أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - حذام الودغيري - من محاضرة الدكتور يوسف زيدان - تراثنا الروحي- بمركز دربة للتدريب دبي. أو - التصوف هو تجاوز الذات إلى الموضوع-















المزيد.....



من محاضرة الدكتور يوسف زيدان - تراثنا الروحي- بمركز دربة للتدريب دبي. أو - التصوف هو تجاوز الذات إلى الموضوع-


حذام الودغيري

الحوار المتمدن-العدد: 4322 - 2013 / 12 / 31 - 18:20
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


(تكتسي هذه المحاضرة أهمية خاصة، لأننا نطلع فيها على التعريف الخاص والمبتكر لمصطلح " التصوف" للدكتور يوسف زيدان، أستاذ الفلسفة والتصوف الإسلاميين، والروائي ،والمتخصص في المخطوطات والتراث.)

يقول ابن جنيّ في كتابه "الخصائص" وهو من كبار اللغويين العرب :" الألفاظ والمفرداتُ حقولٌ دلاليّة متعددة والوعي بهذه الدلالات والحقول الدلالية من شأنه أن يضبط الفكرة" . لذا وجب ضبط المفردات، فما معنى التراث وما معنى الرّوح إذن؟
1ـ للتراث معنيان : لغوي وهو نفس المعنى القرآني " وَتَأْكُلُونَ التُّرَاث أَكْلًا لَمًّا" ، بمفهومه العام في اللغة "الميراث"، أي ما تركه السابقون لللاّحقين أو الأوائل للأواخر، من مادة "وَرِثَ"؛ و الثاني ، اصطلاحي: تحول فيه معنى الكلمة إلى "ما قدمته الحضارة العربية الإسلامية من نصوص مكتوبة وأشعار مروية " وهي تسمية جديدة مستحدثةٌ غالباً في القرن العشرين، وهي ترجمة لكلمة Heritage .والترجمات أحيانا أو اشتهار لفظة عن أصل أجنبي يُحدث بعض الخلط . و إلى حدود القرن التاسع عشر، لم تكن كلمة "تراث " معروفة ، بل كان المؤلفون والباحثون يشيرون إلى من قبلهم باعتبارهم "الأوائل" أو "السابقين" .
2ـ وللرّوح أيضا معنيان: لغوي وقرآني : "وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي" وهي لغةً "ما يكون به الحيُّ حيّا " و اصطلاحاً، تتخذ اللفظة معانيَ مختلفة، ففي الكتب الإلهية أو الكلام الديني، تشترك هذه المفردة مع مفردات أخرى مثل "النفس"، ومن العسير ضبط دلالة واشتراك دلالتي النفس والروح وإنما يؤخذ في المعنى الديني اللفظ اللغوي بشكل كامل، أما افي المصطلح الطبي فيختلف الأمر تماما. ففي كتاب لابن النفيس يتحدث فيه عن الدورة الدموية الكبرى يقول:" وينتقل الروح مع الدم، ومرادنا بالروح ليس ما يراد في الكتب الإلهية وإنماا لأرواح هي القوى وتختلف الأرواح باختلاف القوى" . لم يكن ابن النفيس يعرف كلمة الأوكسجين...فهو عنى بالروح "الطاقة " و "الأوكسيجين" في التراث الطبي... كما توصف الخمور في كلامنا العام ب" المشروبات الروحية" ، لأنها تسرع بحركة الدم في الجسم فتتورد معها الوجنتان فيُفهم أن الطاقة زادت في الجسم ...
تختلط كثير من المفاهيم في الأذهان، فلا نستطيع ضبط المعنى لعدم انضباط الدلالة. فكلما قلنا" تراثنا الروحي" تبادر إلى أذهاننا "التصوف"، كما لو كانت هذه الكلمة الأخيرة هي المعادل التام والموضوعي للتراث الروحي ، وهذا ليس صحيحا.
فالتراث الروحي سابق على الإسلام وعلى ما يسمى بالديانات "السماوية " ، فالنزوع الروحي ظاهرة إنسانية عامة، يتجلى عند الهنود في السعي إلى حالة "النيرفانا " التي تعني" اللاحاق بالروح الكلي" وقبل اليهودية، ظهرت في اليونان القديمة ، الاتجاهات الغُنوصية ثم تفتحت أبوابها على مصراعيها في الاسكندرية فتعدّدت هذه الاتجاهات العِرفانية .
"الغنوصية " تُترجم إلى العربية بكلمة " العرفانية" وهي اتجاه يجعل من التجرد عن الصفات والمطالب الحسية طريقا إلى الوصول إلى المعاني العليا .
كلمة "غنوص" ، إذن، تعني "عرفان"، والعرفان يختلف عن "المعرفة": لأنّ المعرفة عامة، بينما العرفان معرفةٌ خاصة تتم عند التجرد عن مطالب النفس فستطيع الروح أن تحلق إلى مكان أعلى فتحصل على الحقائق.
وهذ ا ما يُِعرَف عند "الهِرْمِسية " وهي اتجاه قديم ينسب إلى "هرمس" الذي يسمّيه العرب "إدريس" و المصريون القدماء "أخنوخ " وهو شخصية غامضة وغالبا أسطورية ، تنسب إليها كتاباتٌ، با لعربية أيضا، ترى العالم بشكل مختلف وفقا لمعارف علوية يستطيع الإنسان أن يتماس معها في لحظات التجرد عن المحسوسات.
كما توجد أيضا عند " الفيثاغورية المتأخرة"، وهي مدارس رياضية تبحث في الرياضيات. إلا أن "فيثاغوراس" رغم نظرياته العديدة في الرياضيات كانت له تعاليم عجيبة في الغنوصية، مثلا كان يقول: "حين تقلع ملابسك لا تترك صورة الجسم فيها" لأن الإنسان إذا ارتدى ملابس معينة يبقى موجودا فيها على نحو ما، ما لم تُطْوَ على شكل آخر ،( ولهذا بحثت المجتمعات العتيقة عن آثار للجسم لعمل السحر ) وغير ذلك...فلما انتقلت المدرسة الفيثاغورية إلى الإسكندرية، اتخذت طريقين: طريقَ العمل في الرياضيات البحتة، المرتبطة بالفَلَك كما تبعه ثيون وهيباثيا وغيرهما وطريقا ثانيا غلب عليه الطابع السحري الغنوصي، لا يفصح أصحابه عن آرائهم للجميع .
وفي القرن الثالث قبل الميلاد، استحضر الملك الاسكندري ، بطليموس الثاني، 72 حبرا يهوديا وجعلهم يترجمون التوراة لليونانية ، وهي الترجمة المعروفة ب"الترجمة السبعينية ". إلا أن نصّا مبهما ، مفقود الأصل بالعبرية تمّ تأويله رمزياّ حتى يُقبل لدى الناس ، فلولا هذا التأويل الرمزي الروحي لنصوص التوراة ( انظر الفصل الخاص بالتلموذ في كتاب "دوّامات التديّن" ) لكانت انغلقت هذه النصوص على ذاتها ولما استطاع المؤمنون بالديانة أن يتبعوها. مثلا قصة زِنا لوط بابنتيه بعد سكره، صادمة، ولكي لا يسخر أصحاب الديانات الأخرى من اليهود ،أُوِّلتْ رمزيّا كالتالي: البنتان ترمزان إلى الشهوة غير العاقلة المتدبرة، والعقل الإنساني يغفو عن التعقل عند حالة السكر، فإذا استعانت هذه الشهوة بالخمر وقع فعل مُشين، وهذا يفيد بأنه لم يزنِ بهما فعلاً بل مجازاً. و كذلك الآية التي تقول:" الكاهن الأعظم يخلع رداءه قبل أن يدخل قدس الأقداس" احتاجت للتأويل، فقال بطليموس: الكاهن الأعظم هو النفس الإنسانية ،و يخلع رداءه يعني أنه يتخلص من سيطرة الحواس، قبل أن يدخل: يعني قبل أن يرتقي ويصعد ، أما قدس الأقداس فهوعالم الحضرة الإلهية. كان بطليموس ينهل من التراث الأفلاطوني القديم والتيارات الغنوصية الموجودة في الإسكندرية ويقوم بإطلالة مبكرة لما يسمى ب"الأفلاطونية المحدثة" أو الجديدة وهي أيضا اتجاهات روحية إلإ أنها بدأت تتماس مع الديانة اليهودية. والاتجاه الروحي الذي سيظهر في اليهودية يعرف ب"القباّلة "وهي جماعة تشتغل بالعلم وتؤمن برمزية العالم والقدرة على قراءة رموزه على نحو سحري، ولم تكن محبوبة من باقي اليهود .
وفي الديانة المسيحية يساوي هذا الاتجاه الروحي "الرهبنة،" وهي أن يعيش الإنسان، رجلا أو امرأة ، في المسيح، باعتبار أن المسيح هو الرب؛ فيزهد ويعيش حياة الشركة ، وهي مجموعة تقتات على أقل القوت المتاح بعيدا عن زخرف الدنيا حتى تصفوَ نفساً وروحاً وتمضي حياتها في حالة خلاص من سيطرة البدن...
هكذا رأينا أن الاتجاه الروحي كيفما كانت مسمّياته تراث أصيل في الإنسان ، وكان قبل الإسلام.
ماذا إذن عن التصوّف؟ (يمكن الرجوع لمحاضرات وكتب ليوسف زيدان في التصّوف)
هناك تعريفات عديدة ومشهورة للتصوف من بينها أن التصوف مشتق من "الصفاء"؛ أو من كلمة "صوفيا" اليونانية التي تعني الحكمة؛ وهناك من يقول بأن اللفظ جامد غير مشتق لأنه مرتبط بالله والله قبْلَ المشتقِّ والمشتقُّ منه؛ كما أن هناك أبياتا معروفة لأبي الفتح البُستي:
تنازَعَ النّاسُ في الصُّوفيِّ واختلَفوا - قِدْماً وظَنُّوهُ مُشتَقاً مِنَ الصُّوفِ
ولستُ أمنحُ هذا الاسمَ غيرَ فتىً - صفا فصوفِيَ حتَّى لُقَّبَ الصُّوفي
يرى يوسف زيدان أن مثل هذه التعريفات "مدرسيّة"، أما إذا نظرنا للتصوف نظرة أكثر عمقا وشمولية سنجد شيئا آخر. وبالتالي لا بدّ له من تعريف آخر... لذا يضع التعريف الآتي ويختبره " التصوف هو تجاوز الذات إلى الموضوع"
(ويتذكر بعض أساتذته في الجامعة الذين كانوا يطلبون منه أن يكتب ما جاء في كتب المقرر وحسب، دون اجتهاد شخصي، ، فيرد:" لو أن الذين كتبوا الكتب يا دكتور طبقوا هذا الكلام لما كتبوا الكتب" إلا أن الإجابة الحاسمة: "لاأعرف، لا توجع دماغي" ! ولكن المعرفة ليست سهلة، والمنجز العام شخصيا كان أم جماعيا ليس سهلا، فمن الخطر بمكان أن نظن أن كل شيء تم وانحسم، وأنه ليس بالإمكان أبدع مما كان، لأن هذا يعني التوقف، توقف تدفق التجربة الإنسانية .
لكل إنسان جانبان: جانب مادي بمعنى أنه يقوم بماديات ، تتعلق بأشياء ملموسة كالأكل والعمل والسفر...وجانب لا مادي، أو روحي، بالمعنى المتوسع للكلمة... فعند الأم التي ترضع وليدها جزء مادي، إذ تطعمه، وجزء لا مادّي وهو الحنان... وهذا الجزء غير الملوس، الروحي في فعل الأمومة، يمكن أن يكون كافيا مع أقل قدر من الماديات. فهناك من يستحضر وصفات بسيطة و"رديئة" كانت تحضرها له أمه ،ولعله لم يعد يستسيغها بعد عمر طويل، ولكن اكتساءَ ذلك الطعام بحنانها هو ما كان يجعل طعمه لذيذا، ويتذكره باعتباره شيئا جميلا؛ لأن الجزء المادي اضيف له جزء آخر من خارجه.
في الأنشطة الإنسانية العامة، يربط الناس عادة التصوف بالدين، لأن الدين منحى أقرب للروحانية... ولكننا لو نظرنا إلى تاريخ الاكتشافات العلمية والجغرافية والإبداعات الفنية والفكرية، في كل الحضارات، لوجدنا أن كل هذه الإنجازات والعلامات الفارقة لا تتحقق إلا في تجاوز الذات والتوغل في الموضوع الذي هو العلم أو الفن . وما جعل علاء الدين ابن النفيس يقول : "" لو لم أعلم أن تصانيفي تبقى بعدي 10 ألاف سنة ما وضعتها " إلا هروبه من ذاته إلى الموضوع الذي هو علم الطب، فعكف على كتابة موسوعته " الشامل في الصناعات الطبية " أربعين سنة، ابتداء من عام 642 هـ، وجعل لها ما ينيف عن 300 مسودة تمثل 300 مجلدا للكتاب، ليُبقِيَ منها 80 مجلدا فقط، وقد أشرف على نهاية عمره وهو في الثمانين! وكذلك ابن سينا الذي كان يضع أملاحا في عينيه كي يذهب عنهما النوم، ليحفظ كل ما يقع بين يديه من كتب، فهمها أم لا، كما حدث له مع كتاب الميتافيزيقا لأرسطو الذي لم يفهمه رغم اجتهاده إلى أن لقي في سوق الورّاقين رسالة صغيرة للفارابي "في أغراض ما بعد الطبيعة"، فانحلّ في لحظته كل ما كان عالقا في ذهنه، واستوعب كل مابقي عصيا على فهمه... وغيرهما من المكتشفين الذين يمضون سنوات طويلات أو عقودا بين الجثث لتشريحها واكتشاف عروق أو أعصاب في الجسم، أو على ظهر مركب لجمع القواقع والأحفورات لحصرأنواع الكائنات الحية وتصنيفها، أو في المختبر لمختلف الدراسات ، تشغلهم التفصيلة الموضوعية التي أذهلتهم عن الذات واجتذبتهم إليها، فأصبح هذا التوغل، تصوفا، ولا يمكن أ ن يحصل الكشف العلمي إلا به....النظريات العلمية، لا تخلق بسقوط تفاحة، كما تقول أسطورة "التفاحة والجاذبية" التي روّجها فولتير ! .اسحق نيوتن، أصلاً عالم رياضي وفيزيائي وعالم فلك وفيلسوف ولاهوتي وخيميائي ("الألكيميا"الخيمياء ممارسة قديمة ترتبط بعلوم الكيمياء والفيزياء والفلك والفن وعلم الرموز وعلم المعادن والطب والتحليل الفلسفي وهي تلجأ إلى رؤية وجدانية في تعليل الظواهر، وترتبط ب"السحر" وبما يسمى بعلم الصنعة ). إسحق نيوتن، لم يكن أول من رأى تفاحة تسقط، إنما استغراقه الشديد بالأمر وخروجه من الذات إلي الانشغال التام بالموضوع، هو الذي سيجعل الطفرة في النظرة التي سيسميها الصوفية "الكشف"، وهي أيضا "كشف علمي" وهذا ما سيؤدي به إلى نظرية الجاذبية.
وفي الفن الصلة جلية أيضا ،كما نرى مع ميكيلانجيلو، الذي رسم لوحات غطت 1100 متر مربع من سقف كنيسة سيستينا بالفاتيكان، وقد استغرق في هذا العمل 4 سنوات طويلة في ظروف غير طبيعية إذ كان يحتاج أن يرسم وهو على ظهره إلا أن حالة تجاوز ذاته كفنان واستغراقه التام في الفن الذي يتجلى في سقف الكنيسة، جعله يعطى أعظم إنجازات ميكيلانجيلو ، وخاصة لوحة "الحكم الأخير" البديعة .
ونفس الشأن بالنسبة لبيكاسو في لوحته الخالدة " غويرنيكا" التي اشتغل فيها بدون انقطاع طيلة 5 أسابيع أنشأ خلالها 45 دراسة تحضيرية، كي يصل إلى اللوحة المرجوة ، التي توّجت إبداعه، وأصبحت رمزا لفظاعة الحروب.وقد احتُفِظ باللوحات ـ أو المسودّات ـ كلها مرقمة في متحف الملكة صوفيا. ولعلها تعبّر بأن الفنان ولو كان عبقريا من طراز بيكاسو فإنه يحتاج مشقة وجهدا، يتجاوز به الفنان ذاته ويهرب منها ليستغرق في موضوع الفن.
هذا "التصوف " حسب تعريف يوسف زيدان : "الخروج أو تجاوز أو العلو الترنسندنتالي ـ اللامادي ،المفارق ـمن الذات إلى الموضوع" يعتبر إذن شرطا من شروط الإبداع العلمي والفني، فلولا توغل مجموعة من العلماء والفنانين والشعراء في الموضوع ـ الذي هو العلم أو الفن ـ لما استطاعوا أن يصلوا إلى ما يسميه الصوفية "الكشف" أوما يسمى في تاريخ العلم بالطفرات أو القفزات أو النظريات العلمية ، أو الأعمال الفنية الأصيلة أو الأشعار المجيدة .
ورجوعا إلى التصوف في الإسلام ، نسأل متى بدأ؟
كانت تُعرَف للأحناف أو المتحنّفين قبل العصر النبوي تجارب روحية جدا شبيهة بالتصوف. والحنيف في الأصل يعني "المختَتَن ". كان اليهود في يثرب يقيمون جلسات لختان الصبية فيقطعون القلفة (الجلدة التي تغلف ذكر الولد) وما يقطع اسمه "الملّة"، فيقال: " ملّة إبراهيم". وهو تقليد مأخوذ من العبادات الوثنية القديمة حيث كانت تقطع ليزين بها عنق الربة .وقد تحولت الحنيفية إلى اتجاهات روحية غامضة قبل الإسلام ، نعرف شخصيات كثيرة منها، لكن التاريخ لم يتحدث عنها بالتفصيل، لأن عصر التدوين العربي بدأ فقط في القرن الثاني الهجري وقبله، كان يُكتَب ُمن الرواة ، ولهذا حدثت مشكلة الشعر الجاهلي :هل هو صحيح أم لا وأقدم كتاب هو الكتاب اليمني "كتاب التيجان في ملوك حمير" وهو أيضا مشكوك فيه، ولانكاد نعرف قبل عصر التدوين نصا أصيلا أي مخطوطة تعود إلى هذا الوقت أو منسوخة من مخطوطة ، إذ كانت الكتابة تتم على وسائط متغيرة أو سهلة التغير كمثل سعف النخل (قلب جريد النخلة) أو لوح العظم ... وهذا ما جعل معرفتنا بما قبل عصر النبوة ضعيفة ومشكوك في معظمها... هذا فيما يخص عرب الجزيرة، أما عرب الشام، فقد كانوا يعرفون التدوين بالسريانية.
وعموما، فإن التصوف بدأ قبل الإسلام. فلا يخفى على أحد أن الرسول كان" يختلي" قبل النبوة، في غار حراء ، وكان يقول : "جبلٌ يحبّنا ونحبّه" ، إلا أنه لم يكن يقصد الجزء المادي من الجبل، كان يعني جزءاً لا مادياً ...
وهذا الاختلاء كان انسلاخا من ذاته إلى موضوع غير محدد، لا يعرفه...فلما أتته الإشارات، قال :"زملوني، دثروني..." فمم سيدثر أو يُزمّل؟ من شيء خارجه هو...! فالنبي يرتعد وتعتريه أحوالٌ شديدة عند نزول الوحي لأنه في حالة خروج من الذات، إلى حالة غير مادية وغير ملموسة. وفي المدينة كان الرسول يتردّد على " أهل الصّفة" والصّفة قسم مظلّل من المسجد النبوي كانت تأوي إليه جماعة من الرجال تعيش حياة الفقر والزهد وتنقطع إلى العبادة، (وأهل الصفة أضياف الإسلام، لا يأوون على أهل ولا مال ولا على أحد ـ البخاري) ( لقد رأيت سبعين من أهل الصفة، ما منهم رجل عليه رداء، إما إزار وإما كساء، قد ربطوا في أعناقهم منها ما يبلغ نصف الساقين، ومنها ما يبلغ الكعبين فيجمعه بيده كراهية أن ترى عورته ) ( البخاري ) , وكان الرسول يتعهدهم بنفسه ويكثر مجالستهم .
كانت المرحلة الأولى من التصوف ـ والتصوف كمعادل للتراث الروحي تسمية مختصة بالتراث الإسلامي فقط أما النزوع الروحي فكما رأينا موجود عند مختلف الحضارات والشعوب ـ تتميز بأربع خصال: االجوع والصمت والصوم والخلوة، وهذه كلها أدوات يتخلص بها الإنسان من سيطرة الحواس عليه . قال سهل التستري : "صارت الأبدال أبدالا بأربعة : قلة الكلام ، وقلة الطعام ، وقلة المنام ، واعتزال الأنام ". والأبدال فوق العوام مرتبة، فمرتبة البدلية هي مرتبة الأولياء.
و"العوام" هم سائر الناس، مهما ارتقت مكانتهم العلمية أوالاجتماعية، أما "الخواص" فهم من تذوقوا الحقائق، أي من انتقلوا من ذاتهم إلى الموضوع، من العلم إلى المعرفة. والخواص هم ملح الأرض، وهم من يعطون الإشارات: الأولياء، العلماء العباقرة والفنانون المبدعون والشعراء المجيدون، وهم العلامات التي تضيء في مختلف العلوم والفنون ثم يبدأ الجمهور بالتطبيق أو التذوق أوالتعلم. أما الانتقال من العلم إلى المعرفة، فله برزخ فاصل هو المحبة. فمهما صلّى شخص وصام فهو من عوام المسلمين، ولا يصبح صوفيا ما لم يكتسِ فعله ذاك طابعا لا ماديا أعلى، لم يكن متاحا في الجــزء المادي منه كوضوء، وحركات، وامتناع عن الأكل، وما لم يحقق المعنى الكامن وراء ذلك . فالصوم عند الصوفي كما جاء في قصيدة "الندرات العينية، يعني أن لا يرى الصائم إلا الله وليس في رمضان فقط بل حتى بعد الإفطار. : صيامي هو الإمساك عن رؤية السوا - وفطري أني نحو وجهك راجع.

وهكذا كان التصوف في مراحله الأولى مشغولا بكسر حدة النفس لإطلاق الطاقة إلى الموضوع ، وكان يبحث عن لغة يعبر بها. أما النقلة الكبيرة في تاريخ التصوف، فقد كانت مع الحلاج، التي تمّ معه تجاوز الذات إلى الموضوع الذي يعني هنا الله.
فحين قال "ما في الجب إلا الله" (العبارة التي قيل إنه صلب وقطع من أجلها) واتهموه بالكفر بزعمه أن البشرية تمتزج في الألوهية، لم يعرف الجواب، لأنه لم يجد اللغة ليعبّر بها عن هذا الإحساس أي الانتقال أو الانسلاخ عن الذات والتوغل في الموضوع الذي هو الذات الإلهية. فهو أصلا لم يكن يرى شيئا إلا الله:
"والله ما طلعت شمسٌ ولا غربت ــ إلا و حبّـك مقـرون بأنفاسـي
ولا خلوتُ إلى قوم أحدّثهــم ــ إلا و أنت حديثي (سميري) بين جلاســي
ولا ذكرتك محزوناً و لا فَرِحا ــ إلا و أنت بقلبي بين وسواســـي
ولا هممت بشرب الماء من عطش ــ إلا رَأَيْتُ خيالاً منك في الكـــأس".
كان الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي يقول: "النفس إن لم تشغلها شغلتك " ويعني ( اذهب للموضوع نفسه كن به وفيه) فبهذا الشكل يحدث توغل للذات في الموضوع وهذا ما يسمى في الفلسفة "وحدة الوجود"، وفي التصوف "وحدة الشهود".
وحدة "الوجود" وهي نظرية فلسفية قديمة عند اليونان تقول بأن الكون (أو الطبيعة) والله (أو الألوهية) حقيقة واحدة وهي الترجمة للمصطلح اليوناني “Pantheism” التي تعني "الكل هو الله".
أما وحدة " الشهود " فهي حسب أبي حامد الغزالي:هي حالة " المدهوش الغائص في بحر عين الشهود الذي يضاهي حاله حال النسوة اللاتي قطعن ايديهن في مشاهدة جمال يوسف عليه السلام حتى دهشن وسقط احساسهن، وعن مثل هذه الحالة تعبر الصوفية بأنه قد فنى عن نفسه , ومهما فنى عن نفسه فهو عن غيره أفنى فكأنه فنى عن كل شيء إلا عن الواحد المشهود، وفنى أيضا عن الشهود فإن القلب أيضا إذا التفت إلى الشهود وإلى نفسه بأنه مشاهد فقد غفل عن المشهود "
الفلاسفة يدلّلون بالمنطق ، فطاليس حين يقول إن أصل الوجود الماء، فلأن المائية أو الرطوبة إذا خلت من كائن فهو كائن ميت. وهو شرط الحياة. وهيراقليطس لمّا يقول إن أصل الوجود النار، فلأن هذه الطاقة تختفي حين يموت أحد ويبرد جسمه، فالنار هي الروح الكلي للوجود...أما الصوفية المسلمون في المرحلة الناضجة الثانية، فإنهم لا يدلّلون ولا يقولون، هم يحسّون، وبدأوا يستعملون لغة اصطلاحية رمزية، كي لا يفهم العوام والفقهاء الذين يكرهون الصوفية . .وسيسمّون في في القرن الخامس الهجري " أهل الإشارة،" لأن الكلام الصوفي فنّ يشير إلى المعنى . فهم لا يستعملون العبارة لأنهم مستغرقين ومستوعبين في الموضوع (الذات الإلهية ) ، فلا يمكنهم أن يتكلموا بلغة الصبيان في الكتاتيب أو الحياة العادية، وعلى المهتم أن يلتقط هذه الإشارات. فابن الفارض ، وابن سبعين ، وجلال الدين الرومي وكل الكبار، استعملوا الرموز، وكتبوا الإشارات الإلهية، ولطائف الإشارات والشعر.
وقد تطور الفكر الصوفي حتى العصور الحالية ولكن غلبت عليه التقاليد الموروثة في الطرق الصوفية، فأدى ذلك في بعض الأحيان إلى اختناق الروح الصوفي. حيث أصبحت بعض الطرق الصوفية تستعمل بطاقة الهوية " كارنيه" وهي بتلك البطاقة ترد المريد إلى ذاته . والمتصوف ، لا ينبغي أن يتعلق أو يرتبط بالذات بل ينطلق للموضوع.... قال أحد الأوائل : "دخلت ثغرة لصوص فأكرموني وبجّلوني إلى أن قلت: أين إزاري؟ فسقطتُ من أعينهم " لأن من كان من الخواص ما كان ليهتم بعباءته إنما يهمه اللحاق بالموضوع الذي يعطي نتائج مختلفة جدا بحسب الحالة.
كان الشيخ أحمد الرفاعي الملقب ب"شيخ الطرائق "، القادم من المغرب، من أصول عربية عريقة و مقام اجتماعي عال وكان يقول : "أنا أحمد اللا شيء" ، " أنا لاشيء اللاشيء"؛ بينما كان الشيخ عبد القادر الجيلاني ، اليتيم الآتي من جيلان، يقول عكسه بعبارات مزلزلة : "يا أهلَ الأرضِ شَرْقاً وغرْباً، ويا أهلَ السَّماءِ، تقدَّموا، رحمكم الله،والتقطوا ثمار الحِكَم...ما أريدُ مجيئكم لي، بل أريده لكم ...قال تعالَى (وَيَخْلُُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ)؛ أَنَا مِمَّا لاَ تَعْلَمُونَ...أَنَا لُبٌّ بلا قِشْر، فَلا تَقِيسُونِى على أَحَدٍ، ولا تَقِيسُوا أَحَداً عَلَيّ ..." وكانا يعيشان في فترة متقاربة، إلا أن هذا التناقض الشكلي في العبارة يفسّر بأنّ كليهما خرج من الذات وتوغل في الموضوع، الذي هو الذات الإلهية على نحوين مختلفين؛ فلم يعودا "هما" أي شخصيهما... بل ظهرت تجليات الذات الإلهية عليهما والتجليات لا تنقطع في الكون ....فالله لا يتجلى على عبد بصفة مرتين ولا على عبدين بصفة واحدة، لأنه "كل يوم هو في شأن " والشأن يتجلّى. ولهذا فإن الصوفيّ "ابن وقته"، تراه مرة متنعّما أنيقا وتارة منكسرا بحسب الوقت الذي هو فيه، والوقت ليس هو الزمن. الزمن هو التتابع الآني وحسب التعريف الأرسطي "الزمن" هو مقياس الحركة ، حركة الموجود الطبيعي المتحرك حركة طبيعية في الزمان. أما "الوقت" فهو زمانك في زمن الحال فحين يتغير التجلي الإلهي عليك يتغير الوقت .،فقد يكون الوقت صفوا وقد يتجلى الله بصفته الرحيم أو الجبار... فالألوهية هي الجامعة بين الضدين ، فالله هو الجبار المنتقم، وهو الغفور الرحيم، وهو العاطي وهو المانع...
لا يمكن الخروج إلى حالة الكشف العلمي المبهر والإبداع الفني المتفرد إلا بالحس الصوفي وكذلك الشأن في الدين. فإذا اقتصر الدين على الشكل الظاهر للشرائع تجمّد ، وأصبح "كارثة"، كما نجد في جماعات، تقوم الليل، و تقتل باسم الدين وتنتهك باسم الدين، فتشوّه وتهدم الآثار وتخرّب. لماذا؟ لأن الجزء المادي هو المتحكم فيها ، ولم تتّجه للجزء للا مادي أو اللامحسوس: فيتصوّر المُلاّ عمر، مثلا، أنه أكثر تقوى من قتيبة بن مسلم، الفاتح العظيم، الذي فتح مساحات مهولة في آسيا ورأى تماثيل باميان في وسط أفغانستان ولم يهدمها، وأكثر تقوى من المسلمين الأوائل الذين احترموها بالكتابة عنها أيضا كالبيروني في "الآثار الباقية عن القرون الخالية". فإذا خلا الدين من النزعة الصوفية عند الإنسان، أي من البعد الروحي اللامادّي، أصبحت نظرته وحركته وأفعاله متمحورة في الجزء الذاتي المادي، الذي يريد أن يحكم، وأصبح مدمرا. نذكر أيضا القرامطة ، وهي جماعة ثارت متخذة طابعا دينيا ـ فذبحوا الحجيج يوم عرفة، واقتلعوا الحجر الأسود من الكعبة، فظل الناس بدون حج أكثر من عشرين سنة....
لنختم بتجلي الصوفية في الشعر:
حسب الوصف الدراسي التقليدي "الصبياني" كان المتنبي صديقا لسيف الدولة، يمدحه فيغدق عليه ثم تخاصما، فوعده كافور الإخشيدي بقطعة أرض في الفيوم بمصر، إلا أنه لم يف بوعده، فهجاه ورحل عنه...! وهذا النوع من المقاربة السطحية يخلق عقلية مسطحة...
فهل هذه حال من يقول:
عـيدٌ بِـأَيَّةِ حـالٍ عُـدتَ يا عيدُ ـــ بِـما مَـضى أَم بِـأَمرٍ فيكَ تَجديدُ
أَمّـا الأَحِـبَّةُ فَـالبَيداءُ دونَـهُمُ ـــ فَـلَيتَ دونَـكَ بـيداً دونَها بيدُ
لَولا العُلا لَم تَجُب بي ما أَجوبُ بِها ــ وَجـناءُ حَـرفٌ وَلا جَرداءُ قَيدودُ
وَكـانَ أَطـيَبَ مِن سَيفي مُضاجَعَةً ــ أَشـباهُ رَونَـقِهِ الـغيدُ الأَمـاليدُ ؟
هنا المتنبي يتأسف على بعد أحبته عنه (وكان يحب خولة أخت سيف الدولة التي لم يرض هذا الأخير تزويجه إياها، وسيرثيها بعد مدة قليلة، بالمرثية الشهيرة المجيدة التي خرج فيها عن تقاليد الرثاء العربي، بذكره محاسن المؤبَّنَة، وتجلي حبّه لها وحزنه العميق عليها ) فيقول: ليتك يا عيد كنت بعيدا وكان بيني وبينك من البعد ضعف ما بيني وبين الأحبة .فأي سرور مع بعد الأحبة؟! كما أن طلب العلا جعل قلبه يسلو عن الغيد النواعم. والعلا عنده يتجلى في الموضوع، وهو الوصول إلى سقف اللغة، ولا يمكن أن يصبح الشاعر الجيد مجيدا إلا بهذه النزعة التي تجعله يرى العالم بشكل مختلف، ولا يرضى بما يرضي به غيره من العوام.
ومن الشعر المعاصر، ننظر إلى الشاعر المصري أمل دنقل:
كان أمل دنقل يصرخ:
" المجد للشيطان .. معبود الرياح
من قال " لا " في وجه من قالوا " نعم " ..."
وفي قصيدة" لا تصالح"، عقب تصالح السادات مع إسرائيل، حيث كتب قولا جميلا عن حرب البسوس، بدأ بمقدمة نثرية:
"فنظر "كليب" حواليه وتحسَّر، وذرف دمعة وتعبَّر، ورأى عبداً واقفاً فقال له: أريد منك يا عبد الخير، قبل أن تسلبني، أن تسحبني إلى هذه البلاطة القريبة من هذا الغدير، لأكتب وصيتي إلى أخي الأمير سالم الزير، فأوصيه بأولادي وفلذة كبدي..
فسحبه العبد إلى قرب البلاطة، والرمح غارس في ظهره، والدم يقطر من جنبه.. فغمس "كليب" إصبعه في الدم، وخطَّ على البلاطة وأنشأ يقول..
لا تصالحْ!
..ولو منحوك الذهب
أترى حين أفقأ عينيك،
ثم أثبت جوهرتين مكانهما..
هل ترى..؟
هي أشياء لا تشترى... "
شعر جميل، لكنه كان لا يزال في مرحلة ملتصقة بالذات، لأنه ،هو، الذي يرفض كامب ديفيد، فيستدعي شخصية الزير سالم ـ التي كان يظنها شخصية فخمة...وكذلك في وفاة عبد الناصر كتب قصيدة جميلة ... لكن حين أصيب بالسرطان، دفعته هذه التجربة العنيفة من الذات إلى قصيدة " زهور":
(جمعنا أبيات القصائد متقاربة لعدم شغل مساحة أكبر من "الورق")
وسلالٌ منَ الورِد، - ألمحُها بينَ إغفاءةٍ وإفاقه - وعلى كلِّ باقةٍ- اسمُ حامِلِها في بِطاقه -تَتَحدثُ لي الزَهراتُ الجميلهْ- أن أَعيُنَها اتَّسَعَتْ - دهشةً -- َلحظةَ القَطْف،- َلحظةَ القَصْف،-لحظة إعدامها في الخميلهْ!- تَتَحدثُ لي..- أَنها سَقَطتْ منْ على عرشِها في البسَاتين - ثم أَفَاقَتْ على عَرْضِها في زُجاجِ الدكاكينِ، أو بينَ أيدي المُنادين،- حتى اشترَتْها اليدُ المتَفضِّلةُ العابِرهْ - تَتَحدثُ لي..- كيف جاءتْ إليّ..- (وأحزانُها الملَكيةُ ترفع أعناقَها الخضْرَ)- كي تَتَمني ليَ العُمرَ!- وهي تجودُ بأنفاسِها الآخرهْ!!- كلُّ باقهْ..- بينَ إغماءة وإفاقهْ - تتنفسُ مِثلِىَ - بالكادِ - ثانيةً.. ثانيهْ - وعلى صدرِها حمَلتْ - راضيهْ...- اسمَ قاتِلها في بطاقهْ!
هذا شعر مختلف لأنه حصل فيه تجاوز من ذات الشاعر إلى الموضوع؛ فلم تصبح الوردة موضوعا خارجيا على بساطة فكرة باقة الورد. كان أمل دنقل، يتخذ من الموضوعات الكبرى موقفا، أما الموضوعات الصغرى فقد توغل هو فيها وأصبح هو هي.. : "تتنفس مثلي" ، هنا تظهر المماثلة وهي" وحدة الشهود".
كما أنه في قصيدة "ضدّ من " ، في الغرفة رقم 8 أو في غرفة العمليات عدّد الأشياء البيضاء التي يراها حوله فقال:
كلُّ هذا البياضِ يذكِّرني بالكَفَنْ! - فلماذا إذا متُّ..- يأتي المعزونَ مُتَّشِحينَ.. - بشاراتِ لونِ الحِدادْ؟ - هل لأنَّ السوادْ.. - هو لونُ النجاة من الموتِ.- لونُ التميمةِ ضدّ.. الزمنْ ، - ضِدُّ منْ..؟ - ومتى القلبُ - في الخَفَقَانِ - اطْمأَنْ؟! - بين لونين: أستقبِلُ الأَصدِقاء..-الذينَ يرون سريريَ قبرا -وحياتيَ.. دهرا - وأرى في العيونِ العَميقةِ - لونَ الحقيقةِ - لونَ تُرابِ الوطنْ!
هنا أحس أنه سيموت وأنه سيدفن في التربة البنية التي يراها في أعين الناس حوله...فحدث خروج من ذاته ،من حالته المرضية نفسها إلى الموضوع وأصبح في حالة صوفية ..
ونصل إلي محمود درويش: الذي يكتب "سجّل أنا عربي " ، ثم "أحن إلى خبز أمي" . أشعار جميلة، ثم يصل إلى سقف الشعر المجيد الذاتي، في قصيدة "مديح الظل العالي " الطويلة ...إلا أنه يصاب في قلبه ، فتُجرى له عملية جراحية يعافى بعدها ، فكتب : ديوان "جدارية،" التي تغلب فيه الأنا والقوة:
أنا لست مني إن أتيت و لم أصل - أنا لست مني إن نطقت و لم أقل - أنا من تقول له الحروف الغامضات :- أكتب تكن ! -
و اقرأ تجد ! - إذا أردت القول فافعل ، يتحد -ضداك في المعنى ... - و باطنك الشفيف هو القصيد - ويستهين بالموت ويسخر منه فيقول: - هَزَمَتْكَ يا موتُ الفنونُ جميعُها .
حتى تجربة القلب وعملية القلب المفتوح لم تنقله إلى الحال الصوفي فكان شعره متمحورا حول ذاته الشاعرة وفجأة أو مفاجأة بالنسبة لزيدان يسمع درويش يقرأ قصيدة "لاعب النرد" في الاحتفال بمائة لبلدية رام الله ، فيستشعر موته...وقد توفّى بعد ذلك...
فالشاعر الذي كان دائما يقول " أنا "...قال:
مَنْ أَنا لأقول لكمْ - ما أَقول لكمْ ؟ - وأَنا لم أكُنْ حجراً صَقَلَتْهُ المياهُ - فأصبح وجهاً - ولا قَصَباً ثقَبتْهُ الرياحُ-
فأصبح ناياً ...- أَنا لاعب النَرْدِ ،- أَربح حيناً وأَخسر حيناً - أَنا مثلكمْ- أَو أَقلُّ قليلاً ...- وُلدتُ إلى جانب البئرِ-
والشجراتِ الثلاثِ الوحيدات كالراهباتْ - وُلدتُ بلا زَفّةٍ وبلا قابلةْ - وسُمِّيتُ باسمي مُصَادَفَةً - وانتميتُ إلى عائلةْ - مصادفَةً ، - ووَرِثْتُ ملامحها والصفاتْ - وأَمراضها : - أَولاً - خَلَلاً في شرايينها - وضغطَ دمٍ مرتفعْ...

هذا الشاعر الذي كان يكتب "جدارية" ضد الموت... يستحضر في آخر " لا عب النرد" تجربة المستشفى:
ومن حسن حظِّيَ أَني أنام وحيداً - فأصغي إلى جسدي - وأُصدِّقُ موهبتي في اكتشاف الألمْ - فأنادي الطبيب، قُبَيل الوفاة، بعشر دقائق - عشر دقائق تكفي لأحيا مُصَادَفَةً - وأُخيِّب ظنّ العدم - مَنْ أَنا لأخيِّب ظنَّ العدم ؟ - مَنْ أنا ؟ مَنْ أنا ؟
هذا هو التصوّف.

تبعت المحاضرة مناقشة، إلا أننا لم ننقلها، فمحتواها العام يدور حول ما نقلناه ؛ كما أضفنا أحيانا قليلة، بعض التوضيحات لتسهيل متابعة القارئ. وهذه المقالة لا تغني عن مشاهدة حلقة الدكتور يوسف زيدان، المتوفرة في يوتيوب، فالكلام المكتوب، ليس من مجاله نقل كل النوادر والإشارات وسحر الصوت وكاريزمائية المُحاضر.

"تراثنا الروحي" مركز دربة للتدريب
دبي - دولة الإمارات العربية المتحدة، نونبر 2013.



#حذام_الودغيري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قراءة في -اللاهوت العربي وأصول العنف الديني - للدكتور يوسف ز ...
- قصيدة للأب فينتشينزو ريتشو (مترجمة عن الإيطالية)
- قصيدة للأم إيدموندو دي أميتشيس ( مترجمة عن الإيطالية)
- قراءة في اللاهوت العربي وأصول العنف الديني للدكتور يوسف زي ...
- برتولد برخت حياة جاليليو (الفصل 1، المشهد 1) عن الإيطالية ( ...
- ألدا ميريني قصيدتا -ليدا - و - فانّي- (مترجمتان عن الإيطالية ...
- لوتشو دالاّ كاروزو (الأغنية الشهيرة) عن الإيطالية
- إدموند روستان، - سيرانو دو برجراك- (الفصل 2، المشهد 8) ( متر ...
- قصيدتان ل ألدا ميريني ( مترجمتان عن الإيطالية)
- قصيدة -شاعرة- ل إيلدا ميريني (مترجمة عن الإيطالية)
- قصيدة -حبّ- بابلو نيرودا (مترجمة عن الإيطالية)
- قصيدة -الحب- لويس أراغون (مترجمة عن الفرنسية)
- لماذا تنبغي قراءة -اللاهوت العربي وأصول العنف الديني- للدكتو ...
- حول التحقيق مع الدكتور يوسف زيدان أمام نيابة أمن الدولة العل ...
- حبٌّ لا يسكن نفساً حرّة، لا يُعَوّل عليه... قراءة في - ظل ال ...
- نظريات الحب من خلال - مأدبة - أفلاطون
- قصيدة -جُمَلٌ سَلْبِيّة لِبذْرَةِ عُبّادِ شمس- للشاعر الصيني ...
- لمحة عن تطوّرات الشعر الإيطالي الحديث
- الصرخة ( II ) ألان جينسبيرغ ( ترجمة عن الإنجليزية)
- الأصدقاء ل دينو بوزاتي ( ترجمة عن الإيطالية)


المزيد.....




- مجلس الأوقاف بالقدس يحذر من تعاظم المخاوف تجاه المسجد الأقصى ...
- مصلون يهود عند حائط البراق في ثالث أيام عيد الفصح
- الإحتلال يغلق الحرم الابراهيمي بوجه الفلسطينيين بمناسبة عيد ...
- لبنان: المقاومة الإسلامية تستهدف ثكنة ‏زبدين في مزارع شبعا ...
- تزامنًا مع اقتحامات باحات المسجد الأقصى.. آلاف اليهود يؤدون ...
- “عيد مجيد سعيد” .. موعد عيد القيامة 2024 ومظاهر احتفال المسي ...
- شاهد..المستوطنين يقتحمون الأقصى في ثالث أيام عيد -الفصح اليه ...
- الأردن يدين سماح شرطة الاحتلال الإسرائيلي للمستوطنين باقتحام ...
- طلاب يهود بجامعة كولومبيا: مظاهرات دعم فلسطين ليست معادية لل ...
- مصادر فلسطينية: أكثر من 900 مستعمر اقتحموا المسجد الأقصى في ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - حذام الودغيري - من محاضرة الدكتور يوسف زيدان - تراثنا الروحي- بمركز دربة للتدريب دبي. أو - التصوف هو تجاوز الذات إلى الموضوع-