السود
*
لم يتغيّـرْ شــيءٌ
ما زالَ أبي يكــدحُ بين النخلِ وماءِ المدرســةِ،
الناسُ يقولونَ ...
ولكني أعرفُ نفسي خيراً حتى من نفســي؛
مثلاً:
أنا أعرفُ ما لا تعــرفُـهُ الصّـحُـفُ المأجورةُ ،
أو أني أعرفُ أنْ أتأمّـلَ في الشّــاطيءِ
أعني أني أعرفُ أن أتأمّـلَ في ذرّاتِ الرملِ
وفي ما يقذفُـه البحــرُ ، قواقعَ أو عُـشْـباً
أو أســماكاً ميِّـتةً ،
.....
...........
...........
ســتقولُ ( لكَ الحقُّ تماماً ) إنّ العالَـمَ غيرُ العالَـمِ
إنّ منارةَ كارل ماركسَ مُـطْـفأةٌ ...
إنّ الشِّــركاتِ الـعُـظمى ، عابرةَ الأقوامِ ، مُـخَـيِّـمةٌ
حَــسَـناً !
ما شـأني أنا في هذا ؟
أنا ما زلتُ فقيــراً ،
ما زِلتُ فقيراً ، مثلَ أبي، أكدحُ، بين النخلةِ والمــاءِ...
لندن – 5 / 7 / 2002
*
المعاد
وادي بني عبد السلامِ ، إذا أوغلتَ فيه ، بلغتَ بغدادَ السلامِ
كأنني أهذي
كأني مُـعْـنِـقٌ في الليلةِ الألفَينِ قبلَ الألْفِ
أُنصِتُ :
مَرْبَعي يَمَنٌ
ومُنتَظَري نِزارٌ ..
ثَمَّ في " نِزْوى " مدافعُ سوف تأخذني إلى الرّستاقِ
سوف أكون عند الدّكّةِ :
البحرُ القديمُ
وحانةُ البحّارةِ الـحُكَماءِ
ثَمّتَ نسوةٌ متبرِّجاتٌ ، قهوةٌ ، ودِنانُ خمرٍ برتغاليّ ...
وأسمعُ من بعيدٍ موكبَ السجناءِ ، في أغلالِهم ، يمضون نحو القلعةِ .
البِصريّ ، موسـى البدر ، نوخذةٌ ، وفلاّحٌ ، يعيشُ مع الغلامِ
وكان يحكي لي طويلاً ، عن قرىً في شرقِ إفريقيّةَ :
الأحباش
مومباسا
وفندق زنجبار ...
عن اختيارِ القاتِ في هَرَرٍ
وعن جنّيّةٍ في البحرِ كادت أن تعانقَه عميقاً ...
كنتُ أتبعُهُ ، كأعمى ، في متاهته ... طريقِ البومِ
أسمعُهُ وأتبعُهُ إلى أن ينجلي الليلُ المهدهَدُ بالنخيلِ
ومرّةً غنّى :
هَلا ...
بيتي ، هَلا ...
بِنتي ، هَلا ...
وأريدُ " مَسقَطَ " ... يا هَلا !
بيتي هَلا ...
بنتي هلا!
وأريدُ " مَسقطَ " ... يا هَلا !
لندن 10.02.2011
*
حمدان الســاحر
حمدانُ الساحرُ ، أجملُ مَن غنّى أغنيةً ما بين النهرَينِ
وحمدان الساحرُ ( لا أحدٌ )
سَمّى حمدانَ الساحرَ ، حمدانَ الساحرْ !
ولهذا سيكونُ لـهُ ، ما كانَ لـهُ :
دشداشتُه السوداءُ
وأغنيةُ الطرُقاتِ ...
وحمدانُ الساحرُ كان جميلاً
كانت دشداشتُهُ السوداءُ تَرِفُّ على الدربِ الـمُـترِبِ بيضاءَ
ترِفُّ على الدربِ الـمُـتْرِب غصناً ذهباً
وبَخوراً ؛
وتقول:
مرْكَبْ هوانا
من البصرةْ جانا ...
حمدانُ الساحرُ
يمضي في الطرُقاتِ ، خفيفاً ، أبداً
( يشبه حمدانَ الساحر )
أمّا نحن الأوباش
فلن نذكرَ من حمدانَ الساحرِ
إلاّ دشداشتَه ...
سوداء !
لندن 09.11.2012
*
وَعْدُ الله
( هو وعد الله يحــيى النجّار )
في " نُقرةِ السلمانِ " كان الماءُ يأتي بالصهاريجِ الصديئةِ ، عبرَ باديةِ السماوةِ
( نحن كنّا ، آنَها ، سجناءَ )
كانت " نقرةُ السلمانِ " مأوىً للذئابِ وللشيوعيّينَ
أعلاها ،وأعلى العرشَ ، والجيشَ ، انجليزيٌّ
وقالَ : هنا يموتُ الرِّفْقةُ السجناءُ من ظمأٍ ...
وقد ماتوا
بمذأبةِ الهروبِ ...
لقد ماتوا ، ولم يذكرهمو أحدٌ
رفاقٌ جذوةٌ ، ماتوا ، ولم يذكرهمو أحدٌ
ولكني سأذكرُ واحداً
إني سأذكرُ ، في الشتاءِ اللندنيّ الـمُرِّ ، وعدَ الله !
وعدُ الله كان فتىً
فتى الفتيانِ كانَ ... أتتْ به الريحُ الذميمةُ من خريفِ الـمَوصلِ
المحكومُ بالإعدام ، وعدُ الله ، كان مكلَّفاً أمرَ السقايةِ
كان ، مثل الربِّ ، يأتينا بماءِ مستساغٍ من صهاريجِ الحكومةِ ...
كان أصغرَ من شيوعيٍّ
وأكبرَ من شيوعيّي تَبارَكَ . قد سمِعْ
قد كان " وعدُ الله " وعدَ الـحقِّ ...
..................
.................
.................
وعدُ الله ، في الفجر البهيمِ ، مضَوا بهِ
من نقرة السلمانِ
مخترقين باديةَ السماوةِ
خِلْسةً :
شنقوه في بغداد !
لندن 14.11.2012
*
ناسُخُ أرواحٍ ؟
إنه المغربيّ
إنه المغربيُّ محمّد
إنه المغربيُّ محمّدُ بو العيشِ
إنه المغربيُّ محمّدُ بو العيشِ من طنجةَ
المغربيُّ محمّدُ سمّى ابنَه ، عامَ ألفَينِ 2000 :
سعدي يوسف !
ما الذي أفعلُ الآنَ ؟
إنْ جئتُ طنجةَ (دعْني أقُلْ بعد شهرَينِ )
كيف سألقى الفتى سعدي يوسف ؟
أهذا الفتى المغربيُّ ... أنا؟
هل أنا ، سعدي يوسف ، هذا الفتى المغربيُّ ؟
هدوءاً !
سأدعوه كي نتعرَّفَ :
في البرغولا ؟
عند مَدام بورت؟
في حانة دْرِيس علّوش ( أعني البريد ) ؟
أنمضي إلى " قلبِ طنجةَ " ؟
أم نكتفي بالمقاهي التي عند " سوق الـمُـصَـلّى " ؟
قد تكونُ هيَ ، الخيرَ ، خطَّ حيادٍ ...
فليس من السهلِ أن تعرفَ ، الآنَ ، أيَّ فتىً مغربيٍّ ، ستلقى !
................
................
................
ولكنني واثقٌ أنني سوف ألقى هنا
أو هنالكَ
أو هاهُنا :
سعدي يوسف !
لندن 28.12.2012
ستبقى هنا ، تتأمّلُ ساحةَ ثلْجٍ وموتَى وأغْرِبةٍ .
للفصولِ قراءاتُها
وكذلك للنبْضِ ...
لكنّك الآنَ تُطْبِقُ ما كتبَ الثلجُ
تُطْبِقُ ما كنتَ تكتبُ
أو تتفكَّرُ .
أنت ، الـمُـقَـلْـقَـلُ ، تركضُ :
شطُّ العربْ
غيضةُ الكَرْمِ في النهرِ
أبناءُ خالتِكَ ...
الآنَ تركضُ ، مُهْراً ، على الشاطىءِ.
الآنَ تلْقي بنفسِكَ في الماءِ ، ذاكَ الدفــيءِ
وتمضي بعيداً إلى حيثُ تدخلُ قَـصْــبــاءَ
أنتَ تُغافِلُ حُرّاسَ إيرانَ
..............
..............
..............
ساحةُ ثلجٍ وموتى وأغربةٍ ...
ثمّ يأتي الشميمُ :
لقد كنتَ ترقدُ تحت الغصونِ الكثيفةِ
دوحةُ تينٍ
ظهيرةُ صيفٍ ...
شــراعٌ وحيــد !
لندن 25.12.2010
*


الشِّعرُ خُبزي اليوميّ
" لمناسبة يوم الشِّعر العالميّ"
سعدي يوسف
[email protected]
الحوار المتمدن - العدد: 2592 - 2009 / 3 / 21

لي أكثرُ من نصفِ قرنٍ مع هذا الرفيقِ الذي لم يخذلْني يوماً ، وإنْ خذلتُهُ كثيراً ، في محاولتي التعرُّفَ عليه أكثرَ ، ومعرفةَ خِصالِهِ وطِباعِهِ ، وأدبَ مرافقَتِهِ ومُجالسَتِهِ .
والحقَّ أقولُ إنني أبذلُ ما أستطيعُ بَذلَه ،وأستمتِعُ بما أبذلُ .رِحلتي دائمةٌ ، وهو ، أعني الشِّعرَ ، قريبٌ ، ناءٍ .واضحٌ ، غامضٌ .كأنّ الحياةَ بأسْرِها ســاحةٌ للشِعرِ وملعبٌ . وكأنني مُكَلَّفٌ بأن أذرعَ هذه الساحةَ في محاولةِ بلوغِ الفنّ ، بلوغِ
الشِعر.
هل الشعرُ قراءةٌ للحياةِ فقط ؟
أعتقدُ أن الأمرَ أوسعُ وأعمقُ .
للبشــرِ ، طرائقُ عِدّةٌ في قراءة حياتهم ، طرائقُ بينَها العِلمُ والسياسةُ .
لكنّ شأنَ الشِعرِ مختلفٌ .
إنْ كان العِلمُ والمسعى السياسيُّ يَعِدانِ ، ويُعِدّانِ زمناً ما ، فإن الشِعرَ راهنٌ ، مباشــرٌ ، وفوريٌّ . أعني أن قدرةَ الشعرِ على القراءةِ والمشاركةِ والتغييرِ هي أكثرُ فاعليّةً ، وأعمقُ في مجرى العروقِ .
الشِعرُ مُغَيِّــرٌ .
الشعرُ مُغَيِّرٌ في اللحظةِ الحميمةِ التي تجمعُ ، بينَ الراهنِ والأبديّ ، في عناقٍ عجيبٍ .
الأداةُ التي يستعملُها ، هي الأكثرُ تداولاً ، وعاديّةً ، ويوميةً ، في حياةِ الناسِ . إنها في الأسواقِ ، وعـلى شفـَـــتَي الطفلِ ،قبلَ أن تكونَ بين دفّتَي كتابٍ . إنها أداةٌ متاحةٌ ، بسيطةٌ وديمقراطيةٌ . هي اللغةُ المستعمَلةُ .
إذاً ، من أين تأتّى للشِعرِ أن يأتي بمعجزتِهِ ؟
أحسَبُ أن ثمّتَ جذرَينِ غائرَينِ لهذه المعجزةِ :
أوّلُهُما ، أن الشِعرَ يعودُ باللغةِ إلى بداءتِها ، آنَ الكلمةُ مرهفةٌ كالوتَر الحسّاسِ.
ومن هنا علاقتُه.
وثانيهما ، أن الشِعرَ يقدِّمُ الخطوةَ الأولى في السُّـلَّـمِ الذي يحملُ البشرَ إلى السماءِ.
ومن هنا إغراؤهُ.
وأقولُ عن نفسي : ليس لي من حياةٍ فِعليّةٍ ، خارج الشِعر .
الشِعرُ خبزي اليومي .
وأريدُ له أن يكونَ خبزَ الناسِ جميعاً .

لندن 09.03.2009


"أنتهت"



الفهرست

- خطوة أولى..
- بدهية..
- غربة واغتراب..
- سعدي يوسف.. صورة الشاعر في الثمانين (ف1)
القسم الأول: مشارف مرحلة تختلف..
- عمّان 1992 (ف2)
- شواطئ وبلدان.. (ف3)
- الآن فقط.. (ف4)
- الشعر والموقف.. (ف5)
القسم الثاني: الغربة الآن.. السؤال!
- سعدي.. الأكثر عروبة.. الأعمق انتماء.. (ف6)
- عن الالتزام والهوية.. (ف7)
- اشكاليات سعدي يوسف.. (ف8)
القسم الثالث: اعتمالات العشق..
- القصيدة الطازجة.. (ف9)
- سعدي.. الشاعر والانسان.. (ف10)
- الشعر إكسير الغربة.. (ف11)
- الجملة المصوّرة.. (ف12)
- القصيدة (التسجيلية).. اليوميات.. (ف13)
القسم الرابع: مفاتيح الغيب..
- الشعريّ والدينيّ.. (ف14)
- رموز مسيحية.. (ف15)
- رموز اسلامية.. (ف16)
القسم الخامس: مفتاح الغياب..
- رموزية الأخضر.. (ف17)
- الأخضر.. بأقلام النقاد.. (ف18)
- الأخضر الصوفيّ.. (ف19)
- اللونُ.. وما بعدَهُ.. (ف20)
- الشاعر.. النبيّ.. (ف21)
- أرض.. لا ترى..! (ف22)
القسم السادس: استحالات المكان..
- فردوس أبي الخصيب.. (ف23)
- البَصْرَةُ.. [بصر- يبصرُ- (فهو) بصيرٌ] (ف24)
- الشيوعيّ الأخير (لا) يعود إلى البصرة.. (ف25)
- الخلاصة.. (ف26)
القسم السابع: ملاحق..
- ملحق أ- سيرة الشاعر بقلمه.. (كولاج).. (ف27)
- ملحق ب- سيرة بديلة للقرصان.. (ف28)
- ملحق ج- مختارات شعرية.. (ف29)
الشعر خبزي اليوميّ.. ورقة الشعر الكونية (سعدي يوسف)


-الغلاف الأخير للكتاب-
سعدي يوسف.. صورة في الثمانين
بقلم: وديع العبيدي
2014
لندن

الكتابة والرغبة والغاية اليوم أكثر صعوبة.. لأنها كتابة تعترف بتغير كمية الهواء واختلاف كثافته.. كتابة لا تتجاهل نسبة الـ(fake) في بضاعة السوق المفتوحة.. التي طالت حتى المفاهيم والآداب والأيديولوجيات والكرامات الشخصية.. لا أستطيع في هذه العجالة تأليف قاموس جديد مثل – معجم العين- لتداول مفردات جديدة لم تتلوث بالعولمة والاحتلال وتجارة السوق.. ولكنّ هذا أيضا ليس اعتذارا ولا بيانا للاحتجاج أو التنديد.. ولا دعوة من أجل موقف أو مراجعة موقف.. انه مجرد "بوح" افترضته لحظة الكتابة التي ما زال ثمة كفاية من ايمان، لامتلاك نفسها، والانتصار للحقيقة والمحبة والوجود حسب ما تراه..
خيار الكتابة عن الأخضر سعدي بن يوسف هو خيار التاريخ والجغرافيا والشعر والفلسفة والواقع والاحتمال المثقف.. لا شكّ.. ان الكتابة عن الأخضر سعدي ليست نزهة ولا تسلية.. خاصة في هذا الوقت.. والآن!.. ولكن..
إذا كان للكتابة ثمة مبرر.. وثمة فعل، وثمة معنى.. فأنها لا تكون إلا الآن، وبالتحديد المطلق للآن!.. حيث الكتابة عن سعدي بن يوسف ليست الكتابة عن سعدي يوسف.. الكتابة عن سعدي بن يوسف هي كتابة عن الموقف الغائب.. الموقف الذي طال غيابه.. الكتابة عن سعدي يوسف هي المواجهة الأكثر مباشرة مع العالم والامبريالية وكلّ أعداء الشعر والحقيقة والخليقة الكادحة.. الكتابة عن الأخضر بن يوسف هي امتحان الضمير.. في زمن ليس فيه شيء لم يتلوث.. حتى الكلمات والمشاعر والحنين للوطن والأم والحبيبة..!
وديع العبيدي



#وديع_العبيدي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- احتفالية سعدي يوسف في عيده الثمانين (18)
- احتفالية سعدي يوسف في عيده الثمانين (17)
- احتفالية سعدي يوسف في عيده الثمانين (16)
- احتفالية سعدي يوسف في عيده الثمانين (15)
- احتفالية سعدي يوسف في عيده الثمانين (14)
- احتفالية سعدي يوسف في عيده الثمانين (13)
- احتفالية سعدي يوسف في عيده الثمانين (12)
- احتفالية سعدي يوسف في عيده الثمانين (11)
- احتفالية سعدي يوسف في عيده الثمانين (10)
- احتفالية سعدي يوسف في عيده الثمانين (9)
- احتفالية سعدي يوسف في عيده الثمانين (8)
- احتفالية سعدي يوسف في عيده الثمانين (7)
- احتفالية سعدي يوسف في عيده الثمانين (6)
- احتفالية سعدي يوسف في عيده الثمانين (5)
- احتفالية سعدي يوسف في عيده الثمانين (4)
- انحطاط الأمة.. والخوف من الكلمة
- احتفالية سعدي يوسف في عيده الثمانين (3)
- احتفالية سعدي يوسف في عيده الثمانين (2)
- احتفالية سعدي يوسف في عيده الثمانين (1)
- اتجاهات الرأي.. والرؤية العراقية


المزيد.....




- خرائط وأطالس.. الرحالة أوليا جلبي والتأليف العثماني في الجغر ...
- الإعلان الثاني جديد.. مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 الموسم ا ...
- الرئيس الايراني يصل إلي العاصمة الثقافية الباكستانية -لاهور- ...
- الإسكندرية تستعيد مجدها التليد
- على الهواء.. فنانة مصرية شهيرة توجه نداء استغاثة لرئاسة مجلس ...
- الشاعر ومترجمه.. من يعبر عن ذات الآخر؟
- “جميع ترددات قنوات النايل سات 2024” أفلام ومسلسلات وبرامج ور ...
- فنانة لبنانية شهيرة تتبرع بفساتينها من أجل فقراء مصر
- بجودة عالية الدقة: تردد قناة روتانا سينما 2024 Rotana Cinema ...
- NEW تردد قناة بطوط للأطفال 2024 العارضة لأحدث أفلام ديزنى ال ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - وديع العبيدي - سعدي يوسف.. صورة في الثمانين (الكتاب كاملاً)