أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - التربية والتعليم والبحث العلمي - بشير صقر - استنهاض الثقافة الجادة وبعث التنوير .. والأمية السياسية (2) .. رؤية نقدية لتجربة مصرية رائدة .. دشنتها اللجنة المسكونية لمحو الأمية منذ سبعينات القرن الماضى















المزيد.....



استنهاض الثقافة الجادة وبعث التنوير .. والأمية السياسية (2) .. رؤية نقدية لتجربة مصرية رائدة .. دشنتها اللجنة المسكونية لمحو الأمية منذ سبعينات القرن الماضى


بشير صقر

الحوار المتمدن-العدد: 4292 - 2013 / 12 / 1 - 01:38
المحور: التربية والتعليم والبحث العلمي
    


موجز لما تم نشره :

ناقشنا فى الحلقة الأولى عددا من الموضوعات وثيقة الصلة بالثقافة والتنوير والأمية منها :
حاجة الشعب المصرى الآن لحملة تنوير شاملة - كالتى قام بها الرائد سلامة موسى فى بدايات القرن الماضى - فى سياق تحقيق أهداف ثورتى 25 يناير و 30 يونيو، وأشرنا لدور الوعى السياسى فى تحويل الأميين من أفراد مبعثرين إلى هيئات سياسية ونقابية منظمة لها وزن ودور.
وتطرقنا لعدد من مفاهيم وتشخيصات قضية الأمية وأجبنا عن السؤال: لماذا فشلت تجارب محو الأمية السابقة . وبينا أن التشخيص الخاطئ لها هو السبب فى الفشل عندما قصَرها على الجهل بالقراءة والكتابة بينما حقيقة الأمر أن هناك أوجه ثلاثة للقضية هى الأبجدية والوظيفية والثقافية .. والأخيرة تتضمن الأمية السياسية التى لا تقتصر على الشعوب الفقيرة بل تتواجد فى بلدان متقدمة كثيرة وكيف أنها لعبت دورا فى صفوف الشعبين الألمانى والإيطالى وساهمت فى إشعال الحرب العالمية .
كذلك حددنا أسباب الأمية بشكل عام متمثلة فى ضعف الاستيعاب فى المدارس الابتدائية ، والتسرب من التعليم ، والارتداد إلى الأمية علاوة على التخلف الاقتصادى والاجتماعى الذى تعانى منه الشعوب الفقيرة. كذلك عرجنا على قضية الحضارة الحديثة وعلاقتها بالحضارات القديمة ومخاطر كل منهما وكيفية تمكين الأميين من فرز الجوانب الإيجابية من السلبية فى الحضارة الراهنة وذلك بتسليحهم بحس ورؤية نقدية فى مواجهتها ، أيضا ضرورة وضع حدود فاصلة مع حضارات القرون الوسطى الظلامية حتى لا يتعرض مجتمعنا لتجارب مُرة كالتى تعيشها مجتمعات وبلدان شقيقة.

،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،

وفيما يلى عرض لرؤية نظرية غير تقليدية لتجربة رائدة فى مكافحة الأمية طُبقت منذ السبعينات قامت بها اللجنة المسكونية لمحو الأمية استنادا إلى أفكار الفيلسوف البرازيلى ( باولو فريرى ) مترافقا مع ملاحظات نقدية على هذه الرؤية وعلى التطبيق العملى لها. هذا وقد تمت كتابته فى نهايات عام 1978 وترجمه للإنجليزية مكتب تمثيل جمعية Oxfam بالقاهرة بعد إصداره بسنة ونصف.
ينقسم النص التالى إلى جزئين الأول يعرض المنظور الذى تكافح به اللجنة المسكونية الأمية فى مصر تحت شعار " تعلم .. تحرر " والثانى يتضمن ملاحظاتنا النقدية بعنوان ( تعلم،، تثقف،، تحرر ).
أولا: المنظور الذى تكافح به اللجنة المسكونية الأمية فى مصر " تعلم .. تحرر "
يتحدث تقرير اللجنة المسكونية فى مقدمته الخاصة بمحو الأمية عن علاقة الأمية بعملية التنمية موضحا كيف تشكل الأولى عقبة كؤودا أمام الثانية .. خصوصا وهى تنتشر فى أوساط الأعمار المنتجة بشكل كثيف؛ وتوضح أهمية إزاحتها واستئصالها لإطلاق عملية التنمية إلى الأمام.
ومن ناحية أخرى يبرز أهمية تحقيق العدالة الاجتماعية والديمقراطية كطريق لممارسة الفرد لدوره السياسى والاجتماعى فى المجتمع ؛ واستحالة ذلك فى وجود نسبة عالية من الأمية كما هو الحال فى البلاد النامية؛ ويخلص إلى أن العلاج الحقيقى للأمية هو النظر إليها بطريقة أشمل ومعرفة أسبابها للقضاء عليها وهكذا " تصبح التربية لمحو الأمية ليست عملية تعلم القراءة والكتابة بل تتعدى ذلك بكثير" وذلك " لأن الخبرة المعاشة تؤكد أن أغلب الأميين الذين درسوا بالأسلوب التقليدى يرتدون للأمية مرة أخرى بعد فترة قصيرة لأن عملية التعلم القائم على التلقين تحول التفكير الإنسانى إلى قوالب جامدة و تعزل الإنسان عن واقعه ليعيش فى قوالب جديدة بديلا عن القوالب القديمة "
ومن هنا يتطلب الأمر" اتباع أسلوب يشارك فيه الأمى من جانبه فى التفاعل مع واقعه من أجل تغييره؛ وذلك بتغيير نفسه .. بأن يتعود على التعبير عن أفكاره وآرائه .. الأمر الذى يُغيّر التاريخ لصالح الشعب وليس لصالح الفئات المميزة اجتماعيا ". ويضيف التقرير " أن دخول الجماهير العريضة إلى ساحة الحياة بوعى وبروح النقد البناء يحقق الديموقراطية ويمنع تسلط طبقات على غيرها بما يؤدى إلى التكافؤ وتنمية المجتمع " ومن هنا تبدو العلاقة بين برامج مكافحة الأمية والتثقيف والتوعية من أجل التحرر وثيقة الصلة .. وحسب نص التقرير [ لأن مكافحة الأمية تحرير لذات الأميين وليس تعلما لأشياء جامدة، أى أنها استعمال للعقل أكثر من النقش عليه ، إنها حوار بين الأمى وعالمه المحيط وليست فقط بينه وبين القائم بتوعيته ] . وينتقل التقرير إلى الفلسفة الحاكمة لرؤية اللجنة المسترشدة بنظرية الفيلسوف البرازيلى ( باولو فريرى ) عن التوعية ليوضح كيفية تحقيق هذه الأهداف وذلك بعرض لقطات من الحياة اليومية لجماعات الأميين ، وإدارة حوار عن المعنى الذى تبرزه الصورة " ويتطور الحوار لإعادة تركيب الحدث لينتقل من المستوى السطحى إلى عمق جوهره . وبتكرار عرض الصور وإدارة الحوار يتعود الدارسون على الكلام والتفكير العميق فى كل ما حولهم من أجل التفكير فى تركيب هذه الأمور لصالحهم ".
وقد وضعت اللجنة المسكونية كتابا للمدرب أو المنسق ( أى للمعلم ) الذى يقوم بعملية التوعية طرحت فيه فلسفتها لعملية محو الأمية مبرزة أنها ليست مسألة تكنيكية بل هى عملية سياسية اجتماعية بالأساس ويؤكد التقرير " أن خروج الأمى من الأطر التى تربطه بالواقع الذى أدى إلى أميته وتخلفه لن يتأتى إلا بالممارسة للفكر الناقد تدريجيا ؛ ولهذا فإن على المدرب فى مكافحة الأمية أن يفهم ضرورة ربط الكلمة المنطوقة بالواقع المُعاش المراد تحويله وبدور الإنسان فى عملية التحويل هذه ".
وضمَّنت ذلك الكتاب - الذى هو الدليل النظرى والتكنيكى لعملية محو الأمية - عددا من التوجيهات هى :
الهيكل العام للمنهج من الناحية التعليمية الذى ينقسم إلى أربعة مراحل وهى:
الأولى : تشمل 6 وحدات دراسية .. يتعلم فيها الدارس بعض الحروف الهامة ، ويتم التركيز فيها على حروف المد الثلاثة ( الواو ، الألف ، الياء ) التى يمَكن استيعابها من الانتقال للمرحلة التالية.
الثانية : تتكون من 7 وحدات دراسية يتعلم فيها الدارس حروفا جديدة ، كما يتعلم عملية التشكيل وبعض المظاهر التى تعترضه أثناء القراءة كالتنوين والتأنيث والتشديد.
الثالثة : تتكون من 8 دروس يُستكمل فيها ما بقى من حروف لم يتعلمها فيما سبق ، ويميز بين الحروف المتشابهة فى صوتها أو شكلها ، كما يتعود على تفهم معنى النص ؛ إلى جانب النطق السليم .. وكذلك تعلم بعض أشكال الهمزة.
الرابعة : تتكون من 5 وحدات كلها نصوص بدون صور .. والهدف منها توجيه أذهان الدارسين لقضايا جديدة ، والتدريب على القراءة العادية .. ويمكن الاستعانة ببعض المقالات فى الجرائد والكتب البسيطة.
وقد رئى فى وضع هذا الدليل الفلسفى والتكنيكى للمنسق أن يشتمل أدق التفاصيل التى تساعده فى القيام بمهمته .. وأن تضعه فى سياق تطوير عملية محو الأمية مؤكدة على أن كتاب المنسق هو الأساس وليس كتاب الدارس. وقد قام بشرح كل درس على حدة وقسمه إلى عدة عناصر ثابتة هى:
1- مقدمة عن الدرس وتتضمن :
أ‌- أسباب اختيار الكلمة وتفضيلها على غيرها .
ب‌- الأهداف التثقيفية .. يختار من بينها المنسق ما يراه مناسبا .
ت‌- الأهداف التعليمية .. تحدد ما سيتعلمه الدارس فى مجال اللغة .
ث‌- أجزاء الدرس وتبرز الأجزاء المكونة للدرس وفائدة ذلك التقسيم.
2- خطوات العمل وتوضح شرحا وافيا لكل ما يدور أثناء الدرس بدءا من:
أ‌- الصورة وتوضيح مضمونها .
ب‌- المناقشة وتشمل عدة أسئلة تساعد على فتح الحديث مع الدارسين.
ت‌- شرح الدرس على السبورة .
ث‌- التمارين الصوتية التى يمكن للمنسق الاستفادة منها.
ج‌- ملاحظات خاصة بالدرس إن وُجِدت.
3- جزء خاص بكيفية استخدام كتاب الدارس وكراس التمارين المرفق ، ففيما يتعلق بشرح الدرس على السبورة سيجد المنسق ما يعينه على تفهم كتاب الدارس الذى له مهمتان مساعدتان هما :
- القراءة منه أثناء اللقاءات بعد شرح الدرس على السبورة .
- القراءة منه فى المنزل إذا سمحت ظروف الدارس .
4- أيضا يشتمل الكتاب على عدة ملاحظات خاصة بأهمية اللقاء الأول الذى يجب أن يخرج منه الأمى بإحساس أن شيئا جديدا فى حياته قد حدث .. شيئا يمكن أن يعبر عن آماله وآلامه ، وأن يُدخِل فى نفسه نوعا من الثقة فى أنه يملك من الإمكانيات والمواهب والعزيمة ما يؤهله لإحداث هذا التغيير المطلوب. أيضا يؤكد على أهمية العلاقة بين المنسق والدارسين كمُعوّل أساسى لنجاح التجربة سواء فيما يخص خلق الثقة المتبادلة بينهما أو روح المحبة والتعاون والتواضع .. أو كون المنسق بمثابة الموجه والمرشّد لأفكارهم وليس بديلا عنهم أو ملقنا لهم .
كذلك مكان التجمع وشكل وطريقة الجلوس والتعرف المتبادل بين الدارسين والمنسق وكتابة اسم الدارس وتاريخ اليوم.. إلخ.
5- أما كتاب الدارس فيشمل جملة الدروس المطروحة ؛ ويستقى تعبيراته مما هو شائع فى المجتمع من كلمات وعبارات تشكل قاسما مشتركا للغة الحديث وما يعتمل فى نفوسهم وبيئاتهم من مشاكل وأحداث .. وغيرها.
وإلى جانب هذين الكتابين توجد كراسة التمارين يتدرب فيها الدارس على كتابة الدرس .. كما توجد عدة كروت تحوى صور الدروس المختلفة التى يتضمنها البرنامج.
ثانيا : الرؤية النقدية : تعلم .. تثقف .. تحرر
ذلك هو شعار اللجنة المسكونية لمحو الأمية .. فهى لا تسعى لاستئصال الجهل بأبجدية اللغة العربية فى حد ذاته بقدر ما تسعى لتحرير ذات الإنسان الذى يتضمن بالطبيعة تعليمه أوليات اللغة.. إنها تربط بين الأخيرة وبين التثقيف بالمعارف وتتوّجه بتوعيته من أجل التحرر. وإذا ما تجاوزنا عن عمومية عبارة التحرر التى تدخل تحتها مفاهيم عديدة بدءا من تخليصه من بعض المفاهيم الغيبية كالسحر والشعوذة إلى تخليصه من القهر الطبقى وتعريفه بالاشتراكية وما يتبع ذلك إلى تخليصه من القهر القومى بوضعه على مستوى مقاومة الاستعمار وارتباطه بشعوب المنطقة كشعب فلسطين ؛ إذا ما تخلصنا عن عمومية عبارة التحرر تلك وضمناها كل هذه المفاهيم التى تخضع فى النهاية لعديد من التلاوين والتباينات والاجتهادات فى تحديد مضمونها الدقيق؛ لعرفنا أن اللجنة المسكونية قد ابتعدت عن المفهوم التقليدى لقضية الأمية .. ومن ثم لمكافحتها ، فهى تحدد أن " الخبرة المعاشة تؤكد أن أغلب الأميين الذين درسوا بالأسلوب التقليدى يرتدون للأمية مرة أخرى بعد فترة قصيرة ؛ لأن عملية التعلم لم تغير من أسلوب حياتهم ولم تُضِف إليه شيئا جديدا ومن هنا فإن عملية التعليم القائمة على التلقين تحول الفكر الإنسانى إلى قوالب جامدة تعزل الإنسان عن واقعه ليعيش فى قوالب جديدة بديلا عن القديمة " .. ومن هنا يتطلب الأمر " اتباع أسلوب يشارك فيه الأمى من جانبه فى التفاعل مع واقعه من أجل تغييره .. وذلك بتغيير نفسه بأن يتعود على التعبير عن أفكاره وآرائه .. الأمر الذى يغير التاريخ لصالح الشعوب وليس لصالح الفئات المميزة اجتماعيا " . ويطرح التقرير ( أن دخول الجماهير العريضة إلى ساحة الحياة بوعى وبروح النقد البناء يحقق الديمقراطية ويمنع تسلط طبقات على غيرها مما يؤدى إلى التكافؤ وتنمية المجتمع ".
إن اللجنة تسعى باختصار إلى تغيير أسلوب حياة الأميين .. وإخراج تفكيرهم الإنسانى بعيدا عن القوالب الجامدة التى طُبِعوا عليها من واقع حياتهم التقليدية بما فيها أسلوب التلقين.وإذا كان ذلك هو الهدف ببساطة فإن الوسيلة قد تمثلت فى ابتداع أسلوب جديد من حيث فلسفته ومضمونه .. وليس من حيث مظهره وشكله .. أسلوب قائم على مشاركة الأمى فى التفاعل مع واقعه من أجل تغييره ؛ والذى يبدأ حسب برنامج اللجنة بتغيير الأمى لنفسه من خلال عملية محو الأمية المرتبطة بتثقيفه وامتلاكه الوعى الذى يستهدف تحرره ؛ وفى هذه العملية يتعود على التعبير عن آرائه وأفكاره الذى يُعتبَر خطوة فى تغيير البيئة المحيطة وتغيير التاريخ لصالحه وصالح أمثاله وهكذا.
ولذلك أعدت اللجنة وثيقة هامة ممثلة فى كتاب المنسق الذى يطرح فلسفتها فى المشروع ؛ وإرشاداتها وتوجيهاتها للمنسقين سواء من الناحية التكنيكية ( التعليمية ) أو التثقيفية أو بخصوص عملية التوعية.. مضافا لذلك كمّ من الخبرات المتراكمة حول طرق تعامل المنسق مع الدارسين وغيرها .وإلى هنا والأمر واضح وجلى ويمكن إيجازه فى أن اللجنة المسكونية تتعامل مع الدارسين على أنهم أميون كادحون ينبغى محو أميتهم وتوعيتهم .
ولكن ذلك المنظور وإن اختلف مع المنظور التقليدى لمحو الأمية فهو يختلف مع منظور آخر – هو منظورنا- يتعامل مع هؤلاء الدارسين ككادحين أميين لأن هويتهم الأساسية فى مجتمعهم هى كونهم كادحين فى الريف أو فى الحضر ؛ وتأتى أميتهم فى المقام الثانى كصفة مترتبة على كونهم كادحين ينبغى تغيير وضعيتهم الاجتماعية من حيث المضمون وليس من حيث المظهر.
ورغم أن اللجنة قد ضمنت بعض الإشارات إلى ذلك عندما ذكرت " أن خروج الأمى من الأطر التى تربطه بالواقع الذى أدى إلى أميته وتخلفه لن يتأتى إلا بالممارسة للفكر الناقد تدريجيا ؛ ولهذا تظهر أهمية ربط الكلمة المنطوقة بالواقع المُعاش المراد تحويله وبدور الإنسان فى عملية التحويل هذه ".. إلا أن المتابع لدروس البرنامج الثمانية والعشرين يرى اختلافا واضحا بين التعامل مع الدارسين كأميين عن التعامل معهم ككادحين فى المقام الأول.
وإذا ما عرفنا أن عملية التثقيف والتوعية هما حجر الزاوية المطروح من قبل اللجنة المسكونية فى عملية محو الأمية لأدركنا أن تناول الأهداف التثقيفية بالإضافة إلى اختيار الموضوعات والدروس تشكل المضمون الواقعى لرؤيتها تلك ؛ هذا وتتضمن أهدافها التثقيفية عددا من القيم الإيجابية نذكر منها على سبيل المثال ( عدم التنازل عن القيم والمبادئ الشريفة للحصول على المال ، ليس هدفنا من العمل هو الحصول على الطعام بقدر ما هو تغيير مجتمعنا وحياتنا، المسكن حق لكل إنسان ، العلم ليس مقصورا على فئة مميزة فى المجتمع وليس قاصرا على معرفة القراءة والكتابة ، عدم التفرقة بين الولد والبنت فى التربية والمعاملة والتعليم ، التناسب بين الجهد والأجر، الأجر العادل هو الذى يسمح لرب العائلة أن يلبى الاحتياجات الضرورية للحياة كالمأكل والملبس والمسكن والتعليم والصحة ، احترام حرية الاعتقاد ، الوطن لنا جميعا ، يجب أن نعيد لوطننا مجده، أمامنا تحديات كبيرة كعرب ، أهمية الاختيار الحر والتعارف العميق بين طرفى الزواج ، العمل المشترك من أجل خدمة الآخرين يقوى ويرسخ الحب المتبادل بين الزوجين ، التعاون بين أفراد الشعب لإيجاد حلول جماعية للمشاكل، أسباب تزايد الفارق الشاسع بين الفقراء والأغنياء ، فضلا عن فكرة مبسطة عن القضية الفلسطينية ) . وعلى اليد الأخرى تتضمن عددا من القيم اللاأدرية والتى توجه الأنظار إلى اتجاه مختلف عما يجب أن تتجه إليه مثل ( أهمية استغلال الوقت فى الكسب الشريف لزيادة الدخل ) ومثل هذه القيمة تتناقض مع قيمة أخرى هى ( الأجر العادل هو الذى يسمح لرب العائلة أن يلبى الاحتياجات الضرورية لأسرته ) ، فالأخيرة تعنى أن يجتهد الكادحون فى الاتحاد والتعاون من أجل الحصول على حقوقهم .. وفى نفس الوقت تتعارض مع القيمة الأولى عن (زيادة الدخل عن طريق عمل إضافى فى وقت الفراغ ) الذى هو للراحة وسد الاحتياجات الروحية والمعنوية.. إلخ .
أيضا فما طرحته اللجنة حول " أن الأمية إذا كانت تقف عقبة فى طريق الأمى كى يصبح مواطنا فعالا فى برامج التنمية الاجتماعية والاقتصادية فإنها تقف بنفس المقدار عقبة فى طريقه كى يصبح عضوا عاملا فى جسد المسيح الذى هو الكنيسة. فالإنسان الأمى لشعوره بالنقص الذى يجعله ينعزل عن المجتمع ولا يشارك بكفاءة فى تطويره ينعزل أيضا عن الكنيسة ولا يساهم فى الحركة النشطة التى تقوم بها الآن لتجديده ؛ وبالتالى تضعف بالتدريج علاقته بالكنيسة وتصبح مشاركته فيها إسمية أو مظهرية.. الأمر الذى يقف فى سبيل نموه الروحى وينعكس بالتالى على حياة الكنيسة " تلك الدعوة تتناقض بشكل صارخ مع " مبدأ حرية الاعتقاد " الذى يُعدّ قيمة إيجابية بناءة ، ولأن حرية الاعتقاد واحترام العقائد تعنى استقلال كل دعوة بنشاطها ؛ فإن الحديث عنها بتلك الكيفية يجوز فقط لرجال الدين ودعاته ولا يجوز لقادة تنويريين يقومون بتحرير الجماهير المصرية الكادحة على اختلاف أديانها من جملة الغيبيات التى تكبل حرية تفكيرهم و حقوقهم فى التدين وتحُدّ لدرجة بالغة - مع عوامل أخرى – من حركتهم الاجتماعية فى سبيل تخلصهم من القهر بكل أشكاله الفكرية والسياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية .. ولا يجوز ذلك لدعوة المفترض فيها تجاوزها لكل الأشكال العرقية والعنصرية والدينية فى التمييز بين البشر .. " فالوطن لنا جميعا على اختلاف معتقداتنا " على حد قول اللجنة المسكونية .
كذلك فإن إبراز قيمة مثل " النظام يحقق عدالة التوزيع " يتعارض تعارضا جذريا مع قيمة أخرى تناقش أسباب الفارق الشاسع بين الفقراء و الأغنياء التى تؤكدها قيمة ثالثة تحض على أهمية التنظيم ( للنسل والمصروفات والوقت فى منع زيادة الفقر) ومع تحفظنا على هذا التنظيم المزعوم .. لا يمكن إطلاقا لترسيخ قيمة كالنظام - بمعنى الترتيب والتنسيق - أن يحقق عدالة توزيع ثروات الوطن لأن الأخيرة ترتبط بعلاقات الإنتاج وبحجم الديمقراطية فى المجال السياسى والاقتصادى والفكرى التى يتسلح بها الكادحون والتى تربط الأجر بالجهد المبذول .. إلخ.
يتصل بهذه الأفكار قيم أخرى وردت فى عدد من الدروس مثل " التجارة تشترط الأمانة " فالمفروض إبراز ماهية التجارة .. التى هى باختصار وساطة بين المنتج والمستهلك تلعب دورها فى استحواذ التاجر ( الوسيط ) على كل ما يمكن استحواذه من كل منهما ( المنتج والمستهلك ) ؛ ذلك فى أبعادها البسيطة .. ومن هنا فالأمانة تُعتبَر- من عديد من الزوايا – شيئا ناشزا وملفَّقا إذا ما ربطناها بالتجارة.
ولا يخلو الأمر كذلك من تأكيد هذا المنطق الذى لا يفرق أو يخلط بين قيم إيجابية بناءة وبين قيم أخرى سلبية تلعب دورها فى اتجاه معاكس.. إذا ما أدركنا أن اللجنة المسكونية تطرح آراء وقيما مختلفة منها أن ( التنافس يزيد الإنتاج ؛ وأن التجارة تشترط الأمانة ؛ وأن السبب الأول لأزمة المواصلات هو زيادة السكان يليه فى الترتيب والأهمية سوء الطرق وقلة المركبات العامة وسوء استخدام المواطنين لها ). ولما كانت أية أزمة للمواصلات ( وهى غير أزمة المرور ) فى أى مجتمع ترتبط أساسا بقلة المركبات العامة فإن الإشارة لزيادة السكان كسبب أول ينافى الحقيقة تماما ؛ حيث أن قلة المركبات العامة تنجم عن تبديد الفائض الاقتصادى القومى وعدم ترشيده ويقنع من القضية بظاهرها ويبتعد بشكل مقصود أو غير مقصود عن الإمساك الفعلى بجذورها . فالمعروف تماما وحسبما تطرحه اللجنة من قيم إيجابية عن الأجر العادل وعن تناسب الجهد والأجر وعن أن الهدف من العمل هو تغيير حياتنا ومجتمعنا وعن ضرورة إزالة الفوارق الشاسعة بين الفقراء والأغنياء- أن أزمة المواصلات ترتبط بالفائض الاقتصادى القومى وبكيفية توظيفه أو بمسارب تبديده ؛ وبمعنى أدق بما يقدَّم للناس من خدمات فى جملة جوانب الحياة بما فيها المواصلات . أضف إلى هذا فإن وضع السبب الرئيسى أو منبع الأسباب كلها جنبا إلى جنب مع أسباب ثانوية أو تابعة يعَمّى الأميين عن جوهر المشكلة ويوجه أنظارهم لوِجْهات أخرى تطيل أمد تدهور أوضاعهم.. وتُبقِى على أسبابها.، وعلى سبيل المثال ما هو جدوى التحدث عن قيمة " النقد البنّاء " وقيمة " ضرورة تعاون الفلاحين مع الحكومة " فى ارتباطهما بقيمة معاكسة مثل " ضرورة الاتحاد والتعاون للحصول على الحقوق "؟.
إن المنظور الذى تطرحه اللجنة المسكونية لمحو الأمية يختلف بالقطع مع المنظور التقليدى لكنه للحقيقة ليس منظورا جذريا .. فهو يقف بدرجات ليست قليلة بالقرب من المنظور التقليدى من حيث جملة القيم السلبية التى يطرحها متجاورة مع قيمه الإيجابية البناءة وكذلك من حيث المردود الذى يفرزه كنتيجة متوقَّعة لذلك.
إننا نفرق بالتأكيد بين منظور يطرح القيم والأهداف التثقيفية الإيجابية ويستبعد القيم السلبية والمحافظة.. وبين منظور يطرح القيم السلبية ويستأصل القيم الإيجابية .. ومنظور ثالث يطرحهما متجاورين كما هو الحال فى موقف اللجنة المسكونية. وعموما فإن التقرير الذى تبرِزُ فيه تجربتَها يختلف فى تقديرنا مع الجوانب الإجرائية والواقعية للتجربة فى عملية التطبيق، تلك العملية المتمثلة فى الدروس التى تعكس بدقة حدود مسلكها الفعلى فى تحقيق شعارها " تعلم .. تحرر" .
إن الاختلاف الذى نوضحه للمسلك العملى للجنة المسكونية و بالتالى لمفهومها لمحو الأمية عن المنظور الجذرى ينبع من نظرتها للدارسين كأميين أولا وكادحين ثانيا ؛ وتلك النظرة من شأنها أن تُوقِع أصحابها فى موقف متردد يُراوح بين الطرح التقليدى للقضية وبين الموقف الجذرى والوحيد لعلاجها.
فالموقف التقليدى لا يرى فى الأميين سوى منتجين يحاول رفع إنتاجيتهم بالأساس ولا يهمه تغيير أوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية.. بل يهمه الإبقاء عليها وإدامتها ؛ أو يرى فيهم قوى غير منتجة يجتهد فى أحسن الأحوال لتحويلهم إلى منتجين يدخلون فى الآلية المجتمعية الموجودة بشكل لا يشكلون فيه عبئا على الدولة والمجتمع . أما الطرح الجذرى فيراهم قوى اجتماعية كادحة دفعت بهم آلية المجتمع إلى القاع ( من الناحية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية ) ومن ثم فهم - سواء كانوا منتجين أو عاطلين - يشكلون أغلبية كبيرة من السكان؛ لذلك فالهدف المرجو من محو أميتهم بمعناه الشامل يُلْزمنا بإدراك هويتهم تلك؛ ويحتم التعامل معهم من جميع جوانب وضعهم فى المجتمع ودورهم فيه .. وبشكل خاص من أبرز هذه الجوانب ( الكدْح ) ؛ بحيث أن برنامج محو أميتهم يجب أن يكون مرتبطا ببرامج أخرى تتناول الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية حتى يمكنه أن يصل إلى هدفه الذى يتكامل مع بقية الأهداف فى الجوانب الأخرى ويصنع منها هدفا واحدا متكاملا صحيحا وعلميا.
إن جملة الجهود التى تُبذَل أو يمكن أن تبذل لمحو الأمية فى مجتمع رأسمالى متخلف كمصر تضيع سدى فى التحليل الأخير ؛ ذلك لأن ما يمكن التوصل إليه من نتائج تستأصلها من الناحية الأخرى الروافد التى تصب فى بحر الأمية ممثلة فى الأعداد الهائلة من المتسربين من المدارس الابتدائية والمرتدين للأمية والأطفال الذين وصلوا سن الإلزام ولم تستوعبهم المؤسسات التعليمية لضيق سعتها أو قصور خدماتها. ومن هنا فإن برامج محو الأمية لن تكون هدفا فى حد ذاتها فى مثل تلك الحدود المطروحة .. ولا هدفا وحيدا معزولا عن بقية الأهداف المفروض السير فى اتجاه تحقيقها فى مختلف جوانب الحياة ( إجتماعيا وسياسيا واقتصاديا وثقافيا ) من أجل تحرير هؤلاء الكادحين من كل أشكال القهر التى يتعرضون لها.
لقد ذكر تقرير اللجنة المسكونية أن " خروج الأمى من الأطر التى تربطه بالواقع الذى أدى لتخلفه لن يتأتى إلا بممارسة الفكر الناقد تدريجيا.. ومن هنا ضرورة الربط بين الكلمة المنطوقة والواقع المُعاش ودور الأمى فى عملية تغييره " وفى الحقيقة فإن عملية الربط هذه ( بين الأمى وواقعه ) وإن كانت صحيحة إلا أن " ممارسة الفكر الناقد تدريجيا " لا يمكن أن تتأتى من برامج محو الأمية بمفردها .. ناهيك عما تطرحه عن تدرجها الذى لا يوحى إلا بطرح المفاهيم والقيم التى تختلط فيها الجوانب الإيجابية بالسلبية والذى دلل عليه ما استخلصناه من الأهداف التثقيفية للبرامج ومن دروسها وموضوعاتها.
الجوانب التعليمية والتكنيكية :
يمكن تقسيمها إلى ثلاثة أقسام هى :
- المعلم ( المنسق ) ؛ ودوره ؛ وصفاته ؛ وعلاقته بالدارس.
- هيكل البرنامج ؛ وأجزاؤه.
- طريقة التعليم والتوعية .

1- المعلم ( المنسق ):
ويتضمن القسم الأول فهم المنسق لفلسفة المشروع وابتعاده عن الأسلوب التقليدى وقدرته على القيام بالمهمة ؛ وامتلاكه لبعض صفات القيادة وأهمها القدرة على إدارة النقاش مع الدارسين واستنفار حماسهم وطاقاتهم الذهنية حول الموضوعات المتصلة بالدرس دون تفرع مبدد للجهد ومشتت للتفكير؛ والتركيز على القيم المراد إبرازها ، ومحاولة استقاء المفاهيم والقيم والأهداف من أفواه الأميين.. إلخ.
ويطرح المشروع ضرورة أن يكون المنسق متقاربا فى السن مع الدارسين ومن نفس البيئة بحيث يفهم عاداتهم و قاموسهم اللغوى وتعبيراتهم بسهولة ويمكنه استخدامها والتعامل معها بلباقة وكفاءة ومرونة . كما يؤكد على أهمية بث الثقة فى الأمى ، والتأكيد على قيمته وإمكانياته فى الاستيعاب والتطور؛ وإزالة جانب كبير من التوجس والهيبة من المنسق. كذلك إشاعة روح المحبة والتعاون والصداقة بينهما حتى يفهم الدارسون أن مهمة المنسق هى ترشيدهم والتنسيق بين أفكارهم ؛ والوصول إلى نتائج صحيحة فى النهاية.
ويرتبط بهذه الأفكار والقيم بعض الإجراءات مثل طريقة جلوس الدارسين على شكل نصف دائرة ؛ وأسلوب الحديث المتبادل .. وغيرها.
وللحقيقة فإن كل هذه الأمور لازمة لكل من يعمل على استنهاض وتطوير مثل هؤلاء الأميين فى كل المجتمعات ومختلف البيئات ؛ ولكنها تفتقد لعنصر جوهرى هو ثقة الدارسين فى المنسق وفى العملية برمتها وإقبالهم عليها الذى لا يجب أن يقتصر على مجرد إحساسهم بأهمية محو أميتهم بل فى أهميته لحياتهم برمتها ومستقبلهم، ولذلك فاكتساب ثقتهم بأنفسهم وبقدرتهم المتنامية فى تغيير واقعهم ودورهم الحاسم فيه وكذلك فى دور المنسق – ذلك اللاعب الأهم فى هذا المهمة وعمودِها الفقرى - هما الشرط الأهم للنجاح.
إن دور المنسق فى الحقيقة يفقد جانبا كبيرا من فعاليته المفترضة أو المنشودة إذا ما اقتصر على كونه منسقا فى عملية محو الأمية أيا كان ابتعادها عن المفهوم التقليدى ؛ صحيح أن لن يكون بلا أثر أوْ ذا أثر محدود ؛ لكنه لابد بعيد عن دوره إذا لم يمثل المنسق – فى كثير من الجوانب – المطامح الاقتصادية والسياسية والاجتماعية لجماهير الأميين ، ولا يعنى ذلك أن يكون هو أفضل الممثلين أو المعبرين عن تلك المطامح بقدر ما يعنى أن يكون المنسق ضمن بقية القائمين على مشروع محو الأمية - و المشروعات الأخرى – ناطقا بهذا المعنى ؛ ويولّد ذلك الإحساس لدى الدارسين.
إن منظور اللجنة المسكونية للدارسين باعتبارهم أميين أولا وكادحين ثانيا هو الذى ينعكس بالتبعية على رؤيتها لدور المنسق ويؤثر بالتالى على فعاليته فى القيام بمهمته . ومحو الأمية إذا مورس ضمن نسق كامل من مكافحة جملة الأوضاع التى يعانيها الأميون ككادحين بالدرجة الأولى ؛ فإنه سيكلل بالنجاح ويؤثر على بقية عملية تطوير الكادحين الأميين ( ثقافيا واجتماعيا وسياسيا ) ؛ وفى نفس الوقت سيتأثر بتلك الجوانب مدفوعا بفعلها إلى الأمام ؛ ومن هنا يكتسب دور المنسق فعاليته الموضوعية من كونه يتشارك مع أدوار أخرى فى مهمة شاملة أكثر اتساعا وعمومية.. وأكبر تأثيرا فى حياة هؤلاء الكادحين الدارسين من عملية محو الأمية حتى بمفهومها غير التقليدى الذى تتبناه اللجنة المسكونية .
2- هيكل البرنامج وأجزاؤه :
الواضح أن اللجنة المسكونية قد بذلت فيه جهدا كبيرا ومتوافقا مع مفهمومها ؛ فطريقة اختيار الكلمات بشكل عام – بصرف النظر عن الخطأ فى اختيار بعضها – طريقة صحيحة ؛ من حيث شيوع الكلمة ووفائها بالغرض المختارة من أجله.. فكلمة ناس مختارة لإبراز حرف النون و السين، وكلمة ورشة خاصة بحرف الشين ، وكلمة الرياضة خاصة بحرف الضاد .. وهكذا ، أيضا فتقسيم البرنامج إلى أربعة مراحل تختلف فيه كل مرحلة عن التالية من حيث عدد الدروس ، والغرض من المرحلة ؛ مع ترابط المراحل وأقسامها ؛ وتصاعدها لتشكل فى النهاية هدفا واضحا هو تعلم الأبجدية والارتباط بعدد من القيم والمفاهيم المتقدمة.
كذلك فإن استخدام الصورة للتعامل مع حاسة الإبصار ، والتمارين الصوتية للتعامل مع حاسة السمع وكراسة التمارين للتدريب على الكتابة ثم استخدام عملية الإملاء للتعامل مع الذاكرة ومعظم هذه الحواس تضع فى اعتبارها تفاعل هذه الحواس جميعا واستخدام العقل ، بالإضافة إلى ما تضيفه المناقشة والحوار وطرح الأسئلة المتبادل بين الدارسين والمنسق من ربط كل هذه الأجزاء ببعضها.
يضاف إلى ذلك بُعْد آخر هو عدم الانتقال للدرس التالى إلا بعد استيعاب الدرس الحالى الذى لا يُحدَّد بعدد معين من اللقاءات ؛ و يراعى مدى استعداد واستيعاب الدارسين وأعمارهم وخصائصهم النفسية.
3- طريقة التعليم والتوعية :

وهما موضوعان مترابطان فى الممارسة العملية، ففى الموضوع التعليمى تترابط أساليب عديدة فى التعامل مع الحواس المختلفة وتجتهد فى إثارة الأفكار فى ذهن الدارسين وفى تعلم القراءة والكتابة والتفكير.
إن بث الأفكار الإيجابية والمعارف العامة المتقدمة لا يكفى – كما هو معروف – لتغيير الواقع المتخلف فتلك فى الحقيقة خطوة واحدة يفترض أن يتلوها خطوات؛ لكن المهم هو أن تتحول تلك الأفكار والمعارف لواقع عملى .. ولنضرب مثلا : أن تبرز للفلاحين الأميين أهمية وفائدة اقتناء أصناف معينة من الأبقار أو الأغنام أو زراعة سلالات محسنة من النباتات ليس معناه تنفيذهم السريع النابع من قناعة حقيقية بنصائحك ؛ أيضا أن توضح لهم خطورة النعرة الإقليمية والتعصب العائلى والقبلى على مصالحهم الاقتصادية والسياسية والاجتماعية ليس معناه تبنيهم الآنى أو حتى البطئ نسبيا لتحذيراتك ؛ لأن تلك الأفكار والتقاليد هى جزء من العادات الراسخة والتراث القيمى والسلوك اليومى مهما تكررت التحذيرات، وهى تختلف مثلا عن الاقتناع باللجوء للطبيب البيطرى لعلاج ماشيتهم من الأمراض؛ لأن الخطر مباشر وسريع وباهظ التكاليف فى الحالة الأخيرة مقارنا بالمخاطر الناجمة فى حالة الأبقار والسلالات المحسنة من النبات وحالة النعرة الإقليمية والتعصب القبلى .
فالقضية هى كيف تحول السلوك الراسخ بسلوك مضاد لأن ذلك يحتاج درجة ولو دنيا من الفهم والخيال ويتطلب نوعا من الديناميكية الجماعية لتنفيذه. أما الاكتفاء بعملية الوعظ غير المشفوعة بظروف مواتية وتغيرات فى المناخ الاجتماعى لتحقيقها عمليا لا بد أن يفضى إلى فشل محقق لا مفر منه.
إن الدرجة الدنيا من الوعى الفردى الذى يكتسبه - أو يتبناه الدارس من خلال فصول محو الأمية- ليست قادرة على مواجهة المناخ المتخلف السائد الذى تشكله الأفكار الرجعية والتقاليد والعادات الراسخة . وبعبارات أخرى إن هذه الدرجة الدنيا من الوعى الفردى لا يمكن توظيفها والتعامل معها من خلال الأفكار فقط ؛ فذلك لا يَصْدُق إلا على الحالات التى تتمتع بدرجات عالية من امتلاك الوعى ؛ ومن هنا فلا سبيل لتغيير تلك الأفكار والعادات الراسخة إلا بالعقل والسلوك معا.
فالتطبيق العملى للأفكار والقيم الجديدة فى الانتخابات النقابية والسياسية وفى الأنشطة الاجتماعية والرياضية والثقافية وفى العمل الإنتاجى اليومى هو السلاح الناجع لتغيير هذا الواقع من كل جوانبه أى بتوظيف الأفكار والمفاهيم المبثوثة من خلال عمليات محو الأمية لخدمة الأنشطة الأخرى.
ويتبادر للذهن تجربة طلابية للخدمة العامة فى بداية ستينات القرن الماضى تضمنت [ مشروعات لتقوية تلاميذ الصفين الخامس والسادس الابتدائى ، ومحو الأمية ، وتشغيل للعاطلين بمصانع الغزل والنسيج القريبة ؛ وتعبيد للطرق ؛ والإشراف على مقاومة البعوض ومكافحة آفات القطن؛ وتأسيس مكتبة لاستعارة الكتب ومجلة حائط وفرقة مسرحية ؛ وتوعية سياسية ونشاط رياضى ] حيث تمكنت - من خلال عمليات التوعية والتثقيف المختلفة التى كانت تركز على أهمية الخدمة العامة فى القرية والبحث عن مصالح الكادحين – تمكنت من أن تخطو خطوات حقيقية فى إنجاز وتحقيق بعض النتائج الإيجابية فى كثير من هذه المشروعات إلا أن ضيق الوقت أوقف تصاعدها ( انتهاء العطلة الصيفية للمدارس والجامعات) وعلى سبيل التوضيح كانت فصول محو الأمية وتقوية تلاميذ الابتدائى والنشاط الرياضى ومجلة الحائط تتوخى محاصرة ذلك التعصب فى مكان الالتقاء والنشاط الجماعى وفى الموضوعات المطروحة للمناقشة والمشاكل المطلوب حلها.. إلخ ؛ وتجلت فى مشروعات أخرى وإن بدرجات أقل فى فرق مقاومة آفات القطن ، والفرق الرياضية الممثلة للقرية فى المباريات مع القرى المجاورة؛ وفى انتخابات الجمعية الزراعية والاتحاد الاشتراكى العربى ( التنظيم السياسى ) .. وهكذا.
نخلص مما سبق إلى أن تلك القيمة لم تكن وحدها هى المستهدفة بل كانت - ضمن قيم ومفاهيم أخرى- محط جهود القائمين على النشاط بأكمله.
برنامجنا المقترح :
يتبقى فى النهاية الحديث عن البرنامج المحدد الذى نقترحه لمحو الأمية والذى يتحرى بالأساس ذلك المنظور المطروح فى رؤيتنا النقدية لوجهة نظر( اللجنة المسكونية لمحو الأمية) ويتلخص فى كون محو الأمية جزءا من كل ؛ أى جزءا من برامج متعددة فى الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية المتكاملة والمعبرة عن موقف مستقيم وعميق إزاء أوضاع الكادحين الأميين فى مصر.
وهذا البرنامج يتفق مع الجانب التكنيكى فى برنامج اللجنة المسكونية ؛ ولكنه بالطبيعة يختلف فى جانب أساسى هو عملية التثقيف والتوعية ويشترك فى بعض جزئيات سبق تناولها .. وعليه فالمسألة مرهونة بتفاصيل برنامجنا المقترح التى لا تشكل صعوبة تُذكر فى تحديدها ؛ وهو ما سنتناوله فى حلقة قادمة.


نوفمبر 1978 بشير صقر



#بشير_صقر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- استنهاض الثقافة الجادة وبعث التنوير .. والأمية السياسية فى م ...
- حيث لا وقت نبدده فى المماحكات.. لنضع النقاط على الحروف .. عن ...
- مأساة بعض شباب منظمات المجتمع المدنى فى مصر: قراءة فى مسودة ...
- استيعاب - المضللين - من أعضاء جماعة الإخوان .. الوهم الأشد خ ...
- لو افترضنا جدلا ..
- عن الجيش المصرى .. والثنائية المفتعلة ( ثورة أم انقلاب..؟ )
- طريقان لا ثالث لهما .. التطهير وإعادة البناء.. أو المصالحة و ...
- حائط الصد الأخير.. وحديث عن النخب
- لكى تعود مصر .. ونعود فراعنة مرة أخرى : جففوا منابع التمويل ...
- مدخل لحل مشكلةالإسكان فى الريف المصرى والمناطق الزراعية المس ...
- شواهد مزعجة تعترض مستقبل الثورة المصرية : هل يتكرر سيناريو ث ...
- ( ثورة جديدة ونداءات مريبة بالمصالحة)
- مصالحة .. أم محاصصة جديدة برعاية الجيش المصرى
- ثورة جديدة - ونداءات مريبة بالمصالحة
- الجوع .. وأوهام الأمن الغذائى فى مصر
- تمهيدا لثورة معادية فى ريف مصر فى 30 يونيو القادم: بقايا الإ ...
- مرة ثالثة عن عزلة اليسار وانقسامه .. بعيدا عن المواعظ ولحاقا ...
- مساهمة أخرى فى الحوار حول أسباب عزلة اليسار المصرى وانقسامه
- رسالة للحوار المتمدن والأستاذ إبراهيم فتحى .. حول أسباب انعز ...
- منتدى الأرض بتونس - كلمة لجنة التضامن الفلاحى - مصر


المزيد.....




- الحوثيون يعلنون استهداف سفينة ومدمرة أمريكيتين وسفينة إسرائي ...
- وزير الخارجية الأيرلندي يصل الأردن ويؤكد أن -الاعتراف بفلسطي ...
- سحب الغبار الحمراء التي غطت اليونان تنقشع تدريجيًا
- نواب كويتيون يعربون عن استيائهم من تأخر بلادهم عن فرص تنموية ...
- سانشيز يدرس تقديم استقالته على إثر اتهام زوجته باستغلال النف ...
- خبير بريطاني: الغرب قلق من تردي وضع الجيش الأوكراني تحت قياد ...
- إعلام عبري: مجلس الحرب الإسرائيلي سيبحث بشكل فوري موعد الدخو ...
- حماس: إسرائيل لم تحرر من عاد من أسراها بالقوة وإنما بالمفاوض ...
- بايدن يوعز بتخصيص 145 مليون دولار من المساعدات لأوكرانيا عبر ...
- فرنسا.. باريس تعلن منطقة حظر جوي لحماية حفل افتتاح دورة الأل ...


المزيد.....

- اللغة والطبقة والانتماء الاجتماعي: رؤية نقديَّة في طروحات با ... / علي أسعد وطفة
- خطوات البحث العلمى / د/ سامح سعيد عبد العزيز
- إصلاح وتطوير وزارة التربية خطوة للارتقاء بمستوى التعليم في ا ... / سوسن شاكر مجيد
- بصدد مسألة مراحل النمو الذهني للطفل / مالك ابوعليا
- التوثيق فى البحث العلمى / د/ سامح سعيد عبد العزيز
- الصعوبات النمطية التعليمية في استيعاب المواد التاريخية والمو ... / مالك ابوعليا
- وسائل دراسة وتشكيل العلاقات الشخصية بين الطلاب / مالك ابوعليا
- مفهوم النشاط التعليمي لأطفال المدارس / مالك ابوعليا
- خصائص المنهجية التقليدية في تشكيل مفهوم الطفل حول العدد / مالك ابوعليا
- مدخل إلى الديدكتيك / محمد الفهري


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - التربية والتعليم والبحث العلمي - بشير صقر - استنهاض الثقافة الجادة وبعث التنوير .. والأمية السياسية (2) .. رؤية نقدية لتجربة مصرية رائدة .. دشنتها اللجنة المسكونية لمحو الأمية منذ سبعينات القرن الماضى