أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جوزفين كوركيس البوتاني - يقال وعلى ذمة من قال















المزيد.....

يقال وعلى ذمة من قال


جوزفين كوركيس البوتاني

الحوار المتمدن-العدد: 4322 - 2013 / 12 / 31 - 02:27
المحور: الادب والفن
    


يقال ان تينا عادت إلى المدينة بعد اغتراب دام سنين وسنين—عقد من الزمن أو اكثر. وهاهي قد فرت من ذلك البلد الذي منحها كل ما حرمت منه في وطنها الأم. وهاهي اليوم في الوطن؛ ذلك الوطن الذي لم ينصفها ولم يرحمها، ورغم ذلك، فقد تركت كل اشيائها في الغربة وولت هاربة للوطن من جديد! لقد فرت وتركت كل الأمور عالقة. لم تصفي حساباتها في العمل، ولم تلغي مواعيدها التي كانت شديدة الحرص على الإلتزام بها. لقد كانت دقيقة حتى في مواعيد الحب والغرام—رغم انه لم يُعرف عنها شيئًا. تركت كل شيء كما هو. حتى شقتها لم تقم بتسليمها، وتركتها بشكل فوضوي. كل شيء فيها مبعثر؛ ويبدو بأن هناك من أحدث شرخ في مرآة زينتها كمن رمى زجاجة عطر عليها بشكل متعمد لكسرها. والله أعلم..
حتى القهوة التي اعدتها تركتها في مكانها. ويقال بأن تينا كانت تحتفظ في خزانة ملابسها بأشياء عجيبة وغريبة. اشياء سرية للغاية وجدت بعد فرارها: كتب دينية، فخار تاريخي، سجاد تراثي مصنوع باليد، وعلم غريب لا يشبه الأعلام المألوفة في العالم..
ويقال بأنهم وجدوا تحت وسادتها كيس يحوي على مادة غريبة تشبه بودرة بنية اللون، وظن بأنها نوع من المخدرات، ولكن حين فتحوا العلبة، اكتشفوا بأنه ليس سوى تراب وطنها الذي كانت قد جلبته معها حينما هربت من الوطن الذي عادت هاربة إليه من جديد دون ان يعرف أحد سبب رجوعها. ويقال أيضًا بأن تينا كانت امرأة بوهيمية، همجية بمشاعرها وسلوكها المنفرد. ووصفوها بأنها سمراء وعيونها سوداء كانت تجوب المدينة وهي حزينة وشادرة الذهن وشاحبة الوجه، والوجوم لا يفارق وجهها العنيد. ويقال بأنها غادرت البلد الغريب ليلاً في الوقت الذي كان هاتفها لا يكف عن الهذيان—لعله كان "البوي فريند"؟ ويقال بأن كان لها اصدقاء بعدد شعرات رأسها الفاحمة، وبأن كل يوم يشرق بصديق ويغرب بآخر جديد. وكان كل اصدقائها مثلها: تعساء وغرباء! ولكن عيون تينا كانت تمنحهم الأمان والسكينة والدفء.
وهكذا، الكل يصف تينا على هواه. فمنهم من قال بأنها تشبه ثلوج بلاده ببرودة اعصابها؛ ومنهم من قال بأنها امرأة ملتهبة ان لمسوها، تذكروا صحراء اوطانهم؛ ومنهم من قال بأنها دافئة وهائجة مثل الربيع حين يطل في بلدانهم. وهكذا باتت تينا رمزًا لكل البلدان ولكل من جاء من أماكن بعيدة إلى وحشة المدن الغريبة بحثًا عن الأمان وراحة البال، ولكن تينا زعزعت كل ذلك الأمان وزرعت الفوضى بهم حتى بدأ كل يبحث عن مخرج له. كانت تينا تمثل كل بلدٍ على حدا حتى لقبها البعض ب "الأممية"، ولكنها لم تتحمل اكثر من ذلك، لذا فتراها فرت عائدة إلى الوطن. ويقال بأنها كانت تمر مؤخرًا بنوبات واضطرابات داخلية، وكانت تبدو تعبة ويائسة، وبأنها كانت امرأة متكاملة من الخارج كحال الكثير من الشرقيات من الذين بدواخلهن قصور بجدران مهدمة والخارج يوحي بعكس ما بالداخل.. ومثلهن تينا، معشوقة الجميع المتكاملة المظهر من الخارج، كانت تعاني من تشوهات خلقية ولادية وراثية، كما وعانت الكثير من الإزدواجية التي كانت تلازمها والتي حطمتها كليًا حتى قررت العودة إلى الوطن. وليتها لم تعد!
ويقال—وعلى ذمة من قال—بأن تينا تركت وليدًا غير شرعي في البلدة التي عاشت فيها، ويعود الوليد لأب مهاجر مثلها من بلد لم تسمع به من قبل. أب بوهيمي مجهول الهوية، ولكنها تركت الوليد هناك كي لا تأخذ معاناتها معها، ولا سيما بأن الوليد لن يشاركها حب الوطن الذي لم يعرفه أو ينتمي له يومًا باي شكل من الأشكال. فالوليد ليس جزءًا من ماضيها، ولكنه جزء لا يتجزأ من حاضر مسحوق ومستقبل بلا حقوق.. وكانت واثقة كل الثقة بأن حقوقه ملغية لعدم اعتراف الأب به ولعدم انتماءه لوطنها. وفي أحد الأيام صرخت تينا لأصدقائها لتُعلِمهم بأنها ستثبت للعالم بأن وليدها هو من سيرثها ويرث كل ما تركته له، وسيضطر الوليد لأكمال مشوارها الذي قد لا تكمله هي لأسباب ستُعرف فيما بعد.. أجل، الوليد الجديد سيكمل مشوار غربتها وتسكعها، وقد يسأل عن والده الذي توفي أثر جرعة زائدة من الهيروين، ولكن الأبناء هنا في الغربة لا يحتاجون للأباء مطلقًا. كل ما يحتاجونه هو القليل من الحظ والكثير من الحكمة لكي يحصلوا على لقمة العيش. كما وقالت تينا بأن وليدها سيعرف يومًا من هي أمه التي استطاعت ان تمنحه الحرية وهو لايزال في المهد. وأضافت:
-ولدي هو من سيجيب على اسئلتي التي حيرت الكثير، وسيعيد علاقاتي القديمة وسيرتب كل مواعيدي المعلقة ويجيب على كل مكالماتي الهاتفية وسيلملم كل حاجياتي وسيجد صورًا لرجال غرباء بين طيات كتبي، وسيحاول معرفة اي منهم ابيه، وسيقف امام المرآة ليقارن بينه وبين صور هؤلاء الرجال وسيكتشف بأن كل الصور متشابهة. سيكتشف بأن كل الوجوه جريئة وعيونها شاردة ونظراتها تائهة، وكل الرجال في الصور يجمعهم انكسار داخلي لا تراه العين المجردة. وقد يلعنني لأنني لم أفز برجل مكتمل ولأنني سيئة الخلق—وإلا لما احتفظت بهذا الكم الهائل من الصور.
ولكن تينا ليست ممن يبالون بهذه الخزعبلات التي قد تتعب وليدها "الغير شرعي"، والذي بدوره قد يطالب بمعرفة أبيه الذي لا يحتاجه مطلقًا ولكن فقط من باب الفضول لا أكثر. وبما أن تينا كتومة، فالوصول إلى الحقيقة محال. ويقال بأنها تركت رسالة غامضة مرسلة من جهة غير معلومة تطالب بها اعفائها من المهمة الملقاة على عاتقها، ولكن لا أحد يعرف ما هي تلك المهمة ومن هم اصحاب تلك الجهة.
ويقال ايضًا—وما ابشع ما قيل—بانها حالما وصلت لحدود بلدها، مزقت جميع اوراقها الثبوتية، من ضمنها شهادة ميلادها وجنسيتها التي تثبت بأنها ابنة الوطن، ولم تحتفظ سوى بأوراقها الثبوتية من البلد الغريب الذي هربت منه. وعند الحدود اوقفها ضابط تفتيش والقى القبض عليها وهي تتسلل عبر حدود وطنها. وقيل لها بأن دخول البلد شيء والخروج منه شيء مختلف تمامًا. وأما هي فكانت تعبة لأنها قطعت مسافة طويلة حتى وصلت الحدود وهي تسير برفقة جندي وخفر الحدود كانوا يراقبونها باستغراب. وبالقرب من إحدى القرى الحدودية حيث كانت هناك شجرة توت عملاقة يرجع تاريخها لمئات السنين، اتكأت تينا على الشجرة وهي منهوكة القوى وعاجزة عن الدفاع عن نفسها. وهناك حاصرها رجال الحدود وقالوا عنها دخيلة وربما "إرهابية" ارسلتها جهة تخريبية كي تخلق الفوضى في البلد، وكأن البلد لا يعوزه سوى تينا! وقُيدت على الشجرة العملاقة وهي صامتة وكأنها اصيبت بالخرس والخيبة في آن واحد لأنها عادت إلى غربة الوطن..
وأخر ما قيل عنها بأنها تلقت رصاصة "عشوائية طائشة" اتضح فيما بعد بأنها اطلقت عليها عمدًا من متمردين رفضوا دخولها لأرض الوطن.
وهكذا تغيرت العبارة من "تينا عادت إلى الوطن" إلى "تينا قتلت في الوطن"! وبعد موتها على الحدود، قيل بأن الحكومة احتضنت جسدها ومنحتها الجنسية وباتت مواطنة كجميع المواطنين. كما وفتحت تحقيقًا حول مقتلها لتتحول بذلك من انسانة من لحم ودم إلى إضبارة.. إلى ملف.. إلى قضية اغلقت من زمن بعيد..لتتحول من مواطنة أصلية إلى إبنة بلد أخر يطالب حكومتها الغير مكترثة بقتلها بالتحقيق في موتها.
وقالوا، وما ابشع ما قالوا، بأن تينا لم تعد تنتمي لهذا البلد وهي من الأجانب، وقالت حكومتها الغريبة، وهي بصدد الدفاع عن مواطنتهم الكريمة، بأن الأجراءات اللازمة يجب ان تتخذ من أجل "تينا المدللة" وهو واجبهم حسب ما يقتضيه دستورهم وقوانينهم المبجلة..وأما حكومة تينا ففتحت ملفها من باب الشكليات لا أكثر.
لنرى ماذا في ملفها الذي ظل مغلقًا لسنين طويلة. الملف يبدو غير مشرفًا أبدًا! فأباها أصله من تركيا، فهو إذن من "التبعية". وأمها من أصل إيراني، فإذن هي من التبعية أيضًا. كان لديها عدة أخوة: البكر استشهد في "قادسية صدام المجيدة"، والثاني فُقِد في أحداث حرب الكويت، والثالث قتله الأرهابيون بحجة انه "كافر"! وأما الرابع ففر مؤخرًا إلى الجبال وبات من المتمردين على السلطة. والوالدان ماتا في قريتهم الحدودية إثر قصف جوي تعرضت له القرية بحجة القضاء على المتمردين. ويقال بأن تينا اصبحت وحيدة بعد مقتل والديها، لذا فهربت للخارج مع ابن عمها الذي توفي إثر نوبة قلبية في الغربة—لعله كان "هوم سِك"—أي مصاب بالحنين إلى الوطن، ولم يحتمل البعد عنه. وتينا التي بقيت وحيدة تلعق جروحها في الغربة، قررت فجأة العودة إلى وطنها الذي لم يكف يومًا عن مطاردتها وطمس هويتها وحقيقتها ووضعها في ملف نصفه ملفق والنصف الآخر يصعب تزويره! والوطن استقبلها برصاصة اردتها قتيلة واعتبرها اجنبية قتلت في بلد غريب!
وبرغم ملفها المأساوي، فقد اغلق الملف لأن فتحه يعني فتح ابواب لا ترضي أذواق الحكومة، حيث ستضع الأخيرة في موقف محرج وسين وجيم. إذن فلتذهب تينا إلى الجحيم وليغلق ملفها للأبد، وعلى أثر ما حدث، فقد قامت الحكومة السابقة بدفع تعويض خيالي للحكومة الحالية (ترى كم كان يساوي الصمت على هذا الملف؟)، ولم يتبقى من تينا سوى ابنًا غير شرعي وأسم مجهول وجنسية مزيفة، وهذا ما قيل وما سيقال وعلى ذمة من قال وعلى ذمة شهود العيان..
فلا أحد عرف تينا بعمق ولا أحد يجرؤ على ان يروي حكايتها ولا حتى وكالات الأنباء العربية والأجنبية.. ولا حتى المنظمات التي تدعي الأهتمام ب "حقوق الإنسان". ولف صمت يصم الآذان ملف هذه القتيلة لأنه ليس من مصلحة أحد ان ينبش في القصة التي تفتح الف جرح وجرح..
وأخيرا قيل بأن تينا قالت قبل موتها بأنها ستمنح ابنها بعض من الحرية التي لم تنلها يومًا. فهي لم تنل سوى الضياع ووعود مطعمة بالقيود المؤبدة. وهكذا ماتت تينا على حدود الوطن واصبحت رمزًا لكل كائن حُرِم من حقه في الحياة والحرية والأستقلال في داخل وطنه. وأظن ان كل من ذاق الظلم والتعسف يعرف تينا معرفة حقة...


--كتبت بتاريخ الرابع عشر من شباط من عام 2003



#جوزفين_كوركيس_البوتاني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الدخيل
- بين وبين
- لحظات مدفونة
- رسالة من محاربة في خندق لا تعرفه
- مسك الختام
- إلى صديقي الوفي: القلم
- عطور الذاكرة
- طفلة الزقاق القديم
- لحظات مكسورة- الجزء الثالث
- لحظات مكسورة- الجزء الثاني
- لحظات مكسورة
- أشهد بأنني امرأة ساقطة
- حكاية ياسمين
- مرادفات
- أزهار منثورة
- غرفة السيد ناجي
- فلنتعلم من الغربة والغرباء
- إليكم عني
- قصص قصيرة جدًا
- قصيرة جدًا


المزيد.....




- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!
- مهرجان بابل يستضيف العرب والعالم.. هل تعافى العراق ثقافيا وف ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جوزفين كوركيس البوتاني - يقال وعلى ذمة من قال