أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - سعيد العليمى - الدين والصراع الطبقى فى المجتمع الشرقى العبودى القديم - القسم الرابع 2 - كارل كاوتسكى















المزيد.....



الدين والصراع الطبقى فى المجتمع الشرقى العبودى القديم - القسم الرابع 2 - كارل كاوتسكى


سعيد العليمى

الحوار المتمدن-العدد: 4317 - 2013 / 12 / 26 - 16:15
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


الفصل الرابع
قصة آلام المسيح
هناك بالفعل بضعة أشياء قد يشار إليها فى الأناجيل بدرجة معينة من الجدارة بالتصديق بوصفها وقائع فعلية فى حياة المسيح: ميلاده وموته؛ واقعتان بالفعل، اذا أمكن البرهنة عليهما، سوف يظهران أن يسوع عاش بالفعل ولم يكن شخصية أسطورية فحسب، ولكنهما لا يلقيان ضوءا ما على أكثر العناصر أهمية فى شخصية تاريخية: أى، الأنشطة التى ينخرط فيها هذا الشخص بين الميلاد والموت.ان خليط المبادئ الأخلاقية والأعمال العجائبية التى قدمتها الأناجيل كرواية عن هذه الأنشطة حافلة للغاية بمادة مستحيلة ومصطنعة بوضوح، وبها القليل القليل مما يمكن أن يتأيد بدليل آخر، حتى أنها لايمكن أن تستعمل كمصدر.
ليست الحالة مختلفة كثيرا مع الافادة التى تتعلق بميلاد وموت المسيح. مع ذلك فلدينا هنا بضعة إشارات بأن هناك نواة فعلية من الحقيقة تبقى مختفية تحت جملة الاصطناعات. ربما نستنتج وجود بعض هذه الحقائق الأساسية على الأقل من ملابسات أن هذه القصص تحتوى على اتصالات كانت محرجة للغاية للمسيحية، لم تخترعها المسيحية بالتأكيد، ولكن من الواضح أنها كانت معروفة للغاية ومقبولة بين أتباعها حتى أنها مكنت مؤلفى الأناجيل أن يستبدلوا اختراعاتهم بها، الأمر الذى فعلوه غالبا دون تردد فى حالات أخرى.
واحدة من هذه الحقائق هى الأصل الجليلى ليسوع، الذى لم يكن ملائما لأقصى حد نظراً لزعمه بأنه المخلص من نسل داود. لأنه كان على المخلص أن يأتى من مدينة داود. لقد رأينا أية حيلة خاصة كانت مطلوبة لربط الجليلى بهذه المدينة. اذا كان يسوع نتاجا فحسب لخيال أحد المجامع التي تبنت رؤية خلاصية مبالغ فيها، فإن مثل هذا المجمع لم يكن ليفكر أبدا فى ان يصنع منه جليليا. إننا من ثم قد نقبل على الأقل هذا الأصل الجليلى، ومعه وجوده، بوصفه محتملا للغاية. ربما نقبل، أيضا، موته على الصليب. لقد رأينا أن الأناجيل مازالت تحتوى على مقاطع تسمح لنا أن نفترض أن يسوع قد خطط لانتفاضة باستخدام القوة، وقد صلب من أجل هذه المحاولة. هذا أيضاً موقف محرج يمكن تأسيسه بصعوبة على الاختراع. إنه يتناقض بحدة مع الروح السائدة فى المسيحية فى الوقت الذى كانت قد بدأت فيه تفكر فى ماضيها وتسجل تاريخ أصلها. ليس - لابد أن نتذكر - لأغراض تاريخية، وإنما لأغراض جدالية ودعائية.
إن موت المخلص نفسه بالصلب كان فكرة غريبة للغاية على الفكر اليهودى، التى صورت المخلص دائما بجلالة بطل منتصر، حتى أن حادثة حقيقية فقط، استشهاد بطل القضية الخيرة، أنتج انطباعا لايمحى على تلاميذه، وأمكن له أن يخلق التربة الصالحة لفكرة المخلص المصلوب.
حين قبل المسيحيون الوثنيون تقليد هذا الصلب، فسرعان ما اكتشفوا أنه عائق: أعلن التقليد أن الرومان قد صلبوا يسوع كمخلص يهودى، ملك اليهود، بمعنى آخر. بطل للاستقلال القومى اليهودى، خائن للحكم الرومانى، وأصبح هذا التقليد بعد سقوط أورشليم محرجاً بشكل مزدوج. كانت المسيحية الآن فى معارضة مكشوفة لليهود، ورغبت فى أن تتفاهم مع السلطات الرومانية. لقد أصبح الآن مهما تشويه التقليد بطريقة تحول اللوم على صلب المسيح من أكتاف الرومان إلى ( أكتاف ) اليهود، وأن تطهر المسيح ليس فقط من كل مظهر لاستخدام القوة، وإنما أيضاً من كل تعبير يشى بأفكار مواليه لليهود ومعادية للرومان.
ولكن حيث أن الإنجيليين كانوا جهلة تماما مثل الجمهور الأعظم من الطبقات الدنيا فى تلك الأيام، فقد أنتجوا أكثر خلط للألوان لفتا للنظر فى إعادة تنقيحهم للصورة الأصلية.
من المحتمل أننا لانجد فى أى مكان فى الأناجيل تناقضات أكثر وأشياء غير معقولة أكثر مما فى القسم الذى خلق تقريبا ولمدة ألفى عام أعمق الانطباع على العالم المسيحى وأثار خياله على نحو أشد قوة. ومن المحتمل أنه لم تلون مادة أخرى مرارا إلى هذا الحد مثل معاناة وموت المسيح. ومع ذلك فإن هذه الرواية لن تحتمل أى بحث رصين، وهى تجميع لأكثر الأساليب الروائية لا فنية وفظاظة.
لقد كانت قوة العادة فقط هي التى سببت حتى فى ان تبقى أرقى الشخوص فى العالم المسيحى متبلدة فيما يتعلق بالإدراجات التى لاتصدق التى صنعها مؤلفو الأناجيل، حتى أن الشفقة الأولية التي ينطوي عليها صلب يسوع، وكذلك فى أى استشهاد من أجل قضية عظمى، كان له أثره بالرغم من كتلة التفاصيل هذه، وأضفت هالة أكثر لمعانا على العناصر المثيرة للسخرية والعبثية للقصة.
تبدأ قصة الآلام بدخول يسوع إلى أورشليم. إن هذا موكب ملك منتصر . يأتى السكان لتحيته، البعض نثروا ملابسهم أمامه على الطريق، آخرون قطعوا أغصان الأشجار، لنثرها فى طريقه، وصاحوا له بابتهاج: أوصنا Hosanna (ساعدنا!)؛ مبارك الآتى باسم الرب: مباركة مملكة أبينا داود، الآتية باسم الرب. (مرقس 11/9)
كان الملوك يستقبلون هكذا بين اليهود (انظر ملوك 9،13 حين يتحدث عن ياهو). العامة مرتبطين بيسوع؛ الأرستقراطية والبورجوازبة فقط "الكهنة والكتبة"، معادين له. يتصرف يسوع كديكتاتور. لقد كانت لديه قوة كافية ليطرد الباعة والصيارفة من الهيكل، دون أن يواجه بأدنى مقاومة. ويبدو أن لديه سيطرة مطلقة على قلعة اليهودية هذه.
بالطبع هذه المبالغة طفيفة من جانب الإنجيليين. إذا كان يسوع قد امتلك مثل هذه القوة العظمى، فلم يكن ليخفق فى أن يجذب انتباها عظيما. إن مؤلفا مثل يوسيفوس، الذى يروى التفاصيل النافلة، كان من المؤكد أن يكون في جعبته شيء يقوله عن الموضوع. أضف إلى ذلك، فحتى العناصر البروليتارية فى أورشليم، الغيورون، على سبيل المثال، لم يكونوا أبدا أقوياء بما فيه الكفاية لحكم المدينة بلا معارضة. فقد واجهوا مقاومة مرة بعد المرة. اذا كان يسوع قد حاول أن يدخل أورشليم ويطهر الهيكل ضد معارضة الصدوقيين والفريسيين، فقد كان من الضرورى له أولا أن يقاتل معركة منتصرة فى الشوارع. كانت معارك الشوارع بين الفرق اليهودية المختلفة أحداثا يومية فى أورشليم فى ذلك الزمن.
إنه لجدير بالملاحظة، على أية حال، فى حكاية دخوله، أن السكان يظهرون وهم يحيون يسوع بأنه الذى سيأتى "بمملكة أبينا داود"، بمعنى آخر، باعتباره مسترد المملكة اليهودية. يظهر يسوع ليس فقط فى ضوء كونه خصماً للطبقة الحاكمة وسط اليهود، وإنما أيضاً كمعارض للطبقات الحاكمة من الرومان. ليست هذه العداوة بالتأكيد نتاج خيال مسيحى، وإنما هي من الواقع اليهودى.
يلى الآن فى رواية الأناجيل الأحداث التى عالجناها سلفا:الأمر بأن يحصل التلاميذ على السلاح، خيانة يهوذا، النزاع المسلح على جبل الزيتون. لقد رأينا سلفا أن هذه بقايا تقليد قديم لم يشعر أحد به لاحقا بوصفه غير ملائم وأعيد تلوينه لجعله أكثر سلمية وخنوعا في نغمته.
يؤخذ يسوع سجينا، ويقاد إلى قصر رئيس الكهنة وهناك يحاكم:
"وكان رؤساء الكهنة والمجمع كله يطلبون شهادة على يسوع ليقتلوه فلم يجدوا. لأن كثيرين شهدوا عليه زورا ولم تتفق شهادتهم...... فقام رئيس الكهنة فى الوسط وسأل يسوع قائلا: أما تجيب بشيء؟ ماذا يشهد به هؤلاء عليك؟ أما هو فكان ساكتا ولم يجب بشئ. فسأله رئيس الكهنة ايضا، وقال له: أأنت المسيح، إبن المبارك؟ فقال يسوع أنا هو: وسوف تبصرون ابن الإنسان جالسا عن يمين القوة، وآتيا فى سحاب السماء. فمزق رئيس الكهنة ثيابه وقال ماحاجتنا بعد إلى شهود. قد سمعتم التجاديف. مارأيكم؟ فالجميع حكموا عليه أنه مستوجب الموت". (مرقس،14/55،56 "- 60-64)
حقا شكل استثنائى من إجراءات المحاكمة! المحكمة تجتمع فورا بعد القبض على السجين، فى نفس الليلة، وليس فى المحكمة، التى يحتمل أنها كانت على جبل الهيكل ، وإنما فى قصر رئيس الكهنة! ماذا تكون ثقتنا فى تقدير محاكمة بتهمة الخيانة العظمى في ألمانيا، حين يقال بأن المحكمة منعقدة فى القصر الملكى ببرلين! يظهر شهود زور الآن ضد يسوع، ولكن بالرغم من حقيقة أنه لا أحد يستجوبهم، وأن يسوع لا يحير جوابا على اتهاماتهم فإنهم لا يستطيعون أن يقدموا شيئا يجرمه. يسوع هو أول من يجرم نفسه بإعلان أنه هو المخلص. لماذا كل هذا الجهاز من شهود الزور إذا كان هذا الاعتراف كافيا لإدانة يسوع؟ غرضه أن يظهر شر اليهود فحسب. تفرض عقوبة الموت على الفور. هذا انتهاك للأشكال المقررة، التى شدد عليها اليهود فى هذا الزمن. إن الحكم بالبراءة فقط هو الذي يمكن أن تنطق به المحكمة دون تأخير؛ أما الإدانة فيمكن أن تنطق فى اليوم التالى على المحاكمة.
ولكن هل كان للمجلس فى هذا الوقت الحق فى فرض عقوبة الإعدام على الإطلاق؟ يقول السنهدرين: "قبل أربعون عاما من تدمير الهيكل كانت إسرائيل محرومة من حق النطق بأحكام البراءة والإعدام".
يؤيد هذا حقيقة أن المجلس لا ينفذ عقوبة يسوع، ولكن يسلمه، بعد أن يحاكمه، حتى يحاكم مرة أخرى من قبل بيلاطس، هذه المرة بتهمة الخيانة العظمى ضد الرومان، الاتهام بأن يسوع قد نوى أن يجعل نفسه ملك اليهود وأن يحرر اليهودية من الحكم الرومانى اتهام ممتاز يوجه من محكمة من الوطنيين اليهود!
من الممكن تماما، على أية حال، أنه كان للمجلس الحق فى نطق أحكام الإعدام التى تطلبت موافقة الوالى على الإعدام.
الآن أى مجرى تتخذه المحاكمة أمام الحكم الرومانى؟
"فسأله بيلاطس أنت ملك اليهود فأجاب وقال له، أنت تقول. وكان رؤساء الكهنة يشتكون عليه كثيراً. فسأله بيلاطس أيضاً قائلاً أما تجيب بشيء. انظر كم يشهدون عليك. فلم يجب يسوع أيضاً بشيء حتى تعجب بيلاطس. وكان يطلق لهم فى كل عيد أسيراً واحد من طلبوه. وكان المسمى باراباس موثقاً مع رفقائه فى الفتنه الذين فى الفتنة فعلوا قتلا. فصرخ الجمع وابتدأوا يطلبون ان يفعل كما كان دائما يفعل لهم. فأجابهم بيلاطس قائلاً أتريدون ان اطلق لكم ملك اليهود. لانه عرف ان رؤساء الكهنة كانوا قد أسلموه حسداً. فهيج رؤساء الكهنة الجمع لكى يطلق لهم بالحرى باراباس. فأجاب بيلاطس أيضاً وقال لهم فماذا تريدون أن أفعل بالذى تدعونه ملك اليهود فصرخوا أيضاً اصلبه. فقال لهم بيلاطس وأىٍ شر عمل. فازدادوا صراخاً اصلبه. فبيلاطس إذ كان يريد أن يعمل للجميع مايرضيهم أطلق لهم باراباس واسلم يسوع بعد ما جلده ليصلب" (مرقس 15/2-15).
عند متى يذهب بيلاطس إلى حد أن يغسل يده فى حضور العامة وأن يعلن: "إنى برئ من دم هذا البار: أبصروا أنتم. فأجاب جميع الشعب وقالوا: دمه علينا وعلى أولادنا". (متى، 21/24،25)
لا يقول لنا لوقا إن المجلس قد حكم على يسوع بالإعدام؛ والمجلس اتهم ببساطة يسوع عند بيلاطس.
"فقام كل جمهورهم، وجاءوا به إلى بيلاطس، وابتدأوا يشتكون عليه قائلين إننا وجدنا هذا يفسد الأمة ويمنع أن تعطى جزية لقيصر قائلا إنه هو مسيح ملك. فسأله بيلاطس قائلا أنت ملك اليهود. فأجابه وقال أنت تقول. فقال بيلاطس لرؤساء الكهنة والجموع إنى لا أجد علة فى هذا الإنسان. فكانوا يشددون قائلين إنه يهيج الشعب وهو يعلم فى كل اليهودية مبتدئا من الجليل إلى هنا". (لوقا23/1-5)
من المحتمل أن لوقا أقرب إلى الحقيقة. يسوع هنا متهم بالخيانة فى حضور بيلاطس وبكبرياء شجاع لاينكر هذا الذنب. حينما سأله بيلاطس عما اذا كان هو ملك اليهود، بمعنى آخر، قائدهم فى النضال من أجل الاستقلال، يعلن يسوع "أنت تقول". إن إنجيل القديس يوحنا منتبه إلى أنه كيف سيكون رديئا الاحتفاظ بهذه البقية من الوطنية اليهودية، ومن ثم جعل يسوع يجيب: "ليست مملكتى من هذا العالم" بمعنى: أنها لو كانت من هذا العالم، لقاتل أتباعى. إن إنجيل القديس يوحنا هو الأحدث؛ لقد تطلب من ثم وقت طويل بالنسبة للكتاب المسيحيين ليقرروا هكذا أن يشوهوا الحقائق الأصلية.
إن الحالة بالنسبة لبيلاطس واضحة جدا. كممثل للسلطة الرومانية، فقد كان يقوم بواجبه فحسب بإعدام المتمرد يسوع.
ولكن الجمهور الأعظم من اليهود لم يكن لديه أدنى سبب حتى يسخط على رجل لم يرغب فى أن تكون له صلة بالحكم الرومانى، ودعاهم لرفض دفع الضرائب للإمبراطور. إذا كان يسوع قد فعل هذا بالفعل، فقد كان يتصرف باتفاق تام مع روح الغيورين المهيمنة آنئذ بين سكان أورشليم.
يترتب من ثم على طبيعة الحالة، إذا افترضنا أن الاتهام الوارد فى الإنجيل صحيح، أن اليهود تعاطفوا مع يسوع، بينما كان بيلاطس مضطرا لإدانته. ولكن ماهو السجل فى الأناجيل؟ لايجد بيلاطس أقل ذنب فى جانب يسوع بالرغم من أن الأخير يعترف بمثل هذا الذنب هو نفسه. يعلن الوالى مرة بعد أخرى براءة المتهم، ويسأل أى شر فعله هذا الرجل.
هذا وحده سوف يبدو غريبا. ولكن لا يزال الأكثر غرابة حقيقة أنه بالرغم من أن بيلاطس لايعترف بذنب يسوع، فهو مع ذلك لا يبرئه.
الآن، يحدث أحيانا أن يجد الوالى حالة سياسية معقدة جدا يستعصي عليه أن يحكم فيها بنفسه. ولكن لم نسمع بأن واحدا من موظفي الإمبراطور كان عليه أن يجد حلا للصعوبة بسؤال جموع شعب عن ماذا ينبغى عمله مع المتهم. إذا لم يفضل أن يحكم بالإدانة فى حالات الخيانة العظمى، فقد كان عليه أن يرسل المتهم إلى روما، إلى الإمبراطور. الوالى أنتونيوس فيلكس (52-60 ب.م)، على سبيل المثال، تصرف هكذا. لقد أغوى قائد غيوري أورشليم، رئيس العصبة إليعازر، الذى أغار على الأرض لعشرين عاما، أن يأتى إليه، بوعده بالأمان، ثم أخذه سجينا وأرسله إلى روما، أضف إلى ذلك صلب عديدا من أتباعه.
ربما أرسل بيلاطس يسوع إلى روما بنفس الطريقة. ولكن إنجيل متى يعزو أشد الأدوار سخرية إلى بيلاطس: قاضى رومانى، ممثل الإمبراطور طيباريوس، سيد الحياة والموت، يتوسل إلى تجمع شعبى فى أورشليم أن يسمح له بتبرئة سجين، وحين "يقرر بشكل سلبى، يجيب: "حسنا، اذبحوه، أنا برئ من دمه" ولكن لايمكن لأى خاصية أن تتناقض بعنف أكثر مع (خاصية) بيلاطس التاريخى من الرحمة التي توحي بها فى الأناجيل. أجريبا الأول، فى رسالة إلى فيلون، يدعو بيلاطس "شخصية عنيدة وقاسية بلا رحمة" ويتهمه بـ" الفساد، والرشوة، والسرقة، والتعامل بقسوة، الإهانات، إعدامات مستمرة دون حكم، قساوات لانهائية ولاتحتمل".
إن فظاظته وقسوته أثمرت مثل هذه الظروف الفظيعة التي أدت لاشمئزاز الحكومة المركزية فى روما فاستدعته (36 ب.م).
ويطلب منا أن نعتقد أن هذا الرجل كان عادلا على نحو استثنائى وشغوفا فى حالة المحرض البروليتارى يسوع، أضف إلى ذلك أظهر درجة من الاعتبار لرغبات الشعب التى كان لها نتاج أثر على المتهم.
لقد كان الإنجيليون غاية فى الجهل حتى يلاحظوا هذه الصعوبات. ولكن لابد أنهم كانوا قد شعروا بأنهم ينسبون دوراً غريبا للحاكم الرومانى. لقد بحثوا من ثم عن قضية تجعل هذا الدور أكثر جدارة بالتصديق: لقد رووا أن بيلاطس كان معتادا على إطلاق سجين فى عيد الفصح بناء على طلب اليهود، وأنه حين عرض أن يطلق سراح يسوع أجابوا: "ليس هذا بل باراباس!".
فى المحل الأول، من الغريب أنه لاتذكر عادة كهذه فى أى مكان عدا فى الأناجيل؛ مثل هذه العادة سوف تتناقض مع الممارسة الرومانية، التى لم تعط الولاة حق العفو. وتتناقض مع أى ممارسة قانونية منتظمة أن يمنح حق العفو لجمهور عرضى وليس لهيئة مسئولة. يمكن للاهوتيون فقط أن يقبلوا مثل هذه الأوضاع القانونية بقيمتها الظاهرية. ولكن حتى إذا تغاضينا عن ذلك، وحتى اذا قبلنا حق العفو المنسوب إلى الجمهور اليهودى على هذا النحو شديد الغرابة الذى تصادف أنه كان يتداول أمام بيت الوالى، فيجب مع ذلك أن نسأل ماهى العلاقة بين هذه الممارسة والقضية الراهنة؟
لم يحكم على يسوع حتى قانونا. بنطس البيلاطى مواجه بالسؤال: هل يسوع مذنب بتهمه الخيانة العظمى أم لا؟ هل أحكم عليه أم لا؟ وهو يجيب بالسؤال: هل ستستخدم حقك فى العفو فى صالحه أم لا؟ بيلاطس بدلا من أن ينطق بالحكم، يدعو للعفو ! اذا كان يعتبر يسوع بريئا، أليس له الحق فى تبرئته؟
يتوالى الآن عبث جديد. يفترض أن لليهود حق العفو؛ كيف يمارسون هذا الحق؟ هل بطلب إطلاق باراباس؟ لا، إنهم يطلبون أيضاً أن يصلب يسوع! يبدو أن الإنجيليين يستنتجون أن حق العفو عن واحد يتضمن حق إدانة الآخر.
توازى هذه الممارسة القضائية المجنونة ممارسة سياسية ليست أقل جنونا.
يصور الإنجيليون لنا جمهورا يكره يسوع إلى حد أنه يعفو بالأحرى عن قاتل وليس عنه؛ سوف يتفضل القارئ بتذكر، قاتل - لم يكن متاحا للرحمة موضوع أكثر جدارة – ولا يرضى حتى يقاد يسوع إلى الصلب.
تذكر أن هذا هو نفس الجمهور الذى حياه بالأمس فقط كملك بصيحات (أوصنا)، ونشر الأردية تحت قدميه وحياة بابتهاج، بدون أن يظهر صوت مناؤى. وقد كان هذا التفانى من جانب الجمهور فقط الذى مَثْلَ - طبقا للأناجيل - سبب رغبة الأرستقراطيين فى القضاء على حياة يسوع، منعهم أيضاً من محاولة القبض عليه فى ضوء النهار وجعلهم يختارون الليل بدلا من ذلك. الآن يبدو أن نفس هذا الجمهور مجمع تماما فى كراهته الوحشية المتعصبة ضده، ضد الرجل الذى اتهم بجريمة سوف تجعله جديرا بأشد احترام فى عينى أى وطنى يهودى: محاولة تحرير الجماعة اليهودية من الحكم الأجنبى.
هل حدث أى شيء يبرر هذا التحول العقلى المثير للدهشة؟ سوف تكون هناك حاجة إلى أشد الدوافع قوة لتفسير مثل هذا التغير. الإنجيليون يتمتمون ببضع جمل غير متماسكة ومثيرة للسخرية، اذا كانت شيئا على الإطلاق. لايعزو لوقا ويوحنا أى دوافع؛ يقول مرقس: "فهيج رؤساء الكهنة الجمع ضد يسوع"؛ متى ! "حرضوا الجموع ". هذه المجازات تظهر فحسب أن الكتاب المسيحيين قد فقدوا حتى البقية الأخيرة من حسهم السياسى ومعرفتهم السياسية.
لا يمكن حتى لأكثر الجموع فقدانا للعقل أن تقتنع بكراهة متعصبة دون دافع ما. قد يكون هذا الدافع غبيا أو زائفا، ولكن يجب أن يكون هناك دافع. يتجاوز الجمع اليهودى فى الأناجيل أكثر شريرى المسرح سوء سمعة وبلاهة فى خسته الغبية. لأنه بدون أدنى سبب، بدون أدنى قضية، يصخب مهدراً دم من وَقَره بالأمس.
يصبح الأمر أكثر غباوة حين نعتبر الظروف السياسية للزمن. كان للجماعة اليهودية بصفة خاصة حياة سياسية نشطة متميزة في ذلك عن كل الأقسام الأخرى من الإمبراطورية الرومانية تقريباً؛ مظهرة التطرفات القصوى لكل أنواع المعارضات الاجتماعية والسياسية. كانت الأحزاب السياسية منظمة جيدا، وكان هناك حتما جمهور ما وراء السيطرة. تشربت الطبقات الدنيا فى أورشليم تماما بنزعة الغيورين، وكانت فى صدام دائم حاد مع الصدوقيين والفريسيين، ومملوءة بأشد الأحقاد وحشية ضد الرومان. وكان أفضل حلفائهم الجليليين المتمردين.
"حتى اذا نجح الصدوقيين والفريسيين فى "تهييج" بعض الناس ضد يسوع، فلم يكن من المحتمل أن يتمخضوا عن تظاهرة شعبية متفق عليها، ولكن على أكثر تقدير حرب شوراع دموية. ليس هناك شيء أكثر إثارة للسخرية من فكرة أن الغيورين سوف يندفعون بصرخات وحشية ليس ضد الرومان والأرستقراطيين، وإنما ضد المتهم المتمرد الذى انتزعوا إعدامه من الحاكم الرومانى ضعيف الشخصية، بالرغم من افتتان الحاكم الغريب بالخائن.
لم يخترع أحد أبدا أى شيء أكثر طفولية بفظاظة. ولكن مع هذا الجهد لتصوير الطاغية الدموى بيلاطس كحمل برئ، وجعل الفساد الأهلى لليهود مسئولا عن صلب المخلص المسالم الذى لاضرر منه، استنفدت عبقرية الإنجيليين تماما. إن نهير اختراعهم "يجف قليلا وتتردد القصة الأصلية مرة أخرى بخفوت، على الأقل للحظة: "بعد أن أدين، سخروا من يسوع وأسيئت معاملته - ولكن ليس من اليهود – إنما من جنود بيلاطس ذاته الذى أعلن توا أنه برئ، بيلاطس الآن يجعل جنوده لايصلبون يسوع فقط ولكن يجلدونه أولا ويسخرون منه باعتباره ملك اليهود، ثم يضعون تاجاً من الشوك على رأسه، ويلفونه برداء أرجوانى، ويركع الجنود أمامه، وعندئذ مرة أخرى يضربونه على رأسه ويبصقون عليه. وأخيرا يضعون على صليبه الكتابة "يسوع ملك اليهود".
ينتج هذا مرة أخرى "الطبيعة الأصلية لـ "حل العقدة". يبدو الرومان مرة أخرى باعتبارهم أعداء يسوع اللدودين، وسبب سخريتهم وكذلك كراهيتهم هو الخيانة العظمى، ودعواه بأنه ملك اليهود، وجهده فى زعزعة النير الرومانى.
لسوء الحظ، فإن الحقيقة البسيطة لاتستمر فى الصمود لفترة طويلة.
يموت يسوع، ومن الضرورى الآن تقديم دليل، فى شكل عدد من المؤثرات المسيحية العنيفة، بأن إلها قد مات:
"فصرخ يسوع أيضاً بصوت عظيم وأسلم الروح. وإذا حجاب الهيكل قد انشق إلى اثنين من فوق إلى أسفل. والأرض تزلزلت والصخور تشققت. والقبور تفتحت وقام كثير من أجساد القديسين الراقدين. وخرجوا من القبور بعد قيامته ودخلوا المدينة المقدسة وظهروا لكثيرين". (متى 27/05-53)
لايروى الإنجيليون ماذا أنجز "القديسون" الذين بعثوا فى وبعد خروجهم الجماعى إلى أورشليم، ما إذا كانوا قد بقوا أحياء أو رقدوا فى حينه مرة أخرى فى قبورهم. فى أى حالة، سوف يتوقع المرء أن حدثا استثنائيا كهذا سيخلق انطباعا عميقا على كل الشهود ويقنع الجميع بإلوهية يسوع. ولكن يبقى اليهود عنيدين، مرة أخرى الرومان فقط هم الذين يقرون بالإلوهية.
"وأما قائد المائة والذين معه يحرسون يسوع فلما رأوا الزلزلة وماكان خافوا جدا وقالوا هذا حقا ابن الرب". (متى 27/54)
ولكن رؤساء الكهنة الفريسيين من ناحية أخرى مازالوا يعلنون بأن يسوع مضل (27/63)، وحين قام من بين الأموات فإن الأثر الوحيد الذي تمخض عنه ذلك هو أن يغتني الشهود الرومان بواسطة الرشوة التى ذكرناها سابقا، بالدفع لإعلانهم بأن المعجزة مزيفة.
وهكذا، فى نهاية قصة الآلام، تحول الرشوة اليهودية الجنود الرومان الشرفاء إلى أدوات للغدر اليهودى والنذالة، الذى أظهر حقدا شيطانيا فى قتال الرحمة الإلهية الرفيعة.
فى هذه الحكاية بمجملها الميل للخنوع إزاء الرومان والحقد ضد اليهود موضوع بغاية الغلاظة وجرى التعبير عنه فى مثل هذا التراكم من الهولات التى قد يظن المرء أنه لم يكن ممكنا أن يكون لها أدنى تأثير على الأشخاص الأذكياء، ومع ذلك فنحن نعلم أن هذه الحيلة قد فعلت فعلها. زينت هذه الحكاية، بهالة الألوهية، تعظمت باستشهاد المعلن الفخور لمهمة عليا، وكانت لعدة قرون واحدا من أفضل الوسائل لإثارة الحقد والاحتقار لليهود, حتى فى أكثر العقول الخيرة فى العالم المسيحى؛ لأن اليهودية لم تكن شيئا بالنسبة لهم، وقد بقوا بعيدين عنها. ولقد وصموا اليهود باعتبارهم حثالة الإنسانية، كعرق موهوب بالطبيعة بأكثر (أنواع) الخبث شرا وعنادا، الذى يجب أن يبقى بعيدا عن كل مجتمع إنسانى، وأن يقبض عليه بيد من حديد.
ولكن كان سيكون من المستحيل أبدا تأمين قبول عام لهذا الموقف نحو اليهود، اذا لم يكن قد نشأ فى وقت الكراهية الشاملة واضطهاد اليهود.
اذ نشأ هذا الموقف فى وقت كان اليهود فيه خارجين على القانون، فقد تفاقم هذا الوضع بشدة، أطال استمراره، ووسع مجاله.
مانعرف باعتبارها قصة آلام ربنا يسوع المسيح هى فى الواقع حادثة واحدة فقط فى تاريخ معاناة الشعب اليهودى.
***** الفصل الخامس
تطوير تنظيم المجمع
أ- بروليتاريون وعبيد
لقد رأينا أن مقومات عديدة للمسيحية، التوحيد، النزعة الخلاصية، الاعتقاد فى البعث، الشيوعية الإسينية، ظهرت وسط اليهود، وأن قسما من الطبقات الدنيا لهذا الشعب وجد أكثر التعابير إشباعا لرغباته وطموحاته فى تركيب من هذه العناصر. لقد رأينا أيضاً أن كامل العضوية الاجتماعية للإمبراطورية الرومانية قد اخترقتها أوضاع جعلتها - خاصة أقسامها البروليتارية - عرضة للتأثر أكثر فأكثر بهذه الاتجاهات الجديدة ذات الأصل اليهودى، ولكن هذه الاتجاهات، حين خضعت لتأثير محيط غير يهودى، لم تكن قد انفصلت عن اليهودية فقط، وإنما اتخذت حتى موقفا عدائيا تجاه الأخيرة. أصبحت هذه الاتجاهات منصهرة الآن مع حركات موت العالم الإغريقى الرومانى، الذى حول الروح القومية النشطة التى سادت بين اليهود حتى تدمير أورشليم إلى عكسها تماما، محللا الحركة اليهودية إلى استسلام عاجز، خنوع ذليل، وتوق الموت.
مع التغير فى مجال الفكر، تغير تنظيم المجمع بعمق أيضاً فى آن معا.
ألهمته فى البداية شيوعية نشطة وإنما غامضة، إدانة لكل ملكية خاصة، رغبة فى نظام اجتماعى جديد وأفضل حيث يقضى على كل التمايزات الطبقية بتقسيم الملكية.
من المحتمل أن المجمع المسيحى كان فى البداية تنظيما مقاتلا بصفة رئيسة، إذا كنا مصيبين فى افتراضنا بأن الإشارات إلى العنف فى الأناجيل التى يتعذر تفسيرها بخلاف ذلك هى بقايا تقليد أصلى. هذا الملمح سوف يتفق تماماً أيضاً مع المركز التاريخى للأمة اليهودية فى هذا الوقت.
إنه من غير المتصور أن نفترض أن طائفة بروليتارية - فوق كل شيء - قد بقيت بعيدة عن التيار الثورى العام.
كيفما كان الأمر، فإن التنظيمات المسيحية الأولى بين اليهود كانت مشبعة بالرغبة فى الثورة، توق لمجيء المخلص، لجيشان اجتماعى. الانتباه للحظة الحاضرة، أي العمل التفصيلى العملى بكلمات أخرى، يحتمل أنه أهمل.
ولكن تغير هذا الوضع بعد تدمير أورشليم. هزمت العناصر التى أعطت المجمع الخلاصى طابعه المتمرد. وأصبح مجمع المخلص أكثر فأكثر مجمعا معاديا لليهود، داخل البروليتاريا غير اليهودية، التى لم يكن لديها لا القدرة ولاالرغبة فى الصراع. ولكن كلما شاخ المجمع، أصبح واضحا أكثر فأكثر أنه لم يعد بمستطاعه أن يعتمد على تحقيق النبوءة التى مازالت تحتويها الأناجيل، انتهاءا إلى أن معاصرى يسوع سوف يعيشون حتى يروا التغير العظيم. اختفى تدريجيا الإيمان بمجيء "مملكة الله" على الأرض. مملكة الله، التى كان عليها أن تهبط من السماء، كانت قد تحولت أكثر فأكثر إلى السماء؛ قيامة البدن (اللحم) تحولت الآن إلى خلود الروح، التى قدر لها وحدها أن تجرب كل مباهج السماء أو غصص الجحيم.
كلما اتخذت التوقعات الخلاصية للمستقبل هذا الشكل غير الأرضى أكثر فأكثر، صائرة محافظة سياسيا أو غير مبالية، أصبح الاهتمام العملى باليوم الحاضر بالضرورة أكثر فأكثر بروزا.
ولكن مع تناقص الحماس الثورى، عانت الشيوعية العملية ذاتها تغيرات عديدة.
لقد نجمت بصفة أصلية عن رغبة حيوية وإن غامضة لإزالة الملكية الخاصة، رغبة فى علاج فقر الرفاق بجعل كل الممتلكات مشتركة.
ولكننا قد أشرنا سلفا أنه بالتعارض مع الإسينيين، كانت المجامع المسيحية أصلا مدينية فحسب، بل مجامع متروبوليتانية بصفة أساسية، وأن هذا قد شكل عقبة فى وجه التطور التام والدائم لشيوعيتها.
كانت الشيوعية بين الإسينيين، وكذلك وسط المسيحيين، أصلا شيوعية استهلاك، ملكية للسلع. ولكن مازال الاستهلاك والإنتاج يرتبطان اليوم بوثوق فى المقاطعات الريفية، وقد كان الحال آنذاك أكثر بما لايقاس. عنى الإنتاج، الإنتاج من أجل الاستهلاك الخاص، وليس من أجل البيع؛ الزراعة، تربية الماشية، الاقتصاد المنزلى، كلها كانت مرتبطة بوثوق. كان الإنتاج الكبير فى الزراعة ملائما تماما فى هذا الزمن وبالفعل أرفع قياسا بالإنتاج الصغير، بقدر ماسمح بتقسيم للعمل أكثر كمالا وتوظيف أتم للأدوات والهياكل المختلفة. بالطبع، لقد كان هذا أكثر من جيد بالقياس لمساوئ العمل العبودى. ولكن بينما كان الاشتغال بواسطة العبيد آنئذ الشكل الأكثر شيوعا لأبعد حد للزراعة الكبيرة، لم يكن الشكل الممكن الوحيد. نحن نجد بالفعل مؤسسات كبرى قد شغلتها عائلات فلاحية عديدة، فى بدء التطور الزراعى. من المحتمل أن الإسينين قد أسسوا مشاريع عائلية تعاونية زراعية على نطاق كبير حيثما ألف الإسينيون مستوطنات كبيرة شبه رهبانية فى الصحراء، تشبه المستوطنات التي ظهرت جانب البحر الميت التى روى عنها بلينى (التاريخ الطبيعى، الكتاب الخامس)، "حيث عاشوا فى مجتمع النخيل".
ولكن شكل الإنتاج فى التحليل الأخير هو دائما العامل الحاسم فى كل بنية اجتماعية. فقط هذه المجتمعات التى تقوم على نمط الإنتاج قد تكون لها القوة والاحتمال.
بينما كانت الزراعة الاجتماعية أو التعاونية ممكنة فى الوقت الذى نشأت فيه المسيحية، لم يكن أى من المتطلبات المسبقة الضرورية من أجل الصناعة الحضرية التعاونية، قائما، على أية حال. كان العمال فى الصناعات الحضرية إما عبيد أو عمال منزليين أحرارا. كانت المؤسسات الكبرى ذات العمال الأحرار، التى تشبه العائلة الفلاحية الكبيرة، بالكاد معروفة. العبيد، العمال المنزليين، حاملى الأثقال، أيضاً الباعة الجائلين، البدالين الصغار، البروليتارية الرثة، كانت هذه هى الطبقات الدنيا من السكان الحضريين فى هذه الأزمنة التى أمكن أن تظهر بينها الاتجاهات الشيوعية. ولكن هذه الطبقات لم تقدم عنصرا يمكن أن يوسع الملكية المشتركة للسلع إلى خاصية عامة للإنتاج. بقى العنصر العام جماعية استهلاك فقط. وهذه الجماعية بدورها لم تكن بصفة أساسية شيئا أكثر من تناول الوجبات المشتركة. اللباس، ومواطن السكنى فى مهد المسيحية، أيضاً فى وسط ايطاليا وجنوبها، لم تكن ذات أهمية كبيرة. حتى شيوعية متطرفة كشيوعية الإسينيين لم توغل فى تأسيس جماعية ملابس. يبدو أن الملكية الخاصة فى مسألة اللباس، بدت حتمية وكانت جماعية السكنى هى الأكثر صعوبة فى التحقق بمدينة كبرى مادامت ورش الرفاق العديدين كانت منتشرة فى كل الاتجاهات، ومادامت المضاربة فى الملكية العقارية فى العصر المسيحى الباكر جعلت أسعار المنازل فى المدن الكبرى غاية فى الارتفاع. وضع غياب تسهيلات المواصلات سكان المدن الكبرى فى مساحة صغيرة وجعل ملاك هذه المساحة السادة المطلقين لسكانها الذين سلبوا بفظاعة. بنيت المنازل مرتفعة فى الهواء بقدر ما سمح فن البناء آنذاك؛ وبلغت فى روما سبع طوابق أو أكثر فى الارتفاع، وبلغت الإيجارات أرقاما خرافية. كان استغلال الملكية العقارية من ثم شكلا مفضلا من الاٌستثمار لدى رأسماليى هذا الزمن. فى عهد الثلاثى الذى اشترى الجمهورية الرومانية، حاز كراسوس بصفة خاصة ثروته بمثل هذه المضاربة.
لم يستطع بروليتاريى المدينة الكبرى أن يتنافسوا فى هذا المضمار؛ هذا وحده جعل من المستحيل عليهم أن ينعموا بسكنى جماعية. أضف إلى ذلك، بالنظر إلى الطابع الشاك للأباطرة، لم يستطع المجمع المسيحى أن يوجد إلا كجمعية سرية... كانت السكنى الجماعية ستجعل اكتشافه أمراً سهلا.
لم تستطع الشيوعية المسيحية من ثم أن يكون لها أى شكل عام دائم بالنسبة لأكثر أعضائها سوى ما جرى التعبير عنه فى الوجبات المشتركة.
تصف الأناجيل أيضاً "مملكة الله"، دولة المستقبل، تقريبا على وجه الحصر باعتبارها وجبة مشتركة؛ مامن بهجة أخرى متوقعة؛ كان هذا النعيم بوضوح أول ما داعب مخيلة المسيحيين الأوائل.
رغم ما كان لهذا الشكل من الشيوعية العملية من أهمية للبروليتاريين الأحرار، فقد عنى قليلا للغاية بالنسبة للعبيد، الذين كانوا عادة جزءا من عائلة سيدهم وكانوا يطعمون على مائدته، بتكاليف رخيصة للغاية، مما لاشك فيه. بضعة عبيد فقط هم الذين عاشوا خارج بيت سيدهم، على سبيل المثال، هؤلاء الذين أداروا محلا فى المدينة لبيع منتجات ضيعة سيدهم الريفية.
كان الأمل فى المخلص الآتى بالنسبة للعبيد، أفق مملكة النعيم العام، بالضرورة أكثر جاذبية، بكثير من الشيوعية العملية، التى أمكن أن تتحقق فقط فى أشكال ضئيلة المغزى بالنسبة لهم ماداموا عبيدا.
نحن لانعرف موقف المسيحيين الأوائل بالنسبة للعبودية. لقد أدانها الإسينيون كما رأينا. يروى فيلون:
"لايوجد عبيد بينهم، وإنما جميعهم أحرار، يعمل كل منهم بشكل متبادل من أجل الآخر. وهم يعتبرون اقتناء العبيد ليس فقط غير عادل وانتهاك للتقوى، وانما أيضاً غير إلهى، انتهاك للقانون الطبيعى، الذى خلق الجميع "متساوين.... كأخوة".
من المحتمل أن بروليتاريى مجمع المخلص في أورشليم كانوا بنفس العقلية.
ولكن اختفت آفاق الثورة الاجتماعية مع تدمير أورشليم. إن المتحدثين باسم المجمع المسيحى، الذين كانوا معنيين بجزع ألا يثيروا أية شكوك بالعداء تجاه القوى السائدة، حاولوا بالضرورة أيضاً أن يهدئوا العبيد المتمردين الذين عدوهم فى صفوفهم.
هكذا على سبيل المثال، فإن مؤلف رسالة بولس إلى الكولوسيين - وهي فى الشكل الباقى حاليا "تحرير" أو اصطناع يعود تاريخه إلى القرن الثانى - يناشد العبيد على النحو التالى:
"أيها العبيد، أطيعوا فى كل شيء سادتكم حسب الجسد، لا بخدمة العين كمن يرضى الناس بل ببساطة القلب خائفين الرب" (3/22).
إن مؤلف رسالة بطرس الأولى - ومن المحتمل أنها ألفت فى زمن تراجان يستخدم حتى عبارات أوضح:
"أيها الخدام كونوا خاضعين بكل هيبة للسادة، ليس للصالحين المترفعين فقط، بل للعنفاء أيضا. لأن هذا أفضل، إن كان أحد من أجل ضمير نحو الله يتحمل أحزانا متألما بالظلم. لأنه أى مجد هو، إن كنتم تلطمون مخطئين، فتبصرون بل إن كنتم تتألمون عاملين الخير، "فتصبرون فهذا فضل عند الله ". (بطرس الأولى 2/18-20)
وجدت الانتهازية المسيحية الأولية للقرن الثانى حتى من الملائم للسادة المسيحيين أن يستبقوا عبيدا كانوا إخوتهم فى المجمع، كما تبرهن على ذلك رسالة بولس الأولى إلى تيموثاوس:
"جميع الذين هم عبيد تحت نير فليحسبوا ساداتهم مستحقين كل إكرام، لئلا يفترى على اسم الله وتعليمه. والذين لهم سادة مؤمنون، لايستهينوا بهم، لأنهم أخوة، بل ليخدموهم أكثر لأن الذين يتشاركون فى الفائدة (ά-;---;--γ-;---;--α-;---;--η-;---;--η-;---;--τ-;---;--ο-;---;--ί-;---;--) هم مؤمنون ومحبوبون". (6/1-2)
لايمكن أن يكون هناك شيء أكثر خطأ من القول إن المسيحية ألغت العبودية، على العكس، لقد أمدت العبودية برافد جديد. كان العبد فى العصور القديمة، يبقى فى مكانه بواسطة الخوف. لقد قدر للمسيحية أن ترفع طاعة العبد العمياء إلى واجب أخلاقى، يقام بها بابتهاج.
المسيحية، على الأقل بعد أن كفت عن أن تكون ثورية، لم تعد تقدم للعبد أملا فى الحرية، وشيوعيتها العملية نادرا ماتضمنت مميزات للعبد. العنصر الوحيد الذى كان لايزال يجذب الأخير هو "المساواة أمام الله"، بمعنى آخر، داخل المجمع حيث لكل رفيق حقوقا متساوية، حيث يمكن للعبد أن يجلس بجوار سيده فى الوجبة المشتركة، إذا كان الأخير أيضاً عضوا فى المجمع.
أصبح كاليستوس العبد المسيحى لمسيحى معتق، حتى أسقف روما (217-222 ب.م).
ولكن حتى هذا الشكل من المساواة لم يعد ذو مغزى كبير. لابد وأن يتذكر القارئ كيف كان وضع البروليتاريا الحرة قريبا من (وضع) العبيد، التى خرج من عدادها كثير منهم، ومن ناحية أخرى حاز عبيد العائلة الإمبراطورية مناصب رفيعة فى الدولة وكان ينافقهم أحيانا حتى الأرستقراطيين.
إذا لم تكن المسيحية، بالرغم من كل شيوعيتها وكل إحساسها البروليتارى غير قادرة على إلغاء العبودية فى صفوفها الخاصة، فلأنه كان للعبودية جذور قوية فى العصور القديمة "الوثنية"، بالرغم من أن الأخيرة فى مجملها كانت معارضة لها، وبالرغم من أن الأخلاق كقاعدة مرتبطة بوثوق بنمط الإنتاج. الحب الشامل للجار، الأخوة، مساواة الجميع أمام الله، كما أعلنت فى مجمع المخلص لم تكن أكثر تعارضا مع العبودية مما كانت حقوق الإنسان كما أعلنت فى إعلان استقلال الولايات المتحدة الأمريكية. كانت المسيحية فى البداية بصفة رئيسية دين البروليتاريا الحرة، ولكن بالرغم من كل التقارب بين الأخيرة والعبيد فى العصور القديمة بقى هناك اختلاف فى المصالح بين الطبقتين.
لقد ألف البروليتاريون الأحرار أغلبية فى المجمع المسيحى منذ البداية، مانعين مصالح العبيد من أن تجد تعبيرا كاملا فى المجمع. هذا بدوره جعل بالضرورة المجمع أقل جاذبية للعبيد مما للبروليتاريين الأحرار، مقويا هكذا أغلبية الأخيرة.
كان التطور الاقتصادى يعمل فى نفس الاتجاه وتحديدا فى الوقت الذى تلقت فيه الاتجاهات الثورية فى المجمع المسيحى ضربة موتها، أى، فى وقت سقوط أورشليم، يبدأ عصر جديد للإمبراطورية الرومانية، عصر سلام شامل، ولكن أيضاً بقدر عظيم سلام عالمى، منذ أن فقدت الإمبراطورية الرومانية قوتها فى التوسع. ولكن الحرب، الحرب الأهلية وكذلك الحرب الإمبريالية، قد كانت وسائل الحصول على عبيد رخيصين؛ توقف هذا الوضع الآن. أصبح العبد نادرا ومكلفا، لم يعد تشغيل العبد مثمرا، استبدل فى الزراعة بالمستوطن coloni، وفى الصناعة الحضرية بعمل العمال الأحرار، كف العبد أكثر فأكثر عن أن يكون منتجا لمنتجات ضرورية وأصبح منتجا لمواد الترف. أصبحت الخدمات الشخصية للعظماء والأقوياء الآن الوظيفة الأساسية للعبودية. أصبحت روح العبد الآن مرادفة أكثر فأكثر لروح الخانع. ولت أيام سبارتاكوس.
احتدم بالضرورة التعارض بين العبد والبروليتاريين الأحرار بالتناقص فى عمل العبيد مترافقاً في نفس الوقت مع زيادة فى عدد البروليتاريين الأحرار فى المدن الكبرى. سبب كلا هذين الاتجاهين للعنصر العبيدى فى المجمع المسيحى أن يزاح إلى الخلفية. لايثير الدهشة أن المسيحية فقدت أخيرا كل اهتمام بالعبيد.
من السهل فهم هذا التطور إذا نظرنا للمسيحية باعتبارها الإطاحة بمصالح طبقية معينة؛ ولكنه لايمكن أن يفهم إذا اعتبرنا المسيحية كبنية أيديولوجية فحسب. لأن التطور المنطقى لأفكارها الأساسية كان سيؤدى لإلغاء العبودية؛ ولكن المنطق لم يشتغل أبدا فى التاريخ العالمى حين أملت المصالح الطبقية خلاف ذلك.
ب - تدهور الشيوعية
الاعتراف بالعبودية، وكذلك الاتجاه المتزايد لقصر جماعية الطيبات على الوجبات المشتركة، لم تكن العقبتان الوحيدتان اللتان واجههما المجمع المسيحى فى جهده لتنفيذ طموحاته الشيوعية.
تطلبت هذه الطموحات ان يبيع كل عضو فى المجمع كل ممتلكاته ويضع العائدات تحت تصرف المجمع لتوزيعها على أعضاءه.
من الواضح فى البداية أن هذه الممارسة لم يكن ممكنا أن تنفذ على نطاق واسع. كان متطلبها المسبق الضرورى هو أن يبقى على الأقل نصف المجتمع غير مؤمن وإلا لم يكن ليوجد أحد ليشترى ممتلكات المؤمنين. ولم يكن أحد يبيع للمؤمنين المواد الغذائية التى احتاجوها، مقابل عائدات بيعهم.
إذا قصد المؤمنون أن يعيشوا ليس على الإنتاج وإنما على التقسيم، فقد كان عدد كاف من غير المؤمنين ضروريا، الذين سوف ينتجون للمؤمنين. ولكن حتى فى الحالة الأخيرة، فقد حكم على النظام بالإخفاق بمجرد أن باع كل المؤمنين أملاكهم، قسموها واستهلكوها. بالطبع سوف يهبط المخلص من السحب قبل ذاك ويعالج كل شرور "الجسد".
ولكن هذا الاختبار لم يتح له الوقت أبدا حتى يتحقق.
ان عدد الأعضاء الذين كان لديهم أى شيء يستحق البيع والتقسيم كان ضئيلا للغاية فى المراحل الأولى للمجمع. لقد كان يمكن لهم أن يحصلوا على دخل ثابت فقط بجعل كل عضو يسلم كسبه اليومى للمجمع. إذا لم يكن الأعضاء مجرد متسولين أو حمالين، فقد احتاجوا لملكية ما إذا كانوا سيكسبون أى شيء، مثلاً الملكية فى وسائل الإنتاج بالنسبة للنساجين، صانعى الفخار أو الحدادين، أو فى مخزون السلع، فى حالة البدالين أو الباعة الجائلين.
لم يستطع المجمع فى ظل الشروط المعنية، أن يهيئ ورشا خاصة للإنتاج من أجل احتياجاته الخاصة؛ كما فعل الإسينيين، ولم يتمكن من أن ينعزل عن نطاق الإنتاج السلعى والإنتاج الفردى؛ من ثم، بالرغم من كل مطامحه الشيوعية، كان عليه أن يقبل الملكية الخاصة فى وسائل الإنتاج ومخزون السلع.
ولكن بعد قبول الإنتاج الفردى، القبول بالاقتصاد المنزلى الفردى، المرتبط بمثل هذا الإنتاج، كان يجب أن يعقبه، وأيضا مايخص العائلة الفردية، الزواج الأحادى بالرغم من كل وجباتهم المشتركة.
مرة أخرى تبين أن العائد العملى للاتجاهات الشيوعية هو الوجبات المشتركة ولكنها لم تكن نتيجتها الوحيدة. لقد نجح البروليتاريون فى الاتحاد من أجل تقليل بؤسهم بواسطة جهودهم المشتركة. فحين واجهوا عقبات فى تنفيذ شيوعية كاملة فقد وجدوا أنفسهم مضطرين لتوسيع عملهم الخيرى أكثر بما لايقاس، الذى سوف يعطى مساعدة للفرد فى حالات العوز الاستثنائى.
كانت المجامع المسيحية مرتبطة بوثوق بعضها بالآخر. كان العضو الذى يصل من مدينة أخرى يعطى عملا من المجمع إذا رغب فى أن يبقى، أما إذا رغب فى أن يرحل قدما، فقد كان يعطى نفقة ضئيلة.
إذا أصبح عضو مريضا، يتولاه المجمع. إذا مات، فإنه يدفنه على نفقته ويعنى بأرملته وأطفاله، إذا كان مسجونا، وهو ماحدث غالبا، فالمجمع مرة أخرى الذى يقدم له المواساه والمساعدة.
خلق التنظيم المسيحى البروليتارى هكذا دائرة للواجبات مكافئة تقريبا لنظام التأمينات فى أمة حديثة. فى الأناجيل، فإن مراعاة هذا النظام للتأمين المتبادل يخول المرء الحياة الأبدية. حين يأتى المخلص، فإنه سوف يقسم البشر إلى هؤلاء الذين سوف يشاركون فى جلالة مملكة المستقبل والحياة الأبدية وهؤلاء الذين قدر لهم اللعنة الأبدية. للأوائل، الخراف، سوف يقول الملك:
"تعالوا يامباركى أبى رثوا الملكوت المعد لكم منذ تأسيس العالم: لأنى جعت فأطعمتمونى: عطشت فسقيتمونى: كنت غريبا، فآويتمونى: عريانا، فكسوتمونى: مريضا فزرتمونى: محبوسا فأتيتم إلى فيجيب الأبرار حينئذ قائلين بأنهم لم يفعلوا شيئا كهذا للرب. فيجيب الملك ويقول: الحق أقول لكم بما إنكم فعلتموه بأحد إخوتى هؤلاء الأصاغر فبى فعلتم ". (متى25/34-40)
كانت وجباتهم المشتركة وإحسانهم المتبادل فى أى حال آمن رابطة داخل المجمع المسيحى، رابطة تلحم دوما الجماهير معا.
ولكن كانت هذه الممارسة للإحسان تحديدا تطور قوة قُدِرَ لها أن تُضعف وتُمزق إربا الطموحات الشيوعية الأصلية.
حيث تضاءل توقع مجيء المخلص فى كل مجده، وحيث أصبح المجمع مقتنعا أكثر فأكثر أنه كان من الضرورى حيازة ملكية لتنفيذ برنامجه فى المساعدة، انتهك الطابع الطبقى البروليتارى للدعاية المسيحية. ووجه جهد أكثر فأكثر لتجنيد الأعضاء الأثرياء الذين يمكن استخدام نقودهم.
كلما احتاج المجمع لنقود أكثر، كلما عمل محرضوه باجتهاد أكثر من أجل أن يثبتوا للأنصار الأثرياء تفاهة كل كنوز هذا العالم وانعدام قيمتها مقارنة بنعم الحياة الأبدية، التى كان يمكن للأغنياء أن يحصلوا عليها إذا تخلوا فقط عن ممتلكاتهم. لم يكن تبشيرهم فى زمن التشاؤم العام ذاك، خاصة وسط الطبقات الثرية، دون أثر. كم كان هناك من الاشخاص الأثرياء الذين ملأهم الاشمئزاز، من كل المتع وكل وسائل المتعة، بعد فترة شباب فاسق. بعد أن استنفدوا كل الأحاسيس التى تشترى بالنقود، مازال باقيا هناك إحساس واحد: إحساس الفقر.
نزولا إلى العصور الوسطى مازلنا نجد عودة متكررة لحالة الاشخاص الأثرياء الذين يعطون كل ممتلكاتهم للفقراء ويعيشون هم أنفسهم حياة المتسولين، فى أغلب الحالات بعد أن تمتعوا تماما بكل ملذات العالم، حتى درجة الغثيان الكامل.
ولكن لم يكن مثل هؤلاء الاشخاص غاية فى الكثرة حتى يجعلوا طرح الريح هذا متكررا كما تطلب المجمع. مع الفاقة المتزايدة فى الإمبراطورية، مع تضاعف البروليتارية الرثة فى المجمع، التى إما لم تستطع أو لم تكن لتكسب خبزها بالكدح، أصبح إلزاميا أكثر تجنيد أشخاص أغنياء للقيام بنفقات المجمع.
لقد كان من الأسهل أن تجعل غنيا يترك نقوده لأغراض الإحسان الخاصة بالمجمع عند موته من أن تجعله يتبرع بها خلال حياته. كانت العائلات التى لا أطفال لديها شائعة للغاية، كانت الروابط العائلية غاية فى الضعف؛ وغالبا ما كانت الرغبة فى عمل وصايا للأقارب ضئيلة للغاية. تطور من ناحية أخرى، الاهتمام بشخصية المرء الخاصة إلى درجة عليا، متضمنا الرغبة فى حياة مستمرة ما بعد الموت، من أجل حياة سعيدة بالطبع.
لقد تكيف المذهب المسيحى جيدا لإشباع هذه الرغبة، فأتاح للأغنياء طريقة ملائمة للحصول على الأبدية دون حرمان خطير فى هذه الحياة اذا لم يتخلوا عن ملكيتهم حتى الموت، حين لم تعد لها فائدة بالنسبة لهم. فالإيصاء بملكيتهم، التى لافائدة فيها الآن كلية قد تشترى لهم الخلاص الأبدى.
لقد أسر المحرضون المسيحيون من ثم الأرستقراطيين الشباب العاطفيين من خلال اشمئزازهم من الحياة التى عاشوها؛ لقد أسروا الأغنياء العجائز الهالكين من خلال خوفهم من الموت وقصص الجحيم التى تنتظرهم. لم يتوقف التلاعب الاختلاسى بالمواريث منذاك عن أن يكون طريقة مفضلة للمحرضين المسيحيين، لإتخام المعدة القوية للكنيسة بغذاء أكثر فأكثر.
ولكن فى القرون القليلة الأولى من حياة المجمع، ولكونه تنظيما سريا، فلم تكن له شخصية قانونية ولم يستطع من ثم أن يرث مباشرة.
لقد جرى القيام بجهود من ثم لتجنيد أشخاص أغنياء وهم مازالوا أحياء لدعم المجمع، حتى لو لم يكن مثل هؤلاء الاشخاص مستعدين لتنفيذ وصايا الرب بدقة فيوزعوا بين الفقراء كل ما امتلكوا. لقد رأينا أن الكرم كان سمة عامة بين أثرياء تلك الأيام قبل أن يلعب تراكم رأس المال دورا هاما فى نمط الإنتاج. لقد تعزز هذا الكرم لصالح المجمع، مشكلا مصدرا دائما لدخله، حيثما كان ممكنا إيقاظ اهتمام وتعاطف الثرى مع المجمع. كلما كف المجمع عن أن يكون تنظيما مقاتلا، كلما تأكدت أكثر مرحلته الإحسانية، وكلما أصبحت الاتجاهات داخل المجمع لتلطيف الحقد البروليتارى الأصلى ضد الأغنياء أقوى ولتمكن الأخيرين من أن يشعروا بالراحة فى المجمع رغم أنهم بقوا أغنياء ومتشبثين بممتلكاتهم.
وجهة نظر المجمع إلى الحياة - رفضه الآلهة القديمة، التوحيد، الاعتقاد فى البعث، الأمل فى المخلص – كانت هذه الأشياء تتفق كما رأينا، مع الاتجاهات العامة لتلك الأزمنة، جاعلة المذهب المسيحى متعاطفا حتى مع الطبقات العليا.
من جانب آخر، واجه الأغنياء، الفاقة المتزايدة للجماهير، كانوا يبحثون عن طرائق لتقليل هذه الفاقة، كما تبين مؤسسات إحسانهم. لأن هذه الفاقة عرضت كل المجتمع للخطر. جعلت هذه الحقيقة أيضاً التنظيم المسيحى أكثر تعاطفا فى عيونهم.
أخيرا، لعبت الرغبة فى الشعبية أيضاً دورا فى الدعم الذى قُدم للمجمع المسيحى، على الأقل فى الأماكن التى حازت فيها هذه المجامع نفوذا على قسم يعتد به من السكان.
من ثم قد يصبح المجمع المسيحى ولحد بعيد جذابا بالنسبة لأمثال هؤلاء الأغنياء الذين لم يصبحوا روحيين ويائسين، حيث لم يدفعهم للوعد بالإيصاء بملكيتهم الخوف من الموت أو غصص اللعنة الأبدية.
ولكن حتى يشعر الأغنياء بالراحة فى المجمع، كان على طابعه أن يتغير جوهريا، كان لابد من هجر الحقد الطبقى على الأغنياء.
تأذت النفوس البروليتارية المقاتلة فى المجمع، بهذا الجهد فى جذب الأغنياء وتقديم تنازلات لهم كما نعلم من رسالة يعقوب العامة إلى الاثنى عشر سبطا فى الشتات، التى يعود تاريخها لمنتصف القرن الثانى وذكرت سابقا فى هذا الكتاب. يحث يعقوب الأعضاء: "فإنه إن دخل إلى مجمعكم رجل بخواتم ذهب، فى لباس بهى،، ودخل أيضاً فقير بلباس وسخ؛ فنظرتم إلى اللابس اللباس البهى، وقلتم له اجلس أنت هنا حسنا، وقلتم للفقير قف أنت هناك أو اجلس أنت هنا تحت موطئ قدمى: فهل لاترتابون فى أنفسكم وتصيرون قضاة أفكار شريرة؟... وأما أنتم فأهنتم الفقير..... ولكن إن كنتم تحابون تفعلون خطية" (2/2-9).
ثم يهاجم بعدئذ هؤلاء الذين يتطلبون من الأغنياء قبولا نظريا للمذهب فقط، وليس أن يعطوا نقودهم:
"ما المنفعة ياإخوتى إن قال أحد إن له إيمانا ولكن ليس له أعمال؟ هل يقدر الإيمان أن يخلصه؟ إن كان أخ وأخت عريانين، ومعتازين للقوت اليومى، فقال لهما أحدكم، امضيا بسلام، استدفيا واشبعا؛ ولكن لم تعطوهما حاجات الجسد فما المنفعة؟ هكذا الإيمان أيضاً إن لم يكن له أعمال ميت فى ذاته " "(2/41-71).
لم يتغير أساس التنظيم بالطبع بسبب هذا التقدير للأغنياء، بقى الأساس نظريا وعمليا غير متغير. ولكن واجب إعطاء كل مايملكه المرء قد استبدل بضريبة طوعية مفروضه ذاتيا، غالبا مالاترقى سوى لهبه صغيرة.
أحدث إلى حد ما من رسالة يعقوب هو الدفاع apologeticus (عن العقائد المسيحية) لترتليان (من المحتمل حوالى 051-061ب.م) تصف هذه الوثيقة أيضاً تنظيم المجمع:
"حتى اذا كان يوجد نوع من المالية المشتركة، فهى ليست مكونة من رسوم. لأنه هكذا فقد عقدنا اتفاقا لعبادتنا. كل منا يضع كمية صغيرة يوما فى الشهر، أو حينما يرغب؛ وفقط إذ هو يرغب وإذا كان قادرا، لأنه ليس هناك إجبار فى هذا الأمر، كل واحد يسهم بإرادته الحرة، هذه النقود، إذا جاز القول، ودائع التقوى. إنها لاتنفق على المآدب أو فترات الشراب أو بيوت الأكل التى لانفع فيها، وإنما لإطعام ودفن الفقراء، لصالح الأولاد والبنات الذين ليس لديهم والدين أو نقود، فى دعم العجائز غير القادرين على التجول، وكذلك للناس الذين تحطمت سفنهم أو الذين ربما كانوا فى المناجم أو منفيين فى الجزر أو السجن - مادامت فاقتهم بسبب مصاحبتهم للرب، وهم أنفسهم مستحقون لأن يقام أودهم باعترافهم".
ويواصل ترتليان: "نحن الذين نشعر بأنفسنا متحدين قلبا وروحا، ليست لدينا صعوبات بشأن جماعية الطيبات؛ لدينا كل شيء مشترك، عدا زوجاتنا؛ تتوقف الجماعية هناك، حيث الآخرون وحدهم يمارسونها" .
تم الاحتفاظ بالشيوعية من ثم نظريا، وبدا أن تطبيقاتها الأكثر صرامة قد تلطفت فى الممارسة. ولكن دونما وعي فإن كامل طابع المجمع، الذى تكيف أصلا لمجرد الأوضاع البروليتارية، كان يتغير بسبب التقدير المتزايد للاغنياء. تلك العناصر التى حبذت تجنيد الأعضاء الأغنياء كان عليها أن تكافح ليس فقط الحقد الطبقى للمجمع، وانما أن تغير أيضاً عملياته الداخلية بعدة طرق.
بالرغم من أن الشيوعية قد ضعفت كثيرا، بقيت الوجبات المشتركة الرابطة الأقوى التى توحد كل الأعضاء. كانت الترتيبات الخيرية مطبقة فقط فى حالات معزولة من العوز، التى كان كل الأعضاء معرضين لها على أية حال. ولكن الوجبة المشتركة أشبعت الحاجة اليومية لكل عضو. هذه الوجبة كان يشهدها كل المجمع؛ لقد كانت المركز الذى دارت حوله كل حياة المجمع.
ولكن لم يكن للوجبة المشتركة أى مغزى كوجبة، فى حالة الأعضاء الأثرياء. لقد كان لديهم طعام وشراب أفضل فى بيوتهم. إن الوجبة البسيطة، وغالبا الرديئة قد آذت بالتأكيد حاسة الذوق عندهم. لقد أتوا إلى هذه الوجبات بغرض المشاركة فى الحياة المجمعية، للحصول على نفوذ داخلها، وليس من أجل ملئ معدهم. ذلك الذى عنى إشباع حاجة عضوية للآخرين، عنى بالنسبة لهم إشباع حاجة روحية فقط؛ كانت المشاركة فى الخبز والنبيذ أداء رمزيا محضا. حيث تزايد عدد الأثرياء فى المجمع، كان هناك زيادة أيضاً فى عدد هؤلاء المشاركين فى الوجبات المشتركة الذين كانوا مهتمين فقط بالتجمع ورموزه، وليس بالأكل والشرب. من ثم، فصلت فى القرن الثانى، الوجبات العامة الفعلية للأعضاء الأفقر عن الوجبات الرمزية المحضة والمخصصة لكل المجمع. وفى القرن الرابع، بعد أن أصبحت الكنيسة القوة المهيمنة فى الدولة، استبعدت الوجبات من النوع الأول من منازل اجتماعات المجمع، والكنائس. لقد أهملت أكثر فأكثر، حيث ألغيت فى مجرى القرون التالية. اختفى هكذا كلية الملمح الأكثر بروزاً للشيوعية العملية من المجمع المسيحى، واحتل مكانه العمل الخيرى على سبيل الحصر، والعناية بالفقراء والضعفاء، الذي بقي حتى اليوم، على نطاق أقل توسعا لحد كبير، على أية حال.
لم يبق هناك شيء فى المجمع يمكن أن يؤذى الأغنياء؛ لقد كف عن أن يكون مؤسسة بروليتارية. الأغنياء الذين كانوا مستبعدين كلية بصفة أصلية من "مملكة الرب" إذا لم يتخلوا عن ممتلكاتهم للفقراء، قد يلعبون الآن نفس الدور فى هذه المملكة كما فى "عالم الشيطان"، وقد استغلوا بوفرة هذه الميزة.
لم تكن التعارضات الطبقية القديمة هى التى أحييت مرة أخرى فى المجمع المسيحى، وإنما نشأت طبقة مهيمنة جديدة فى الأخير، بيروقراطية جديدة بقائد جديد، الأسقف، الذى سوف نتعرف عليه قريبا جدا.
لقد كان المجمع المسيحى، وليس الشيوعية المسيحية، هى التى ثنى لها أباطرة روما أخيرا ركبهم. لم يكن انتصار المسيحية هو ديكتاتورية البروليتاريا، ولكن دكتاتورية السادة التى أنشأتها فى مجمعها الخاص.
أبطال وشهداء المجامع الأولى، الذين تخلوا عن ممتلكاتهم، عن عملهم، عن حياتهم، من أجل تحرير الفقراء والبؤساء، قد وضعوا الأساس فحسب لنمط جديد من الطغيان والاستغلال.
ج- رسل، وأنبياء ومعلمون
لم يكن لدى المجمع أصلا مسئولين ولاتمييزا بين أعضاءه. كل الأعضاء، ذكورا أو إناثا، قد يعينوا كمعلمين ومحرضين، إذا شعروا بأن لديهم القدرة. تحدث كل منهم بصراحة "وفقا لنوره"، أو كما صيغ فى تلك الأيام، كيفما حَرَّكه الروح القدس. واصل أغلبهم أيضا، بالطبع، تجارته الخاصة، ولكن عددا كبيرا، ممن نالوا وضعا خاصا، باعوا ممتلكاتهم وكرسوا أنفسهم للتحريض كلية باعتبارهم رسلا وأنبياء. وكانت النتيجة تمييزا فئويا class جديدا.
نشأت فئتان الآن داخل المجمع المسيحى: الأعضاء العاديون، التى كانت شيوعيتهم العملية مطبقة فقط على الوجبات المشتركة وترتيبات الرفاه العام للمجمع: التكليف بالأعمال، تقديم المساعدة للأرامل واليتامى، وكذلك للسجناء، تأمين ضد المرض، معاشات الوفاة.
ولكن هؤلاء الذين طبقوا الشيوعية تماما كانوا يعتبرون أشخاصا "مقدسين" أو ""كاملين"؛ هؤلاء تخلوا عن الملكية والزواج الأحادى، مقدمين كل ممتلكاتهم للمجمع.
كان هذا بادرة جيدة وأعطى هذه العناصر الردايكالية، كما تشير إلى ذلك أسمائهم بذاتها وضعا عظيما فى المجمع؛ وقد حركهم شعور بالتفوق على الرفاق الآخرين وعاملوا أنفسهم كنخبة مهيمنة.
وهكذا كان الشكل الراديكالى للشيوعية هو ما أنتج أرستقراطية جديدة.
مثل أى أرستقراطية أخرى، فإن الأخيرة، لم تكتف بادعاء حق قيادة بقية الجماعة، وإنما حاولت أيضاً أن تستغل الجماعة.
بعد كل شيء، كيف سيعيش "المقدسون" بعد أن تخلوا عن كل وسائل الإنتاج ومخازن السلع التى امتلكوها؟
يمكن لهم أن يلجأوا فقط للعمل العرضى، مثل حمل الطرود أو العمل كمراسلين سعاة وما أشبه، أو إلى التسول.
كان أكثر الأشياء طبيعية هو كسب العيش بالتكفف من رفاقهم ومن المجامع نفسها، الذين لم يكونوا ليسمحوا لرجل ذو قيمة أو امرأة ذات قيمة أن تهلك جوعا، خاصة إذا كان هذا العضو الجدير بالتقدير امتلك موهبة الدعاية؛ لم تتطلب هذه الموهبة آنئذ معرفة من الصعب اكتسابها، وإنما مزاجا وعقلا فطنا، وحضورا للبديهة.
نحن نجد بولس بالفعل ينتقد الكورنثيين ويذكرهم أن المجمع مضطر أن يعفيه مع كل الرسل الآخرين من العمل اليدوى، وأيضا أن يعيلهم:
"ألست أنا رسولا؟ ألست أنا حرا؟ أما رأيت يسوع المسيح ربنا؟.... ألعلنا ليس لنا سلطان أن نجول باخت زوجة. كباقى الرسل وأخوة الرب وصفا. أم أنا وبرنابا وحدنا ليس لنا سلطان أن لانشتغل؟... أو من يرعى رعية ومن لبن الرعية لا يأكل؟.... فإنه مكتوب فى ناموس موسى، لاتكَّم ثورا دارسا. ألعل الله تهمه الثيران؟ أم يقول مطلقا من أجلنا؟"
ثور الله الدارس يعنى نحن: هذا هو مغزى كلمة بولس. لايشير هذا المقطع بالطبع للثيران التى تدرس قشا فارغا. يواصل الرسول:
"إن كنا نحن قد زرعنا لكم الروحيات، أفعظيم إن حصدنا منكم الجسديات؟ إن كان آخرون شركاء فى السلطان عليكم أفلسنا نحن "بالأولى" (الرسالة الأولى للكورنثيين 9/7-12)
قد نلاحظ عرضا، أن الجملة الأخيرة، تشير أيضاً للطابع الشيوعى للمجامع المسيحية الأولى.
بعد هذا الالتماس لطيبات الحياة من أجل الرسل، يصرح بولس بأنه لايتحدث عن نفسه، وانما من أجل الآخرين؛ هو لايطلب شيئا من الكورنثيين. ولكنه يسمح لمجامع أخرى أن تعوله: "سلبت كنائس أخرى، آخذا أجرة منهم (ό-;---;--ψ-;---;--ώ-;---;--ν-;---;--ι-;---;--ο-;---;--ν-;---;--) لأجل خدمتكم... لأن احتياجى سده الأخوة الذين أتوا من مكدونية" (الرسالة الثانية إلى الكورنثيين 11/8).
ولكن هذا لايغير من حقيقة أن بولس يؤكد على واجب المجمع فى الاعتناء بـ"مقدسه"، الذى لايقر بالالتزام بالعمل.
الأثر الذى خلفته هذه الشيوعية المسيحية فى عقول غير المؤمنين واضح من قصة بيريجرينوس بروتيوس، التى كتبت فى 165 ب.م، من قبل لوسيان. لوسيان الساخر ليس بالطبع مراقبا غير متحيز، وهو يروى كثيرا من الثرثرات الخبيثة من تنويعة بعيدة الاحتمال، منها على سبيل المثال أن بيريجرينوس قد ترك مدينته الأم، باريوم على الهيلسبونت، لأنه قتل أبيه. ومادام لم يوجه إليه اتهام قضائي أبدا فى المحكمة يخص هذا الانتهاك، فإن الأمر على الأقل مشكوك فيه تماما.
ولكن بعد أن طبقنا المحاذير الضرورية على رواية لوسيان، مازال لدينا مايكفى مما له أهمية عظيمة لأنه لايظهر فقط كيف تأثر الوثنيون بالمجمع المسيحى، وإنما يقدم أيضاً لمحات عن الحياة الفعلية للأول.
بعد أن قام لوسيان بإطلاق عدد من أكثر التصريحات خبثا حول بيريجرينوس، يروى كيف أصبح الأخير منفيا طوعا بعد أن قتل أبيه وارتحل فى العالم:
"أصبح ملما أيضاً فى هذا الوقت بحكمة المسيحيين المثيرة للإعجاب بالتداخل مع كهنتهم وكتبهم فى فلسطين. سرعان ماظهروا مجرد أطفال بالمقارنة معه، لقد أصبح نبيهم؛ المتحدث فى مآدبهم (θ-;---;--ι-;---;--α-;---;--σ-;---;--ά-;---;--ρ-;---;--η-;---;--ς-;---;--)، رئيس المعبد (لايميز لوسيان بوضوح بين اليهود والمسيحيين، ك)، الجميع فى شخص واحد؛ علق على عدد من الكتابات وفسرها لهم، وكتب عددا منها بنفسه، باختصار، اعتبروه الها، جعلوه مشرعهم ونصبوه قائدا لهم. بالطبع، مازالوا يوقرون الرجل العظيم الذى صلب فى فلسطين، لأنه أدخل الدين الجديد (τ-;---;--ε-;---;--λ-;---;--ε-;---;--τ-;---;--ή-;---;--ν-;---;--) لهذا السبب أعتقل بيريجرينوس وألقى به فى السجن، الأمر الذى أعطاه مكانه خاصة بقية حياته، زيادة على ذلك أضفى عليه عادات كذبه ورغبته فى الشهرة، التى أصبحت العاطفة المهيمنة عليه".
"حين كان ملقى فى السجن، اعتقد المسيحيون أن هذا سوء حظ عظيم، ولم يألوا جهدا فى مساعدته على الهرب، وحيث وجدوا أن هذا مستحيل غمروه بكل عناية ممكنة واهتمام. بدئا من الصباح الباكر يمكنك أن ترى النساء العجائز، الأرامل واليتامى، جالسين خارج السجن بينما شيوخهم يرشون الحراس ويقضون الليل معه. كانوا يأتون له بكثير من الطعام، ويتبادلون خرافاتهم المقدسة، والعزيز بيريجرينوس، كما كانوا لايزالون يسمونه، كان سقراطا جديدا فى عيونهم، ممثلين معينين من المجامع المسيحية أتوا حتى من المدن الأسيوية من أجل مساندته، ولمساعدته فى المحكمة، ولتعزيته. فى حالات كهذه، التى تتدخل فيها أخوتهم، يظهرون حماسا لايصدق، باختصار، لايدخرون ثروة. لقد تلقى بيريجرينوس أيضاً نقودا كثيرة منهم بسبب سجنه، ولم يكن ماحصل عليه بالقليل لذلك.
"لأن هؤلاء البؤساء الحزانى يعيشون مقتنعين بأنهم سوف يكونون جميعا خالدين ويعيشون إلى الأبد، لذلك فهم يحتقرون الموت وغالبا مايسعون إليه طوعا. أضف إلى ذلك، فإن مشرعهم الأول قد صَوَّر لهم أنهم جميعا قد أصبحوا أخوة منذ أن هجروا الآلهة الهيلينية، وعبدوا معلمهم (σ-;---;--ο-;---;--φ-;---;--ι-;---;--σ-;---;--τ-;---;--ή-;---;--υ-;---;--) ذاك المصلوب وعاشوا وفق شرائعه؛ من ثم فإنهم يقدرون كل الأشياء باعتبارها غير مهمة، معتبرين إياها ممتلكات مشتركة (κ-;---;--ο-;---;--ι-;---;--υ-;---;--α-;---;-- ή-;---;--γ-;---;--ο-;---;--ύ-;---;--ν-;---;--τ-;---;--α-;---;--ι-;---;--) دون أن يكون لديهم أى سبب وجيه لهذه النظرة. إذا ما زارهم أفاق ذكى، قادر على استغلال الوضع، سرعان ما سوف يصبح غنيا جدا ، بسبب قدرته على أن يخدع بمظهره الكاذب هذه الجماهير الساذجة".
بالطبع قد لايؤخذ كل هذا حرفيا؛ من المحتمل أنه ليس أكثر صدقا من حكايات الكنوز التى يراكمها المحرضون الاشتراكيون من ملاليم العمال. كان على المجمع المسيحى أن يصبح أولا أغنى مما كان، قبل أن يصبح أحد غنيا منه. ولكن يحتمل أن يكون من الحقيقى أنه فى ذلك الوقت اعتنى جيدا بمحرضيه ومنظميه وقد استغل الزملاء عديمو الضمير هذا الوضع. ويجب أن نلاحظ أيضاً مايتضمنه هذا فى العلاقة بالشيوعية فى المجمع.
يخبرنا لوسيان عندئذ أن حكومة سوريا حررت بيريجرينوس لأن الأخير بدا لاأهمية له. عاد بيريجرينوس على ذلك إلى مدينته الأم، حيث وجد أن ميراثه قد تناقص إلى حد بعيد. على أية حال، مازال لديه قدر كبير من النقود، اعتبره أتباعه ضخما، وقد قدره حتى لوسيان، بشكل ملائم، بخمسة عشر تالنت (17000 جنيه إسترلينى). وقد أعطى هذا المبلغ لسكان مدينته الأم، حتى يحرر نفسه من الاتهام بقتل أبيه:
"لقد تحدث فى الجمعية الشعبية للباريين parians: كان قد بات لديه شعر طويل، ارتدى عباءة قذرة، وتطوق بحقيبة، وحمل عصا فى يده، وقد خلق بصفة عامة انطباعا مسرحيا للغاية. وقد ظهر أمامهم فى هذه الثياب وأعلن أن كل الأملاك التى تركها له والده ستكون ملكية الناس. حين سمع الناس هذا، الزملاء الفقراء الذين كان يسيل لعابهم على القسمة، صاحوا على الفور بأنه وحده كان صديقا للحكمة والأمة، وأنه وحده خلف ديوجين وكراتيس. وهكذا ختمت أفواه الأعداء، ومن يتذكر حادثة القتل كان سيذبح على الفور".
"انطلق فى رحلته الآن كرحال لا بيت له، ويمده المسيحيون للمرة الثانية بوفرة من النقود للسفر ويتبعونه فى كل مكان، ولايسمحون له بأن يعانى أى حاجة. وقد شق طريقه هكذا لبعض الوقت" .
ولكنه قد استبعد أخيرا من المجمع، لسبب مزعوم بأنه أكل طعاما محرما. وقد حرم هكذا من وسائل عيشه، وحاول أن يستعيد أملاكه، الأمر الذى لم يفلح فيه. بوصفه فيلسوفاً كلبياً وناسكاً متسولاً، تجول الآن عبر مصر، إيطاليا، بلاد الإغريق، ووضع أخيرا نهاية لحياته فى أولمبيا، مستهدياً بنمط الألعاب، فى حضور جمهور دعاه لهذا المشهد، بأن وثب بطريقة مسرحية فى محرقة فى منتصف الليل، على ضوء القمر.
من الواضح أن العصر الذى ظهرت فيه المسيحية كان غنياً بالمخلوقات الشاذة. ولكنه سوف يكون من الظلم أن نعتبر رجالاً مثل بيريجرينوس محتالين فقط، موته الطوعى وحده دليل على العكس. يتطلب الانتحار بالتأكيد باعتباره إيقافاً إعلانياً للحياة ليس فقط إحساسا لاحدود له باللاجدوى وحب الأحاسيس، وإنما أيضاً قدرا من الاحتقار للعالم والاشمئزاز من الحياة، وإلا وجب أن نصنفه كجنون كلية.
إذا لم يكن بيريجرينوس بروتيوس، كما صوره لوسيان، ليس بيريجرينوس الحقيقى، وإنما كاريكاتير، فإن الكاريكاتير ذكى. إن جوهر الكاريكاتير ليس مجرد تشويه للمظهر، ولكن تأكيد أحادى الجانب ومبالغة فى العناصر المحددة والمميزة. قد لايكون رسام الكاريكاتير الحقيقى مجرد مهرج خيالى، فهو لابد وأن يخترق الأشياء ويدرك العناصر الأساسية وذات الدلالة فيها.
وهكذا أكد لوسيان أطوار بيرجرينوس تلك التى كانت ستصبح هامة لكل فئة "المقدسين والكاملين" التي كان ممثلها. ربما حفزتهم أكثر الدوافع اختلافا، وهي أحيانا رفيعة، وأحيانا دوافع حمقاء، تبدو غير أنانية لأقصى حد بالنسبة لهم، ولكن خلف موقفهم الكلى نحو المجمع كان هناك بالفعل الاتجاه المستغل الذى لاحظه لوسيان. ربما كان لايزال اغتناء "المقدسين" المفقرين بشيوعية المجمع فى أيامه مبالغة، إلا أنه سرعان ما كان ما سيصبح واقعا، واقع تجاوز وراءه نهائياً أفظ مبالغات الساخر عن مرحلتها الباكرة.
يضع لوسيان أشد توكيد على "الثروة" التى حازها الأنبياء؛ وآخر، معاصر للوسيان، يؤكد جنونهم.
سيلسوس يصف "كيف يتنبأون فى فينيقيا وفلسطين":
"هناك كثيرون، بالرغم من أنهم ليسوا ذوى سمعة أو اسم، يتصرفون عند أدنى إثارة وبأكبر سهولة، داخل وخارج الأماكن المقدسة، كما لو كان قد غشيهم وجد نبوى؛ آخرون يتسكعون كمتسولين، يزورون المدن والمعسكرات الحربية، يقدمون نفس المشهد. كل منهم يملك الكلمات على طرف لسانه ويستعملها مباشرة: "أنا إله، أو ابن الله"، أو "روح "الله". لقد جئت لأن خراب العالم ما انفك يقترب، وأنتم أيها البشر ذاهبون إلى الدمار بسبب إثمكم. ولكن سوف أخلصكم، وسرعان ماتروننى آتيا مرة أخرى بقوة سماوية! طوبى لمن يبجلنى الآن. سوف أرسل كل الآخرين إلى الجحيم الأبدى، المدن وكذلك الأرياف وسكانها. الذين لن يعترفوا الآن بالهلاك الذى يتوعدهم، سرعان ماسيغيرون رأيهم بلا جدوى وحسرة! ولكن هؤلاء الذين آمنوا بى، سوف أحفظهم إلى الأبد. يضيفون لتلك التهديدات الطنانة كلمات فضولية، نصف بلهاء غير متماسكة مطلقا قد لايفهم معناها من قبل أى إنسان، مهما كان ذكيا، شديدة الغموض وفارغة؛ ولكن أول مغفل أو مشعوذ يسمعها يستطيع أن يفسرها على هواه..... هؤلاء الأنبياء المزعومين الذين سمعتهم أكثر من مرة بأذنى هاتين قد اعترفوا بضعفهم لى، بعد أن أقنعهتم، واعترفوا هم أنفسهم بأنهم قد اخترعوا كل كلماتهم "الغامضة " .
هنا مرة أخرى نحن نتعامل مع التركيب اللطيف للمحتال والنبى، ولكن مرة أخرى سوف يكون من المغالاة إذا وصفنا العمل بمجمله باعتباره خداعا. إنه يشير فحسب إلى وضع عام للسكان قدم حقلا طيبا لأنشطة المخادعين، ولكن الذى قدم سندا أيضاً لظهور حالات واقعية من مشاعر مبالغ فيها ووجدية فى عقول أثيرت بسهولة.
من المحتمل أن الرسل وكذلك الأنبياء كانوا متشابهين فى هذا الصدد. ولكنهم اختلفوا فى جانب هام واحد: الرسل لم يكن لهم موطن إقامة دائم؛ لقد ارتحلوا بلا مأوى الذى منه أتى اسمهم (ά-;---;--η-;---;--ό-;---;--σ-;---;--τ-;---;--ο-;---;--λ-;---;--ο-;---;--ς-;---;--، رسول، رحال، مسافر بحر )؛ الأنبياء من ناحية أخرى، كانوا "المشهورون المحليين". لابد وأن فئة الرسل قد تطورت أولا. بينما كان المجمع لايزال صغيرا، لم يكن بمقدوره أن يعول بشكل دائم محرضا. بمجرد أن تستنفد وسائل إعالته، كان عليه أن يذهب لمكان آخر. وبينما كان عدد المجامع صغيرا، كان الواجب المهم هو تأسيس مجامع جديدة فى المدن التى ليس بها مجمع بعد. كان توسع التنظيم فى حقول جديدة، لم تمس حتى الآن، وإبقاء صلة بينها، المهمة العظمى لهؤلاء المحرضين الرحالين، الرسل. إنهم مسئولون بصفة خاصة عن الطابع الأممى للتنظيم المسيحى، الذى أسهم كثيرا فى دوامه. يمكن لتنظيم محلى أن يدمر، لأن ليس له دعما خارجيا. لقد كان ممكنا بالكاد، بالموارد التى كانت عندئذ تحت تصرف سلطة الدولة، أن تضطهد كل المجامع المسيحية فى كل أجزاء الإمبراطورية. لقد بقيت دائما هناك قلة استطاعت تقديم المساعدة المادية للمضطهدين، والتى بحث عندها المضطهدون عن مأوى. كان هذا يعود قبل كل شيء للرسل الذين كانوا يتحركون دوما، والذين لابد وأن عددهم فى بعض الأوقات كان معتبرا.
لم يتمكن المحرضون المحليون، المعنيون تحديدا بالعمل التنظيمى من الظهور إلى أن حازت مجامع معينة حجما أتاح لها وسائل الحفاظ على مثل هؤلاء المحرضين بشكل دائم.
كلما كان عدد المدن التى تضم مجامع مسيحية أكبر، وكلما كانت عضوية الأخيرة أكبر، كلما ازدهر الأنبياء، وبات حقل نشاط الرسل أصغر، الذين اشتغلوا أساسا حتى الآن فى المدن التى لا تحتوى على مجامع أو على مجامع صغيرة فحسب، تدهورت مكانة الرسل بالضرورة. ولكن لابد أنه كان هناك نوع من التعارض بينهم وبين الأنبياء. لأن وسائل المجامع كانت محدودة. كلما أخذ الرسل أكثر لأنفسهم، ترك القليل للأنبياء. لقد جاهد الأخيرون بالضرورة ليحطوا من المكانة المتدهورة بالفعل للرسل، ليحدوا من الهبات التى تخصص لهم، من ناحية أخرى، أن يرفعوا مكانتهم الخاصة وأن يبلوروا ادعاءات محددة على هبات المؤمنين.
هذه الجهود ظاهرة بوضوح فى مذهب (فن التعليم Didache) الرسل الاثنى عشر، الذى اقتبسناه سلفا عدة مرات، وهي وثيقة كتبت بين 135 و170 ب.م. نقرأ فى هذه الوثيقة:
"كل رسول يأتى اليك سوف يستقبل باعتباره المعلم. ولكنه لايجب أن يبقى أكثر من يوم واحد؛ يومان على الأكثر. ولكنه إذا بقى لثلاثة أيام، فهو نبى كاذب. وحين يغادرك الرسول، فلن يتلقى شيئا عدا مايحتاجه من الخبز فى رحلته إلى محطته التالية. ولكنه إذا طلب نقودا، فهو نبى زائف ".
"لاتغوى ولاتختبر أى نبى يتحدث فى الروح لأن كل خطية سوف تغفر أما هذه "الخطية فلن تغفر. ولكن ليس كل إنسان يتحدث فى الروح نبى، وانما من كان له سلوك المعلم فقط، ومن ثم فإن النبى والنبى الزائف يمكن أن يميزا بسلوكهما. وليس هناك نبى، مدفوع بروح الله، يطلب وجبة (يقول هارناك: من أجل الفقير) سوف يتقاسم فيها إلا إذا كان نبيا زائفا. ولكن كل نبى يعلم الحقيقة هو نبى زائف إذا لم يمارس مايبشر به. وكل نبى، مختبر وصادق، يتصرف باحترام نحو الأسرار الأرضية للكنيسة، ولكنه لايعلم الآخرين أن يقوموا بما يقوم به هو نفسه؛ لاتحكم عليه بنفسك؛ لأن دينونته بيد الله. تصرف الأنبياء (المسيحيون ) القدامى هكذا دائما".
يحتمل أن هذا المقطع في الحقيقة يحتوى على إشارة إلى الحب الحر، الذى كان سيسمح به للرسل، اذا لم يسألوا المجمع أن يحاكى مثالهم، كما رأينا سلفا.
ونقرأ المزيد:
"من يقول فى الروح؛ اعطنى نقودا أو شيئا ما آخر، لاتلتفت إليه؛ ولكن إذا طلب هبات لمعوزين آخرين، لايدينه أحد".
"ولكن كل إنسان يأتى باسم الرب (بمعنى آخر، كل رفيق، ك)، دعه يدخل، ولكنك سوف تختبره وتميز الصادق من الزائف، لأنه يجب أن يكون لك فهم. إذا كان الآتى الجديد زائرا عابرا، ساعده، ولكنه لن يبقى أكثر من يومين أو ثلاثة معك على الأكثر. إذا رغب فى أن يستقر بينكم، دعه يعمل ويأكل، إذا كان حرفيا. ولكن إذا لم يكن يعرف تجارة، انظر (للمسألة) حسب علمك بأنه لن يعيش مسيحى عاطلا بينكم. إذا لم يقبل هذا الشرط، فإنه واحد ممن يتكسبون من المسيح. تجنب مثل هذا".
لقد كان من ثم يعتبر ضروريا بالفعل أن يراعى أن المجمع لم يكن يكتسحه ويستغله متسولين من أماكن أخرى. ولكن كان على هذا أن يطبق فقط على المتسولين العموميين: "ولكن كل نبى حقيقى يرغب فى أن يقيم بينكم جدير بما يقيم أوده. بالمثل، معلم حقيقى، مثل أى عامل جدير بما يقيم أوده. كل بواكير ثمارك ومعاصر خمرك ودراس الحنطة، من ماشيتك وخرافك، سوف تأخذها وتعطها للأنبياء، لأنهم رؤساء كهنتك. ولكن إذا لم يكن عندك نبى اعطها للفقراء. حين تصنع فطيرا، خذ القطعة الأولى منه وقدمها وفقا للوصايا. وبالمثل حين تفتح وعاءا للخمر أو الزيت، خذ الدفقة الأولى واعطها للأنبياء. ولكن من النقود واللباس والممتلكات الأخرى، خذ نصيبا حسب تقديرك وقدمه وفقا للوصايا".
يعامل الرسل بغاية الجور فى هذه التعليمات. ليس من الممكن بعد أن يقمعوا تماما، ولكن المجمع الذى قدموا فيه أنفسهم عليه أن يرسلهم بأقصى سرعة ممكنة. بينما رفيق عادى عابر قد يطلب استضافة المجمع ليومين أو ثلاثة، الرسول التعس يحصل فقط على يوم أو يومين. ولكنه لايستطيع أن يطلب نقودا على الإطلاق.
النبى، من ناحية أخرى، "جدير بما يقيم أوده" ! يجب أن يعال من صندوق المجمع. ولكن إضافة إلى هذا، فإن المؤمنين مضطرين أن يسلموا إليه كل بواكير الثمار، الخمر، الخبز، الزيت والقماش، حتى من دخلهم النقدى.
يتوافق هذا تماما مع الوصف الذى قدمه لوسيان فى نفس الوقت الذى كتب فيه المذهب (فن التعليم Didache)، عن الحياة المزدهرة لبيريجرينوس الذى كان قد أعلن نفسه نبيا. بينما كان الأنبياء يزيحون الرسل هكذا، كانوا هم أنفسهم يواجهون منافسة جديدة ممثلة فى المعلمين، الذين كانت أهميتهم حين كتب المذهب ضئيلة تماما حتى أنهم قد ذكروا عرضا فقط.
بالإضافة لهذه العناصر الثلاثة، كان هناك أيضاً آخرون نشطون فى المجمع الذين لم يذكروا فى المذهب Didache. يذكرهم بولس جميعا فى رسالته الأولى إلى الكورنثيين (12/28):
"فوضع الله اناسا فى الكنيسة أولا رسلا ثانيا أنبياء ثالثا معلمين ثم قواتٍ وبعد ذلك مواهب الشفاءٍ أعوانا تدابير وأنواع ألسنة".
من تلك، أعوانا وتدابير أصبحت غاية فى الأهمية، ولكن ليس تلك الخاصة بالشعوذة والشفاء، التى من المحتمل أنها لم تأخذ، فى المجمع أية أشكال ميزتها عن ماهو جارٍ بصفة عامة فى تلك الأزمنة. إن ظهور المعلمين مرتبط بدخول العناصر الغنية والمثقفة إلى المجمع. كان الرسل والأنبياء إناسا جهلة واصلوا الكلام، دون أن يدرسوا أبدا موضوعات ملاحظاتهم. من المحتمل أن المثقفين قد تعالوا فحسب على هذا. سرعان ماوجد أشخاص فى عداد الأخيرين انجذبوا إما بالطبيعة الخيرية للمجمع، أو بقوته، أو يمكن بالطابع العام للمذهب المسيحى، وحاولوا أن يرتفعوا بالأخير إلى مرحلة أعلى مما كان يعرف آنذاك كعلم، الذى، لاشك، لم يعد يرقى للكثير. أصبح هؤلاء الأشخاص معلمون. لقد كانوا من سعى أولا لملئ المسيحية بروح سينيكا أو فيلون، التى لم يكن لديها قبلا منها الكثير.
ولكن كان ينظر اليهم، بحسد وكراهية من هيئة المجمع، من المحتمل أيضاً من قبل غالبية الرسل والأنبياء؛ ربما لم تكن العلاقة متباينة عن تلك التى بين اليد "الخشنة" عند "الكادح" و "المثقفين" بالرغم من ذلك فقد كان للمعلمين بلا شك أن يؤمنوا مكانة أكبر فأكبر مع تزايد العناصر الثرية والمثقفة داخل المجمع، وأن يتخلصوا فى النهاية من الأنبياء والرسل.
ولكن قبل أن تبلغ الأمور هذا الحد، كانت الفئات الثلاثة قد امتصتها سلطة كانت قد بدأت تتجاوزها جميعا فى القوة، ولكن التى يذكرها المذهب Didache عرضا فقط: الأسقف.
د – الأسقف
لم تكن بدايات المجامع المسيحية مختلفة في ظروفها عن الظروف التى أحاطت بكل تنظيم بروليتارى جديد. مؤسسوها، رسلها، كان عليهم أن يديروا كل عمل المجمع بأنفسهم، الدعاية وكذلك التنظيم والإدارة. ولكن مع نمو المجمع، أصبحت الحاجة لتقسيم العمل محسوسة، ضرورة تخصيص وظائف معينة لموظفين محددين.
أولا، جعلت إدارة دخل ونفقات المجمع منصبا مجمعيا منفصلا.
يمكن أن يقوم أى عضو بالدعاية بالطريقة التى يعتقد أنها أفضل. حتى هؤلاء الذين كانوا معنيين على وجه الحصر بالدعاية لم يعهد اليهم، فى القرن الثانى، كما رأينا توا، بهذه المهمة من قبل المجمع. كان الرسل والأنبياء معينين ذاتيا فى مهماتهم، أو كما بدا لهم، فقد تبعوا صوت الله فقط. إن المكانة التى نعم بها الداعية الفرد فى المجمع بغض النظر عما إذا كان رسولا أو نبيا، وكذلك قدر دخله، اعتمدت على الانطباع الذى خلقه، بمعنى آخر على شخصيته.
من ناحية أخرى، إن الحفاظ على الانضباط الحزبى، إذا جاز لنا أن نسميه كذلك، كان مسألة للمجمع ذاته، مادام المجمع كان صغيرا وعرف كل الأعضاء منهم الآخر. بت المجمع نفسه بشأن دخول الأعضاء الجدد، لم يكن مهما من يدير الاحتفال الأولى، الذى كان يتعلق بالتعميد. قرر المجمع نفسه بشأن عمليات الطرد، حفظ السلام بين الرفاق، قرر بشأن الخلافات التى قد تنشأ بينهم. لقد كان المحكمة التى تحاكم أمامها كل الاتهامات التى تقام من رفاق ضد رفاق. لم يكن المسيحيون أقل شكا فى محاكم الدولة من الاشتراكيين الآن. كانت وجهات نظرهم الاجتماعية أيضاً فى تناقض حاد مع وجهات نظر قضاة الدولة. لقد كان المسيحى يعتبرها خطيئة أن يقف أمام قاضى الدولة بحثا عن حقوقه، خاصة فى حالة تتضمن خصومة مع رفيق. وهكذا فإن جرثومة سلطة قضائية خاصة قد زرعت، سلطة ادعتها الكنيسة دائما على أتباعها، باعتبارها معارضة لمحاكم الدولة. بالطبع، فى هذا الأمر أيضا، شوه تماما طابع القانون الأصلى للكنيسة فيما بعد، لأنه، فى بدايات المجمع المسيحى، فقد دلت محاكمة المتهم من قبل أنداده على إلغاء العدالة الطبقية.
فى رسالة بولس الأولى "الى الكورنثيين (6/1-4) نقرأ:
"أيتجاسر منكم أحد له دعوى على آخر، أن يحاكم عند الظالمين، وليس عند القديسين. (يعنى الرفاق)؟ ألستم تعلمون أن القديسين سيدينون العالم؟ فإن كان العالم يدان بكم فأنتم غير مستاهلين للمحاكم الصغرى؟ ألستم تعلمون أننا سندين ملائكة؟ فبالأولى أمور هذه الحيوة؟ فإن كان لكم محاكم فى أمور هذه الحياة فأجلسوا المحتقرين فى الكنيسة قضاة".
لقد كان لحفظ النظام والسلام فى المجمع فى البداية شكلا بسيطا وصلة ضئيلة بأى منصب محدد أو أى سلطة محددة كما كان للدعاية نفسها.
ولكن تطلب العامل الإقتصادى تنظيما حتى فى مرحلة باكرة، خاصة مادام المجمع لم يكن مجرد تنظيم للدعاية، ولكن منذ البداية أيضاً جمعية للمساعدة المتبادلة.
وفقا لأعمال الرسل، سرعان ما استشعرت الحاجة فى مجمع أورشليم لأن يعهد لرفاق معينين بجمع وتوزيع هبات الأعضاء، خاصة تقديم الوجبات على المائدة. Diakoneo (δ-;---;--ι-;---;--α-;---;--κ-;---;--ο-;---;--ν-;---;--έ-;---;--ω-;---;--) وهي كلمة تعنى أن يخدم، خاصة على المائدة. من الواضح أن هذا كان أول مهمة رئيسة للشمامسة deacons، حيث كانت الوجبة المشتركة الوظيفة الرئيسية للشيوعية المسيحية الأولية.
نقرأ فى أعمال الرسل:
"وفى تلك الأيام، إذ تكاثر التلاميذ، حدث تذمر من اليونانيين على العبرانيين أن "أراملهم كن يغفل عنهن فى الخدمة اليومية (η-;---;--α-;---;--ρ-;---;--ε-;---;--θ-;---;--ε-;---;--ω-;---;--ρ-;---;--ο-;---;--ύ-;---;--ν-;---;--τ-;---;--ο-;---;-- ε-;---;--υ-;---;-- τ-;---;--ή-;---;-- δ-;---;--ι-;---;--α-;---;--κ-;---;--ο-;---;--υ-;---;--ί-;---;--α-;---;--) فدعا الاثنى عشر (كان الرسل فى الواقع إحدى عشر آنئذ، إذا اعتبرنا الحساب فى الأناجيل حسب قيمته الظاهرية) جمهور التلاميذ وقالوا: لايرضى أن نترك نحن كلمة الله ونخدم موائد. فانتخبوا أيها الأخوة سبعة رجال منكم مشهودا لهم ومملوءين من الروح القدس، وحكمة فنقيمهم على هذه الحاجة" (6/1-3).
يخبرنا التقرير بأن هذا الاقترح قد نفذ، وهو مايبدو جديرا بالتصديق تماما بطبيعة الحال.
أعفى الرسل من ثم من خدمتهم كنادلين فى قاعة الطعام، التي كانوا مضطرين أصلا للقيام بها بالإضافة إلى الدعاية التى أصبحت عبئا ثقيلا عليهم مع زيادة المجمع. ولكن النادلين المعينين حديثا (الشمامسة) كان عليهم بالضرورة أيضاً أن يقسموا مهماتهم. كانت الخدمة على المائدة وعمليات الخدمة والنظافة الأخرى أمرا مختلفا تماما عن جمع وإدارة اشتراكات الأعضاء. تضمن هذا المنصب قدرا كبيرا من الأمانة، معرفة بالأعمال، وعطفا، مقترنا بالصرامة.
وقد عين من ثم مديراً على الشمامسة. كان تعيين مدير كهذا أمرا حتميا. كل تنظيم لديه ملكية أو دخل يجب أن يكون له مثل هذا المدير. حمل الموظفون الإداريون والماليون لقب Epimeletes أو Episkopos (έ-;---;--η-;---;--ί-;---;--σ-;---;--κ-;---;--ο-;---;--η-;---;--ο-;---;--ς-;---;--المراقب، المشرف ). لقد استعمل نفس الاسم أيضاً فى حكومة المدن لبعض الموظفين الإداريين. هاتش، الذى يتتبع هذا التطور بالتفصيل، ويصفه فى كتاب ندين له بمعلومات كثيرة حول هذا الموضوع ، يقتبس من القاضى الرومانى كاريسيوس ما يلى: "الأساقفة (Episcopi) هم هؤلاء الذين يشرفون على الخبز والأشياء الأخرى المشتراة، ويخدمون لأجل المعيشة اليومية لسكان المدينة
(eppiscopi, qui praesunt pani et caeteris venalibus rebus quae civitatum populis at quotidianum victum usui sunt).
كان أسقف المدينة من ثم مديرا رسميا معنى خاصة بالتغذية الملائمة للسكان. لقد كان من الطبيعى إعطاء نفس اللقب لمدير "بيت الشعب"، المسيحى.
لقد قرأنا سلفا عن الخزانة العامة للمجمع، التى ذكرها ترتليان. نحن نعلم من الدفاع الأول لجوستين الشهيد (ولد حوالى 100 ب.م) أن إدارة هذه الخزانة قد عهد بها إلى أمين خاص. يقول ترتليان:
"الأثرياء والراغبون قد يعطون على هواهم من ممتلكاتهم، تجمع الهبات وتودع مع المشرف، يعول الأخير بعد ذلك اليتامى، الذين يعانون الفاقة بسبب المرض أو لسبب آخر، والسجناء والغرباء فى المدينة، ويعنى بكل ذوى الحاجة بشكل عام". جهد كثير، مسئولية كثيرة، ولكن أيضاً سلطة كبيرة وضعت هكذا بين يدى الأسقف.
كان منصب الأسقف فى بدايات المجمع وكذلك مساعديه ووظائف أخرى فى المجمع، مناصب شرفيه، تمارس بلا مكافأة بالاضافة إلى التجارة المنتظمة لكل موظف:
"احتفظ الأساقفة والقسس فى تلك الايام الباكرة ببنوك، مارسوا الطب، زخرفوا كصاغة: فضة، رعوا الخراف، أو باعوا سلعهم فى الأسواق المفتوحة.... القانون الأساسى القائم للمجالس المحلية الأولى حول المسألة هى أن الأساقفة لايجب أن يبيعوا سلعهم بالتجزئة من سوق إلى سوق، ولا أن يستخدموا وضعهم ليشتروا أرخص ويبيعوا أغلى من الناس الآخرين" .
ولكن حيث نما المجمع، أصبح من المستحيل تصريف وظائفه الاقتصادية العديدة باعتبارها هواية. بات الأسقف موظفا لدى المجمع وتلقى راتبا مدفوعا.
ولكن هذا جعل توليه للمنصب دائما. لقد كان للمجمع حق إبعاده اذا لم يحقق متطلباته، ولكن من الواضح أنه سوف يحس ببعض النفور من حرمان رجل من منصبه وإبعاده عن مهامه. من ناحية أخرى، تطلبت إدارة أعمال المجمع درجة معينة من المهارة وإلماما بظروف المجمع، التى يمكن أن تحرز فقط بواسطة نشاط طويل فى المنصب. لقد كان ضروريا، من ثم، من أجل تسهيل تصريف أعمال المجمع، تجنب أى تغيير غير ضرورى فى منصب الأسقف.
ولكن كلما بقى الأسقف أطول فى المنصب، كلما تزايدت بالضرورة مكانته وسلطته، إذا كان كفؤا لمتطلبات المنصب.
لم يبق الموظف الدائم الوحيد للمجمع. لم يكن من الممكن أيضاً أن يمارس منصب الشمامسة دوما كهواية. كان يدفع أيضاً للشمامسة، مثل الأسقف، من مالية المجمع، ولكنهم كانوا مرؤوسيه. الأسقف، الذى كان عليه أن يعمل معهم، كان لهذا السبب يستشار عند تعيينهم. وهكذا كان للأسقف ميزة توزيع الأعمال فى المجمع الأمر الذى زاد نفوذه بالضرورة.
حيث تزايد المجمع، فقد أصبح من المستحيل له أن يعنى بشئون انضباطه. لم يتزايد فقط عدد الأعضاء، وإنما أيضاً تنوعت مهنهم. بينما شكلوا جميعا فى البداية عائلة واحدة، ألِفَ كل واحد فيها الرفاق الآخرين، واتحد كلهم تماما الواحد مع الآخر فى الفكر والشعور، هكذا مؤلفين نخبة من المتحمسين المضحين بالذات، تغير هذا الشرط تدريجيا مع زيادة المجمع. حصلت أكثر العناصر تباينا على (حق) الدخول. عناصر من طبقات وأقاليم مختلفة، غالبا غريبة وبدون فهم كل منها للآخر، أحيانا معادية حتى كل منها للآخر - مثل العبيد وملاك العبيد - أيضاً عناصر لم تكن مدفوعة بالحماس، ولكن بالحساب الماكر، أن تستغل سذاجة وكرم الرفاق. بالإضافة إلى ذلك، كان هناك اختلاف فى وجهات النظر - أنتج كل هذا بالضرورة جدالات من كل الأنواع، خلافات لم يكن يمكن أن تحسم غالبا من خلال مناقشة بسيطة فى تجمعات المجمع، ولكن تطلبت بالأحرى أبحاثا طويلة عن الحقائق الفعلية.
من ثم عهد إلى لجنة، لجنة الشيوخ، أو الكهنة بمهمة حفظ الانضباط وحل الخلافات التى تنشأ داخله، وتقديم تقرير للمجمع عن طرد الأعضاء غير الجديرين بالعضوية، ربما أيضاً البت بشأن دخول اعضاء جدد، الذين احتفلت بدخولهم هذه اللجنة بالاحتفال الإستهلالى: التعميد.
الأسقف، الذى كان عالما تحديدا بكل الشئون المجمعية، كان رئيس هذه اللجنة وهكذا حصل على نفوذ على التنظيم الأخلاقى والقضائى للمجمع، حيثما أصبح الكهنة (كلمة كاهن priest مشتقه من presbyter)، بسبب الحجم المتزايد للمجمع، موظفيه الدائمين مدفوعى الأجر، فقد وضعوا مباشرة تحت سلطان حارس مالية المجمع، الأسقف، وكذلك كان الشمامسة أيضا.
يمكن للمجمع بسهولة فى مدينة كبرى، أن يصبح كبيرا جدا حتى ليتطلب أكثر من بناء واحد ليأوى تجمعاته. لقد كان مقسما عندئذ إلى مقاطعات، فى كل مقاطعة تجمع.
كان على الشماس أن يقوم على خدمته، بينما فوض الأسقف كاهناً ليدير التجمع ويمثل الأسقف. كان الحال فى الضواحى والقرى مماثلا. حيث وقعت هذه قريبة من مجمع كمجمع روما أو الإسكندرية، كان نفوذ الأخير طاغيا، ووقع المجمع المجاور مباشرة تحت تأثير المدينة الكبرى وأسقفها، الذى أرسل لهم شمامسته وكهنته.
وهكذا فقد تشكلت تدريجيا بيروقراطية مجمعية ترأسها الأسقف، أصبحت مستقلة وقوية أكثر فأكثر. لقد كان على المرء أن تكون له أعظم مكانة فى المجمع حتى ينتخب فى مركز كان يسعى إليه كثيرا. إذا ماتم الحصول على المنصب، فقد أضفى كثيرا من القوة على صاحب المنصب حتى أن أى أسقف ذو ذكاء وقدرة قليلين يمكن أن يفرض إرادته أكثر فأكثر، خاصة فى الأمور الشخصية، وأكثر من ذلك مادامت اتجاهاته قد توافقت من البداية مع (اتجاهات) أغلبية مجمعه.
كانت النتيجة أنه حاز سلطة ليس فقط على الأشخاص الذين قاموا بالوظائف فى إدارة المجمع، وانما أيضاً على مثل هؤلاء الذين كانوا معنيين بالدعاية والنظرية.
لقد رأينا كيف نحى الرسل الأنبياء فى القرن الثانى ولكن كلا من الأنبياء والرسل، دخلوا فى نزاعات متكررة مع الأسقف، الذى لم يكن ليتردد فى مناسبات كهذه بأن يدعهم يشعرون بسلطته المالية والأخلاقية. من المحتمل أنه لم يجد أية صعوبة فى منع الرسل والأنبياء وحتى المعلمين من أن يقيموا فى المجمع حالما كشفوا عن اتجاهات لم ترضيه. ومن المحتمل أن هذا قد جرى مراراً كثيرة فى حالتى الأنبياء والرسل.
الأساقفة، بمعنى آخر، الممسكون بالمال، لم يجر اختيارهم بالطبع بالتفضيل من المتحمسين غير الأرضيين، ولكن من بين الرجال المقتصدين، المولعين بالأعمال، العمليين. هؤلاء الرجال عرفوا قيمة النقود، ومن ثم أيضاً فائدة الحصول على كثير من الأعضاء الأثرياء. إنه من الطبيعى أن نفترض أن هؤلاء الرجال هم من مثلوا المراجعة الانتهازية فى المجمع المسيحى، حتى إنهم جاهدوا لتخفيف الحقد ضد الأغنياء فى المجمع لإضعاف تعاليم المجمع إلى حد يجعل الثرى يشعر أكثر فيه بأنه فى بيته.
لقد كان أثرياء ذلك الزمن هم المثقفون أيضا. إن فعل تكييف المجمع لمتطلبات الغنى والمثقف عنيت إضعافا لنفوذ الرسل والأنبياء وإنقاصا لاتجاههم إلى حد العبث وكذلك لاتجاهات هؤلاء الذين حاربوا الأثرياء من خلال مجرد اللعن. ولكن ترتب هذا الأثر أيضاً على هؤلاء الذين حاربوهم بحماس وبحقد عميق، خاصة ماداموا قد قدموا كل ما يملكون للمجمع، بينما كانوا مازالوا أثرياء، من أجل تحقيق مثالهم الشيوعى الرفيع.
فى الصراع بين الصرامة والانتهازية، انتصرت الأخيرة، بمعنى آخر، كان الأساقفة منتصرين على الرسل والأنبياء، التى كانت حرية حركتهم، الذى كان حقهم فى الحياة، قد تناقص بشكل محسوس فى المجمع. أزاحهم موظفو المجمع أكثر فأكثر مادام قد كان لكل عضو فى البداية الحق فى أن يقف خطيبا فى تجمع المجمع وأن ينخرط فى أنشطة دعائية، قد يقوم موظف فى المجمع أيضاً بنشاط كهذا، الأمر الذى يحتمل أنهم فعلوه على نطاق واسع. إنه من الواضح أن الأعضاء الذين برزوا من الجمهور الذى لا اسم له كمتحدثين معروفين قد كانت لديهم فرصة أفضل لأن ينتخبوا لمنصب فى المجمع أكثر من الأعضاء المجهولين كلية. من ناحية أخرى، من المحتمل أن هؤلاء المنتخبين أيضاً كان مطلوبا منهم أن يقوموا بالعمل الدعائى بالإضافة إلى أنشطتهم الإدارية والقضائية. من المحتمل أن كثيرا من الموظفين الإداريين كانوا أكثر نشاطا فى الوظيفة الأولى أكثر مما في العمل الذى كان عملهم أصلا، مادام نمو المجمع قد خلق مراكز جديدة أعفت الآخرين. وهكذا فإن الشمامسة قد تمكنوا فى حالات كثيرة من أن يكرسوا انتباها أكثر للعمل الدعائى، إذ كانت وظائفهم فى المجامع الكبيرة قد تولتها مآوى خاصة، ملاجئ اليتامى، بيوت الفقراء، خانات للأعضاء من المدن الأخرى.
من ناحية أخرى، فقد أصبح ضروريا، تحديدا بسبب نمو المجمع ووظائفه الاقتصادية، إعطاء موظفيه بعض التدريب لمنصبهم. لقد كان سيكون الآن مكلفا للغاية وخطرا السماح لكل إنسان باكتساب الحكمة من خلال خبراته الفعلية فقط. تدرب المدد الجديد للموظفين المجمعيين فى منزل الأسقف وهناك صار ملما بواجبات مناصب الكنيسة. حيث كان على الموظفين أن يقوموا بالدعاية بالإضافة إلى عملهم الرسمى أيضا، فقد كان من الطبيعى تدريبهم لهذا العمل أيضاً فى بيت الأسقف، لتوجيههم بشأن تعاليم المجمع.
وهكذا أصبح الأسقف هو المركز ليس فقط للنشاط الاقتصادى، وانما أيضاً الدعائى للمجمع، فالأيديولوجية مضطرة مرة أخرى لأن تركع للشروط الاقتصادية.
لقد تطور الآن مذهب رسمى، اعترفت به ونشرته البيروقراطية المجمعية، التى طبقت إجراءات قمعية أكثر فأكثر على كل المذاهب التى لم توافق عليها.
هذا لايعنى أن المذهب الرسمى كان معاديا دائما للرأى الذكى.
كانت الاتجاهات التى عارضها الأساقفة هي تلك التى تتعلق بالشيوعية البروليتارية الأصلية، المعادية للملكية والدولة. بالاتفاق مع جهل الطبقات الدنيا من السكان، سذاجتهم، وعدم توافق آمالهم مع الواقع، كانت هذه الاتجاهات تحديدا هي التى ارتبطت بإيمان معين فى المعجزات وبحالة عقلية أرفع. إذ أن الكثير قد أنجزته الكنيسة الرسمية فى هذا المجال، فإن الطوائف التى اضطهدتها فى القرون القليلة الأولى قد تجاوزتها بعيدا فى مبالغاتها المجنونة.
لايجب أن يضللنا التعاطف مع المضطهدين، ومقت كل اضطهاد، حتى نعتبر كل معارضة للكنيسة الرسمية، كل شكل من الهرطقة، يمثل بالضرورة حالة عقلية أرفع.
سهلت صياغة مذهب رسمى للكنيسة أيضاً بعض الظروف الأخرى.
إن معلوماتنا ضئيلة بالنسبة للمذاهب التى جرى تعليمها فى البدايات الباكرة للمجمع المسيحى. فلا يمكن لنا أن نحكم بواسطة مجرد إشارات، لم تكن واسعة للغاية، وذات طبيعة بسيطة للغاية. بالتأكيد قد لانفترض أنها احتوت بالفعل كل شيء عُرض لاحقا باعتباره تعاليم يسوع فى الأناجيل.
بينما قد نذهب بعيدا إلى حد الاعتراف باحتمال أن يكون يسوع قد عاش وصلب، من المحتمل بسبب محاولة انتفاض، فليس هناك عمليا أى شيء آخر يمكن أن يقال عنه. مايروى أنه تعليمه، لا يؤيده إلا دليل غاية فى الضآلة، وهو متناقض جدا وشديد الضآلة في أصالته، وملئ جدا بمبادئ أخلاقية مألوفة جرت عندئذ على أفواه كثيرين؛ حتى أنه لايمكن نسبة أدنى أثر بيقين إلى التعاليم الفعلية ليسوع. ففيما يتعلق بها فنحن لانعلم شيئا.
من ناحية اخرى، فإن لنا كل الحق فى أن نتخيل بدايات المجامع المسيحية باعتبارها مماثلة لبدايات التنظيمات الاشتراكية، التى تقدم تشابهات عديدة أخرى. لاتكشف لنا نظرة على هذه البدايات أبدا شخصية متفوقة أصبح مذهبها القاعدة للتاريخ اللاحق للحركة، وإنما دائما جرثومة مشوشة، بحث غير متيقن، غريزى وتلمس، من عديد من البروليتاريين، لاأحد منهم بارز بشكل محسوس يفوق الآخرين، كلهم تحركوا للأمام إجمالا بواسطة نفس الاتجاهات، غير أنهم نشروا غالباً أكثر الانحرافات فردية إثارة للانتباه. مثل هذه الصورة، قدمتها على سبيل المثال بدايات الحركة الاشتراكية البروليتارية فى ثلاثينات وأربعينات القرن التاسع عشر. وهكذا فإن عصبة العادلين، الاتحاد التالى للشيوعيين، كانت بالفعل مؤسسة لها بعض العمر، قبل أن يعطيها ماركس وانجلر أساسا نظريا محددا فى البيان الشيوعى. وهذه العصبة ذاتها كانت فقط استمرارا لاتجاهات بروليتارية أبكر فى فرنسا وانجلترا. ولولا ماركس وانجلر، لاستمرت تعاليمها فى مرحلة الاختمار لفترة طويلة. إن مؤلفى البيان الشيوعى، قد تمكنا من تأمين مركزهما المهيمن والمحدد بسبب تمكنهما من علم زمنهما فقط.
ليس لدينا مايبين - على النقيض، فإنه مستحيل إطلاقا - أن شخصا مثقفا حقاً قد ترأس مهد المسيحية. لقد رويَ بوضوح عن يسوع أنه لم يبز رفاقه، البروليتاريين الصرحاء، فى التعليم. لايشير بولس إلى معرفته الرفيعة، بل إلى موته كشهيد، ولقيامته. خلق هذا الموت انطباعا عميقا لدى المسيحيين.
لايكرر الرسل والأنبياء مذاهب محددة وصلت اليهم من الآخرين، وإنما يتحدثون تماما مثلما تحركهم الروح. انهم يعبرون عن أكثر النظرات اختلافا، المجمع الأولى مليئ بالتشاحن والخلافات.
يكتب بولس إلى الكورنثيين:
"ولكننى إذ اوصى بهذا، لست أمدح، كونكم تتجمعون ليس للأفضل بل للأردأ، لأنى أولا، حين تجتمعون للكنيسة، أسمع أن بينكم انشقاقات (σ-;---;--χ-;---;--ί-;---;--σ-;---;--μ-;---;--α-;---;--τ-;---;--α-;---;--) وأصدق بعض التصديق. لأنه لابد أن يكون بينكم بدع، ليكون المزكون (δ-;---;--ό-;---;--κ-;---;--ι-;---;--μ-;---;--ο-;---;--ι-;---;--) ظاهرين بينكم". (الرسالة الأولى للكورنثيين 11/17-19).
هذه الحاجة لاتجاهات متعددة، بدع (يستخدم بولس كلمة α-;---;--ί-;---;--ρ-;---;--ξ-;---;--σ-;---;--ε-;---;--ι-;---;--ς-;---;--) داخل المجمع لم تكن قد اعترفت بها الكنيسة الرسمية فيما بعد بأى حال من الاحوال. يبلغ فى القرن الثانى هذا السعى الضبابى والمتلمس نهايته. هذا المجمع له تاريخ وراءه. وفى مجرى هذا التاريخ خرجت عديداً من مذاهب الإيمان منتصرة، محققة الاعتراف بين الجمهور الأعظم للمجمع. أضف إلى ذلك، يدخل الآن المتعلمون المجمع، من ناحية، يضعون تاريخ ومذاهب الحركة، التى نقلت اليهم شفويا، فى شكل مكتوب، حافظين إياها من تغيرات تالية؛ ومن ناحية أخرى، يدفعون تعاليم المجمع، التي وجدوها بسيطة تماما، إلى مستوى علم زمانهم، الذى مازال متدنيا، مالئين هذه التعاليم بفلسفتهم، جاعلين إياها سائغة للمثقفين أيضا، كما حصنوها ضد اعتراضات النقد الوثنى.
كان على من سيصبح الآن معلما فى المجمع المسيحى أن يمتلك قدرا معينا من المعرفة. لم يستطع الرسل والأنبياء، الذين استشاطوا غضبا حول خطية العالم وتنبأوا بانهياره العاجل فحسب، أن يتنافسوا معهم.
وهكذا فإن الرسل والأنبياء التعساء كانوا مقيدين ومقموعين من كل الجهات. سرعان ماكان على عملهم الضئيل أن يخضع للآلية الضخمة للبيروقراطية المسيحية؛ فاختفوا ولكن المعلمين كانوا محرومين من حريتهم وباتوا خاضعين للأسقف. سرعان ما لم يجرؤ أحد أن يفتح فمه فى تجمع المجمع، الكنيسة ، دون إذن مسبق من الأسقف، أى، لاأحد خارج بيروقراطية المجمع، التى كان يديرها الأسقف، بمعنى آخر، الإكليروس ، الذى كان سيصبح أكثر فأكثر تميزا عن جهور الأعضاء، غير الإكـليركيـين ومتخذا مركزا رفيعا. إن مجاز الراعى وقطيعه يصبح شعبيا، والقطيع يعنى قطيعا من الخراف الراغبة فى التعلم حتى أنهم يسمحون لأنفسهم بأن يساقوا وأن يجزوا دون مقاومة. الراعى الأعلى هو الأسقف.
أسهم الطابع الأممى للحركة فى زيادة سلطة الأسقف. لقد كان الرسل سابقا هم الذين حافظوا على الالتحام الأممى للمجامع المختلفة، بسفرهم الدائم بينها. ولكن حيث أن الرسل قد أزيحوا جانباً، أصبح إيجاد وسائل أخرى للحم وتوحيد المجامع أكثر أهمية. اذا ماظهرت خلافات، تطلبت عملاً مشتركاً أو تنظيماً مشتركاً فى أى أمر، فسوف تلتقى مؤتمرات المندوبين، مؤتمرات مقاطعات، وحتى مؤتمرات إمبراطورية، بدءا من القرن الثانى.
فى البداية خدمت هذه التجمعات فقط فى المناقشة والاتفاق المتبادل. لم يكن لها أن تصدر قرارات ملزمة. كل مجمع بمفرده شعر بأنه رفيع (المرتبة). أعلن كيبريان فى النصف الأول من القرن الثالث، الاستقلال التام للمجمع. ولكن من الواضح ان الأغلبية لابد وأن سيطرت على المجمع من البداية. حازت هذه الرفعة تدريجيا قوة ملزمة، أصبحت قرارات الأغلبية قانونا لكل المجامع الممثلة، لقد أحلوا جميعا أنفسهم فى جسم واحد متحد. كل ما فقده المجمع الفرد من حرية العمل قد أحرزه الآن فى قوة الحركة ككل.
وهكذا خُلقت الكنيسة الكاثوليكية . أما المجامع التى رفضت أن تنصاع لقرارات المؤتمرات (السينودات، المجالس ) فقد طردت من تنظيم الكنيسة الكاثوليكية، واستبعدت من قبل الهيئة المركزية. ولكن الفرد الذي طرد من مجمعه، لا يستطع أن يدخل إلى مجامع أخرى. فقد طرد من كل المجامع. ونتائج الطرد أو الحرمان كانت الآن أكثر شدة.
إن حق طرد الأعضاء الذين عارضوا أغراض التنظيم لن ينكر بالتأكيد على الكنيسة حينما كانت حزبا معينا أو تنظيما يوجد بجانب أحزاب أو تنظيمات أخرى كثيرة داخل الدولة، متابعاً هدفا خاصا. ولم تكن لتحرز هذا الهدف إذا كانت قد تخلت عن حق طرد أى أحد معارضا لهدفها.
ولكن باتت الأشياء مختلفة حين أصبحت الكنيسة تنظيما يطوق الدولة بكاملها، كل المجتمع الأوروبى، الذى شكلت فيه الأمم فقط أقساما متعددة. أصبح الطرد من الكنيسة الآن مساويا للطرد من المجتمع الإنسانى؛ قد يرقى إلى عقوبة الإعدام.
الحق فى طرد الأعضاء الذين لايعترفون بأغراض التنظيم ضرورى لتشكيل وللعمل الناجح لأحزاب محددة فى الدولة من أجل حياة سياسية نشيطة ومثمرة، من ثم، من أجل تطور سياسى صحى؛ ولكنه يصبح وسيلة لمنع تكوينات الحزب، ولجعل كل الحياة السياسية والتطور السياسى مستحيلا، إذا، بدلا من أن توظفه أحزاب متعددة فى الدولة، يصبح وظيفة للدولة ذاتها، أو لتنظيم بحجم نطاق الدولة، ولكنه من الهراء المحض أن نطلب من الأحزاب المتعددة، لأعضاء كل تنظيم، نفس حرية الرأى التى يجب أن يطلبها كل حزب ديمقراطى من الدولة. إن حزبا يتسامح مع كل الآراء الممكنة فى مراتبه يكف عن أن يكون حزبا. ولكن الدولة، حين تضطهد وجهات نظر معينة، تصبح هى ذاتها حزبا. يجب ألا تتطلب الديمقراطية أن تكف الأحزاب عن أن تكون أحزابا، وأنما أن تكف الدولة عن أن تكون حزبا.
قد لايكون هناك اعتراض من منطلق ديمقراطى على الحرمانات التي تفرضها الكنيسة، حينما تبقى الكنيسة حزباً من أحزاب متعددة فحسب. إن من لايعتقد فى مذاهب الكنيسة، ولا ينصاع لأحكامها، لامكان له فى الكنيسة. ليس للديمقراطية حق طلب تسامح الكنيسة - حيثما تكتفى الكنيسة بأن تبقى حزبا ضمن أحزاب أخرى، اذا لم تتخذ الدولة جانب الكنيسة أو تتطابق معها. عندئذ لابد من إدخال ديمقراطية على سياسة الكنيسة، وليس طلبا للتسامح مع غير المؤمنين فى الكنيسة، الذى سوف يكون نصف إجراء ضعيف.
ولكن بينما لايمكن أن يثار اعتراض من وجهة نظر ديمقراطية بالنسبة لحق الكنيسة فى الحرمان بذاته per se، قبل أن تصبح كنيسة دولة. قد يمكن قول الكثير ضد الطريقة التى طبق بها هذا الحق. لأنه لم يعد جمهور الأعضاء الأعظم هو الذي يطبق الحرمان، وإنما البيروقراطية. كلما كان الضرر الذى يمكن أن يحيق بالفرد أكثر، كلما نمت سلطة البيروقراطية الكنسية ورأسها الأسقف.
تزايدت سلطة الأخير أيضاً بسبب حقيقة أنه كان مندوبا لمجمعه فى المؤتمرات الكنسية. تبدأ سلطة الأسقف من ثم فى وقت واحد مع المجالس، وقد كانت هذه تجمعات أساقفة منذ البداية الأولى.
المكانة والسلطة التى تمتع بها الأسقف بسبب إدارته المالية للمجمع وتعيينه وحكمه على كامل الجهاز العالم، والإدارى، والقضائى، والدعائى للبيروقراطية المجمعية، لم تكمله السلطة التى حازها الكل، الكنيسة الكاثوليكية، باعتبارها مواجهة للجزء، المجمع. لقد تعامل الأسقف مع المجمع بكل سلطة الكنيسة وراءه. حينما أصبح تنظيم كامل للكنيسة أكثر صرامة، أصبحت المجامع بلا قوة أكثر فى مواجهة الأساقفة، على الأقل فى الحالات التى مثل فيها الأخيرون اتجاهات أغلبية أعضائها. سلبت هذه الجمعية من الأساقفة تماما "حقوق سواد الناس" .
لم يكن الأساقفة مخطئين فى تأكيد أن سلطتهم أتت من الرسل، وفى اعتبار أنفسهم خلفائهم. كان الأساقفة، مثل الرسل قبلهم، العنصر الدولى الموحد بين كل المجامع. وهذه الحقيقة تحديدا هي التى أعطتهم كثيرا من نفوذهم وسلطتهم على المجامع الفردية.
حتى البقية الأخيرة من الديمقراطية الأصلية للمجمع سرعان ما اختفت الآن، أى، الحق فى انتخاب الموظفين الذين كانت هناك حاجة لهم. مع تزايد استقلال وسلطة الأسقف وأتباعه بين المجمع، أصبح من الأسهل بالنسبة له أن يحث الأخيرين على انتخاب أشخاص مناسبين له، لقد كان الأسقف فعليا هو من ملأ هذه المناصب. ولكن عند انتخاب الأسقف نفسه، كان لدى المرشحين المقترحين من قبل الإكليروس أفضل الآفاق منذ البداية، بسبب قوة الإكليروس فى المجمع. أخيرا انتهى الأمر إلى أن الإكليروس فقط هو من انتخب الأسقف، واحتفظ جمهور اعضاء المجمع بحق المصادقة على أو رفض هذا الانتخاب فقط. ولكن حتى هذا أصبح تدريجيا أمرا شكليا فحسب. لقد انحط المجمع أخيرا إلى مجرد متملقين، الذين اضطروا، حين قدم الأسقف الذي انتخبه الإكليروس، لتحيته بتصفيق شديد.
عنى هذا التدمير النهائى للتنظيم الديمقراطى للمجمع، بواسطة تأكيد السلطة المطلقة للإكليروس، وإكمال تحوله من "خادم خدام الرب" المتواضع إلى سيدهم المطلق.
لقد كان طبيعيا أن تصبح ملكية المجمع الآن فعليا ملكية المديرين. بالطبع ليست ملكية شخصية ولكن ملكية البيروقراطية كهيئة. كفت ملكية الكنيسة عن أن تكون ملكية مجمعية للأعضاء. لقد أصبحت ملكية الإكليروس. وجد هذا التحول سندا قويا فى، وقد سرع بواسطة، اعتراف الدولة بالمسيحية فى بداية القرن الرابع. ولكن من ناحية أخرى، فإن اعتراف الأباطرة بالكنيسة الكاثوليكية كان نتيجة للتقدم الذى صنعته قوة البيروقراطية ولسلطة الأسقف المطلقة داخل البيروقراطية فحسب.
طالما كانت الكنيسة تنظيما ديمقراطيا، فقد كانت معارضة بشكل مطلق للاستبداد الإمبراطورى فى الإمبراطورية الرومانية. من ناحية أخرى، فإن بيروقراطية الأساقفة، التى حكمت واستغلت الناس بشكل مطلق، كانت أداة جيدة جدا للاستبداد الإمبراطورى. أضف إلى ذلك، فإن الأخير لم يستطع أن يتجاهل الكنيسة، بل كان عليه أن يتصالح معها، وإلا ربما تجاوزته الكنيسة.
أصبح الإكليروس سلطة كان على كل حاكم للإمبراطورية أن يحسب لها حسابا. من بين عديد من المدعين بالعرش قبل الحروب الأهلية فى بداية القرن الرابع، كان قنسطنطين، الذى تحالف مع الإكليروس الكنسى، هو المنتصر.
أصبح الأسقف الآن هو السيد، يحكم الإمبراطورية جانب الأباطرة. غالبا ما ترأس الأباطرة فى مجالس الأساقفة، ولكن بالمقابل وضعوا سلطة الدولة تحت أمر الأساقفة لتنفيذ قرارات المجالس والحرمانات الكنسية.
فى نفس الوقت، حازت الكنيسة الآن حقوقاً شخصية قانونية. إذ باتت قادرة على حيازة وإرث الملكية (321 ب.م) فقد ثارت شهيتها التى تضرب بها الأمثال هكذا على نحو ضخم، فنمت ملكية الكنيسة بسرعة. ولكن الاستغلال الذى مارسته الكنيسة تزايد أيضا.
وهكذا فقد قاد تنظيم شيوعية بروليتارية مقوضة لأكثر (أنواع) الدعم للاستبداد والاستغلال إخلاصا، إلى مصدر لاستبداد جديد، واستغلال جديد.
كان المجمع المسيحى المنتصر فى كل جوانبه العكس تماما من ذلك المجمع الذى أسس قبل ثلاثة قرون من صيادى السمك الجليليين الفقراء والفلاحين وبروليتاريي أورشليم. أصبح المخلص المصلوب أقوى دعامة لذلك المجتمع المنحط والشائن الذى كان المجمع الخلاصى قد توقع منه تدميره الكامل.
هـ - الدير
الكنيسة الكاثوليكية، خاصة كما اعترفت بها الدولة، حولت اتجاهات المجمع الخلاصى الأصلية إلى عكسها تماما، ولكن هذا لم يجر بوسائل سلمية، دون مقاومة وصراع. استمرت الشروط الاجتماعية التى أنتجت الشيوعية الديمقراطية للمسيحيين الأوائل فى الوجود، فى الواقع، أصبحت أكثر تفاقما وإقلاقا عندما تحللت الإمبراطورية.
لقد رأينا أن تلك الأصوات التى تحتج ضد المفهوم الجديد قد جعلت نفسها مسموعة منذ البداية الأولى. ولكن حين أصبحت البدعة الموقف المهيمن والرسمى للكنيسة، غير متسامحة مع وجهات النظر الأخرى داخل المجمع، نشأت طوائف جديدة ديمقراطية وشيوعية مرة بعد مرة بجانب الكنيسة الكاثوليكية. وهكذا، على سبيل المثال، فى الوقت الذى اعترف فيه قنسطنطين بهذه الكنيسة، أصبحت طائفة اللاأدريين circumcelliones منتشرة فى أفريقيا الشمالية، الرهبان المتسولون أصحاب الوجد الصوفى الذين دفعوا إلى الحد الأقصى صراع اتباع دوناتس (Donatist) ضد كنيسة الدولة والدولة نفسها، مبشرين بالعداء لكل الأثرياء والأقوياء. كما فى الجليل فى زمن المسيح، كذلك فى أفريقيا الشمالية فى القرن الرابع، نهض السكان الفلاحين فى يأس ضد مضطهديهم، وتبين ممارسة عصب متعددة قطع الطريق الطريقة التى عبر بها احتجاجهم عن نفسه. كما كان الحال سابقا مع الغيورين، وربما أيضاً مع التلاميذ الأول ليسوع، وضع اللاادريون الآن لهذه العصب هدف التحرر والحرية من كل قهر. تعاركوا بجراءة متطرفة حتى مع القوات الإمبراطورية، التى سعت، يدا بيد مع الإكليروس الكاثوليكى، لإخماد الانتفاضة، التى استمرت لعدة عقود.
ولكن أخفق هذا الجهد، كما أخفق كل جهد آخر لإدخال الشيوعية إلى الكنيسة أيضاً بوسائل سلمية أو عنيفة.
لقد هزمت جميعا لنفس الأسباب التى حولت فى النهاية الشيوعية الأولية إلى عكسها، أسباب استمرت فى الوجود جنبا إلى جنب مع المثير المنتج لمثل هذه الجهود. بينما تزايد هذا المثير بالفاقة الناشئة، فلا يجب أن ننسى أن موراد الكنيسة كانت تتزايد ايضا، وقد مكنت الكنيسة من أن تقى قسما ضـخما متزايداً من الـبروليـتاريـا من أسوأ الإغواءات بواسطة مؤسساتها الخيرية، وهكذا جعلت البروليتاريا معتمدة على الإكليروس، وأفسدتها وخنقت داخلها كل حماس وكل المثل العليا.
حينما أصبحت الكنيسة كنيسة دولة، أداة للاستبداد والاستغلال أكثر قوة وأكثر جبروتاً من أى (أداة) ظهرت بعد فى التاريخ، بدا هلاك كل الاتجاهات الشيوعية فيها أخيرا أنه بلغ غايته. ومع ذلك فقد كان لهذه الاتجاهات أن تستمد قوة جديدة من كنيسة الدولة تحديدا.
حتى زمن الاعتراف بها من قبل الكنيسة، فإن انتشار المجامع الكنسية قد اقتصر كقاعدة على المدن الكبرى؛ استطاعت فى هذه المدن فقط أن تصون نفسها فى فترات الاضطهاد. فى المقاطعات، حيث من السهل مراقبة كل فرد، ربما تصون المنظمات السرية نفسها فقط حين تتمتع بدعم كامل السكان، مثلما هو الحال، على سبيل المثال، مع الجمعيات السرية الأيرلندية، فى القرون القليلة الماضية، فى معارضتها للنير الانجليزى. لقد واجهت دائما حركة معارضة تقوم بها أقلية فى المجتمع أعظم الصعوبات فى المقاطعات، وينطبق هذا أيضاً على الحركة المسيحية فى القرون الثلاثة الأولى.
حين كفت المسيحية عن أن تكون حركة معارضة واعترفت بها الدولة اختفت العقبات فى سبيل انتشارها فى المقاطعات. منذ هذا الوقت فصاعدا لم يقف شيء فى طريق تنظيم المجامع المسيحية فى المقاطعات. كانت المسيحية لمدة ثلاثة قرون - مثل اليهودية - تقريبا على وجه الحصر دين مدينة. أصبحت الآن وللمرة الأولى دين الفلاحين أيضا.
جنبا إلى جنب مع المسيحية، غزت اتجاهاتها الشيوعية المقاطعات، لاقية ظروفا مختلفة وأكثر ملائمة إلى حد بعيد مما فى المدينة، كما رأينا سلفا فى مناقشتنا للإسينيين. اسيقظ الأخيرون مباشرة على حياة جديدة فى شكل مسيحى، بمجرد أن عرضت إمكانية تنظيمات شيوعية علنية فى المقاطعات، التى تشير إلى كيف كانت الحاجة التى حققتها قوية فى الوقت الذى اعترفت فيه الدولة بالمسيحية تحديدا، فى بدايات القرن الرابع، أسست الأديرة الأولى فى مصر، وسرعان ماتبعتها أخرى فى أقسام عديدة من الإمبراطورية.
سرعان مالم يلقى هذا الشكل من الشيوعية معارضة من السلطات الكنسية والقومية، وانما حتى حبذته، مثله في ذلك مثل التجارب الشيوعية فى أمريكا فى النصف الأول من القرن التاسع عشر التي تعاطفت معها حكومتى فرنسا وإنجلترا. لم يخفقوا فى الاستفادة من جعل المحرضين الشيوعيين القلقين في مدنهم الكبيرة ينعزلون عن العالم، ليكرسوا أنفسهم لزراعة مسالمة للكرنب فى البرية.
على خلاف التجارب الشيوعية للأوينيين، والفوريين والكابيين فى أمريكا، فإن تجارب الفلاح المصرى أنطون وأتباعه لقيت أكثر النجاحات بريقاً، كما حدث أيضاً للمستعمرات الشيوعية الفلاحية فى الولايات المتحدة فى القرنين الثامن والتاسـع عشـر، التـى كانت مشابهـة للـغاية للـحركة المصـرية. يحب عديـد مـن الأشخاص أن يعزوا نجاحهم للحماس الدينى، الذى يفتقر اليه أتباع اليوتوبيات الحديثة، بالقول بأن لا شيوعية بلا دين. ولكن نفس الحماس الدينى الذى ألهم الرهبان فى الأديرة قد ألهم أيضاً مسيحيي المدن الكبرى فى القرون الأولى، ومع ذلك لم تكن تجاربهم الشيوعية شاملة، ولا ذات استمرارية طويلة.
سبب النجاح فى حالة ما والإخفاق فى الأخرى لايوجد فى الدين، وإنما فى ظروفها المادية.
بالتضاد مع التجارب الشيوعية للمسيحية الأولية فى المدن الكبرى، فإن الأديرة، وكذلك المستعمرات الشيوعية فى البرية، لها ميزة أن الزراعة تتطلب اقترانا للمزرعة والعائلة، والزراعة الكبيرة لم تصبح فقط ممكنة، وإنما كانت قد حازت بالفعل مرحلة عليا من التطور فى نظام الاقتصاد المنزلي oikos للملاك العقاريين الكبار. على أى حال، تأسست عملية الإنتاج على النطاق الكبير هذه لنظام الاقتصاد المنزلي oikos، على العبودية. وضعت العبودية الحدود لإنتاجيتها ولوجودها أيضا. أدى توقف إمداد العبيد للمزارع الكبيرة الخاصة بكبار الملاك لأن تختفى. أخذتها الأديرة وواصلتها، فى الواقع، تمكنت من تطويرها إلى نقطة أعلى، لأن الأديرة أحلت محل العمل العبودى عمل أعضائها الاحرار. بالنظر إلى الانحلال العام للمجتمع، أصبحت الأديرة فى النهاية هي الأماكن الوحيدة فى الإمبراطورية المضمحلة التى حفظت فيها البقية الأخيرة للتقنية القديمة من خلال عواصف فترة الهجرة حتى اكتملت فى عديد من النقاط.
بعيدا عن تأثيرات الشرق، خاصة من العرب، كانت الأديرة هى المواضع التى بدأت منها الحضارة فى أوربا فى النمو خلال العصور الوسطى.
لقد كيَّف نمط الإنتاج التعاونى الأديرة بشكل رائع لشروط الإنتاج القروى نحو نهاية الفترة القديمة وفى العصور الوسطى الباكرة؛ وهذا يفسر نجاحها. من ناحية أخرى، كانت شروط الإنتاج مناقضة للعمل التعاونى فى المدن، وأمكن للشيوعية أن توجد فقط فى شكل شيوعية للاستهلاك فحسب، غير أن نمط الإنتاج، وليس نمط التوزيع أو الاستهلاك، هو الذى يحدد فى التحليل الأخير طابع العلاقات الاجتماعية. لقد قامت فقط فى الريف، فى الأديرة، جماعية الاستهلاك التى رغبت فيها المسيحية أصلا على اساس دائم فى جماعية الإنتاج. على هذا الأساس، ازدهرت أخويات الإسينيين لعدة قرون، حيث دمرت نهائيا بالإبادة المفاجئة للجماعة اليهودية، وليس كنتيجة لأسباب داخلية. لقد نشأ على جماعية الإنتاج ذلك الهيكل الكبير للرهبنة المسيحية وظل باقيا حتى اليوم.
ولكن لم كانت مستعمرات الشيوعية اليوتوبية الحديثة إخفاقا؟ لم يكن أساسها مختلفا عن الشيوعية الرهبانية، ولكن نمط الإنتاج تغير تماما منذئذ. مكان الصناعات المعزولة الفردية للعصور القديمة التي طورت فردية فى العمل، وجعلت تعاون العمال الحضريين صعبا، وألهمتهم بموقف فوضوى تجاه الإنتاج، نجد الآن منشآت ضخمة فى الصناعات الحضرية يشكـل العامـل فيها ترسا فقط يشتـغل مع تـروس أخـرى لاحصر لها. عادات العمل بالتعاون، بالانضباط فى العمل، بخضوع الفرد لمتطلبات الكل فى الحالة الحديثة يحل محل الموقف الفوضوى للعامل الفرد. ولكن فقط فى الإنتاج؛ أما الاستهلاك فأمر مختلف.
كانت شروط الحياة سابقا بسيطة للغاية وموحدة بالنسبة لجمهور السكان، حتى أثمرت وحدة في الاستهلاك والحاجات، لم تجعل جماعية الاستهلاك بأى حال غير محتملة.
إن نمط الإنتاج الحديث، الذى يرمى كل الطبقات والأمم معا، يجمع منتجات العالم كله داخل المراكز التجارية الكبرى، ينتج منتجات جديدة بلا توقف، خالقا بلا كلل ليس فقط وسائل جديدة لإشباع الحاجات، وانما أيضاً خالقا الحاجات، وهكذا يؤسس فى جمهور السكان تنويعة مختلفة من الميول الشخصية والرغبات. نوع من الـ"فردية" أمكن أن يوجد سابقا فقط فى الطبقات الثرية والأرستقراطية. بمعنى آخر، عديد من أنماط الاستهلاك، آخذين الكلمة بأوسع معنى لـ"الاستمتاع" بالأشياء المادية. إن أخشن، أشد وسائل الاستهلاك مادية، الأطعمة، المشروبات، الألبسة، هى بالطبع، فى حالات كثيرة، خاضعة لمستوى موحد فى نمط الإنتاج الحديث. ولكن من جوهر نمط الإنتاج هذا ألا يحد استهلاك الجماهير لمثل هذه المواد، وانما أن يخلق بين العمال أيضاً طلبا متصلا لمواد أكثر تخص الحضارة، تعليمية، فنية، رياضية، ومواد أخرى، هذه الحاجات تميز نفسها أكثر فأكثر وتجد تعبيرا متنوعا فى كل فرد. وهكذا فإن فردية المتعة، ميزة الثرى والمثقف سابقا، منتشرة بين الطبقات العاملة أيضا، فى البداية فى المدن الكبرى، من ثم مخترقة تدريجيا بقية السكان. بالرغم من أن العامل الحديث مضطر لعمل تنازلات كبيرة للانضباط فى تعاونه مع زملاءه العمال، ويقر بأن مثل هذه التنازلات ضرورية، فإنه بالرغم من ذلك يقاوم بشكل مؤكد كل محاولات حكم استهلاكه، متعته. يصبح فى هذا الحقل فرديا أكثر فأكثر، أو اذا أحببت، فوضويا. سوف يفهم القارئ الآن كيف يجب أن يشعر بروليتارى المدينة الحديث فى مستعمرة شيوعية صغيرة فى البرية، التى لاتستطيع أن تكون أكثر من مؤسسة زراعية كبيرة ذات عمليات صناعية ثانوية. كما صرحنا سابقا، فإن الصناعة والاقتصاد المنزلى قد كانا دائما مرتبطين فى هذا الفرع من الإنتاج. كان هذا ميزة للشيوعية المسيحية، التى بدأت بجماعية الاستهلاك. كانت هذه الشيوعية فى المؤسسات الرهبانية فى المقاطعات، من ثم مضطرة لأن تقترن مع شيوعية إنتاج، التى أعطتها قوة عظيمة للمقاومة والتطور.
تبدأ الشيوعية الطوباوية الحديثة، بجماعية فى الإنتاج، وتجد أساسا متينا جدا فى هذه الجماعية، وقد كانت مضطرة من ناحية أخرى، بواسطة العلاقة الوثيقة بين الاستهلاك والإنتاج، فى مستوطناتها الصغيرة، لأن تضيف شيوعية استهلاك لشيوعية الإنتاج، والأولى تؤثر فى الأخيرة كما يثير القماش الأحمر ثورا، تنتج تشاحنا أبديا حول الأشياء الصغيرة من أكثر الأنواع تنفيرا.
فقط عناصر السكان التى بقيت كما هي لم تمسسها الرأسمالية الحديثة، الفلاحين غير المجربين، كان مازال يمكن أن يؤسسوا مستوطنات شيوعية فى القرن التـاسع عشر داخـل نطـاق الحضـارة الحـديثة. لـيس لديـنهم علاقة بنجاحهم، سوى في حدود أن الحماس الدينى كظاهرة اجتماعية، وليس كخاصية فردية، قد وجد الآن فى أشد الفئات تخلفا من السكان فحسب.
يمكن لشيوعية الإنتاج أن تطبق فى المستوطنات السكانية ذات الإنتاج الصناعى الكبير فقط فى مرحلة متقدمة حتى يمكن لفردية ممعنة فى الاستهلاك - بأوسع معنى للكلمة - أن تتحد معها. لقد كانت شيوعية الإنتاج هى ماواجهت فشلا فى المستعمرات الشيوعية غير الدينية للقرن التاسع عشر، لأن الرأسمالية كانت تمارس بنجاح مثل هذه الشيوعية لبعض الوقت. لقد كانت شيوعية فى تسوية standardization الاستهلاك الشخصى المناقض للغاية للعادات الحديثة، الذى فشل.
فى الأزمنة القديمة، وأيضا فى العصور الوسطى، لم يكن هناك أثر بين جماهير الشعب لتفرد individualiztion الحاجات. وهكذا لم تواجه الشيوعية الرهبانية عقبة كهذه، وأمكن أن تزدهر أكثر لأن نمط إنتاجها تفوق على الذى ساد عموما، بالتوافق مع رقيه الاقتصادي الخاص. روفينوس (345-410 ب.م) الذى أسس ديرا هو نفسه على جبل الزيتون بالقرب من أورشليم، فى 370ب.م، يفيد بأنه عاش هناك تقريبا أشخاص عديدون فى الأديرة فى المقاطعات الريفية فى مصر كما فى المدن. بعد اعتبار الهامش اللازم لخيال متحيز مبالغ فيه، ليس هناك شك أن هذا التصريح كان مؤسس على عدد الرهبان والراهبات الذين لابد وأن بدا غير عادي.
وهكذا فإن النظام الرهبانى أعطى فرصة جديدة للحماس الشيوعى للحياة فى المسيحية، مادام الأخير وجد هنا تعبيرا ولم يكن مضطرا أن يظهر كمعارضة هرطقية للبيروقراطية الكنسية المهيمنة، وإنما اتفق تمام الاتفاق مع الأخيرة.
ولكن لم يمكن لهذا الشكل من الشيوعية المسيحية أيضاً أن يصبح الشكل الشامل للمجتمع، وإنما كان قاصرا على فئة معينة. ومن ثم تحولت الشيوعية الجديدة أيضاً بالضرورة المرة بعد الأخرى إلى عكسها، التى كان رقيها الاقتصادى أعظم على الأرجح. كان العامل الأخير على الأرجح يحول المشاركين فيها إلى أرستقراطية، أرفع بالنسبة لبقية السكان، وأخيرا مهيمنة ومستغلة إياها.
لم تستطع الشيوعية الرهبانية أن تكون الشكل الشامل للمجتمع لا لشيء إلا لأن إدارتها للاقتصاد المشترك، التى تأسست عليها، تضمن رفض الزواج بالضرورة، كما فعل الإسينيون قبلا، وكما فعلت فيما بعد المستوطنات الشيوعية الدينية (فى القرن التاسع عشر).
تطلب ازدهار الاقتصاد المشترك فقط، التخلى عن الزواج الفردى؛ حيث كان سيتسق تماماً معه نوع من الزواج الجماعى، كما ظهر أيضاً عند عدد من المستوطنات التى أشير اليها. ولكن هذه العلاقة بين الجنسين أيضاً ناقضت بحدة الشعور الاجتماعى العام للعصور الوسطى حتى يعترف بها عامة وتمارس علنا. كانت هذه الفترة بصفه عامة، تتسم بشعور بالكآبة جعل الامتناع عن كل متعة، الزهـد، حـلا أكثر طبيعية، أضف إلى ذلك هؤلاء الذين مارسوا مثل هذا الامتناع أحاطوه بهالة خاصة. ولكن ممارسة العزوبة حكم على الرهبنة مقدما بأن تبقى قاصرة على أقلية. هذه الأقلية قد تتزايد فى وقت لحد بعيد، كما يبين المقتطف المقتبس أعلاه من روفينوس، ولكن حتى مبالغة روفينوس الواضحة لاتجرؤ على أن تعرض السكان الرهبان كأغلبية. و سرعان ماخمد الحماس الرهبانى عند المصريين فى زمن روفينوس.
حيثما أصبحت الشيوعية الرهبانية راسخة ومتينة، تزايدت بالضرورة ثروة الدير. سرعان ما قدمت الصناعة الرهبانية أفضل المنتجات وأرخصها، مادام الاقتصاد المشترك قد جعل تكاليف الإنتاج منخفضة تماما. مثل نظام الاقتصاد المنزلي oikos للملاك العقاريين الكبار، أنتجت الأديرة لنفسها تقريبا كل شيء احتاجته من المواد الغذائية والمواد الخام. أظهر العمال حماساً أكثر من العبيد في علاقاتهم بكبار ملاك الأرض لأنهم كانوا أعضاء هم أنفسهم، متلقين كامل نتاج عملهم. أضف إلى ذلك، شمل الدير عديدا من العمال مكنه من أن يختار لكل من صناعاته العاملين الأكثر ملائمة له، فأدخل هكذا تقسيما للعمل بعيد المدى. أخيرا كان الدير، باعتباره مناقضا للفرد، أبديا. الاختراعات وأسرار العمل التى قد تضيع بسهولة مع موت المخترع وعائلته، أصبحت مشروع عدة أعضاء فى الدير، حيث تنتقل بواسطتهم إلى أخلافهم. أضف إلى ذلك، فإن الرهبانية، حيث أنها شخصية أبدية، لم تكن قلقة من الخطر المدمر لتفتيت ميراثها بالإرث. لم تقسم أبدا تراكمات الملكية فى شكل إرث.
وهكذا نمت ثروة الدير، وأيضا ثروة مجموعات من الأديرة أدارها رئيس مفرد وفق قواعد موحدة، وهي المسماة طوائف الرهبان. ولكن لم يصبح دير ما غنيا وقويا بشكل عاجل، نفس العملية التى جرت فيه هي التى ترددت فى تنظيمات شيوعية أخرى منذئذ، ضامة جزءا فقط من المجتمع، كما يمكن أن نلاحظ بعد فى التنظيمات التعاونية المنتجة القائمة الآن. إن ملاك وسائل الإنتاج الآن يجدون من السهل جعل الآخرين يعملون من أجلهم أكثر من أن يعملوا هم أنفسهم، إذ كان يمكنهم ايجاد العمال الضروريين: العمال المأجورين المفلسين، العبيد، أو الأقنان.
بينما منح النظام الرهبانى فى بداياته حياة جديدة للحماس الشيوعى فى المسيحية، فإنه مع ذلك اتخذ أخيرا نفس الطريق الذى اتخذه إكليروس الكنيسة قبله ، مثل الإكليروس، أصبح تنظيما للاستغلال والهيمنة.
مما لاريب فيه، أن هذا التنظيم المتحكم لم يقبل دائما أن يكون أداة عمياء فحسب لحكام الكنيسة، الأساقفة. إذا كانت الأديرة مستقلة عنهم اقتصاديا، تنافسهم فى الثروة، ذات تنظيم دولى مثلهم، فقد باتت قادرة على معارضة الأساقفة حين لم يجرؤ أحد آخر أن يفعل ذلك.
وهكذا فقد ساعدوا عرضا فى أن يوهنوا إلى حد ما استبداد الأساقفة، ولكن هذه الرحمة كان مقدرا لها فى النهاية أن تتحول إلى عكسها.
بعد انقسام الكنيسة إلى كنيسة شرقية وغربية، أصبح الإمبراطور متـمـتعا بـحق الـولاء الإقـطاعـى liege lord على الأساقفة فى الأولى. فى الأخيرة لم تكن هناك سلطة دولة أمكن أن تحكم كامل مجال الكنيسة. من ثم كان أسقف روما هو الذى حصل أولا على أسبقية على الأساقفة الآخرين فى الكنيسة الغربية، بفضل أهمية أسقفيته. تطورت هذه السابقة فى مجرى القرون أكثر فأكثر إلى صيرورتها هيمنة على الأساقفة الآخرين. ولأن الملكية المطلقة فى الأزمنة الحديثة تطورت من الصراع الطبقى بين النبالة الإقطاعية والبورجوازية، فإن الملكية المطلقة للبابا تطورت من الصراع الطبقى مع أرستقراطية الأساقفة والرهبان ملاك صناعات الأديرة الكبيرة. مع تعزيز البابوية، وصل المنحنى الهابط للكنيسة إلى ذروته، تتضمن كل التطورات اللاحقة فى الدولة والمجتمع هزائم للكنيسة، التطور الآن ضد الكنيسة والكنيسة ضد كل تطور؛ وتصبح رجعية تماما، أي مؤسسة مناهضة للمجتمع.
حتى بعد تحولها إلى العكس من مرحلتها الأولية، بعد أن أصبحت منظمة للهيمنة والاستغلال، نجحت الكنيسة بعد لبعض الوقت فى تحقيق أشياء عظيمة. ولكن مع نهاية الصليبيين، لم يكن للكنيسة وظيفة أبعد تؤديها للجنس البشرى. إسهامها، بعد أن أصبحت دين دولة، يكمن فى إنقاذ وتطوير بقايا الحضارة القديمة كما وجدتها. ولكن عندما تطور نمط إنتاج جديد،، أرفع بما لايقاس بالنسبة للقديم، على أساس النظام الذى كان قد أنقذ واستكمل من قبل الكنيسة، حين كانت الرأسمالية هى النتيجة وظهرت شيوعية إنتاج شاملة، لم تستطع الكنيسة أن تكون شيئا أكثر من عقبة في وجه التطور الاجتماعى. ولدت من الشيوعية، وهى الآن ألد أعداء الشيوعية الحديثة.
ألن تطور هذه الشيوعية بدورها نفس السيرورة الديالكيتكية مثل الشيوعية المسيحية وتصبح أيضاً آلية جديدة للاستغلال والهيمنة. هذا السؤال آخر مايتطلب انتباهنا.
الفصل السادس
المسيحية والاشتراكية
إن المقدمة الشهيرة التى كتبها إنجلز فى مارس 1895، للطبعة الجديدة من الصراعات الطبقية فى فرنسا من 1848 إلى 1850 لماركس تنتهى بهذه الكلمات:
"منذ قرابة 1600 عام مضت، كان يعمل فى الإمبراطورية الرومانية حزبا ثوريا خطيرا. فقد قوض الدين وجميع أسس الدولة؛ وأنكر صراحة أن تكون إرادة الإمبراطور هى القانون الأعلى؛ وقد كان بلا وطن؛ كان أمميا، وقد انتشر فى جميع أقاليم الإمبراطورية من بلاد الغال حتى آسيا، وحتى ماوراء حدود الإمبراطورية. وقد عمل زمنا طويلا خفية وفى سرية، ولكنه شعر لبعض الوقت بأنه صار من القوة بحيث يستطيع أن يخرج علنا وجهارا. وقد كان أيضاً لهذا الحزب الثورى، المعروف باسم المسيحيين تمثيلا قويا فى الجيش، فقد غدت فيالق برمتها مسيحية. وعندما كانت تؤمر، بحضور الاحتفالات الأضحوية الخاصة بالهياكل الوثنية القائمة، هناك لتخدم كحراس شرف، كان الجنود الثوريون يتجاسرون فى اعتدادهم إلى حد تعليق رموز خاصة -صلبان- على خوذاتهم. برهنت الإجراءات الاعتيادية الانضباطية التي طبقها ضباطهم فى الثكنات على عدم جدواها. لم يستطع الإمبراطور ديوكليتيان، أن يراقب بهدوء ويرى كيف يتقوض النظام والطاعة والانضباط فى جيشه. أصدر قانونا ضد الاشتراكيين -عفوا- ضد المسيحيين. منعت اجتماعات الثوريين، أغلقت أماكن اجتماعاتهم أو حتى أزيلت، ومنعت الرموز المسيحية، الصلبان، إلى آخره، كما منعت فى ساكسونيا مناديل الجيب الحمراء. لقد أعلن أن المسيحيين غير صالحين لشغل مناصب فى الدولة، لم يتمكنوا حتى من أن يصبحوا عرفاء. نظرا لأنه لم يكن لديهم فى هذا الوقت قضاة مدربون جيدا فيما يتعلق بـ"سمعة الشخص" مثلما يفترض قانون الهركولر المناهض للاشتراكيين، فقد كان المسيحيون ممنوعين ببساطة من حماية حقوقهم فى المحكمة. ولكن بقى هذا القانون الاستثنائى هو أيضاً غير نافذ. نزعة المسيحيون عن الجدران فى تحد، بل إنهم، كما يقال أحرقوا قصر الإمبراطور فى نيقوميديا على رأسه. وحينذاك انتقم الأخير منهم بواسطة اضطهاد عظيم للمسحيين فى 303 ب.م. وكان ذلك آخر اضطهاد من نوعه. وقد كان أثره قويا إلى حد أن الأغلبية الساحقة من الجيش كانت تتألف بعد سبعة عشر عاما على انقضائه من المسيحيين، والى حد أن قنسطنطين، الحاكم الأوتوقراطى، الذى لقبه رجال الكنيسة "الكبير"، أعلن المسيحية دين دولة .
إن من يعرف إنجلز ويقارن هذه السطور الأخيرة من "العهد السياسى" لإنجلز مع النظرات التى عبر عنها إنجلز طوال حياته، لايمكن أن يكون لديه أى شك بشأن نواياه وراء هذه المقارنة المرحة. لقد أراد إنجلز أن يشير للطبيعة التى لاتقاوم والأساسية لتقدم حركتنا، التى قال إنها مدينة بحتميتها خاصة إلى تزايد أتباعها فى الجيش، حتى أنها سرعان ما ستكون قادرة على إجبار حتى أكثر الأوتوقراطيين قوة أن يستسلم.
هذا الوصف مثير للاهتمام بصفة أساسية كتعبير عن التفاؤل الصحى الذى احتفظ به إنجلز حتى وفاته.
ولكن المقطع قد فسر أيضاً بشكل مختلف، مادام قد سبقه بتصريحات تفيد أن الحزب يزدهر على نحو أفضل حين يتابع الطرق الشـرعية. لقد دافع بعـض الأشخاص عن أن إنجلر فى "عهده السياسى" ينكر كامل عمل حياته ويعرض أخيرا الموقف الثورى، الذى دافع عنه لجيلين، باعتباره خطأ. استنتج هؤلاء الأشخاص أن إنجلر قد اعترف بأن مذهب ماركس - وهو أن القوة هى قابلة كل شكل جديد للمجتمع - لم يعد قابلا للدفاع عنه. فى رسم مقارنة بين المسيحية والاشتراكية، لم يضع المفسرون من هذا الطراز تأكيدا على الطبيعة التى لاتقاوم والأساسية للتقدم، ولكن على إعلان قنسطنطين الطوعى للمسيحية كديانة دولة، لقد انتهت الأخيرة إلى النصر دون اضطرابات عنيفة فى الدولة، بوسائل سلمية فقط، من خلال المساعدة الودية للحكومة.
يعتقد هؤلاء الأشخاص أن الاشتراكية أيضاً سوف تتغلب هكذا. بدا هذا الأمل بالفعل مباشرة بعد موت إنجلز على وشك التحقق، حيث ظهر السيد والدك روسو باعتباره قنسطنطينا جديدا فى فرنسا وعين أسقف المسيحيين الجدد، السيد ميليران، وزيره.
إن من يعرف إنجلز ويحكم عليه دون تحيز، سوف يعرف أنه لم يدخل حتى ذهن إنجلز أبدا أن يرتد عن معتقداته الثورية، وأن المقطع الأخير لمقدمته لايمكن من ثم أن يفسر بالمعنى الذى أشير اليه أعلاه. ولكن يجب أن نقر بأن هذا المقطع ليس فى غاية الوضوح. إن الأشخاص الذين لايعرفون إنجلز، الذين يتخيلون أنه قد راودته شكوك مفاجئة قبل وفاته تتعلق بجدوى كل عمل حياته، قد يفسر هذا المقطع، بمفرده، باعتباره يشير إلى أن طريق المسيحية إلى الانتصار هو نموذج للرحلة التى على الاشتراكية أن تقطعها.
إذا كان هذا هو رأى إنجلز بالفعل، فلم يكن هناك حكم أسوأ نطق به عن الاشتراكية، ولكان مساويا لنبوءة ليس عن بلوغ النصر، وإنما عن هزيمة كاملة للهدف العظيم الذى اقترحته الاشتراكية.
إنه لمن المميز أن هؤلاء الأشخاص الذين يوظفون هذا المقطع بهذا الشكل يغفلون كل العناصر العظيمة والعميقة فى إنجلز، ويحيون بحماس جملا - إذا احتوت بالفعل ما أدعوا أنه فيها - سوف تكون خاطئة كلية.
لقد رأينا أن المسيحية لم تحرز النصر حتى تحولت إلى عكس طابعها الأصلى تماما؛ وأن انتصار المسيحية لم يكن انتصار البروليتاريا، وانما الإكليروس الذى كان يستغل ويهيمن على البروليتاريا؛ وان المسيحية لم تكن منتصرة كقوة مقوضة، وإنما كقوة محافظة، كدعامة جديدة للقمع والاستغلال، حتى انها لم تقضى فقط على القوة الإمبراطورية، العبودية، فقر الجماهير، وتركيز الثروة فى أيدى قليلة، وإنما خلدت هذه الشروط. أحرز التنظيم المسيحى، الكنيسة، النصر بالتخلى عن أغراضه الأصلية وبالدفاع عن عكسها.
بالفعل، إذا كان على انتصار الاشتراكية أن يتحقق بنفس الطريقة التى حققتها المسيحية، فإن هذا سوف يكون سببا جيدا للتخلى عن، ليس الثورة، وانما عن الديمقراطية الاجتماعية؛ لايمكن أن يوجه اتهام أشد ضـد الديمقراطية الاجتماعية من موقـف بروليتارى، والـهجـوم الـذى يقـوم به الفوضويون ضـد الديـمقراطية الاجتماعية سوف يكون مبررا أيضاً للغاية،. بالفعل، السعى بواسطة العناصر البورجوازية الاشتراكية لوظيفة اشتراكية وزارية فى فرنـسا، التى هـدفت إلى تقلـيد الطـريقة المسيـحية فى جعل المسـيحية مؤسـسـة دولة فى الماضى - وطبقت، بغرابة كافية، فى هذه الحالة، لتكافح كنيسة الدولة - لم يكن لها أثر آخر إلا أن تقوى النزعة النقابية شبه الفوضوية، المناهضة للاشتراكية.
ولكن لحسن الحظ التشابه بين المسيحية والاشتراكية لامحل له على الإطلاق فى هذا الصدد. ممالاشك فيه أن المسيحية فى أصلها حركة الفقراء، مثل الاشتراكية، وكلتاهما من ثم لديها عديد من العناصر المشتركة، حيث كانت لدينا الفرصة لأن نشير إلى ذلك.
أشار إنجلز أيضاً لهذا التشابه فى مقال معنون "حول تاريخ المسيحية الأولية" فى الأزمنة الحديثة Neuezeit كتب قبل وفاته بوقت قصير، ويشير إلى كيف كان إنجلز مهتما بعمق بهذا الموضوع فى ذلك الوقت، كيف كان طبيعيا من ثم بالنسبة له أن يكتب عن التشابه الذى وجد فى مقدمته لكتاب الصراعات الطبقية فى فرنسا، يقول هذا المقال:
"يعرض تاريخ المسيحية الأولية توافقات ملحوظة مع الحركة العمالية الحديثة. مثل الأخيرة، كانت المسيحية أصلا حركة المضطهدين، وقد ظهرت فى البداية كدين للعبيد والمعتقين، الفقراء، والمنبوذين، وللشعوب التى أخضعتها أو شتتت شملها روما. كلا من المسيحية والاشتراكية تبشر بخلاص آت من العبودية والبؤس، تحيل المسيحية هذا الخلاص إلى حياة مقبلة فى السماء بعد الموت؛ أما الاشتراكية فسوف تحرزه فى هذا العالم من خلال تحويل المجتمع. كلتاهما مطاردتان ومضطهدتان، أتباعهما خارج القانون، خاضعين لتشريع خاص، يعرضون، فى حالة، كأعداء للجنس البشرى، وفى الأخرى، كأعداء للأمة، الدين، العائلة، وللنظام الاجتماعى. ورغم كل الاضطهادات، وفى بعض الحالات ساعدت مثل هذه الاضطهادات على تحقيق النصر، كلتاهما تتقدم على نحو لايقاوم. بعد ثلاثة قرون من بدايتها، المسيحية هى ديانة الدولة المعترف بها للإمبراطورية الرومانية، خلال أقل من ستين عاما احتلت الاشتراكية موقعا بات فيه انتصارها النهائى مؤكدا بشكل مطلق".
هذا التشابه صحيح فى إجماله، مع بعض التحديدات القليلة بالطبع؛ يمكن بالكاد أن تسمى المسيحية ديانة العبيد؛ فهي لم تفعل شيئا لهم. من ناحية أخرى، فإن التحرر من البؤس الذى أعلنته المسيحية كان فى البداية ماديا تماما، عليه أن يتحقق فى هذه الأرض، وليس فى السماء. هذا الظرف الأخير، على أية حال، يزيد التشابه مع حركة العمال الحديثة. يواصل إنجلز:
"إن التشابه بين هاتين الظاهرتين التاريخيتين يصبح واضحا حتى فى العصور الوسطى، فى الانتفاضات الأولى للفلاحين المضطهدين، وخاصة العامة الحضريين..... إن شيوعيى الثورة الفرنسية، وكذلك ڤ-;---;--ايتلج واتباعه قد أشاروا إلى المسيحية الأولية قبل أن يقول إرنست رينان: إذا أردتم أن تكونوا فكرة عن المجامع المسيحية الأولى قوموا بزيارة إلى القسم المحلى من جمعية العمال الأممية ".
"إن هذا الأديب الفرنسى الذى كتب الرواية الإكليريكية أصول المسيحية، وهي إنتحال للنقد الألمانى للكتاب المقدس لايضارع فى وقاحته - لم يكن هو نفسه واعيا بما احتوت كلماته هذه من حقيقة. أننى أود أن أرى أى "أممى" عجوز، يقرأ، دعنا نقول، مايسمى بالرسالة الثانية إلى الكورنثيين، دون أن يشعر بانفتاح جراح قديمة بمعنى معين على الأقل".
يواصل إنجلز عندئذ الدخول فى تفاصيل أكثر فى مقارنة المسيحية الأولية والأممية، ولكنه لايتتبع التطور اللاحق للمسيحية أو للحركة العمالية. الانهيار الجدلى للأولى لايلقى انتباها منه، ومع ذلك إذا كان إنجلز قد واصل هذا الموضوع، لاكتشف آثار تحولات مماثلة في الحركة العمالية الحديثة. فمثل المسيحية هذه الحركة مضطرة إلى خلق أجهزة دائمة فى مجرى نموها، من البيروقراطية المحترفة فى الحزب، إلى النقابات، التى بدونها لايمكن أن تعمل، والتى هى ضرورة بالنسبة لها، التى يجب أن تستمر، وأن تحصل على واجبات هامة أكثر فأكثر.
هذه البيروقراطية - التى يجب أن تؤخذ بالمعنى الأوسع باعتبارها تشمل ليس فقط الموظفين الإداريين، وانما أيضاً المحررين والمندوبين البرلمانيين - ألن تصبح هذه البيرواقراطية فى مجرى الأمور أرستقراطية جديدة، مثل الإكليروس الذى يترأسه الأسقف؟ ألن تصبح أرستقراطية مهيمنة على ومستغلة للجماهير العاملة وأخيرا حائزة على السلطة للتعامل مع سلطات الدولة بشروط متساوية، وهكذا تغوى بألا تطيح بها وإنما تنضم اليها؟
هذا الحاصل النهائى سوف يكون مؤكدا اذا كان التشابه تاما. ولكن لحسن الحظ ليس هذا هو واقع الحال. بالرغم من التشابهات العديدة بين المسيحية والحركة العمالية الحديثة، هناك أيضاً اختلافات جوهرية. البروليتاريا اليوم مختلفة تماما بصفة خاصة عن البروليتاريا المسيحية الأولية. يحتمل أن النظرة التقليدية عن بروليتاريا حرة تتألف من المتسولين فقط مبالغ فيها؛ فلم يكن العبيد هم العمال الوحيدين. ولكنه من الحقيقى أن عمل العبد قد أفسد البروليتاريين الأحرار العاملين، الذين عمل أغلبهم فى بيوتهم. لقد كان نموذج البروليتارى الكادح الذى جاهد من أجله عندئذ، مثله في ذلك مثل المتسول، هو تحقيق عيش بدون عمل على حساب الأغنياء، حيث كان يُتوقع أن يعتصروا الكمية الضرورية من المنتجات من العبيد.
أضف إلى ذلك كانت المسيحية فى القرون الثلاثة الأولى حركة حضرية على وجه الحصر، ولكن بروليتاريى المدن فى هذا الوقت لم يكن لهم سوى مغزى ضئيل فى تركيب المجتمع، الذى كانت قاعدته الإنتاجية تقريبا كلية هى تلك التى للعصور القديمة، وإن اقترنت بعمليات صناعية هامة تماما.
كنتيجة لكل هذا، فإن الحملة الأساسيين للحركة المسيحية، البروليتاريين الأحرار الحضريين، عاملين ومتعطلين، لم يشعروا أن ذلك المجتمع يعيش على حسابهم، لقد جاهدوا ليعيشوا على حساب المجتمع دون تقديم أى مقابل. لم يلعب العمل دوراً فى رؤيتهم للدولة المقبلة.
لقد كان من ثم طبيعيا بالطبع أنه بالرغم من كل الحقد الطبقى ضد الأغنياء، يصبح الجهد للحصول على معروفهم وكرمهم واضحا مرة بعد أخرى، وواجه ميل البيروقراطية الإكليريكية لتفضيل الأعضاء الأغنياء فى جمهور المجمع مقاومة ضئيلة مثلما جرى لعجرفة هذه البيروقراطية نفسها.
كان التدهور الاقتصادى والمعنوى للبروليتاريا فى الإمبراطورية الرومانية قد تزايد أكثر بالانحلال العام لكل المجتمع الذى كان يصبح أفقر وأكثر يأسا، بينما كانت قواه المنتجة تتدهور أكثر فأكثر. هكذا فإن فقدان الأمل واليأس استولى على كل الطبقات، شل مبادرتها، سبب للجميع أن يتوقعوا الخلاص على أيدى قوى غير عادية وفوق طبيعية فقط، وجعلهم ضحايا عاجزة لأى مخادع ذكى، أو أى مغامر، ذو حيوية وواثق بذاته، سبب لهم أن يتخلوا عن أى مقاومة مستقلة نحو أى من القوى المهيمنة باعتبارهم عاجزين.
يا لاختلاف البروليتاريا الحديثة ! إنها بروليتاريا الكدح، وهى تعرف أن كل المجتمع يقوم على أكتافها، ونمط الإنتاج الرأسمالى يحول مركز الجاذبية فى الإنتاج أكثر فأكثر من المقاطعات إلى المراكز الصناعية، حيث الحياة العقلية والسياسية أكثر فاعلية. إن عمال هذه المراكز، الأكثر حيوية وذكاء بين الجميع، يصبحون الآن العناصر التى تحكم أقدار المجتمع.
فى نفس الوقت يعزز نمط الإنتاج السائد القوى المنتجة بضخامة، ويزيد هكذا المطالب التى وضعها العمال على المجتمع، ويزيد قوتهم أيضاً على إنجاز هذه المطالب. الأمل، الثقة، الوعى بالذات، تلهمهم، كما ألهمت ذات مرة البورجوازية الناشئة، معطية إياها القوة على أن تكسر سلاسل الهيمنة والاستغلال الإقطاعية، الكنيسة والبيروقراطية، ومستمدة القوة الضرورية من النمو الكبير لرأس المال.
يتوافق أصل المسيحية مع انحلال الديمقراطية. تتسم القرون الثلاثة من تطورها السابقة على الاعتراف بها بتدهور دائم لكل بقايا الحكم الذاتى، وأيضا بتحلل متلاحق للقوى المنتجة.
تنبثق الحركة العمالية الحديثة من نصر ضخم للديمقراطية، أى، من الثورة الفرنسية العظمى. إن القرن الذى انصرم منذئذ، بكل تغيراته وتقلباته، يمثل مع ذلك تقدما مستمرا للديمقراطية، زيادة خرافية بحق فى القوى المنتجة وليس فقط توسعا أعظم، وانما أيضاً استقلالا أعظم ووضوحاً فى جانب البروليتاريا.
على المرء أن يفحص فقط هذا التضاد حتى يصبح واعيا بأن تطور الاشتراكية ليس من الممكن أن ينحرف عن مجراه كما حدث (لمجرى) المسيحية. لانحتاج إلى أن نخاف من أنها ستطور طبقة جديدة من الحكام والمستغلين من مراتبها مشركة فى غنيمتهما المستبدين القدامى.
بينما تناقصت القدرة القتالية والروح القتالية للبروليتاريا بشكل متلاحق فى الإمبراطورية الرومانية تقوت هذه الخصائص فى المجتمع الحديث، وتُدرك التناقضات الطبقية بشكل أكثر حده، وهـذا وحده لابـد وأن يحبـط كل محاولات إغواء البروليتاريا بأن تتخلى عن نضالها لأن أبطالها قد ميزوا. أدت أى من هذه المحاولات حتى حينه إلى عزلة الشخص الذى يفعلها، الذى هجرته البروليتاريا بالرغم من خدماته السابقة لها. ولكن ليس البروليتاريا فقط والبيئة السياسية والاجتماعية التى تتحرك فيها هى المختلفة كلية اليوم عن ظروف عصر المسيحية الأولية، بل إن الشيوعية اليوم وشروط تحققها مختلفة تماما عن شروط الشيوعية القديمة.
النضال من أجل الشيوعية، الحاجة إلى الشيوعية، تنشأ اليوم من نفس المصدر، أى الفقر، ومادامت الاشتراكية هى فقط اشتراكية الشعور فهى تعبير عن هذه الحاجة فقط، وقد تعبر اتفاقا عن نفسها حتى فى الحركة العمالية الحديثة فى اتجاهات تشبه تلك التى كانت لعهد المسيحية الأولية. إن أدنى فهم فقط للشروط الاقتصادية لشيوعية اليوم سوف يدرك على الفور كيف أنها تختلف عن الشيوعية المسيحية الأولية.
إن تركز الثروة فى أيد قليلة، الذى انطلق فى الإمبراطورية الرومانية يدا بيد مع تناقص دائم فى القوى المنتجة - الذى كان مسئولا عن التناقض بصورة جزئية - أصبح اليوم نفس هذا التركيز قاعدة لتزايد عظيم فى القوى المنتجة. بينما لم يؤذ توزيع الثروة عندئذ إنتاجية المجتمع بأدنى درجة، وإنما لائمة، فإنه سيكون مساويا لشلل كامل للإنتاج اليوم. لايمكن للشيوعية الحديثة أن تفكر بعد فى توزيع متساوٍ للثروة، إن موضوعها بالأحرى أن تؤمن أعظم زيادة ممكنة فى إنتاجية العمل وتوزيعا أكثر عدالة لمنتجات العمل السنوية بواسطة دفع تركيز الثروة إلى أعلى نقطة، محولة إياه من الاحتكار الخاص لمجموعات رأسمالية قليلة إلى احتكار للدولة.
ولكن الشيوعية الحديثة، إذا كانت ستلبى احتياجات الإنسان الجديد التى خلقتها الطرق الحديثة للإنتاج، يجب أن تستبقى تماما فردية الاستهلاك. لاتتضمن هذه الفردية عزلة الأفراد عن بعضهم الآخر عند الاستهلاك، انها قد تأخذ حتى شكل استهلاك اجتماعى للنشاط الاجتماعى، ليست فردية المتعه مساوية لإلغاء المشاريع الكبيرة فى إنتاج مواد الاستهلاك، ولا لإحلال الآلة محل العمل اليدوى، كما قد يحلم كثير من الاشتراكيين الجماليين. ولكن فردية الاستهلاك تتطلب الحرية فى اختيار المتع، أيضاً الحرية فى اختيار المجتمع الذى يستهلك فيه المستهلك.
ولكن جمهور السكان الحضريين فى أيام المسيحية الأولية لم يعرفوا أشكالا للإنتاج الاجتماعى، ومن الصعب أن يقال بأن المشروعات الكبرى قد وجدت فى الصناعات الحضرية. ولكنها مرتبطة جيدا بالأشكال الاجتماعية للاستهلاك، خاصة الوجبات المشتركة، وغالبا ماقدمت من المجمع أو الدولة.
وهكذا كانت الشيوعية المسيحية الأولية شيوعية توزيع الثروة وتسوية الاستهلاك، بينما تعنى الشيوعية الحديثة تركيز الثروة وتركيز الإنتاج.
لم تحتاج الشيوعية المسيحية الأولية لأن تطوق كل المجتمع حتى تظهر. أمكن أن يبدأ تنفيذها داخل نطاق محدود، فى الواقع، قد تتخذ، داخل تلك الحدود، أشكالا دائمة، كانت الأخيرة بالفعل ذات طبيعة أعاقت صيروتها شكلا شاملا للمجتمع.
ومن ثم أصبحت الشيوعية المسيحية الأولية بالضرورة شكلا جديدا للأرستقراطية، وقد كانت مجبرة أن تنجز هذا الديالكتيك الداخلى حتى ضمن المجتمع كما كان آنذاك. لم يمكنها أن تلغى الطبقات، ولكنها أضافت فقط شكلا جديدا من الهيمنة بالنسبة للمجتمع.
ولكن الشيوعية الحديثة بالنظر إلى التوسع الضخم لوسائل الإنتاج، والطابع الاجتماعى لنمط الإنتاج، والتركيز بعيد المدى لأكثر موضوعات الثروة أهمية، ليس لديها أقل فرصة لأن تثمر على أى نطاق أصغر من نطاق المجتمع بكامله. أخفقت كل محاولات تحقيق الشيوعية فى المؤسسات الصغيرة للمستوطنات الاشتراكية أو التعاونيات الإنتاجية. قد لايمكن للشيوعية أن تنتج بتشكيل تنظيمات صغيرة داخل المجتمع الرأسمالى، التى سوف تمتص تدريجيا هذا المجتمع حين تتوسع، وانما فقط بحيازة السلطة الكافية للسيطرة وتحويل كامل الحياة الاجتماعية. هذه السلطة هى سلطة الدولة. إن استيلاء البروليتاريا على السلطة السياسية هو الشرط الأول لتحقيق الشيوعية.
إلى أن تصل البروليتاريا هذه المرحلة، لايمكن أن يكون هناك تفكير فى الإنتاج الاشتراكى أو فى تناقضات الأخير المؤثرة فى تطوره التى سوف تحول المعقول إلى هراء والهبات إلى عذابات . ولكن حتى بعد أن تستولى البروليتاريا على السلطة السياسية، لن يأتى الإنتاج الاشتراكى إلى الوجود على الفور ككل ناجز، ولكن التطور الاقتصادى سوف يأخذ فجأة منعطفا جديدا، لن يعد فى اتجاه تأكيد الرأسمالية ولكن نحو تطور إنتاج اجتماعى. متى سوف يتقدم الأخير إلى نقطة تظهر فيها التناقضات والمساوئ، والذي يقدر له أن يطور المجتمع الجديد فى اتجاه جديد غير معروف الآن وغامض على نحو مطلق؟ هذا الوضع لايمكن أن يوجز حاليا وليست هناك حاجة لأن يعالج هنا.
بقدر ما نستطيع أن نتتبع الحركة الاشتراكية الحديثة، فإنه من المستحيل بالنسبة لها أن تنتج ظواهر تطرح أى تشابه مع ظواهر المسيحية كدين دولة. ومن الحقيقى كذلك أيضاً أن الطريقة التى حازت بها المسيحية انتصارها لايمكن بأى طريقة أن تخدم كنموذج للحركة الحديثة للطموحات البروليتارية.
إن انتصار البروليتاريا لن يكون بالتأكيد سهلا كنصر الأساقفة الطيبين من القرن الرابع.
ولكننا قد ندافع عن أنه ليس فقط أن الاشتراكيـة لن تطور أى تناقضـات داخلية فى الفترة السابقة على هذا الانتصار الذى سوف يكون قابلا للمقارنة مع تلك التناقضات التى تحيط بالمراحل الأخيرة للمسيحية، وانما أيضاً أنه لن تتحقق مثل هذه التناقضات فى الفترة التى تطورت فيها النتائج القابلة للتنبؤ بها لهذا النصر.
لقد طورت الرأسمالية الشروط لوضع المجتمع على أساس جديد كليا، مختلف تماما عن كل الأسس التى وقف عليها المجتمع حين ظهرت التمايزات الطبقية. بينما لم تكن هناك طبقة ثورية جديدة أو حزب - حتى تلك التى ذهبت أبعد من المسيحية فى الشكل الذى اعترف به قنسطنطين، وحتى حينما كانوا بالفعل سيلغون التمايزات الطبقية القائمة - قادرة على إلغاء كل الطبقات، وإنما أحلت دائما تمايزات طبقية جديدة محل القديمة، بينما تتوفر لدينا الآن الشروط المادية للقضاء على كل التمايزات الطبقية. لقد تحركت البروليتاريا الحديثة بهدى مصالحها الطبقية لتوظيف هذه الشروط فى اتجاه هذا الإلغاء، لأنها هي الآن الطبقة الأدنى، بينما فى أزمنة المسيحية كان العبيد أدنى من البروليتاريا.
تعين أن تختلط الاختلافات الطبقية والتعارضات الطبقية حتما مع التمايزات التى نتجت بين الحرف المختلفة، وبتقسيم العمل. التضاد بين الطبقات هو نتيجة لثلاثة أسباب: الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، استخدام الأسلحة، العلوم. تنتج شروط تقنية واجتماعية معينة التمايز بين هؤلاء الذين يملكون وسائل الإنتاج والذين لايملكون، فيما بعد، تنتج التمايز بين هؤلاء الذين تدربوا على استخدام الأسلحة وهؤلاء الذين بلا دفاع؛ أخيرا يأتى التمييز بين هؤلاء الضليعين فى العلوم والجهلة.
يخلق نمط الإنتاج الرأسمالى الشروط الضرورية لإلغاء كل التعارضات. إنه لايعمل فقط باتجاه إلغاء الملكية الخاصة فى وسائل الإنتاج، ولكن بواسطة ثروته فى القوى المنتجة فهو يلغى أيضاً ضرورة قصر التدريب العسكرى والمعرفة على شريحة معينة. لقد نشأت هذه الضرورة بمجرد أن حاز التدريب العسكرى والعلم مرحلة عالية بالأحرى، مُمكنا هؤلاء الذين كان لديهم وقت فراغ ووسائل مادية تتجاوز احتياجات الحياة، أن يحوزوا أسلحة ومعرفة وأن يطبقا الاثنين بنجاح.
حيثما بقيت إنتاجية العمل قليلة وأنتجت فائضا ضئيلا، لم يكن كل واحد قادرا على أن يحصل على وقت كافٍ ووسائل وأن يلم جنبا إلى جنب بالمعرفة العسكرية أو العلم العام لزمنه. فى الواقع، كان فائض أفراد عديدين مطلوبا لتمكين فرد واحد من أن يقوم بإنجاز فى الحقل العسكرى أو العلمى.
لايمكن أن يحدث هذا سوى باستغلال كثيرين من قبل قلة. الذكاء المتزايد والقدرة العسكرية للقلة مكنتها من أن تضطهد وتستغل الجماهير الجاهلة العزلاء. من ناحية أخرى، أصبح الاستغلال والاضطهاد للجماهير تحديدا وسائل زيادة المهارة العسكرية ومعرفة الطبقات الحاكمة.
ظلت الأمم التى كانت قادرة على البقاء متحررة من الاستغلال والاضطهاد جاهلة وغالبا عزلاء، باعتبارها مناقضة للجيران المسلحين على نحو أفضل والمتعلمين بشكل أفضل. فى صراعات الوجود، هزمت أمم المستغلين والمضطهدين من ثم هؤلاء الذين احتفظوا بشيوعيتهم البدائية وديمقراطيتهم البدائية.
إن نمط الإنتاج الرأسمالى نفسه، بسبب الفائض الكبير الذى خلقه، قد مكن الأمم المختلفة من أن تلجأ إلى خدمة عسكرية شاملة، وهكذا استبعدت أرستقراطية المحاربين. ولكن تأتى الرأسمالية ذاتها بكل أمم السوق العالمى لمثل هذه العلاقات الوثيقة والدائمة كل منها مع الآخر حتى أن السلام العالمى يصبح ضرورة ملحه أكثر فأكثر، إن حربا من أى نوع هى جزء من حماقة قاسية. إذا أمكن التغلب على نمط الإنتاج الرأسمالى والعداء الاقتصادى بين الأمم المختلفة، فإن حالة السلام الأبدى التى رغبت فيها الآن الجماهير العظيمة للبشرية سوف تصبح واقعا. السلام الشامل الذى حققه الاستبداد الإمبراطورى للأمم المحيطة بالبحر الأبيض المتوسط فى القرن الثانى من العصر المسيحى - وهى الميزة الوحيدة التى منحها الاستبداد لهذه الأمم - سوف يتحقق فى القرن العشرين لأمم العالم بواسطة الاشتراكية.
إن كامل أساس التعارض بين طبقات المحاربين وغير المحاربين سوف يختفى عندئذ.
ولكن أسس التضاد بين المتعلمين وغير المتعلمين سوف تختفى أيضاً. الآن، فقط، فقد رخص نمط الإنتاج الرأسمالى لحد ضخم أدوات المعرفة بالطباعة الرخيصة، جاعلا إياها فى إمكان الجماهير. وفى نفس الآن فإنه ينتج طلبا متزايدا على المثقفين، الذين يدربهم فى مدارسه بأعداد ضخمة، دافعاً إياهم إلى البروليتاريا، على أى حال، حين يصبحون عديدين. وهكذا فإن الرأسمالية قد خلقت الإمكانية التقنية لتقصير شديد ليوم العمل، وحازت طبقات من العاملين بالفعل على ميزات معينة فى هذا الاتجاه، مع توفر وقت أكثر للأنشطة التعليمية.
مع انتصار البروليتاريا فإن هذه الجراثيم سوف تتطور تماما على الفور، خالقة واقعا ممتازا لإمكانيات التعليم العام للجماهير التى أنتجها نمط الإنتاج الرأسمالى.
إن فترة ظهور المسيحية هى فترة أحزن تدهور ثقافى، لازدهار جهل لا معقول، لأكثر الخرافات غباوة، وفترة ظهور الاشتراكية هى فترة التقدم الصارخ فى العلوم الطبيعية وحيازة سريعة للمعرفة من قبل الطبقات المتأثرة بالديمقراطية الاشتراكية.
فقد التناقض الطبقى الناشئ عن التدريب العسكرى أساسه سلفا، التضاد الطبقى الناشئ عن الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج سوف يفقد أساسه أيضاً بمجرد أن ينتج الحكم السياسى للبروليتاريا آثاره، ونتائج هذا الحكم سرعان ماسوف تصبح واضحة فى تناقص التمييز بين المتعلمين وغير المتعلمين، الذى قد يختفى خلال جيل واحد.
ستكون الأسباب الأخيرة للتمييزات الطبقية والتناقضات الطبقية آنئذ قد توقفت.
لابد للاشتراكية من ثم لا أن تحرز السلطة بوسائل مختلفة كلية فحسب عما فعلت المسيحية، ولكنها لابد وأن تنتج تأثيرات مختلفة كلية. يجب أن تقضى والى الأبد على كل حكم طبقى.
*****



#سعيد_العليمى (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الدين والصراع الطبقى فى المجتمع الشرقى العبودى القديم - القس ...
- الدين والصراع الطبقى فى المجتمع الشرقى العبودى القديم - القس ...
- الدين والصراع الطبقى فى المجتمع الشرقى العبودى القديم - القس ...
- الدين والصراع الطبقى فى المجتمع الشرقى العبودى القديم - القس ...
- مبارك وسياسة إحتواء المعارضة - من ارشيف حزب العمال الشيوعى ا ...
- الثورة والثورة المضادة فى افريقيا - من أرشيف حزب العمال الشي ...
- جذور الفتنة الطائفية فى مصر - 1981-- من أرشيف حزب العمال الش ...
- فى أزمة غياب القيادة الثورية - 1
- حزب العمال الشيوعى المصرى - تأريخ النميمة والإغتياب
- حزب العمال الشيوعى المصرى فى التأريخ الكورييلى
- قبل أن تهب العاصفة 3 - حتى لانتذيل الجناح الآخر للثورة المضا ...
- قبل أن تهب العاصفة 2 - هل يمكن أن نتجاوز فوضى الشعارات ؟
- قبل أن تهب العاصفة - 1 - حتى لانعزز الثورة المضادة
- القانون ونشأة الذات الرأسمالية - يفيجينى ب . باشوكانيس
- الماركسية وأنثروبولوجيا المدارات الحزينة - سايمون كلارك - مر ...
- الماركسية وأنثروبولوجيا المدارات الحزينة - تأليف سايمون كلار ...
- الماركسية وأنثروبولوجيا المدارات الحزينة - تأليف سايمون كلار ...
- الماركسية وأنثروبولوجيا المدارات الحزينة - تأليف سايمون كلار ...
- الماركسية وأنثروبولوجيا المدارات الحزينة - تأليف سايمون كلار ...
- الماركسية وأنثروبولوجيا المدارات الحزينة - تأليف سايمون كلار ...


المزيد.....




- مسجد وكنيسة ومعبد يهودي بمنطقة واحدة..رحلة روحية محملة بعبق ...
- الاحتلال يقتحم المغير شرق رام الله ويعتقل شابا شمال سلفيت
- قوى عسكرية وأمنية واجتماعية بمدينة الزنتان تدعم ترشح سيف الإ ...
- أول رد من سيف الإسلام القذافي على بيان الزنتان حول ترشحه لرئ ...
- قوى عسكرية وأمنية واجتماعية بمدينة الزنتان تدعم ترشح سيف الإ ...
- صالة رياضية -وفق الشريعة- في بريطانيا.. القصة الحقيقية
- تمهيدا لبناء الهيكل المزعوم.. خطة إسرائيلية لتغيير الواقع با ...
- السلطات الفرنسية تتعهد بالتصدي للحروب الدينية في المدارس
- -الإسلام انتشر في روسيا بجهود الصحابة-.. معرض روسي مصري في د ...
- منظمة يهودية تستخدم تصنيف -معاداة السامية- للضغط على الجامعا ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - سعيد العليمى - الدين والصراع الطبقى فى المجتمع الشرقى العبودى القديم - القسم الرابع 2 - كارل كاوتسكى