أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - سلامة كيلة - المهمات الديمقراطية والاشتراكية















المزيد.....



المهمات الديمقراطية والاشتراكية


سلامة كيلة

الحوار المتمدن-العدد: 4335 - 2014 / 1 / 15 - 07:55
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


 §        سلسلة كراسات ماركسية (8)
إشراف سلامة كيلة
§        الطبعة الأولى: 2008
§        منشورات الوعي الجديد
 
 
 
المهمات الديمقراطية
والاشتراكية
  
سلامة كيلة
  
منذ بداية القرن العشرين كانت مسألة طبيعة الثورة من القضايا الجوهرية في الخلافات  بين الماركسيين. والأمر الذي جعلها كذلك هو تحوّل الثورة من الأمم الرأسمالية المتقدمة إلى الأمم التي كانت لم تزل تعيش في "النمط الإقطاعي"، وكان تغلغل الرأسمالية بالكاد قد بدأ، وفي تواشج مع الإقطاع. فإذا كانت الماركسية قد تبلورت في الأمم التي انتصرت فيها الرأسمالية، وبالتالي تحققت مهمات جدية كانت الماركسية تبني تصورها المستقبلي على أساسها، مثل الوحدة القومية والحداثة الثقافية، وتحديث الدولة، وبالأساس هيمنة الصناعة كوسيلة إنتاج، وبالتالي إعادة ترتيب الطبقات والمؤسسات على ضوء ذلك. إذا كانت الماركسية قد تبلورت على ضوء كل ذلك فقد رسم كل من ماركس وإنجلز إستراتيجيتها على أساس البنية الاقتصادية الاجتماعية والسياسية الثقافية، أي على أساس البنية الطبقية الحديثة التي تشكلت على أساس انتصار الرأسمالية، حيث كانا يريا بأن الطبقة العاملة آيلة لأن تتحول إلى أغلبية مع التوسع الصناعي المستمر، وأن جوهر التناقض بات بين الطابع الخاص للملكية والطابع الاجتماعي للعمل. الأمر الذي جعل الاشتراكية هي انتصار الطبقة العاملة بوصولها إلى السلطة وحل التناقض ذاك عبر إلغاء الملكية الخاصة، للبدء بتأسيس مجتمع جديد هو المجتمع الاشتراكي. ولهذا كانت "دكتاتورية البروليتاريا" هي ديمقراطية الأغلبية في مواجهة الأقلية، التي هي البرجوازية.
لكن وضع روسيا لم يكن كذلك، حيث كانت خاضعة للإمبراطورية القيصرية التي تسودها علاقات الإنتاج الإقطاعية، رغم بدء تغلغل الرأسمال ونشوء البرجوازية. وكان التخلف هو سمة المجتمع، حيث يسود وعي القرون الوسطى. بمعنى أنه رغم نشوء البرجوازية إلا أنها لم تحوّل المجتمع لكي تنتصر القيم الرأسمالية. وبالتالي كانت الطبقة العاملة أقلية في مجتمع فلاحي يعيش وضع القرون الوسطى. إذن، لقد كانت تعيش "المرحلة الإقطاعية" وفق التوصيف الماركسي. وإذا كانت البرجوازية في أمم أوروبا هي التي قادت التغيير من أجل انتصار الرأسمالية، مستندة إلى جماهير الفلاحين، ودعم الطبقة العاملة، التي كانت محدودة العدد كذلك. وأيضاً لم تكن الماركسية قد تبلورت بعد. وبالتالي طبعت التطور بطابعها. فقد كان وجودها في وضع كوضع روسيا يفرض أن تحلل الواقع القائم من أجل تحديد دورها، وأصلاً دور الطبقة العاملة التي كانت في الثورات البرجوازية ملحقة بالبرجوازية. هنا وجه "الغرابة" التي وُجدت فيه.
خلافات الماركسيين الروس
وهنا توضعت الخلافات بين الماركسيين الروس. فهل نبقى ماركسيين قويمين أم نصاب بلوثة الهرطقة؟ فـ "الماركسية القويمة" كانت تقوم على أن نشوء الماركسية ارتبط بتحقيق الاشتراكية عبر فعل الطبقة العاملة، وأن الرؤية التي بلورها ماركس تحددت في ذلك. وهنا كان نشوء الماركسية في روسيا يرتبط بهذه المسألة بالتحديد، وإلا جرى التخلي عن الماركسية. ولما كانت طبيعة النمط السائد هو الإقطاع، وبالتالي كان الهدف المطروح هو الانتقال إلى الرأسمالية، وفق المراحل التاريخية التي تبلورت في الماركسية كمسار حتمي للتاريخ البشري. فإن التطور يتحدد في أن تقوم البرجوازية بهذا الدور لأنه دورها، وما على الماركسيين سوى دعمها، وتقديم كل ما هو ممكن لانتصارها، وتحقيق "أقسى الإجراءات التقدمية".
إذن، رغم نشوء الماركسية، والطبقة العاملة، فإن ضعف حجم الطبقة والتخلف الاقتصادي والثقافي العام، ووجود البرجوازية التي هي المعنية بتصفية الإقطاع، يجعلها قوة مساعدة، لأن ليس "من حقهم" كماركسيين تحقيق ما هو ليس من مهماتهم. وبهذا فقد أسست هذه الماركسية لدور مساعد فقط، على أمل انتصار الرأسمالية، لكي تتحول الطبقة العاملة إلى أغلبية، وبالتالي يمكنها تحقيق الاشتراكية، حيث يكون دورها قد حان. هذا هو الخط الذي مثله الأب الروحي للماركسية الروسية، بليخانوف، والاتجاه الذي تصارع مع لينين: المناشفة، وكان متوافقاً مع سياسات الأممية الثانية بداية القرن العشرين.
في المقابل، كان هناك شك في أن البرجوازية قادرة على تحقيق انتصارها، حيث كانت ملحقة بالقيصرية، متداخلة مع الإقطاع، وتنمو بالقدر الذي يسمح به النمط الإقطاعي ذاته. لهذا فهي عاجزة ومترددة وجبانة كما وصّفها لينين. وبالتالي مَن يتجاوز الإقطاع ويحقق المهمات التي تحققها البرجوازية عادة، والموصوفة بالمهمات الديمقراطية (المسألة القومية والمسألة الزراعية والحداثة)، ولكن أيضاً بناء القوى المنتجة الجديدة: أي الصناعة، حيث لا تميل البرجوازية إلى التوظيف فيها إلا بشكل محدود؟ كانت محاكمة لينين تقوم على أن البرجوازية في أمم أوروبا قادت جموع الفلاحين لكي تنتصر على الإقطاع، لقد كان هؤلاء جمهورها نتيجة تناقضهم العميق مع الإقطاع الذي يسحقهم. ومادامت البرجوازية الروسية لا تميل إلى لعب هذا الدور، وهي بالأصل لا تبني الصناعة كما يجب، ومتداخلة مع الإقطاع، فيمكن للطبقة العاملة مادامت قد وجدت ورغم ضعف هذا الوجود أن تلعبه، خصوصاً وأن الماركسية ذاتها يمكن أن تلعب دوراً بالغ الأهمية في هذا الوضع، فقد شكّل تبلورها نقلة نوعية في الصيرورة التاريخية، تؤهلها لأن تعي الواقع بعمق وأن تؤسس الآليات الضرورية لتحويله، عبر وعي وضع الطبقات وميزان القوى فيما بينها، ومطالب كل منها، وبالتالي كيف تقود الطبقة العاملة كل هذه الجموع؟ أي أنها أضافت الوعي الذي يجعل للإرادة دوراً أعلى، وفاعلية أكبر.
إذن، الواقع لا يتضمن ممكنات تغييره وفق الرؤية التقليدية التي حدثت في تاريخ تطور الرأسمالية، أي وفق دور البرجوازية لتأسيس النمط الرأسمالي. وهو هنا يبدو بلا أفق، لأن الطبقة التي من المفترض أن تحدث عملية التغيير ليس لديها مصلحة طبقية في تحقيق ذلك. لكن يمكن للطبقة العاملة أن تقوم بهذا الدور، أي تجاوز الإقطاع. وهي يجب أن تحقق المهمات الديمقراطية ذاتها، وإن في صيغة أخرى، ووفق مصالح طبقات أخرى. لأن ذلك هو أفق التطور الوحيد الذي يسمح بتجاوز القرون الوسطى، ويؤسس لنشوء الحداثة.
في هذا الوضع كان الخلاف على من هي الطبقة التي تحقق المهمات الديمقراطية وتحقق تجاوز الإقطاع؟ البرجوازية أو الطبقة العاملة؟ وربما كانت أوضحت دراسة لينين عن "الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية" (الذي كتب بعد عقدين من رسمه لإستراتيجية الطبقة العاملة) السبب الذي يجعل البرجوازية غير معنية بتحقيق انتصار الرأسمالية في أممها، حيث أن عالمية النمط الرأسمالي والتنافس فيه، الذي أوصل إلى الاحتكار، جعل البرجوازيات في الأمم التي كانت لازالت إقطاعية تهرب من التوظيف في الصناعة، التي نشوؤها وحده هو الذي يجعلها تبحث عن تكوين النمط الجديد، نتيجة ضعفها في إطار التنافس الذي بات عالمياً، ولم يعد محصوراً في سوق قومي، وفي إطار وضع دولي لا يعاني من التنافس الحاد. هنا أصبح تطور البرجوازية هو عبر التشابك مع الرأسمال الإمبريالي، وفي القطاعات التي لا تشهد تنافساً حاداً. لهذا كان يوظف في التجارة والخدمات والمال، وربما في الصناعات الصغيرة. ولكن أيضاً في تشابك مع كبار ملاك الأرض الذين وظفوا في هذه القطاعات كذلك. ولهذا فقد كان لا تهدف إلى التغيير العميق كما فعلت البرجوازية الأوروبية، بل سعى إلى تحقيق تحسينات في البنية السياسية.
وبالتالي لم يكن من أفق، وفق لينين، سوى في دور الطبقة العاملة. خصوصاً وأن وجود الحزب الماركسي يعطي لها فاعلية لا تستطيعها في الوضع العفوي، ويؤسس لها رؤية وإستراتيجية تجعلاها القوة الفاعلة في الصراع الطبقي المتفاقم. وبالتالي لماذا لا تعمل على استلام السلطة من أجل تحقيق المهمات الديمقراطية هي؟ لقد أصبحت من القوة بما يسمح لها بذلك، فلماذا إذن التردد وانتظار ما هو في "الغيب"؟
هنا تبلور الاختلاف بين "ثورة ديمقراطية" تقليدية، مكررة عما حصل في الأمم الرأسمالية، وبين "ثورة ديمقراطية" مبتكرة، تقوم بها الطبقة العاملة بالتحالف مع الفلاحين. ولقد نجحت ثورة أكتوبر استناداً إلى التحليل اللينيني الذي توصل إلى هذا الشكل المبتكر من الثورات الديمقراطية.
ورغم أن تاريخ القرن العشرين قد أبان عن أن هذا الطريق هو الذي أسس لانتصار الاشتراكية في أمم عديدة، وتحقيقها التطور الذي ينجز المهمات الديمقراطية، فإن هناك من مازال يعتقد بأن التطور هو تطور رأسمالي، وأنه يجب دعم البرجوازية في سعيها لتحقيق انتصار النمط الرأسمالي، وهذا هو دور الماركسيين بالتحديد. لكن يتبين بأن هؤلاء يبقون هوامش الآن، لأن تجربة الحركة الشيوعية، والتي قامت على هذه السياسة، كانت في غاية الفشل، وهي لازالت تنتظر من يحقق المهمات الواقعية، دون أن تلتفت إلى أن التاريخ بات يلقي عليها هذه المهمة.
لكن تجاوز دور البرجوازية أسَّس لتبلور رؤية ترى أنه مادامت الطبقة العاملة سوف تلعب الدور الأساس، فإنه يجب أن يكون الشعار هو "دكتاتورية البروليتاريا" (وهو الشعار الذي طرح في مواجهة شعار لينين "دكتاتورية العمال والفلاحين الديمقراطية الثورية"). وهو التصور الذي بلوره تروتسكي سنة 1905، والذي أسّس لأن يصبح هدف التروتسكيين هو الثورة الاشتراكية، طبعاً كثورة راهنة.
هل كانت الطبقة العاملة، محدودة العدد (التي بلغت في روسيا حوالي11% من مجموع السكان)، قادرة على تحقيق الاشتراكية؟ بمعنى هل أن قوتها كانت تسمح لها بذلك؟ ولماذا استطاعت أن تصل إلى السلطة سنة 1917؟ هل كان شعار "دكتاتورية البروليتاريا" الذي طرح سنة 1905 قادراً على أن يجعل الطبقة العاملة قوة قائدة سنة 1917؟ بمعنى هل لو أن هذا الشعار كان شعار لينين منذ سنة 1905 كان ليستطيع أن يصبح الحزب قوة قادرة على الانتصار سنة 1917؟ لقد أصبح حزب لينين قوة جماهيرية على ضوء الرؤية التي حكمت حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي، والتي كانت تقوم على تحقيق المهمات الديمقراطية بالتحالف مع الفلاحين. ورغم أنه كان للمناشفة وجود مهم، فإن اتجاه تروتسكي الذي عمل على تحقيق "دكتاتورية البروليتاريا" ظل محدود التأثير، ولم يتشكل في حزب حقيقي. أليس لذلك علاقة بالشعارات التي طرحها؟
وإذا كنا في صراع مع الماركسية التي لازالت تراهن على التطور البرجوازي، فيبدو أننا في صراع كذلك مع الماركسية التي تعتقد بأن الثورة الاشتراكية هي الهدف الراهن. لاشك في أن انتظار البرجوازية هو كانتظار غودو، حيث أن أي تحليل واقعي لتكوين النمط الرأسمالي العالمي سوف يؤشر إلى أن هيمنة الرأسمال في سوق مفتوح تفرض على الرأسمال الخاص في الأمم المخلّفة، والتي هي ما يحتاج إلى بناء الصناعة وتحديث المجتمع، لا يوظف في قوى الإنتاج بل في الاستهلاك، أي في التجارة والخدمات والمال، وهو في هذه العملية يتكيف مع الرأسمال المسيطر لأنه يوظف في القطاعات التي لا تجعله في تناقض معه، بل يكون جزءاً من دورة الرأسمال الإمبريالي، لأنه يستورد السلع التي يريد تصريفها، ويوظف الرأسمال في البنوك التي يمتلكها، وفي الخدمات التي يعفّ عنها. وبالتالي هل نبقى ننتظر دور البرجوازية والهوة تتسع؟ فقط لأن ماركس دعم انتصار البرجوازية؟ و"فرض علينا" أن نقدّم كل طقوس الحب للبرجوازية التي لا مكان لها في التكوين الرأسمالي العالمي؟ لقد انتظرت أمم طيلة القرن العشرين، ووضعها اليوم أسوأ، واحتمالات تطورها أصعب. لكن هل أن البديل هو الاشتراكية؟
طبيعة التكوين الاقتصادي الاجتماعي
ما الذي يحدد طبيعة الثورة؟ يجب أولاً أن نحدد طبيعة الواقع من أجل تحديد طبيعة الثورة. والواقع هنا هو الاقتصاد والطبقات والخيارات السياسية والأفكار.
إن الصيغة التي تبلورت مع ماركس تنطلق كما أشرنا من وضع انتصرت فيه الرأسمالية، وبالتالي تحققت نقلة هائلة في الاقتصاد والطبقات والبنى والوعي. وأصبحت مسألة الملكية الخاصة هي المفصل الذي على إلغائه تتوقف عملية التطور. بمعنى أن البنى الاقتصادية والوعي والمؤسسات باتت منحكمة لهذه المسألة. فقد أصبحت الصناعة هي وسيلة الإنتاج الأساسية التي تفرض وجود الطبقة العاملة، وتحدد التناقض بين "البرجوازية والبروليتاريا". لهذا كان حل هذا التناقض هو الذي يفضي إلى تحوّل عميق في مصلحة الأغلبية. الأمر الذي جعل دور الماركسية يتحدد في هذه، أي إلغاء الملكية الخاصة من خلال وصول الطبقة العاملة إلى السلطة. وهي عملية الانتقال إلى الاشتراكية.
لكن التوسع الرأسمالي، وتشكيل هذا النمط كنمط عالمي، فرض الحفاظ على البنى التقليدية (ما قبل رأسمالية، والزراعية) في كل الأمم التي تأخرت عن التطور، وتكييفها بما يخدم مصالح الطغم الرأسمالية. وتحول النمط إلى نمط عالمي هو جزء عضوي من بنيته نتيجة الحاجة للمواد الأولية من جهة، ولتصريف السلعة من جهة أخري، خصوصاً وأن نشوء الصناعة أسس لظاهرة جديدة في الاقتصاد، هي فيض الإنتاج، وبالتالي ليصبح السوق الواسع حاجة ملحة، الأمر الذي فرض التوسع العالمي. لكن أيضاً فرض حدود التوسع الصناعي، لأنه بات من الضروري حصر الصناعة في عدد قليل من البلدان التي كانت سباقة إلى ذلك، خشية المنافسة على المواد الأولية والأسواق. أو بتحديد أدق لضمان عدم حدوث منافسة، وبالتالي السيطرة على الأسواق، وتكريس سيادة صناعات المراكز.
وهو الأمر الذي فرض على معظم أمم العالم أن تبقى مخلفة، تعيد إنتاج بناها التقليدية بالتشابك مع مصالح الشركات الاحتكارية الإمبريالية، ودون أن تتشكل بُنى منتجة فيها، خصوصاً الصناعة. حتى الزراعة باتت تتهدم نتيجة تطور الزراعة في المراكز. ورغم تغلغل العلاقات الرأسمالية فيها عموماً إلا أن قوى الإنتاج التي أوجدتها الرأسمالية لم تنشأ فيها، لم يُسمح بأن تنشأ فيها. ولهذا بات اقتصادها زراعياً أو خدمياً أو مهمشاً أو ريعياً يعتمد على موارد المواد الأولية، خصوصاً النفط. وظلت المؤسسات السياسية (الدولة) أقرب إلى مؤسسات القرون الوسطى (مملوكية، أو انكشارية)، وظل الوعي القروسطي هو السائد، الوعي الذي هو الجهل. واستمرت البنية البطركية. بمعنى أنها لم تنتقل إلى الوعي المدني الحديث رغم تغلغله في قطاعات منها، ورغم تغلغل المؤسسات الحديثة في تنظيم الدولة، ونشوء الأحزاب والنقابات.
وإذا كان "النمط الإقطاعي" قد جرى تجاوزه، عبر إنهاء العلاقات الريفية العتيقة، وتحقيق الإصلاح الزراعي في كثير من أمم العالم، وبالتالي تلاشي كبار ملاك الأرض ونشوء رأسماليين زراعيين. فإن النمط المتشكل لم يصبح رأسمالياً بعد. لقد هيمنت رأسمالية ريعية أو تجارية أو توظف في الخدمات والبنوك، وبالتالي كانت في تبعية مع الرأسمال الإمبريالي. وكانت معنية بالحفاظ على البنى التقليدية مع تكييفها وفق مصالحها، ومصالح الرأسمال الإمبريالي. وهي ما أسمي الكومبرادور، أو الرأسمالية التابعة.
كما أن العديد من القضايا التي فرضت الحداثة تحققها لم تتحقق، مثل الوحدة القومية، والعلمنة والديمقراطية، حتى الاستقلال بات "نسبياً". ولم يتحدث الوعي ولا تحدثت المؤسسات.
وهنا يمكن القول بأن العالمي بات ينقسم إلى نمط رأسمالي في المراكز، هو المنتج، ونمط رأسمالي في الأطراف، تتحدد رأسمالية في سيادة العلاقات الرأسمالية بناء على وجود القوى المنتجة في المراكز. وهو ما جعله جزء من الدورة الاقتصادية، لكن في إطار دورة التوزيع وليس الإنتاج. وهو الأمر الذي فرض تشكل بُنى مشوهة في الوعي والمؤسسات والاقتصاد، والتكوين الطبقي. فقد تراجع وضع الريف في التكوين المجتمعي في كثير من الأمم لكن لمصلحة مدينة مكتظة يقطنها المهمشون، وتعاني من البطالة، وتضخم أجهزة الدولة. وبالتالي فقد تركت الطابع الريفي دون أن تصبح مدنية، مع تهميش لقوى الإنتاج الفلاحية دون تطوير الصناعة. ولقد تحققت كل هذه العملية بفعل دور حركات التحرر قبل أن تنهار، والتوسع الرأسمالي ذاته الذي كان يحتاج إلى تغيير في البنى.
هذا الوضع أعاد طرح مسألة دور الماركسيين. ولقد طرحت الخيارات ذاتها التي كانت مجال خلاف في روسيا، وبعدها في الصين والهند الصينية وأميركا اللاتينية. وكان المنتصر فيها هو الخيار الذي أرسى أسسه الرفيق لينين، مع تطوير مستمر في البلدان الأخرى (الصين مثلاً). فهناك المراهنون على دور البرجوازية، وبالتالي لازالوا ينتظرون قيادتها لـ "النضال" من أجل انتصار الرأسمالية، تلك التي هي مثل الرأسمالية في أوروبا وأميركا. وهؤلاء هم استمرار للحركة الشيوعية التي تلبست هذه السياسة منذ نهاية ثلاثينات القرن العشرين. والذين لازالوا ينحكمون لوعي "ماركسي" درسوه لدى "الماركسية السوفيتية". وهم مستمرون رغم الفشل المريع طيلة عقود سبعة استطاع ماركسيون في أمم أخرى أن يحققوا انتقالة مهمة لبلدانهم. وهم يسعون لانتصار الرأسمالية في ظل سيادة العلاقات الرأسمالية، ودون اقتناع بأن هذا الشكل الرأسمالي هو الشكل الوحيد لوجود الرأسمالية في الأطراف. وهنا يكون الوهم أكبر مما كان بداية القرن العشرين، والذي حكم بليخانوف والمناشفة والأممية الثانية. ويصبح ضحالة، خصوصاً وأن الميل الطبقي للترسمل دفع الكثير من هؤلاء للتحول إلى الليبرالية، والتعلق بأذيال العولمة.
لكن هناك الذين توصلوا إلى أن سيادة العلاقات الرأسمالية تعني انتصار الرأسمالية، وبالتالي باتت مهمة الماركسيين هي تحقيق الاشتراكية. فمادامت الرأسمالية قد انتصرت يجب أن يعمل الماركسيين على تحقيق الاشتراكية. وبالتالي باتت الثورة هي ثورة اشتراكية. وكان قطاع من الماركسيين يكرر التأكيد على الثورة الاشتراكية بغض النظر حتى عن هذه التحولات، كاستمرار لرؤية تروتسكي. هل أصبحت هذه الأمم مؤهلة لأن تنتقل إلى الاشتراكية؟ وهل أن ميزان القوى الطبقي يسمح بذلك؟
إذا كان رفض فكرة التطور البرجوازي ينبع من أن البرجوازية ذاتها باتت تجمل مشروعاً آخر، وأن الوضع العالمي بات لا يسمح بنشوء برجوازية تحمل هذا المشروع، فإن الحوار حول هل أن طبيعة الثورة هي ديمقراطية أو اشتراكية، يبدو أهم، حيث باتت هي التي تستحوذ على النقاش، كما أن هناك قوى تتكلم عن الاشتراكية كخيار في إطار طرح "عمومي" للاشتراكية. لتبدو الاشتراكية هنا كتعبير عن البرجوازية الصغيرة التي تغلف مطامحها بشعارات اشتراكية. ولهذا يجري الخلط بين الأهداف والمهمات بطريقة تثير التشوش.
إذن، كيف يمكن أن نحدد طبيعة الثورة، وعلى أية أسس؟
البنى القائمة والمهمات المطروحة
رغم سيادة العلاقات الرأسمالية فإن التكوين الاقتصادي الاجتماعي مختلف بشكل كبير عما هو الوضع في الأمم الرأسمالية. حيث أن سمة الرأسمالية هي انتصار قوة الإنتاج الجديدة التي هي الصناعة، وتشكيل مجتمع ينطلق من هذا الأساس. وحين تفتقد قوة الإنتاج هذه كيف يمكن أن تتطور جملة العناصر الأخرى؟ الوعي والمؤسسات والاقتصاد؟
إن السمات التي نشهدها في الأمم المخلفة توضح بأن سيادة العلاقات الرأسمالية تخفي قاع عميق من تخلف الاقتصاد والبنى الاجتماعية والوعي والمؤسسات. إنها هنا لازالت تعيش القرون الوسطى مطعمة ببعض الحداثة، أو بحداثة شكلية.
وهنا تحتاج هذه المجتمعات إلى تطوير شامل. حيث أن "ردم الهوة" التي أوجدها نشوء الصناعة، وتمثل الحداثة التي قامت على أساسها، تفترض تطوير القوى المنتجة الحديثة: أي الصناعة. وإذا كانت البرجوازية التي نشأت منذ نهاية القرن التاسع عشر لم تعمل على ذلك (رغم أن بعض أقسامها حاول ذلك لكن السيطرة الاستعمارية والمنافسة الرأسمالية هزمته)، ومالت إلى التوظيف في القطاعات التي لا توجد فائض قيمة (التجارة والخدمات والمال) ولا تدفع نحو التطوير المجتمعي الشامل (توحيد السوق، التحديث الثقافي والمؤسساتي، العلمنة وتجاوز وعي القرون الوسطى)، فإن هذه مسألة جوهرية حين التفكير في التطور والحداثة، حيث لا حداثة ولا تطور دونها. فأولاً يجب أن ينتج المجتمع السلع التي يحتاجها لتوفير حياة لائقة، كما للتعامل المتكافئ مع العالم. وبالتالي فإذا كانت البرجوازية الأوروبية قد استندت إلى تطور الصناعة لكي تفرض تحقيق المهمات الديمقراطية (الوحدة القومية، العلمنة،تحديث التعليم والمؤسسات، والديمقراطية)، فقد غدت هذه المسألة جزء من المهمات المطروحة في سياق تحقيق التطور. وباتت تبحث عن بديل للبرجوازية التي كفت منذ زمن بعيد عن التوظيف هنا، وهو ما فرض على الدولة ذاتها (التي يُعمل على تحديثها) أن تحقق هذه المهمة بالغة الأهمية لتحقيق مجمل التطور.
ثم أن هذا التطور يجب أن يترافق مع تحديث الوعي المجتمعي، عبر تحديث التعليم. حيث أن العصر الصناعي بات في تناقض مع وعي القرون الوسطى في مناطق نشوء الصناعة، في الأمم الصناعية، وهذا ما يجعل تحديث التعليم والوعي بتأسيس وعي مدني حيث مهمة جوهرية في طريق تحقيق الانتقالة الضرورية. وهذا يعني تجاوز الأيديولوجية التقليدية السائدة التي قامت على أساس الدين، والمنهجية التي حكمتها، وهو الأمر الذي يعني تكريس العقلانية والفردية، كما تكريس وعي المواطنة وفصل الدين عن الدولة والسياسة. وتجاوز الوعي القبلي والمحلي والطائفي عبر بلورة الوعي بالانتماء إلى أمة ووطن، والى مجتمع مدني حديث.
إن مسألة تجاوز وعي القرون الوسطى، القدري والسكوني والسطحي، والقطيعي، هي من المهمات الضرورية والحاسمة. فقد كانت مسألة حاسمة في تطور الرأسمالية، والتهيئة للانتقال إلى الاشتراكية. فدون وعي الذات/ الفرد ليس من الممكن بلورة الوعي الطبقي، وعي الانتماء إلى طبقة. ودون تحديد هوية جديدة تخص الفرد ليس من الممكن تجاوز الوعي بالانتماءات السابقة للرأسمالية. إن نشوء الصناعة يرتبط حتماً بتعميم الوعي المدني الحديث، الفردية والمواطنة والعقلانية والمأسسة.
وفي سياق عملية التطور هذه تنفرض مسألة حل المسألة القومية في شكليها: الوحدة للأمم التي لم تتوحد، أو منعت من الوحدة وفرض عليها التفكك، والحقوق القومية للأقليات التي تعيش في إطار أمم أخرى. بمعنى تجاوز منطق القطيع هنا لمصلحة علاقة تقوم على أساس المواطنة وتعطي الحقوق للقوميات والأقليات القومية.
وأخيراً، صياغة النظام السياسي على أساس ديمقراطي وعلماني.
إذن، هنا تتحدد المهمات في بناء القاعدة الاقتصادية عبر تطوير القوى المنتجة الصناعية والزراعية، وتحديث الوعي بما يقود إلى تجاوز القرون الوسطى، وإعادة صياغة الدولة لكي تكون ديمقراطية وعلمانية وحديثة، وإعادة صياغة الهوية وترتيبها بما يحقق المساواة بين المواطنين. هذا هو مشروع الحداثة في الأمم المخلّفة، وهو المشروع الذي يجب على الماركسيين أن يعملوا على تحقيقه، هو مشروع المرحلة الراهنة. المشروع الراهن. فهل يحققوه في سياق تحقيق الاشتراكية أم يحققوه في إطار مرحلة سابقة هي مرحلة الثورة الديمقراطية؟
هذا يستدعي تحديد معنى الاشتراكية.
معنى الاشتراكية
ما يوجد اختلاطاً هنا هو التحديدات المختلفة لمعنى الاشتراكية، فماذا نعني بالاشتراكية إذن؟ من خلال التحديد الماركسي الذي أشير إليه ابتداءً يمكن تحديد معنى الاشتراكية بثلاث مسائل، هي التالي:
أولاً، استلام الطبقة العاملة للسلطة، وثانياً، حلها التناقض بين الطابع الخاص للتملك والطابع الاجتماعي للعمل عبر إلغاء الملكية الخاصة. وثالثاً، إعادة صياغة العلاقات الاجتماعية والدولة على هذين الأساسين. أي إعادة بناء المجتمع على أسس جديدة. وكان وصول الطبقة العاملة مرتبطاً برؤية ماركس/ إنجلز إلى أنها تتحول إلى أغلبية، وإذا كان يطرح الثورة كصيغة لوصولها السلطة فقد راهن أيضاً على الديمقراطية والنظام الانتخابي، حيث كان يعتقد بأن تحولها إلى أغلبية يجعلها قادرة على الوصول إلى السلطة عبر الانتخابات.
والسؤال المطروح هنا هل أن الترابط بين وصول الطبقة العاملة للسلطة وإلغاء الملكية الخاصة "حتمي" في تحقيق الاشتراكية؟ وكيف يمكن أن تصل الطبقة العاملة إلى السلطة؟ هل حجمها حاسم هنا؟ أم هي قادرة على الوصول إلى السلطة بغض النظر عن حجمها؟
بالنسبة للسؤال الأول يمكن التأكيد على أن الاشتراكية هي نمط إنتاج جديد. وإذا كانت الصناعة هي وسيلة الإنتاج الأساسية في هذا النمط (كما في المرحلة الرأسمالية) فإن الانتقال لتحقيقه يقوم على إلغاء الملكية الخاصة لوسيلة الإنتاج هذه. وهنا النقلة النوعية التي تؤسس، التحول النوعي الذي يؤسس، لنشوء هذا النمط. وبالتالي لا يكفي وصول الطبقة العاملة إلى السلطة من أجل تحقيق الاشتراكية. سلطة الطبقة العاملة عنصر من عناصر النمط الاشتراكي، لكنها ليست العنصر الحاسم. حيث يجب أن تتحول البنية التحتية في اتجاه اشتراكي، وهو الأمر الذي لا يتحقق سوى عبر إلغاء الملكية الخاصة.
فإذا كان نشوء الملكية الخاصة هو الأساس في نشوء الطبقات والمجتمع الطبقي وفق الفكرة العظيمة التي توصل إليها كل من ماركس وإنجلز وأصبحت مبدأ في الماركسية، فإن "العودة إلى المشاعية" في صيغة أرقى، أي متضمنة كل التطور الواقعي والفكري الذي تحقق في المجتمع الطبقي، يكون بالعودة إلى إلغاء الملكية الخاصة. فهذا هو الأساس الذي يفتح الأفق لتأسيس مجتمع مختلف عن المجتمع الطبقي، ويقوم على إنسانية الإنسان. وهنا يتجاوز الطبقات بما فيه الطبقة العاملة. هنا يكون إلغاء الملكية الخاصة هو محور التطور المجتمعي الجديد. هو الانتقالة التي يقوم عليها بناء المجتمع الجديد.
وهنا يكون وصول الطبقة العاملة إلى السلطة اللحظة التي تقوم فيها بإلغاء الملكية الخاصة من أجل إعادة صياغة المجتمع على أساس ذلك. وهنا إلغاء الملكية الخاصة هو المحور من أجل تحقيق الاشتراكية. وكل الذين انتقصوا من قيمة هذه المسألة، فتجاهلوا أهمية الملكية الخاصة في التحليل الماركسي، استناداً إلى الوضع الواقعي لوجودها، وقعوا في أخطاء كبيرة سواء في التعامل مع التجربة الاشتراكية، أو في تبني هدف تحقيق الاشتراكية.
ولأن إلغاء الملكية الخاصة هو أساس الانتقال إلى الاشتراكية في التحليل الماركسي، فقد ركز ماركس في تحليلاته على "تمركز الملكية الخاصة"، فتوقع أن يفضي تطور الرأسمالية إلى أن تحتكر أقلية ضئيلة ملكية المجتمع، وبالتالي أن تتحول الأغلبية إلى طبقة لا تملك إلا قوة عملها. هذه هي اللحظة التي تجعل إلغاء الملكية الخاصة يحدث انقلاباً مجتمعياً هائلاً. حيث يكون من مصلحة الأغلبية التي لا تملك سوى قوة عملها أن تلغى الملكية الخاصة، لأن ذلك يحقق لهم انتقالة هائلة في حياتهم. لينهي استغلالهم، ويزيل اغترابهم. ويجعلهم المالكون، لكن ليس بالمعنى الفردي بل بالمعنى الجمعي: كطبقة، لكنها الطبقة التي ألغت ذاتها بإلغائها الطبقة الرأسمالية (عبر إلغاء ملكيتها)، وأسست لبدء حياة الإنسان الحر.
هذا التحديد لمعنى الاشتراكية يفضي إلى تناول السؤال الثاني المتعلق بوصول الطبقة العاملة إلى السلطة. ولا أقصد هنا طريق الوصول إلى السلطة: الثورة أم الديمقراطية؟ بل أقصد أنه في كلتا الحالتين كيف يمكن أن تصل الطبقة العاملة إلى السلطة؟ وبالتالي أشير إلى مقدرة هذه الطبقة، وهو الأمر الذي يتعلق بحجمها وفاعليتها. فقد أشرت للتو بأن ماركس وإنجلز كانا يعتقدان بأنها سوف تصبح أغلبية، ولهذا يمكنها عبر الثورة أو الانتخابات الوصول إلى السلطة. وأشرت كذلك بأنهما استندا إلى "تمركز الملكية"، وبالتالي مصلحة هذه الأغلبية في "شطب" الملكية الخاصة لأنها وسيلة شقاءهم.
هذه مسألة في غاية الحساسية، وغالباً ما يجري تجاوزها حين التفكير بالثورة. وهذا ما سوف نلمسه حين مناقشة مسألة طبيعة الثورة. لهذا يطرح السؤال: هل أن وصول الطبقة العاملة إلى السلطة يفرض حتماً إلغاء الملكية الخاصة؟ وهو السؤال الذي يفتح الأفق على هل أن مهمتها هي تحقيق الاشتراكية، أو يمكن أن تحقق مهمات أخري هي في طبيعتها سابقة للاشتراكية؟ وهو الأمر الذي يفتح على مسألة أن وصول الطبقة العاملة إلى السلطة لا يعني قيامها حتماً بالمسألة المحورية لتحقيق الاشتراكية، أي إلغاء الملكية الخاصة. وربما هنا تأتي أهمية إضافات لينين وإسهاماته بعد ثورة أكتوبر. وهي المسالة التي هي في صلب النقاش حول طبيعة الثورة: ديمقراطية أم اشتراكية؟
حيث أن المسألة سوف تكون واضحة حينما يتحقق تطور البنية التحتية، ويتمركز الرأسمال، وتصبح أغلبية المجتمع هي "قوة عمل". لكن سيبدو الوضع معقداً حينما تكون البنية التحتية تعاني من غياب قوة الإنتاج الحديثة، وبالتالي لم يدخل المجتمع مرحلة الوعي المدني الحديث. لأن المسألة ليست مسألة ميكانيكية تتعلق بإلغاء الملكية الخاصة، بل أولاً بموافقة الأغلبية على ذلك، وثانياً أن يكون الوعي المجتمعي مؤهل لهذه النقلة النوعية في التطور التاريخي. وإذا كان كل تطور لا يسير وفق "ترسيمة" محددة، مصاغة في الذهن، أو هي نتاج الذهن، فإن المسألة ستبدو أعقد مما أشرت للتو، لكن التجريد يشير إلى "خلاصة" المسألة. بمعنى أنه يمكن أن يجري "تسمية" ما يحقق الماركسيين بالاشتراكية، كما جرى بعد ثورة أكتوبر، لكن ما هي المهمات التي تتحقق في الواقع؟ كما أن ستالين قد ألغى الملكية الخاصة بداية ثلاثينات القرن العشرين، وشرع في تحقيق الاشتراكية، لكن ماذا تحقق في الواقع؟
التاريخ أغنى من كل "ضيق أفق وعينا". لكن، ولكي نستطيع تحقيق التطور، يجب أن نبدأ من "التحليل الملموس للواقع الملموس" كما كان يفعل ويشير الرفيق لينين.
يمكن أن تتحقق هذه المهمات في إطار المرحلة الاشتراكية مادام الماركسيين هم الذين يقودون تحقيقها. وما من شك في أن الماركسيين هم أكثر معرفة بقيمة الصناعة ، وكذلك أكثر تقديراً لأهمية الوعي في التطور التاريخي. وأيضاً الماركسية تؤسس لتكوين ديمقراطية عميقة لأنها تعمل على تحقيق "الحرية الكاملة" للإنسان.
ولهذا بات الماركسيون هم الأكثر التزاماً في تحقيق مهمات التطور الديمقراطي. وخصوصاً أن الوعي الذي تؤسسه الماركسية، وهو أساس ضروري جداً في وعي الواقع علمياً وبالتالي وعي آليات تغييره، هذا الوعي يسمح بتحقيق تطور مدروس، عبر تحديد المهمات التفصيلية، والخطوات الضرورية لتحقيق كل منها، والأولويات فيها. بمعنى أن تضيف الوعي للتحكم في صيرورة التطور، الوعي الشمولي الذي يخدم مصالح مجمل المجتمع وليس طبقة فيه. وهو هنا يسرّع عملية التطور.
ولهذا يمكن أن يقال أنه في ظل إلغاء الملكية الخاصة يمكن تحقيق كل ذلك. أو يمكن أن يتحقق عبر السعي لاستلام الطبقة العاملة السلطة. وما من شك في أن استلام الطبقة العاملة السلطة هو ضرورة، لكن كيف تستلم السلطة وبأي برنامج؟ هل أن الاشتراكية هي هذا البرنامج؟
وضع الطبقات وميزان القوى الطبقي
كما أشرنا ارتبطت الاشتراكية بالطبقة العاملة لأن هذه "لا تملك ما تخسره"، وبالتالي يصبح إلغاء الملكية الخاصة ضرورة لها. وهي هنا تحقق الانتقالة إلى الاشتراكية. أو تكون الاشتراكية نتيجة طبيعة لوعي الضرورة. لكن الطبقة العاملة ليست هي الأغلبية في كل الأمم المخلفة، ولا حتى في الأمم الرأسمالية. فكيف ستصل إذن إلى السلطة من أجل تحقيق الاشتراكية؟ هل أن مصالح الفلاحين والبرجوازية الصغيرة المدينية، وهي الطبقات الأوسع في المجتمع،  تجعلها توافق على إلغاء الملكية الخاصة؟ وهل أن بمقدور الطبقة العاملة أن تصل إلى السلطة دون التحالف مع هذه الطبقات؟ هذه الطبقات التي من مصلحتها تحقيق المهمات الديمقراطية تلك، لكن دون إلغاء المكية الخاصة؟
لهذا يبدو مفصل تحقيق المهمات الديمقراطية أم إلغاء الملكية الخاصة حاسماً هنا. هل سنطرح على الفلاحين (فيما عدا الملاك الكبار) أننا نعمل من أجل تخليصهم ملكياتهم؟ أم سنطرح على الحرفيين الصغار، في مرحلة يكون لهم ضرورة مادامت الصناعة لم تتطور كفاية، أننا سنصادرها؟ أم نقول الشيء ذاته للتجار الصغار وحتى المتوسطين؟ وهذه قطاعات كبيرة في التكوين الطبقي القائم. طبعاً سوف يكون واضحاً أنه يجب مصادرة الملكيات الرأسمالية الكبيرة التي تتركز في القطاعات غير المنتجة، وملكية كبار ملاك الأرض. لكن أكثر من ذلك؟ لا. وإلا كانت معظم الطبقات الشعبية غير الطبقة العاملة والفلاحين الفقراء ضد الثورة، وضد التغيير.
هنا ميزان القوى الطبقي حاسم، ولا يجوز أن يجري تجاهله، لأن ذلك يعني الفشل في تحقيق الثورة. إن مسعى الفلاحين، الذي سوف يقاتلون ضد كبار ملاك الأرض، هو الحصول على الأرض. هو تملك الأرض. وهذه مسألة تاريخية لن تحل إلا في سياق تطور طويل. والحرفيين والملاك الصغار (التجار وأصحاب الصناعات الصغيرة) يسعون لأن يتحسن وضعهم، أن تنتهي سيطرة الرأسمالية التي تحدّ من ممكنات تطور وضعهم. وهناك قطاعات كبيرة من الأساتذة والمهنيين (الأطباء، المهندسون، المحامون) يطمحون لتحقيق التطور لكنهم يرفضون إلغاء الملكية الخاصة، إلا من أصبح ماركسياً، وهذه فئة محدودة. وبالتالي سنلمس بأن طموح هذه الطبقات لتحقيق المهمات الديمقراطية يرتبط بميلهم لأن يتحسن وضعهم الطبقي لا أن يُحرموا من حق التملك.
ولهذا نرى أن كتلة أساسية من الطبقات التي تسعى لتحقيق التطور ترى أن هذا التطور يتحقق دون إلغاء الملكية الخاصة، بينما تطمح الطبقة العاملة في إلغائها. هل تستطيع الطبقة العاملة وحدها تحقيق الثورة؟ الوضع القائم لا يؤشر إلى ذلك، لا من حيث الحجم، ولا من حيث التأثير. وبالتالي كيف يمكن أن يكون هدفنا الراهن هو تحقيق الاشتراكية؟ هنا يكون طرح "الهدف النهائي" الآن كارثة، حيث أنه يعزل الماركسيين، والطبقة العاملة. وهذا ما نلاحظه في كل الماركسيين الذين رفعوا شعار الاشتراكية في الأمم المخلفة، حيث ظلوا هامشيين. حتى في الطبقة العاملة، لأن ما تطمح إليه في الواقع الراهن هو تحسين وضعها المعيشي وتوفير حق الضمان الاجتماعي والعمل ومجانية التعليم.
وبالتالي فإذا كانت الأولوية الآن لتحقيق المهمات الديمقراطية، لأنها أولوية في الواقع، وإذا كان تحقيق هذه المهمات ضرورة لتحقيق الانتقال إلى الاشتراكية، فلماذا إذن يرفع شعار الحد الأقصى؟ إن رفع هذا الشعار يشق التحالف الضروري لتحقيق هذه المهمات، ويترك الفلاحين والبرجوازية الصغيرة لتأثير قوى أخرى، قد تجرها في سياق يحقق مصالح فئات محدودة من البرجوازية أو البرجوازية الصغيرة أو الفلاحين. ويضع الطبقة العاملة في موقع ضعيف.
إذن، إن الوصول إلى السلطة يفرض تشكيل تحالف طبقي واسع يضم الطبقات الشعبية (العمال والفلاحين الفقراء والمتوسطين والبرجوازية الصغيرة المدينية)، وبالتالي يعبّر عن المصالح المشتركة فيما بينها، بغض النظر عن المطمح النهائي لكل منها. وهو التحالف الذي يسعى لإسقاط البرجوازية الكومبرادورية المسيطرة، في إطار الصراع مع الرأسمالية الإمبريالية، حيث أن التناقض الأساسي يكمن هنا، نتيجة أن "عبء" وجود النمط الرأسمالي، ومفاعيله، هما اللذان يقفا، بالترابط مع الكومبرادور المحلي، حاجزاً أمام تحقيق التطور. وبالتالي فإن الصراع هو ضد الرأسمالية المهيمنة، ومن أجل إنهاء هيمنتها. في سياق السعي "لردم الهوة"، ردم هوة التطور، وتأسيس البنية الاقتصادية الاجتماعية والسياسية الحديثة.
هذا الوضع الذي يحكم الطبقات يجعل التفكير في المهمات مسألة كبيرة الأهمية. لأن تجاوز "الفارق الحضاري" الذي تشكل بفعل نشوء الرأسمالية وسيطرتها على العالم في سياق منع تطوره، وبالتالي إعادة إنتاجه لتخلفه، ليست بالمسألة البسيطة، خصوصاً وأنها تتحقق في إطار الصراع مع الرأسمالية ذاتها. ولسوف يبقى إكمال تحقيقها قائماً حتى في المرحلة الاشتراكية. وسنلحظ هنا بأن ما حققته التجربة الاشتراكية هو هذا بالتحديد، حيث أوجدت أمماً صناعية حديثة. بمعنى أنه حتى ونحن نرى ضرورة الانتقال إلى الاشتراكية فإن مهمات ديمقراطية سوف تبقى ماثلة، وبالتالي سوف يكون من مهماتنا تحقيقها.
هنا تكون المهمات الديمقراطية هي برنامج الحد الأدنى في سياق سعى الماركسيين والطبقة العاملة لتحقيق الاشتراكية. وسنلحظ هنا بأن غياب الرأسمال الخاص الذي يوظف في القوى المنتجة، الصناعة والزراعة، فرض في العقود الأخيرة حتى على البرجوازية الصغيرة أن تنشط من خلال الدولة لتطوير الاقتصاد. ولقد أصبح واضحاً أن تطوير الاقتصاد بات مرتبطاً بدور الدولة الحمائي والاستثماري. وبهذا فقد أصبحت "رأسمالية الدولة" كما أسماها لينين هي صيغة توافق بين الطبقات الشعبية. وهذه خطوة مهمة في طريق الانتقال إلى الاشتراكية.
ولقد شهد القرن العشرين تجارب عديدة في هذا المجال، قادتها الفئات الوسطى (والريفية خصوصاً)، لكن الميل المتأصل لديها لتحقيق التملك الخاص جعلها تمارس عملية نهب منظم أفرغ هذه التجارب من كل منجزاتها، وأعاد السيطرة لرأسمالية كومبرادورية مافياوية. ولهذا أصبحت مسألة الطبقة التي تقود الثورة وتحقق التغيير مسألة مركزية هنا. الأمر الذي يجعل قيادة الطبقة العاملة مسألة مصير فيما يتعلق بتحقيق التطور، لأنها تفكر في تحقيق التطور العام وليس التطور الفردي. وهو الأمر الذي يجعلها تعيد تدوير الفائض في خدمة التطور المجتمعي العام وليس نهبه. ووفق خطة مدروسة، وانطلاقاً من اختيار الكادر الكفؤ، وتحت الرقابة الشعبية العامة. هنا تلعب الماركسية دوراً فعلياً عبر وعي مشكلات الواقع وبالتالي تحديد السياسات الضرورية لتجاوزها في إطار رؤية شاملة.
الدور القيادي للطبقة العاملة
إذا كانت المهمات المباشرة هي المهمات الديمقراطية، وإذا كانت توحد طبقات متعددة، هي ما أسمي الطبقات الشعبية، فإن دور الطبقات هنا هو أمر حاسم. حيث تميل الطبقات التي يسكنها حلم الترسمل إلى أن تستغل أية خطوة يمكن أن تفتح الأفق لترسملها لكي تسارع الخطو نحو الترسمل، بغض النظر عن انعكاس ذلك على التطور العام، وعلى الطبقات الأخرى. لهذا يفضي وصولها إلى السلطة إلى أن تنهب الفائض المتراكم بدل أن توظفه في تكوين قوى الإنتاج. الأمر الذي لا يجعل التطور يأخذ مداه الضروري لكي يُحدث النقلة في التكوين المجتمعي المخلّف. فيعاد إنتاج التخلف، لكن بطبقة رأسمالية جديدة هي خليط من المافيات التي نهبت والرأسمالية القديمة. كما يعيد الربط مع النمط الرأسمالي العالمي من موقع التبعية. هذه هي خبرة حركات التحرر الوطني في القرن العشرين.
لهذا، ولكي تتحقق المهمات الديمقراطية ويتحقق "ردم الهوة" وتجاوز التخلف، ليس من خيار سوى أن تلعب الطبقة العاملة الدور القيادي الفاعل. وإذا كانت هذه المسألة خاضعة لميزان القوى في الصراع الواقعي، وبالتالي يمكن أن تتصدر فئات برجوازية صغيرة في لحظة، أو تكون هي الفاعلة أكثر، فإن تحديدها يفرض على الطبقة العاملة أن تضع الإستراتيجية التي توصلها إلى ذلك. أي يجب أن تضعها نصب أعينها. وأن تؤسس انطلاقاً من أنه يجب أن يكون بمقدورها الوصول إلى ذلك.
وفي هذا المجال يمكن أن نلمس سمات أساسية تجعل هذا الحلم ممكناً، وهي التالي:
1) هنا تلعب الماركسية دوراً مفصلياً، حيث أنها تستطيع وعي الواقع ووعي آليات تغييره. وهو ما يزيد من فاعلية الدور الإرادي، هذا الدور الذي يقوم على الوعي لكي تتحقق فاعليته. وبهذا تصبح الطبقة العاملة طبقة لذاتها، تعي أهدافها التكتيكية والإستراتيجية، وتعي دورها بشكل عميق. وتعرف كيف تخوض الصراع بما يحقق الانتصار.
2) وفي الطبقة نواة متماسكة، هي تلك التي تعمل في الإنتاج، والتي تستطيع أن توحد مجمل الطبقة حولها. وبالتالي فرغم ضعف حجمها تصبح كتلة متماسكة، ومن ثم فاعلة. إنها يمكن أن تشكل كتلة صلبة تبلغ نسبتها 30- 40% وفق الأوضاع في الأمم المخلفة. بينما لا تستطيع أي من الطبقات الأخرى أن تشكل كتلة متماسكة نتيجة تذررها، وتناقضات مصالحها، وميل كل منها لـ "هبش" ما يستطيع بأسرع وقت ممكن.
3) وهي كذلك تستطيع أن تلم الطبقات الشعبية حولها، وهي وحدها القادرة على تحويل هذه الطبقات إلى كتلة هي "الكتلة التاريخية" كما أسماها أنطونيو غرامشي. وهي الكتلة التي يمكن أن تشكل الأغلبية في الصراع الطبقي الواقعي. هنا تظهر أكثر، أهمية تبني البرنامج الديمقراطي، حيث أنه وحده ما يستطيع أن يجعل تبلور هذه الكتلة أمراً ممكناً. و هنا يجب تبني القضايا المطلبية لهذه الطبقات، وأن يدافع عنها. ونحن حين إذ لازال في إطار المهمات الديمقراطية. ولاشك في أن مقدرته على تحقيق ذلك هو الذي يجعله قادراً على توحيد الأحزاب الممثلة لهذه الطبقات تحت قيادة الحزب الشيوعي الذي يمثل الطبقة العاملة.
إذن، هنا لا يسعى الماركسيون إلى تحقيق المهمات الديمقراطية في إطار التحالف الطبقي فقط، بل يسعون لأن تكون الطبقة العاملة بالتواشج مع حزبها القوة القائدة عبر فاعليته، ووعيه، وسياساته الصحيحة. أي عبر الدور الذي يلعبه في الواقع. وحين يحقق ذلك يكون تحقيق المهمات الديمقراطية ممكناً، ويكون الانتقال إلى الاشتراكية أمر يفرضه التطور المجتمعي. وهنا يمكن أن يتحقق عبر الطريق الديمقراطي، أي التصويت باستفتاء المجتمع. ولكن ليس من الضروري أن تتحقق كل المهمات الديمقراطية لكي يجري الانتقال إلى الاشتراكية، لكن من الضروري ألا يسهم ذلك في ارتكاس التطور، أو نشوء تشوهات يمكن أن تؤثر فيما بعد، وربما تكون قاتلة.
إن ما يجب أن يكون واضحاً هنا هو أن ضرورة أن تكون الطبقة العاملة هي القائدة لا يعني أنها تحقق الاشتراكية، لأنها حينها لن تكون قيادة، لأن قيادتها نابعة من طبيعة المهمات التي تطرحها، والتي هي مهمات ديمقراطية وليس من طرحها لبرنامجها الخاص. وأن فاعليتها لن تكون ممكنة إلا في إطار هذه المهمات.
لقد جرى اعتبار أن وصول الطبقة العاملة إلى السلطة يعني انتصار الاشتراكية. لكن هذا الوصول أصلاً لن يتحقق إلا وفق برنامج يوحد الطبقات الشعبية، لأنها في إطار هذا التحالف يمكن أن تقود ثورة منتصرة. وحين يتحقق يكون من التسرع إلغاء الملكية الخاصة مادامت مهمات ديمقراطية لازال تحقيقها أمراً ملحاً.
طبيعة الثورة: ديمقراطية أم اشتراكية؟
إذن، إن المهمات المباشرة الراهنة هي المهمات الديمقراطية (الصناعة، التحديث، المسألة القومية، الدمقرطة والعلمنة). وهي مهمات ليس من الممكن القفز عنها. وإذا كان تبلور تصور بأن هذه المهمات يمكن أن تتحقق في إطار تحقيق الاشتراكية، وبالتالي فإن الثورة هي ثورة اشتراكية، فإن المسألة الأساس هنا هي مدى إمكانية الطبقة العاملة على تحقيق هذه الثورة وهي لا تشكل سوى نسبة محدودة في التكوين الطبقي. هنا نقطة ضعف هذا التصور، ومقتله معاً. فالثورة الاشتراكية تحتاج إلى أن تكون الطبقة العاملة قوة قادرة وحدها على الوصول إلى السلطة. وهو ما ليس موجوداً في الواقع، حتى في الأمم الرأسمالية. ولهذا يبدو الوصول إلى السلطة قائماً على رؤيةٍ ليست الاشتراكية في أولوياتها، حيث يمكن تأسيس تحالف قادر على أن يكون أغلبية، وأن ينتصر في الصراع الطبقي.
هذه هي أزمة العالم في الوقت الراهن. وهي الأزمة التي تفرض مرحلة انتقال طويلة هي المرحلة الديمقراطية، الثورة الديمقراطية.  إننا تعيش مرحلة تحقيق التطور الذي أنجزته البرجوازية منذ زمن، لأنها هي ذاتها منعت تحقيقه في الأمم التي تخلفت. ونحن نعمل من أجل ردم "الهوة الحضارية" التي نشأت عن ذلك، بأدوات وأساليب ولمصلحة طبقات غير رأسمالية، وفي سياق الانتقال إلى الاشتراكية. فهذه تبدأ بعد أن يتكون الاقتصاد على أساس منتج، وتتبلور الطبقات بشكل واضح، ويتحدث الوعي، وتحل المسألة القومية (للأمة وللأقليات معاً)، وتتحقق العلمنة والدمقرطة. إن تحقيق كل ذلك هو الذي يعطي كل هذه الأهمية لـ "ردم الهوة" وإنجاز ما أنجزته البرجوازية. وبالتالي إنها مرحلة ضرورية للتطوير الاقتصادي في مجتمع مهمش، وتطوير الوعي في مجتمع يعيش القرون الوسطى، وإعادة بناء الدولة على أسس حديثة في دولة مملوكية.
طبعاً يمكن أن تسمى الدولة اشتراكية، أو يقال بالانتقال إلى الاشتراكية، لكن يجب أن تنجز هذه المهمات. بمعنى أن تحول الطبقة العاملة إلى طبقة مسيطرة في إطار ذاك التحالف يمكن أن يتيح لها "الانتقال إلى الاشتراكية"، لكن ليس من الممكن أن تقفز عن تحقيق هذه المهمات في أي ظرف كان. لقد أسميت الدولة السوفيتية بالاشتراكية، لكن لينين ظل يصرّ على تحقيق المهمات الديمقراطية، واعتبر أن العنصر الاشتراكي الوحيد هو سيطرة الطبقة العاملة على السلطة، اعتبر بأن الاشتراكية هي طموح المستقبل وليس المهمة الراهنة. ويمكن أن يكون تحديد الهدف الاشتراكي ضرورياً من أجل تحقيق المهمات تلك، وأيضاً يمكن أن يكون إلغاء الملكية الخاصة والانتقال إلى الاشتراكية ضرورياً لذلك، فهذا هو "مكر التاريخ" (هذه الإشارة الهيغلية الحاسمة). وبالتالي حتى إذا ما تسمت الدول بالاشتراكية فإنها في الواقع يجب أن تحقق المهمات الديمقراطية، وبالتالي يكون هدف هذه التسمية هو تحديد الطموح المستقبلي، أو التأشير إلى التوجه، وليس التحقيق العملي لها، لأن الواقع لم يحتمل بعد تحقيقها.
إن الأسس التي تحدد طبيعة الثورة هي، أولاً: طبيعة المهمات، حيث يسير التاريخ هنا في "جبرية" فظة، بما يجعل القفز خطر، ومدمر. والمهمات المطروحة في الأمم المخلفة هي المهمات الديمقراطية المشار إليها للتو. حيث أنه يجب أن نتملك التحول الذي أحدثته الرأسمالية دون أن نمر بالمرحلة الرأسمالية. فلا يمكن القفز إلى الاشتراكية دون بناء الصناعة وتشكيل المجتمع الصناعي، ودون وعي الأنوار، وأيضاً حيث الدولة الحديثة، وثانياً: وضع الطبقات وميزان القوى الطبقي، لأن الانتصار مرهون بتبلور الكتلة التاريخية التي تستطيع أن تفرض التغيير عبر انتصار الثورة. إن أقلية هي عاجزة عن أن تنتصر إلا عبر المؤامرات، لكنها في هذه الحالة لن تحقق مصالح الطبقة العاملة وكل الطبقات الشعبية، بل تحقق مصالحها الضيقة. والطبقة العاملة تنتصر بالثورة. وهي هنا معنية بالتحالف مع الطبقات الأخرى لكي تستطيع ذلك. وبالتالي فهي معنية بالتوافق على برنامج الحد الأدنى. وحين تتحول إلى قوة حاسمة في التكوين الطبقي يمكنها الانتقال إلى الاشتراكية. وما من شك في أن صيرورة الصراع الطبقي وهزيمة الرأسمالية سوف يفرضان تحالفات جديدة ربما يمكنها تحقيق الاشتراكية. وثالثاً: يجب أن تقود الطبقة العاملة هذا التحالف الطبقي، وهي قادرة على ذلك في حال تبنيها مطالب هذه الطبقات، والدفاع عنها. وبالتالي فهي تقوم بدورها ضمن هذا التحالف، وليس في تناقض معه، أو في تجاهل لمصالح تلك الطبقات. ولهذا فإذا كانت المهمات هي ديمقراطية فإن القيادة هي للطبقة العاملة، لكن عبر دورها وفاعليتها، ومقدرتها على استقطاب تلك الطبقات، أي عبر ممارستها الهيمنة وفق التحديد الغرامشاوي. وهو ما يعني الهيمنة المرنة، المقبولة، نتيجة فعل الطبقة ذاتها.
إن الرؤية التي يجب أن تحكم الماركسيين إذن هي السعي لتحقيق المهمات الديمقراطية، وتنظيم الطبقة العاملة والفلاحين الفقراء في حزب يمكنه أن يعي الواقع بعمق، ويحدد آليات تغييره على ضوء ذلك. وبالتالي أن يشكل "الكتلة التاريخية" القادرة على الانتصار.
هذا هو أفق الوصول إلى الاشتراكية.
 
 
 
سلسلة كراسات ماركسية
 
صدر منها:
1- الماركسية: عرض مختصر                                                    لينين
2-بصدد الماركسية                                                                                       سلامة كيلة
3-طريق الانتفاضة: لماذا تثور الطبقات الشعبية          سلامة كيلة
4-العمل المأجور والرأسمال                                                       كارل ماركس
5-رسالة إلى رفيق (مهماتنا التنظيمية)                                          لينين
6- في الممارسة العملية                                                            ماوتسي تونغ
7- في الممارسة (منطق العمل)                                                   سلامة كيلة
 



#سلامة_كيلة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الحرب على الإرهاب في سورية
- عن الإمبريالية وتشويه -اليسار الممانع- للماركسية
- قانون ضبط التظاهر يعيد الحراك الاجتماعي لشوارع مصر
- روسيا والحل الروسي وقاسيون
- معركة حزب الله وإيران.. في سوريا
- الطائفية و«النظام الطائفي» في سورية
- ممكنات نجاح مؤتمر جنيف 2
- أزمة الثورة في سورية: تعدد الأعداء وتعدد مصالحهم
- الثورة السورية وآفاق صراع متعدد
- عن تحديد التخوم (ملاحظات حول وحدة اليسار)
- درس للأغبياء حول الإمبريالية الروسية
- توضيحات ضرورية حول الماركسية
- الأسد أو لا أحد كأيديولوجية سلطوية
- بصدد رؤية مختلفة للعالم الماركسية والصراع الطبقي الراهن
- مصر وسوريا واليسار
- «جبهة النصرة» تمارس مهماتها
- عن التدخل الإمبريالي في سورية وعن فهم الثورة السورية
- نهاية وهم الأسلمة واستمرار دور العسكر
- الثورة التونسية ما هو التكتيك الضروري الآن؟
- سمات النشاط الجماهيري ووضع الحركة الماركسية*


المزيد.....




- الوقت ينفد في غزة..تح‍ذير أممي من المجاعة، والحراك الشعبي في ...
- في ذكرى 20 و23 مارس: لا نفسٌ جديد للنضال التحرري إلا بانخراط ...
- برسي کردني خ??کي کوردستان و س?رکوتي نا??زاي?تيي?کانيان، ماي? ...
- صدور أسبوعية المناضل-ة عدد 28 مارس 2024
- تهنئة تنسيقيات التيار الديمقراطي العراقي في الخارج بالذكرى 9 ...
- الحرب على الاونروا لا تقل عدوانية عن حرب الابادة التي يتعرض ...
- محكمة تونسية تقضي بإعدام أشخاص أدينوا باغتيال شكري بلعيد
- القذافي يحول -العدم- إلى-جمال عبد الناصر-!
- شاهد: غرافيتي جريء يصوّر زعيم المعارضة الروسي أليكسي نافالني ...
- هل تلاحق لعنة كليجدار أوغلو حزب الشعب الجمهوري؟


المزيد.....

- حول الجوهري والثانوي في دراسة الدين / مالك ابوعليا
- بيان الأممية الشيوعية الثورية / التيار الماركسي الأممي
- بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة ف. آي. لينين (النص كاملا) / مرتضى العبيدي
- من خيمة النزوح ، حديث حول مفهوم الأخلاق وتطوره الفلسفي والتا ... / غازي الصوراني
- لينين، الشيوعية وتحرر النساء / ماري فريدريكسن
- تحديد اضطهادي: النيوليبرالية ومطالب الضحية / تشي-تشي شي
- مقالات بوب أفاكيان 2022 – الجزء الأوّل من كتاب : مقالات بوب ... / شادي الشماوي
- بصدد الفهم الماركسي للدين / مالك ابوعليا
- دفاعا عن بوب أفاكيان و الشيوعيّين الثوريّين / شادي الشماوي
- الولايات المتّحدة تستخدم الفيتو ضد قرار الأمم المتّحدة المطا ... / شادي الشماوي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - سلامة كيلة - المهمات الديمقراطية والاشتراكية