أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعيدي المولودي - نقد- مفاهم حضارية- في الأدب العربي















المزيد.....


نقد- مفاهم حضارية- في الأدب العربي


سعيدي المولودي

الحوار المتمدن-العدد: 4303 - 2013 / 12 / 12 - 02:37
المحور: الادب والفن
    


تهدف هذه الورقة إلى مسآلة بعض المفاهيم النقدية، أو القريبة منها، التي شكلت إطارا تأسيسيا لكثير من الرؤى والنظريات اشتغلت في حقل الأدب وأجناسه وفروعه ،من منطلق أن كثيرا من المسلمات في مجال الأدب العربي ينبغي أن يخضع لإعادة تركيب أو بناء وتحويل اتجاه البحث في حركته وتطوره ونموه و مسار تحولاته .
إن مفهوم الأدب هو مفهوم متغير على الدوام ولا يمكن أن نتمثله خارج هذه الحقيقة، لأنه مرتبط بسياقات تجعله خاضعا لتطور تاريخي محدد، ولعوامل شتى تسهم في بناء افتراضاته وفضاءاته، وترعى نبض احتمالاته، ومن هنا تكون العودة إلى مسآلة الكيفية التي فهم بها الأدب وحلقات تطوره جزءا من عملية إعادة البناء التاريخي لحقائقه ومعطياته.
وليس من الضروري الآن العودة إلى تعقب وملاحقة المحطات التاريخية الكبرى التي حقق الأدب العرب عبر تموجاتها وجوده وهويته التاريخية والثقافية والحضارية،خاصة وأن زوايا النظر بالضرورة متباينة ومتناقضة أحيانا وتستوعب حقيقته ضمن حلقات ضيقة أو شاسعة تحمل سماتها التاريخية الخاصة وتمتلك قدرتها على صياغة المعيار الذي يشكل نقطة الانطلاق ومركز الاستشراف.
في عملية التأريخ للأدب العربي نقف على خطوط تماس متباينة مع بعض دلالات الأخلاق أو التهذيب أو التأديب،وهي حقول دلالية محدقة بالأدب وتكاد تمارس وجودها عبر إنجازاته، حتى ليمكن القول إن الأدب في مراحل معينة هو امتداد أو مظهر للإنجازات الأخلاقية وما يتصل بمقتضياتها، أي بمعنى ما هو نتاج حتمي للوعي الأخلاقي وتطورات سياقاته وأدواته الجمالية، ويستمد قوته من داخل دائرة هذا الوعي وارتداداته التي تسوقه إلى إطاره الخاص، ومن ثمة يمارس وجوده على مستويين أو اتجاهين: اتجاه يمر خلاله عبر محيط دائرة الأخلاق وما يتفرع عنها، واتجاه يبني عبره ذاته أو كيانه باعتباره شيئا مختلفا. وتتسع سياقات الحركة في الاتجاهين أو تضيق حسب إمكاناته وقدراته الخاصة التي ترسم حدوده وتخومه.
ويبدو أن إحدى التحديدات البارزة في الأدب تجعل من الأخلاق شيئا مفروضا عليه بحيث يشكل حركته الكبرى التي تطارد هويته وتبني حقيقته، ومن خلال هذا يتكشف البعد الخاص للأدب من حيث إنه دنو أو اقتراب من الإدراك النموذجي للقيم الاجتماعية ضمن شروط تاريخية معلومة.
هذا التصور يعكس مسارا من التأصيل في خلق وترسيخ تبعية الأدب باعتباره ذيلا وتكملة يعود في كل حركة نموه وتطوره إلى نقطة الأصل، وهو ما يفيدنا في نطاق افتراض أن الأدب هو جزء من بنية تتصارع أو تتفاعل ضمنها مجموعة من التفاعلات المادية وغير المادية.
القول بالانحدار الطبيعي للأدب من دائرة السلوك والوعي به و مظهر لتطور الإستراتيجية الأخلاقية يفتح إمكانيات شتى لضرورات التجنيس أو استنطاق قابلية الأدب للتعبير عن حقائق معينة تتلبس بمعارف ترتبط بفضاءاته ارتباطا حميميا، وهذا يعني بصيغة ما أن الأدب يمارس تأثيره عبر استقطابها والاحتفاء بعناقها أو الحلول في صلبها والذهاب عميقا في تضاريسها.
قد يكون هذا التعالق أو الارتباط خاصية ملازمة للأدب و يوجه نسيجه وبناءه، فالجذر اللغوي أو الدلالي الذي تنتمي إليه لفظة الأدب يتيح لنا القول، إن الأدب هو "طعام" يصنعه الرجل ويدعو الناس إليه، أو هو "كل طعام وضع لدعوة أو عرس"(1). أي أن الأدب بمعنى ما "مأدبة لغوية" أو "كلامية" تمنح الأديب أو الأدب فرصة الامتداد في الطقس الاجتماعي وتجعل منه تجليا لسلوك مألوف يشتعل عبر اللغة وعبر طقس الاحتفاء الجمعي بميلادها الناجم عن طاقة الإبداع لدى الأديب.
إيقاع الأدب إذن يتحرك بين إيقاع البوح وإيقاع التلقي ويحيا بين طقسين يمتلكان معا خيوط تجاذب ممعن في العراقة مع معايير معينة للسلوك الاجتماعي الفردي والجمعي، وإذا توخينا الدقة في التعبير فإن الأدب يوجه حركة الاستقطاب القائمة بين المنتج والمستهلك، الداعي والمدعو،وقيمته مرتبطة بالمقاييس التي توجه شروط العرض واشتراطات الطلب، والعوامل التي بإمكانها أن تضمن احتمالات التوازن إلى أقصى الحدود، فالأديب إنما يوجه سهامه وغاياته نحو امتلاك المتلقي أو إرضائه، وتطوير مهاراته الخاصة في الاستجابة لغرائزه وملاحقة أحلامه وهواجسه، ويقودنا هذا للقول، بوجه عام، إن الدافع أو العامل الرئيسي في الأدب هو الرغبة في تجسيد الوعي والمثل الأخلاقية.
وبالنسبة للأدب العربي فإن الخلفية هي تحويل الأدب كنتاج لغوي إلى ممارسة على اتفاق كلي أو جزئي مع السلوك الاجتماعي، من أجل أداء الإنسان لوظيفته الإنتاجية والاجتماعية، ودوره في تكريس الأفعال المؤسسة للأعراف والتقاليد، ولذلك يبدو طقس النتاج الأدبي امتدادا طبيعيا للجود والكرم، وما يؤسسانه من أواصر معلومة بين قطبي عملية الجود: الواهب أو المانح، والقابض أو المستهلك أو المستفيد من العطاء، وإذا كان الكريم هو (الجامع لأنواع الخير والشرف والفضائل)(2) فإن الأديب يمتلك الصورة ذاتها التي تتكتل في هذا الوصف، وإنتاجية الأدب من هنا جزء من طقس الإنتاجية السائدة التي تقوم على البذل والعطاء وما يتصل بالقيم الموازية.
تنبني الأخلاق كما هو معلوم على بعد جمالي خاص يضع السلوك أو الفعل الاجتماعي تحت سلطة التقييم في اتجاه الجمال أو القبح، الخير أو الشر،بما ينسجم ومعايير الرؤية السائدة في أي مجتمع في مرحلة معينة من تطوره، وتنتظم علاقات الأدب ضمن هذه الدائرة على أساس أن هذا هو الضمان الوحيد ليفرض وقعه ضمن السيرورة الثقافية، ويحتفظ لنفسه بموقع متميز داخل حركة اتجاهات متغيرات الدائرة، ليكون علامة مميزة للممارسة الأخلاقية.
الأدب ينتج ويشتغل ضمن حقل "المأدبة" أي تحويل القول أو الكلام أو اللغة إلى "طعام" أو أي شيء قابل للاستعمال أو الاستهلاك، أو الهضم بتعبير آخر، وينهض بمهمات تيسير أسباب امتلاك المستهلك والتحكم في مجال خبراته وذوقه وشهواته، على أن الغريزية التي يتعامل معها القاريء مع مأدبة اللغة التي يدعوها إليه الأديب، قد يتولد عنها الإحساس بالاستلاب أو الاغتراب تجسده بالدرجة الأولى نظرة الفرد القاريء المدعو إلى الطعام/الإنتاج، باعتباره شيئا غريبا عنه، وبالتالي فإن الأدب كأنما يرغمه على التصرف وفق ما يتوافق مع جوهر النظام الأخلاقي وتنظيم المجتمع وطريقة الحياة.
إن المستهلك في هذه الحال يستشعر هذه المفارقة التي تجعل الطعام منفصلا عنه ولا تربطه علاقة ما بإنتاجه، والطريقة التي يستخدمها بها، كما أن صانع الطعام نفسه يحس بالاغتراب من إنتاجه الذي خرج من سيطرته، وغدا شيئا مستقلا عنه بدلالاته ومعانية، هكذا يتورط الأدب في بناء سلسلة علاقات غير متوازنة هي نتاج طبيعة السلوك أو الفعل المشترك بين الجميع تحقق كل الأطراف ذاتها من خلاله ويقوم بدوره الخاص بمعزل عن الآخرين.
في كل حال، ثمة طرائق عديدة لملاحقة تطور مفهوم الأدب العربي ضمن سياقاته الحضارية بوصفه ممارسة أخلاقية أو صناعة إنتاجية تصوغ زمنها الخاص، وتؤسس وجودها الذي تأثر خلال حقب متتالية بكثير من المتغيرات وجهت صيرورته وساعدت على رسم هوية خاصة به ارتدت البعد الديني مثلا في العصور الإسلامية وتوزعتها مع ذلك صور وموضوعات شتى ظلت تلاحقه وتحوط به.
وبوسعنا القول إن الأدب ظل في دائرة مركزها الأسمى وقطرها الأكبر هو الشعر، باعتباره أداة إنتاجية لها نظامها الثابت ضمن حركة تطور الأدب، وفي فترات محددة كان من العسير إثبات خصائص أو رسم علاقات مميزة ومحددة للأدب خارج هوية الشعر والترابطات التي تدخل نظامه، إن الشعر هو ما منح الأدب وجوده الخاص، ليس باعتباره جنسا من أجناسه أو فرعا من فروعه فحسب، وإنما باعتباره كذلك ظل محتكرا لهويته ومداه ومعناه طيلة حقب تاريخية طويلة.
وتحديد الشعر وبعض وظائفه يدمر إلى حد بعيد معالم انتماء الأدب إلى قارة الأفعال أو الدلالات الأخلاقية، ويكشف عن انتظامات جديدة تفرض حضورها من خلال تفاعل التفاصيل الصغرى التي يتشكل منها الأدب، إن الحد أو الوصف المتعارف عليه للشعر: "الشعر ديوان العرب"، يستدرجنا لإثارة مجموعة من مسائل تضعنا على حافة الاصطدام بكثير من القيم الحضارية والثقافية، والدلالة التي ترشح بها لفظة "ديوان" تغذي احتمالات استعادة البعد الأخلاقي مرة أخرى ، فالديوان (هو الدفتر الذي يصنعه الحاكم ويكتب فيه أسماء الجيش وأهل العطاء)(3) وكأننا مرة أخرى أمام مأدبة من نوع خاص يتم دعوة الجند وأخيار الناس إليها.
الديوان أيضا هو حيز مكاني يمتص إشعاعات الشعر ويجعله يولد مطوقا بالحضور والانتشار في أن يكون مدينا ومملوكا، وخاضعا لاختيارات لا مفر منها، تلغي فاعليته. وحركة الشعر/ ديوان هي حركة سكونية تتجه نحو استبعاد أية تفاعلات ممكنة تضع الشعر على حافة انفتاح يرتد إلى عالم خارج السجل أو الدفتر، ولا يملك الشعر هنا إمكانيات العبور إلا إلى أن يتحول إلى حقل "استعراض أسماء الجيش وأهل العطاء" وليس بإمكانه أن يحرر ذاته منهما.
وباعتبار الديوان سجلا "كتاب العهد ونحوه" فإن بعض الظلال الأخلاقية، مرة أخرى، تلقي بهيبتها على أبعاد الشعر، وهو ما يخلق مسافات مضافة تعوق محاولات استنباط القوانين الخاصة بالشعر على مستوى المضمون والشكل على حد سواء.لأن هذا الوصف يحول بينه وبين قوة الانجذاب نحو كسر أو تجاوز منطق الرتابة التي تشكل عمود التوازن في"الديوان/ السجل" فالديوان يرتوي من الرتابة ومن تقاليدها الاعتيادية المتحكمة، رغم ما قد تحمله من عناصر ومظاهر الاستمرارية، والشعر ليس بمقدوره أن يذهب أبعد من الديوان / الوعاء، الذي لا يتطلب جهدا عسيرا، وهو ما يجعل منه حيزا أو مجالا زاخرا بالتقاط الوقائع والأشياء والأسماء، ولا تتهيأ له فرص الإبداع، لأن وظيفته لا تتوخى إنجاز هدف أو تحقيق غاية غير التسجيل والتدوين والتقييد.وفي ظل هذا الحد يتحول الشعر إلى مجرد خزان أو مستودع لعلوم العرب وأخبارهم وحكمهم،(4) أي أنه ملتقى تقاطعات المعارف ومحلها ومقامها، وإلى حقل استقبال تتكتل وتتجمع فيه هذه العناصر، ولاينهض في هذه الحال إلا بدور سلبي يفقد معه أية خاصية من خواصه الفنية والجمالية إلا ما كان مرتبطا بالمواد التي تملأ حيزه. الشعر، هنا، فعل، لا حركة ولا حياة فيه، لأنه يغدو فضاء استقبال وشحن، وليس فضاء فاعلا، أي أنه يتحول إلى أداة استيعاب أو احتواء، و تاريخه وتطوره لن يكون في الواقع إلا تاريخ حماية العناصر التي يتولى تسجيلها والمحافظة عليها وصيانة وجودها.ومن هذا المنظور فإنه يظل خاضعا لآليات من شأنها أن تكبح أفقه وارتقاءه ليتوقف عند حدود التدوين والتسجيل ولا يمارس أي تأثير خارج هدا الدور، وطبيعته أو خاصياته الكبرى تظل رهينة"المحتوى" أي "الأشياء" التي يتولى تسجيلها، وهي أشياء خارجية لا سلطة له عليها ولا تخضع لإرادته.
وتكريس وظيفة الشعر بهذا الوجه كان في الواقع تماهيا طارئا مع المآثر الحضارية التي بهرت المجتمعات العربية في دورات تاريخية معينة ولم يكن إدراكا للشعر في دائرته الدلالية أو محاولة للتعرف عليه من دواخله وخصائصه، ولذلك فإن المقابلة أو الموازنة بين الشعر والديوان أساءت في الجوهر إلى الشعر وجعلت منه نظاما معرفيا سلبيا يبدأ وينتهي عند حدود التسجيل، كما تقدم صورة بئيسة عن رؤية الفكر العربي للشعر ودوره الإبداعي.
ويطرح التقابل أو التوازي بين القطبين:"الشعر" و"الديوان" إشكاليات أخرى تتعلق بطبيعة كل منهما فالديوان عمليا ينتسب إلى سياق حضاري وفكري وفني وتاريخي خاص ويخضع لطقوس الفعل "الكتابي" أي أن مزاياه وخصائصه وغاياته النفعية ترتبط بمرحلة الوعي الكتابي، بينما الشعر ينتمي إلى طقس الفعل الشفوي، والآليات التي يرتكز عليها كل منهما في عمليات التسجيل والتثبيت تختلف عن بعضها البعض اختلافا جذريا، فهي في حالة الديوان "خطية،مادية" و"سمعية غير مادية" في حالة الشعر، بمعنى أن ذاكرة الديوان التسجيلية هي "ملموسة" و"مرئية" بينما ذاكرة الشعر سمعية وشفهية وغير مرئية، وهو ما يرجح أن ذاكرة "الديوان" تخضع لضرب من المناعة والثبات والمصداقية أيضا، بينما ذاكرة الشعر تخضع لاختيارات مشتتة غير مأمونة الجوانب ومعرضة في أية لحظة لسلسلة من الاختلالات أو الاضطرابات التي تتخلل الفعل الشفوي على وجه العموم. ولذلك فإن إدراك المغزى التاريخي والحضاري لهذا التقابل ينبغي في تقديرنا أن يوضع في إطار جدلية الوعي الكتابي والوعي الشفاهي والاختراقات أو التباينات القائمة بينهما كما تعامل معها الفكر العربي في مراحل تاريخية محددة.
وكنتيجة حتمية لعملية الربط بين الشعر والديوان/السجل، غدا الشعر(علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه)(5)،وفي هذا المستوى يفرض الشعر سلطانه على العلم، ويستقطب كل جيوب المعرفة ومجالاتها وينابيعها وروافدها، ليشكل البنية الثقافية والحضارية القارة التي تجسد حقيقة العالم والوجود، وإحدى وسائل البقاء أو الخلود. وصيغة هذا الانصهار أو حلول الشعر في العلم يجرده من أية معالم مائزة غير الإحالة على الحقيقة العلمية. صحيح، إن هذا البعد يعطي الشعر فاعلية معرفية تاريخية وحضارية متقدمة ولكنه يلغي ذاكرته وبنيته الخاصة وخصائصها الفنية والجمالية والإبداعية، ويغلق أفقها في اتجاه الاقتصار على التسجيل والتدوين، الوظيفة الأساسية السامية المرسومة للشعر في هذه الحال.
واعتبار الشعر العلم الصحيح أو الأصح يستدعي بالضرورة العلم غير الصحيح، أو المعتل والسقيم أو الزائف، فخارج المعرفة الشعرية لا توجد معرفة صحيحة، وخارج دائرة علم الشعر لا يوجد علم صحيح، وهذا منطق مثير للدهشة والاستغراب في الواقع، وتعتريه نواقص من كل الجهات إذ يكرس بشكل اعتباطي لشمولية وهيمنة واستبداد للمعرفة الشعرية غير مبرر، واحتكارها الكلي للتعبير عن حقيقة الوجود، ويتولى إلغاء كل الأشكال المعرفية الأخرى الممكنة التي لا تستظل بظل الشعر، وتتولى التعبير عن المدركات والحقائق والتجارب والوقائع والانطباعات والأهواء والهواجس خارج نظامه، والتي تظل شكلا من أشكال الوعي/ العلم الزائف.
المعرفة الشعرية تبعا لهذا "شرط وجود" للوعي العربي، وهذا في اعتبارنا مرة أخرى، لا يعكس غير مظهر لضيق الأفق الفكري والنقدي، إذ الرؤية الاستراتيجية المعتمدة هنا تقوم على إرادة الهدم وتقويض كل المعارف والعلوم والتضحية بها من أجل تتويج الشعر سلطانا، ومنحه سلطة معرفية مطلقة تؤهله للسيطرة على حركة الوعي والوجود، بحيث يصبح كل وعي خارج منظومة الشعر هامشيا وثانويا وغير ذي جدوى، أي أن الشعر/ العلم له مركزيته وأولويته التي تستوجب استبعاد كل المعارف الخادعة التي لا تتجاوب مع حقيقته ولا تستجيب لمقتضياته.
وإرادة إعلاء شأن الشعر وصهر دلالاته في بوتقة العلم الصحيح يؤشر لنزوع غير طبيعي إلى التشويش على ماهية الشعر وقضاياه وإشكالاته الكبرى الأساسية. إن العلم هو أقوى الخطوات المتقدمة التي خطاها الإنسان عبر التاريخ في مجال تطور إدراكه الفكري والعملي، وهو ذروة الشموخ المعرفي، فهل يكون الشعر علما بالنظر إلى هذا البعد، أي باعتباره أحد الفنون المتميزة التي ارتكز عليها التطور التاريخي والحضاري للفكر العربي ومدركاته، والمعرفة الكلية التي يشكل الشعر أبرز ثمارها ويحقق شموخها.إننا نستبعد هذا الوضع بالنسبة للشعر العربي فالتصور القائم هو اعتباره العلم الوحيد، ولا تطرح في السياق أية توازنات بينه وبين العلوم والمعارف الأخرى، فثقله يتجاوز طاقتها، ووحده يقف مع الحقيقة ومع المعرفة الكلية المطلقة.
والعلم،كما هو معلوم، يرصد عالما ثابتا، ويسعى باستمرار إلى ترسيخ أو تأكيد عالم المدركات الحسية والفكرية وبذلك تنحاز نتائجه إلى اليقينية، فهل الشعر يبني غاياته على هذا اليقين؟ولو اعتمدنا تحديد صاحب التعريفات الذي يعرف العلم بأنه "الاعتقاد الجازم المطابق للواقع"(6)، فهل يكون الشعر بالموازاة مسكونا بهذا الجزم والمطابقة؟. الجواب واضح في هذا الشأن، فالشعر ليس معنيا باليقينيات ومطابقة الواقع، وفاعليته تتجاوز هذه العتبات، ويحقق هويته من خلال مكونات لغوية فنية جمالية تتشابك في سياق علائق وتركيبات متداخلة ومتكاملة ومتباينة، ولا يقف عند حدود الرصد الساكن أو الموضوعي أو الحقيقي للوجود كما هو مفترض في العلم.ولذلك فإن ربط الشعر بالعلم الأصح، هو اختيار غير صائب وموقف لاحضاري، مضاد للخلق الشعري، وهو في النهاية عديم الدلالة لأنه يصادر مفهوم العلم والشعر معا ويبخس صوتهما ووجودهما وحقهما في الاختلاف.
على أن الحفر في حقل امتدادات دلالات الشعر اللغوية قد يجعل وصله بالعلم وحده تضييقا لأفق الاحتمالات الدلالية الأخرى،فمادة (شعر) لها انتماءاتها المتعددة:الجنس (المشاعرة)، القتل (الشعار)، الطقس الديني والسحري (الشعيرة)، (7) وهي دلالات تباعد جميعها بين إيحاءات وإيهامات التطابق بين الشعر والعلم.
إضافة إلى هذا فإن اعتبار الشعر مستودعا للأخبار يطرح سياق التقاطع بينه والتاريخ وهذه العلاقة محسومة منذ القديم على الأقل في الفلسفة الإغريقية، فإذا كان التاريخ هو استعادة واستعراض لوقائع وأحداث تنتمي للماضي وقابلة للتفسير فهل يعني هذا أن الشعر ينهض بالدور ذاته، ويغدو مجرد وثيقة تستعيد سيرورة الأحداث وخط منحنياتها.وعمليا فإن هذا المنحى هو المقصود من خلال الأوصاف التي أضفيت على الشعر باعتباره مستودعا للعلوم والأخبار،وهو ما يعني أن التفكير في العلاقة بين الشعر والتاريخ لم تطرح، ولم يتم الالتفات والانتباه إلى مستويات أو حافات الاصطدام بينهما خاصة في ظل العبء التاريخي الملقى على عاتق الشعر باعتباره ديوان العلوم والأخبار، وهو ما قد يوحي بإلغاء الحدود بينهما، وهذا مؤشر آخر مضاف ينم عن القصور القائم في تحديد ماهية كل منهما.
و استنادا إلى هذه الإشارات يتضح بجلاء أن ثمة خللا ما في عملية الوصل بين الشعر والعلم، والأخبار والمقابلة بينها، أبرز مظاهره عجز الفكر أو النقد العربي قديما عن تفسير أو تحديد ماهية الشعر بشكل علمي متطور.
وكل هذه المعطيات تحيل إلى منطلقات أساسية كبرى تتأسس عليها هذه المفاهيم أو المقولات منها إضفاء طابع الاستغراق على الشعر،استغراق الشعر لغيره من المعارف واحتكاره لوجودها أو معانيها، وتدعيم أسباب هيمنته على الأفق المعرفي والحضاري للثقافة العربية إذ لا توجد أية معرفة خارج دائرته فكل علم هو شعر، والعكس قد يكون صحيحا كذلك. وينجم عن هذا الوضع إلغاء أي دور محتمل للأشكال والأجناس التعبيرية أو الأدبية مهما كانت فاعليتها وقيمتها الأدبية والثقافية وهو ما يفسح المجال لتمكين الشعر من سلطة مطلقة لا ينازعه أي حقل أو فن أو علم فيها، بحيث يجسد نظاما تعبيريا شموليا يحيا داخل نطاق من التفرد، ويفرض سيطرته وسطوته على كل العلوم، في الوقت الذي هو مجبر فيه على التقاط حقائقها واحتضانها.
هذا الدور السلطوي والاحتكاري الذي أضفي على الشعر هو ما رسخ الاعتقاد بأنه الشكل التعبيري الأسمى والأوحد عن الحضارة العربية وتطورها، وأنه المجسد الفعلي لكل تجليات وتمثلات هذه الحضارة، وهو ما وطد سياقات توطين مقولات من قبيل أن العرب خلدت حضارتها بالاعتماد على الشعر بينما الشعوب الأخرى أو الحضارات الأخرى خلدت مآثرها وحضارتها بالبنيان/العمران، وبذلك حافظ الشعر على دوره المركزي والأسمى في التعبير الكلي والشمولي عن الإدراك والوجود العربي، ويقف مقابل البنيان/ العمران أي كل المظاهر المادية المجسدة لمعالم الحضارات، والجاحظ صاحب هذه المقولة(8) يبرر اختيار أو احتيال العرب للشعر بأن الشعر أبقى من بنيان الحجارة وحيطان المدر، وما يستقطبه أو يحتويه لا تعتريه عدوى الاضمحلال أو التلاشي أو يبدده النسيان.
وعمليا فإن هذه المقارنة أو المقابلة التي تقدم الشعر وكأنه قدر العرب المطلق، تنصهر وتذوب فيه كل مظاهر الوجود العربي، ويكون وحده الناطق والمعبر الرسمي والوحيد عنها، لا تصمد أمام النقد ولا تعبر في العمق إلا عن خيلاء حضاري سقيم يجسد في الواقع ردة الفعل الخاص لتجاوز تداعيات الجرح الذاتي الذي استشعره العرب عبر تاريخهم خلال مراحل الاصطدام مع الحضارات المغايرة.
وقد تولد عن هذا وهم اعتبار الشعر فنا عربيا خالصا يميزهم عن سياق الغير ( وفضيلة الشعر مقصورة على العرب وعلى من تكلم بلسان العرب)(9) وهو منطلق يدعم مبدأ الإلغاء الذي أشرنا إليه، إذ ما تعنيه هذه المقولة هو أن الشعر هو فن العرب الخالص وأن الشعوب الأخرى لا حظ لها من هذا الفن، وهو ما يتنافى مع كثير من المعطيات الثقافية والحضارية.ومثل هذه المقولات أو الأحكام إنما تحيل إلى ظاهرة الافتقار إلى العقل النقدي الموضوعي لدى العرب، وربما هذا ما دفع بعض المتأخرين للتصريح والتأكيد أن الشعر يوجد في سائر اللغات.وليس حكرا على العرب.
وسياق هذه المفاهيم والتحديدات وما يتصل بها أسهم في الواقع في ترسيخ فكرة أن الشعر فن مثالي حاضر في التاريخ العربي ويمتلك قوة جاذبية عالية جعلته يهيمن على كل المعارف ويتولى التعبير عنها، وكان نتاج هذا التوجه الفكري والنقدي:
- اعتبار المعرفة التي يمدنا بها الشعر معرفة جامعة ومطلقة.
- وصل الوعي الشعري بالمطلق والشمولي واحتكاره التعبير عن الوجود العربي وتجلياته وتمثلاته المختلفة.
- تعطيل كل المعارف العربية لمنح الشعر الأولوية والمركزية داخل المنظومة المعرفية العربية.
- إلغاء أي دور للأشكال التعبيرية الأخرى المفترضة أدبية وغير أدبية في منافسة أو مشاركة الشعر في تمثل قضايا وانشغالات الإنسان العربي، وإرغامها على معانقة الصمت أو الخفوت.
- تحويل الشعر إلى "وعاء" وخزان للمعارف والعلوم والخضوع لإيقاعاتها وإكراهاتها الدلالية.
وليس المجال هنا متاحا لعرض تفاصيل أكثر، لكن ما يمكن أن نخلص إليه هو أن الفكر النقدي العربي في الوقت الذي كان يوظف "مفاهيم حضارية" لتأسيس كثير من القيم الفنية والنقدية في حقل الآداب العربية، كان بالمقابل يستثمرها بطريقة "لا حضارية" وضعته على مسافة من إدراك الفنون والآداب على أسس جمالية وفنية دقيقة وموضوعية.
سعيدي المولودي
الهوامش:
1 – انظر: أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور.لسان العرب. دار صادر بيروت.مادة: أدب.
2- ابن منظور: لسان العرب. مادة: كرم.
3 – ابن منظور: لسان العرب. مادة: دون.
4 – انظر: محمد بن سلام الجمحي: طبقات فحول الشعراء. تحقيق محمود محمد شاكر.دار المدني بجدة. الجزء الأول.ص:24.
5 – ابن سلام : طبقات فحول الشعراء:الصفحة نفسها.
6 – الشريف علي بن محمد الجرجاني: كتاب التعريفات. دار الكتب العلمية.بيروت.مادة: "العلم".
7 – لسان العرب: مادة: شعر.
8 - أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ: كتاب الحيوان. تحقيق عبد السلام هارون. نشر مصطفى البابي الحلبي الطبعة الثانية 1952. الجزء الأول. ص:72.
9 – الجاحظ: الحيوان .. ص:74.



#سعيدي_المولودي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- وزارة التعليم العالي: حافات الارتباك.
- كيمياء العدوان
- -ثيلوفا- ( بيان حكائي) -3-
- -ثيلوفا-.2.
- -ثيلوفا- (بيان حكائي) 1
- ( الرجيع العربي)
- أمريكا وعقدة -الشين-
- ضد هدر - الكرامة الأصيلة- لسكان جبال الأطلس
- وزارة التعليم العالي و- الأسواق المدرجات-
- -أصدقاء السوء-
- - تجديد النخالات-
- -أمريكا تجني ثمار ما زرعت-
- - النفط قائدا ومناضلا-
- وزارة التعليم العالي: التلويح بمحاربة الفساد باليمنى، و-التش ...
- وزارة التعليم العالي تخلف وعد -مراسيمها-
- صناعة -السيبة- في كلية الآداب بمكناس
- - العملاء ورثة الأنبياء-
- في مديح - الفيتو-
- -دعاء الاستوزار-
- الحملة والشعارات الانتخابية


المزيد.....




- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...
- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...
- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعيدي المولودي - نقد- مفاهم حضارية- في الأدب العربي