أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أماني فؤاد - يبقي لنا من -ابن خلدون- فعل المجاوزة ..















المزيد.....



يبقي لنا من -ابن خلدون- فعل المجاوزة ..


أماني فؤاد

الحوار المتمدن-العدد: 4292 - 2013 / 12 / 1 - 16:21
المحور: الادب والفن
    


ماذا يبقى من ابن خلدون (808هـ /1406)!
أقول : يبقى لنا من ابن خلدون .
فعل المجاوزة
المجاوزة ، هى : أن أتخطىَّ المعتاد ، والمتداول ، وأخرُجَ عن مقتضى المألوف والظاهر، مُحَقّقاً شيئاً يعجز عنه السائد والنمطى ، ويوافق الصورة التى فى ذهنى. المجاوزة فى اللغة ترجع إى جذر لغوى هو "ج و ز " يعبر به عن الخروج والمغايرة والاتساع والتعدى( ).
المجاوزة عدول عن أصل وموضع أصلى ومكان أول.
وقد أخترتُ مصطلح المجاوزة وليس التجاوز وذلك لأن التجاوز قد يشير إلى حالة وقد تكون مرتبطة بزمن ما، أو بتاريخ ما، لكن المجاوزة لا تفصل عن الأشخاص، أشخاص مبدعيها، ففى ذواتهم قدر من المجاوزات التى لا حدَّ لها والتى لها القدرة على مجاوزة نفسها بصورة مستمرة أى التجدد فى المجاوزة استناداً إلى أن "الأفعال وقد فصلت عن التاريخ لا تعود مفصولة عن الأشخاص"( ).
والإبداعُ بكل أشكاله مجاوزة ، ولإإذا لم ينجح فى تحقيقها بقى إبداعاً شكلياً ، تقليدياً، ميتاً . وما من مبدع إلاّ له إسهام فى المجاوزة فى الفن الذي يمارسه - أو يظن ذلك – فالمجاوزة هى التى تحقق له ذاته ، وتبرز له خصوصيته .
وما التجديد ، والتحديث ، والتطوير، والتنوير، والتثوير ، إلاَّ مترادفات لمعنى " المجاوزة " ، وفى المقابل الظلام ، والتقليد، والسخف والتعقيد والركود والرتابه. ومنة ثمَّ لا يكون شاغِلنا فِعلُ المجاوزة فى ذاته، بقدر ما يشغلنا قدر المجاوزة وقيمتها . فقد تكون ذات أثر محدود ، وقد لا يتعدى الفن الذى يمارسه المبدع ، وقد تتجاوز فَئَّة إلى فنون أخرى لاتمت إليه بصلة، أو تتجاوز بيئته إلى بيئات بعيدة عنه، وقد تركب عربة الزمن وتنطلق فى كل الأمكنة ، وقد تخرج من الشرق متجهة إلى أقصى الغرب ، لتصير مِلْكا للبشر.
إن هذا – هو ما حدث مع ابن خلدون العملاق ، الذى نحتفى به ، ونفتخر بعبقريته، ولا نُدِلُّ على الغرب به ، بل نُدِلُّ على الزمان كله به فالحضارة شعلة لاشرقية ولا غربية.
لقد فرض ابن خلدون فكره ومنهجه على علم التاريخ ، وأسس علم الاجتماع، وتجاوز أسلوب التسجيع والتجنيس على حساب المضمون ، حتى اطلَّ علينا العصر الحديث ، فوجدنا اعلاماً مصريين – وابن خلدون قد عاش فى مصر – مع غيرهم من أعلام العرب ، وجدناهم قد خرجوا من عباءة " المجاوزة الخلدونية " ، فتجاوزوا المألوف والمعروف ، وقدموا فكراً تنويرياً ، غيروا النمطى والعادى والمتداول ، فنالهم ما نال ابن خلدون من عنت التقليدين ، وشراسة قصار النظر ، وأصحاب المصالح، لكن ذهب المبطلون ، وبقى المتجاوزون ، فيهم تتطور العلوم والفنون ، وتتقدم الحضارة .
ورقتى التى أقدمها لن تتوقف أمام زاوية بعينها من زوايا مثلث الإبداع الخلدونى0 (علم التاريخ، علم الاجتماع ، الأسلوب الأدبى )، لكنها بعد أن تستعرض بإيجاز حقيقة منهج ابن خلدون فى كل ضلع من أضلاع المثلث على حدة، ستتوقف طويلا أمام طبيعة التجاوز الذى نعمنا به فى مُجاوزته، كلُّ بطريقته، وفى ميدانه ، ولا غَرْوَ ، فقد نالهم ما ناله من عَنَتٍ ، مجاوزتهم ما نال مجاوزته من ظلم، ثم ذهب الأقزام ، وبقى العمالقة .

1- مجاوزة ابن خلدون التاريخ الخرافى إلى التاريخ الموضوعى .
- معلـوم أن الأوربـين هم الذين أطلقـوا اسم " المقدمة " أو " المقدمة " "Les Prolegomenes"
-;---;-- على الجزء الأول من تاريخ " الِعَبر" ، فابن خلدون يسمى هذا الجزء من كتابه " الكتاب الأول فى طبيعة العمران فى الخليقة...."
- أشار ابن خلدون إلى أن للتاريخ معنيين ، معنى ظاهرى : وهو ، سرد الأحداث وتسلسل الأخبار ، وآخر باطنى ، وهو كُنْه العملية التاريخية ، من حيث النظر فى أسباب الوقائع ، وتحقيق عللها ، وبيان العلاقة بين المقدمات والنتائج فى مسار الحوادث.
- وقد هال ابن خلدون هذا الكم من القصص الخرافية التى انتشرت فى كتب المؤرخين السابقين ، وبخاصة حين يتعلق الأمر بقصص أنبياء اليهود ، والأمم الغابرة ، ولا تتوقف الطامة عند قصص الأقدمين من امم وأشخاص واحداث ، بل تتجاوز ذلك إلي شخصيات إسلامية ، مثل هارون الرشيد ، وابنه المأمون ، واحداث جسَام مثل نكبة البرامكة ..... ، وقد نَعَي ابن خلدون على الطبرى (310هـ) فى أوراقة ، وابن عبد ربه (328هـ) فى عقده الفريد ، والصولى (335هـ) فى أوراقه ، وابن رشيق القيروانى (456هـ) ففى تاريخه " ميزان العمل " والبكرى الأندلسى (467هـ) فى تاريخه المسالك والممالك " ، وابن الأثير (630هـ) فى كامله ، نَعًى عليهم انجرافهم إلى تدوين " أحاديث الخرافة المستحيلة " هذه ، كما يسميها ابن خلدون.
- القصص الخرافى ، أو الأسطورى ليست جديدة على التاريخ الإسلامى منذ محمد بن إسحاق بن يسار (151هـ) ، وشكوى ابن سلام الجمحى (231هـ) المريرة منه ، لكن ابن خلدون يتجاوز القصص إلى المنهج ، إلى عقلنه التاريخ ، ومنطقية الأحداث ، فالمؤرخ يجب أن يكون ناقداُ بصيراً، يكون " قسطاس نظره ، وميزان بحثه ، وملتمسه ، وعليه أن ينتقد كتاباته".
- ثم يصنع ابن خلدون فى التاريخ وهى نظرية " تبَدُّل الأحوال " ، وحركة التطور ، ويمكن لنا أن نتصور مسار التطور فى نظرية ابن خلدون فى التاريخ ، بمسار سلك حلزونى الشكل مشدود أفقياً بين قطبين ، فكأن الأحداث التاريخية تسير أماماً فى الشكل دوائر فيما بينها تعلو وتهبط عَبْر الزمن حسبما تقتضى الأحوال ، ويأتى أرنولد توينبى المؤرخ الشهير فى العصر الحديث ويتبنى هذه النظرية ويطبقها على الأمم والشعوب.

2- مجاوزة ابن خلدون تشظى ملاحظات أحوال الاجتماع الإنسانى إلى تأسيس " علم الاجتماع":
لقد تجاوز ابن خلدون ظاهرة تبعثر ملاحظات الظواهر الاجتماعية ، أو كما يسميها " واقعات العمران البشرى "، كما نراها منتشرة فى " المعارف " لابن قيتبة (276هـ) ، والمدينة الفاضلة " للفارابى(338هـ)، و" تهذيب الأخلاق " لمسكويه (421هـ) ، والأحكام السلطانية "و"الوزراء سياسةالملك" للماوردى (450هـ) و" الملل والنحل " لابن حزم الأندلسى (456هـ) ، و" سراج الملوك " للطرطوشى (520هـ) ، و" إحياء علوم الدين " للغزالى (505هـ)، " الفخرى فى الآداب السلطانية " لابن الطقطقى (709هـ) ، تجاوز ابن خلدون هذه الظاهرة إلى تأسيس " علم الاجتماع "، تأسيس علم مستقل بنفسه ، ذى موضوع محدد، ووسائل وغايات ، يقوم علي رصد مايلحق اجتماع البشر من العوارض والأحوال ، يقول: (.....ولعمرى، لم أقف فى الكلاه فى منحاه لأحد فى الخليقة ........
وبهذا العلم، يوضع ابن خلدون فى مصاف مبتكرى العلوم الجديدة ، كالخليل بن أحمد (180هـ) وعلم العروض ، وجابر بن حيان (200هـ) وعلم الكيمياء، وابن سينا (428هـ) وعلم التشريح ، وكل عظيم جاء بعد ذلك ، وأبدع علما نُسِبَ إليه فى العصر الحديث.
لقد وقف ابن خلدون أمام الظواهر الاجتماعية ، وتجاوز منهج الوصف ، إلى تحليلها تحليلا يؤدى إلى الكشف عن طبيعتها ، والأسس التنى تقوم عليها ، والقوانين التى تخضع لها، ومثلها فى ذلك مثل ظواهر الفلك ، والطبيعة ، والكيمياء ، وعلم وظائف الأعضاء وسائر العلوم الأخرى والمنضبطة, ذلك فهذه الظواهر فى نظر ابن خلدون لاتسير حسب الأهوتء والمصادفات ، ولا حسب ما يريده لها الأفراد ، إنما تسير فى نشأتها وتطورها ، ومختلف أحوالها حسب قوانين ثابتة مطردة ، كالقوانين الخاضع لها القمر فى تزايده ونقصانه ، والنهار والليل فى اختلافهما باختلاف الفصول ، وهذه الحقيقة ، لم يصل إليها تفكير أحدٍ من قبل ابن خلدون .
بل إن نقيضها كان هو المسيطر على الأفكار ن إذ كان المعتقد أن ظواهر الاجتماع خارجة عن نطاق القوانين خاضعة لأهواء القادة ، وتوجيهات الزعماء والمشرِّعين ودعاة الإصلاح . ومن ثمَّ ، من الصعب أن نُدْرس فهى عشوائية المقدمات ، عشوائية النتائج.

3- مجاوزة ابن خلدون تكبيل الأسلوب بالألفاظ الموسيقية الثقيلة إلى تحرير الأسلوب بالاسترسال الحر.
فى الفصل الذى أفرده ابن خلدون عن " انقسام الكلام إلى فَنَّى النظم والنثر " يقول : " وقد استعمل المتأخرون أساليب الشعر وموازينه فى المنثور ، من كثرة الأسجاع والتزام التقفية ، وتقديم النَّسيب بين الأغراض /..، واستمر المتأخرون من الكتَّاب على هذه الطريقةواستعملوها فى المخاطبات السلطانية ، وقصروا الاستعمال فى المنثور كله على هذا الفن الذى ارتضوه ، وخلطوا الأساليب فيه ، وهَجَروا المرسل ، وتناسَوْه ، وخصوصاً أهل الشرق.،
ثم يحدد مجاوزته لهذا العبث قائلاً : "أما إجراء المخاطبات السلطانية على هذا النحو ،.....، فمذموم ، وما حمل عليه أهل العصر إلاَّ استيلاء العْجَمة على ألسنتهم، وقصورهم لذلك على إعطاء الكلام حقَه. اتخذت مجاوزة ابن خلدون لكتابة الرسائل شكلا تطبيقياً ، يقول " وكان أكثر الرسائل يصدر عنىِّ بالكلام المرسل ،...، وانفردت به حيمئذٍ ، وكان مستغرباً عدهم بين أهل الصناعة."
من أسف غَطىَّ انحسار الحضارة وتراجعها فى العالم العربى على المجاوزة الخلدونية فى الأسلوب حتى طلَّ العصر الحديث وطبعت " المقدمة" وزامن هذا ظهور الصحافة ، فانطلق الكتَّاب يقتفون أثر أسلوب ابن خلدون فى الكتابة ،.

فعْلُ المجاوزة فى العصر الحديث.
المجاوزة لاتخصُّ أحداً ، و تقوم بإذن من أحد ، فهى استعداد شخصى ، وعبقرية فردية ، يؤازرها إطار بيئ ثقافى حضارى ، والفرق بين مجاوزة أعلامنا فى التراث العربى ، وبين أعلامنا فى العصر الحديث ، أن الأولين كانون يأتونها بشكل فردى ،واجتهاد شخصى ، يخص المجال الذى يتخصصون فيه ، علماً أو أدباً . أما فى العصر الحديث فقد تحول فعل المجاوزة من الفردية إلى الجماعية ، من الاجتهاد الشخصى المرتبط بقدرات العالم أو الأديب ، إلى تكاتف جماعة تعين على إبراز المجاوزة ، وترتبط برؤية تخص الوطن ، أو المجتمع ، أو الحضارة ، أو الإنسانية ، أو المستقبل البعيد ، المجاوزة الآن : فعل جمعى يدفع شخص عبقرى إلى إبرازها فتأخذ طريقها إلى الجموع , فهذا رفاعة الطهطاوى (1875م) يندفع نحو المجاوزة من اجل ان يربط الشرق العربى بالغرب الأوربى, ومحمد عبدة (1905م) يريد بمجاوزتة ان يصحح صورة الإسلام , وطة حسين (1973م) يشك فى الشعر الجاهلى, ليصحح المنهج الأدبى ويقضى على التواكل العلمى, وعلى عبد الرازق (1966م) يصحح خطأ الفقهاء فى دعوى الخلافة فى الإسلام, قائلاً : لا خلافة فى الإسلام , وهذا قاسم أمين (1908م) يريد أن يرفع كابوس التخلف والظلم عن المرأة باسم الدين , والبارودى (1904م) قام بمجاوزتة لعودة الروح إلى الشعر العربى , ومدرسة الديوان (شكرى وصاحباه) (1958م) تريد الخروج إلى عالم الشعر الوجدانى الصادق , وصلاح عبد الصبور (1981م) يريد ان يكون الشعر حراً من أية قيود , وهذا هم الحداثيون (ما بعد السبعينات) يثورن على الشعر نفسه ، وعلى أى قيد ارتضته مدرسة الشعر الحر.
نحن أمام مجاوزة تربط الوطن بالعالم ، وتنفى التخلف ، والعبودية للمتداول، والمرضى عنه ، وتسعى إلى ربط الإنسان أخيه الإنسان ، فى أى عصر ، وفى أى مكان ، تقدم العلم للجميع ، والأدب للمتذوقين ، والتقدم لكل الناس.
كان دور ابن خلدون , الذى طبعت مقدمته ببولاق مصر سنة 1868م, أنه قدم النموذج لأعلام النهضة , قدَّم فكرة أن المجاوزة ممكنة, بل ضرورية إذا اقتضى الحال ، نموذجاً منذ رفاعة الطهطاوى (1875م) إلى شعر ما بعد الحداثة، نموذجاً يحتذى ، و لايقلَّد ، فعلم التاريخ قد انطلق فراسخ فى تطوره بعد ابن خلدون، وعلم الاجتماع رحل إلى الغرب عن طريق الأندلس ، وتحول إلى مذاهب ومدارس، والأسلوب الأدبى تحرر فى المكاتبات منذ حرره محمد عبده وتلاميذه ووصل إلى ما يسمى "قصيدة النثر"، وانطلقت عجلة التطور مجنونة ثائرة تسابق الزمن. تريد الإنسان فى كل مكان.
ويظل ابن خلدون وعباقرة فى تراثنا العربى ، هم البداية المضيئة فى حياتنا. وبناءً على هذا التصور الذى يخرج بمفهوم المجاوزة من دائرة الفردية إلي الشموليه ، سيتغير مقياس تقويم المجاوزة فى العصر الحديث ، فنحن لانقارنها بمجاوزات التراث إلاَّ من حيث القدوة الحسنة ، ثم نعود إليها لنسألها ؟ ما الأهداف التى تتغايها ؟ وهل لديها القدرة على الاستمرار ؟ وما درجة استجابة العلماء أو الأدباء لها ؟
نريد مجاوزة محسوبة ، وليست منفلتة ، مجاوزة أصيلة وليست هزيلة ، فالإنسانية لا تتقدم إلاَّ بالمجاوزات العملاقة ، التى تثور على السائد و المعتاد إلى المدهش المفيد .

وأعلمُ أننى قد اخترت نقطة تماس دقيقة جداً بين ابن خلدون ورفاعة الطهطاوى ، ثم هبوطاً منه إلى البارودى، محمد عبده فقاسم أمين إلى أن وصلت إلى شعراء ما بعد الحداثة ، وهى نقطة " فعل المجاوزة" ، وأعلم أن هذا الاختيار سيعرض سؤالاً مشروعاً ألا وهو : لماذا هؤلاء دون غيرهم ؟ ألم يكن فى العصر الحديث من رواد التنوير من المفكرين والفلاسفة والأدباء والفنانين ، بَلْه ، الأطباء والعلماء من يستحق ان يحتلَّ مكاناً بين هؤلاء ؟، أقول : بلى ،ولكن ، اسمحو لى أن أوضح بعض النقاط :
أولا: قد اخترت مَنْ هو أقرب إلى تخصصى" الأدب ونقده " لأكون أقدر على تحديد فعل مجاوزته.
ثانياً: إن مُنَاخ القهر الذى عَشَّش بقوة منذ ثورة يوليو 1952 حتى هذه اللحظة الراهنة لم يكن يسمح بظهور مفكرين لهم مجاوزة قادرة على التغيير، بينما كان الأدباء يتحايلون على الظلم بالكلمة والخيال والرمز والظلال، الأمر الذى يتعارض مع منهج العقل والقياس.
ثالثاً: حتى هؤلاء الرواد الذين أرصد مجاوزتهم ليسوا هم كل الرواد، والإحاطة بهم جميعاً فوق طاقتى ، وفوق طاقة بحثى هذا، مع اعترافى بفضلهم وجدارتهم فى فعل المجاوزة.
رابعاً: لقد تعمدتُ أن أركِّز الأضواء على فعل المجاوزة ، من حيث الدوافع والوسائل ، والمقاصد ، وأيضاً من حيث القيمةُ الحقيقية لهذه المجاوزة ، وليس من هدفى أن أسرد مسيرةً حياة لرائد من الرواد ، أو مسيرة حياة أدب ، أو حتى أثر هذه المجاوزة أو تلك فيمن جاء من بعد صاحبها ، فهذه بحاجة إلى دراسات مستقلة بذاتها.
خامساً: وأود أن أصحح فكرة انتشرت فى كثير من الدراسات ، وبخاصة بين شباب الباحثين ، وهى أن : العبقرية فَرْدُُ عبقرى ، فيسلطون الأضواء على الشخصية التى يدرسونها ، لايدعون صغيرة ولا كبيرة صدرت عنه إلاَّ أخضعوها للفحص : والواقع ينفى ذلك ، فالبعقرية طاقة ذهنية غير عادية تهيأت لها ظروف اجتماعية وثقافية واقتصادية وسياسية ودينية ساعدتها على النمو والتألق ، وفى كل زمان ومكان ، شرقاً أو غرباً ، عاشت عبقريات ينتظر منها الأعاجيب ، ولم تجد مَنْ يرعاها ، فذهبت مع الريح، إذاً : العبقرية كلمة من الله طيبة ، وجدت عدداً من العوامل المشَجعة فأينعت، ومن حق هذه العوامل أن تلقى حظها من التقدير على يد الباحث فى أيه عبقرية.
سادسا: لايخفى علينا أن ابن خلدون كان حجر الزاوية فى ثقافة هؤلاء جميعا بلا استثناء ، وغيرهم ، كلهم قرءوا له ، والأكثر من ذلك ، أن رفاعة الطهطاوى قد أشار فى كتابه " تخليص الإبريز" إلى أن الفرنسيين يطلقون على ابن خلدون "مونتسكيو الشرق " وأن محمد عبده كان يدرِّس "مقدمة ابن خلدون"، وأن رسالة الدكتوراه لطه حسين فى فرنسا كانت عن مجاوزة ابن خلدون، وأن هوامش على عبد الرازق يتكرر فيها الرجوع إلى مقدمة ابن خلدون كثيراً وهكذا، فنقطة التماس موجودة بالفعل أوبالقوة.
سابعا: أن فعل المجاوزة هو الذى يضم هؤلاء الرواد إلى ابن خلدون فى إطار واحد هو قد غَيَّر مسار علم التاريخ، وأسس علم الاجتماع ، وحرر أسلوب الكتابة من القيود ، وهم قد غيروا فيما غيروا من مسار مجتمعهم، وعالجوا قضاياه كما غيروا من مسار فن الأدب شعراً أو نثراً، أو هما معاً من خلال فعلهم للمجاوزة، مقتدين به فى أن فعل المجاوزة حق مشروع لكل من امتلك أدواته. إن المشكلة التى جابهت زعماء الإصلاح فى نهاية القرن التاسع عشر إلى منتصف القرن العشرين فى مصر والعالم العربى ، أنهم كانو يتعاملون مع مجتمع أَلِفَ أفراده الظلم حتى صار هو العدل عندهم ، والقهر حتى صار هو الحرية ، وصار التخلف تقدماً ، والجهل علماً ، والخرافة يقيناً ، والفقر قدراً ، والمرض صحة، والعبودية هى الحياة . ومن ثمَّ احتاج مجاوزة الواقع المعيش إلى جبابرة يتمتعون بقدرات فذّة ، وصعود عنيد ، وروح أقرب إلى الاستشهاد ، أبداً ، لم تكن المجاوزة ترفيهاً، ولا التغيير متعة ، بل كانت المسافة فداءً ، واستشهاداً فى سبيل إحقاق الحق. ومن الضرورى أن أوضح هنا ، أن مجاوزة زعماؤ الإصلاح للواقع العربى البأس ، الذين كانوا يعانون من فساده ، كانت " مجاوزة محسوبة" ، أى أنها : كانت محدَّدة المعالم ، معتمدة على الفهم الصحيح للدين ، وعلى الواقع الغربى نموذجاً حياً ، فلم تكن مجاوزتهم مغامرة طائشة ، أو ثورة فى فنجان ، فالشعب العربى شعب متدين ، محافظ ، أصولى ، يؤمن بالتدرج فى التقدم ، ويكره الطفرة فى التطور ، والشطط فى المجاوزة .
ثامنا: إننى أُمَهِّدُ الطريق لمن يتناول الموضوع من بعدى، ليضيف ما فاتنى أن أضيفه، ويتعمق ما غاب عنى أن أتعمقه.
رفاعة الطهطاوى (1873م) وفعل المجاوزة
لو أردنا أن نختزل تاريخ رفاعة الطهطاوى وإنجازاته فى كلمة واحدة فلن نجد فيما رأى – أشمل من كلمة " المعلّم" ، هو أبو النهضة المصرية الحديثة ، نعم ، هو الذى أقام جسراً بين الحضارة الغربية والشرق العربى المتخلف، نعم، هو الذى طرق أبواب العلم والفن ، والفكر والتربية ، والسياسة والقانون ، نعم، هو صاحب أضخم مجاوزة تمت فى تاريخ مصر المعاصرة ، نعم ، هو الذى أدخل مصطلحات لم تكن موجودة فى العربية من قبل ، نعم ، هو الذى نادى بتعلم البنات ، وتأسيس المسرح، وكان مديراً لما يشبه الجامعة قبل أن تنشأ الجامعة فى مصر بربع قرن ، نعم كان رفاعة الطهطاوى هذا كله ، وأكثر ، ولكنه أولاً وقبل أى شىء آخر ، كان : " المعلم " الأول لنهضة الشرق الغربى متمثلاً فى مصر، متجاوزاً به حالة التخلف الذليل ، إلى حالة الازدهار الجميل.
كانت مجاوزة الطهطاوى قائمةً على : الدهشة والنفى ، الدهشة ليست مما وصل إليه الغرب من حضارة، ولكن من تقاعس الشرق وارث الحضارة الإسلامية عن أن يتفوق على الغرب، الغرب الذى تتلمذ للحضارة الإسلامية التى انظلقت إليه من الأندلس الخصيب ، وليس العيب فى الشرق ، ولا فى الإسلام، ولا فى الزاد المعرفى ، ولكن فى حكَّام الشرق ، وفقهاء الشرق ، وفى الاستبداد والقهر والاستغلال ، من عهد بعيد أما النفى ، فهو قلبُ لصفحة الحاضر بما فيه من أمراض فكرية وعلمية وفنية وتربوية وخطاب دينى ، والإسراع بأسرع ما يمكن إلى تعويض فترة البيات العلمى والتخلف الحضارى ، وسيطرة الخزعبلات، ثم النهوض، بل الثورة حتى نلحق بمن سبقونا فى مضمار التقدم...ووسيلة رفاعة كانت " التعليم " القائم على الترجمة، المتوسل بالتربية، المَّتشح بالصبر، المحتمل كل ألوان التعنت ليعود الشرق مُشُرِقاً، يضاهى الغرب، ويكمل معه مسيرة الحضارة الإنسانية.
كان رفاعة الطهطاوى مسئولاً أمام ضميره أن يحيى أمةً ويوقظ شعباً ويعيد للحضارة الإسلامية وجهها الصبوح ، فاندفع يُسْهم فى كل الميادين ، وكأنه جامعة متنقلة، ولاأريد هنا أن أنسى كوكبة أعلام التنويرالذين عاصروا رفاعة، اوجاءوا من بعده ، وحملوا على أكتافهم عبء مجاوزة الواقع ، وخوض عُباب المجهول ، فالفضل ممتد ، لكنَُ الطهطاوى لم يكن الطهطاوى لم يحصر نفسه فى تخصص معين لايتجاوزه، بل, انفتح على الحضارة بأوسع معانيها ، وواجه الغرب مواجهة النّد للنَّد ، بشخصية سوية، فأحدث إضافات تنسب إليه في ميادين اللعة والشعر والمقال والصحافة ، والقصة والمسرح والمتحف ، وفى ميادين الإصلاح الاجتماعى والقانونى والسياسي والعلمى وتربية البنات والآثار ورعايتها ، والربط بين التراث والحداثة ، تجد رفاعة حاضراً. حضوراً قوياً ، حتى شهد له المستشرقون قبل العرب ، بأنه بطل التحرر العقلى ، وموقظ " غُفَاة البشَرً فى الشرق ، الغرقين فى غياهب العصور الوسطى أن يلحقوا بعربة النهضة المتجهة إلى حيث العلم والحرية، والكرامة الإنسانية.
البارودى (1904م)

البارودى هو رائد الشعر العربى الحديث غير مُدافَع، فتكوينه الشخصى ، وظروفه الحياتية والعسكرية والسياسية ، مع تدهور حال الأدب فى عصره ومن قبله ، كلها ، عوامل رشَّحته وحده ، وبجدارة لفعل مجاوزة " الرجوع إلى الأصالة " التى أنقذ بها الشعر العربى من الهلاك، ذلك الذى لم يكن شعراً ولا عربياً.
ولكى ندرك خطورة مجاوزة البارودى بالشعر العربى من العدم إلى الوجود، ومن السخف إلى الجمال، علينا أنَ نطُلَّ إطلالةً خاطفةًً على مفردات الحياة الضنك التى كان يعيشها أدبنا العربى قبل البارودى بقرون ، وجاء البارودى ليكون علامة فارقة فى حياة الشعر العربى الحديث.
لقد انقطعت الصلة بين الحاكم المستورد ( التركى و المملوكي وأسرة محمد على ) وبين الشعراء ومدائحهم ، لاعتماد هؤلاء الحكام فى تثبيت حكمهم على البطش والنفوذ الأجنبى ، بدلاً من اعتمادهم على الشعب الذى لم يكن له وزن عند أُولى الأمر ، ولم يكن الحاكم نفسه يجيد اللغة العربية، أو يحسن فهمها وتذوقها ، فاللغة الأم كانت التركية ، ولم يكن الأدب وسيلة من وسائل دفع الكتَّاب إلى الترقى، ثم إلى كرسى الوزارة مثلما رأينا عبد الحميد الكاتب (132هـ) ، ومحمد بن عبد الملك الزيات (233هـ) وابن العميد (360هـ)... إلخ.
وأمام انحطاط التعليم، وانحسار المدارس ، وجمود مناهج الأزهر، فَقَدَ الشعراء الجمهور الذى يتجاوب معهم، والذى تسمح له ثقافته أن يفهم الشعر ويتذوقه، ثم كانت لسيطرة النزعة الصوفية الغيبية على الحياة فى تلك الفترة بحسبانها لونا من ألوان المقاومة السلبية ، ورداً على القهر الذى لاحيلة للشعب على رده، كان لهذه النزعة أثرها فى التفكير الشعبى تجلى فى البعد عن كل ماهو واقعى ، والفرار من الأرض والتعلق بالغيبيات ، بالإضافة إلى أن وسائل الانتشار من طباعة وصحافة وكتب كانت محدودة لاتساعد على ازدهار أدب، أو تطوير منهج، أوترقية فكر . وكيف يتحقق هذا ، والشعب يساق بكل أنواع الاضطهاد والظلم والعسف اللا إنسانى ؟ !
وكانت النتيجة الحتمية لهذا التردى أن انتشرت اللغة الشعبية ، وانصرف الناس إلى الشعر الشعبى ورواياته ، يجدون فيه أنفسهم وعذابهم ومتعتهم .
( عثمان جلال (1898م) نموذجا) . ولا تغرنا كثرة الأسماء التى انتشرت على الساحة الشعرية مثل : إسماعيل الخشاب (1815م)، ومحمد المهدى المصرى (1815م). وحسن العطار (1834م)، والسيد على الدرويش (1853م)، وغيرهم ، والجيل التالى لهمّ مثل : على أبو النصر (1880م)، ومحمد صفوت الساعاتى (1880م) وغيرهم، فشعرهم، تافه سطحى سخيف.
نعم حدث رواج نسبى للأدب منذ عهد محمد علي وسعيد وإسماعيل ، ولكنه أشبه بالنسمة التى تحاول أن تقتلع شجرة . حدث هذا فى شعر عبد الله فكرى (1889م)، وعلى الليثى (1896م)، وعبد الله النديم (1896م)، فقد خفَّت حدة الأساليب الركيكََة ، وبدأ الشعر يلتفت إلى النفس ، ووصف الطبيعة ، ولكنه قلما تناول الأحداث الجسام التى كانت تجرى فى مصر من منظور عميق .
وبالرغم من ذلك ظل هذا الليل الصريح ، ينتظر مَقْدَم الفجر الصحيح ، ينتظر محمود سامى البارودى.
إن المجاوزة الفعلية التى ميزت البارودى ، تعود إلى ما أحدثه من تغيير فى وظيفة الشاعر، ووضعه داخل شبكة العلاقات الاجتماعية والمعرفية للمجتمع .
لقد كان هذا الوعى ، ركنا أساسياً فى إيمان البارودى بضرورة النهضة ، وعنصراً تكوينياً من إيمانه المصاحب بقدراته الذاتية على الإسهام فيها ، وإذا كان البارودى - رجل الدولة – حاول الإسهام فى تحقيق النهضة زعيماً من زعماء الثورة العرابية على الظلم والتخلف ، وداعية من دُعاة الشورى والحياة النيابية ، ووزيراً ورئيساً للوزراء فى حكومة تحاول مقاومة شرور الحكم المطلق للخديوى وإصلاحه ، فإن البارودى الشاعر كان يعمل بما لايناقض حُلم رجل الدولة ، وما يبقى بعد ذهاب هذه الدولة ورجالها على السواء ، فصاغ من القصائد ما عدَّه وسيلة من الو سائل التى تنتقل بالإنسان من الشر إلى الخير – وبالمجتمع من التخلف إلى التقدم.
إن الخير فى الإنسان هو الأصل ، وإن الرقى ومحاولة التطور ، والرجوع إلى مناهل العرفان فى تراث الإنسانية هو الأصالة ، وإن الشعر متعة ، وحكمة ، ورقى ، كما تركه الأجداد ، على أن نطوره ، ونقدمه طازجاً متطوراً إلى الأحفاد. وهذ هو لُبُّ مجاوزة البارودى.

الشيخ محمد عبده (1905م)

بعد أربعة قرون ميلادية ونصف تقريباً من وفاة ابن خلدون يظهر محمد عبده لينادى بـ " تحرير الوعى" من أجل نهضة الإنسان العربى المصرى ، مهما كانت عقيدته الدينية ، وطبقته الاجتماعية ، ومستواه الثقافى ، وقدرته الاقتصادية ، نادى محمد عبده " بتحرير الوعى من قيد الجهل".
ومن الضرورى ألاَّ يغيب عن ذهننا ، أن مصر – آنذاك- كانت تنهشها أنياب متوحشة ، من الوالى العثمانى إلى بقايا المماليك ، إلى محمد علي نفسه ، إلى أبنائه عباس الأول ، وسعيد وإسماعيل ومحمد توفيق إلى الحملة الفرنسية ، إلى الاحتلال الإنجليزى ، أنيابُ تنهش فى الشعب المصرى وهو غارق فى غييوبة الجهل ، جهل العلم ، وجهل الفقر، وجهل المرض ، وجهل روح الدين ، وجهل الحقوق ، وجهل الواجبات ، والجهل قيد و القيد يليق بالبهائم ، وليس بالإنسان الذى كرَّمه المولى تعالى ، وجعله خليفة له فى أرضه ولم يقصد محمد عبده بتحرير الوعى من جهل العلم ، ذلك العلم الذى كان متداولاً فى الكتاتيب والمدارس الأولية ، ولا ذاك الذى كان منتشراً فى أروقة الأزهر من قشور علوم النقل من شرعية ولغوية – هذا العلم الذى قفز بالأزهر إلى الوراء حيث أحضان العصور الوسطى – ولكنه كان يقصد العلم بمعنى التحضر ، والرقى ، والإحاطة بكل منجزات العقل البشرى من علوم وآداب وفنون وفلسفة وطبيعة وهندسة وطب ...إلخ ،. ولن يتم ذلك إلاَّ بتغيير نسيج عقول المشرفين على الأزهر من علماء تجمدت بهم السُّبُل ، وأغلقت عليهم الأبواب ، وضاع النور من بصيرتهم . نادى محمد عبده بإصلاح حال الأزهر ، وبإرجاع أموال الأوقاف إليه ، وبتغيير مناهج الدراسة فيه ، وإضافة علوم الفلسفة والطبيعة والهندسة والرياضيات إليه ، وتعديل مرتبات العاملين فيه ، وفتح أبواب الإفادة من العقول المستنيرة تقوم بالتدريس فى الأزهر ، والحرص على عدم الزج به إلى حظيرة السلطان من أجل عَرَضِ الدنيا، نعم لقد كتب الشيخ محمد عبده فى هذا وتكلم ، وناقش، ودافع : كتب فى مجلة " العروة الوثقى " فى فرنسا ، وفى" المنار" فى مصر ، وناقش فى مجالس الدرس حين كان يدِّرس فى الأزهر ،وفى دار العلوم، حتى ضج منه زعماء الإظلام فى الأزهر ، ومعهم حاكم القصر ، وجيش المرتزقة من المنافقين فى الصحافة والدواوين؟
ولم يكن محمد عبده يفّرق فى طلب العلم الصحيح بين الرجل والمرأة ، ثم أسهم إسهاماً حقيقياً فى إنشاء الجامعة ، ليفيد الشرق العربى من نهضة الشعب الغربى، وكان حريصاً على تنقية اللغة من شوائب الزخرفة الباردة والتعقيد السخيف، وأحيا كنوز التراث المدفون فى أغوار المكتبات مخطوطاً ، أحياه تحقيقاً وشرحاً وتدريساً ، وهاهم البلاغيون المحدثون يدينون له بالفضل فى إعادة الحياة لكتابَىْ الجرجانى (الدلائل والأسرار )، بدلاً من كتب الحواشى والتقارير ، وهذا السخف الذى يظلم العقول .
كان الشيخ محمد عبده ينظر إلى العلم نظرة متكاملة ، علم الدنيا والدين، علم الأرض والسماء ، علم النفس والطبيعة ، علم الشرق والغرب ، مدركاً تماماً معنى الأية الكريمة :" قل هل يستوى الذين يعلمون والذين لايعلمون " صدق الله العظيم.
الشرق العربى كما هو معروف ، مهبط الأديان ، وموطن حضارات التوحيد، وعبادة الإله فى تفانٍ واستسلام ، وأمام زحف القهر ، وضغط الاستبداد ، ازداد تعلق الشرقى بدينه ، يحتمى به ، ويستد فئ بوعوده ، مستعينا بالصبر والزهد على ظلم الظالم ، وعنت الحاكم ، وفُجْر المستعمر.
ومن ثمَّ صار التحدى الحقيقى أمام المصلح التنويرى أن يعود بالناس إلى روح الدين ، إلى حقيقته ، وجوهره بعيداً عن القشور والمظاهر الخادعة ، والأخبار الكاذبة، والازدواجية الدينية حتى صار ما وَقَرَ فى القلب يكذِّبه العمل.
ومن يقرأ تفسير الشيخ محمد عبده لجزء عَمَّ من القرآن الكريم ، يعجب من هذه السلاسة، والنصاعة ، والجمال ، فى عصر تميز بالانغلاق فى كل شىء ، يدهش من قدرته على الجمع بين العقل والنقل وبين التحسين والتقبيح العقليين فى فهم روح الدين، إن الشيخ محمد عبده يعلم تماماً أن القرآن ربيع قلوب المؤمنين ، وهادى عقولهم، ومنير قلوبهم ، وأنه حين حُشِىَ التفسير بالمعميات والخرافات والأساطير، عاش المسلمون فى غيبوبة من الوعى . فقال قولته الشهيرة حين سألوه كيف وجد أحوال الناس فى الغرب قال: وجدت هناك مسلمين ولا إسلام ، وهنا إسلام ولا مسلمون "، وكان يردد فى كتاباته وأحاديثه قوله :" الإسلام محجوب بالمسلمين ".
لقد قامت مجاوزة الشيخ محمد عبده فى تحرير الوعى الدينى على الاعتماد على التفسير ، وعلى توضيح الأصول الستة للإسلام ، وهى " النظر العقلى لتحصيل الإيمان ، وتقديم العقل على ظاهر الشرع ، والبعد عن التكفير : فلو كان هناك قول يحتمل الكفر من مئة وجه ، ويحتمل الإيمان من وجه واحد ، حُمل على الإيمان .
والأصل الرابع : الاعتبار بسنن الله فى الخلق ، والأصل الخامس : رفض السلطة الدينية ومحو آثرها بالمرة ، فلكل مسلم أن يفهم عن الله من كتاب الله ، وعن رسوله من كلام رسوله ، بدون وسيط من سلف أوخلف ، مهما كان شأنه ، وما عليه إلاَّ أن يتقن الوسائل التى تؤهله للفهم السليم ، من لغة وعقل واستنباط . والأصل السادس : حماية الدعوة لمنع الفتنة ، فليس القتل فى طبيعة الإسلام ، بل فى طبيعته العفو والتسامح ، أما القتال فيه فَلِرَدِّ اعتداء المعتدين على الحق وأهله، إلى أن يأمن المسلمون شرهم ، ويضمنوا السلامة من غوائلهم.
ولكَِىْ ندرك مدى حاجتنا إلى مجاوزة الشيخ محمد عبده فى عصره ، نقدم شاهداً من عشرات الشواهد فى حياته ، وهو شاهد من داخل أروقة الأزهر ،- الواجهة الإسلامية للشرق العربى - فما بالنا ببقية الشعب العربى ، والبلدان الإسلامية الأخرى - لقد كانت تدبيرات الصحة فى الأزهر مهملة، بل كادت تكون معدومة لقلة اطمئنان ( علماء) الأزهر إلى المواد التى تستخدم للتعقيم والتطهير ، بل قلة اطمئنانهم إلى أقوال الأطباء فى عدوى الجراثيم ، فالجراثيم بلاء من الله يمتحن به صبر المسلمين، فكيف يدفعون هذا البلاء ؟! ، ولولا أن النظافة أدب من آداب الإسلام لما تقبَّل هؤلاء ( العلماء)عملاً من أعمال الوقاية فى أزمنة الوباء ، وغاية ما يفعلون: أن يأمروا بإغلاق الجامع الأزهر ، ووقف الشعائر والدروس فى أروقته ،إنَّ معالجة الداء بالدواء الحديث اعتراض على إرادة الله ، ومن قبل – أيام الطهطاوى – ثار جدل حول " هل الحجْر الصحى لركاَّب السُّفُن إلى بلاد أجنبية حلال أم حرام ؟" فجاء الشيخ محمد عبده وأمر بالعناية بالتدبيرات الصحية ، وبإنشاء صيدلية للجامع الأزهر لأول مرة فى تاريخه ، وتعيين طبيب مقيم لعلاج طلبة الأزهر والكشف عليهم بالمجان ، ولم يقتصر الأمر على الجامع الكبير بل تجاوزه إلى المساجد وما يلحق بها من أماكن الوضوء.
إنه الفقيه العالم الذى غادر المتون والحواشى الموروثة ونزل إلى أرض الواقع ومقتضياته ليعمل عقله من أجل حياة أفضل فيه.
لقد أنشأ الشيخ محمد عبده فى مصر ، ولأول مرة ، ما يسمى الآن بـ "هيئة الرقابة الإدارية "، وذلك من خلال صحيفة " الوقائع المصرية " التى حرر أسلوبها، وغيرَّ من أبوابها ، وعدَّل من أهدافها وجعلها فى خدمة الشعب ، وليست فى خدمة الأسرة الحاكمة المستوردة .
فاستصدر الشيخ " مرسوماً يكلّف كل (نظارة) وزارة بإرسال موجز عن منجزاتها فى إداراتها لينشر فى " الوقائع " ويّطلع عليه الشعب، ثم يتولى الشيخ أو أحد معاونيه تقويم عمل كل وزارة على صفحات الصحيفة ، تقريظاً أو تقريصاً ، فتولَّدت روح المنافسة بين الوزارات للفوز بهذا التقريظ لتضمن رضا الخديوى عنها ، ووصل الأمر بأحد محافظى الوجه القبلى الذي أوجعته شدة الانتقاد ، أن يمنع دخول الصحيفة إلىمحافظته ، وتسرب الأمر إلى هيئة التحرير ، فنشروا الخبر فى " الوقائع" وكانت فضيحة.
قد نتفق مع الشيخ أو نختلف معه ، ولكن علينا ألاَّ ننسى أنه كان يحمل فى يده شمعة يضىء بها ظلاما دامساً ، يسيطر عليه عصابة شرسة من القصر ورجال الاحتلال وتجار الدين والمفسدين والمنافقين . وسائر المعوقين لإتمام نور الله بين المسلمين ، وذهبوا جميعا بما نهبوا ، وبقيت شموع التنوير تهدينا الطريق.
قاسم أمين (1908م)

كل الشواهد كانت تنبئ بأن هذا الفتى المصرى الكردى ، المسمى بقاسم محمد أمين ، قادرُ ُ على فعل المجاوزة ،سنة1863م، فى أسرة موسرة ، وأكمل دراسته فى مونبلية بفرنسا ، ثم عاد إلى مصر ليعمل فى سلك القضاء، عاش فى فرنسا ومصر فى قلبه وعقله وعيونه ، عاد ليجد الصراعات : الأحزاب ، والقصر ، والاستعمار ، ومحاولات الإصلاح ، وسيطرة التقدم الغربى بحلوه ومُرِّه على الحياة المصرية، عاد ليلتحم بالشعب المصرى حتى جنوب الوادى من خلال عمله فى القضاء . ليجد شعبا آخر ، وظلما آخر ، وفقراً وعذاباً وإهانة لاتخطر على قلب بشر.
وفى القاهرة كان قاسم أمين جليساً للمصلح الدينى الشيخ محمد عبده (1905م) والوطنى الثأئر مصطفى كامل (1908م) ، والمحامى الفذ- لولا حادثة دنشواى (1906م)- فتحى زغلول (1914م)، وقائد الثورة سعد زغلول (1927م) ، وسائر أعلام العلم والفكر والفن والأدب والقانون .....
كل هذه العوامل كوَّنت روح الرفض عند قاسم أمين وزودته بالإصرار ، وعودته التصميم ، وبلورت أمام عينيه أن الحل الأنجع ، هو: أن تتجاوز هذا الواقع الكالح، إلى آخر صالح، والحق أحق أن يُتَّبع ، ألم يكن قاضيا؟ ألم يَعِشْ فى بلد النور، فرنسا، حيث كانت مبادئ الثورة الفرنسية فى الحرية والإخاء والمساواة، ترفرف فى سماء العقد الاجتماعى بين الناس ، الحاكم قبل المحكوم ، فلماذا لاتسود مبادئ تقوم على الحرية والعدل ، على العلم والفن ، على الخير والجمال، ويتمتع بها شعب مصر ، أليس حفيد صانعى حضارة بزغت منذ فجر التاريخ ؟!.
ومن خلال منظومة" المجاوزة هى التطور " كانت لقاسم أمين إنجازات بجوار إنجازه الشهير القائم على أن " الحضارة المتطورة امراة متنوَرة " ، من هذه الإنجازات ، أنه كان أحد أعضاء جمعية العروة الوثقى التى كونها الشيخ محمد عبده ، والشيخ جمال الدين الأفغانى (1897م) فى فرنسا ، وتهدف إلى الإصلاح الدينى ، والتحرر من الجمود الفكرى، وهو الذى سعى إلى إلى إصدار قرار العفو من الإعدام على خطيب الثورة / عبد الله النديم (1896م). وهو صاحب مقولة : " ما وُضع القانون لإزادة المجرمين مجرماً ، وإنما لإنقاصهم مجرماً ، وإغلاق باب زنزانة "، وكان فى أحكامه يطبق حديث المصطفى صلوات الله عليه وسلامه ":"ادرءوا الحدود بالشبهات"، وهو الذى ثار على أوضاع الأوقاف المصرية والفساد الذى كان يعشش فى قوانينها ، وجيوب القائمين على الأمر فيها، وهو الذى كافح الامتيازات الأجنبية ، وكان له أسلوبه فى الأدب ، ورأيه فى النحو واللغة العربية – وإن لم نوافقه عليه – وكان قاسم أمين سكرتير لجنة " إنشاء الجامعة " مع كوكبه من رجالات مصر المرموقين فى بيت سعد زغلول ، وفى سنة 1908م، فتحت الجامعة أبوابها للبنين والبنات.
كل هذه الشواهد كانت دليلاً على أن مَنْ نادى بتحرير المرأة ، وصارع صراع الأبطال من أجل مجاوزة واقعها الأليم ، لم يأت بشىء غريب عليه. ومن ثمَّ أعدَّ قاسم أمين عدتَه جيداً ، حين نادى بتحرير المرأة ، فلم يكن الحجاب عنده مقصوراً على غطاء الرأس ، بقدر ما كان حجاباً ، يحجب حقوق المرأة عنها ، والتربية السليمة لها ، والفهم الصحيح لدورها فى الحياة ، والثقة فيها ، واحترام آدميتها، كانت المرأة – ومازالت فى بعض البيئات فى مصر والعالم العربى – تعيش عبودية ، وتخلُّف وإهلنة ، تعيش مسلوبة الإرادة ، ناقصة الأهلية ، مظلومة ،محطاً للشك والريبة ، مهمتها الوحيدة محصورة بين غرفتى الطبخ والنوم ،إن السعادة كما كان يتصورها قاسم أمين تتمثل فى " امرأة لها عقل رجل وجمال أنثى ".
التربية والتعليم ، والإنتاج والتدريب ، والحرية والمسئولية ، والخروج من الحبس الانفرادى فى البيت ، ومشاركة الرجل – إذا اقتضت الضرورة – فى العمل وكسب العيش . كانت دعوة قاسم أمين، وثورته فى مجتمع ظالم ، يتعامل مع المرأة كأنها سَقَط المتاع ، كانت مجاوزة خطيرة ، ارتجت لها أركان المجتمع، وانطلقت حناجر أنصاف المثقفين ، والحاقدين ، والمتخلفين ، واصحاب المصالح ، وخاض غمارها المفكرون والأدباء والعلماء والسياسيون ، وعانى الرجل من جراء مجاوزته هذه معاناة أصحاب الرسالات ، وهوجم هجوماً عنيفاً ، حتى مُنِعَ من دخول القصر وتهجم على بيته أحد السوقة يريد مجالسة زوجته طالما أنه يدعوا إلى حرية المرأة. وبالرغم من أن دعوته إلى تعليم المرأة لم تكن جديدة ، فقد نادى بها رفاعة الطهطاوى (1873م) ومن جاء بعده ، إلاَّ أنهم لم ينطلقوا – كما انطلق قاسم أمين – من منظومة متكاملة .


العقاد (1964م) والمازنى (1949م)
"الديوان فى الأدب والنقد "
فى عام 1921يصدر العقاد والمازنى جزئين من كتابهما "الديوان فى الأدب والنقد " ويعد هذا الكتاب وثيقة من أهم وثائق النقد العربى الحديث ومعلمأ من معالم التطور الأدبى فى مصر. ولقد أحدث هذان الجزءان الصغيران دويأ فى الربع الأول من القرن العشرين لم يحدثه إلا كتاب أخر هو الشعر الجاهلى للدكتور طه حسين.
المجاوزة التى أرصدها فى هذا الصدد هى إعلاء شأن الذات, الذات الإنسانية المصرية العربية، الذات الفرد وليست الذات الجمعية- الوجدان البشرى بكل خلجاته وبكل ما يعتورة من تداخلات- واستتبع هذا بدون شك طرحهم لمفهوم جديد للشعر يغاير ما كان سائداً.
لقد جمع الكتاب بين النظر والتطبيق، وكان هدفه إقامة حَدّ بين عهدين لم يبق ما يسوَّغ اتصالهما والاختلاط بينهما، فكان نقلة نوعية خطت بالنقد الأدبى فى مصر خطوات ولهذا صوب العقاد سوط عذابه على شوقى والرافعى، كما وجه المازنى نقده إلى المنفلوطى وشكرى.
تمتع المؤلفان كلٌ منهما بشخصية فكرية مستقلة، ومنهج تعبيرى متميز لكنهما التقيا فى الكثير لأنهما ارتويا من نفس الينابيع الفكرية والأدبية فخرج عملهما متسقاً.
كان الاجماع على أن شوقى هو أعظم شعراء العربية فى عصره فخرج العقاد عن هذا الإجماع ووصف شعر شوقى بأنه شعر الصنعة لا الطبع، تغيب عنه الشخصية الإنسانية المتميزة، ولا تكاد تجد فيه أثراً للشعور الصادق والفطرة الحية وإنما كان اعتماده على الزخرف والنسج على منوال الأقدمين من شكل عمودى وخطابية.
ولقد أرسى العقاد من خلال نقده التطبيقى الذى ينم عن ثقافة عريضة واطلاع على الرومانسية الإنجليزية، والمثالية الألمانية، والنقاد العرب الكلاسيكيين والتراث العربى، أرسى عدداً من الأصول النقدية بالغة الأهمية.
1- إيمانه بأن الشعر ليس صنعة ولا لهواً ولا زخرفاً، إنما هو لباب الألباب وأداة معرفية لمعرفة الذات والأخرين والكون، والشاعر المطبوع هو الذى يدمج بين عمق الفكر ورهافة الوجدان وخصب الخيال والتمكن من اللغة، "إنه المبدع الذى يفرق بين شبهات السرائر وهجسات الضمائر ولا تدق عنه أخفت همسات العواطف ولا تلتبس عليه أخفى ألوانها".
2- مفهوم الوحدة العضوية : نادى العقاد بأن تكون القصيدة عملاً فنياً تاماً فيها تصوير خاطر أو خواطر متجانسة ووصفها بالجسد المتكامل، وبذلك قوض العقاد النظرة التقليدية إلى "بيت القصيدة" ونادى بتقويض هندسة العمود الشعرى كما ألفته الأذواق العربية منذ الشعر الجاهلى.
3- هدف الشعر الوصول إلى الحقيقة الجوهرية، وعدم الوقوف عند الظاهر "إن الشاعر من يشعر بجوهر الأشياء لا من يعددها وحصى أشكالها وألوانها .. وإنما همهم أن يتعاطفوا ويودع أحسهم وأطبعهم فى نفس أخوانه زبدة ما رآه وسمعه وخلاصة ما استطابه أو كرهه.. وانطبع فى ذات نفسه".
ولقد كانت هذه المجاوزة فى مفاهيم الشعر ثورة فكرية، ونقلة نوعية خطت بالنقد الأدبى فى مصر خطوات بعيدة، لقد تغير الهدف وتغير التقنيات. واهتم المازنى بالقص النثرى، ووصف أدب المنفلوطى بأنه ادب الضعف والخور والتهافت، وأنه جنوح إلى الحلاوة والنعومة والأنوثة، وهجا المازنى عبد الرحمن شكرى، لكنه عاد واعترف له بفضل استاذيته، وأقر له سبقه إلى التجديد وأخذ بيده إليه.
وتظل الأسس التى بشر بها أصحاب "الديوان" حية نضرة وأن تبدلت فى الحداثة وما بعدها لأنها كانت فى عصرها إرهاصاً بتغيَّر فى الذائقة الأدبية بل فى مفهومنا للشعر والقص ذاته.
لقد كانت تلك ملاحظات نقدية رهفية وبصيرة سبقت عصرها، قام بها عقلان عظيمان، جمعا بين أنضج ثمار الفكر العربى والتراث العربى، والتقت فيهما جدائل الموروث والموهبة والقدرة الفردية، إنهم رجال تجاوزا الكائن وحركوا الراكد وغيروا مسار التاريخ، ليسير نحو تطوره أو تبدله الطبيعى.
على عبد الرازق "1966م"

فى عام 1925م تتوالى أحداث ساسية خاصة بالخلافة بعد إعلان الزعيم "كمال أتاتورك" إلغاء الخلافة العثمانية، وإعلان الملك فؤاد رغبته فى نقل الخلافة إلى مصر، وتنصيبه خليفة المسلمين، ومساندة الأزهر له، وعقده مؤتمر للخلافة لمناقشة ذلك، وترتفع أصوات المنافقين والمنتفعين مؤيدين للملك، وداعين لاستمرار الخلافة المتدثرة بالدين والدين منها براء.
فى نفس هذا العام يصدر الشيخ على عبد الرازق كتابه "الإسلام وأصول الحكم" وهو الكتاب الذى أثار معركة فكرية ما تزال آثارها تتردد حتى اليوم فى جنبات مجتمعاتنا العربية من خلال عدد من الأصوات المفكرة.
المجاوزة التى يرصدها البحث لعلى عبد الرازق هو إحقاقه للحق، وذلك بنزعه القداسة عن الخلافة وتشكيكه فى جدواها من خلال تفنيده للأسس التى قامت عليها فى المجتمع الإسلامى.
ولقد أقر على عبد الرازق فى كتابه أن الدين مرجع أساسى فى حياة المسلمين، لكن بجانب الدين هناك مرجعيات أخرى، تختص بشئون الحياة وتسيير أمورها، أهمها العقل والعلم والتجريب والمحاولة والخطأ. الدين على أهميته يجب ألاَّ يكون مرجعاً لكل الأمور فى الحياة، ويجب ألاَّ يكون عائقاً أو حجة على التضييق، فهناك أمور مدنية وسياسية وحياتية تحتاج إعمال العقل والنهج الموضوعى العلمى واجتهادات العلماء النافذة.
مجاوزة على عبد الرازق فى قوله بأن هناك موروثاً تأويلياًً وتفسيرياً لبعض النصوص الدينية تحتاج لإعادة النظر فيها، ومحاولة اخضاعها لمقتضيات العقل ومنطق الواقع الذى يخضع للتغيير المستمر.
المجاوزة أيضاً فى شخصيته ذاتها فعلى عبد الرازق شخصية شجاعة لا تخشى المواجهة مع الأنظمة الحاكمة، أو الآراء السائدة المستكينة للأوضاع المغلوطة والمهادنة للأمور القائمة، هو مفكر همه الأول إحقاق الحق الذى يعتمد أسانيد محدده فى القرآن الكريم وأحكامه، والأحاديث النبوية الصحيحة، والقياس العقلى المنطقى المتحرر من دعاوى السابقين أو المعاصرين له.
لم يكن همه الشهرة أو زعامة أو مال بل كان همه وضع الأمور فى نصابها الصحيح بعيداً عن أطماع ذوى السلطان، ولقد تحمل الكثير، فقد فصل من عمله، وسحبت منه شهادة العالِمية من قبل الأزهر بعد أن أفتوا بأنه قد خرج على الملة. لقد صارع صراع الأبطال من أجل مجاوزة واقع سياسى استبدادى ظالم ليس له سند عقلى أو دينى بل يحميه فقط جبروت الحكَّام وأطماعهم .
لقد قوض على عبد الرازق القاضى بالمحاكم الشرعية آمال الخديوى فؤاد فى زعامة العرب والمسلمين وأغلق باب الخلافة فى العالم الأسلامى.
على عبد الرازق من خلال بحثه عن تاريخ القضاء - وهو فرع من فروع الحكومة فى الأسلام- تطرق إلى بحث الخلافة والإمامة العظمى مقدمةً وأساساً لبحثه فى القضاء وفيها تطرق إلى:
1- إهمال علماء المسلمين – المتعمد - البحث فى أمور الخلافة والسياسة؛ أتقاءً للتعرض لمقام الخلافة ومناقشته سياسياً وعلمياً، وعلم السياسة من أخطر العلوم على الملك ولذلك يسد الملوك سبيله على الناس. ويذكر على عبد الرازق أن المسلمين على مذهبين:
1) أن الخليفة إنما يستمد سلطانه من سلطان الله تعالى وقوته من قوته.
2) أن الخليفة إنما يستمد سلطانه من الأمة، فهى مصدر قوته.
2- ينفى على عبد الرازق بالأدلة وجوب تنصيب الخليفة، وعده أمراً إذا تركه المسلمون أثموا كلهم.
3- قوله بأن القرآن والسنة لم يتعرضا إلى أمر الخلافة، وأن الآيات التى يستند إليها العلماء لوجوب نصب الخلافة مثل "أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم" لم يقصد منها الخلافة بل تفسر بأن للمسلمين قوماً منهم ترجع إليهم الأمور أو كما يسميهم البعض رؤوس الصناعات، فهو ينفى أن الخلافة عقيدة شرعية وحكماً من أحكام الدين.
4- قوله أن الكتاب الكريم تنزه عن ذكر الخلافة والإشارة إليها وكذلك السنة النبوية قد أهملتها وأن الإجماع لم ينعقد عليها ونفى كذلك أن الخلافة تتوقف عليها إقامة الشعائر الدينية وصلاح الرعية، فليس بنا من حاجة إلى تلك الخلافة لأمور ديننا ولا لأمور دنيانا.
5- فيما يختص بمنشئ الخلافة ودعوى بعض علماء المسلمين من أن النبى (ص) كان صاحب دولة سياسية ورئيس حكومة كما كان رسول دعوة دينية وزعيم وحدة دينية، يرى على عبد الرازق أنه لو كان الأمر كذلك فلماذا خلت دولة الرسول من كثير من أركان الدولة ودعائم الحكم، ولماذا لم يعرف نظام فى تعيين القضاه والولاة ولم يتحدث فى نظام الملك وفى قواعد الشورى.
6- يرى على عبد الرازق أنه من المعقول أن يأخذ العالم كله بدين واحد لكن أن يحكم كله بحكومة واحدة وتجمعه تحت سياسة مشتركة فذلك مما يوشك أن يكون خارجاً عن الطبيعة البشرية، ولذلك فولاية سيدنا محمد على المؤمنين كانت ولاية الرسالة، غير مشوبة بشئ من الحكم.
7- إن الوحدة العربية التى وجدت فى عهد النبى (ص) لم تكن وحدة سياسية بأى وجه من الوجوة.
8- دعوته لكشف خديعة الصورة المنسجمة التى يحاول أن يضعها المؤرخون لذلك العصر الأسلامى الأول بين الأمم العربية المختلفة.
9- أنه ليس من حق أحد أن يقوم من بعد الرسول ذلك المقام الدينى، وإذا كان ولابد من زعامة بين أتباع النبى عليه السلام بعد وفاته فإنما تلك زعامة جديدة وهى إذن نوع لا دينى، وأن البيعة لأبى بكر كانت بيعة سياسية ملكية عليها كل طوابع الدولة المحدثة.
10- تفنيده لأسباب ما لقب به أبو بكر من أنه خليفة رسول الله وما استتبع ذلك من أضفاء الصبغة الدينية على الخلافة.
11- حَمَلَ هذا اللقب الذى ارتضاه أبى بكر "خليفة رسول الله" جماعة من العرب والمسلمين أن ينقادوا لإمارة أبى بكر انقياداً دينياً وأن يرعوا مقامه الملوكى بما يجب أن يرعوا به كل ما يمس دينهم ولذلك كان الخروج على حكم أبى بكر فى رأيهم خروجاً على الدين وأرتداداً على الأسلام.
وما كان كل هؤلاء من غير شك مرتدين وما كانت محاربتهم لتكون باسم الدين فإن كان ولابد من حربهم فإنما هى السياسة وهى ظلمة التاريخ، ولكن كان الرفض لخلافة أبى بكر لأسباب قبلية ونزعات إجتماعية.
ويقول على عبد الرازق "والحق أن الدين الإسلامى برىء من تلك الخلافة التى يتعارفها المسلمون وبرىء من كل ما هيئ حولها من رغبة ورهبة، ومن عز وقوة. والخلافة ليست فى شئ من الخطط الدينية، كلا ولا القضاء ولا غيرهما من وظائف الحكم ومراكز الدولة. وإنما تلك كلها خطط سياسية صرفة، لا شأن للدين بها".
طه حسين " 1973م "
طه حسين مفكر نهضوى دعا إلى تحكيم العقل بدل الاستسلام للسائد أو الإذعان للخرافة مع الإلحاح على نشر المعرفة وتعميم التعليم.
إن الدور الرئيسى الذى يرصده هذا البحث لطه حسين أنه قد ألم بالقواعد العريضة للتفكير الحديث، وهى التى توجه الى الاعتداد بروح العلم وبإعمال العقل منهجا، كما توجه إلى التثبت والتحقيق إجراءً.
لقد ناشد طه حسين أن يقوم الدرس فى الأدب والفكر والعلم على أساس الشك الذى يؤدى الى اليقين، ويتأتى ذلك من خلال التحقق والتعليل، وبيان العوامل الفاعلة وضبط الطرائق، واستند طه حسين فيما نادى به وقام بة بالفعل على تراث العلماء العرب الأقدمين فى التحرج والاحتراز والتثبت والأعتداد بالرد إلى الأصول، والتأسيس على قواعد العلم ومقرراته وإعمال العقل فى الموازنة بين الروايات والمواد، كما أستفاد من اطلاعه وتفاعلة مع عمل علماء الغرب المحدثين الذين اعتدوا بنهج نقدى تقويمى لكل موروث، وبحرية الدرس والبحث لكل موضوع و ظاهرة، وبتأسيس الأكاديمية الحديثة على أسس عقلانية تاريخية، ودعا الى الوعى باختلاف المعايير التى تحدد درسنا للدين او العلم فكلًُ له طبيعته الخاصة.
طه حسين حين تعرض لدرس الشعر الجاهلى ارتضى الشك فيما توافر من معارف ومعلومات وأقوال وأخضع هذا المتواتر للتحقيق والتحليل والنقد والتقويم وهذا مطلب رئيسى فى كل المناهج الحديثة.
فى عام 1926م يصدر طه حسين كتابه " فى الشعر الجاهلى " وفيه يتعرض لثلاثة محاور رئيسية:-
1- العرب فى التاريخ ويرى أن الأدب أو الشعر الجاهلى لايصور حياة الجاهلين من كل أطرافها وجوانبها، وأما الذى يصورها تصويراً دقيقاً هو القرآن ذلك من الجانب الدينى والعقلى والسياسى والأقتصادى.
لذا فإن حياة العرب تلتمس فى القرآن وليس فى الشعر الجاهلى الذى صنعت كثرتة ووضعت بعد الإسلام فى القرن الثانى، قرن الجمع والتدوين، ويرجع أسباب الأنتحال هذه إلى أسباب خمسة هى ( السياسة والدين والشعوبية والقصص و الرواة).
2- اللغة العربية بين اللغات: يستند حكم طه حسين بوضع أكثر الشعر الجاهلى على سند من تاريخ اللغة العربية حيث أن لغة عرب الجنوب الحميرية كانت تختلف عن لغة عرب الشمال الفصحى فى ألفاظها، وقواعد صرفها، ونحوها، حتى أن فصحى الشمال ذاتها لم تكن سائدة بين القبائل الشمالية قبل الأسلام، ولم تتجاوز الحجاز.
3- الأدب العربى وبواكيره الأولى: وخلاله تناول فساد الرواة والتوسع فى الوضع و الأنتحال سبيلاً إلى الكسب، وغيره من الأغراض، لذا طالب بالاحتياط فى قبول رواياتهم من الشعر الجاهلى.
- تعددت الأدوار المجاوزة للسائد التى قام بها طه حسين، والتى أتسمت بالجرأة فى تناول الثوابت، استطاع ان يؤثر فعلاً فى فاعليات المجتمع المصرى، فقد كان مستشاراً لوزارة المعارف، وتولى العديد من المناصب الرسميه المؤثرة، وأُخِِذَت بأرائه فكان أول داعيه لإنشاء الجامعات الإقليمية واعتبار العلم كالماء والهواء، كان طه حسين من خلال إبداعاته حساً مختلفاً صاحب أسلوب أدبى متميز، فكان رائداً فى الفكر وفى الفعل.
- طه حسين صاحب " مستقبل الثقافة فى مصر " وفيه قدم تقريراً يتميز بنظرة جديدة لمصر واتسم بجرأة فى تناول المسلمات، بين فيه طبيعة الهوية الثقافية المصرية، وذكر فيه أن طبيعة الشخصية الثقافية المصرية تنتمى الى العقلية الأوروبية، ورسم فى هذا التقرير خريطة يحدد بها تخوم التعليم فى الأزهر بجرأة فى تبديل السياسات التى يجب ان ينتظم تحتها التعليم فى أعرق مؤسسات التعليم فى الشرق الأسلامى.
- طه حسين ذلك الفتى الضعيف الضرير الفقير القادم من صعيد مصر، والذى تحدى بإرادة وتصميم كل الظروف التى تعوقه، لم يسع فقط إلى النجاح بل إلى خلخلة الأفكار التى اتسمت بالركود، وصمد أمام الكثير من المعارك التى أثارها منافسوه وتحمل مصادرة بعض أعماله بنفس قوية مثابرة.
- طه حسين جاوز نفسه فى " على هامش السيرة " فلم يكن هذه العقلية المنهجية العقلانية فى تدوين السيرة النبوية بل كانت بالنسبة إليه مجرد عمل أدبى أعتمد فيها الروايات غير المحققة، والأحلام، وفعل الجن والشياطين، وكان فيها مبدعاً اعتمد الأساطير والحكايات المروية، فناناً وليس ناقداً منهجياً.
صلاح عبد الصبور " 1981 "

قدَّم صلاح عبد الصبور نموذجاً للشاعر العظيم المجدد، فبالرغم من أنه لم يكن أول من دعا إلى التخلص من الأداء الشعرى التقليدى، وكان هناك رواد آخرون أرسو للشعر الحر العديد من سماته وهم نازك الملائكة وبدر شاكر السياب، وفيه تخففوا من الشكل المتوارث لعمود الشعر العربى ومن الأوزان والقوافى واعتمدوا السطر الشعرى، ووحدة التفعيلة ولم يلتزموا العروض الخليلى، بالرغم من أنه لم تكن له الريادة فى ذلك، إلا أن إبداع صلاح عبد الصبور الشاعر الموهوب المثقف تتجمع فيه مكونات وسمات الشاعر العظيم والذى كانت له اليد الطولى فى تقديم النماذج التى تجمع بين رسوخ الموروث وأصالة الجديد.
مجاوزة صلاح عبد الصبور الحقيقية هى إضفاؤه مزيداً من التركيز على ذاتية الفن واستقلاله والانطلاق من الفردية إلى الإنسانية، الانطلاق من الذات المجهضة الرومانسية إلى ذات الإنسان الكونى، رصد الحياة بفسلفتها، بقضاياها، بضعفها وقوتها وحلمها.
نشعر مع أشعار عبد الصبور بحركة التفاعل الحقيقى بين الشعر والوجود، فلقد أدرك أن من واجب الأدب أن يحدد للإنسان طاقاته بصورة تجعل من الضرورى وضع مصادر الحياة كلها موضع التأمل والاختبار.
قفز الأداء التقليدى لدى صلاح عبد الصبور فى التقنيات الشعرية المختلفة، فتميز بدقة التصوير، بالحس التاريخى وهو أن يعيش الإنسان فى الماضى ويشاهده، وهذه الميزة يكتسبها الشاعر من خبرته، بأدب لغته، وأدب الحضارات الأخرى، لقد اتصل بالحلقات الثقافية المتعاقبة، وهى تستمد معانيها من ذات الإنسان، وعن طريق فهم هذه الذات يعبر عن نفسه، عن الإنسان.
تميز إبداع عبد الصبور بأحتفائه بالعقل وبمزواجته بين الغنائية والتفكير، فهو قد اتجه إلى الغناء بفكره وحدسه.
تجنب صلاح عبد الصبور آثار الخطابية القديمة العالقة فى الشعر، وتنازل عن نبرة الإيقاع العالى، وعوَّل على المشاكلة بين بناء الفكرة والإيقاع الهادئ، وإن لم يتخل عن الموسيقى، لكنها الموسيقى التى تتوافق مع فكره ومشاعره.
لجأ صلاح عبد الصبور إلى الأسطورة لفهم فوضى حقل التجربة، فالأسطورة لديه تربط بين الموقف والتداعى العاطفى والمعنوى، كما لجأ إلى الخرافات الفولكلورية والآداب الشعبية المتوارثة من باب تشكيل كل شىء فى القضاء والقدر،وهو لا يلتزم الخطوط الأساسية فيها بقدر التزامه حركاتها، فهو يتعامل مع الأساطير بفهمه الخاص لها، ولذا يكون هو خالقها وفيها يحيى براءة الأنسان الأولى ودهشته.
الرحلة، الموت، الفسلفة، الجنس، الموروث، العقل، التجديد، الحدس، الضياع، الإبداع الشعرى، المثقف، السلطة، القهر، تعامل صلاح عبد الصبور مع كل هذه المعانى الإنسانية تعاملاً جمالياً معبراً عن حضارة هذا العصر وعن ثقافته، تعاملاً يتسع للاوعى ولحركة التداعى الحر للمعانى.
ويبقى مسرح عبد الصبور المجاوزة الأكثر أهمية فى عطائه الشعرى، فلقد كان صراعاً شعرياً يعوَّض فيه صلاح عبد الصبور سقطته الحادة التى بقيت تؤلمه إلى أن أهلكته وهو انخراطه فى سلطة لا يرضى عنها، حمل عبد الصبور لواء المسرح الشعرى فى أرقى صورة وأكثرها نضجاً وثقافة واقتراباً من التكنيكات العالمية المعاصرة.
أدرك عبد الصبور طبيعة الشعر والمسرح كليهما فى ثقافة ناضجة، تجمع ما بين التراث والمعاصرة وحرص أن يقدَّم فى كل مسرحية تجربة جديدة بأسلوب مخالف لما سبقها، فمسرحه يعد أول مسرح شعرى تجريبى فى مصر، قدم فيه نماذج ناضجة لاستخدام الرمز، والقصص الرمزى، معالجاً لقضايا شغلته وشغلت عصره، وعبر فيها عن آرائه التى لم يحققها فى الواقع.

توفيق الحكيم " 1987م "

توفيق الحكيم عملاق الأدب العربى، وأحد المفكرين المصريين المؤمنين بوحدة الحضارة الإنسانية، وأحد المفعِّلين الحقيقيين للتقارب بين الحضارات، بين الشرق والغرب وهو الذى حمل على عاتقه مسئولية تقديم الأدب الغربى والفكر الأوروبى إلى جماهير الشعب فى مصر والعالم العربى.
وفى هذا البحث أسجل لتوفيق الحكيم المجاوزة الرئيسية فى عطائه المتعدد وهى إبداعه المسرحى. لقد تحقق مسرح مصرى عربى بالفعل حين أبدع الحكيم مسرحه المتميز، فهو قد انتقل بالمسرح فى مصر من مجرد التسلية والتسرية - مسرح "عماد الدين، روض الفرج" - إلى المسرح الذهنى أو الفكرى.
شارك توفيق الحكيم فى الحياة المسرحية الوليدة قبل سفره إلى باريس من خلال الإخراج والكتابة والإعداد لمسرحيات متنوعة "ميلودراما وفارس" وفى باريس ترك إعداد الدكتوراه فى القانون وتفرغ لدراسة المسرح والفن، وحين عاد إلى مصر أبدع المسرح المصرى العالمى، أى أن المشهد شكله وحواره وشخصياته وطبيعة الصراع فيه مصرى عربى، لكنه فى ذات الوقت ناقش كل القضايا الإنسانية الكونية والفكرية.
والمجاوزة التى حققها توفيق الحكيم فى الصراع المسرحى تمثلت فى تغيره لنوع الصراع، لقد كان الصراع فى المسرح اليونانى الكلاسيكى صراعاً بين الإنسان والآلهة، أو بين الإنسان وأقداره، تنوع الصراع المسرحى عند توفيق الحكيم حين جعله بين البشر، بين الإنسان والإنسان، بين الأفكار المتباينة، بين المادة والروح، بين الواقع والمثال، كما أنه فى مسرحية "أهل الكهف" جعل الصراع بين الإنسان والزمن.
برع الحكيم فى رسم شخوص مسرحياته، وبرع فى نسج الحوار بين أبطالها وجعله مصرياً فى الأفكار والقضايا، حواراً يقظ يحمل نكهة الفكاهة والمفارقة واللمحات العقلية الطريفة.
تجاوز الحكيم المسرح الكلاسيكى واتجه إلى التراث، إلى الأساطير والفن الشعبى، مستلهماً الباطن الجماعى، جامعاً بين الواقعية الفكرية واللاواقعية الشعبية، وكان من مبدعى المسرح الجديد فى تحرره من الواقعية واتكائه على اللامعقول وَعَدِّه حقيقة وإن تكن مخالفة لما هو مألوف وعادى، وكانت مسرحية "يا طالع الشجرة" نموذجاً على هذا الاتجاه.
لقد تخطى قواعد المسرح التقليدى، باعتباره لا يريد محاكاة الطبيعة ولا الواقع المنظور وأراد أن يبرز العالم الباطن، وهو بالضرورة خلط بين الواقع والخيال وهنا تدرك الحقيقة، الحقيقة التى تعبر عن كيان العالم الموضوعى الحديث، والذى يستشرى فيه حالة انعدام التواصل بين البشر، فكل فرد فى هذا العالم يسمع صوته هو فقط.
يمضى الحكيم سائلاً، منقباً فى العالم الذى يضيع فيه الإنسان بين المادة والروح، محاولاً أن يتجاوز المسرح المألوف ليكتب مسرحاً يعبر عن قضايا الإنسان الحقيقية، لا الإنسان المصرى فقط بل كل إنسان العالم، يناقش غربة الإنسان، وحيرته بين الدين والعلم، قوى الخير وقوى الشر التى تتنازع البشر، القيم والنوازع التى تشغل الإنسان. لقد وظف الحكيم إبداعه من أجل إعادة التوافق بين الإنسان والإنسان، من أجل مناقشة تفعيل العقل والإرادة الإنسانية.
أُطلق على أدب توفيق الحكيم أنه أدب الأبراج العاجية، وانتاجه الأدبى المسرحى والروائى والفكرى يدحض هذه الدعوة، فلقد عالج القضايا الأجتماعية التى تتفاعل وحياة الشعب من ظلم وفساد، وفوضى من حلم وحب وكراهية، من موت وخيانة وفقد، وغيرها من موضوعات شتى ذلك فى إطار فنى وأصالة حيه سواء فى السرد أو الحوار، وتميز إبداعه بالمستوى الفكرى الرفيع الذى ناقش به تفاصيل الحياة وهو المستوى الذى يقترب من الحس الفلسفى، وكان بحثه عن شكل أدبى جديد الهاجس الملح دوماً.
أستشرف الحكيم فى أول رواياته "عودة الروح" عودة الشخصية المصرية، وقدَّم فيها نموذجاً لزعيم يمثل روح مصر وهويتها التى تستوعب الحضارات المختلفة. وقد كانت "عودة الروح" رواية ذات تأثير قوى على فن الرواية والروائيين، فلقد شق طريقاً لم تكن ميسرة، وأوجد جيلاً بعده، أعترفوا له بفضل التأثير والريادة.
نجيب محفوظ "2006م"

نجيب محفوظ، منارة الرواية العربية الحديثة، تمثلت مجاوزته الأساسية فى إخضاع العمل الفنى الروائى لمقتضيات الفكر، فارتفع بمستوى الرواية العربية الفنى والفكرى.
لقد كان همه الأساسى طرح موقف فلسفى عميق من الكون والإنسان والمصير، المصير الذى شكَّل علامة أستفهام دائمة فى معظم نتاجه الأدبى، فالكتابة لديه نوع من البحث الدائم، بحث عن معنى الوجود، معنى الحياة، بحث عن الذات، عن الحق.
مجاوزة نجيب محفوظ أنه أنطلق بالحارة الضيقة والطبقة المتوسطة الدنيا إلى المعانى الرحبة ومن خلال عبقرية فنية وفكرية اتسع بالمكان والطبقة الأجتماعية إلى الإنسانية الكونية، من خلالهما قدَّم قضايا الإنسانية فى تناقضاتها وتنويعاتها.
لقد كانت الشخصية المصرية بملامحها النفسية والجسدية والفكرية هاجسه الأساسى فى كل إبداعه ليبين واقعها وأحلامها، وإخفاقاتها، لم يكن همه صناعة أبطال لكنه حكى وسرد الإنسان المصرى البسيط، لقد رسم البشر فى علاقاتهم ومواقفهم المتباينة والمتناقضة، لذا كان الحدث والفكرة والشخصية هم أبطالة وأدوات صناعته.
نحت نجيب محفوظ الواقع فنياً، ولم يتقيد بمذهب أو مدرسة أدبية فى الكتابة وكان همه التعبير عن ذاته بحرية تامة سواء اتفق هذا التعبير أو اختلف أو حتى تنافى مع القواعد. لقد كانت قاعدته الأسلوب الخاص به مبدعاً، يعرف قيمة فنه، ويرى أن الفن مهما كان موضوعياً أو واقعياً فهو ذاتى، باعتبار أن خيال المؤلف وميوله ومزاجه وفكره قد انطبعت فيه وأعطت الحياة طولاً وعرضاً وعمقاً لم يكن فيها.
أعتبر نجيب محفوظ اللغة العربية الفصحى هوية قومية؛ حافظ عليها فى كل نتاجه وعمل على بث الحياة النابضة بها، لتكون وسيلة لتعبر عن انفعالات الواقع، والنكهة المصرية العريقة، ولتعبر عن شخصياته الشعبية التى تتكلم العامية فى الواقع، ولكن المبدع نجيب محفوظ أنطقها فى رواياته الفصحى، دون أن يشعر المتلقى بفجوة بين اللغة والشخصية والواقع الذى تسرده.
تميزت رواية نجيب محفوظ بأنها نسيج مكثف، ومن خلال السرد والحورات تتعرف بعض أجزائه ويشكل هذا مستوى من مستويات التلقى للقارئ، وتظل الرواية تُبقِى على زخمها، وفى مستوى أخر يتكشف هذا النسيج عن رأى خاص بنجيب محفوظ فى قضايا الحياة، أو تأويلاً مغايراً لبعض النقاد وهذا ما يعطيها ثراء الدلالات وغناها، ويفسر هذا علم النفس المعاصر بامتلاك الفنان لمجموعة من الشخصيات، والمبدع حين يكتب يكون واعياً بأحداهن، لكن باقى شخصياته تظل تعمل فى ثنايا عمله الإبداعى من خلال اللاوعى.
آمن نجيب محفوظ أن مبدأ الإبداع الفنى أحساس المبدع بالتناقض فى هذا العالم وأن اللامعقول مصير يجتازه الإنسان فى هذه الحياة، لذا جاءت نهايات معظم رواياته سوداوية، وهى تعبر عن نوع قاتم من الميتافيزيقا، هى ليست نزعة تشاؤمية تسيطر عليه، لكنها تمثل نقد عنيف للمسارات التى قد تسلكها شخصياته دون سواها، ويكون النقد مبعثه الرغبة فى الكمال.
ويشرك نجيب محفوظ متلقيه وقارئه فى خوض الحياة باعتبارها تجربة عظيمة لا تخلو فى النهاية من تصور مأساوى، وعلى المتلقى للعمل الروائى أن يشارك فى انتقاء وتقييم ما يقدمه له من أشكال الحياة وفسلفاتها وعندها له أن يأخذ طريقاً أخر أو يمتلك رؤية أخرى.
تميز أسلوب نجيب محفوظ بالجمل القصيرة النافذة، والتكثيف الشديد، والاستعارة لديه ممتدة ونشطة، واللغة وصفية، لكنه الوصف الدال والانتقائى وليس مسحاً لكل المشهد أو الشخصية، الانتقاءات التى تخدم ما يريد لفت الأنتباه إليه.
عبر نجيب محفوظ بإبداعه عن القيم المشتركة للإنسانية ونشر فى كتاباته قيم التنوير والتسامح النابذة للعلو والتطرف، آمن بوحدة الأديان وبإعلاء قيمة العقل والعلم. من خلال حياته المنظمة التى اختارها وحرص عليها إحتراماً لإبداعه، فنه الذى أعطاه الأولوية قدَّم سيرة مشرفه لاحترام العمل والفن قيمة وبإنكار تام للذات ونوازعها المختلفة المشارب.
استطاع نجيب محفوظ تجنب المواجهة مع السلطة والرقابة على فنه لأنه من خلال براعته وتمكنه من أدواته الفنية فى الرواية استطاع أن يتناول كل الموضوعات الشائكة ويفرض أفكاره إبداعاً فنياً يحتمل التأويل ومن خلال هذه التقنيات طرح فى إبداعاته الأسئلة الجذرية التى تسهم فى انتقال المجتمع من مستوى الضرورة إلى مستوى الحرية، ومن وهاد التخلف إلى ذرى التقدم، فالوعى الإبداعى لديه حطم ما يعوق تقدمه.
إن مراوغة السرديات الكنائية وسيلة للتعبير الأمن عن أفكاره التى تجسد وتؤصل لعقلية الاستنارة التى واجهت جمود النقل وحطمت أسوار التعصب أو الاتباع ودعت إلى التنوع الإنسانى الخلاق، وتقديم رؤية أخلاقية للعلم الحديث، وعدم معاملته أداة صماء.

تيار الحداثة فى النصف الثانى
من القرن العشرين
يختلف النقاد فى تقييمهم لبدايات الحداثة الشعرية، فمنهم من يرى أن حركة الشعر المهجرى تميزت بالسمات الأساسية للحداثة، وأن جبران بصفة خاصة كان مؤسس رؤيا الحداثة؛ لأنه طرح أسئلة جديدة حول مشكلة الإبداع الفنى.
وثمَّ رأى أخر يرى أن رواد الشعر الحرفى العراق مثلوا انفتاحاً على الجديد وتمرداً على الموروث، وأخرون يرون أن مفهوم الحداثة تجسد فى حركة "شعر" وكان على رأسها يوسف الخال وأدونيس، ولن أقف طويلاً أمام البدايات، قراءة الواقع وقتئذ تنبئ أن الفن فى الوطن العربى كله يتغير، فى الشام والعراق ومصر وفى عام 1977م تظهر جماعتان "إضاءة 77" و "أصوات" ومن خلال أشعارهم وتنظيراتهم تستبين سمات وخصائص للشعر فى هذا التيار الحداثى.
مع تيار الحداثة تحول فعل المجاوزة من الفردية إلى الجماعية، من الاجتهاد الشخصى المرتبط بقدرات الفرد أو المبدع إلى تكاتف جماعة من خلالها يبرز فعل المجاوزة، وإن لم يتخل كل مبدع عن فرديته وتميزه، لقد تحولت المجاوزة هنا إلى فعل تيار جمعى نظراً للظرف التاريخى والثقافى والأجتماعى الذى عاشته جموع الفنانين المصريين والعرب بعد أنكسار الحلم القومى العربى بعد هزيمة 1967م.
ظهور تيار الحداثة العربية مشروط تاريخياً بالحداثة الغربية، لكنهما يختلفان فى بعض السمات نظراً لاختلاف الظرف الثقافى العام، لكن الحداثة العربية تمثلت الغربية فى بعض تقنياتها ورؤاها ومذاهبها الفنية والنقدية.
تيار الحداثة فى الشعر ثورة فكرية وليست مسألة تتصل بالوزن والقافية، أو بقصيدة النثر، أو بنظام السرد، أو طبيعة الصورة الشعرية، كل هذه الجوانب كانت تجسيداً للموقف العام.
والحداثة الشعرية العربية نشأت فى مناخ أمرين مترابطين: اكتناه اللحظة الحضارية الناشئة، واستخدام اللغة، أى التعبير بطريقة جديدة تتيح تجسيداً حياً وفنياً لهذا الاكتناه.
والحداثة الشعرية تعتمد طرح الأسئلة من ضمن إشكالية الرؤيا العربية الإسلامية حول كل شئ لكن من أجل استخراج الأجوبة من حركة الواقع نفسه، لا من الأجوبة الماضية.
الحداثة فى مجتمعاتها الأوروبية كانت نتيجة حركة محاورات ومحاولات تجديدية قام بها المبدعون بمختلف توجهاتهم كالصورية والسريالية والتكعييية والدادية، فالحداثة هى تعدد الوعى أى أن يعى الإنسان أشياء كثيرة فى وقت واحد بحيث تتزامن قضايا مختلفة معاًَ سواء أكانت فى خطوط متوازية أم فى خطوط متقاطعة. فالحداثة الغربية فى جوهرها ظاهرة تعكس معارضة جدلية ثلاثية الأبعاد :
1- معارضة التراث.
2- معارضة الثقافة البرجوازية بمبادئها العقلانية والنفعية وتصورها لفكرة التقدم.
3- معارضة لذاتها، تقليداً أو شكلاً من أشكال السلطة والهيمنة.
ومن صور مجاوزة تيار الحداثة:
1- أن قيمة الشعر تحدد فيما تطرحه رؤياه ككل أو فيما تكشف عنه ككل وليس فى ألتزام سياسى أو طبقى ما ، هى خلخلة اللغة والأشكال والمضامين السائدة ورصداً للانفصالات والتحولات.
2- تأكيد الذات، الأنا الحداثية المصرية والعربية " أنا " تؤمن بالرسالة والنبوة وأنها قادرة على التغيير، وهذا على خلاف الأنا الحديثة الأوروبية التى تتكئ على وعى بضياع الإنسان الحديث فى عصر الآلة.
3- للزمن فى الحداثة الغربية مفهوم أفقى، لا معاد، سائراً أبداً إلى أمام، هذا المفهوم الأفقى العمودى ميز نظرة الفكر الأوروبى، لكن الزمن فى الحداثة العربية مفهوم دائرى أى الأزمنة المتداخلة والمتشابكة.
4- الغموض سمة من سمات الحداثة البارزة، ليس هناك شئ واضح، منجز أو بسيط، والشاعر الذى يحدد المفاهيم بوضوح وبساطة فى نظر الحداثى يقوم بعملية إغلاق لإمكان التغيير والإيحاء والإشعاع والغموض المحمود هو الناتج عن الجدة الشعرية أو كثافة الطاقة الشعرية على نحو يجعل النص الشعرى قابلاً لتعدد القراءات.
5- يتحقق الشعر بتحقيق لغته للتباعد عن اللغة المعجمية والتراثية واستعمالاتها المألوفة.
6- ليس للشعر بصفته " شريحة من الإيديولوجية الثقافية "تجسد مادى مثلما هو الأمر فى الأيديولوجية الدينية التى تستوجب تطابق الأفعال للإيمان.
7- لا علاقة لتقدم الشعر أو تخلفه بتقدم البنية الفوقية والبنية التحتية أو تأخرهما .
8- محور الفاعلية الإبداعية فى الحداثة تنتقل من مستوى الرسالة إلى مستوى الترميز.
9- الحداثة تعتمد على مستويين حداثة التجدد فى المدلولات "المضامين" ومستوى تفجير القوالب الصياغية أو الأدائية.
10- النزوع إلى التناص مع الأساطير والتراث الصوفى والشعبى، والنزوع إلى تعدد الأصوات المتنوعة داخل العمل الشعرى.
11- الصور المركبة المعرفة فى تعدد الأبعاد، والتى تبدو متنافرة، لكنها تحقق للقصيدة الحداثية الجدة فى الصورة الموحية والتى لا تعطى دلالة محددة.

ومن أبرز مبدعى تيار الحداثة فى مصر : رفعت سلام ، حلمى سالم ، عبد المنعم رمضان، صلاح اللقانى ، عماد غزالى ، عماد أبو صالح، وغيرهم.

تيار ما بعد الحداثة
على الساحة الفنية المعاصرة منتج فنى مغاير، منتج تيار ما بعد الحداثة، هذا الإبداع يمر بمرحلة بحث عن مرجعيات معاصرة لم تستقر بعد أو فى طور التكونّ والتجريب المستمر. فقد وجد على الساحة الشعرية المعاصرة عدد من الشعراء ينتقلون ببطء وعمق بين جماليات قصيدة الحداثة بما تميزت به من المجاز اللغوى المركب والتعالى الفكرى فى مرحلة من إبداعاتهم وبين كسر المطلق والعزوف عن التجريد والمجاز، والبدء من اختيار لقطات قد تكون مشهداً أو لفته أو لقطة تمثل التفاصيل والمفردات اليومية للواقع المعيشى، وإيقاظ الجانب الحسى المغرق فى ماديته فى عصر العولمة وتحت نظام رأس مالى قاس فرض نفسه على الساحة الثقافية، وتراوحت إبداعاتهم فى تجارب قلقة تجريبية صادقة أو مزيفة بلا خيال تقليدى، ودون مشاعر واضحة بل أسطح باردة تعتمد بلاغة الكناية.
المجاوزة التى أسجلها فى تيار ما بعد الحداثة أن الإبداع الفنى أصبحت تحكمه نوعية مختلفة من الجماليات وقد اقترحت تسميتها بجماليات الفوضى والجوار والتناقض، هذه الجماليات تمثل الواقع الذى نعيشه فى عصر العولمة وتعبر عن واقع القصيدة المعاصرة، والعمارة والرواية واللوحة التشكيلية وما عادها من أنواع الفنون المختلفة.
ومن صور مجاوزة تيار ما بعد الحداثة:
1- تخبط المعايير أوعبثها بعد انهيار الحكايات الكبرى الإنسانية السابقة كما يقول "ليوتار".
2- الاستسلام لحالة افتقاد المعايير الناتجة من افتقاد اليقين بوجود أسس ثابتة.
3- توكيد ما بعد الحداثة أن الفن سلعة، والسلعة فن ولذا تستسلم للقيمة الاستعمالية لكل الأمور.
4- عدم الاعتراف بالعمق فما يوجد بالفعل سطح موضوعى ولا ضرورة لمسألة المعنى والدلالة.
5- عدم التزام الدال بمدلول، ولا يدعو الفن المتلقى لاكتشافه بل ليواجهة كما يواجه الواقع نفسه وفيها تدمر سلطة المدلول.
6- العمل الفنى ليس رسالة من مبدع إلى متذوق، بل هو تصوير لمدرك حسى دون إضفاء قداسة أو سمو عليه، فيستمد الفن عناصره من الواقع الموضوعى المحسوس بكل خصائصه، أن الفن يغمر نفسه فى الواقع الذى يتسم بالفوضى والتناقض والجوار.
7- عدم السعى إلى الخلود.

الجماليات التى أتحدث عنها والتى تعبر عن الإبداع مابعد الحداثى "جماليات التناقض، الجوار، الفوضى" تعبر عن رؤية ما لهذا العالم، كما أنها تستند على مذاهب فلسفية ونقدية مختلفة وتجعل للعمل الفنى سمات تجاوزت ما عهدناه من تقنيات فن الشعر المعهودة مثل:
1- التركيز على هيمنة النسبى على الكلى أى الشخصى على الذات الجمعية.
2- التركيز على الثراء المدهش الذى تنطوى عليه الأشياء العادية.
3- الصورة الفنية دائماً ما تسجل الواقع، تسخر من مفارقاته غير المنطقية، بل يشوبها عنف بملأ ذات المبدع تجاه الأحداث والأشياء التى تحيط به.
4- الفن لقطات أو صور تكشف وليست خلقاً، فالمبدع يفضَّل الالتقاط والكشف، لكنها ليست صناعة وتراكيب خيالية.
5- المجاوزة والمغايرة فى زاوية التقاط المبدع لموضوعه الفنى، اللمحة التى يختارها وتعتمد غالباً التكثيف والاختزال، فلم يعد المجاز التصويرى ولا التناص الأسطورى أو التراثى أو الثقافى هدفاً أو أدواتاً – إلا عرضاً – لصنع العمل الشعرى .
6- لم يعد الفن قائماً على المتعة العميقة المفكرة بل على الاستهلاك "متعة تك أوى" أى أن المتعة بقدر استهلاكى للعمل المبدع.
7- الصورة التى تعتمد الكناية هى المجاوزة الأكثر ملاحظة فى الإبداع ما بعد الحداثى، فهى تستشف من شبكة العلاقات التى تشكل وجهة النظر الكلية التى تلتقط تلك التفاصيل، سواء بجوارها أو تناقضها أو فوضاها وتحولها إلى عناصر دالة تضئ مشهد الواقع ومعنى التجربة الإنسانية.
8- اِلأشياء هى أبطال العمل المبدع وليس الأِشخاص أو المعانى ومن خلال الأشياء تستبين ملامح الذات أو الأفكار.
9- أسلوب الصدمة والسخرية وتقنية السرد تقنيات تعتمدها ما بعد الحداثة وهى تصنع ذلك باللعب مع الأزمنة، والمراوحة والتداخل بينهم، بالجوار ما بين ذات المبدع واِلأشياء على أوضاعها الفعلية، وليس من المجاز، بالتعرض للموضوعات اليومية الطازجة التى تحمل معنى مكثفاً.
10- لغة ما بعد الحداثة لغة واضحة وغير معقدة، بسيطة حيث الوعى لا النشوة، المحايثة لا التعالى، التجسيد لا التجريد، الرفض لكل متشكل مسبق ومنتهى، والتعبير عن الشئ فى حياده الأول، فاللغة شبه تقريرية.
11- الإبداع الفنى على صوره المتعددة لحظة حقيقية غير قابلة للتأويل وإن احتملت هذه اللحظة الحقيقية تأويلات متعددة عند التلقى.

وبالرغم من هذه الجهود المبذولة من المبدعين والمفكرين العرب المصريين منذ ابن خلدون ومروراً بالأعلام الذين استعاروا روحه وشخصيته المجاوزة للسائد، والداعية لخلخلة الركود، والواثقة بالعمق وإمكاناته، والذين عرضت لشخصيات منهم وتأثيرها فى المجتمع العربى والمصرى إلا أن النهضة المنشودة للمجتمع والحضارة العربية لم تتحقق حتى هذه اللحظة بالشكل المرجو، وذلك لأن الأمر مع مرور الزمن والسنين لا يتعلق بخطاب متطور، يتجاوز نفسه ومشاكله باستمرار، بل خطاب يكرر نفسه، ويطرح ذات المشكلات ويدور معظمه حول محور ظل دائماً قطباه فى المجمتع العربى والمصرى : التمسك بالتراث "الأصالة" من جهة والأخذ عن الفكر الأوروبى المعاصر "الحداثة" من جهة أخرى، الدين والدولة، العادل المستبد والديمقراطية بمعنى تداول السلطات.
وللخطاب النهضوى العربى مزالق منها ربطه النهضة بـ " قيادة الإنسانية" ، التأكيد على حتمية "سقوط الغرب" تعميم "الانحطاط" على القسم الأكبر من التاريخ العربى، تحميل "قوى خارجية" مسئولية تراجع الحضارة العربية وسقوطها، النزول بـ "الانحطاط" الراهن إلى مستوى الأندحار والانقراض، تلك هى العناصر الرئيسية فى الخطاب العربى الحديث حول : "النهضة والانحطاط" والخطاب على هذا النحو يعبر عن أحوال نفسية "يعبر عن سراب الحلم وهواجسة" وليس عن حقائق موضوعية ولا عن تطلعات خاضعة للرقابة العقلية. والنتيجة استمرار القديم، لا فى "جوف" الجديد : يغنيه ويؤصله، بل استمراره إلى جواره يضايقه وينافسه.
نهضة المجتمع العربى لها أن تعتمد تحرير الفكر من المنظور السلفى الذى اعتمد العقل لكنه العقل السلفى، العقل مكبوح الجماح، محدود الشطط، ذلك الذى لا ينتج العلم بل هو صديق له، يبحث فى أسرار الكون، لكن مع احترام الحقائق الثابتة، إنه عقل الماضى الذى ردع مسيرة نهضة الماضى، التى شيدها عقل المعتزلة والفلاسفة والعلماء، واعتمد على مقولة الأمام مالك " لا يصلح أمر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها".
نهضة المجتمع العربى لها أن تسأل أيضاً كيف يمكن توريث العربى تاريخاً غير تاريخه من خلال تبشير الليبرالية العربية بالنهضة بواسطة "مركبات ذهنية" من أفواه أقطاب الفكر الأوروبى.
النهضة عند السلفى والليبرالى فى القفز على التاريخ، السلفى فى العودة إلى طريقة سلف الأمة قبل ظهور الخلاف وقبل ظهور الاستعمار، لا بعقل ما بعد عصر الانحطاط بل بعقل ما قبله.
الليبرالى بالأخذ والعودة إلى المبادئ الأوروبية، لا بعقل يتم بناؤه من خلال المعركة وبواسطتها، وعلى ساحتها بل باسم عقل جاهر.
والنهضة فى فحواها بلورة هذه المجاوزات السابقة لأصحابها وتنميتها وجعلها روح عامة تستقوى بعضها ببعض، وتستولد المزيد من الأعلام فى مختلفى التوجهات، وتستنهض هذه الشخصيات والنفوس المجاوزة من أجل بناء ذات عربية لها استقلالها التاريخى التام، ذات تتحرر من النموذج العربى الإسلامى ومن النموذج الأوروبى.
والتحرر من التراث لا يعنى الالقاء به فى المتاحف أو فى سلة المهملات، إن ذلك غير ممكن، التحرر من التراث معناه امتلاكه، ومن ثم تحقيقه وتجاوزه. وهذا لا يتأتى إلا إذا قمنا بأعادة بنائه، وإعادة ترتيب العلاقة بين أجزائه من جهة، وبينه وبيننا من جهة أخرى، بالشكل الذى يردَّ إليه فى وعينا تاريخيته ويبرز نسبية مفاهيمه ومقولاته، والتحرر من الغرب لا يعنى انتظار سقوطه، بل معناه التعامل معه نقدياً، أى الدخول مع ثقافته التى تزداد عالمية، فى حوار نقدى، وذلك بقراءتها فى تاريخيتها وفهم مقولاتها ومفاهيمها فى نسبتها. والتعرف على أسس تقدمه والعمل على غرسها داخل ثقافتنا وفكرنا وأمتلاك الذات العربية للعقلانية النقدية.
ولا أدرى هل هذه العقلية النقدية التى ندعو أن يمتلكها العربى هى التى ستحقق الحرية، أن الحرية السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية هى الخاضعة لهذه العقلية النقدية العربية المرجوه.
أتصور أن الاثنين يصنعان أحدهما الأخر، الاثنان يجب أن يوجدا وأن يتعايشا لنهضة عربية مجاوزة لما نحن فيه".
" والله من وراء القصد "



وقد رجعت فى هذا البحث إلى عدد من المصادر والمراجع أهمها:

أحمد أمين : -;---;-- زعماء الإصلاح فى مصر، النهضة المصرية، 1948م
أحمد بهاء الدين -;---;-- أيام لها تاريخ، كتاب روزليوسف، 3، 1954م
أحمد كمال زكى -;---;-- دراسات فى النقد الأدبى، دار الأندلس، 1980م
-;---;-- دراسات فى النقد الأدبى، دار الأندلس، 1980م
أمانى فؤاد -;---;-- المجاوزة فى تيار الحداثة فى مصر بعد السبعينات، رسالة دكتوراة، بنات عين شمس، 2006م
البارودى -;---;-- ديوان البارودى، نح على الجارم ومحمد معروف، ط1 دار المعارف بمصر/ ج1، 1940، 1942، ص2، ج3، 1971م، ج4، 1974
توفيق الحكيم -;---;-- تحت شمس الفكر، مكتبة مصر
-;---;-- قالبنا المسرحى، مكتبة مصر
جابر عصفور -;---;-- دفاعاً عن التنوير، الهيئة العامة لقصور الثقافة، أكتوبر 1993م
-;---;-- زمن الرواية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1999م
جوجى زيدان -;---;-- بناة النهضة الحديثة، ط1، دار الهلال، ن.ت
سامى بدراوى -;---;-- أوراق البارودى المجموعة الأدبية رقم (1)، ط1 المركز العربى للبحث والنشر، القاهرة 1981م
سعد زغلول -;---;-- ابن خلدون مؤرخاً، عالم الفكر، سبتمبر 1983.
شوقى ضيف -;---;-- البارودى رائد الشعر الحديث، ط1، دار المعارف، 1964م
صلاح عبد الصبور -;---;-- الأعمال الكاملة
-;---;-- حياتى فى الشعر، مكتبة الأسرة، 2003م
صلاح قنصوه -;---;-- نظريتى فى فلسفة الفن، أكاديمية الفنون، نقد ع11، 2005م
طه حسين -;---;-- فلسفة ابن خلدون الاجتماعية، ترجمة محمد عبدالله عنان، مطبعة الأعتماد بمصر، 1925م.
عبد العزيز الدسوقى -;---;-- تطور النقد العربى الحديث فى مصر
عبد المحسن طه -;---;-- التطور والتجديد فى الشعر المصرى الحديث، الهيئة المصرية للكتاب، 1991م
عباس العقاد -;---;-- الديوان فى الأدب والنقد، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2000م
-;---;-- محمد عبدة، ط1، وزارة الثقافة والإرشاد القومى، أعلام العرب، (1)، 1962م
على الحديدى -;---;-- البارودى شاعر النهضة، مكتبة الأنجلو المصرية، 1967م
على عبد الرازق -;---;-- الإٍسلام واصول الحكم، وثائق الطليعة، السنة السابعة، عدد 11، نوفمبر 1971م
على عبد الواحد -;---;-- عبد الرحمن بن خلدون، أعلام العرب (4)، وزارة الثقافة، القاهرة، مكتبة مصر، 1962م
قاسم أمين -;---;-- المرأة الجديدة، ط1، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1993م
-;---;-- تحرير المرأة، ط1، القاهرة، 1899م
ماهر حسن فهمى -;---;-- قاسم أمين، سلسلة أعلام العرب، رقم (20)، ط1، وزارة الثقافة والإرشاد القومى، 1963م.
محمد حسين الهلالى -;---;-- عملاق الأدب توفيق الحكيم، دار المعارف، أقرأ، 545ع.
محمد حسين هيكل -;---;-- شخصيات مصرية وغربية، سلسلة "كتاب روزاليوسف"، ع2، 1963م
محمد الخضر حسين -;---;-- نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم
محمد رشيد رضا -;---;-- تاريخ الأمام محمد عبده، المنار، ط1، 1931م
محمد عابد الجابرى -;---;-- الخطاب العربى المعاصر، المركز الثقافى العربى، الدار البيضاء، دار الطلبة ، بيروت، 1982م
محمد عبدة -;---;-- المسلمون والإسلام، كتاب الهلال، ط1، 1987م
-;---;-- الإسلام بين العلم والمدنية، جزءان، الهيئة المصرية العامة للكتاب،ط1، 1993م
-;---;-- جمال الدين الأفغانى، كتاب الهلال، ط1، 1973م
-;---;-- رسالة التوحيد، نح طاهر الطناحى، كتاب الهلال، ط1، 1963م
محمد عمارة -;---;-- الدين والدولة، طبعة الهيئة المصرية العامة للكتاب، سنة 1986م
محمد مندور -;---;-- النقد والنقاد المعاصرون
نعيمة مراد -;---;-- المسرح الشعرى عند صلاح عبد الصبور، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1990م



#أماني_فؤاد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الغربة والنفط وتقنية المتوازيات في نص -العُرس- للروائي -فتحي ...
- قراءة لكتاب - الرؤية والعبارة مدخل لفهم الشعر - للشاعر عبد ا ...
- المريد المتصوف ينشد قصصه .. دراسة لمجموعة -عبد الحكيم قاسم- ...
- منطق التاريخ وسردية - تلك الأيام - للروائي فتحي غانم
- سرد دائري وصرخة ضد القهر وغياب العدالة في رواية -وحيد الطويل ...
- -في العائدون إلي الأرض -الموت حياة قراءة نقدية لخواطر د. سام ...
- قراءة لكتاب - النقد الأدبي بين القديم والحديث -
- في أقل من دقيقة.. -قصة قصيرة -
- بنية الانفصالات في سردية -قسمة الغرماء -للروائي يوسف القعيد
- تداخل النصوص في القصيدة المعاصرة ..ديوان -الشاعر والشيخ - لل ...
- شعرية الأشياء في ديوان -الفجوة في شكلها الأخير- للشاعر عاطف ...
- ثورة مصر .. رؤية يسارية لثورة 25 يناير يقدمها - سمير أمين -
- -المنطقة العمياء- سرد نسوي متحرر -مجموعة قصصية- للقصاصة أسما ...
- التوازي والتداخل في سردية -ترابها زعفران- للروائي إدوار الخر ...
- أنا ..أنت ..وهو ..مناورة الضمائر في سردية -الأنثي في مناورة ...
- التقنيات السردية المتجاورة في رواية -حرمتان ومحرم- للروائي - ...
- تكسر الدلالات اليقينية في ديوان - هو تقريبا متأكد - للشاعر أ ...
- الرؤية والتشكيل في رواية -سلام - للروائي هاني النقشبندي
- هل النقد الأدبي علم ؟
- - بلاد أضيق من الحب - عرض مسرحي مأخوذ عن نص - سعد الله ونوس ...


المزيد.....




- -بنات ألفة- و-رحلة 404? أبرز الفائزين في مهرجان أسوان لأفلام ...
- تابع HD. مسلسل الطائر الرفراف الحلقه 67 مترجمة للعربية وجمي ...
- -حالة توتر وجو مشحون- يخيم على مهرجان الفيلم العربي في برلين ...
- -خاتم سُليمى-: رواية حب واقعية تحكمها الأحلام والأمكنة
- موعد امتحانات البكالوريا 2024 الجزائر القسمين العلمي والأدبي ...
- التمثيل الضوئي للنبات يلهم باحثين لتصنيع بطارية ورقية
- 1.8 مليار دولار، قيمة صادرات الخدمات الفنية والهندسية الايرا ...
- ثبتها أطفالك هطير من الفرحه… تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أماني فؤاد - يبقي لنا من -ابن خلدون- فعل المجاوزة ..