أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعيد بودبوز - الضحك عقوبة!















المزيد.....



الضحك عقوبة!


سعيد بودبوز

الحوار المتمدن-العدد: 4292 - 2013 / 12 / 1 - 15:59
المحور: الادب والفن
    


المضحك مذنب، والضاحك معاِقب، والضحك عقابٌ للمضحك على وقوعه فيما يوجب الضحك. العقل يضحك فينا على ما حاد عن المعقول، كلما تحرَّر وحرَّر المضحك من العواطف. وهذه الأخيرة رداءٌ للأفكار والأحداث والمشاهد ذات المعقولية الناقصة، إذا خلع هذا الرداء، ظهرت سوءة المضحك فيها، وضحك العقل عقابا لها على الخطيئة. لم تكن ظاهرة "الضحك" بمنأى عن التأمل الفسلفي منذ صباح الفكر الإغريقي عموما، أو أرسطو على وجه الخصوص، إلا أنه، كغيره من مواضيع التأمل والبحث، لم يعط ثماره شبه الناضجة، برأيي، إلا مؤخرا على يد ثلة من الباحثين الغربيين، وعلى رأسهم هنري برجسون الذي حاول بذكاء وجرأة أن يستخرج مجموعة من القوانين التي يكتسيها الموضوع المضحك. ولعلنا، حين نتأمل هذه القوانين، لا نكاد نجدها بعيدة عن القانون الذي توصل إليه، قبل ذلك، هربرت سبنسر الذي ذهب إلى أن الضحك عبارة عن "الجهد الذي يلتقي فجأة بالفراغ"[1] وكذلك ما ذهب إليه "كانت" قبله من "أن الضحك ينشأ من انتظار ينحل فجأة إلى لاشيء"[2] ولا تخفى عن القارئ ملامح التشابه بين القانونين، إلا أن هذا طبعا يحتاج إلى تفصيل، ولا نرى تفصيلا أسلس، جامعا بين عمق الفكرة وبساطة العرض، من تفصيل هنري برجسون، فإذا كان لنا أن نلخص نظريته في "الضحك"، فإن هذه النظرية تقوم على أن الضحك ينتج عن الامتزاج بين ما هو آلي وما هو إنساني عموما، أو بين ما هو صناعي وما هو طبيعي. ولكي نحاول جرّ هذه النظرية إلى أقصاها، ما سمح به الزمان والمقام في هذه الورقة، متحاشين الوقوع في التكرار الذي لا طائل منه، سنحاول رصد الخيوط العميقة التي تربط هذه القوانين ببعضها مساهمةً منا في استخراج قانون أكثر شمولية وعمقا. يقرر هنري برجسون بأنه "لا مضحك إلا فيما هو إنساني"[3]. فلا مناص من قبول هذا التقرير إن بوجه، أو بآخر، لأنه لا يوجد حيوان ضاحك غير الإنسان، ومن هنا نفهم بأن هناك ظواهر غير إنسانية يمكن أن تضحكنا، لكن هذا الضحك لا ينتج عن تلك الظاهرة بشكل مباشر، وإنما يقوم على استبطان الفعل الآدمي الذي أدخل على تلك الظاهرة عنصر الإضحاك، وذلك من خلال الاصطناع أو إضفاء الطابع الآلي عليها. مثلا: "قد نضحك من قبعة، ولكن الذي يضحكنا فيها آنئذ ليس قطعة الجوخ أو القش، بل الشكل الذي فصلها عليه إنسان"[4]. "وقديما انتبه الفلاسفة إلى هذه الحقيقة البسيطة، فعرف كثير منهم الإنسان بأنه حيوان يضحك (بفتح الياء) وكان في وسعهم أن يعرفوه كذلك بأنه "حيوان يضحك" (بضم الياء). [5] إذن، فالإنسان ليس هو الضاحك الوحيد بين الحيوان فحسب، وإنما هو المضحك الوحيد أيضا، كما يقرر برجسون. قد يضحكنا بشكل مباشر، من خلال ما يظهر عليه من ملامح الإضحاك. وقد يضحكنا بشكل غير مباشر من خلال تضحيكه لما هو غير آدمي. ترى: "ما هو العنصر المشترك بين كشرة من "مهرج"، ونكتة في لفظ، ولبسة في مهزلة، ومشهد لطيف في ملهاة؟"[6] هذه مظاهر تبدو لنا مختلفة من حيث انتشارها على سطح الظاهرة، إلا أن هناك ما يجمعها في العمق على ما يبدو. إذا كان الإنسان وحده الضاحك والمضحك في الطبيعة المدركة، فإن العقل هو الجهاز النفسي الوحيد الذي يسمح له بالضحك، ولا يسمح له بالبكاء. أما العاطفة، فيبدو أنها، خلاف العقل، تسمح بالبكاء، ولكنها لا تسمح بالضحك !. "إن مجتمعا مؤلفا من عقول محضة قد لا يبكي أبدا، ولكنه يظل يضحك"[7]. إذا سلمنا بهذه النتيجة، فإذن يكفي ألا يكون عندنا عقل حتى لا نضحك، وكذلك يكفي ألا تكون عندنا عاطفة حتى لا نبكي. من هنا (أي من سطح الظاهرة) ننطلق إلى عمقها، فنقول بأن السبب الذي يجعل من الإنسان الكائن الضاحك والمضحك الوحيد في الطبيعة المدرَكة هو أنه يملك عقلا، وأن السبب الذي يجعله الكائن الباكي الوحيد في هذه الطبيعة هو كونه يحمل عاطفة. إنني أقول هنا "الباكي" وأتمنى أن تأتي فرصة لأتحدث عن موضوع "البكاء" كما أتحدث الآن عن موضوع "الضحك" لكي أتحدث بما تيسر من التفصيل عن كون الإنسان "الباكي والمبكي" معا في (عمق) هذه الطبيعة، حتى وإن كان غيره أيضا يبدو مبكيا على (سطحها). إذن، فالنفوس العاقلة هي التي تضحك "أما النفوس المتأثرة أبدا، والمتصلة بأوتار الحياة فتهتز للحوادث رنينا عاطفيا، فإنها لن تعرف الضحك ولن تفهمه. "[8] فبعقولنا ننتزع المشاهد من سياقاتها العاطفية، أو المثيرة للعواطف، ومن ثمة تبدو لنا عارية من الحمولات المتوجهة إلى ملكة العقل، وعندها ليس أمام هذا الأخير إلا أن يصدر أمرا يقضي بعقوبة هذا المشهد، وما العقوبة في هذه الحالة إلا إصدار موجة أو موجات متتالية من الضحك. "يكفي أن نسد أذاننا دون أصوات الموسيقى، وفي قاعة رقص، حتى يبدو لنا الراقصون مضحكين."[9]. إذا لم نسد أذاننا، فلن نجد في نفوسنا داعيا للضحك، لأن حركة الرقص آنذاك تبدو لصيقة بصوت الموسيقى الذي يعطيها نكهة مثيرة للعواطف، وهذه النكهة هي المعنى الذي يقنع العقل فيضمن رضاه كي لا يصدر عقوبة الضحك. ومن يدري، قد يبكي الإنسان أمام هذا المشهد إذا ما طغت عليه الموسيقى المثيرة للعواطف، تماما كما أننا قد نضحك إذا فصلنا الرقص عن تلك الموسيقى. وقس على ذلك في مختلف الأفعال الإنسانية التي نستقبلها بحسب قدرتها على اكتساب الصبغة العاطفية أو العقلية. "ألا نرى كثيرا منها ينقلب من فعل خطير إلى فعل مضحك إذا نحن عزلناه عن الموسيقى العاطفية التي ترافقه؟ فلكي يحدث المضحك ما يحدثة من تأثير لابد أن يتوقف القلب برهة عن الشعور لأنه يتوجه إلى العقل المحض."[10]. نفهم مما تقدم أن للضحك طابعا عقليا، ونضيف أن له طابعا اجتماعيا "فنحن لا نتذوق الضحك في حالة شعورنا بالعزلة"[11] وبشكل تلقائي نلاحظ بأن البكاء، على العكس، يميل بنا إلى العزلة. هنا يتبدى لنا بأن للعقل علاقة بما هو اجتماعي في كونه الملكة النفسية التي تسمح للإنسان بالضحك من خلال استبطان فعل "العقاب". ففي عمق الظاهرة، يقوم العقل بإصدار موجات الضحك عقوبة للمضحك. وهذا يعني أن الضحك، على المستوى النفسي (الفردي)، أداة من الأدوات التي يحافظ بها العقل على البنية السليمة لمعقولاته. ويبدو كذلك أن الضحك هو أداة من الأدوات التي يحافظ بها المجتمع على البنية السليمة لأفراده- وهذا ما نستشفه من نظرية برجسون على الأقل- إذ أن الضحك "ضرب من "الإشارة الاجتماعية". فهو بالخوف الذي يوحي به يقمع الابتعاد عن المركز، ويجعل الفاعليات الثانوية التي يخشى أن تنعزل وتنام، دائمة اليقظة متبادلة الصلة، ويبعث اللين في كل ما قد يبقى على سطح الجسم الاجتماعي من تصلب آلي."[12].هنا نلاحظ بأن الضحك يكافح "التصلب الآلي" على المستوى الاجتماعي. وقبل أن نحلل هذه النقطة بما يكفي لاتضاحها أمام القارئ، سنأخذ مثالا على هذا "التصلب الآلي" في حالة الفرد. هذا "رجل يركض في الشارع، فيتعثر فيسقط، فيضحك المارة. ما أظنهم كانوا يضحكون لو كان بدا لهذا الرجل فجأة أن يقعد على الأرض بملء اختياره. ولكنهم يضحكون لأنه قعد على الأرض في غير إرادة منه. وإذن، فليس تغير وضعه بغتة هو الذي يضحك، بل ما ليس إراديا في هذا التغير"[13]. وما ليس إراديا هو ما يمكن أن نسميه "آلياً". لو دققنا جيدا في هذه المسألة، فسنجد أن جزءً من هذا الرجل فقط هو الذي طالته الآلية التي أدت به إلى السقوط. فربما كان ذلك الجزء قدمه، أو على كل حال، فإن الشق الجسدي لهذا الإنسان هو الذي طالته الآلية المثيرة للضحك، وليس الشق الروحي أو العقلي. "فلعل حصاة في الطريق هي التي أسقطته فكان ينبغي له أن يغير سلوكه أو يحيد عن الحاجز، ولكنه، لنقص في المرونة، لذهول أو عناد في الجسد، لصلابة أو لسرعة مكتسبة استمرت عضلاته في إجراء نفس الحركات"[14] .لكي نجمع شظايا هذه النظرية، من المفيد أن نشير إلى أن "القدم"، (= الجزء) من الإنسان، أثار الضحك الفردي (عقابا له من العقل على تخلفه المادي عما هو روحي/عقلي) يساوي "الرجل" (= الجزء) من المجتمع، الذي يثير الضحك الجماعي (عقابا له من العادة الاجتماعية على تخلفه الفردي عما هو اجتماعي/معقول). وهكذا تتدرج بنا البنية الهرمية لـ "لمضحك" من الفرد، مرورا بالمجتمع، وصولا إلى الطبيعة. وذلك بالموازاة مع التدرج الضمني لهذه البنية من العقل، فالعادات الاجتماعية، فالمظاهر الطبيعية. من هنا نعرف كيف نجر ما ذهب إليه برجسون إلى أقصاه، وهو قوله المذكور أعلاه: "إنه ضرب من "الإشارة الاجتماعية". فهو بالخوف الذي يوحي به يقمع الابتعاد عن المركز" . إن المطلوب اجتماعيا هو المواظبة على الدوران في الفلك الاجتماعي، احتكاما إلى تقاليده وعاداته، وإلا أصبح المتخلف عن ذلك مثيرا للضحك (= العقوبة). وكذلك، المطلوب، على المستوى الفردي، هو المواظبة على دوران أجزاء الإنسان (أعضاء الجسم) في الفلك الروحي/ العقلي لهذا الإنسان، احتكاما إلى ما هو معقول، وإلا أصبح المتصلب منها (آليا) "فهذه الصلابة هي المضحك، والضحك قصاصها"[15] .تدفع بنا هذه النظرية إلى الإدراك بأن تحويل الواقع التعيس إلى نص مضحك، ما هو في العمق إلا قصاص من هذا الواقع، لأن عملية "التضحيك" هنا تتضمن التحريف والتسخيف من أجل إنتاج السخرية. وهكذا يتحول الجور السياسي مثلا إلى مهزلة مضحكة في رأس الكاتب قبل أن تركب رأس النص. بيد أن الكثير مما كان جرما في الواقع، يستوجب عقوبة "السجن" أو "الإعدام"، يصبح، في الأثر الفني، قابلا للتضحيك. وما هذا الأخير إلا اعتقال وعقاب لا شعوري لما أصبح مضحكا. لعل هذا مما يقف وراء انفراز الميول الساخرة في الفن عقب مجموعة من المآسي التي يتصدرها الجور السياسي عادة. يدفع برجسون التعبير المضحك إلى التصلب الآلي، ومن ثم إلى السكون، على أن التعبير الجميل حيوي ومتحرك. "أما التعبير المضحك في الوجه فهو الذي لا يرجى منه غير الذي يعطي. إنه جعدة واحدة ونهائية، حتى لكأن كل الحياة النفسية لهذا الشخص قد تبلورت في هذه المنظومة. ولهذا كان الوجه يزداد إضحاكا بقدر ما يوحي إلينا بفكرة فعل بسيط، يستغرق الشخصية إلى الأبد."[16]."الفعل البسيط الذي يستغرق الشخصية بأكملها" دلالته العميقة أن ما هو مادي يسعى إلى التغلب على ما هو روحي. وما هو جوهري يسعى إلى التغلب على ما هو شكلي..الخ. فالجسد يسعى للتغلب على الروح (أو العقل)، من خلال تغلب الصلابة على المرونة، أو الكثافة على اللطافة، ومن خلال تغلب الفعل الآلي على الفعل الإرادي، والاصطناعي على ما هو طبيعي. من هنا كان بعد التعبير الجميل عن إثارة الضحك عائدا إلى قدرته على الاستجابة الحيوية لسيرورة الحياة باعتبارها دائمة التغير والتجدد. إذن، فالتعابير الوجهية كلما اتسمت بالصلابة، كانت مثيرة للضحك، "ولكن ضحكنا يزداد إذا استطعنا أن نربط هذه الصفات بسبب عميق، "بذهول أساسي" في الشخص، كما لو سحر النفس ونومها عمل مادي بسيط. وههنا نفهم المضحك في "الكاريكاتور". فالهيئة، مهما انتظمت، ومهما انسجمت خطوطها ومرنت حركاتها، لا يمكن أن يكون التوازن فيها تاما تماما مطلقا، فهي أبدا نذيرة باعوجاج، وإيذان بجعدة، أي فيها تشوه ما، كأن يمكن أن يعيب الطبيعة. وفن "الكاريكاتوري" يقوم على إدراك هذه الحركة التي قد لا تدرك، يضخمها ويجعلها مرئية لكل الناس"[17].فالصلابة من طبيعة المادة، والمرونة من طبيعة الروح. وبما أن الإنسان، في لاشعوره، يدرك بأن كينونته أعمق وأوسع مما تبدو عليه في حدود انتشارها المادي، فلابد من أن يترتب عن ذلك استحضاره لمخطط الكمال المنطقي الذي يسعى العقل، من خلال الحياة الروحية، لتحقيقه. وهذا الكمال المنطقي لدى الفرد، يتجسد في الكمال الثقافي للمجتمع، بمعنى التقاليد والعادات. نعم، إن ضحكنا يزداد إذا استطعنا أن نربط هذه الصفات بسبب عميق، "بذهول أساسي" في الشخص، لأن التفاتنا إلى ما قد يوضح لنا بأن تلك التعابير "تصلبت" بشكل إرادي يعني أنها ليست آلية، وبالتالي فلن تعود مضحكة. في سياق عرضه لمجموعة من الأمثلة على القوانين العاملة في عمق المضحك، تحدث برجسون عما سماه "التنكر" وتوصل إلى القانون التالي: "إن الرجل الذي يتنكر مضحك، والرجل الذي قد يظن أنه متنكر مضحك أيضا، وبالامتداد سيغدو كل تنكر مضحكا، لا تنكر الإنسان فحسب، بل تنكر المجتمع أيضا، بل تنكر الطبيعة كذلك"[18]( أحيل القارئ على كتاب "الضحك" لبرجسون إذا أراد التوسع في أمثلته وتفاصيله، لأن المجال هنا لا يتسع إلا لبعض الإشارات) .ويقارن، على سبيل المثال، بين شخص يلبس لباسا قديما فيثير الضحك بسبب تنكره لحياته الراهنة (العصر)، والزنجي الذي يمكن أن يضحك إذا التفت انتباهنا إلى كون اللون الأسود مجرد قناع يتنكر فيه من البشرة الآدمية الأخرى. وحين ندقق في مسألة التنكر هذه نجد، في الواقع، أن لها علاقة بـ "التصلب الآلي"، لأن اللباس القديم يضحكنا بقدر ما تركز عقولنا على أن هناك عصيانا ما في شخصية الذي يلبسه، وهذا العصيان يمنعه من التمييز بين اللباس القديم واللباس المعاصر. إن هذا العصيان بالضبط هو "التصلب الآلي" الخارج عن إرادة صاحب اللباس القديم، وقس على ذلك في شأن الزنجي. حين ينتقل برجسون إلى الطبيعة يقول:" إننا نضحك من كلب جز من شعره نصفه، ومن حديقة أزهارها ذات ألوان مصنوعة، ومن غابة فرشت أشجارها بإعلانات انتخابية، الخ...ولو بحثتم عن سبب ذلك لوجدتم أنه أصرف ذهنكم إلى نوع من التقنع"[19]. بعد أن ربطنا، بعجالة، "التنكر" بـ "التصلب الآلي" يمكننا كذلك أن نلاحظ بأن هذا "التقنع" ليس ببعيد عن ذلك. وبناء عليه، يتبين لنا بأن كل ما هناك أن المستوى الذي يعالج فيه برجسون ظاهرة من ظواهر الإضحاك، أعمق من المستوى الذي يعالج فيه الأخرى، أي أنه كان من الممكن أن يعالج ظاهرة "التقنع" مثلا في مستوى "التصلب الآلي". على كل حال، بين حين وآخر يشير إلى مسألة التصلب الآلي مذكرا القارئ بطبيعة الخيوط المنهجية التي نسج بها أطروحته، وإن تم ذلك أحيانا بشيء من الخفوت، مما يستدعي بعض الجهد من القارئ كي يتولى بنفسه الربط بين محور وآخر. نتيجة "العصيان"، ذي الطابع آلي، لم يقم الإنسان بجز شعر الكلب كله، أو بشكل لائق. ونتيجة نفس العصيان، لم يتم اصطناع الحديقة بأكملها، وكذلك لم يفرق المعلن بين الغابة والشارع. ومن الواضح أن هذه الأمور منافية للعقل، ولذلك توجب على هذا الأخير أن يعاقبها بالضحك. ولكي يخاطب فينا برجسون الوعي البنيوي، ينتقل بنا إلى دراسة الحالة "اللامضحكة" التي تقوم على أنه إذا سلمنا بفرضية أن تحول ما هو طبيعي إلى آلي يثير الضحك، فالعكس إذن صحيح، أي أن ما هو في كامل مرونته الحيوية، ودائم يقظته، لا يضحك، لأن الحياة، حسب نظريته، لا يتكرر فيها شيء أبدا، فهي دائما يجب أن تسير في تغير وتجدد، وأنها متى حصل فيها تكرار، حصل الضحك. إن العقل يدرك بأن الحياة المعقولة السليمة يجب ألا يتكرر فيها شيء، ولذلك يصدر الضحك عندما يتكرر فيها شيء. فما لا يثير الضحك في عمق الظاهرة إذن هو النشاط، "وهذا النشاط كان ينسب في الواقع إلى الروح أكثر منه إلى الجسد، فكأنه شعلة الحياة نفسها، أذكاها فينا مبدأ أسمى، ونلمحها من خلال الجسم بضرب من الاستشفاف. فلئن كنا لا نرى في الجسم إلا رشاقة ومرونة، فلأننا نغفل ما فيه من ثقالة ومقاومة، نغفل ما فيه من مادي، وبنسياننا ماديته لا نفكر إلا في حيويته التي يعزوها خيالنا إلى مبدأ الحياة العقلية والروحية نفسه"[20] .فالعقل إذن، من خلال عقوبة الضحك التي ينفذها في حق المضحك، إنما يسعى، في الواقع، إلى بناء الجسم على مقاسه. وإذا كان من الصعب على الجسم، باعتباره مادة، أن يجاري العقل باعتباره ملكة روحية، فليس أمامه إذن إلا سلسلة من التعثرات. وبناء على ذلك، فليس أمام العقل إلا أن يصدر سلسلة من الضحكات. إن إغفالنا المعتاد لمسألة الفصل بين الطبيعة الجسمية والطبيعة الروحية اللتين تتقاسمان كياننا الإنساني، هو المغذي الأساسي لشعورنا بالضحك أمام أي تعثر آلي. هذا الإغفال، أو النسيان، هو المغذي أيضا لذوقنا الجمالي، لأننا، مبدئيا، راضون عن الخلقة الآدمية التي خلقنا عليها، و نعرف جيدا كيف يمكن لشيء أن يكون جميلا، وكيف يمكن للآخر أن يكون أجمل منه. لأننا، في أعماقنا، نحمل صورة المعيار المتعالي لجمال الإنسان، تلك الصورة التي تكاد تنشطر إلى نصفين بين جاذبيتين؛ إمكانية المادة المحدودة، ومقتضيات الكمال الروحي الهائل. "لنفرض أن البدن، بدلا من أن يشارك روحه في خفتها، يغدو في نظرنا غلافا ثقيلا مربكا، أو صابورة مزعجة تشد إلى الأرض نفسها تتحرق إلى هجر التراب. عندئذ يكون الجسد للنفس بمثابة الرداء للجسد نفسه، أي مادة ميتة، وضعت فوق قوة حية. فمتى شعرنا شعورا جليا بهذا الوضع، أحسسنا بالضحك"[21] .إن العقل، بقدر ما يربي الجسم ويلقنه دروسا تلو الأخرى في كيفية التفوق على كل الحيوانات في هذه الطبيعة المدركة، يمكن اعتباره قاهرا للإنسان أيضا، فهو الذي لا يصح أن نقول عنه "إنه لا يرحم" فحسب، بل الأدق هو أن نقول "إنه لا يعرف ما هي الرحمة أصلا". لأن الرحمة من اختصاص العاطفة، أما العقل فلا يعرف كيف يقوِّم اعوجاجنا اللامعقول إلا بالضحك. من هنا يعلن برجسون بجرأة أن "كل حادث يلفت انتباهنا إلى الجانب المادي من الشخص حيث نكون بصدد الجانب الروحي، فهو مضحك"[22]. حين نصل إلى هذا القانون ينبغي أن ننتبه إلى أن الجانب المادي للإنسان (الجسد) قد أصبح (بمقتضى هذه النظرية) بمثابة الجانب الآلي الدخيل على الجانب الإنساني، وكذلك بمثابة الجانب الصناعي الدخيل على الطبيعي. فلقد أعطى برجسون مثالا على المشهد الطبيعي الذي يمكن أن يكون مضحكا في حالة لو أضفي عليه جانب آلي (صناعي)، كما تقدمت بنا الإشارة إلى ذلك، وكذلك الغابة المفروشة أشجارها بالإعلانات الانتخابية. فلو رأينا هذا المشهد لانتابنا الضحك حقيقة، وحين ندقق ما الذي أضحكنا بالتحديد، سيتبين لنا بأن إقحام الجانب الآلي (الصناعي/ الإعلانات) فيما هو طبيعي (الغابة) هو الذي أضحكنا. ولكي نتدرج خطوة من التخصيص إلى التعميم، ينبغي أن نوسع نطاق الأمثلة، وكذلك القوانين التي استخرجها برجسون من خلال استقرائه لمختلف تجليات المضحك، "فإذا وسعنا الآن هذه الصورة، صورة الجسم يظهر على الروح، حصلنا على صورة أعم، هي صورة الشكل يريد أن يعلو على الجوهر، والنص يماحك الروح"[23] .فالضحك إذن يحصل نتيجة لانتقال خيال الضاحك من التقاط صورة الإنسان إلى التقاط صورة الشيء التي حلت فيه صورة الإنسان مؤقتا. وهنا نلاحظ بأن الأمر يتعلق بما هو إنساني، وما هو غير إنساني، وهو ما يمكن أن نسيمه "التقسيم البسيط"، لكن هذا التقسيم ينطبق عليه نفس ما ينطبق على "التقسيم المعقد"، والذي هو من عيار الفصل الإجرائي للجسد عن الروح، أو، بصورة أكثر عمومية، "الفصل بين الجوهر والشكل". فكلما حاول الجسم أن يجاري نشاط الروح، نتج عن عدم استطاعته ما نسميه بـ "الضحك". وكلما حاول الشكل أن يطغى على الجوهر، حصل الضحك عقوبة لما في ذلك من الانحراف عن سكة المعقول. إن جهازنا اللاشعوري إذن، يتعامل مع هذه الصور بنفس الطريقة. فهو يعامل الآلة التي تشارك الإنسان في الصورة الملتقطة تماما كما يعامل الجسد في صورته مع الروح أو النفس أو العقل. "نحن نضحك من كل شخص يوحي إلينا بفكرة شيء. إننا نضحك من سانشو بانسا الذي قلب على غطاء، وقذف في الهواء كأنه كرة. ونضحك من البارون مونشهاوزن، إذ أصبح قذيفة مدفع تنطلق في الفضاء"[24] .أذكر هنا بأن خير الدين بربروس[25] قد أقدم فعلا على وضع أحد الجنود الإسبان في فوهة المدفع، وقذف به في البحر جزاء اعتدائه على المآذن في الجزائر، إذ كان هذا الجندي يقصف المآذن بالمدفع كلما سمع الآذان، ولقد سبق لي أن تحدثت عن ذلك[26] في إطار دراستي النقدية لإحدى الروايات [27]. هل كنا سنضحك لو نظرنا إلى قذيفة (الشيء) تخرج من فوهة المدفع؟ أكيد لا، ولكن لو رأينا شخصا (الإنسان) يخرج منها بدل القذيفة (الشيء) لتعالت ضحكتنا، بشرط أن يكون ذلك في مقام يسمح لنا بتحرير أنفسنا من الانفعالات العاطفية، وإلا فإن العاطفة لن تسمح لنا بالضحك إذا شاهدنا تلك الحادثة ونحن نصغي إلى الموسيقى العاطفية في أعماقنا، حتى وإن كان المشهد مضحكا بالفعل. ينبغي أن يكون بيننا وبين ذلك المشهد ما يسمح لنا بالتجرد من الانفعالات وتوجيه الصورة إلى العقل بشكل مباشر، عندها سنحضك. بعبارة أخرى: لا يستبعد أن يكون ضمن أتباع خير الدين بربروس من تعالت ضحكاتهم لهذا المشهد، فهؤلاء يمكن أن يكون العداء القائم بينهم وبين الإسبان، في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، كافيا لتحرير أنفسهم من العواطف التي يمكن أن تحول دون التلقي العقلي لصورة هذا الجندي المقذوف به عرض البحر. ولكن، في نفس الوقت، لا يستبعد أن يكون هناك من يمكن أن تمنعه عاطفته من خلال الاستجابة الانفعالية لهول الحدث، وكما أسلفنا أن العاطفة تعرف كيف تبكي، ولا تعرف كيف تضحك، خلاف العقل الذي يعرف كيف يضحك، ولا يعرف كيف يبكي. أشرنا إلى أن التكرار يمكن أن يكون مثيرا للضحك، لكن تكرار الكلمة "لا يضحكنا إلا لأنه يرمز إلى لعب نفسي خاص يرمز هو الآخر إلى لعب مادي صرف. إنه لعب الهر الذي يعبث بالفأر، ولعب الطفل الذي يدس العفريت في العلبة ثم يدسه. إنه هذا اللعب نفسه، وقد أصبح مرهفا وروحيا، وانتقل إلى أفق العواطف والأفكار"[28]. ويصل بنا برجسون، في ذلك، إلى تحديد القانون كتخطيط مجرد لمسألة تكرار الكلمات على المسرح قائلا: "ثمة طرفان في تكرار الكلمات الهزلية عامة، عاطفة محبوسة تنفلت كما ينفلت النابض، وفكرة تلهو بحبس هذه العاطفة من جديد."[29]. بهذا يحرر برجسون عنصر الإضحاك من عملية التكرار مشترطا على هذا الأخير توفر عنصر أدق من ذلك، وهو أنه "يرمز إلى لعب نفسي خاص يرمز هو الآخر إلى لعب مادي صرف". هنا ندرك بأن عملية الإضحاك تخضع، في بنيتها السيكولوجية، إلى عدة عوامل ومراحل يقوم أهمها على تبني رمزي لبعض المشاهد المضحكة التي مر بها الإنسان في تاريخه الطفولي. إن هذا القانون يقودنا إلى حشر ظاهرة الضحك فيما هو ثقافي نوعا ما، حيث يمكن إماطة الغطاء عن المضحك انطلاقا من عدة خلفيات لا يستبعد تباينها عن بعضها. إذا سلمنا بالتبني الرمزي للمضحك الطفولي، وإعادة عرضه عبر مختلف المراحل العمرية التي يمر بها الإنسان، فهذا يعني أن ما يضحكني ليس من الضروري أن يضحكك، لأن البيئة والظروف التي أثرت على بنيتي النفسية، في مرحلة الطفولة وغيرها، ليست بالضرورة نفس البيئية والظروف التي عشت فيها أنت. قبل أن نعود، مرة أخرى، إلى قول برجسون "إنه هذا اللعب نفسه، وقد أصبح مرهفا وروحيا، وانتقل إلى أفق العواطف والأفكار" من المفيد أن نذهب بالقارئ إلى النسخة الطفولية لهذا اللعب الذي أصبح مرهفا وروحيا (في نسخته الناضجة كما نرى)، والذي انتقل إلى العواطف والأفكار. فهذا الانتقال يطرح علينا السؤال التالي: ماذا كان هذا اللعب قبل أن ينتقل إلى العواطف والأفكار؟ وما دلالة هذا الانتقال؟. سنأخذ مثالا على النسخة الطفولية لهذه اللعبة، وهو- كما يورد برجسون- العفريت ذو النابض. جاء في هذا المثال:"لقد لعبنا جميعا، في طفولتنا، بالعفريت الذي يخرج من العلبة: نقعده فينتصب، ونضغطه إلى تحت فيقفز إلى فوق، ونخنقه تحت غطائه فما يلبث أن يدفعه ويبعثر من فوقه كل شيء. ولست أدري هل هذه اللعبة قديمة جدا. إلا أن هذا النوع من التسلية الذي تحتويه قد وجد في كل الأزمان. إنه نزاع بين عنادين، أحدهما، وهو الآلي المحض، ينتهي مع ذلك بالخضوع للثاني الذي يعبث به. إن القط الذي يعبث بالفأر، فيدعه في كل مرة يهرب كالنابض ثم ما يلبث أن يوقفه فجأة بضربة من ظفره، إنما يعبث عبثا من هذا النوع"[30]. ورغم أنه بإمكان القارئ، حقيقة، أن يجد الكثير من الأمثلة التي تدعم هذه المسألة، في الحياة العملية، أود أن أشير إلى أن الكثير من أفلام الكرتون تتضمن مشاهد من هذا النوع، إذ يتم فيها تأجيل الانتصار للطرف الغالب من أجل إثارة تسلية الأطفال وضحكتهم. إن هذا التحليل يجعلنا ندرك بأن التكوين السيكولوجي لـ"لمضحك" لا يختلف إبيستيمولوجياً عن الكثير من الظواهر النفسية المعقدة. فما الحلم إلا شاشة سيكولوجية تسمح لنا بتلمس مختلف الصور التي تلتقطها أجهزتنا اللاشعورية لما يحيط بنا. خاصة حين نستحضر فيها إدراكنا لما تقوم عليه من البنى الرمزية. إن العفريت، الذي كان يضحك الطفل بعناده الآلي الملموس والبسيط، سوف يتحجر في طبقة من طبقاتنا اللاشعورية ليتجسد، مرة أخرى، في صور مختلفة ومعقدة ومرهفة تحتاج إلى تحليل معقد، وإعادة تركيب شاقة، لكنه، على ما يبدو، موجود في كل الأحوال. ترى، ما الذي ساعد العفريت، بشكل أساسي، على معاندة الطفل في تلك اللعبة؟. إنه النابض، إذن "فلنتخيل الآن نابضا روحيا، لا ماديا، فكرة تقال فتكظم ثم تعود، موجة من الكلام تنفجر فتوقف ثم تستأنف. إننا الآن أمام صورة قوة تعند، وعناد آخر يقاومها. إلا أن هذه الصورة قد فقدت ماديتها."[31]. فبالموازاة مع تطور الإنسان، من مرحلة الطفولة إلى مرحلة النضج، يجب أن تتطور صورة "النابض" في لاشعوره من حالة "نابض العفريت"، في لعبة طفولية، إلى حالة "نابض روحي"، في لعبة المضحك والضاحك الناضجين، ليتجسد في مقومات صورة أكثر نضجا وقدرة على إضحاك الناضج، إلا أن بقايا "النابض" البدائي ما تزال مترسبة في قاع النفس على كل حال. فنحن الآن نجد أنفسنا أمام مشهد تتصارع فيه العاطفة مع الفكرة من أجل إنتاج الطاقة المضحكة. ها هي العاطفة تحاول الانفلات من عقالها، حتى إذا سجلت هذا الانفلات، أسرع العقل إلى عقلها من جديد، في معاندة لا تقل عن المعاندة القائمة بين الطفل والعفريت المذكورين. على سبيل المثال:"حين يروي دورين لأورجون نبأ مرض زوجته، فيقاطعه هذا باستمرار مستفهما عن صحة تارتوف يجعلنا نحس إحساسا غامضا بنابض ينفلت، وهذا النابض هو ما يعمد دورين إلى دفعه ثانية حين يمضي في كل مرة يستأنف حديثه عن مرض المير"[32]. هنا يتحول "النابض" المادي إلى "المقاطعة" المستمرة، والمزعجة التي قام بها أورجون، وأن "دس النابض في العلبة" الذي يقوم به الطفل، يتحول إلى مواصلة دورين روايته عن نبأ المرض الذي ألم بتلك الزوجة. من هنا ننتقل إلى لعبة أخرى تحدث عنها برجسون، وهي "لعبة الخيوط" أو ما يسميه بـ "الأراجوز ذو الخيوط". يقول: "ما أكثر المشاهد الهزلية التي يعتقد فيها شخص أنه يقول ما يقول ويفعل ما يفعل بملء حريته، فهو بالتالي يحتفظ بالجوهري من الحياة، على حين أنك إذا نظرت إليه من بعض الوجوه رأيته ألعوبة بين يدي كائن آخر يعبث به. إن الانتقال سهل من "الأراجوز" الذي يحركه طفل بخيط، إلى جيرونت وأرجانت اللذين يلعب بهما سكابان. بل اصغوا إلى سكابان نفسه وهو يقول: "لقد وجدت الآلة" أو يقول: "إن السماء هي التي قادتهما إلى شباكي"[33]. إنني لست أفهم ما يعنيه برجسون وكأنه شخص يتحدث إلي من الخارج، بل أفهمه بنوع من المخالطة الروحية (إن صح التعبير) وكأنه صوتي أنا ! فبالنسبة لي كقارئ لا أحتاج إلى أي مثال على هذه المسألة، لأنني طالما تأملت بنفسي في موضوع مختلف، ولامست ما يشبه هذا النوع من الاستقراء والاستدلال والاستنتاج، حيث لاحظت مثلا بأن كل الأشخاص الذين يمكن للإنسان أن يلتقي بهم في حياته، ينتهون، في عمق لاشعوره، إلى أشخاص يمكن عدهم على رؤوس الأصابع. وهؤلاء الأشخاص هم أفراد عائلته (أمه، وأبوه، وأخوه أو أخته، وخاله، أو عمه، الخ). أدرك، على سبيل المثال، بأنني لا أرى صديقي "زيداً" (في مرحلة نضجي) إلا من خلال صورة خالي "عمرو" التي ترسبت في قاع نفسي منذ الطفولة. ويكفي أن يكون هناك شبه بسيط جدا بين الاثنين، حتى أراه من خلال صورة خالي، وليس عمي، أو أخي الأكبر، أو غيره من الأفراد المعدودين المترسبة صورهم في قاع طفولتي. كما أدرك بأنني، في الواقع، لا أملك خيارا آخر، ولا تتسع نفسي لإنشاء حساب سيكولوجي لكل شخص أصادفه في حياتي. وأتمنى أن تأتي فرصة سوسيولوجية أو أنثروبولوجية لأتحدث عن هذا الموضوع بما أمكن لي من التفصيل، دون أن أدعي بأنني أسبق الباحثين إليه، لأنني قد أكون مخطئا، ودون أن أدعي بأن أحدهم سبقني إليه، لأنني، في الواقع، لا أعلم بذلك. بالفعل، إن لعبة الخيوط، وكذلك لعبة النابض، وغيرها من اللعب المماثلة، هي أيضا تكبر فينا ومعنا، تنتقل فينا من بعدها المادي إلى بعدنا الروحي، ومن ثم تتحول إلى مسألة فكرية أو عاطفية تكاد لا تُرى للعين المجردة تلك القرابة البدائية بينها وبين اللعبة. إن برجسون يتحدث عن "خيوط" لعبة، ونحن نضيف إلى ذلك أن الكثير من المظاهر السيكولوجية والاجتماعية من هذا النوع، والتي نمر بها في مرحلة النضج، لها خيوط تنتهي إلى يد الطفل ذاته الذي كناه في يوم من الأيام !. ذلك الطفل الذي كبر وتطور في وعينا، لكنه بقي صغيرا وبدائيا في لاوعينا. ذلك الطفل الذي نسعى الآن إلى تشخيص حضوره في أعماقنا، لم يعد يحرك خيوط لعبة "الأراجوز"، أو يضغط على العفريت كي يدخله في العلبة، بل يحركنا نحن من خلال ما يمكن أن نسميه بـ"الذاكرة اللاشعورية". ما معنى أن نضحك من شيء دون أن نفهم لماذا أضحكنا؟. فمن بين ما يعنيه أننا لا نضحك دائما بشكل مباشر، بل نضحك على المشهد المضحك، لأنه ذكرنا بما أضحكنا يوما ونحن أطفال. وبما أن عقولنا يجب أن تكون بدائية في مرحلة الطفولة، فمن الطبيعي أن يضحكها ما لا يبدو لها معقولا في تلك الطفولة. وكذلك ليس من الضروري أن يضحكنا، في مرحلة النضج، ما كان يضحكنا في أيام الطفولة. فنحن الآن، على الأرجح، لم تعد تضحكنا لعبة "العفريت" مثلا، ولا لعبة الخيوط، بشكل مباشر، لأن عقولنا كبرت معنا، وأصبحت ناضجة، بحيث لا يضحكها إلا ما هو قادر على مخاطبة هذا المستوى الناضج من العقل، حتى وإن تعلق الأمر بخطاب اللامعقول المثير للضحك (العقوبة). ولكن هذه اللعب، التي لم تعد تضحكنا بشكل مباشر، قد أصبحت تضحكنا بشكل غير مباشر؛ أي من حيث هي ناضجة فيما حدث بين دورين وأرجون مثلا. كل هذا يقودنا إلى القول بأننا لا نستطيع أن نجر هذه النظرية إلى أقصاها ما لم نقرر بأن كل ما لم يضحكنا بشكل مباشر في مرحلة طفولتنا، لا يضحكنا، حتى بشكل غير مباشر، في مرحلة نضجنا. هناك مرحلة في طفولتنا تكون فيها تربة النفس خصبة يمكن لكل ما نزرع فيها أن ينبت، ويزهر ويثمر، سواء كان إيجابيا أو سلبيا. فليلاحظ القارئ بأن هذا التشبيه يعني أن هذه الأشياء، التي تنغرس في نفوسنا، لا تبقى إلى الأبد على صورتها البدائية، بل تكبر وتتفرع وتتغير معنا. إنها تتركب من خلال ما نضيفه إليها من الصور المماثلة، لتعيد عرض نفسها دائما كلما مررنا، في حياتنا، بما مررنا به لحظة تشكلها البدائي في أعماقنا ونحن أطفال.
***

[1] هنري برجسون: الضحك، ترجمة: سامي الدروبي-عبد الله عبد الدايم، الطبعة 1998، ص63.
[2] هنري برجسون: المرجع السابق، ص63.
[3] هنري برجسون: المرجع السابق، ص 16.
[4] هنري برجسون: المرجع السابق، ص 16.
[5] هنري برجسون: المرجع السابق، ص 16.
[6] هنري برجسون: المرجع السابق، ص 15.
[7] هنري برجسون: المرجع السابق، ص 16.
[8] هنري برجسون: المرجع السابق، ص 18.
[9] هنري برجسون: المرجع السابق، ص 17.
[10] المرجع السابق، ص17.
[11] المرجع السابق، ص 17.
[12] المرجع السابق، ص 25.
[13] المرجع السابق، ص19.
[14] المرجع السابق، ص 19.
[15] المرجع السابق، ص25.
[16] المرجع السابق، ص 28.
[17] المرجع السابق، ص 28-29.
[18] المرجع السابق، ص 27.
[19] المرجع السابق، ص 37.
[20] المرجع السابق، ص 41.
[21] المرجع السابق، ص41 .
[22] المرجع السابق، ص 42.
[23] المرجع السابق، ص 43.
[24] المرجع السابق، ص 46.
[25] مذكرات خير الدين، ترجمة: د. محمد دراج، الطبعة الأولى 2010م، شركة الأصالة للنشر والتوزيع، الجزائر العاصمة، ص136.
[26] سعيد بودبوز: مناقشة بارباروسا-دراسة نقدية، مخطوط غير منشور لحد هذه الساعة، وموجود عند المؤلف.
[27] مصطفى سليمان: بارباروسا (رواية)، الطبعة الأولى سنة 2009م، عن أرابيسك للنشر والتوزيع، القاهرة.
[28] هنري برجسون: المرجع السابق، ص 56.
[29] هنري برجسون: المرجع السابق، ص56
[30] هنري برجسون: المرجع السابق، ص 55.
[31] هنري برجسون: المرجع السابق، ص55.
[32] المرجع السابق، ص 56.
[33] المرجع السابق، ص 59.
***

سعيد بودبوز/مكناس-المغرب
[email protected]
[email protected]



#سعيد_بودبوز (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الصَّمْتُ الذي عَبَرَ اللغةَ
- لا (2)
- لا
- يوسف إدريس: بين انصهار الثقافة وانفجار الغريزة
- حكمة نيتشه بين الجبل والعقل (1)
- حوار مع الشاعرة لطيفة الشابي
- الماء والحكاية في -أحلام تمد أصابعها-
- بين الجنس الأدبي والجنس الآدمي (تحليل عنوان -أحلام تمد أصابع ...


المزيد.....




- -خاتم سُليمى-: رواية حب واقعية تحكمها الأحلام والأمكنة
- موعد امتحانات البكالوريا 2024 الجزائر القسمين العلمي والأدبي ...
- التمثيل الضوئي للنبات يلهم باحثين لتصنيع بطارية ورقية
- 1.8 مليار دولار، قيمة صادرات الخدمات الفنية والهندسية الايرا ...
- ثبتها أطفالك هطير من الفرحه… تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...
- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...
- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعيد بودبوز - الضحك عقوبة!