أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سومية محمد النبالي - وردة















المزيد.....


وردة


سومية محمد النبالي

الحوار المتمدن-العدد: 4299 - 2013 / 12 / 8 - 23:06
المحور: الادب والفن
    


فصل الربيع، كان أحب الفصول إلى وردة، تلك الشابة التي يفوح عطرها الزكي، وكأنها فعلا وردة في البستان، أتدرون لماذا كانت تفضل هذا الفصل بالذات عن الفصول الثلاثة الأخرى؟،بسيطة...لأن في هذا الفصل بالذات، كانت تزهر الوردات ،التي كانت تعشقها لأنها تحمل اسمها، سمتها أمها بوردة، لتكون مثل الوردة تماما، عذبة وفاتنة، تفوح منها الروائح العطرة، وتكتسي الثياب التي تزهو بشتى الألوان، ولكنها في بستان الحياة، قوية، فتلدغ بأشواكها كل من يحاول إيذاءها أو مسها بسوء، هكذا كانت وردة...
في فصل الربيع، تفتحت كل الأزهار والورود في حديقة جارها العجوز، فلم تكن تزيغ بناظريها عنها كانت تهوى تلك الألوان والأنواع وهي منسجمة بعضها ببعض،فكانت في كل يوم بعد أن تنهي أعمالها المنزلية، تجلس أمام الباب وتراقبها بتمعن، كان الأمر يتكرر يوما بعد يوم، فانتبه العجوز لذلك ودعاها في أحد الأيام لتدخل إلى حديقته، لبت دعوته في فرحة غامرة، ولم تصدق عينيها أنها الآن في الحديقة، وسط الورود التي تهواها ! فكانت الدهشة لا تفارقها وهي تهيم بنظرها في كل الجهات، وكأنها تبحث عن شيء بعينه، وبعد مدة صاحت قائلة:
- آه ! إنها هناك ! هناك يا سيدي...
رد عليها العجوز في استغراب:
- من يا ابنتي؟
- تلك الوردة يا جدي!، الحمراء و الكبيرة!...
- آه ! تقصدين الملكة...!
- الملكة؟!
- أجل، تلك الوردة أسميها الملكة، لأنها الأكبر والأجمل في حديقتي كلها!
نظرت وردة إلى الوردة وقالت وهي تعض شفتيها:
- نعم...إنها فعلا الملكة!
- هل تحبين أن أقطفها لك؟
- أنا...آخذ الملكة؟
- لا بأس، فستتربع عرشها ملكة أخرى في العام القادم.
- لا أدري كيف أشكرك يا جدي؟
- لا تنسيني من دعائك فقط...انتظري كي أقطفها لك.
قطف العجوز الوردة لوردة،فأمسكتها ثم نظرت إليها وهي مبتسمة ثم قالت:
- سبحان الله ما أبدع الخالق ! أرأيت طيات هذه الوردة يا جدي؟ عندما أتأملها أحس بأن الوردة تحمل في هذه الطيات أسرارا وخبايا، ولا يستشعر هذا إلا من كان عاشقا للورود مثلي.
- منذ مدة وأنت تسكنين بقربي، ولم أعلم أنك تحملين في قلبك وعقلك كل هذا الفكر والإحساس...أخبريني، إلى أي مستوى وصلت في الدراسة؟
- إلى المستوى السادس الابتدائي...فكما ترى نحن في البادية، ويصعب على فتاة مثلي أن تكمل تعليمها.
- أما أنا يا ابنتي فقد كنت أستاذا جامعيا في مادة الفيزياء، إن كنت تعرفين ما معنى الفيزياء؟...
- بلى أسمع عن هذه الكلمة، أليس ذلك العلم الذي يهتم بدراسة كل ظواهر الكون، وكذا حياتنا اليومية بكل ما فيها حتى الحركة؟
- بلى...بلى أنت ذكية ما شاء الله !، من المؤسف أنك لم تكملي تعليمك !
- ولكن ما الذي جعلك تتخلى عن منصبك وتأتي إلى البادية؟
- كنت أعشق البادية منذ صغري، ولكنني هرمت وهدني المرض، فأتيت إلى هذه القرية واشتريت المنزل الذي ترين، لأرتاح من ضجيج المدينة وتلوثها.
- أنا أيضا لست من أهل هذه القرية، أتيت إليها منذ ثلاث سنوات فقط، بعد أن مررت بقصة طويلة وعجيبة، يندى لها الجبين، وتحزن لها القلوب، وقد تدمع لها العيون، قصة تبعث في سامعها الأسى وفي نفس الوقت الأمل...لا تدري أيجب عليك الابتسام أم البكاء؟!...إنها قصة محيرة يا جدي.
- لقد شوقتني لسماعها من خلال تقديمك فقط، ولكن الظلام قد حل كما ترين،وعليك أن تعودي إلى منزلك، غدا في الصباح إن شاء الله، تأتين إلى منزلي، فنعد كوب شاي وأستمع لقصتك كاملة ما رأيك؟
- حقا ما قلت يا جدي! غدا إن شاء الله، سأروي لك حكايتي، والآن وداعا وتصبح على ألف خير.

حان وقت النوم، استلقت وردة في فراشها وهي متحمسة لتروي حكايتها للعجوز.
في صباح اليوم التالي استيقظت وردة كعادتها باكرا ، أنجزت أعمالها المنزلية بنشاط وأعدت إبريق شاي ساخنا واتجهت إلى العجوز، الذي كان ينتظرها في حديقته، بعد أن أخذ كل فنجان شايه قالت الفتاة:
- ها قد أتيت لأوف بوعدي كما قلت!
- لقد كنت في شوق لسماع الحكاية، فلتبدئي يا ابنتي.
- آه من أين أبدأ...وكيف أبدأ؟...أتذكر كل لحظة من لحظات الحكاية، وكأنها وقعت بالأمس، فالأحزان لا تنسى بسهولة.
كانت قريتنا من أجمل القرى وأكثرها سعادة، تكاد ترى الفرحة تتطاير في الأجواء، كنا نعيش الرخاء والهناء...كنت أعيش في كنف أمي وأبي ولي أخت تكبرني بثمان سنوات، كنا كغيرنا من أسر القرية يغمر منزلنا الحب والحنان،أستيقظ في الصباح فأجد أمي وأختي قد أعدا الفطور، وأبي قد خرج للصيد، فأتناوله وأحمل الدمى التي ألعب بها وصديقاتي وأغادر المنزل...عندما كنت أهم بالخروج، تلحقني أختي وتعطيني قليلا من الخبز وحبات زيتون ملفوفة في منديل أحمر، تقول لي بأن آكلها متى شعرت بالجوع، وتوصيني بأن أنتبه على نفسي، أتأبط المنديل، وأسرع إلى المكان الذي اتفقنا وصديقاتي على اللقاء فيه،فنلعب حتى تتربع الشمس في كبد السماء،فتجلس كل واحدة منا تتناول ما أحضرت معها من المنزل، ومن لم تحضر شيئا قاسمناها ما معنا، ثم يستمر اللعب حتى تغرب الشمس وتسدل أستارها،فنعود إلى منازلنا والتعب قد هد أجسادنا الضعيفة،نمر على سرب من الفتيان يلعبون الكرة في ملعب صنعوه بأنفسهم من جذوع الأشجار وشباك الصيد الممزقة،ونمر على سرب آخر من الفتيات أصغر منا سنا، لا تتجاوز أعمارهن العشر سنوات،يلعبن لعبة العريس والعروس، فتتطاير منهن نبرات الضحكات كأنها ألحان تطرب السامع حين تخفق إحداهن في تمثيل الدور كما يجب،ولكن حين يجيء الليل ويخيم الظلام،فلا تسمع سوى زقزقة الصراصير، ونعيق الضفادع قرب الوادي، أما أطفال القرية فهم نائمون تحت دفء ضوء القمر، يحلمون بأجمل الأحلام، وبمستقبل واعد،كانت كل أيامنا تمر هكذا، هناء، فرح، وراحة البال...
كل هذا اندثر بمجيء الحرب، فانقلب كل شيء رأسا على عقب، كان يموت الآلاف من الأطفال والنساء والشيوخ، دون ذنب أو جريرة، أما الرجال فكنت أسمع منهم أنهم يدافعون عن الوطن...أنا وغيري من الأطفال،لم نكن نعلم معنى هاتين الكلمتين* حرب-وطن* كنا نعتقد أن العالم ملك للجميع، نتقاسمه ونعيش فيه بسلام.
كانت هناك خطة تقضي بإبادة الناس عن بكرة أبيهم، وهنا بدأت مأساة المأساة!...ارتكبت أبشع الجرائم التي لا يمكن لأي عقل أن يتصورها، يتم جراءها العديد من الأطفال، كنت أنا من بينهم.
فقد تأخر أبي ولم يعد للمنزل ذاك اليوم فخرجت أتقصى أخباره، فمكثت غير بعيد فرأيته في أيدي الجنود...ربطوه بالسلاسل، وعذبوه بكل ما أوتوا من القوة والعتاد، قطعوا أوصاله وهو ذو عزيمة لا تتوانى، وإيمانه بالله ثابت، وحين رفض الاستسلام، أطلقوا عليه رصاصة الموت في قلبه، فرأيت الدم يتدفق من صدره، ومع كل قطرة دم كنت أرى ذكرياتي مع أبي، تقطع قلبي وخانتني رجلاي وأنا أركض عائدة إلى المنزل، فكنت أكابد رغم أنفي حتى وصلت، فسقطت على الأرض، وبدأت أرتجف وكأن بي مرض الصرع،فأسرعت أمي وأخذتني في حضنها فأحسست بدفء حنانها فاستكنت، بدأت أحكي لأمي ما رأيت ودمعاتها تتهاطل على خديها بغزارة،وأختي واقفة في الباب تستمع لحديثي، فجأة سقطت مغشيا عليها.
كانت عائلتنا قد انهارت، قتل الجنود والدي، ولم يدروا أنهم قتلوا معه عائلتي، وذكرياتي، وقتلوا كذلك كل أحلامي.
وفي يوم مسود مغبر، كنت وأمي وأختي جالسين حول بعضنا البعض،فسمعنا طرق الباب بقوة وبشدة،عرفت أمي أنهم الجنود،وعرفناهم أنا وأختي كذلك،وكأننا كنا ننتظر مصيرنا المحتوم،بعد أن سمعت أمي ذلك الطرق أسرعت وخبأتني في خزانة في المنزل،وأوصتني بأن لا أتحرك وأن لا أصدر أي صوت،وجلست هي وأختي في الغرفة ترفعان أكفهما إلى السماء بالدعاء، وتتلوان آيات من القرآن الكريم،كانت الخزانة تحتوي على ثقب يمكن الرؤية من خلاله،فبعد أن أبت أمي أن تفتح الباب، كسروه ودخلوا المنزل عنوة،كانت المرة الأولى التي أرى فيها وجوههم مباشرة، كانت حجرا منقوش عليه عينان وأنف وفم، أما الجسد فكان من الفولاذ نحت على شكل إنسان،لقد كانوا آلات وليس بشرا.
تقدم أحدهم وقال بصوت جوهري،فيه حشرجة مخاطبا أمي:
- هل ظننت بأن أبوابا كتلك ستمنعنا من قتلكما؟
ردت عليه أمي بصوت واثق:
- أعلم أنها لن تمنعكم ولكن حزب الله هم الغالبون، وهو ناصرنا لا محالة.
لم يرد الجندي على ذلك بل جعل الرصاصة ترد وتتكلم عوضا عنه، لتخترق جسد أمي وتخر جثة هامدة، أصبح قلبي في تلك الأثناء فارغا، وددت لو أخرج من مخبئي وأموت معها، لولا أن الله ثبت فؤادي.
كانت صرخات أختي الثكلى وهي تعانق جثة أمي تقطع أوصالي وتحجب تفكيري، كنت أبكي وأبكي دون أن أصدر أي صوت، اعتراني إحساس ممزوج بالخوف والحزن والصدمة والحقد، تقدم الجندي الذي كان في الخلف وأمسك أختي من شعرها وأبعدها عن جثة أمي وهو يجرها على الأرض، وهي تصرخ وتستنجد لعل منقذا يسمعها، في تلك الأثناء عزمت على الخروج من المخبأ، لكن أختي وكأنها قد علمت أنني لن أتحمل فأخرج،لذلك أشارت إلي بالبقاء،وهي في عذابها، بعد مدة من الضرب المبرح،سنحت لها الفرصة لتحمل رأسها وتقول له بصوت عال:
- الجبان فقط هو من يمد يده على النساء!
فرماها برصاصة وضعت حدا لحياتها، أمام مرآي ومسمعي للطلقة. أردت البكاء بكل ما أوتيت من قوة، ولكنني لم أستطع، جفت كل الدموع من عيني. صار الجنود يبحثون في أرجاء المنزل عن شخص آخر،فكنت أرتجف خائفة من أن يجدوني، وكنت أدعوا الله أن لا يعثروا علي، فتشوا كل المنزل، إلا الخزانة، وكأن الله أعماهم عني فغادر الجنود دون أن يعثروا على أحد آخر في المنزل، فخرجت من مخبئي ورأيت وجهي أمي وأختي قد تلطخا بالدماء، الممزوجة بالغبار، فجعلت أمسحها بيدي وأنا أبكي، فعرفت حينها أنني صرت وحيدة،عبرت عبر الباب المحطم إلى الخارج فرأيت جثث أهالي القرية،كسرب من النحل أبيد عن آخره،أطفالا وشيوخا ونساء، الكل قطعت أوصاله،ولكن البعض كان له الحظ في أن احتفظ بجسده كاملا، وديان من الدماء وأكوام من الأشلاء، هنا وهناك وفي كل مكان، ورأيت الفتيات اللواتي كن يلعبن معا وقد قتلن معا كذلك...أطلت الناجية الوحيدة على تلك الجثث فرأت وجوههم ضاحكة، وكأنهم نائمون يحلمون بأحلام سعيدة، ولكن نومهم أبدي لن يستفيقوا منه.
صرت وحيدة الآن، لا أم ولا أب ولا إخوة، ولا جيران، ولا حتى وطن أعيش فيه!، أين سأسير وإلى أين؟ وكيف سأحمي نفسي من الأخطار المحدقة بي في كل ثانية؟، وكيف سأهتدي إلى السبيل الصحيح في عز هذا الصيف الحار؟، حيث لا ملجأ يقيني حرارة النهار، وغدر الليل وأنا فتاة؟...آه يا ربي لا تكلني إلى نفسي طرفة عين!!
توكلت على الله وصرت أهيم في الطرقات، فمرة تراني أسير ومرة تراني قد تعبت فأرتاح تحت ظل شجرة، وكل مرة أطلب من أحد المارة أن يعطني ما أسد به رمقي، إلى أن وصلت إلى مدينة ما، وهناك جلست أترقب من يعطيني ما آكل، فبطني قد التصق بظهري من شدة الجوع، ولم أستحم لأكثر من ثلاثة أسابيع، اقتربت من بعض الناس أطلب منهم قليلا من الخبز، ولكنهم نهروني ودفعوني بعيدا عنهم، تمكن مني الجوع إلى أقصى حد، فرأيت أنني إن لم أتدبر أمري فسأموت، فلم أجد سوى السرقة سبيلا، لإنقاذ نفسي من الهلاك.
كان في تلك المدينة خباز مشهور، وقفت قرب محله، درست المكان جيدا ووضعت خطة لفعلتي، ولكن حين مددت يدي للسرقة، أمسكني شيخ كبير في السن، وجرني بعيدا عن المكان، كنت خائفة منه فلم أتكلم بأية كلمة، ولكنه ربت على كتفي وقال لي:
- لم تسرقين يا ابنتي؟ ألا تعرفين أن السرقة حرام؟
- بلى يا عم، أقسم أنني لم أفعلها عمدا، أكاد أموت جوعا، طلبت من الكثيرين إعطائي ما أسد به جوعي فقط، ولكن الكل رفضوا، ف...فسرقت يا عم لن أكررها أعدك.
وبدأت أبكي بكاء شديدا، فمرر يده على رأسي وقال لي:
- لا بأس، لا بأس، هكذا إذا ولكن كيف وصلت إلى هذه الحال؟!
- إنها قصة طويلة...!!
ورويت له ما حدث معي، فنظرت إليه فإذا به يبكي فقلت له:
- لم تبكي يا عم؟ لا تجعل الابتسامة تغيب عن شفتيك!
- إن من يسمع هذه القصة ولا يبكي يكون قلبه من حجر.
- لو رأيت الحزن ينفع لكنت الأجدر بالحزن والبكاء.
- معك حق ولكن القصة مؤثرة حقا، عشت الرعب بعينيه يا ابنتي!
- الحمد لله، فله ما أعطى وله ما أخذ، وما أخذ مني إلا ليعطيني وما أعطاني إلا ليختبرني.
نظر إلي العجوز وقال:
- مثلك يا ابنتي لا يستحق حياة الشارع، أنا شيخ كبير في السن كما ترين، أعيش وحيدا، فقد توفيت زوجتي منذ مدة، وليس لي أبناء فما رأيك أن تكوني ابنتي، تعيشين في المنزل معززة مكرمة؟!
- طبعا أقبل! وكيف أرفض عرضا كهذا؟
وسرت مع الشيخ إلى المنزل، فأكرم مثواي، وأعد لي الحمام فاغتسلت واشترى لي ملابس جديدة، وكانت معاملته لي طيبة، وكأنني بنت له، كان يأخذني معه أينما ذهب، فكنت أرافقه إلى السوق، لأحمل عنه الأغراض، ونذهب للصلاة في المسجد، كان شخصا فاضلا ، في كل مساء يروي لي قصص تاريخ ديننا الإسلامي،في الحقيقة، لقد صار أبي...فقد تعلق كل منا بالآخر، وصرت لا أتقبل فكرة فراقنا.
مكثت معه مدة أربع سنوات، عشت في سعادة وهناء، رغم أن ما رأيت من الرعب كان قد سيطر على كل تفكيري، وذكريات عائلتي لم تكن تفارقني...صار الآن عمري سبع عشرة سنة،والجلوس في البيت كان يشعرني بالملل الشديد، فاقترح علي أبي _ هكذا صرت أناديه_ أن أتعلم الخياطة، عند امرأة تعلم كل الفتيات والنساء...مشهورة ببراعتها وإتقانها لعملها، رحبت بالفكرة بكل سرور، وصرت متعلمة الآن...تأقلمت مع الأمر بسرعة، واكتسبت المهارات بأسرع من ذلك، وكان حافزي أن المعلمة أخبرتنا أن من ستتميز عن الأخريات، سيكون لها الشرف أن تعمل معها، وستحصل على راتب محترم...فضاعفت الجهود لعلي أرد جميل الرجل العجوز الذي انتشلني من حياة الشارع.
ذات يوم، عدت إلى البيت، فطرقت الباب، ولم يفتح لي أبي كالعادة، أخرجت المفتاح من حقيبتي وفتحت الباب بنفسي ثم دخلت، لكني وجدته ملقى على السرير هذه المرة، فزعت وأسرعت إليه أسأله عن حاله، ولكنه لم يستطع أن يتكلم ليجيبني...أسرعت إلى أحد الجيران، وطلبت منه أن يتصل بطبيب المدينة، فأبي مريض جدا.
أتى الطبيب وفحصه في تأن ودقة ثم التفت وأشار إلي بأن أنفرد به، جلسنا في غرفة الجلوس، فسألته في قلق:
_ ما الأمر أيها الطبيب؟
_ هل هو والدك؟
_ أجل، هو كذلك.
_ أخشى أن عامل السن بدأ يؤثر عليه، لديه ارتفاع في ضغط الدم، وزيادة في نسبة السكر...
_ يحتاج إلى الرعاية والمراقبة باستمرار، أليس كذلك؟
_ بلى، عليك مراقبة أطعمته، ومحاولة إبعاد أي شيء يقلقه...
_ حسنا، سأفعل...أشكرك جزيل الشكر، أيها الطبيب.
_ لا بأس هذا واجبي،وسآتي كل أسبوع للاطمئنان عليه.
_ حسنا، إلى اللقاء.
ودعت الطبيب، وأسرعت إلى أبي وجلست بقربه، أنظر إليه، وتذكرت عامل السن الذي أخبرني به الطبيب، ورأيت أن أبي حقا بدأ يهرم، وما هي إلا بضع سنوات حتى يفارقني، ويتركني وحيدة...كانت تتقاطر من عيني بعض الدموع ، لكنني أمسحها بسرعة، كي لا يراني أبكي.
اتبعت نظاما قاسيا في طعامه، فقد منعت عنه كل ما يضره، ولم أترك له إلا المفيد لصحته، فلاحظت أن حالته بدأت تستقر، كان الطبيب "جهاد" يأتي كل أسبوع يقيس الضغط والسكر ويطمئنني على صحته بأنها تتطور للأفضل، وبعد الفحص أقدم له كأس شاي، نحتسيه، ونحن نتجاذب أطراف الحديث.
مرت شهور والطبيب يدخل منزلنا كل سبعة أيام، حتى صرنا _أنا وهو _أصدقاء.
كان "جـهاد"، شابا مفعما بالنشاط والحيوية، جذاب وأنيق، كان أشد ما يجذبك إليه عيناه الزرقاوتان، مع بشرته السمراء، كان بالفعل...يثير الإنتباه.
في الأسبوع الخامس عشر على التوالي، بعد الفحص، جلسنا نحتسي الشاي كالعادة وبدأ الحديث:
_ "وردة"، أخبريني أين أمك، فمذ عرفتك، لا أعرف إلا أباك؟
_ أمي؟...أمي توفيت منذ بضع سنوات.
_ آه...أنا آسف حقا.
_ لا بأس، كان الأمر منذ مدة...
_ وكيف حالك مع الخياطة؟
_ ألم أخبرك؟ لقد اختارتني المعلمة لأعمل معها من بين كل الفتيات، صارت الآن لدي وظيفة، وبراتب.
_ مبروك عليك، لو كنت أعلم لهنأتك..
_ شكرا لك.
_ هل تعرفين عيادتي؟
_ لا، أين تقع؟
_ بالقرب من عملك فقط...يمكنك أن تمري على عيادتي في طريقك إلى العودة!
- حسنا سأفعل بإذن الله.
- شكرا لك على الشاي، علي الذهاب الآن، أنتظرك لتزوريني...
- إن شاء الله...
- آه كدت أنسى! تفضلي...
- ما هذا؟
- هدية لك.
- لي أنا؟! بأي مناسبة؟
- بمناسبة أننا صرنا صديقين.
- وما هي؟
- افتحيها لتعرفي، الوداع الآن.
- ولكن...
غادر الشاب، تاركا الهدية في يدي،فأسرعت إلى غرفتي وجلست على السرير، أفتح الهدية في حماس، أخرجت قلادة فضية، يجذب لمعانها وبريقها العيون، تأملتها مدهوشة بجمالها، محدثة نفسي:" ما أجملها لا بد وأنها غالية الثمن، ولكن...لم سيتكلف عناء شرائها من أجلي، ألمجرد أننا صرنا صديقين؟
أمر غريب...سأقول له ما يدور في خاطري، ولكنه سيجيبني إجابة غير مقنعة بالتأكيد..."
ارتديتها ووقفت أمام المرآة قائلة:
_ كم تبدو جميلة على جيدي.
لكنني سرعان ما نزعتها وخبأتها تحت ملابسي في الخزانة،وذهبت إلى المطبخ، لأعد العشاء، كنت شاردة الذهن كثيرا، فمرة أحرق الخبز، ومرة ينزلق مني الفنجان فيسقط على الأرض، لقد أخذت الهدية بتفكيري إلى أبعد الحدود...
خرجت للعمل في صباح الغد، وفي طريق العودة جعلت أرقب هنا وهناك لعلي أرى عيادة الطبيب" جهاد"، وقد رأيتها بالفعل، مررت من هناك، فرأيت عيادته ممتلئة بالمرضى فترددت بالدخول، لأقرر في الأخير الذهاب إلى المنزل، كنت أنتظر على أحر من الجمر نهاية الأسبوع لأرى " جهاد"...وكان يأتي ملبيا تلك الرغبة الصامتة، ولكن هذه المرة، شردت وأنا أراقبه يقوم بعمله، تتداعى الأفكار في داخلي، هل أفاتحه في موضوع الهدية أم لا؟ لكن صوته قطع شرودي وهو يقول لي:
_ أراك لم تعدي لنا كأس شاي كالعادة.
_ أنا آسفة، لقد كنت شاردة الذهن قليلا...سأعده حالا.
_ تعالي، لقد كنت أمزح فقط، أود أن أتكلم معك...حسنا لندع أبي يرتاح، ولنتحدث في الخارج.
بعد أن خرجنا إلى غرفة الجلوس، جلست معه مضطربة، بابتسامة مصطنعة، يلفها القلق والخوف، فعرف ذلك مني فقال:
_ لست على طبيعتك اليوم، لاشك أن الهدية أعجبتك.
_ الهدية...أجل، بالتأكيد...
_ أرجو أن تقبليها تعبيرا عن إعجابي بك.
سكت وخيم الصمت على جلستنا، فقال:
_ أعلم أنني لم أمهد لها تمهيدا جيدا، ولكن ماذا أفعل؟ أرجوك...لا تقولي شيئا الآن..فكري في كلامي جيدا وأنا أنتظر الجواب منك.
وقام وغادر دون أن يزيد كلمة واحدة، أما أنا فقد أذهب ذهولي ودهشتي مناداة أبي لي، لبيت النداء، وجلست بقربه ثم قبلت رأسه وقلت:
_ سمعا وطاعة يا والدي.
_ هل غادر " جهاد"؟
_ أجل.
_ كم هو لطيف ذلك الشاب، وفقه الله...أرى أنكما صرتما تتحدثان كثيرا، فهلا أعلمتني، بما يدور يا ابنتي؟
_ ليس شيئا مهما يا أبي مجرد حديث عادي لا غير.
_ اسمعيني يا ابنتي، أنا قد هرمت، وهدني المرض كما ترين، ولا أرى إلا أن أجلي صار يدنو، لذا فسأطلعك على أمر فعلته ، دون علم لك به.
_ لا تقل هذا يا أبي أطال الله في عمرك...
_ اسمعيني يا عزيزتي أرجوك...لقد كتبت كل ما أملك لك، بما في ذلك هذا المنزل، لأنك الوحيدة التي بقيت لي...وأوراق الملكية في ذلك الدرج، خذيها.
_ لا يا أبي لا أريد منك شيئا أريدك أنت...
_ هذه سنة الحياة، نموت نحن، لنفسح المجال لمن يولد.
بكيت قليلا ثم قمت إلى غرفتي لآخذ قسطا من الراحة، فقد أحسست بأنني بحاجة ماسة إلى الإستلقاء قليلا.
رأيت نفسي في ملابس حمراء، وأمامي "جهاد" يمد يده لي، يطلب مني إمساكها، تخيلت نفسي بين أحضانه، متناسية كل ما عشت من الأسى،وتخيلت نفسي أحمل بين ذراعي رضيعا، هو ابني أنا "وجهاد"
كم كنت آمل أن تتحقق كل هذه الأحلام والأماني.
وبالفعل تم ما أردت، وكتب الله لي الزواج من "جهاد"، بعد وفاة الشيخ الذي رعاني ولم يبق لي أحد في هذا العالم، قبلت به لأني ظننته سيحميني من قسوة الزمن، سيمنحني الحب والحنان، اللذين حرمت منهما، لم نقم عرسا لأنه ليس لنا أحباب ندعوهم للحضور، فكلانا مقطوع من الشجرة كما يقال.
ولأول يوم نكون فيه مع بعضنا كزوجين، كان جهاد يتودد إلي كعادة أي زوج مع زوجته، ولكنني ودون إرادة مني، صدر مني رد فعل غريب، فقد نفرت منه وابتعدت، استغرب لذلك وسألني مستفسرا:
_ ما الأمر يا عزيزتي؟
_ لا شيء سوى...
_ سوى ماذا؟
_ لا بأس...
حاول الإقتراب مني فصرخت:
_ لا تقترب أرجوك ابق بعيدا
_ وردة، ما بالك؟ أنا زوجك...
_ أعلم أنك زوجي وأحبك بشدة، ولكنني أتصرف خارج حدود إرادتي صدقني...
_ وردة، أخبريني بماذا تحسين؟ وبم تفكرين؟
_ لا أستطيع، لا أستطيع.....
_ تكلمي يا وردة، وأريحيني.
_ ستتخلى عني إن أخبرتك
_ تكلمي هيا، ستصيبينني بالجنون..
_ حسنا سأتكلم...فلا تغضب.
_ هيا أسمعك.
_ منذ سنوات...حاول أحدهم الإعتداء علي...لذلك...كلما اقتربت مني ...تذكرت الأمر...
وبدأت أبكي و صمت جهاد مدة ثم سألني:
_ وهل....؟
_ لا، لا....لم يحدث ما تفكر فيه هربت في اللحظة الأخيرة.
_ ومتى هذا؟ وكيف؟ ولم لم تخبري والدك...
_ جهاد....هذا هو الموضوع فحين وقع الحادث، كنت أعيش في الشارع، ومن كنت تعتقد أنه أبي ليس أبي، بل أهلي ماتوا كلهم في الحرب، ووجدني العجوز في الشارع، فأخذني واعتنى بي...هذا كل ما في الأمر...هل أنت مرتاح الآن...؟
_ لم أخفيت عني كل هذا؟ لم لم تخبريني؟
قالها بصوت عال وفي غضب، فأجبت في خوف شديد...
_ خفت أن أخسرك
_ ومن يضمن لي أنك....تعالي إلى هنا اقتربي الآن
أمسكني بالقوة وصار يجرني إلى غرفة النوم، فجعلت أبكي وأقول:
_ وما ذنبي أنا؟ أنا أيضا ضحية، أرجوك ارحمني..
ولا حياة لمن تنادي. تجاهلني بالكلية، وصمم على أن ينفذ ما في رأسه، رغم ألمي...تأكد من أنني لا أزال فتاة، فهدأ هو واطمأن، ليزيد ألمي أنا ضعفين..مرضت نفسيا، وصرت أتوهم أشياء لا أساس لها من الصحة، فكان حين يدخل إلى المنزل يحييني بالضرب، وحين يخرج يودعني بالضرب، أنهكني وأتعبني، ولكنني ما اشتكيت يوما، ولا أغضبته...لأنني أحببته، أحببته من أعماق قلبي، حبا لن أستطيع وصفه، تحملت في سبيل أن يظل بقربي الكثير و الكثير...وذات مرة مرضت مرضا شديدا، فكنت مستلقية على الفراش مغمضة العينين، لكنني كنت أسمع كل شيء، فأحسست بجهاد يقترب مني، فقبل رأسي وبدأ يخاطبني:
_أحبك يا وردة، أحبك...سامحيني أرجوك، أنا لا أريد إيذاءك، ولكن رغبة قوية هي التي تدفعني إلى ضربك، أرجوك سامحيني...لن أؤذيك مرة أخرى. وداعا.
وغادر، فرحت حينها واستبشرت،وقلت أنه لن يضربني مجددا وسيتغير، لكنه غادر دون عودة، كي يقطع أذاه عني، جلست أنتظره أن يعود...أياما وشهورا وسنوات، ولكنه ما عاد، ما عاد لمنزله، وما عاد لعيادته، ترك كل شيء ورحل دون وجهة، بعت المنزل بما فيه، وسخرت جهودي للبحث عنه،وهنا بدأت رحلتي.......... لأستقر في رحلتي في هذه القرية، وأشتري هذا المنزل المجاور لك يا عم وأستقر هنا.



#سومية_محمد_النبالي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- منارة العلم العالمية.. افتتاح جامع قصبة بجاية -الأعظم- بالجز ...
- فنانون روس يسجلون ألبوما من أغاني مسلم موغامايف تخليدا لضحاي ...
- سمية الخشاب تقاضي رامز جلال (فيديو)
- وزير الثقافة الإيراني: نشر أعمال لمفكرين مسيحيين عن أهل البي ...
- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- ألف ليلة وليلة: الجذور التاريخية للكتاب الأكثر سحرا في الشرق ...
- رواية -سيرة الرماد- لخديجة مروازي ضمن القائمة القصيرة لجائزة ...
- الغاوون .قصيدة (إرسم صورتك)الشاعرة روض صدقى.مصر
- صورة الممثل الأميركي ويل سميث في المغرب.. ما حقيقتها؟
- بوتين: من يتحدث عن إلغاء الثقافة الروسية هم فقط عديمو الذكاء ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سومية محمد النبالي - وردة