أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - لطفي حداد - أبحاث في العلاقات المسيحية - الإسلامية















المزيد.....



أبحاث في العلاقات المسيحية - الإسلامية


لطفي حداد

الحوار المتمدن-العدد: 1224 - 2005 / 6 / 10 - 13:08
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


أبحاث في العلاقة المسيحية الإسلامية جزء -1
لطفي حداد*
في هذا الزمن الصعب من الصدام الحضاري بما فيه البعد الديني، أقدم هنا بعض المواد للتفكير في العلاقة المسيحية الإسلامية. أشعر بألم عميق تجاه التشويه الهائل لروح أي دين حين يُستخدم لأهداف سياسية. لذلك أحاول في هذه الدراسة عرض بعض المواقف المسيحية الإيجابية من الإسلام والمسلمين في الوقت الحاضر وعبر العصور من أجل حوار مفتوح وجدال أحسن
مواقف مسيحية إيجابية من الإسلام
أولاً: في العصور الحديثة

"إن كل حوار يقوم على إخصاب متبادل لا على تسامح أبوي".
"لقد أرسلت - يا ربُّ- أنبياء لكل الشعوب، ذلك أنه ما من مخلوق يستطيع أن يفهم معنى لانهائتيك".

نيقولاوس الكوزاني- أسقف كوز
القرن الثالث عشر

شارل دو فوكو
أفرد قسماً كبيراً عن شارل دو فوكو والجماعات المسيحية التي تعيش الآن في جميع أنحاء العالم مستلهمة أفكاره وطريقة حياته.
ولد شارل عام 1858 في مدينة ستراسبورغ الفرنسية، وهناك نشأ وترعرع. كان من عائلة غنيّة تنتمي إلى طبقة النبلاء، وتشتهر بعراقتها العسكرية الوطيدة. توفيت أمه وهو في السادسة من عمره، ثم توفّي والده بعد بضعة أشهر، فاختبر باكراً قساوة الحياة. أخذه جده عنده واعتنى بتربيته، وفي الثانية عشرة من عمره اضطر إلى الهجرة إلى مدينة نانسي بسبب الحرب بين فرنسا وألمانيا عام 1870. اطلع في سني مراهقته على التيار المعروف آنذاك بشكه في أمور الدين وبالفلسفة الوصفية التي ترتكز على العلم كجواب تام على الأسئلة الكثيرة التي يطرحها البشر.. وشيئاً فشيئاً فقَدَ شارل الإيمان.
في سن العشرين تخّرج شارل من المدرسة العسكرية المختصة بتنشئة الضباط، وانخرط في الجيش مدة 3 سنوات. توفّي جده في هذه الفترة فلم يعد هناك من شيء يقف في وجهه ويضبطه، وألقى بنفسه في اللهو وحياة العبث.
أُرسل شارل عام 1881 وهو ضابط في الثالثة والعشرين من عمره إلى بلدة ستيف شمال الجزائر في مهمة عسكرية. ووصل إلى هناك برفقة امرأة شابة عرّفها في البداية على زملائه كزوجة لـه، لكن سرعان ما تبين أن هناك علاقة غير شرعية بينهما فأرغمه رؤساؤه على قطع العلاقة لكنه رفض الانصياع للأوامر، حتى صدرت بحقه عقوبة تسريحه من السلك العسكري. فقرر العودة حالاً إلى فرنسا. لكن بعد بضعة أشهر سمع نبأ انتفاضة في جنوب الجزائر، فطلب إعادته للجيش ليساهم في المغامرة. وهناك بدأت الأرجاء الصحراوية الواسعة تجتذبه أكثر فأكثر وراحت رمال أفريقيا تستهويه.
بعد انتهاء الحملة العسكرية قرّر شارل أن يترك الجيش نهائياً ويقوم باستكشاف في بلاد المغرب. انطوت رحلته على مخاطر جمة لأن مملكة المغرب كانت مغلقة وأرضها محرمة على الأوروبيين. واضطر أن يتخذ هوية مزيفة بمظهر يهودي فقير محتقر!! ليقوم بمشروعه.
وخلال السنة التي أمضاها هناك اختبر حالة الفقر والوضاعة الاجتماعية، وكان اختباراً فريداً انطبع في قلبه بشكل عميق. إن كونه مسافراً وحيداً عرّضه للقتل، وقد عرفه مستضيفوه المسلمون واليهود مرتين بالرغم من تنكره لكنهم أخلوا سبيله لتقليدهم في تكريم الضيف.. وإن اختبار حسن الضيافة هذا انطبع في أعماق قلبه.
أما المشهد الأكثر تأثيراً عليه فكان مشاهدة المسلمين يؤدون الصلاة، يقول في رسالة إلى صديقه هنري دي كاستر: "لقد ولّد الإسلام فيّ انقلاباً عميقاً.. إن رؤية هذا الإيمان وهذه النفوس التي تعيش باستمرار في حضرة الله جعلتني أرى أن هناك شيئاً أعظم وأحق من الاهتمامات الدنيوية الباطلة، فأخذت أطلع على الدين الإسلامي، ثم على العهد القديم".
إبان عام 1885، أقام ذلك المستكشف الشاب في مدينة الجزائر لينهي كتابه مذكرات رحلته. وعندما عاد إلى فرنسا، كانت رحلته للمغرب قد أنضجته كثيراً وأعطته شهرة واسعة، كما أن عائلته استقبلته بمحبة وترحاب فشعر بنفسه يعود إلى حضن الله والعائلة.
من كتاباته في هذه الفترة إلى صديقه هنري بخصوص الإسلام: "لقد كنت أرى تلك البرانس أو العباءات الواسعة تنحني بروعة، في حركة واحدة، بحسب الركعات القانونية، وكنت أسمع أصداء صلاة تردد بنبرة أعلى ابتهال "الله أكبر" فكان يجتاحني قلق شديد هو مزيج من الخزي والغضب.. ووددت أن أقول لهم بأني أيضاً أومن وأعرف أن أصلي وأن أسجد".
في هذه المرحلة بدأ المستكشف الشاب يبحث عن شيء جديد.. راح يفتش عن الحقيقة بصدق وقد ساعده الأب هوفلان، كاهن العائلة، في ذلك.. وفي إحدى مواعظه قال: "أخذ يسوع المكان الأخير حتى أنه لم يستطع أحدٌ أن يسلبه منه أبداً"، فانطبع هذا الكلام في قلبه للأبد. وعندما اقترح عليه الحج إلى الأراضي المقدسة لم يتردد في ذلك وسافر عام 1888 إلى فلسطين حيث زار بيت لحم والناصرة والقدس وعاش هناك "الحياة المتواضعة والخفية التي عاشها يسوع كعامل في الناصرة"..
بدأ التحول الكبير في حياة شارل يبلور قراراته المستقبلية فقرر في مطلع عام 1890 أن يتوجه إلى دير سيدة الثلوج للآباء الترابيست، وبعد بضعة أشهر أرسل إلى دير آخر في شمال سوريا.. وفي أحد الأيام أرسل ليمضي الليل بالقرب من رجل قد توفّي في قرية صغيرة مجاورة للدير، وكان من عائلة فقيرة جداً مما حمله على التساؤل: "أي فرق بين هذا البيت وبين مساكن الدير.. إن عينّي ترنوان إلى الناصرة".. وصار يتوق إلى حياة فقيرة حقاً.. وبعد سنين من حياة الرهبنة قرر ترك الدير ليعيش حياة بسيطة وفقيرة وقريبة من الناس.
عمل شارل كخادم في دير الراهبات الكلاريان في الناصرة وسكن هناك في كوخ كانت توضع فيه الأدوات الزراعية.. ثم عاد في منتصف عام 1900 إلى فرنسا ليقوم بخبرة روحية ويُرسم كاهناً، وقرر بعدها أن يبني منسكة في بني عبّاس في الجزائر، وكان يردّد "أريد أن أعوّد كل سكان المنطقة من مسيحيين ومسلمين ويهود على أن ينظروا إليّ كأخ لهم.. أخ الجميع"..
وفي هذه الأجواء خلّص شارل بضعة عبيد من سيطرة أسيادهم بدفعه الفدية عنهم. وقد كتب: "ليس لنا أن نكون كلاباً لا تنبح وعسَسَاً خرساناً.. علينا أن نرفع أصواتنا عالياً عندما نشهد الشر أمامنا"، ومع الوقت بدأت آفاق جديدة تنفتح أمام شارل للمضي إلى العمق أكثر.. إلى بلاد الطوارق.. في الهوغّار.
لقد كتب لـه صديقه القائد لابرين بإسهاب عن هذا الشعب الذي يتميّز بأخلاق نبيلة، موضحاً لـه كل احتياجاته وحاثاً إياه على المضيّ إلى تلك المنطقة، وقد استشهد في رسالته بموقف إنساني رائع أقدمت عليه إحدى نساء الطوارق أثناء معركة دارت بينهم وبين الفرنسيين، حيث منعت أبناء قبيلتها من القضاء على الجرحى الفرنسيين، واعتنت بهم في بيتها وسعت في إعادتهم إلى ثكنتهم بعد شفائهم!!
تأثر شارل جداً من كتابات صديقه، وقرّر أن يتوّجه إلى هناك. وبعد خمسة أشهر من السفر المتواصل والمرهق وصل إلى الهوغار، وعلى الفور شعر بانجذاب كبير واستقر في تمنراست.. وأخذ يتعمق بلغة الطوارق ويهتم بثقافتهم ونسخ خلال سنوات عديدة القصائد التي تغنّى في المساء حول النار، والتي تحمل في طياتها تاريخ هذا الشعب وروحه العميقة.. وفي ذلك الوقت كانت المنطقة تتعرض لجفاف مخيف، وانتشرت المجاعة في أرجاء البلاد كلها فشارك شارل بكل ما لديه حتى آخر كسرة من الخبز، إلى أن نفد ما لديه وغلبه المرض فشعر بنفسه متروكاً وبعزلة كبيرة.. وفي تلك اللحظة شعر بمحبة الطوارق لـه حيث عملوا جهدهم لتقديم بعض الحليب لـه وصارت علاقة الصداقة بينهم تتوطد أعمق وأعمق..
وفي زمن كان من المعتاد فيه ترديد هذه المقولة "لا خلاص خارج الكنيسة"، كتب شارل كلمات قوية للغاية: "لست هنا البتة لأهدي شعب الطوارق، إنما لكي أحاول أن أفهمهم.. إنني متأكد بأن الله سيستقبل في السماء كل من عاش حياة صالحة ومستقيمة، دون أن يتحتم عليه أن يكون مسيحياً كاثوليكياً ولاتيني المذهب.. فالطوارق مسلمون وأنا مقتنع بأن الله سيرحب بنا جميعاً فيما إذا كنا نستحق ذلك"..
في عام 1910 باشر شارل ببناء منسكة أخرى في جبال الهوغار العالية على هضبة الأسكريم، وكانت علاقته مع الطوارق تتعمق..
وفي منتصف عام 1914 اندلعت الحرب بين فرنسا وألمانيا واضطرت القوات الفرنسية أن تخفّف من تواجدها في الجزائر، فبرزت حركة تمرد محلية وعصابات مسلحة تهدد سلامة جميع سكان المنطقة. وفي هذه الأجواء المشحونة بات شارل وحيداً في تمنراست معرضاً لكثير من الأخطار.. وقد نصحه الضباط الفرنسيون التابعون للثكنة المجاورة بالالتحاق بهم، لكنه رفض لأنه يريد البقاء مع هذه الحفنة من الطوراق التي ترسخت عرى الصداقة بينه وبينهم.. وفي ساعة الخطر لم يشأ أن يتركهم.. وهكذا صار ارتباطه الإنساني أعمق من كل نزعة قومية..
في عام 1916 بدأ الوضع يتفاقم ويزداد عدم الأمان.. فصمم شارل أن ينقل مسكنه إلى مسكن آخر يبنيه بشكل برج صغير حتى يستطيع أهل تمنراست الاختباء في حال وصول الغزاة.. وكان قد وضع جنود من الثكنة الفرنسية المجاورة في هذا البرج بالذات أسلحة لتوزيعها على رجال الطوارق المكلفين بحماية تمنراست!!
وفي مطلع آخر شهر من عام 1916 عند غروب الشمس، وصل عدد من الطوارق العصاة مسرعين الخطى نحو البرج عازمين على نهبه واحتجاز ناسكه كرهينة.. وكان بينهم شاب سبق أن عرفه شارل فلم يتردد بفتح الباب.. بعدها قبضوا عليه وسجنوه خارجاً وربطوه بالحبال وجعلوه تحت حراسة صبي في الخامسة عشرة من عمره.. لكن الوصول المفاجئ لرجلين من سعاة البريد خلق لحظة ارتباك فقد فيها الصبي رشده، وأطلق النار على سجينه وقتله على الفور.. وانتهت حياة رجل بدأ غنياً متغطرساً ليتدرج في الفقر ومحبة الآخرين والانفتاح عليهم حتى دفع الثمن حياته.
يقول شارل في صلاته: أبتِ.. إني أسلّم لك ذاتي فافعل بي ما تشاء، ومهما فعلت بي فأنا شاكر لك.. إني مستعد لكل شيء، وأرتضي بكل شيء. ليس لي رغبة أخرى يا إلهي سوى أن تكمل فيّ إرادتك وفي جميع خلائقك..
إني أستودع روحي بين يديك، وأهبها لك يا إلهي، بكل ما في قلبي من الحب..
لأني أحبك.. ولأن الحب يتطلب مني، أن أهب نفسي. أن أودعها بين يديك، من دون ما قياس وبثقة لا حد لها.. لأنك أبي!!.
وأنا إذ أردّد هذه الصلاة أتذكر رابعة العدوية، المتصوفة المسلمة تقول صلاتها: ربي.. إن توسلت إليك خوفاً من الجحيم فزجني في نارها، وإن ابتهلت إليك طمعاً في الجنة فأغلق دوني بابها..
ولكن إن دعوتك حباُ بك فلا تحرمني بهاءك الأبدي.. يا الله، بدون ذكراك لا أستطيع أن أحيا في العالم، وكيف يمكنني الصمود إزاء المستقبل بدون رؤياك.. يا رب تنهّدي ليس بشيء أمامك إذ أنا غريبة في بلادك ووحيدة وسط عبادك.
* * *
أما كيف رأى المسلمون حياة شارل فإنني أستعين بكتاب لعلي مراد باللغة الانكليزية، ترجمة علي مقلّد (باللغة العربية) .
يقول علي: إن المجنون بالله هو قبل كل شيء إنسان.. ذلك هو شارل دو فوكو، إنسان تتأكله نار داخلية هي بالنسبة إليه محبة يسوع، والرغبة في تقليده.. ثم إن هذا الكائن لم ينفك بعد إنساناً، أي فرنسياً من أواخر القرن التاسع عشر، مطبوعاً بتربيته، وبثقافة عصره، وكذلك بتكوينه العسكري، وزيادة على ذلك، محاطاً بالإطار الاستعماري الذي يترتب عليه التعامل معه..
وفي موضع آخر: "إن الأخ الكوني قد بذل جداً متفانياً في خدمة الصحراويين الذين كانوا يأتون لرؤيته، أو الذين كانوا يستطيعون لقاءه أثناء دوراته وزياراته عبر الواحات.. لقد اهتم بالبؤساء والمرضى، موزعاً الأغذية والخدمات والأدوية".
وفي موضع ثالث: "بفعل فضيلة مثله ساهم شارل دي فوكو، في أعين المسلمين، بتقويم سلم القيم في حقيقة معناه.. فلا تتجلى التقوى فقط بحياة التأمل أو بالالتزام بالطقوس.. إنها في أساسها فاعلة ومشعة، خلاقة للسعادة وملهمة الخير للبشر".
هذه النقطة ثابتة ومستقرة في العقيدة الإسلامية. وبهذا الشأن ينذر القرآن بصورة قاطعة "ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب.." (2 – 177). وبعدها يأتي تفضيل الأعمال الصالحة الداخلة في التعريف القرآني للبر الحق: الإحسان إلى الفقير واليتيم وابن السبيل، وإطلاق الأسرى، والوفاء بالعهد والصبر في البأساء والضراء "أولئك"، يتابع القرآن "الذين صدقوا وأولئك هم المتقون" (2 – 178).
وأيضاً: "إن شارل دي فوكو استطاع أن يكسب ثقة واحترام الطوارق.. هذا الشعب الأبي القاسي والصعب المستعصي على الموالفة. إن سهولة مجانبته، ولطف كلامه، وبره، وتقواه قد فتحت لـه الكثير من القلوب.. واستقامته وحسه بالعدالة قد مكنته أن يؤخذ في بعض الأحيان كحكم. وعندما نعرف السلطان الأدبي والتأثير الاجتماعي الذي يمكن للحكم أن يمارسه في المجتمع البدوي التقليدي، ندرك إلى أي حد دخل المرابط المسيحي في الوسط المسلم المجاور لـه.
وحين موته، يوثق الكاتب رسالة زعيم الطوارق موسى آغامستان إلى أخت شارل حيث يقول: منذ أن علمت بموت صديقنا، أخيك شارل، غامت عيناي، وكل شيء قاتم في وجهي، لقد بكيت وذرفت الكثير من الدموع، وإني في حداد عميق".
* * *
بعد موت شارل دو فوكو بنحو 16 عاماً شعر الأب "رينيه فوايوم" وهو فرنسي الجنسية، مع أربعة أصدقاء، بالحاجة للحياة على نمط هذا الراهب الغريب الدعوة، الذي ذهب إلى البعيد إلى الصحراء.. إلى الطوارق.. فقام بتأسيس أخوة يسوع الصغار الذين انطلقوا من الصحراء الجزائرية إلى كافة أنحاء العالم ويعدّون اليوم حوالي 300 أخاً أو راهباً يعيشون حياة بسيطة فقيرة مع الناس المهشمين في أوروبا ومع المسلمين في الوطن العربي وباكستان وإيران..
كذلك فعلت الأخت مادلين فقامت بتأسيس جماعة رهبانية من الأخوات من أجل العرب الرحل المسلمين خصوصاً الأكثر فقراً وإهمالاً، وانطلقت معهن من صحراء الجزائر إلى الشرق العربي كله ثم العالم أجمع (حالياً الرهبنة موجودة في 68 بلداً، وعدد الأخوات 1250 أختاً من 67 جنسية).
عندما أتكلم عن هذه الجماعات الرجالية والنسائية المنتشرة في الوطن العربي بتواضع وبساطة، والمتغلغلة في الحارات الشعبية قريباً من المسلمين خصوصاً، أقول عندما أتكلم عنها أشعر أن التيار المنفتح في كنيسة اليوم يدعو للتعزية وهو أقوى من طوفان الحقد والتباعد وإلغاء الأخر.
لقد عرفت الكثير من الأخوة والأخوات في سوريا ولبنان وهم أمثلة حية للحب الأخوي الإنساني دون حدود. أذكر منهم:
إيف: رجل فرنسي الأصل، أحد الأخوة، يقيم في دمشق منذ سنوات عديدة ويعمل في قرية SOS للأطفال. يقوم بدور البستاني (إيماناً منه بالعمل كالبسطاء وكسب المعيشة بعرق الجبين) ومن خلال تواجده هناك يقيم علاقات كثيرة مع الأطفال والمسؤولين المسلمين، ويدعى من الجميع "العم إيف". التقيت به عدة مرات وزرته في البيت والعمل. وهو يحبّ المسلمين بعمق ويحترمهم ويقدرهم ولديه صداقات رائعة معهم. علمني إيف كيف تكون الصداقة حقيقية مع المسلمين.
باولا: إيطالية الأصل، من أخوات يسوع الصغيرات.. تدهشني ابتسامتها الدائمة وطفولة ملامحها. عملت لسنوات في المبّرة الإسلامية في حلب – سورية. وأقامت صداقات جميلة مع المعوقين والمسؤولين وأغلبهم – إن لم يكن جميعهم – من المسلمين. علمتني باولا الكثير من الاحترام والمحبة للمسلمين.
بطرس: طبيب من جماعة أخوة يسوع الصغار، يعيش في قرية البرص في إيران، وهو يساعدهم في التغلب على صعوبات مرضهم (مثلاً صنع أحذية طبية خاصة للمرضى الذين يفقدون أصابعهم وأحياناً أقدامهم نتيجة الفقدان الحسي والعصبي). يعيش هذا الأخ بتواضع وانسحاق نادرين، وأنا لم أتعرف عليه شخصياً لكنني تابعت أخباره لفترة طويلة.
الرهبان السبعة
ليس الهدف من هذا القسم إثارة الحقد على الجماعات الإسلاموية التي قتلت سبعة رهبان مسالمين في الجزائر منذ عدة أعوام، وليس أيضاً إظهار بطولة هؤلاء النساك ووحشية الناس المحيطين بهم، لأن ذلك عكس النية الإيجابية لهذا المقال وضد رغبتي في فتح آفاق للمسلمين والمسيحيين ليروا الجانب الناصع في الإسلام، وتحريره من الصفات الإرهابية والعنيفة التي بدأت تُلصق به في السنوات الأخيرة. كما أن الشعب الجزائري المسلم قد قدم حوالي 100 ألف من أبنائه ضحايا لهذه الحركات الإرهابية.
هذا القسم هو لفهم التفكير العميق وراء حياة الرهبان في الشرق، خصوصاً في المناطق المسلمة. ويجب أن لا نظن أن هؤلاء الرجال انتحاريون أو يطلبون الاستشهاد من أجل أفكارهم أو دينهم، بل هم بكل بساطة (كما تدل على ذلك كل الكتب والمقالات التي كتبت عنهم) أشخاص أحبّوا أن يبقوا قرب أصدقائهم الذين شاركوهم حياتهم لسنوات طويلة، ولم يتخلوا عنهم ساعة الشدة حين ازداد التوتر بين الناس والجماعات المسلحة الإسلامية.
الرهبان السبعة:
يوم الخميس في 30 أيار 1996 حوالي الظهر، شاهد أحد الفلاحين ثلاثة رؤوس بشرية مقطوعة ومعلقة بواسطة أسلاك على أوتاد السياج المحيط بأرضه في منطقة المدية في الجزائر.. وكان رأس رابع ملقى على الأرض.. أصيب الفلاح بالرعب والذهول.. وحين حضر المحققون إلى المكان وجدوا بين النباتات العالية رأسين آخرين داخل أكياس سوداء من البلاستيك ملقاة في الحفرة الموازية للطريق العامة.. وبعد حين عثر على رأس سابع في مجرى جاف لنهر صغير بالقرب من ذلك..كانت الرؤوس السبعة في حالة من التحلل بحيث أن خمسة منها غدت بدون لحم.. لكن بطاقات الهوية الموجودة في كيس صغير بالقرب من الرؤوس أثبتت الشخصيات المقتولة.
شيء عن التاريخ:
إن حملة الفاتح العربي عقبة بن نافع والحملات التالية لم تؤدِّ إلى محو الوجود المسيحي في أفريقية الشمالية على نحو كامل.. فقد بقيت الكنيسة هناك تارة تحت ضغط شديد كما حدث في نهايات القرن الثاني عشر، وتارة أخرى كمتسلطة ومبشرة وداعية للتنصير الإكراهي خاصة بعد احتلال فرنسا للجزائر 1830.
بعد استقلال الجزائر بدأت الكنيسة بالانحسار.. وفي بداية التسعينات وإثر الأحداث الدموية والقتل والاختطاف لآلاف الجزائريين والأجانب من قبل الفئات الإسلامية المسلحة.. خرج كثير من الفرنسيين والرعايا الأجنبية وصار عدد المسيحيين ضئيلاً جداً.. وعندما ذُبح إثنا عشر كرواتياً في مدينة تيمزقيدة، أحس الرهبان الساكنون في دير نوتردام الأطلس، أن الخطر محدق بهم.. ورغم أن علاقتهم بالجيران في تبحرين كانت رائعة وعميقة إلاّ أنهم اجتمعوا ليقرروا البقاء أو الخروج.. واقترعوا بشكل سري واتفقوا بالإجماع على البقاء مع أصدقائهم في لحظات الخطر..
كان الأخ آميديه، وهو راهب عجوز، يدعى "الشيخ حمادة". والأخ لوك، الطبيب العجوز، يعالج الكثير من المرضى هناك، وكان تمثال العذراء مريم يسهر على الأطلس وقد كتب تحته "صلي لأجلنا ولأجل المسلمين".
الاختطاف لمدة ستة وخمسين يوماً:
في الساعة الواحدة صباحاً من 27 آذار 1996 دخلت مجموعة من المسلحين إلى الدير واختطفوا سبعة رهبان وسرعان ما انتشر الخبر.. وبدأت محاولات شتى من جميع الجهات للتوسط لإنقاذهم، مثل الدعوة والنداء الموجهين من إبراهيم يونسي "عضو الجبهة الإسلامية للإنقاذ" التي قال فيها: "إن الخليفة الأول للنبي، أبو بكر الصديق، أوصى المحاربين المسلمين بأن يتحاشوا تلطيخ انتصارهم بدماء النساء والأطفال، والعجزة. وهذه الوصية ترتفع إلى مستوى التحريم. إن قتل الأبرياء، وقتل أولئك الذين لا يقاتلون عمل محرّم... وسوف تلتقون برجال من أهل الكتاب يعيشون في الأديرة ويخدمون الله بالعبادة، دعوهم في حالهم. لا تقتلوهم ولا تهدموا ديرهم".
بعد حوالي شهر من الاختطاف صدر عن الجماعة الإسلامية المسلحة بيان في جريدة الحياة تعلن فيه عن مسؤوليتها، وأن رجال الدين هم أحياء، وأن الجماعة تريد التحاور مع الرئيس جاك شيراك بخصوص مبادلة المعتقلين.
وفي تهديد آخر طلب البيان: إذا حررتم نحرّر، وإذا رفضتم نذبح".. وبعد ستة وخمسين يوماً دفع الرهبان السبعة ثمن قرارهم بالبقاء للحياة مع أخوتهم وأصدقائهم والتعايش مع أبناء تلك المدينة.
الأب كريستيان:
في قصة مؤثرة رواها كريستيان لأصدقائه وأهله نفهم الآن ومن بعيد ما كان يحصل في تبحرين بين الرهبان وأخوتهم المسلمين. فحين كان كريستيان يبحث عن دعوته لخدمة الله والبشر كان يتجول في المنطقة هناك، قبل أن يصبح راهباً، مع رجل اسمه محمد، متزوج ولديه عشرة أولاد. ويبدو أنهما ابتعدا قليلاً، وإذا بمجموعة من المسلحين تخرج لهما وتشهر الأسلحة.. عندما رأى محمد أنهم سيقتلون صديقه كريستيان تقدم ووقف أمامهم حامياً وراءه كريستيان، وتكلم مع المسلحين وأخبرهم أنه رجل مسالم ولا يحمل السلاح ولا يريد الشر للآخرين.. مضى الرجال المسلحون يومها ولكن محمداً وجد مقتولاً في اليوم التالي، مقطوع الرأس قرب بيته.. تألم كريستيان وشعر أن محمداً قدم لـه حياته عربون صداقة ومحبة.. وقرر بعد ذلك أن يعيش في البلد الذي أعطاه فرصة للحياة من جديد، من أجل الناس الذين على شاكلة محمد، يقدمون حياتهم للآخرين.
رباط السلام:
تأسس عام 1979، وهو مجموعة صغيرة تضم الرهبان وأصدقاء الدير ومسلمين من أخوية صوفية في الجوار. وهم يجتمعون للتأمل وتبادل الآراء، والصلاة. وكان كريستيان روح الفريق. وهو قد تعمق في اللغة العربية والدين الإسلامي وركز انتباه على روحانية الشعب وتدينه.. وكان يقول إنه "مؤمن بين المؤمنين" كما قدم فكرة "الإسلام الباطني" المنفتحة على الآخرين.
وكان يقرأ كتاباً عن الروحانية الإسلامية من تأليف الشيخ خالد بن تونس.. كما كان يستشهد بآيات قرآنية في أحاديثه وكتاباته.. وكانت العلاقة بين أهل الدير وسكان تبحرين جميلة ووطيدة.. فمثلاً في بداية التسعينات حين قرّر المسلمون في تبحرين بناء مسجد، قدم الرهبان قاعة من الدير لكي تستخدم لتأدية الصلوات الخمس حتى الانتهاء من بناء المسجد، فكان السكان يصلّون في تلك القاعة والمؤذن يرفع الأذان في مواعيدها الخمسة.
أصدقاء لشارل دي فوكو:
كتب روبير ماسون في كتابه "تبحرين: ساهرو الأطلس": "لقد أراد ناسك الصحراء أن يكون أخاً كونياً لجميع البشر... ورغم جميع الفوارق بين الأوضاع التاريخية، فإن رهبان تبحرين تابعوا المسيرة ذاتها".
هذا الخط الروحي الذين ابتدأ في بداية القرن العشرين ونما بخفوت لكن بقوة، وتأصل في قلب الكنيسة وارتوى بالدم والصدق، ما يزال يحث الكثيرين على الانفتاح العميق على الآخرين عارفين الثمن ومرحبين به في سبيل الحب.
يقول القديس أغوسطينوس وهو جزائري مسيحي: "أياً كان الخطر ينبغي للأساقفة البقاء في وظائفهم، يجب عليهم ألاّ يتهربوا وألاّ يتخلوا عن المؤمنين".
ويختصر كريستيان معنى وجوده في أرض الإسلام بقوله: "ينبغي الدخول في محور الآخر، الآخر يعنيني، وبقدر ما هو آخر، غريب، مسلم، بقدر ما هو أخي. اختلافه ذو معنى بالنسبة لي، وفي ما أنا عليه. هذا الاختلاف يعطي قوة لعلاقاتنا المتبادلة. وكذلك لبحثنا المشترك عن وحدانية في الله.
دُفن ما تبقى من أجساد الرهبان في أرض الدير يوم الثلاثاء 4 حزيران 1996.
* * *
أضيف هنا بعض مقاطع من حوار مع أسقف الكنيسة في الجزائر المنسنيور هنري تيسييه نشرته جريدة البيان في 18 أيار 2002، لإيضاح صورة الكنيسة في الجزائر هذه الأيام.
سؤال: بمجرد تصاعد سلسلة اغتيالات الرهبان والراهبات تلقيتم تعليمات بضرورة مغادرة أرض الوطن؟!
* في الحقيقة لم نتلقَ دعوة بمغادرة أرض الوطن من الفاتيكان أي من البابا، بل العكس فقد ألح على ضرورة بقائنا في الجزائر، أما الذين طلبوا منا المغادرة فهم الرؤساء الروحيون للمجموعات الرهبانية . لكن رهبان وراهبات الجزائر رفضوا ذلك. وفي رسائلهم التي يشرحون فيها الدوافع التي جعلتهم يختارون البقاء، ركزوا على الروابط وعلاقات الصداقة مع الجزائريين، والوفاء للناس في الأحياء التي يعيشون فيها.
أتذكرون الرهبان السبعة الذين اغتيلوا في تبحرين قرب المدية؟ عندما زارتهم الجماعات المسلحة للمرة الأولى فكروا في الانسحاب، خوفاً من أن يطلب هؤلاء منهم المساعدة، لكنهم لم يغادروا المنطقة عندما فكروا في الجيران الذين تربطهم علاقات متينة بهم.
إن أبرشية الجزائر كان فيها 75 فرداً، اغتيل منهم 11 وغادر البلد بعض الشيوخ والمسنات، وبقينا 55 فرداً.
سؤال: كيف تصفون بقاءكم، أهو نوع من التحدي؟
* لقد جئنا هنا لمشاطرة الجزائريين حياتهم، والانسحاب في بداية الأزمة سيكون خيانة لدعوتنا التي نؤمن بها، فالدعوة تأتي من عند الله وتدفعنا للعيش مع إخوان ليسوا مسيحيين، كدليل على أن الإخاء يجب أن يكون عالمياً.
سؤال: كيف تتصورون الدور الذي يمكن أن تلعبه الكنيسة في هذه الفترة بالذات؟
* أكثرية الجزائريين هم مسلمون، وبوجودنا نمنحهم إمكانية العمل المشترك مع أشخاص ينتمون إلى آفاق مختلفة على المستوى الديني والثقافي. كذلك بعد أحداث 11 سبتمبر، أصبح علينا أن نجعل الغرب يفهم بأن إعلان الحرب على الأمة الإسلامية خطأ وخطر، وأن عليهم أن يميزوا بين الجماعات الصغيرة التي مارست الإرهاب وبين الشعوب التي تألمت من الإرهاب قبل أن يتألم منه الغرب.
سؤال: شهدنا فترة تقارب بين الكنيسة والساسة الجزائريين من خلال زيارة الرئيس بوتفليقة لروما ولقائه مع يوحنا بولس الثاني.. ما هي الأحوال اليوم؟
* الحقيقة إن الحوار المسيحي الإسلامي في الجزائر هو حوار يومي في الميدان، خدمة لقضايا إنسانية (أذكر منها التكفل بالأطفال المعوقين، وتكوين الطلبة..)، وفي الحوار النظري (فقد تسلمت دعوة من معهد أصول الدين لجامعة الجزائر للمشاركة خلال شهر نيسان في ملتقى حول الإسلام والحضارات الأخرى).
سؤال: هل أصبحت الدعاية كما تسمونها أو التنصير كما يسمى هنا فكرة قديمة؟
* في القرن الماضي عندما تزامن وجود الكنيسة مع الوجود الفرنسي اعتبر الكثيرون ذلك خطراً على الإسلام، لكنهم اكتشفوا فيما بعد أن عدد المسلمين لم يتغير وقرروا العمل سوياً، لأن ذلك يزيدنا إيماناً وتمسكاً بإيماننا. وإن تأسيس جماعة الآباء البيض من طرف الكاردينال لافيجري الذي لا يذكر عادة بخير في الجزائر، كان يهدف إلى اعتناء الكنيسة بكافة الناس وليس بالمسيحيين فقط، وقد منعهم في البداية من الارتباط بالكنائس وطلب منهم العيش في الأحياء الشعبية، كما منعهم في البداية على الأقل من تنصير الجزائريين، والنصوص واضحة في ذلك.. لكن فيما بعد اتخذ البعض من الآباء البيض رمزاً للتنصير في الجزائر، ونحن نعلم أن مئات الآلاف من الجزائريين عرفوا وعملوا مع الآباء والأخوات البيض وهم ما يزالون مسلمين.
* * *
جماعة دير مار موسى الحبشي
يقع دير مار موسى الحبشي قرب مدينة النبك شمال دمشق – سوريا، وهو دير قديم يعود إلى عصر الرومان، حين شُيّد ليكون قلعة وبرجاً لمراقبة الطريق القديمة التي كانت تسلكها القوافل بين دمشق وتدمر. وفي عهد المسيحية سكنه عدد من الرهبان من بينهم موسى الآتي من بلاد الحبشة. وإن الكنيسة الحالية تعود إلى سنة 1058م وداخلها نجد رسومات جدارية جميلة تعود إلى القرن الحادي عشر والثاني عشر على ثلاث طبقات. بقي الدير مسكوناً حتى عام 1831 حيث هجر لمدة 151 عاماً وعاد إلى الحياة مع مجيء راهب يسوعي إيطالي الجنسية قرر إعادة ترميمه ثم السكن فيه، وتكوين جماعة روحية رهبانية هدفها استعادة المعنى المطلق للحياة الروحية في الصلاة والعبادة المجانية، وممارسة الضيافة الإبراهيمية لجميع سكان المنطقة المسيحيين والمسلمين، وإنعاش البيئة الصحراوية الجافة بالزراعة وتربية الحيوانات.
بعد حوالي عشرين عاماً من العمل تحولت كومة الحجارة والبناء المهدم إلى دير واسع، وأضيف إلى البناء الأساسي بناءان آخران للاستقبال والدعوة الرهبانية النسائية.
اسم الراهب الإيطالي باولو دي لويلو، ويحب أن يُدعى بالراهب بولص وقد أتم دراساته اللاهوتية مختصاً بالإسلاميات والحوار مع الأديان خاصة الدين الإسلامي.
يمارس الراهب بولص إيمانه بالمسيح عن طريق المحبة الأخوية للمسلمين محلياً (وهم الأكثرية الغالبة في مدينة النبك)، وعالمياً عن طريق الحوار المسيحي - الإسلامي والمحاضرات واللقاءات، وتنشئة الشبيبة على السلام والتعاون والتعايش المشترك..
لقد تعرفت في العمق على تفكير الراهب بولص وعمل الجماعة المحيطة به في زياراتي المتكررة ومكوثي هناك أياماً طويلة، ولا أنكر أنه كان أحد أهم الناس الذين أثروا في محبتي للمسلمين والانفتاح عليهم . إن مشروع دير مار موسى الحبشي متفردّ من حيث موقعه في المحيط الإسلامي، وانفتاحه على المسلمين بنظرة مسيحية إيجابية تحترم الآخر دون الرغبة في تغييره أو السيطرة عليه، ومتفرد أيضاً من حيث روحه المسكونية وفكره اللاهوتي.. وفيما يلي أثبت بعض المقتطفات التي تعبّر عن روح المشروع:
"بفهم عميق للتطور الأنثروبولوجي عبر القرن المنصرم، كان ماسينيون منتبهاً جداً للبعد الروحي والسياسي للعلاقة بين الرجل والمرأة، ولذلك فهو يربط رمزياً بين الجماعات الغاندية والأديرة المسيحية التأملية، ويركز على ضرورة الحفاظ على أماكن روحية ذات بعد فني وتاريخي بجوار المدن الإسلامية، حيث يشبهها بصوامع الأديرة الشرقية في البرية. وهذه الأماكن المقدسة أنثوية ومريمية وإفسسية وفاطمية. وقد شاهد ماسينيون في حياة مريم ويوحنا التلميذ في إفسس أنموذج الموقف الذي تجد به البشرية خلاصها والكنيسة كمالها. وهو يتمنى تأسيس مجموعات مشتركة من متأملين ومتأملات يقفون في ما بين الحدود الفاصلة، جيوش جهاد على جبهة الكفاح الروحي، حيث يحفظهم من كل شر حضورُ الله المقدس السراني المتطلب الشافي، مجسدين نذورهم في سبيل الحق بأفعال رحمة، أولها ضيافة الغريب. وهم شهود لطعنة الرمح في جنب المسيح مع العذراء ويوحنا والمجدلية".
لن أطيل الحديث أكثر وسأختار من كتابات الراهب بولص بعضاً من مقالة تلخص جزءاً كبيراً من تفكيره.
نبوّة.. شخص.. مستقبل:
إن النبوة وفعل الإيمان يشكلان وجهين لحقيقة واحدة وهي الإمكانية والمقدرة على استقبال حضور الله – الشخص ومبادرته في أعماق القلب وقمة الشخص في شركة الروح.
إن هذا الحضور للضيف الإلهي ناطقٌ وخلاقٌ. آدم، كونٌ مصغرٌ، خلق بحسب النص القرآني مثل الكون برمته من الأمر الإلهي (كن.. فيكون)، (سورة آل عمران، الآية 59) في التاريخ وإلى الانتهاء. وقد دعيت الملائكة أي القدرات الروحية إلى أن تسجد لآدم (سورة البقرة، آية 34) المخلوق من التراب والنفخة (سورة الحجر، أية 28 – 29)، (سورة ص، آية 71 – 72). وهذا لأنه نبي، يلفظ الأسماء المعبرة عن المعاني، التي أوحى لـه الله بها، ويعلم ما تجهله الملائكة (سورة البقرة، آية 31 – 33).
أخرج آدم من الأرض وأخرجت حواء من آدم، توازٍ تام، وإذا دخلت نفخة الله حشا مريم البتول شكلت الكلمة بشراً. تضيع أصولنا الآدمية في ماضٍ من التحولات التطورية اللامتناهية، بينما يصبح مستقبلنا شذرات من لحظة الحاضر، من بعدما أصبح ممكناً وواجباً أن نتصوره كتقدمٍ تدريجيٍ للعالم الإنساني إلى ما خارج الكوكب الأرضي باتجاه تشتتٍ زمنيٍ ومكاني لا حدود لـه، بهذا لم يبق سوى قوس حياة الشخص المربوط ببدايةٍ خالقةٍ ونهايةٍ فانيةٍ، مقياساً باقياً ومفتاحاً لتأويل الوجود.
فعيسى ابن مريم، الشخص، في ادعائه الرهيب أن ينقض الهيكل في نفسه، نموذجاً للكون، مقراً للمجد، وأن يعيد بناءه، يرشح نفسه قمةً وينبوعاً للمعنى، للحياة والنور، بنظر تلاميذه، عندما فيه، في قوس حياته، يكتشفون رسم جودةٍ يعانق الكل. فلذلك بعد ما ذاق مع مريم أمه مرارة الترك، يصرح بإتمام الكل، (قد تم كل شيء، يوحنا 19/30) . لكن التلميذ الذي يكتشف ولادة الكنيسة السرية في خروج الدم والماء من جنب المسيح الأيمن يصرح بأنه الآن فقط يبدأ الكل.
كلمة القرآن النبوية تركز على التوازي بل على التطابق بين آدم والمسيح (سورة آل عمران، آية 59)، (قارن مع الكتاب المقدس – رومية 5/14، 1كو 15/20 – 22، 45 – 49).
إن تتلمذ الكنيسة ليسوع الناصري واضح كتخطي الشرائع في إعادة خلق الشخص بكونه الآخر في العلاقة، رجل – امرأة، الله – أنا، بين قمة سيناء نبوة موسى وغار حراء نبوة محمد. بينما إلياس لا بل روح إلياس وروح أخنوخ (إدريس) ويوحنا (يحيى) باستمرار تعود إلى السماء، تختطف على عربةٍ ناريةٍ إلهيةٍ.
موسى الذي تكلم معه الله فماً إلى فمٍ، ما يزال يبشر بمجيء المسيح، وهكذا محمد الذي نزلت عليه الكلمة بشكل الوحي ما يزال يعلن عودته النهائية.
كل ظاهرة نبوية تحدث في نطاق لغوي خاص محدود بشكل طبيعيٍ ملتبسٍ، وإذا كان هذا الأمر لا يبرر الموقف الأصولي لمن يعتبر إحدى هذه الظواهر النبوية هي وحدها المطلقة، فإنه لا يسمح بممارسة الشك الساذج في حقيقة الخبرة النبوية وصدقها.
فقط من خلال الفهم الروحي الممارس في مستقبل الحوار والشركة، يمكن لتلاميذ الناصري الوصول إلى حقيقة نبوية توحيدية شديدة ونقدية، وظاهرياً رافضة للعقيدة المسيحية كالنبوة المحمدية. لا يمكن لهذا الفهم الروحي أن يحدث سوى من خلال اللقاء مع بني الإسلام عبر التقليد الروحاني الذي يربط بينه وبين مسلمي اليوم، حيث يلمس المسلم اليوم صدق النبي (ص) في خشوع وتقوى الأنفس الأمينة المصلية، المتضرعة، والمصغية لأولياء الإسلام وصدّيقاته.
كتب أحد تلاميذ المسيح عن حجاب موسى الذي وضعته الحكمة الإلهية لمنع استيعاب سر الجلجلة كي لا يبقى هذا السر أسيراً في نطاق الشعب المختار (2 كو 3/7 – 18)، وكذلك أسدل الحجاب نفسه في القرآن سداً وردعاً لاستخدام هذا السر المقدس كوسيلة للهيمنة المسيحية الدنيوية.
* * *



#لطفي_حداد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مدينة من نار - جزء ثالث
- مدينة من نار - جزء ثانٍ
- مدينة من نار - جزء أول
- حضارة الحب
- حوار لاهوتي بين المسيحية والإسلام
- المخلصون الجدد
- المستشرقون والإسلام
- الإلحاد والبدع المسيحية الجديدة
- عيسى التائه
- جماعة كركوك.. الأدب العلماني
- البابا يوحنا الثاني والإسلام
- هاننتون وحدود الإسلام الدموية
- الكتاب المقدس والعنف
- هنري كوربان والإسلام الشيعي
- لويس ماسينيون، مسلم على مذهب عيسى
- جاك بيرك والعروبة
- ديزموند توتو وسجناء ربيع دمشق
- مانديلا .. سيد قدره
- -ساتياغراها- غاندي
- الطوفان- إلى عارف دليلة


المزيد.....




- مصلون يهود عند حائط البراق في ثالث أيام عيد الفصح
- الإحتلال يغلق الحرم الابراهيمي بوجه الفلسطينيين بمناسبة عيد ...
- لبنان: المقاومة الإسلامية تستهدف ثكنة ‏زبدين في مزارع شبعا ...
- تزامنًا مع اقتحامات باحات المسجد الأقصى.. آلاف اليهود يؤدون ...
- “عيد مجيد سعيد” .. موعد عيد القيامة 2024 ومظاهر احتفال المسي ...
- شاهد..المستوطنين يقتحمون الأقصى في ثالث أيام عيد -الفصح اليه ...
- الأردن يدين سماح شرطة الاحتلال الإسرائيلي للمستوطنين باقتحام ...
- طلاب يهود بجامعة كولومبيا: مظاهرات دعم فلسطين ليست معادية لل ...
- مصادر فلسطينية: أكثر من 900 مستعمر اقتحموا المسجد الأقصى في ...
- مئات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى تحت حراسة إسرائيلية مش ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - لطفي حداد - أبحاث في العلاقات المسيحية - الإسلامية