أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أماني فؤاد - الغربة والنفط وتقنية المتوازيات في نص -العُرس- للروائي -فتحي إمبابي-















المزيد.....



الغربة والنفط وتقنية المتوازيات في نص -العُرس- للروائي -فتحي إمبابي-


أماني فؤاد

الحوار المتمدن-العدد: 4291 - 2013 / 11 / 30 - 18:14
المحور: الادب والفن
    


الغُربة والنِّفط وتِقْنية المتوازيات
في رواية " العُرْس" لفتحي إمبابي.(1)
دراسة نقدية للدكتورة: أماني فؤاد.
تتمحور رواية " العُرس" حول الغربة التي يعانيها من يتركون أوطانهم في هجرات مؤقتة للعمل بالبلدان الأخرى ، أو غُربة أبناء الوطن الواحد حين تأخذهم أطماع الحياة ، كما تشير إلى الانتقالات الطبقية والفكرية التي حدثت بعد الطفرة النِّفطية في بعض البلدان العربية ، وما أوجدته من خلخلة في بناء المجتمعات .
ومن خلال هذا المجتمع النِّفطي البديل " ليبيا " الذي تنتقل إليه الجنسيات العربية المختلفة ، يعرض الروائي للقضايا السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية لهذه الأقطار العربية ، وذلك من خلال تشابك إنساني متعدد الجنسيات ، راصداً فيه التحولات التي طرأت على المنطقة العربية منذ قيام ثورة 1952م، حتى النكسة 1967م ، وما تلاها من انكسارات للإنسان المصري ، كما يرصد الروائي الأثر البالغ الذي أحدثه النفط في الروح العربية ، وبروز طبقة برجوازية زائفة في هذه البلدان .
وأتصور أن لرواية " العُرْس " مستوىً تأويلياً آخر، يشير إليه في ثنايا النص ، وهو غياب الدور المصري القائد والفعَّال ، وما استتبعه من حالة التخبط التي تحياها الأقطار العربية على الساحة السياسية والثقافية . حدث هذا بعد التغيرات التي طرأت على الشخصية المصرية حين هُمّشت ، وفُرِّغت من فاعليتها بيد ساسة هذه الفترة الزمنية ، وانسحابها من الفعل بعد القهر الذي عانته.
كما يسلط الروائي أضواءه التحليلية على قضايا الأقطار العربية القومية والتاريخية، محاولاً تفسيرها ، وطرحها للنقاش من أجل محاولة وضع مسارب شتى للخلاص من تلك المشكلات .


1- مطبوعات ميريت لنشر والمعلومات ، الطبعة الأولى سنة 2000م، وكانت الأولى سنة 1980م.
يشير المؤلف إشارات نصية متعددة عَبْر صفحات الرواية إلى أن خلافاتنا وصراعاتنا وأطماعنا هي السبب الحقيقي فيما آل إليه حال الأقطار العربية فكلنا بالقطع يلمح مغزى أن تُنْتهك " درية" عروس الرواية ، وتفقد حياتها ، نتيجة ما صنعه شقيقها بها تحت وقع المخدّر . كلنا قد لمس – بمرور السنوات من سنة 1980م حتى الآن – ما يقوله الكاتب على لسان مصطفى :" المشكل لا مقاومة ، ليس ثمة كيان سياسي قادر على أن يوجه المقاومة الشعبية إلى مسارها الصحيح " (ص151)، لقد كان التغيير هو الأمل الذي قامت من أجله الثورات المتعددة في الأقطار العربية ، ليتكشف الواقع السياسي والاجتماعي عن تفريغ هذه الثورات من فحواها ، ويصب الكاتب سخطه على الحركات الثورية ، ويتهمها بعار العجز والفشل الذريع، كما يشير إلى غفلة الشيوعيين ، متسائلاً:
" أين كانوا إبَّان صعود البورجوازيات القومية ، وسيادتها على المنطقة ؟.....كانوا يشدون عقولهم بحثاً عن تحليل لهذه الظاهرة الأعجوبة ، وانتهى البعض إلى الحل والانخراط ،أو جبهة ذليلة ، أو بتقديم الصراع الأممي على الصراع القومي كما حدث في الجزائر " (ص151) مع مقارنة تلك الأوضاع السياسية المتخاذلة بما حدث في فيتنام وكوبا والصين الذين حققوا انتصارات سياسية مبهرة بقيادة أحزابها.
- كما يشكك الكاتب في قدرة الإنسان العربي في تلك الآونة على أن يقوم بالواجب المنوط به ، من قيام حركة اشتراكية مخلصة ومنزهة عن الأيديولوجيات ، فهــــــــو يتــــــحدث على لسان مصطفى متسائلاً :" السؤال: هل حملنا مسئولية هذا الشرف كما تمليه علينا مصائر شعوبنا، وطبقاتنا المقهورة ؟ أم أن الشرف كلمـــــة أسقطناها بعلمية من قاموسنا اللغوي ؟ " (ص152).
و تجسد الرواية عالم ولادة الكيانات الاقتصادية الكبرى- بعد اكتشاف النفط – ذلك العالم المشوّه والمجوّف ، لما يحكمه من علاقات غير شرعية بين المال والسلطة ، ولما يشوبه من أطماع ، وانعدام رؤية ، وما يحيط به ويحكمه من أنواع الفساد والتعفُّن .
لقد دفعت الغربة بأنواعها المتعددة ، والتغيرات التي أحدثها النفط في المجتمعات العربية التي تشكّل جوهر الرواية ، دفعتا إلى تقنية بنائها المعتمد في أساسه وتشكيله على المتوازيات ، متوازيات لا تلاقي فيها ، ولانهاية لها . ففي "العُرس" تحكمت طبيعة الثقافة الهندسية في فتحي إمبابي الروائي ، فأقام " ماكيتا" هندسياً مصغراً للعالم العربي في هذه الفترة الزمنية ، والتي تمتد أصدائها وفاعليتها حتى هذه اللحظة ، بناءً مخلقاً فكرياً وجمالياً بمهارة محكمة ، بطوابقه التأويلية ، ودعاماته الفنية الإنسانية المتشابكة ، وأسقفه المفتوحة على الحياة التي لا حدود لها.
- يقدم الروائي – في عالم ينتقل من حضارة التصحُّر والبداوة إلى الحضارة الرأسمالية التي قوامها الاستهلاك والترف والبورجوازية التي لا أصول لها – يقدم فاعليات وتصاريف المال والسياسة والقوة والمرأة في علاقات لا يتحكم بها سوى الفساد والأطماع والشذوذ ، ملوّحاً في ثنايا الرواية بقيم مثل : الحب والنقاء والطُّهر، وهي في مناطق الهامش لا المتن.
- يستهل الروائي عمله بركْب عُرْس متحرك ، في مساحة زمنية محددة يظل الركب متحركاً لتستمر وقائع ومراسم الاحتفال في فيلا " عمر بوزوى" حتى فجر اليوم التالي ، فالزمان في هذه الرواية لا يتعدى الساعات التي تقل عن أربع وعشرين ساعة . أما المكان فمدينة بنغازي على طريق البحر والفيلا التي يقام بها العُرس ، لكنه من خلال هذا الزمان والمكان المحدودين ينتقل بنا من بداية القرن العشرين حين يلمّح إلى ظهور الطبقة البورجوازية حتى لحظة انتهاء الرواية عام 1975م، ثم يرصد لحياة " مفتاح يوزوى" منذ 1951م، حتى انتهاء الأحداث في النصف الثاني من السبعينيات ، من خلال العديد من شخصيات هذه العائلة الليبية ، أو الجنسيات الأخرى السورية والمصرية واللبنانية وغيرها، وكذا من خلال الأحداث القومية المؤثرة في الوطن العربي بصورة شاملة.
كما أنه يتحرك بحرية أدبية بارعة في أرجاء الوطن العربي ، وبعض دول العالم ، فنحن معه نجوب ليبيا وسوريا ومصر والسعودية وفلسطين ولبنان وألمانيا وإيطاليا وأمريكا . فتحي إمبابي من خلال المحدود الزماني والمكاني ينتقل بحرية واثقة إلى آفاق متسعة ليشكل فيها روايته شديدة الإحكام ، ككتدرائية متعددة الطوابق والدهاليز .
ويستخدم الروائي في تحقيق ذلك تِقْنيات الرواية الحديثة في بناء هيكلي محكم، و هو على قدر ما يتّسم بالتنظيم التِّقني المبدع ، يتسم كذلك بالغنى الفكري ، مستعرضاً ألواناً متشابكة ومعقدة من المشاعر الإنسانية المتباينة.
تحكي الرواية عن عائلة " عمر بوزوي" وأخواته ناصر وونيس وحميدة وعائشة وصديقه، ومن خلال تشابك الأحداث العامة للوطن العربي تتوازى معها أحداث هذه العائلة حين يؤسس عمر شركته العقارية التي تعد من أكبر ثلاث شركات في شرق ليبيا ، ويعرض الروائي لتاريخ تأسيس عمر لهذه الشركة وعلاقاته الأخطبوطية الممتدة والمتشابكة مع المؤسسة العسكرية والسياسية والاقتصادية ورجال البنوك في هذا المجتمع النفطي المتشابك ، ثم يعرض الروائي لقصة زواجه من ثريا ابنة شريكه الذي خدعه واستولى على الشركة التي قامت بينهما ، ويستعرض الكاتب تأثير وفاعلية عمر الابن الأكبر لمفتاح بوزوي على مقدرات العائلة فهو الذي يزوج أخاه ناصر ويفرض عليه العروس التي تدعم علاقاته المادية، وهو صاحب القرار الأول والأخير في مصائر عائلته والمحيطين به في شركته من مهندسين وإداريين وعمال .
وفي توازٍ آخر يحكي الكاتب قصة المهندسة مريم السورية وزوجها زياد ، وقصة حبها القديمة والمتجددة لمصطفى اليسارى ، صاحب الأفكار السياسية الأشتراكية، المهندس الذي رفض المشاركة في حرب لبنان ، مصطفى الذي طالب مريم باتخاذ موقف واضح في علاقتهما.
كما يقص الكاتب في روايته قصة سفر ونيس وناصر للدراسة بألمانيا وأمريكا وحصولهم على شهادتهم الجامعية وتشوفهم للحضارة الغربية .
كما يحكي لنا الروائي من خلال قصة ناصر ودرية القشور الزائفة للحضارة الحديثة في المجتمع الليبي، وتجذر العادات البدائية في الشخصية العربية وملامح وعادات الطبقة البرجوازية الصاعدة بتلك المجتمعات .
وفي خط مواز آخر يحكي الكاتب ملامح النقاء والشفافية من خلال شخصية حميدة الأخ الأصغر لعمر بوزوي ، كما يحدثنا عن محمد اللبناني النموذج الأمل، الفتى المسئول الذي يُنتهك في الرواية ، ويضاف إلى قيمة جهد الروائي الفني ، إلمامه العميق وتحليلاته السياسية التي تدل على ثقافة ودارية متسعة بأمور الوطن السياسية بل بمقدرات السياسية العالمية والإحاطة بتفاصيلها الدقيقة التي قد تختفي بصورها العميقة و القبيحة فى الإعلام الرسمي.
وهو لا يستعرض ذلك إلا مضيفاً لغنى روايته من خلال شخوصه وطريقة سرده للأحداث، فهو على إحاطة واسعة بتفاصيل الحركة السياسية وتاريخها بكل من لبييا وسوريا ولبنان وفلسطدين والعراق (ص61و91و146و149).
كما يضاف إلى ذلك الجهد الفكري السياسي ، جهد فكري اجتماعي تنطوي عليه ثنايا الرواية وفيه نلمح سعى الروائي للخروج من هيمنة آليات التفكير الاجتراري الجامد ، سعياً شفيفاً غير تصادمي إلى زحزحة السائد وخلخلة المستقر الذي تحت أسطحه تصطلي صراعات نفسية واجتماعية عميقة.
يقول الكاتب في إحدى نظراته للمجتمع البدوي الذي يأخذ في تحضره " في تلك الدور الواطئة القديمة والعمارات الحديثة تتوهج المشاعر والأحاسيس ، وتتقد الأفئدة وتسري النيران الغامضة تحرق الأجساد الفتية على مهل فإذا ما انفرجت الأبواب والنوافذ المغلقة دوما باسم الدين والتقاليد المريعة لصدفة عابرة ، انطلقت براكين العواطف الفجة التي كثيراً ما تخطئ أعشاشها، ولا تبلغ النهر " (ص40).
ويرصد الكاتب أيضاً لطبيعة هذه المجتمعات البدائية وتحكم الدجل والشعوذة في نفوس أهلها، ويسخر في أسئلة إنسانية فكرية بسيطة على لسان "حميدة" الفتى الصغير في العائلة من بعض مظاهر التخلف المتمثلة في الدروشة والشعوذة المتجسدة في الشيخ عثمان يقول "ولكن إذا كان الشيخ عثمان عالماً بكل شيء ، حتى أن قريتنا تذبح من أجله الذبائح وتوزع النذور في مولده أليس من المؤكد أنه يعرف الاثنين " فإذا توجهوا إليه بنفس الرغبة فإلى من يستجيب ؟ أمي أو امرأة أبي ؟.....على أية حال هذا يتوقف على أيهما سيذبح خروفاً أكبر أو يوزع نذوراً أكثر " (ص61).
ولنا أن نشير إلى أن النص الجيد هو الذي يتطور بداخل متلقيه ، ينمو بداخله في حيوية معيداً إلى الإنسان الإحساس بألوان من الحياة التي تضج بالتنوعات والاختلافات ، ويلامس الروائي مناطق توتر حادة تعاني منها المجتمعات العربية ومنها تحكُّم العسكر في العلاقات السياسية والاقتصادية والاستثناءات القانونية (ص56) .
ومن عوامل تميز عمل الروائي فتحي إمبابي أنه قدم هذا التشابك الواقع بين جنسيات مختلفة في واقع اجتماعي واقتصادي وسياسي مختلف ومتمايز عن واقع كل شخصية على حِده، وهذا التخليق والتشكيل المغاير كثيراً ما يميز عمل الفنان القادر على البناءات المتكاملة والمتجددة، إنه يخلق واقعاً معقداً موازياً لعالم معقد ولكن في بنية محكمة ، إن الفن الحقيقي له القدرة على صنع الحياة التي لا تمثل الواقع بشكل حرفى وتكون محاكاة ممائلة له ، قدر ما يمثل كائناً مستقلاً ويستوى مخلوقاً قائماً بذاته ، امتلك خصائص ذاتية لا تنتسب إلى العالم الخارجى وتنتسب إلى منطقها وتشكيلها المتميز.
وفتحي إمبابي من خلال اللغة أقام هذا البناء المتوازي، ليعبر عن جنسيات هذا العمل المختلفة ، المنتمية إلى بعضها بعضاً وغير المنتمية في ذات الوقت ، فاللغة تخلق تجلياتها وهي المصدر الوحيد من خلال تقنيات تشكيلها في الرواية لتجلي الفكر والعاطفة واللغة وتقنية البناء في العمل الروائي تحد يواجه الكاتب، وهي مناط إظهار قدرات الكاتب المبدع، ويؤمن فتحي إمبابي بأن للفن رسالة فكرية قيمية وفنية جمالية ، فهو لا يترك فقرة من هذه الرواية دون أن يحملها مغزى فكرياً جمالياً في علاقة ديالكتيكية منصهرة بين الفكرة وتقنية تشكلها .
- ويلقي الكاتب بنظراته إلى قضايا يقارن فيها بين الحضارة العربية والغربية على لسان أبطاله فيرى ونيس المرأة " الشرقية امرأة بائسة ، وأن ما يسمى انحلالاً ليس سوى فهم خاطئ عن طبيعة المرأة الأوربية ، صنعناه نحن كي نخفي قبحنا" ويتحدث عن الزواج قائلاً " فالزواج ليس كما هو لدينا التجربة ، ولكنه لديهم تتويج لنجاحها ، وهي صريحة ليس لديها ما تخفيه ، والخيانة فعل يتضاءل ، لسبب بسيط أنها تستطيع الانفصال بسهولة ..... والانفصال السهل أفضل من معاشرة رجل تخونه " (ص75).
- ويلمح الكاتب دون إسهاب في معرض تعليقه على القيم الدينية يقول واصفاً ضياع فاطمة" القيم الدينية عندما تقوم على تثبيت الفوارق الطبقية والدفاع عنها، لم تترك لها وسط أنواء المجرة قشة تهرب بها من مصيرها المحتوم ، لقد فتشت داخلها فلم تجد قيمة واحدة تستند عليها أمام وطأة الواقع المرير " (ص92).
والكاتب من خلال شخصية ثريا يعرف الطبقة البرجوازية ويفسرها فكرياً وإنسانياً بطريقة فنية بليغة حين يقول في معرض تعليق السارد العليم المعلق على الشخصيات " والبرجوازية هي الوحيدة التي عرفت الله ونفضت عنه يدها وهي فتية قوية مسيطرة ، وهي التي تعيه وتستعين به وهي ضعيفة متهالكة ، شرهة بليدة هامشية ، لكنها تسقطه تماماً من حسابها عندما تخوض صراعها المكشوف ضد خصومها من علاقات قديمة ، ساعتها تقتضي تلك الأفكار الجديدة التي تحل فيه محل أي قوى غيبية ، والبرجوازي عندما يصعد يخوض صراعاً ليس فيه شفقة أو وجدان ، صراعاً لعالم خال من العواطف الإنسانية النبيلة ، صراعاً كان هوأحد الذين حددوا ملامحه ، لحظتها عليه أن يقتني النمط الجديد الذي صنعه محل كل القيم الفوقية السائدة التي لا تلائم حياته الجديدة " (ص44).
وحين يمتلك العمل الفني الجيد تلك الرؤى والتحليلات الفكرية العميقة يزداد ثراءً، ذلك حين ينير مناطق معتمة لم يكن القارئ قد تنبه إليها في الحياة ، ويؤمن الكاتب على ما أتصور بالقيمة الفكرية في العمل الفني ، لكن ما يميز الرواية ويلفت النظر النقدي إليها هو هذا التوافق المبدع بين موضوع الرواية والشكل البنائي الذي هو الهيكل الروائي لعمله ، ويتحقق هذا التوافق على محاور متعددة هي مجموع هذا العمل .
- والمكان الروائي في " العُرْس" مكان متصحّر يحاول الكاتب توشيته وتزيينه بكل هذه المظاهر الحديثة والمنعَّمة التي يضفيها على النساء من ملابس وحُلُىّ وسيارات ومفروشات وأجهزة ورحلات وما عاداها ، كما يضفي على الوجود الصحراوي المباني المشيَّدة والفيلات المنعَّمة، والطرق التي جاءت أسماؤها موحية مثل شارع جمال عبد الناصر، فندق عمر الخيام ، المنطقة التجارية ، عمارة كانون .. (ص11) ،وكلها أسماء تدل على التحولات الثقافية المتباينة لهذا المجتمع البدوي .
وزمان الرواية زمان أسود " حمل الجيل القديم كل أوزاره وأمراضه ليحتويها الجيل الذي خرج رافضاً الهزيمة والذي اتسم في بعض الأقطار بكونه لم يخرج من معطف الحركة القديمة ، التشرذم والانقسام والاغتياب والاستعاضة عن التوجه بخوض المعركة الوطنية الديمقراطية بالمعارك الداخلية والجانبية الطاحنة وإنهاك النفس والذات ". (ص152) ، فهو زمان انكسار وتشرذم الشخصية العربية ، زمان التحولات النفطية التي انقلبت وبالاً على مجتمعاتها، زمان الانتهاك الذي انتهى بتحول درية العروس إلى كيان أسود متفحم.
وتعد الرواية على هذا النحو مجموعة من القصص المتصلة المنفصلة ، تتوازى لتخلق عالم هذه الرواية مكتملاً غير منتهٍ.





















** السرد.
تعد رواية العرس رواية أصوات متعددة من خلال سارد مفارق ، فتقنية بنائها تعرض للشخصيات المختلفة في الرواية في الفصول المتوالية من خلال عين راصدة تشكل كاميرا تحكي وتصف وتصور وتعلق وتحلل من خلال منطق الأشخاص أنفسهم ،والسرد بهذه التقنية امتلك مسافة من الحرية، وعدم الانغماس التام في أي من الشخوص أو الأحداث، وأتاح نوعاً من الحرية في الانتقالات بين الأحداث والشخصيات.
والكاتب من خلال حدث " العُرْس" بدءا من الموكب والعربات التي تحتفل به في طرقات بنغازي وحتى الحريق الذي أشعلته " درية" في نهاية العرس عند فجر اليوم التالي، يصوغ محاور روايته ويقيم بناءها الهندسي معتمداً على توازيات بين تدرج أحداث العرس ووقائعه، وتعدد شخوصه وبين أحداث الرواية بمجملها وأصوات الأشخاص بها، هذه التوازيات تعتمد عملية استرجاع زمني ممتد واتساع مكاني متعدد . فحين يستعرض الروائي الأشخاص بالعُرس يحكي عن الأحداث الرئيسية بتاريخ الحاج " مفتاح بوزوي " في تكثيف منضبط ودال ، ليعطي تصوراً عن الخلفية الاجتماعية لهذه العائلة، أو كما أتصور يرسى أحد أساسات هذا البناء، ثم ينتقل متوازياً مع ركب العرس ليرسى أهم دعامات بنائه من خلال الشخصية المحورية بالرواية" عمر بوزوي" وهو يرأس اجتماع بمؤسسته (ص6-10) من خلال الحوار بهذا الاجتماع يستعرض الكاتب العديد من المشكلات ووجهات النظر لمختلفة لنسيج الشخصيات بهذه الرواية وليبدأ حديثه عن علاقات تبدو كشبكات عنكبوتية خيوطها المال و السياسة والجنس ، ويرصد الروائي هذه المتغيرات فائقة التحول لهذه المجتمعات النامية التي أحالها النفط إلى بؤر ملتهبة تصطلي فيها التحولات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
ومن خلال العرض المتوازي مع التحركات بهذا العرس يعرض الكاتب أيضاً طبيعة أبطاله وجوانب شخصياتهم المختلفة ويرسم بورتريه حي نابض لشخصية عمر بوزوي من زوايا متعددة يتضمن ذلك علاقاته النسائية المشبوهه والتي لايحكمها سوى الغريزة الفجة دون مشاعر حقيقية، فيذكر واقعة وطئه لإحدى النساء في بيت عائلته في أثناء الاحتفال بالعُرس بهذه الحيوانية، ليلقي الأضواء على طبيعته الخاصة ، التي لا تتورع أن تنتهك كل القيم بهذه الدونية ، دون عواطف حقيقية ، ثم ينتقل من هذه الواقعة إلى واقعة مضاجعته لها بايطاليا والكاتب لايضع هذه الانتقالة الزمانية والمكانية مجانياً، بل ليوحي بطبيعة عمر الاقتناصية، وحيله التي يصطنعها لكي ينال مآربه وهو لا يعدم أن يكرر الوقائع التي تدلل على طبيعة هذه الشخصية من خلال السرد الذي ينتقل فيه بين إيطاليا وليبيا ، بين الفندق بروما أو حجرة مكتبته في بنغازي في وقائع يوم العُرس يقول " ليش ما عاد خير بين الناس، ، كيف أظل إمعاهم وأنت هنا مريضة ، نشهد الله حق علىّ لازم الواحد يظل هون بيشى إذا تريدي.
لم تجبه ببنت شفه ، إنما اختلج وجهها ، شعرت بيده تلامسها، ومنذ تلك اللحظة لم تردد وهي تقاومه برغبة سوى عبارة " لا " عندما بلغها بكت وهي تتركه يطويها بدمائه الحارة بكاء طويلاً ، قبل أن يتحول إلى فرح وضحك خالص ، عادها مرتين وعندما رحل عن روما لم يكن يظن أنه سيلتقي بها ثانية ، لكن هاهي القحبة تزحف على قدميها كي تطفئ النار المشتعلة في أحشائها ." (ص17).
وفي واقعة وطئه لها مرة ثانية يعلق السارد على مشاعر هذه المرأة يقول " ودت لو تبكي وصدرها يعتصره فظاظته ، طعنات ألفاظه ، أن يكتشفوا عيابها ، لكن خوفها ابتلعته الرغبة ". (ص17)، فالكاتب من خلال الوقائع النابضة برسم ملامح شخصوصه النفسية والفكرية .
- ويستخدم الروائي في السرد تقنية التداعيات والاسترجاع التي تشبه التقنيات السينمائية في التصوير مثل أن يصنع " زووم " موحى في قلب المشهد ليعود بنا في الزمن لفترات متفاوته ليحكي عن البدايات التي عاشها "عمر" حتى يصنع هذا الكيان المؤسس الهائل، ولا يصنع الروائي ذلك إلا من خلال تشابكات الواقع المعقدة التى صنعتها قصة نجاح مشوه بالفساد والأطماع والخديعة لكل من تعامل معهم عمر بوزوي فيقول في غمار ذلك "..وهلة ورحلَت عن "عمر" مشاعر السرور وذهنه يغوص في الظلام . منذ سبع سنوات دخل المدينة شاباً يافعاً لم يتعد العشرين..."
إن هذا التركيب اللغوي السابق يصنع مشهداً سينمائياً حي ونابضاً فيه يعود البطل في الزمن ليستعرض بعض أحداثه المؤثرة في حياته من نقطة غارقة في الظلام .
مثل هذه التقنية يستخدمها الروائي بكثرة ومهارة فهو حين يصف حال "مريم" وهي تعاني الوحدة والضياع مع زوج فاسد ، عنين لا يعنيه سوى تكديس الأموال ، يقول : " بعد الحوار الذي دار بينها وبين اللبناني الصغير "محمد" ، لم تستطع مريم أن تبقى بالفيلا الصغيرة الكائنة بحي الفويهات من مدينة المال... سارت وحيدة حتى أتى الغروب ، أمام البحر دقت مريم الأرض بقدمها اليسرى كمهرة كُميتية ، وأفق البحر بتسع بها نحو الماضي ....ماذا تفعلين أيتها البائسة ؟... أُخرج الماضي من قبره ..... أيتهاالتعيسة لا تفعلي ..وكيف ...والعمر جواد يلهث يسابق الريح مسرعا نحو المنتهى ، والموت قابع مطمئن بانتظارنا لا مفر ...فاح لها عبق الأزقة الضيقة لمدينتها .. مدينة التل الصغيرة الواقعة على بعد خمسة عشر كيلو متراً من دمشق " (ص121).
ينوّع الكاتب في تقنية هذه التداعيات المشهدية والاسترجاع الزمني في المشاهد، فهو في هذا المقطع يصنع تداعياً تتأبى صاحبته أن تخوضه ،تصارعه ، ويدمج في ذلك عناصر الطبيعة المحيطة بالشخصية كعنصر تحفيزي لهذه الاستدعاءات السحيقة والمضطربة ، كل هذه التقنيات الفنية تجعل من العمل الروائي قطعة نابضة بالحياة الغنية بوقائعها المتحركة بالفعل بهذا الزخم الإنساني المتنوع.
وهو لا يلبث في مشهد تالي يقول " ومن بين أمواج بنغازي التي تروح وتغدو بين قدميها ، أنبعث شبح في العشرين أشقر الملامح قوي البنية غزير الشعر مفتول الساعد والصدر ، تدل بنيته على ما يقضي به أوقات فراغه وإجازاته الجامعية .. عامل بناء أو باطون ، أو كل مهن البناء التي خرج يمارسها منذ بلغ من العمر الثانية عشرة .. انهمرت عليها أمواج الوحدة والبؤس ... اقترب منها مصطفى في سترته الجينز ، وعلى وجهه ابتسامة عريضة بها تواطؤ على سرهما المشترك...كانت تجلس وحيدة بفناء ثانوية التل للبنات ... جذب مقعداً وقال في مباشرة.."(ص122)
في هذا الاسترجاع للماضي تلون آخر فقد أستقدم الروائي المفارق في المكان والزمان إلى حاضر ووجود مغاير وسط أمواج البحر ، استقدمه بذهن مريم وخيالها ليأخذها معه ويغادر إلى مدينتها وأول لقاء لهما.
هذا التلون الاستدعائي يشى بحنكة الكاتب و براح خياله الفني والبنائي الذي يتيح له اللعب بهذه التقنيات وتنويعها الجاذب للمتلقي والخادم للعمل الروائي.
فالكاتب في متن العمل على لسان حميدة ينتصر لعدم التماثل ويرى فيه غنى وتنوعاً دافعاً للدهشة يقول :" تمتد سلسلة الهضـــاب متوالية في غير نسق ، كأن الطبيعة لاتهوى التماثل" (ص76) .
ولذا يتوافر في العمل هذه الاستدعاءات اللانسقية والتي تتنوع في تقنية حدوثها في كل مشهد.
ولهذا الاستدعاء الذي يصنعه الكاتب وهو يتحدث عن مراحل سقوط فاطمة في براثن الفساد ومجتمع الرزيلة طبيعة خاصة فهو من خلال مشاعر الخدر التي تنتاب فتاة ناضجة قمعت رغبات الجنس لديها تحت عيشها بطبقة دنيا فقيرة ، في أول تسلل هذا الاسترخاء لديها تستدعي طبيعة أحياء القاهرة الفقيرة ، الجوع ، التكدس ، القذارة ، الازدحام تستدعي واقع قهرت فيه الأحلام والرغبات المشروعة يقول الكاتب :" شيئاً فشيئاً سمحت لجسدها أن يسترق الخدر من الالتصاق به ، تاركه نهدها الأيسر يسبح على اهتزازات ساعده ، باعثاً بها لذةً واسترخاءً عميقين ، كادت أن تغفو لولا خوفها من أن يفطن أحد لمتعتها الخاصة الصغيرة".
أحياء القاهرة الفقيرة ، الألوف المكدسة بالحواري ، بطون الصغار التي تعوي عواء الذئاب الجوعى ليلا في ، عرى الأطفال .... " (ص91).
فهي حالة خدر واسترخاء استدعت معاناة طبقة دنيا في مجتمعها ، استدعت حرمانها من مشاعرها الإنسانية لفترات طويلة ، وكأنها تمنعها من أن تعيشها، أو تدفعها أن تعيش كل الانتهاكات مادامت ستوفر لها متعة حرمت منها طالما أنه لا أمل هناك في حياة مرفَّهة دون فساد.

ويتميز المشهد في الرواية الحديثة عند كتاب تيار الوعي بأنه مشهد لوحة يتميز بنوع من السكونية(1) ، لكن الروائي فتحي إمبابي يقوم بعملية جدْل في مشاهده في رواية العُرس ، فهو كما يشكل لوحات للحظات المشحونة ، يتخيز مشاهد درامية تقوم على دفع الأمور إلى ذروة الصراع بداخل كل شخصية ، وجوانب التوتر الحادة الخاصة بكل شخوصه ، وهو بهذا الجدْل في داخل المشهد يقيم توازياً آخر بين تقنيات الرواية الواقعية والرواية الحديثة المعاصرة ، وهو حين يستخدم المشهد الروائي يوفر للقارئ عالماً نابضاً بشخوصه التي تتحرك أمامه وإحساساً بالمشاركة الجادة في الفعل ، ومن خلال الاسترجاع الزمني في المشاهد يحكي عن بداية لصراعات في عملية مزج بين الحاضر والماضي وهي تقنية تلخيص لفترات زمنية طويلة والتركيز على مناطق متوترة ودالة بعينها في الماضي والحاضر معاً ، إنها لحظات من التكثيف للصراع وضغط للزمن الروائي بتقنيات مبدعة بداخل المشهد الروائي.
- وللسرد في رواية " العُرْس" خاصية القطع المفاجئ عند نقاط بعينها ولا يعود الكاتب لاستكمالها أو استيضاحها،وهو بهذه التقنية يفتح الفجوات في العمل الروائي، ويدفع بعلامات الاستفهام المتعددة التي تتوارد في ذهن متلقيه ، وأتصور أنه بهذا الصنيع يحقق عدداً من الأهداف في صياغة الرواية منها:
(1) - دفع التوازيات التي هي أساس البناء الفني في هذه الرواية وترك بعض الخيوط ثم الأمساك بخيوط جديدة تدفع العمل الروائي للاستكمال والإحاطة بزوايا مختلفة من جوانب الشخصيات أو روافد الأحداث ، يقول الكاتب :" اندفعت الدماءالحارة في عروقه فأخذ يهاجمها وقاومته ، وكلما قاومته ازداد شراسة ، ألقت إليه بسهمها الأخير ، كان على وشك أن يلجها عندما همست بغنج : تفعل هيك بالعجوز؟!
طعنته الكلمة بقسوة ، لم يابه بها واستمر لحظتها ... يقاوم رغبته في الثأر لإهانتها له " (ص25) يلى هذا النص مباشرة الفصل الرابع ويتعلق السرد فيه بوقائع العُرس وعلاقة عمر


(1) سيزا قاسم : بناء الرواية ، مكتبة الأسرة ، القاهرة ، 2004م ، صـــ99:94 .


بالرائد مفتاح وخضوعه له في علاقة مشبوهة بين مؤسسة "عمر" والقيادة العسكرية في علاقة غير شرعية (ص29).
ولا يعود الكاتب لهذه الحادثة، حادثة مضاجعتة لهذه العجوز مرة أخرى – حتى نهاية الرواية كما أن انتقال فاطمة للعمل بالقاهرة مع "مرفت" صياغة مفتوحة لم نعرف لها مغزاً محدداً (ص96).
(2)- لطبيعة الشخصيات المركبة التي تكتظ بها الرواية وتعقد تكوينها النفسي فحين يقحم الروائي شخصية محمد " السباك" اللبناني ذى الأربعة عشر عاماً في حياة " مريم" يقحمها من أجل أن يدفع بها لتستدعي بداخلها صورة رجلها الذي أحبته ، وليكن شاهداً أمامها يستحضر على الدوام شبيه" مصطفى" الذي أحبته والموجود نقيضه الدائم في زوجها المنعدم الكرامة .
فالكاتب حين ينهي حوارها مع محمد بهذا القطع " مع السلامة يامحمد ".
تنطلق مريم في صراعها مع استدعاءتها التي تستدعي علاقتها بمصطفي" (ص121). كم تبدو نفوس البشر معقدة ، فحين نهرب من مشاعر تلح علينا ونتجاهلها ، يصطنع لنا القدر أو الروائي في هذه الرواية ما يستدعيها في أجلى صورها، نموذج محمد الباعث على الأمل.
3- يوظف هذ القطع في المناطق الحارة والمتوترة في الرواية من أجل التشويق لمعرفة دوافع الأحداث وتواليها المباغت ، يقول الكاتب وهو يصف حال ناصر في أثناء ركب العُرس بجانب عروسه " وعندما مرت أصابعه ليمسك يدها في غفلة من الجميع متذرعا بالصبر إزاء نفورها ، ارتد مندهشاً بكبرياء ، فقد جذبت يدها بعصبية وعلى وجهها ملامح النفور والنظر في الفراغ ...
تساءل في صمت ، وقد ازدادت دوافع قلقه إبهاما .. هل هناك ثمة خطأ ما؟" (ص4) .
ثم يتوالى السرد مباشرة بعد هذا القطع التساؤلي بقوله " في العربة الثانية جلس الأب ، عجوزاً جاوز الستين ...." (ص5) ويستمر مع القارئ هذا التساؤل المبهم حتى الصفحة المئتين والخمس عشرة وهو ما يدفع المتلقي للوقوع بأسر الحكي وعدم مغادرته حتى تتكشف لديه بواعث الأمور.
والروائي في هذا السرد يبدو متحرراً من قيود الترتيب المكاني والزماني ، مستخدماً لتقنية القطع المباغت وعدم العودة إلى الحدث مرة أخرى أو العودة إلى الحدث المقطوع للحكي حوله مرة أخرى.
- ويعتمد الروائي في بنائه السردي على تقنية التوازيات أو الخطوط التي لا تتلاقى بما يتناسب مع المضمون التي تحمله الرواية ، لقد فرض تشكيل المجموع الإنساني الذي يمثل جوهر هذه الرواية شكلها البنائي فجاءت :
توازيات مستمرة بين الأحداث الآنية وما تستدعيه من ذكريات لم تذيبها الأيام والسنون وبقيت بنفوس مغتربة عن واقعها ، وعن أحلامها ، وعن أوطانها ، وعن نفوسها ، معبرة عن صراع ما يفتأ قائماً معتملاً بداخل قوقعة كل ذات على حدة، لتحقق ذلك على أصعدة مختلفة منها قصة مريم السورية و الضياع الذي تعانيه في الغربة مع زوجها المادي الفاقد الكرامة وتفاصيل قصة منصرمة ما تزال ترعى بداخلها قصة حبها لمصطفى ، ذلك المناضل السياسي ، صاحب الأراء الجريئة المتحررة.
أو حول قصة المهندس " فؤاد صليب المصري الجنسية " بعد أن نبذ في مؤسسة "عمر" لأنه اكتشف وواجهه بالسرقات والتجاوزات التي تحدث بالمؤسسة ، يقول الكاتب " في ركن قصى من حمام السباحة جلس المهندس فؤاد .. على مائدته وحيداً منبوذاً في حالة ذهول مما آلت إليه أوضاعه بالمؤسسة .. وهو العقيد المتقاعد بسلاح المهندسين المصري ، الذي خاض غمار حرب 73.67، وأصيب من جراء انفجار بالجبهة ، والحاصل على أحد الأوسمة الرفيعة " (ص180).
لقد أسند عمر بوزوي إلى المهندس فؤاد مسئولية الإشراف على المرحلة الأولى من تسليم المشروع بعد أن تأخر تسعة أشهر ، لكنه واجه المتاعب وأصبح وحيداً مهملاً بعد أن "تكتل السوريون ضده بالموقع لصالح المهندس زياد فرفضوا الاعتراف بسلطانه ... وشنوا عليه حملة تشويه ضخمة " (ص181).
ويعلق السارد على سلوك" فؤاد صليب" وهو بصدد مواجهة عمر بوزوي يقول " " قام خلفه مرتعداً من اللحظات التي ستمضي إبان المقابلة ، لقد كان الشعور بالنقص والخوف الشعور الملازم للمصريين إبان أول هجرة بالتاريخ أعقبت هزيمة 67" (ص157).
ومن قلب معاناة ناصر بوزوي حين زج في هذا العُرس ، وهذه العروس يحكي السارد من خلال ناصر عن مجموعة من التوازيات التي لا يصطنعها عبثاً لكن ليدلل على المفارقات بين هذا العالم البدوي الذي يعيشه برغم معالم مدنيته الزائفة وبين مجتمع متحرر في أمريكا، فهو يتذكر ابنة عمه وشعوره تجاهها شعوراً نقياً بكراً ، كما يرصد لتحول المجتمعات والتغيرات التي آل إليها الحال بعد النفط ، والانفتاح على العالم الرأسمالي العالمي يقول :" ففجأة وبرعونة وطيش أحمق انتشلتنى الحياة بسرعة من قلب القبة لتقذف بي إلى قلب العالم مباشرة ... شركات التأمين العالمية و الوطنية .. السيارات والأفراد... السلع والمنتجات العالمية والوطنية .. لقد سقط مني دفء الصبايا بالقبة وملاحة بنات البادية وصفاء ومجون الطفولة... يابحر عندما أطعمتها بيدي ابتسم جسدها يتعطش للوفاء، اهتززت طربا والتمعت عيناها بفرح مراهق ...قامت مبتعدة تريد أن تقول أنا لك إلى الأبد لو وضعك الله في جهنم ، سأختارها كي أبقى معك ... لكنها غير متعلمة ، تزوجت وهي في الرابعة عشرة ، مضى على ذلك عشر سنوات تقلبت فيها ليبيا كما يقلب حساء في إناء ، ينتقل كل شيء من مكانه ، ينخفض الوسط وترتفع الأطراف وتفور وتقذف أشياء تتسرسب للرمال، في الأنية يعود كل شيء لمكــــانه ، أمـــا في هذا العصر فلا أحــــــــد يدري إلى أين يقذف به" (ص202.201) .
ثِم يصنع الكاتب توازياً آخر نقيضاً يمثل مرحلة من حياته في أثناء دراسته بأمريكا حين يتذكر مسز جاكلين ... مطلَّقة وطفلين وعمر يناهز الخامسة والثلاثين .(ص202) وبعد قص سريع عن تلك الشخصية ينتهي بـ " جودباي مسز جاكي ... أيتها القَزَمَةُ السمينة .
قال : " وجدت لك عروستك .. قلت في استسلام : منو ؟
* درية ابنة حمد بوشناق ... السنة الثانية حقوق طرابلس
* جميلة ؟ * كيف البدر
هززت كتفي : باهي " (ص207)
قد يتساءل القارئ كيف تعاقب هذان القولان في الفقرة السابقة والزمان والمكان في ظرف مغاير بصورة تامة،إنها تقنية التوازيات التي أتحدث عنها والتي تجعل الأحداث والأشخاص في صور متقابلة عارية من الترابطات المباشرة فتدعو إلى الوقوف للتأمل والإحساس بمفارقات هذا العالم ، لقد استدعى خطاب درية لناصر هذه الخطوط المغايرة التي مرت بحياته واختلاف كل منها عن الأخر ، هذه الخطوط المتوازية قدر ما تشي بتنوع واختلاف الأشخاص واحداً عن الأخر، تشي أيضاً باختلاف المراحل والمتغيرات التي تمر بحياة الشخص الواحد ، وتنوع منطق وتفكير الإنسان بهذا العالم العيني المتناقض.
- والتوازيات التي يصنعها الكاتب يضعها في مزج مؤتلف بين العام والخاص ليحكي في عمق واع عن هذه الحياة التي تهتز بالأحداث الكبرى المؤثرة في حياة الأوطان ، ثم ما تلبث تهدأ ليشتغل الإنسان بشئونه الصغيرة الخاصة وتتزامن الأحداث وتتوازى مع حياة الأشخاص الخاصة ، والكاتب على لسان "حميدة " يحكي عن المد القوي والحلم الذي تنامى على يد عبد الناصر ، ثم ما يلبث وتهاوى بعد هزيمة 1967م يقول :" ولكن كما قامت الحرب سريعاً ، حل الصمت سريعا ، وعاد الناس إلى دورهم ومشاغل حياتهم العادية ، اختفى إخوتي الثلاثة عمر وناصر وونيس ... فعبارات المظاهرات والسجن ترددت كثيراً على لسان أبي وأمرأة أبي وأمي ... وسمعت عبارات كثيرة .. أن الملك خان وأن اليهود استخدموا القواعد الأمريكية والإنجليزية في هويلس والعضم ضد الجيش المصري ... وشغلني الموضوع فترة ، ثم نسى الجميع كل شيء ونسيته أنا الأخر ، لقد بدأت الكسارة العمل ، وبدأت الشاحنات تحمل الحصى...." (ص70.69)، هذه التوازيات التي تصنع أفقاً متسعاً على السطح لا تلاقي ظاهرى متشابك به ، ولكن حين يجمعها الروائي في هذا الكيان القصصي فهو ينسج شبكة عنكبوتية رهيفة الخيوط لكنها متشابكة في المستوى التالي والأعمق ، ما بعد السطح رأسياً ، هذه الشبكة التي يشير المؤلف إشارات دالة إلى وجودها ، وهو بهذا الصنيع يدعو قارئه من خلال تقنيات سرده إلى استكمالها ليبدع معه هذا العالم ما تحت الأفقي بدرجات متفاوته.
- كما تميز السرد في رواية العُرْس بهذه التوازيات اصطبغ الحوار أيضاً بصبغة التوازيات تلك ، فهناك في مناطق كثيرة من الحوارات مستويان مستوى خارجي معلن وآخر داخلي مستتر يدور بذهن المتحدث ، ويتضح وطأة هذا التوازي مع الشخصيات الإشكالية مركبة التكوين مثل شخصية عمر بوزوي فهناك دائماً مضمر ومعلن ، ومن شأن هذا التكنيك أن يعطي أبعاداً أخرى ومستوى مغايراً بين الشخصية والحدث وردود الأفعال، مما يصنع ظلالا مغايرة ومبدعة وعميقة في ذات الوقت، ويفتح في العمل العديد من التأويلات ويبدو الحوار في الرواية لوحة تشكيلية تنتهج الظلال وأبعادها المتباينة.
ومثل ذلك قول عمر :" وقفت حائرة ، جذبها إليه فانصاعت ، تحسسها يحاول شد تكتها، غمم في تعصب ..بدونه .. القحبة جاهزة إذن ." (ص17).
والكاتب في حال الحوار بين مصطفى ومريم يقول :" استطردت : الرجل النظيف لا يتشمم أذيال النساء .. ود أن يصرخ بها .. لاتَنْسَىْ أنك زوجة لرجل لا تحبينه ... زوج يبعد عنك الآن بألفى كيلو متر ، وبعدك تجالسى آخر... لكنه خاف .. خاف أن يترك بها جرحاً لايندمل .. قال مستعيضاً عن ذلك
- لاتنسى أنك السبب .." (160.159).
ويتضح هذا المستوى الثاني من الحوار المضمر حين يعلق ناصر على حديث مسز جاكلين حين تسأله عن عمرها بقوله :" تجاهلها قائلاً : تسعة وعشرين عاماً .- كل الناس تقول ذلك ها...ها" يالك من غبية ..كل الناس تعرف أنك شارفت على الأربعين .. هل تظنينى مغفلاً ... بالطبع مغفلاً .." (ص202).
- وتتنوع أدوات الكاتب في خلق هذا التوازي الخارجي والداخلي فحيناً لا يكون هناك خارجي ويحل الصمت التام لكن يعتمل بداخل الفرد مشاعر ساخطة غاضبة مستنكرة فهو حين يصف حال "مريم" حين عرض عليها مصطفى الارتباط على النحو الذي يريده يقول : "دمرني ، جعلني ترس بعجلته ، أحافظ على الأطفال من أجل سجنه ، من أجل قضيته، أي قضية هي ، إحلال حكم محل سلطة أخرى ، أي شيء يهمني ، ليسحق الجميع ..ليس لأحلامي وأمنياتي وجود .. لقد نثر علي ريح معتقداته. " (ص163).
- ويبدو الحوار في بعض الفقرات حواراً من طرف واحد بقول أو تساؤل دون أن نجد إجابة ، لأن الطرف الأخر لا يمتلكها ، أو لا يستطيع التصريح بها لدوافع وقيود بداخله، لذا تبدو المقاطع أو الأشخاص وكأن بها بتراً ، وتبدو الشخوص وكأنها عوالم مستقلة ، لا تتداخل ، يسأل مصطفى مريم بقوله :" حسنا فلماذا لا تملكين حرية الاختيار ؟.. لماذا تنهزم مشاعرك وعواطفك وحتى اختيارك العقلي أمام السلطة الاجتماعية أو الأبوية .. جمدت ولم تنبث بشفة " (ص135).
- ويستخدم الروائي في رأس بعض الفقرات تقنية العنوانات التي تبدو جملاً تلخص جوهر حوار أو فكرة طويلة فيستهل بها الفقرة ثم يبدأ في شرح ملابسات ودوافع قولها وهذا اللون من التنويع في السرد يبرز أهمية بعض الأفكار التي يلفت الكاتب انتباه قارئه لها فهو يقــول: " إنني واثق بقدر ما تكون الحياة الشخصية ودوافعها الذاتية ممكنة ، بقــــــــدر ما يكون للروح والفكر قدرتهما على الدفاع عن الذات ضد السلطة العامة.." (134)
فهو قد اقتطع جزء جوهري من حوار يجري بين مصطفى ومريم ويستهل به فقرته موجز به جوهر الفصل ثم يعود للسرد من البداية حتى نهاية المشهد أو الحدث أو الفكرة ويحقق ذلك لدواعٍ فنية متعددة . لكنه في معظم هذه الجمل التي يستهل بها فصوله وفقراته يركز على أجزاء مبدعة من صياغاته الفكرية والفنية و يظهر السارد المفارق فيها بوصفه حكيماً يمتلك الفهم العميق والثقافة الرفيعة والوعي بدهاليز وكهوف النفوس البشرية وعوالم الفكر والسياسة ، لذا فهو حين يسرد الأحداث نجده في بداية الفقرات أو فصول الرواية يصنع فقرة أو فاصلاً تعليقياً يلخص فيه نظرات عميقة في حياة الإنسانية ، فنجده يقول :" لأننا لا نملك أكثر من حياة واحدة .. فإن حسرة تتملكنا وأسى عميقاً يضرب بجذوره في أعماقنا عندما تصادف لحظة ما حبيباً مكللة رأسه بالغصن الذهبي . ثم لا تلبث الحياة أن تلقي بكوابيسها .. الفرق .. كيف تأخذنا الدروب ، ولم تلق بنا الأشرعة إلى تلك المرافئ التي لا نبتغيها ، وما تلك الألاف من الأشياء والهموم الصغيرة التي تظل تتقاذفنا في سلسلة من الدوامات البطيئة الغامضة ، وفجأة نفاجأ عندما نرفع رؤوسنا قليلاً فوق تيار الحياة المعتادة في ساعة متأخرة من ليل التذكر ، أو تنبيهات اليقظة ، إن تلك الطرق التي وطئناهاحيث عالم الشباب السحري قد غابت عن عيوننا وضاعت معالمه ولم يبق منها سوى شقوق وجروح وشظايا تثير فينا الحزن والألم " أقدامنا أكبر من الحذاء ولهذا فإن الألم على الطريق مرير " (ص136).
- ويغلب تخصص الفنان الروائي الهندسي بمصطلحاته وتقنياته على بعض مناطق السرد لذا تظهر بعض صياغات لتقارير مفصلة مثل التقرير في (ص182) بقوله :" ينحى محضر أعمال لجنة الاستلام .." وإن كنت أرى أن بها بعض المغالاة فنحن بصدد عمل فني ، وربما أوردها الروائي نوعاً من المصداقية في العمل الروائي.
- وفي بعض مناطق السرد في رواية العُرس وحتى لا يقع الكاتب في فيض من الأحداث يتخير أن يلاحقنا بأحداث متوالية سريعة ، قد يقف المتلقي معها فاغراً فاه كيف حدثت، وما ملا بستها ، ونحتاج من القارئ جهداً استكمالياً لتفاصيل هذه الأحداث ، ليبدعها ، أو يتخيل ملابستها بنفسه ، فهو حين يحكي عن سطو " مريم " على خطة فؤاد صليب المصري ثم إقامة الحفل بفيلتها هي وزياد ثم المواجهة التي حدثت بينهما ثم طلاقها وعودتها إلى مصطفى بسوريا تلاحقنا الأحداث مباغتة سريعـــة لا نكاد نلتفظ أنفسنا لنتابعها (ص189-194) . وهو ما قد يشكل ثغرة ضمنية، أو تلخيصاً لانستبين منه دوافع مريم لما فعلته ويتعارض مع قيمها.
ولقد أخذ إيقاع الأحداث في التسارع منذ بداية الفصل الثاني والعشرين (ص198) ليشى بتلك النهاية المفجعة التي تفضح هذه المجتمعات التي تعيش في مظاهر من االبرجوازية المصنوعة، وبداخلها كهوف الظلام والبداوة المقيتة.
- وتميز السرد في رواية العرس أيضاً بالانتقالات الحوارية المفاجئة ذلك ليحقق الروائي الدفع لأحداثه وفتح خيوط أكثر تنوعاً وإحاطة بمعرفة طبائع وفكر أشخاصه فهو في معرض حديث بين مصطفى ومريم بعد الاستغناء عن خدمات أبيها في الجيش نواجه بسؤال مباغت من مصطفى إلى مريم " كيف حالك وزياد ؟ (ص165) ويعقب ذلك تحول مسار السرد إلى نقطة مغايرة وهكذا، ويعد هذا من التصاريف الفنية التي تحرك السرد بالعمل. كما يمارس الكاتب أيضاً تقنية الاختصارات المكثفة في عملية السرد فهو حين يحكي عن قصة تعرف عمر بثريا زوجته يصف تفاصيل أول لقاء ثم بعدها يصف ملامح ثريا وجمالها.
ثم يقول :" ولم تمر شهور قليلة حتى كانت زوجته " (ص42).
والكاتب حين يلجأ لتلك الاختصارات المكثفة فهو يرفع عن عمله التفاصيل التي لا طائل من ورائها وقد تدفع إلى ملل القارئ ، فهو لا يسهب في ذكر تفاصيل إلا التي تخدم رسم وبناء الشخصيات، وهو ما يطلق عليه النقاد " الثغرة المميزة المذكورة " أو التي نص الروائي عليها في تعامله مع الزمن .


** اللغة.
تتميز رواية (العُرْس) باستخدام الكاتب للعديد من اللهجات العربية ، ليبية، سورية ومصرية في توليف مع اللغة العربية الفصحى ، وهو حين يستخدم هذه اللهجات يضعها في مناطق الحوار أو المنولوج الداخلي بين الفرد ونفسه ؛ ليشعر متلقيه بهذه الحميمية بين الشخصية ومفرداتها الخاصة ، وتعد اللهجة أو اللغة من أهم العناصر الموصلة لطبيعة الشخصية ، ويقترب الكاتب بهذه التقنية من الواقع الحياتي للأفراد ، ويجعل من روايته نسيجاً مكمَّلاً ومشكَّلاً وناقلاً لهذا الواقع .
- يقول الكاتب على لسان عمر " خير يا حنا / فوجئ بها تسأله هذه المرة : خير ... منديلك هذا " / اعترف مثل متهم : نعم / - شنوتبي يا ولدي؟
همس لنفسه : وما تظنين ، قال عمر : خير يا حنا ... نبي نتحدث شوى/ تدور في هرجه ولا تبى يتدهور . / أجاب ( قائلاً) مناوراً وضيق الوقت يستحــــثه : تدري يا حنا أنا يتيم " (ص23).
- تميز استخدام الروائي للهجات بقصد التبسيط الشديد وعدم إداراج الفاظ وعرة أو عصية على التقاط معناها من السياق ، فكان في اختياراته موائما بين اللهجة الخاصة ، ودرجة التقبل عند المتلقي ؛ حتى لا يتحول النص إلى نص غامض ومبهم عند التلقي ، ومن ثم ينقطع التواصل بين الرواية ومتلقيها ، وإن وجدت في النص بعض الألفاظ الغريبة ، لكنها لا تشكل عائقاً في فهم السياق العام مثل " البــــــاشق" (ص42) ، أو " طقه" (ص10) ، أو " كونورتي " (ص141) ، أو قـــوله " لا تنـــــوحى كيف الطقوس .. هسة يجــن بإذن الله " (ص30) .
- لعلاقة التعايش التي مر بها الكاتب في هذه المجتمعات تأثير كبير في أن تأتي هذه اللهجات دون افتعال في النسيج اللغوي الفصيح للنص ، إن هذه المعايشة الفعلية للهجات لفترات زمنية طويلة لم تصنع النتوءات التي تستوقف المتلقي للعمل ، ذلك لما تميز به العمل من جودة السبك بين اللغة العربية الفصحى وبين تلك اللهجات ، فهو على لسان مصطفى يقول :" ... اليوم ما بيصير كيف الأمس ...أيش لون تسوى العواطف بحياتنا ....ما تسوى شيء ... ومن شأن هيك بتقل الرومانسية بقراراتنا بعد خمس سنين بحياتي صار للحب عندي مفهوم آخر أنا ما بستطيع أن أقول بحبك طوال هاي السنين اللي مضت أنت ما كنت موجود بحياتي" (ص19)
- كما أتصور أن هذه اللهجات كانت لصالح فكرة أو جوهر العمل الروائي ؛ لأن الكاتب يتحدث عن جنسيات لا يمكنها أن تذوب في كيان واحد، وكل من تلك الجنسيات يشعر بالغربة والتوحد مع ذاته ، وطبيعة أهدافه ، وظروف بلده ، وطبيعة أحلامه ، تلك الانفصالات يلائمها بصورة أفضل هذه اللهجات التي تحدث بها الكاتب على لسان شخوصه ، كما أنها تخدم تقنية التوازيات التي أتحدث عنها وأتصور أنها عماد بناء هذه الرواية.
"- تناولي الحبة هادي ...قالت السيدة لفتاة ليبية صغيرة جلست منزوية في ركن قصى أجابت الفتاة : أريد عشرة حبوب ... نظرت لها صاحبة الدار بتساؤل ... استطردت الفتاة : صاحباتي ،لمحت المرأة فاطمة تطيل النظر ، قالت وهي تنتقل جوارها : أيش لونك .... بدك أياة
* أيه ده ؟ - حبوب للسهر ... وضحكت : بتخليك سعيدة....
* اسمك ايه أجابت الفتاة : زينب .... وأنت ؟
* فاطمة .....وين تعملي ...ايه؟ - طالبة
قال الملازم بالمخابرات لفاطمة : ضعيها في الكأس واشربي .. تمنعت قليلاً ، لكنها استسلمت ، تناولته وهي ترى زينب تفعل " (ص94).
تتعدد الجنسيات ولكلٍّ عالمه ودوافعه التي تحركه تجاه هاويته أو طريقه، تجمعهم لغة عربية فصحى وتفرقهم لهجات ثانوية وعوالم داخلية لكل منهم منغلقة على نفسها.
- تتلون اللغة بلون الشخصيات في الرواية فتبدو على لسان عمر بوزوي قاسية جافة ، تتخللها الكثير من الألفاظ الخشنة والنابية كقوله في اجتماعه مع مهندسيه " – وين ضمائركم ؟... أنا المهندس بتاعي لازم يحافظ على مصلحتى أنا ..لازم يعطيني بيش نعطيه وإلا نحصَّل كلب من الطريق بيش يصبى على الخرسانات " (ص7).
أو قوله " – أنا ما ننتظر حتى لحظة واحدة ...هاذى الشرموطة تحملوها توا غادي ، وترموها في حوش بوها...أنا ما نترك العار هذا في حوشي لحد الصباح .." (ص227).
أو قوله لمريم المهندسة التي تعمل بمؤسسته " .. كنه يدير فيك زياد بالليل بيش يخليك تحضري في ميعادك .. ثم صرخ وصوته يعلو بشدة يتردد في كل البناية.. يامدام هذه مؤسسة مش أوتيل للنوم ، كافتيريا بيش تشربي بيها فنجان شاي وتعودي " وين ضميرك يا مهندسة ؟..أن نعطيك في راتب ... من وين أخذت شهادتك ؟ وين الجامعة الزفت إلى عطيتك إياها؟.. أخرج أوراقاً وراح يمزقها.." (ص138).
- وعلى النقيض من هذه اللغة الخشنة النابية نجد بالرواية لغة تقترب من طريقة تعبير الأطفال في مباشرتها وأسئلتها الفلسفية البسيطة والعميقة وتصوراتها الفطرية المباشرة على لسان حميدة الأخ الأصغر لعمر بوزوي في قوله :" فتحت الباب ، ودخلت على أطراف أصابعي ، فوجدتها ترتعش محمومة ، وحرارتها ملتهبة ، والعرق يملأ وجهها ، دثرتها أمي بأغطية كثيرة ، لم تكن تبكي من عيونها ، كانت تبكي من كل جسدها ، وقد تناثرت عليه دموع كثيرة .. لم أسترح ألا عندما عادت .. ولكن ما ذنبي أنا ؟.. لقد سمع الشيخ عتمان أمنيتي واهتم بها أكثر من اللازم .." (ص6).
- كما أن اللغة الرومانسية الرقيقة تطل برأسها حثيثاً في الحوار القائم بين مريم ومصطفى العاشقين بهذه الرواية ، لكنها لغة رومانسية غير مبذولة ؛ لأنها دوماً تحفها الاعتبارات الاجتماعية والفكرية ، الاجتماعية الخاصة بمريم والفكرية الخاصة بمصطفى ولذا تبدو لغة لها دلال وحميمية ، لكنها في ذات الوقت ليست غارقة في الخيال والوهم الزائف المخدر ، فمريم تلك الزوجة وابنة العسكري المحنك وصنيعة البرجوازية المترفة ، ومصطفى هذا الاشتراكي المناضل ، المهندس ، الدراس للماجيستير والذي تشغله السياسة والذي عاني من حبها المتردد له ، لذا نجد اللغة على الدوام بينهما تشتعل إلى درجة الحب والشهوة والرغبة ، ثم ما تلبث تتعقل وتنزوي حين تطل التوازيات والحسابات الخاصة بكل منهما في الحوار الدائر بينهما، " بعد اللقاء الثاني سقطت في صراع عنيف ، لاتجد فكاكاَ من سيل الأفكار المتشابكة .. أكمات غزيرة تفوح بأشهى الثمار وتعشش فيها الحيات السامة .. في ثمارها ترتهن سعادتها لكن في كل خطوة تخطوها عشرات الجروح ، خوفاً غامراً يجذبها بعيداً عن الموت المتربص بها .. هكذا ينشب الصراع ، حياة محفوفة بالخطر ، أو حياة يكتنفها إلى الأبد تعاسة وحسرة وجوع يشتهي هذه الثمار .. ولأنها عجزت عن أن تريح ذهنها المضطرب ، فإن مصطفي فشـــل هو الآخر في فهم ما تريد ، فكــانوا جبلين يرتطمون بقوة فتناثر منها عشرات الصخور ، سحابتين محملتين بشحنات عاصفة تدمر كليهما" (ص162).
ويلتفت الكاتب برهافة من يمتلك أدواته بشغف نفسي وتقصى إلى الفروق الدقيقة في اللغة ومفرداتها ، وعلاقة هذه المفردات وفعلها في النفس البشرية، ودفعها في تحديد تقبل الأفكار أو الأحداث المطروحة للعرض أو الحوار.
فهو على لسان مريم تحدث حبيبها السابق مصطفى تقول له: " .. بتعرف أنا لحد هلئ ما في حدا من الرجال اللي عرفتهم .. واستدركت قائلة .. بقصد اللى تعاملت أنا وياهم بالعمل – أثار قلقه الفارق بين لفظي عرفتهم وتعاملت وإياهم بالعمل وهيك مناسبات ، ما في حد يعوضك عندي " (ص156).
ليكون رد فعل مصطفى حوار داخلي بنفســه يتساءل فيه " ... لمــــــاذا تردد بهذه السهولة ألفاظاً مثل حبيبي وحياتي ؟.. هل تعودت التفوه بهذه العبارات مع آخرين أم أنها صادقة " (ص16) .
ولكن توجد هناك بعض الملاحظات اللغوية التي يجب أن نلتفت إليها – فهناك أخطاء لغوية لا حصر لها على مستوى النحو والإملاء وبعض الأساليب ، يوجد بإعراب الأسماء الخمسة أخطاء متكررة على مر صفحات الرواية ، فهي إذا لم تضف إلى الضمائر تعرب إعراب الاسم العادي أما إذا أُضيفت فترفع بالواو وتنصب وتجر بالياء مثل (ص5) في "حتى لا مرأة أبوه " وصوابها أبيه ، (ص11) " طلب من أخو العروس " وصوابها " من أخي العروس " وفي نفس الصفحة " وقائد السيارة الثانية لأخو العروس " والصواب لأخي العروس "...وهكذا.
كما أن هناك خطأ متكرراً في الرواية وهو نصب الفاعل فهناك على سبيل المثال في (ص5) "جلست امرأتيه " والصواب امرأتاه و(ص10.9.8.7) ولا تخلو صفحة من مثل هذه الأخطاء.
- أما عن الخيال ففي عقلية مهندس روائي يأتي الخيال في الرواية مزجاً وتوازيات قائمة باستمرار بين الواقع والخيال، وكأن المهندس في فتحي إمبابي يتنازعه الفنان، أو الفن تتنازعه الهندسة والضبط العقلي ، و البناء المصنوع بعناية ، لذا فنحن نجد التوازيات المستمرة فهو على قدر اتساع الوعي والفهم العقلي لأفكار واتجاهات ومذاهب الناس على قدر اتساعه أيضاً في تشكيلاته الخيالية المجازية المصممة بفنية مبدعة.
ولذا فكثيراً ما نجد في الرواية مشاهد تصويرية قوامها مزج بين العقل والخيال تمثل ضفيرة مجدولة بعناية بين المنطق العقلي للشخص المعنى بالبوح و تصوراته المشهدية التي تمثل مشاعره المعتملة بداخله، فالكاتب في تصوير مشهدي رائع يصف الصراع بداخل مريم بين حبها ورغبتها في استكمال حياتها مع مصطفى حبيبها القديم اليساري المناضل وبين نشأتها كبرجوازية ابنة لرجل عسكري كبير ، وسليلة العائلة الكريمة التي تريد حياة آمنة لا مخاطر أو تقلبات عنيفة بها يقول "... بقيت صامتة في ذهنها استحضرت أقوى سياط العالم ، قيدته على عمود بساحة تجمهر فيها عدد غفير من المارة ، نزعت قميصه بغل مكتوم ، اتهالت عليه بسياطها ، والمارة تهلل .. بطيئاً فعلت في البداية ، ثم اندفعت تضربه بعنف وهياج تحطمت سياطها ، ركلته صفعته بكل قوتها ، حتى تهالكت ، فسقطت بجهد جهيد ، نشبت أظافرها في عنقه ، تمنت لو قتلته...
... دمرني ، جعلني ترس بعجلته ، أحافظ على الأطفال من أجل سجنه ، ومن أجل قضيته ، أي قضية هي ، إحلال حكم محل سلطة أخرى ، أي شيء يهمني ، ليسحق الجميع ..ليس لأحلامي وأمنياتي وجود .. لقد نثرني على ريح معتقداته.
استعادت قوتها ، وقد سقط أمامها بالساحة .. هل مات ؟ ارتفعت موجه سخط في حلقها ، رفعت رأسه بلهفة تضمه إلى نهديها ، كان لا يزال حيا ينظر إليها بحزن وتساؤل عميق ، وقد خيمت على وجهه التعاسة .. ماذا فعلت لك ؟ أنا ... أنا لم أبحث عنك ..لشو تأتين دوماً وترحلين ؟ ليش ما توقفي هذا العبث ؟..همست بعينيها : مشكلتي أنك أول رجل عرفته.
أجاب بنظرات حزينة : أعرف .. قلت هادا من قبل ... أريد موقفك "
أمسكت بأقرب مقرعة تلهب ظهره ، وقد امتلأ جوفها ببركان صاخب .. سقطت على صدره تبكي ، وهو يلثم وجهها ويمشط شعرها بأنامله ، اختلطت دموعها بدمه ..عندما تسلل الفجر من نافذة حجرتها كانت بعدها مستيقظة ، تبكي عجزها عن الفكاك من دوامات أفكارها السوداء ..." (ص163).
فالكاتب يجعلها تناقش أفكارها الخاصة بها وتصوراته عن حياتها التي يجب أن تعيشها من خلال سخطها وضيقها به من خلال مشهد خيالي جلدته فيه وأسالت دمه ثم مالبثت أن تنازعتها مشاعر حبها له فأخذته بين نهديها تضمه بلهفة.
لتعود في نفس المشهد وتبرز منطق مصطفى ذاته حين تبرز أقواله في حواراته معها لتنسجها مع فعل خيالها الساخط ، حين يقول لها :" لشو تأتين دوماً وترحلين أنا لم أبحث عنك، فهي من تستحضره ليتوازى قائماًفي مواجهة مع حبها له وسخطها على منطقه لتعود فيتحكم سخطها على موقفه بداخلها فتلهب ظهره بخيالها وفي الواقع يلثم هو وجهها ويمشط شعرها بآنامله بعد أن تسقط منهارة من الحيرة فوق صدره تبكي.
فالمشهد مزيج بين الداخل والخارج الإنساني بذات مريم ، تواز بين الحقيقة والخيال ، مزج بين الأمكنة والأزمنة، هو الحقيقة والفن ، وذلك ما يصنع إبداعه صياغته بتقنية الطبقات بين الحقيقة والخيال .
- ويتنوع استخدام الروائي للأساليب المجازية فهو يستخدم الأساليب التصويرية والتشبيهية والكنائية في توليف من يتمكن من أدواته مسيطراً عليها بضبطها العقلي فتأتي لا شطط بها بل متوازنة مع منطق الأحداث والأشخاص فهو يقول واصفاً تفكير ثريا ومشاعرها " كيف تغير المواسم ثيابها ؟! ولماذا يداهمنا الخريف قبل موعده؟ لماذا تجهل القلاع أن الرياح مخادعة ؟.. أسئلة عسيرة قد لا ترد على عقلها الواعي ، ولكنها تدوي في باطنها بقسوة ، فقد تذكر كيف دمر عمر رؤوس السفن وسلاسلها التي ترتكن بها على مرافئها ، علاقتها بأهلها لتصبح أمامه وحيدة " . (ص44).
ويبتدع الكاتب علاقات متجددة في التشبيهات تبعث في نص القـــارئ الاستنفار لتخيل هذه العلاقات ودفعه لمشاركة إبداع العمل و استحضار تفاصيله في تلقيه الخاص، ذلك مثل أن يقول :" لعمر انطباع قوى لمـــن يراه ، كذلك الذي تبدو عليه أشجار الحور الضخمة ، القوة والارتكاز .. ذلك الشيء الذي تحس على سفوحه النساء بالاضطراب والاطمئنان والحماية" (ص42) .
- حين يتعرض الكاتب لتفسيرسلوك الشخصيات ويحلل ما يحيط بهم من أوضاع اجتماعية وثقافية يستخدم مع لغة الحقيقة ، لغة المجاز وحينئذٍ يأتي التصوير منضبطاً شبه علمي يتواءم مع ما يحلله الكاتب أو يشير إلى وجوده ، ويبدو التركيب التصويري مؤلفاً من الخيال والعلم والعقل فنراه يقول :" شبكة أخطبوطية من أعلام وتليفزيون تبث سموم مجتمع تسيطر عليه قوى نقدس الاستهلاك ، تصنع حُمىَّ جماعية لرغبات جانبية لا ترتوي ولا تشبع قط ، تخلف لدى الجميع ضجراً وبؤساً ورغبات مهزومة ، لا تلبث أن تنمو إزاءها كالفطر شروخاً شعرية دقيقة ، كتلك الشروخ التي يتركها حملاً مستديماً (هكذا) على جسد يتحرك .. الكلال .. الانهيار المفاجئ .. تهتز النفوس ، تمل الأفئدة ، تفتر حدة الشرف ، تصير الاستقامة عبئاً شديد الـــــوطأة ، والقدرات الإنسانية الخلاقة مثلها مثل مصباح علاء الدين، مستحيلة الوجود .. تتهزم العقلانية ... يحـــل التــجار قــوانينهم تحت سمـــــاء الهزيمة " (ص91).
- والكاتب بجانب ما يملكه من صياغات مجازية تصويرية للأحداث ، لديه القدرة على تهيئة مشاهده التصويرية الحقيقية بما يشبه الخلفيات للمشاهد ، وهو عن طريق اللغة يصنع ما يذكرنا بفن كتابة السيناريو وكأنها إبدعت لصناعة فيلم سينمائي ، من وصف خلفيات المشاهد، من تهيئة موسيقى تصويرية باللغة ، تقنيات " الفلاش باك" واختيار كادرات بعينها وقت الرجوع إلى الماضي ؛ وما عداه من أدوات تجسد العمل الروائي الكتابي، فالكاتب في معرض تصويره لجريمة اغتصاب محمد الفتى اللبناني يقول :" ففي "الرجمة" وبين مخازن الذخيرة التي شيدت بها التلال والهضاب الوعرة ، وفي أحد أيام الشتاء القارص هطلت به السماء مطراً غزيراً ، وامتلأت الطرق بالأوحال عندما توقف العمل دعا شابين من سائقي الآليات الفتى اللبناني لشرب الويسكي، أخذاه لأحد المخازن البعيدة حيث تتلاشي الأرض المستوية وتبدو المنخفضات قليلة الغور ، والهضاب قليلة الارتفاع ، والأرض الصخرية تبرز قسماتها الحادة من تربة صفراء ، زينت بالعشب البري ، والشجيرات الشيطانية".
جـــــو زمهريري تتجمد فيه الأطــــــراف ... أوحال قاسية ، وريـــاح باردة تنشر الصقيع " (ص131) فقد حشد الكاتب لهذا المشهد المقزز تفاعل الطبيعة مع ما سيحدث وقسوة التضاريس، وصنع له موسيقى صاخبة وأحاط المفردات الصغيرة حول الشاب المغتصب باللمسة الشيطانية ، ثم يردف هذا بقوله :" وفتى صغير يغتصب في كل لحظة ترتطم فيها أردافه بقضيب أحدهم كان عصب من قناة حياته التي لا تلين ينكسر ، وحلقه يختنق بنهر من الغصات .." (ص131).
يقدم الروائي هذا التصوير البليغ المعبر عن اغتصاب رجولي الوقع والتعبير ، يتناسب مع رجل تنتهك رجولته فيتخير ألفاظ التشبيه خشنة ، عصب ، قناة حياته التي لا تلين ، ينكسر ، حلقه يختنق بنهر من الغصات ، قمة الامتهان وأهدار الانسانية .
- يستخدم الكاتب تقنية شخصنة الأشياء ، فنجد أبطال الرواية " مريم ، ناصر " يقيمان حديثاً مع البحر ويحاورانه ، يتسع من أجلهما ، يبثانه شجونهما.
فيقول ناصر في الفصل الثالث والعشرين :" والآن يابحر ..كنت مسوقاً إليها .. كم أنت هائل .." (ص200) ، ثم يستمر يحكي له قصته.
ويقول الكاتب واصفاً حال مريم حين ضاقت بها الدنيا " سارت وحيدة حتى أتى الغروب، أمام البحر دقت مريم الأرض بقدمها اليسرى كمهرة كٌميتْيه ، وأفق البحر يتسع بها نحو الماضي .." (ص121) ، أو قوله " وأمواج البحر تأتي مترادفة عالية ، تلقي بنفسها على كتف الشاطئ الذهبي " ( ص136) .
إن هذا التجسيد للأشياء يكسبها تعاملاً فنياً صوفياً، ويجعل بينها وبين الأشخاص علاقات اتصال روحاني تفاعلي فيه حميمية ، وتعد هذه التقنية من وجه آخر دليل على افتقاد التواصل بين الإنسان والإنسان، وإحساسه المقيت بالغربة التي تحوطه من جوانب متعددة ، غربة الوطن والأهل والأحبة ، غربة النفس ذاتها عن نفسها .
- يتميز الكــــاتب أيضاً بخاصة التصويــــر الحركــــي حين يصور مشهـــد فض بكارة درية (ص216.215) .
وهو في منولوج داخلي لمريم تقول فيه " فرس برية من يجرؤ على الدنو منها ..همست ..سواك يا مصطفى .. أين أنت ..؟ هذا الخاطر الفجائي جعلها تثني بجذعها إلى الأمام في سرعة ، وكأنه تعاني من التقلص ، وفي داخلها كأن فلقاً صخرياً انفتح ، شعرت بالاختناق وهي تنظر إلى الرجل الجالس على المكتب يتظاهر بالانشغال " (ص114).
فالكاتب من خلال الحركة ووصفه لها يعبر عن توازيها مع كوامن النفس الداخلية ويجعلها أداة معبرة تعضد من تصويره وتحليله للمواقف.
ويقول أيضاً واصفاً قادة مؤسسة عمر بوزوي " جلسوا على كراسيهم في بحر من الاسترخاء الذي تمتلئ به الكواسر بعد التهام الفرائس من أولائك المازجرية . الباقين (هكذا) بدا عليهم .. قلق الحمائم قبل انقضاض الثعابين عليها " (ص7).
وتضفي هذه الأساليب الفنية المتنوعة حيوية الحياة النابضة إلى عالم الرواية و تجعلها نسيجاً متنوعاً حركياً.


















** الشخصيات
تعد شخصية عمر بوزوي في الرواية من الشخصيات المحورية وهي شخصية ورقية مرسومة بعناية من قبل الروائي وهو في معرض رسمها على هذا النحو اصطنع لها الكثير من المواقف التي يستدل منها على مفرداتها فالكاتب قد تخير أن لا يلقى بالصفات التي تشكل صاحبها هكذا مجانياً أو يتبرع بتفسيرها إلينا ، لكنه فضل صياغة شخصياته من خلال المواقف التي صنعها لكل منهم ؛ ليترك لمتلقيه مساحة تخيل وتقدير خاص ، وتتوافق طريقة رسم الشخصيات من خلال المواقف و الأفكار والاستدعاءات من الزمن الماضي مع تقنية البناء التي اعتمدها الروائي لروايته ، فهي مواقف تتوازى في الشخصية الواحدة ولكنها أبداً لا تنصهر، فالشخصيات ما بعد حداثية بحيث تبدو كحوض كبير يضم ذوات متصارعة ومتباينة وحوارية ، لكنها بمجملها تكون شخصية تشعرك بعدم الاتساق والانتقاص بنحو أو بآخر وهذا ما يحقق تقنية التوازيات التي سبق وأشرت إليها، وتبدو هنا التوازيات بداخل الشخصية الواحدة دون تلاق إلا في الحالات النادرة ، وعمر هو الابن الأكبر للحاج مفتاح بوزوى ، عمره ثمانية وعشرون عاماً وهو من أهم ثلاثة رجال أعمال ، أصحاب أكبر مؤسسات المقاولات والتجارة في شرق ليبيا ، وجه ارتفع اسمه بسرعة البرق في سماء بنغازي ، قوامه شبكة من العلاقات والاتصالات الحديدية ، السلطة والجبروت ، لم يفلح في مطلع شبابه في الدراسة ، ولم ينل شهادة الثانوية العامة ، ولذا أصبح ناقماً على العلم والمتعلمين أصحاب الشهادات ، لم تُرْضَ طموحاته أن يظل بعباءه أبيه واشتغاله في الكسارة أو الرعى فظل متمردا ، يثير من حوله المشكلات بين أفراد عائلته، شَرهٌ لكل متع الحياة ومحرماتها، تداخله رغبة في التدمير والإحاطة بكل ما يراه جميلاً أو نقياً من حوله ، وهو لا يبقى على شيء بحياته إلا لو حقق له معالم ومفردات الإمبراطورية التي يريد تثبيت دعائمها ، ضم عائلته إليه وأصبح عمادهم الأول ، أسهم في تشكيل مصير أخواته ، تزوج من ابنة شريكه الجميلة ثريا ، ثم فصلها عن عائلتها بأن استغل طمعها للمال ثم تخلص من الشراكة مع نسيبه بعد أن خدعه وصارت بينهما ضغينة موشاة بعلاقات ظاهرية اضطر لها والد زوجته لتصاعد مكانة وتأثير عمر بوزوى في المجتمع الليبي.
وقد قدم الروائي كثيراً من المواقف الحياتية لعمر بوزوى ومنها يستطيع القارئ أن يصنع تصوراً عن طبيعة هذه الشخصية.
وعمر رجل شهواني وافر النشاط والحركة لا يتورع أن يقيم علاقات جنسية مع نساء متزوجات أكبر منه في السن مثل " نور" زوجة " بريك " (ص14و ص18) أو المرأة التي رآها في نافذة منزلها واستمر يتابعها حتى ضاجعها بعد أن جرحته بقولها " تفعل هيك بالعجوز " (ص25).
وعمر على استعداد دائم أن يفك حزام بنطاله يفعلها وهو " يغمغم .. شرموطة... استدار يغلق الباب ، عندما التفت لها ثانية وجدها تغطي رأسها بذيل الفستان ، شعرت بيديه تلوك فخذيها لهثت أنا نبى نتعرف عليك فقط.
باهي وهذا أنــــــــا أسوى . ...قــــال عمر بهدوء : اكـــــتم انــــفاسها أو أقتلــــــــها القحبة " (ص104.103)
فالكاتب من خلال المواقف المختلفة برسم نموذجاً حيوانياً لإنسان لا تحكمه سوى شهواته وأطماعه ، ويرى كل من حوله أدواتٍ يحركها كيفما يشاء ليحقق أغراضه الخاصة .
ويصف الكاتب الفخ الذي صنعه عمر بوزوى للمهندسة مريم حين أهداها الخاتم السولتير في احتفالهم بعودتهم إلى وطنهم يقول " فحط عليها الرعب لقد نال منها أخيراً ، انتقم من كبريائها ، لقد لوث شرفها الذي دافعت عنه بشراسة وسط غابة الذئاب ... لقد هبط بها إلى مستوى عاهرة زوجة لقواد" (ص193).
ومريم هي من وقفت وواجهته وكالت له الإهانات والنقد ؛ لذا رد لها الصفعة بقوة بأن ألمح بعلاقة مستترة بينها وبينه حين أهداها هذا الخاتم ، فهو لا يتصور أن يترك أحداً حوله دون أن يلوثه مثلما يرى ذاته ، كما فعل أيضاً بفاطمة الموظفة المصرية بمؤسسته.
لقد استطاع الكاتب بوعي وثقافة نقل منطق الشخصيات وكيف تفكر ومن أي منطلق يسعون لأهدافهم فهو من خلال منولوج داخلي لعمر مع ذاته يقول " كم تساوي شهادة ونيس ياحميدة .. لا شيء ..حتى ولو كانت من أمريكا .. مائتي دينار راتب الشهر ... حتى ناصر أعطيته أنا كيلو جراما من الذهب ثمناً للبن أم عروسه .. لم تسعفه شهادته التي أحضرها معه من أمريكا " كي يدفع لكنته ثمن إطعامها لبقرتها التي سيتزوج بها اليوم .. والتي ستبكي الليلة بيش تنزف دم .. حدق في الفراغ يتساءل ، ليش يحب حميدة ونيس ، ليس يبعد عني هو وونيس ، يواجهوني كيف حرب الطقوس ؟ بيش إحنا أشقاء من الأب فقط مستحيل .. هذا مستحيل .. أنه النجاح الذي أملكه الآن .. بالماضي كان الشايب يدعوني أفشل أبنائه ، ولو بقيت معه لتحقق ظنه ، ولكنت أقف على عتبة شهادة كل منهم النظيفة ، أطرق الباب قبل أن أدخل ، حتى لا تتسخ الأرضية بحذائي المملوء بتراب كسارته .. اليوم يتضح كل شيء .. ها هو كل منا يستقيم ويستقر ... ويجىء ناصر كي يخطب ويتزوج واسمي يسبقه عند أهل عروسه ..حتى عروسه تأكلها الغيرة والتعاسة ، تتمنى لو أكون أنا .. أنا عمر بوزوى عريسها .. وسوف يطرق ونيس باب مكتبي في رقة وأدب ، وقد تخلى عن غلوائه وانطفأ بريق عينيه ، جامعاً يديه على صدره راجياً أن أتقدم لأخطب له قحبة أخرى من أكبر عائلات الشرق ، تماماً كما يفعل وهو صغير، وحميدة ترك القبة ويسكن عندي الآن .. وحتى الشايب والعجوز لم يعودوا يفعلون شيء دون رأيي الآن تستقيم الأمور أليس كذلك يا ونيس " (ص28).
فالكاتب يمتلك القدرة والوعي بالنفوس البشرية التي تجعله يستنطق أشخاصه والسنتهم وعقولهم وهذا ما يحقق العمل الروائي الجيد الذي يلتقط تناقضات الذات الواحدة والشخصية التي قد تبدو متسقة مع نفسها، فالكاتب هو الذي يصور عمر بوزوى وهو يضع صورة جمال عبد الناصر القائد الذي طرد الانجليز والذي دعا إلى القومية العربية والـــــذي حارب من أجل العرب على صدارة بيته على باب الحوش (ص60-70) .
وهو الذي أسهم في جمع التبرعات وكان أولهم ، وهو الذي خاض المظاهرات ضد الملك والعملاء الأجانب حين هزم عبد الناصر ،ولذا تتبدى قدرة الكاتب على صنع بشر ينبضون بالحياة التي تحتمل دائماً التناقضات وهذا ما يبقى على الفن الحقيقي جماله.
وتتبدى خصال عمر وسط أسرته منذ صباه فهو مثير للمشاجرات وسط أخوته ، أناني الطباع، يقول الكاتب :" اندفع عمر إلى الداخل يلتهم المكرونة، تأوه أخوه الأصغر حميدة ، دفعه بكوعه على ظهره ، فسقط يبكي في صراخ وعويل جلس الأب الحاج مفتاح صامتاً ، ينظر إلى أبنائه ، يفكر في المشاجرات التي يبثها عمر حوله " (ص30).
تسيطر طبائع الشره والقسوة على شخصية عمر بوزوى ، فإن لم تطاله الاستفادة شخصياً فلتعدم ولا يستفيد منها آخرين حتى ولو كانوا أخوته فهي ملامح طمع وأنانية وسخرية مبكرة من كل من حوله
" – هيا ما تريد الطعام - أترك لي نصفه
- ما أترك شيئاً .. تعال وخذ نصيبك توا ... ألست جائعاً ؟
اقترب ونيس متأففاً وهو يمني بطنه بالطعام ، وجد عمر قد التهم نصف الأرنب ووضع النصف الآخر بين ثنيتي الخبز يواصل التهامه ، دفعه بعنف فانزاح عمر جانباً وسقط اللحم على الأرض ، مال مسرعا لكن عمر قذف اللحم بقدميه بعيداً ، وهو يضحك في هستيريا ، أسرع ناحيته يدوس عليه ثم يسأل ونيس الذي جلس القرفصاء يحدق في النيران صامتاً : نبى الشاي ، ألم تشبع بعد ... كان لحماً طيباً " (ص29).
- وتمتد أطماع عمر بوزوي إلى الملك والجاه والسلطة فهو بجانب شرهه للجنس والنساء بطريقة فظة خالية من الإنسانية ، شره إلى القتل و التدمير ، إلى اغتصاب السلطة يقول : "عند مرور موكب الملك أدريس " أشاح عمر وجهه معطياً ظهره للطريق والموكب الملكي متشاغلاً بالتحديق في طابور من النمل يسد عليه الطريق بعصا صغيرة ، كلما اقترب الموكب قتل أعداداً متزايدة من النمل اضطرب طابور النمل وأصابه الهرج .. تابع عمر ..، تمطى وحدق في السماء قائلاً لنفسه ..كم هي بعيدة " (ص29) ، ويلمح الكاتب رغبة عمر في القضاء على هذا الحكم وحسبان الإنسان لديه كأنه النمل، حشرات لا ثمن ولا دية لها ، وهناك توازيات بين المشهد وما يقصده الكاتب ليفسر ما يريده ويعد هذا على مستوى الصياغة والتراكيب كما هو في البناء .
- " عبرت من أمامه كلبة ، وخلفها كلاب تعوي ، بحث عن شيء يشعل به سيجارته اللف ، مد يده إلى كتاب ونيس الذي يدرس فيه الألمانية ، قطعه دون مبالاة مشعلاً فيه النيران : قام بتثاقل يتابع أصوات الصبية الصغار .. وجدهم متحلقين حول كلب امتطى كلبة ، يطاردونهم ويلقونهم بالحجارة تصاعد عواء الكلبين من شدة الألم والرعب ، لا يستطيع أن يتخلص أحدهم (هكذ1) من الآخر ، دفع عمر الصبية بعيداً ، اقترب وئيداً وفي يده عودا (هكذا) من الحطب المشتعل ، دفعه إلى مؤخراتهم (هكذا) ، عوى الكلبين (هكذا) .. هاجمه الكلب ينهش ساقه لولا ونيس عاجله بحجر دفعه بعيداً ..، ابتعد ونيس ساخطاً يهمس في سِّره : الحيوان.
...، قاد ونيس قافلة الأغنام عائداً إلى" القبة " ، وعمر يتشاغل بمن حوله ، يجذب غصن شجرة ينظفه عن أوراقه ثم يضرب به ما يقابله ، داهساً في طريقه زهوراً وحشرات الطبيعة الصغيرة " (ص29).
لا يتورع عمر بوزوى أن يقدم أذاه مجانياً للإنسان أو الحيوان أو النبات فهو لم يجبل أن يحترم أحداً ولا شيئاً ، ويبدو أنه يلتذ ويلهو بسخريته وخديعته لكل من حوله ، ويكمل الكاتب ملامح عمر بقوله :" قال لصاحبه مفتاح اليوم رأيت موكب الملك تصلد وجه صاحبه، استطرد عمر .. عطيته ظهري .. بقى وجه الملازم الشهيبي عابساً .سأله : متى تصبح قائداً للجيش ؟ أدار الشهيبي وجهه وقد عقد جبهته ، همس : سنوات قليلة . ضم عمر عيناه ( هكذا) هامساً : تفعلوها . أشاح عنه بوجهه ثم عاد ليقول :
وأنت شنو تفعل ؟ - ما أعرف ...
تستكمل الثانوية العامة - لن أفعل.
- يتفوق عليك العويلة .. هز عمر رأسه في احتقار .؟
- ترغب في سوق المقاولات . – أنا مستني الفرصة.
- وإذا أعطيتها لك - وحق الله يصير لك نصيب .. مشاركة .. نصير شركاء يا أخي".(ص31.30).
وحتى المؤسسة العسكرية والحركات الثورية التي قامت في هذه المجتمعات التي تخلصت من الاستعمار والحكم الملكي انطوت بداخلها على أطماعها الشخصية وطموحاتها المادية الفائقة فأوجدت نماذج تستخدمهم من أمثال عمر بوزوى ليكون واجهة لهذه الأعمال التجارية الرأسمالية ولتحركها هي دون ان يشعر بها أحد ، فعلاقة مفتاح الشهيبي بعمر بوزوى من أمثلة العلاقات غير الشرعية ، يقول الكاتب " اندفع عمر فخلفه حميدة ، تابعهما ونيس بدهشة يشوبها ازدراء .. هاهي قوتك ياعمر تجد من يخضعها ، حيا عمر ضيفه في ترحاب شديد... تغضن وجه الرائد في ضيق وحدق في وجه بوزوى ، شعر بذلك فتوقف عن الحديث ..سأله في شيء ؟ - ما تهتم بهذه الصفقة أخذ عمر وظهرت عليه الصدمة" (ص27.26)
وهو بجانب تحالفه غير المشروع مع رجال السلطة العسكرية ، لا يأنف من أن يقيم علاقات شاذة ، وهو بهذا يجمع بين أركان الفساد والخروج على القيم والأعراف جميعها، وهاهي علاقته الجنسية الشاذة بعلى جمعة مدير مؤسستة الحالية يقول الكاتب :" قبل أن ينفض الجمع ترك عمر المربوعة يتبعه فتى يصغره بعامين ، أبيض البشرة تميل قامته إلى الطول قليلاً ، أطال شعره من تحت الشفه ، يعتني بهدامه وملابسه .. سبقه على جمعة ، هاجمه عمر من الخلف ، ساقه خارج القرية ، وتحت شجرة عالية أوقفه بين الأوحال والبرد ...وحل لهاث حار " (ص31).
استنطق الروائي شخصية عمر بمنطقها وتوازياتها وتناقضاتها بما يجعلها شخصية تلمس بها بصمات ، وملامح ، وفصيلة دم.
- ويبدو واضحاً نفس هذا الاستنطاق حين يتحدث عن منطق مريم وهي تقارن بين حياة يعرضها عليها مصطفى الحبيب الأول بحياتها وعيشها مع زياد زوجها الحالي وتبدو فيه حائرة (ص163.162).
وفيها نلمس كم يبرع فتحى إمبابى بلمس العصب المكشوف من إرادة الإنسان الحقيقية ، أشياء أو مناطق مسكوت عنها لايمكن البوح بها لأسباب متعددة ، فهي مناطق خطرة تخص غرائزنا ، أو أنانيتنا ، يخوضها الكاتب بوعي مثقف تبسيطي مصور دال ، يزيح فيها النقاب عن مناطق نطمرها تحت ثقل الواجب والتقاليد والأعراف والأديان.
وهو حين يصنع ذلك يتبع أيضاً تقنية عرض تعتمد التوازيات في الأفكار المختلفة التي تسيطر على شخوصه فهو على لسان مريم يتساءل " .. لماذا يملؤنا الكبرياء والحماقة عندما نملك ؟ والبكاء والممالئة والخضوع عندما نصير ضعفاء ؟ " (ص165).
- ويستطيع الكاتب أن يرسم شخوصه بطريقة واقعية، فلا أستطيع أن أصفها بأنها دائرية،لكنى أستطيع أن أقول إنها شخوص صراعية حوارية ، فهناك دائماً نزاعات في ذات الشخصية، ولنأخذ مثالاً لذلك مريم فهي على قدر احترامها وحبها لمصطفى إلا أنها تشعر بقدر من الأمان والرفاهية في حياتها مع زياد حتى أنها في بعض الأوقات تقـتنع بمنطقه (ص141).
وهي بقدر رغبتها في صيانة كرامتها ومكانتها في هذا المجتمع الفاسد لدى عمر بوزوى إلا أن بعضها طامعٌ في المكتب الهندسي الذي يحلم به زوجها في سوريا ، وفي قطعة الأرض وفي دولاب مكتظ بالملابس الثمينة ، وفي الحُلِىِّ ، وفي معاملة زياد الرقيقة الحانية كما ادعت (ص166.165).
- مريم ذاتها تتبدل أحوالها بصورة مستمرة ، فهي نتيجة لليأس الرابض فوقها ، تصنع عالماً بديلاً خيالياً ، تستحضر فيه حفلة جنس جماعي ، تصنعها تعويضاً عن الحرمان الذي تعيشه مع زوج عاجز ، :".. لأول مرة راحت تدور في حجرتها سعيدة ، وبدت الوحدة بعيداً عن المؤسسة ووسط شمس الشتاء طعما يلذ لها أن تتذوقه " (ص133).
ويقول أيضاً :" ومع كل لحظة كانت تخوض في بحر الماضي ، تعود إلى عالمه وتستعذب شجونه ، بجانب زوجها على الفراش ، في غرفة المكتب ، داخل السيارة " (ص133).
- ويملك الكاتب من أدوات رسم الشخصيات وسائل متنوعة مبتكرة ، مثل أن يركز على تفاصيل بسيطة لكنها مشحونة بدلالات نفسية موحية ومؤثرة ، فهو في معرض وصفه لحال مريم بعد أن سافرت إلى سوريا ، وتجددت علاقتها بمصطفى ، ثم اتخذت قراراً بالعودة إلى زوجها يقول واصفاً حالها " كان عليها أن تخلق قمعاً ذاتياً من طراز خاص ، كي تعود طائعة إلى علاقاتها الاجتماعية السابقة ، ومن ثم أزمتها الخاصة ، وبشكل مدهش كان عليها أن تعادل وسائل الكبت بفقدان جزئي للشعور .. وهذا ما عانته في ساقها اليسرى دون أن تدري أسبابه الحقيقية " (ص170).
هذه المفردات لا يستطيع رسمها سوى مبدع يمتلك ثقافة بالنفس البشرية ووعي عميق بالطبيعة الفسيولوجيةوالنفسية ، وتلك المفردات التي ترسم الشخصية هي ما تعطيها وجودها النابض ، وتجعلها أقرب إلى الشخصيات التي نراها بالحياة.
وحين يرسم لذات الشخصية لون ملابسها ويتخير له البنفسجي فهو يصف حالها في منولوج لمصطفى مع ذاته يقول ".. خمس لقاءات مرت بعد هذا اليوم ، وهاهي تأتي كل مرة ترتدي طاقماً مختلفاً من البنفسج ، هلا تتحمل خزانتها مثل هذا العبء .. شرد قليلاً .. أيجب على أن أهديها حذاء وحقيبة من لون آخر ، كي تتحرر من عبء البنفسج ..(ص164)، وهو حين يوظف اللون ليحكي عن مريم وتفاصيل شخصيتها يحكي ويرسم شخص مصطفى الاشتراكي الذي تعنيه في الأساس خزانة هذه المرأة ، ويستكمل الكاتب رسم شخصية مريم حين يجعلها تهرب إلى الأشياء فهي تلك البرجوازية ، سليلة العائلة العريقة التي تلوذ بوحدتها في الأشياء لتجد فيها هذا الائتناس الذي لاتجده في البشر يقول واصفاً ذلك :" ما الذي دفعها إلى أن تسرع في لهفة إلى الُحُلىِّ الصغيرة ؟.. أَخَرجت وعبق جميل الرائحة يملأ خياشمها ، سلسلة من الفضة الثمينة كان حبيبها الضائع قد أهداها لها " (ص133).
هذه هي الأشياء التي دفعت ثمنها ضياعاً وامتهاناً ، وجوعاً عاطفياً ومادياً ، ذهبت من أجلها الصداقات الوطيدة وغادرت الوطن ، وتركت الحبيب .
- ويتداخل مصطفى الحبيب القديم للمهندسة مريم في خيوط نسج الرواية حين تضيق مريم بحياتها الواقعية مع زياد ذلك الرجل الذي يمتهن كرامته ويعبث به الفساد ، العاجز عن التواصل الحقيقي مع امرأته ، يتداخل في ذاكرتها أولاً من خلال خيوط متوازية مع خيوط حياتها ثم ما يلبث أن يتحول إلى واقع تسعى إلى العودة له والحياة معه.
ومصطفي هو الاشتراكي ، نزيل المعتقلات ، الداعي إلى الحرية والتخلص من كل ما يعوق حياة الأشخاص وإرادتهم المشروعة في حياتهم الشخصية ، وحياتهم المجتمعية فهو القائل:" ولكنى أثق أنه بقدر ما تكون الحياة الشخصية ممكنة ، وكذا دوافعها الذاتية بقدر ما يكون للروح والفكر قدرتهما على الدفاع عن الذات ضد السلطة العامة ، حتى السلطة الأبوية .. نحن نعاني من القمع ، تقهرنا مجموعة البنى الفوقية ، وعلى رأسها السلطة اليساسية ، هذا الذي خلق للشرق الخصوصية العميقة للاهوت والسلطة ، أليس من الضروري أن تجىء النتيجة عكسية تماماً لما يتباهى به مجتمعنا الأبوي ، القدرية والتخلف والهروب إلى الفلسفية ، نعود إلى المجتمع الحجري ، مجتمع حيواني خال من العواطف الإنسانية ، لمصلحة من إذن ؟" (ص135.134).
تبدو شخصية مصطفى لدى الروائي فتحي إمبابى في كل مقاطعها هذا الاشتراكي الرافض للطبقة البرجوازية والترف وشهوة الاستهلاك ،(ص166) وهو الناقم على الرأسمالية حتى أنه يقول " هل تعلمين إلى أي حد صنعت الرأسمالية من قوانين الاستهلاك قيماً تتحكم في نفوسنا إلى الحد الذي جعلت من الزوج لدى الزوجة رجلاً يستحق تذوق غيره .. والعكس كذلك " (ص166).
ومن خلال حوارات مصطفى وأصدقائه يرسم الكاتب تصوراً عن قناعات مصطفى السياسية والعسكرية فهو يهاجم الموقف السوري تجاه المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية بلبنان ، يقول " كيف الإنسان يقطع ذراعه اليمنى.. وما الفرق بينه وبين الملك حسين في مذبحة أيلول ، أيش لون يسوى المقاتل السوري " إيش لون يهاجم أخوه الفلسطيني أو اللبناني كي يحمي القوات الفاشية الكتائبية " (ص146).
" أنا السؤال إللى بده يحرق رأسي .. إذا ما هاجمت إسرائيل .. أو إذا إحنا هاجمنا من شأن تحرير الجَوْلان كيف بعد أن قصفت الطائرات السورية المخيمات الفلسطينية .. كيف يصبح هادول الفلسطينيين واللبنانيين والسوريين جنود لجيش واحد ، أيش لون راح يحاربوا، كيف راح يضحي الآخر من شان رفيقه؟
ومصطفى هو من تعمد إصابة نفسه بالفعل كي يتجنب تلك المواجهة التي يرفضها مع أشقائه العرب ، فهو القادر على فعل ما يؤمن به ، تسأله مريم وهي تنظر إلى ساقه المجبرة " .. فعلتها !
- أنا ما استسلم لهيك شغلات قذرة … عين بدى أقصف .. أعز الرفاق اللبنانية والفلسطينية
- وين الجرح - بالفخذ وما لمس العظم
- قوست نفسك - رصاصتين ببندقية نصف آلي وقت الخدمة.
- بتسويها - وأنت أيش بتسوي ..؟ " (ص170).
ويبدو مصطفى القادر على عيش حياة يؤمن بها ولا تتحكم بمصائره اعتبارات أخرى إنسان لا صـــــراعات بداخله ، تتذكر مريم قوله لها .. لا أكره قط .. قد أحيِّد مشاعري تجاه الآخرين ، لكن بداخـــــلي لا توجد سوى كراهية واحدة إلى أولائك الذين يدمرون الإنسانية " (ص148).
تجتاحه مشاعر حبه ، رغبته وإعجابه بمريم وهو في أشد لحظات حدة المناقشات بينهما لتحديد مصير علاقتهما ، وإقناعها بأن لحياته مساراً لا يمكنه تغييره حين يرتبط بها ، فهو لن يترك السياسة ، وقد ينضم لتنظيم سري ، بجانب عمله سيستمر في دراسته ، يقول بداخله وهي تتدلل عليه تقول :" مع أن بالله لو تدري أنا بستحق أكثر من هيك .. فيما بعد لعن نفسه لأنه لم يقل لها " وإنما تستحقين حياتي كلها " (ص169)، وتتداخل بمصطفى مشاعره السلبية وحربه للبرجوازية على جبهتين جبهة مريم والجبهه اللبنانية ، لكن حبه لمريم يتوازى مع الحرب التي بداخله ، لتظل دائماً المرأة التي أرادها"
ويرسم الكاتب اللغة في معجم مصطفى المناضل الاشتراكي موشاة بالمصطلحات السياسية والعسكرية والاقتصادية فتلك هي طبيعة أفكارهم واللغة التي يتداولونها فيما بينهم أمثال البرجوازية ، الإمبريالية الرأسمالية ، الفاشية ، الكتائب ، الفيت كونج ، الهاجانا والارجوان وغيرها الكثير .
وعند تصدي النقد لرصد مواقف مصطفى الاجتماعية والسياسية والشخصية بتشكل نموذجاً للإنسان الذي يتغلب عليه الأمل برغم ضباب الهزائم الكثيف ، فهو يقول مخاطباً مريم : " لسنا دمى لا تصلــــــح للمس ، إمـــــا مشاركة كاملة في الأفـــــراح و الأتراح وإمــــــا لا علاقات " (ص149).
وهو القائل :" ربما يتعين على هذا الجيل الشاب أن يشرع في وضع برنامج الحد الأدنى لنضالـــــه ، ملقياً إلى الخلف كل دعاوي الوصـــم والطعن والحرب الداخلية للحـــركة ، أن يشرع في بناء مؤسساته الشعبية المستقلــة التي دونها لا تصبح للثورة إمكانية موضوعية.." (ص152).
ولكنى أطرح تساؤلاً أتصور أنه على قدر من الأهمية، هل لو كتب الروائي روايته الآن لخلق شخصية لديها هذه الإيمانات القطعية ، بعد أن انهارت كل الحكايات الكبرى في هذا العالم ما بعد الحداثي ؟ فنحن نجد مصطفى في الرواية يقول :" إن الحركة الاشتراكية هي القوة الوحيدة القادرة على إنجاز حلول جذرية وواقعية لمشكلة الفقر والانهيار الاقتصادي والاجتماعي " (ص152).
ومصطفى في هذه الرواية شخصية ورقية طالما دخل عالم الفن ،لكن الروائي استلهمها ورسم ملامحها الفكرية والنفسية من صديقه " مصطفى شيحة" الذي أهداه هذه الرواية ، أو قد نلمح في شخص مصطفى هذا أراء الكاتب وتوجهاته الخاصة التي آمن بها في هذه الفترة الزمنية .
وتبقى في الأعمال الأدبية شخصية مثل نموذج مصطفى تمثل أملاً ، بصيصاً من نور ليظل بالإنسان رجاء أن يأتي يوم أفضل من سابقه ، أن يقابل شخصية يرى فيها ضوء الصدق أو ملامح من عالم نتمناه.
ويبقى للكاتب أيضاً إدراكه وحسن توظيفه لأفكاره حين يستنطق شخوصه فلغة حوار مصطفى وطبيعة الثقافة بها ومستوى تحليلاته السياسية تختلف عن تحليل مفتاح بوزوى عن غيره وهكذا.
- والشخصيات في الرواية لا تتحقق وفق ماتريد ، وفق أهدافها وأحلامها، دائماً هناك ما يمنع ، هناك ما يجهض الآمال أو يدفعها إلى طريق مغاير ، وغالباً ما يكون هذا الجانب هو الجانب المادي ، وتحكمات رأس المال ، والأطماع التي تكمن بداخل النفوس البشرية ، وما الحرية في المجتمعات الغربية والديمقراطية إلا أنهما عند المحكات الرئيسية في الحياة تتحكم بهما أموال عمر بوزوى وعلاقاته وأهدافه الخاصة ومن الطبيعي أن يلحق بهما في هذه الدائرة المستلبة ، "حميدة " الأخ الأصغر لهما عندما يحين وقت الزواج أو العمل أو ما عداه من تصاريف الحياة، في النهاية وبعد أي صراع ، تكون لأموال عمر بوزوى اليد العليا في تقرير المصائر في هذه العائلة (ص209.208).
تبتلع دوامة المال المغتربين في المجتمع الليبي فيصبح زياد المهندس السوري نموذجاً لمن يفقد كرامته ورجولته وأخلاقه ، ويفرط في نزاهته وضميره من أجل تكديس الأموال.
ومن خلاله يرصد الروائي التحولات التي تحدث للشخصية التي تضطرها الظروف للغربة عن أوطانها لفترة من الوقت فهو على لسان المهندس زياد السوري يقول :" موهيك أنا بنظر للمسألة ..أنا رجل واقعي ، بتعرفي ليش أنا واقعي ؟ ما بتعرفي .. بالشام يوم اللي كنا هناك، ما يستجري حيوان يتعدى حدوده ، وما بيقدر واحد ، وما بسمح لأي مخلوق وين كان إنه يتعدى علىّ في هيك أشياء للشرف والكرامة وأنا بيصير أنفي فوق الكل ، ليش إحنا كنا بالشام .. وباليوم اللي تركنا تصير الأمور غير هيك ، بيصير الإنسان مرن يعرف كيف يتعامل مع هادول أغراب .. لأن الإنسان الغريب بيظل غريب ما أله حقوق ، ومهما صار له من زمن ، مهما عرق ، ومهما حرق من دمه ، بيظل دخيل ومش هيك وبس ، بيبقى عقدة النقص تبعهم ، هادول يملكوا المال والسلطة لكن بيظلوا في حاجة إلنا ، ومن شان هيك لازم نعالجهم ، والله بالشام ما اعتبر واحد بيهم في كوندورتي لكن هيك حكم الزمان .. بدنا مصاري بتفهمي .." ص141).
فحين تلفظ الأوطان أبناءها لمقتضيات الحالة الاقتصادية أو الاختلافات السياسية أو العقائدية ، تتلفقهم مجتمعات وبلاد بديلة ، تفرض عليهم قبول ما قد يتعارض مع كرامتهم ، وإنسانيتهم ، كما أنها تجعلهم ، أو يجعلون من أنفسهم أصحاب هدف واحد: كنز أكبر قدر من المال ، وتحت رزح ووطأة هذا الهدف ، يفقد الإنسان كرامته وإنسانيته ، وتتلاشى مع الوقت الكثير من الأهداف التي كانت محور حياتهم .
وتبقى الغربة هي الوحش الأسطوري الذي ينشب أظافره في الأرواح الضائعة فيستنزفها وتصير خواءً . نفس هذه الغربة لكن بفاعليات أخرى نستشعرها،من خلال شخصية " ثريا" زوجة عمر بوزوى، يرسم الكاتب المتغيرات التي تحدثها تغير الطبقة التي يرتفع إليها الإنسان أو ينخفض إليها فهو- مصوراً لطبيعة حياتها وملابسها والتحولات التي مرت بها في المسكن والمفروشات والسيارات والنزهات واهتماماتها وطبيعة علاقتها بأهلها وأهل زوجها - يصور أنتقاله أنثى إلى الطبقة البرجوازية التي تبدو بها الشخصيات مسطحة واستهلاكية وغير ذات قيمة (ص44.43).
وثريا كمعظم الشخصيات النسائية بالرواية لا تشغلها قضية ولا تمتلك رؤية أو فكراً ، غير قادرة على الفعل أو فرض آرائها، فهي مسوقه إلى أطماعها وحياتها التي اعتادت تفاصيلها لكنها أيضاً تشعر بالغربة فيها. وهو من خلال حديثه عن شخصية نابضة ينقل أراءه في تلك الطبقات الطفيلية حتى لا تبدو أفكاره مباشرة أو جافة أو خطابية.
- ويلمح الكاتب في ثنايا الرواية عن طبيعة علاقة ستحدث بين ونيس وثريا عن شيء قد يستكمله القارئ بخياله ، لكنه لا يتركنا إلا ونحن نرسم علامة استفهام تجاه طبيعة هذه العلاقة ، إلى أى مدى ستتطور في ظل ملابسات خيانة عمر لها وانشغاله عنها ، وإعجاب ونيس المستتر بها ، وشعورها نحوه بالانجذاب ، لأفكاره ، وسلوكه الحاني ، نحوها ، ونحو طفلتها.
ويبرع الكاتب في مناطق كهذه كعلاقة ثريا وونيس ، في ترك مناطق في سرده مفتوحة ، لاتنتهي إلى أحداث معينة ، ولا اتخاذ قرار محدد أو موقف تجاه الأحداث وهو ما يجعل القارئ يترك العمل ، ليستكمله على نحو آخر وبقراءات متعددة تأويلية، ويعد هذا من سمات الأعمال الجيدة التي تبقى مع مرور السنوات . كما أن تلك الصياغات التلميحية البينية تزيد من جاذبية الأعمال الروائية .
ويحدث هذا أيضاً في مقاطع مثل (ص96) في طبيعة علاقة عمل فاطمة بمؤسسة عمر بوزوى بعد رحيلها إلى القاهرة، أو ما حدث لناصر بعد حادثة حريق درية (ص231).
وإذا وضعنا في الحسبان وقت كتابة ونشر هذه القصة لأدركنا على الفور أن الروائي بقدر ما يشكل عالما إنسانيا تختلط فيه مجموعة من الهُوِيات المختلفة قدر ما يحكي ويروي ويصف وضع ومكانة الكيان المصري في المجتمع العربي ومدى الهوان الذي لحق بالمصريين بعد هزيمة 1967م، بعد مسح وتسطيح الشخصية المصرية على أيدي المعنيين بالأمر السياسي بمصر في ذلك الوقت، كان لذلك بالغ الأثر السلبي الفادح على الوجود العربي حتى هذه اللحظة التي نعيشها.
إنه- ونتيجة غياب الدور المصري الفعال سياسياً وقيادياً- انهارت أدوار المصري في تلك المجتمعات علمياً ومهنياً واجتماعياًِ وصارت أشياء كثيرة في وضع من التخبط والفساد بل الضياع التام .
ويصف الروائي حال المهندس فؤاد صليب المصري يقول :" قام خلفه مرتعداً من اللحظات التي ستمضي إبَّان المقابلة ، لقد كان الشعور بالنقص والخوف الشعور الملازم للمصريين إبَّان أول هجرة بالتاريخ أعقبت هزيمة 67" (ص187).
ويتساءل الروائي على ألسنة اللبيبين المتشككين في القوة المصرية وهُوُيتها يقول ": .. هل المصريون الموجودون توا أحفاد للفراعنة أم لا ؟ " (ص79).
ويرصد الروائي في ثنايا القصة للتحولات التي حدثت للشخصية المصرية في تلك الفترة الزمنية بعد قيام ثورة 1952 حتى لحظات الهزيمة وما بعدها، يقول في صورة ديالوج بين حميدة الفتى الليبي اليافع وبين عم أحمد العامل المصري ".. وبقيت أنا والمصري المسكين أحمد نجوب الجبل الأخضر أحاول إثارته وهو لايستجيب .. كنت أردد أمامه ما يقوله الرجال مساءً في سهراتهم حول أقداح الشاي ولعبة السيجة
- اليهود هزموكم… - أمرك يابيه
- المصرية غلابة - حاضر يا بيه
- ثلاثة ملايين إسرائيلي يهزمون أربعين مليون مصري – أمرك يا فندي ".
- المصرية شعب مسكين - أيوه يابيه
- تشرب شاي - حاضر يابيه
- تأكل ياعم أحمد - أمرك يابيه
في البداية زحف مثل دودة ، أشفقت عليه ، بعد ستة أشهر أصبحنا أصدقاء ، كان مخلصاً وأميناً، على الطريق الساحلية أخذت أشاهد أعداداً ضخمة ، ألافا من المصريين يسيرون على أقدامهم حفاه باتجاه الغرب بحثاً عن العمل " (ص80.79).
في هذا الحوار يظهر هذا الخضوع الذي اعترى الشخصية المصرية واليأس الذي لحق بكل الإرادة العربية، وتكتظ الرواية بالمواقف والأقوال التي تنال فيها الجنسيات العربية من الهوية المصرية منها قوله واصفاً حال مريم السورية :" ترفعت عن أن تكوَِّن علاقات اجتماعية مع المصريات بالمؤسسة وتجنبت توثيق علاقاتها بمرفت .." (ص110).
- ويحكي عن الحاج حميدة يقـــول " وتنتابــــــه العصبيـــة فيطارد عامـــلاً مصريـــاً ليضربه " (ص107).
- وتحت هؤلاء جميعاً كانت العمالة المصرية ملح الأرض تبني وتهان وتذل وتقبض في النهاية الكفاف " (ص108).
والشخصية المصرية في الرواية شخصية خانعة ذاقت مرارة الهزيمة وذل الحاجة والنزوح إلى بلاد غريبة تعمل وتسعى إلى الرزق الذي شح في الوطن.
- " قفز رجل أسمر على وجهه ملامح تعب وبؤس شديدين في الخامسة والأربعين من عمره،تبرز من صدره حواف جلاليب عديدة ، ارتداها واحدة فوق الأخرى ، في يده اليسرى صرة وباليمنى أمسك بصندل قديم مهترئ " ربما رؤيته ممسكاً بالصندل في يده كان دافعاً لي كي أنظر إلى قدمه ، كانت حمراء منتفخة كعجلة سيارة قديمة وقف متردداً عليه ملامح الخوف ، بل أستطيع القول إنه كان في حالة الرعب كفأر سقط بين قطط متوحشة .. المصري هذا مسكين ، هذا جاء سيراً على الأقدام من مصر.
صاح الجميع معقولة!!
- أيوه .. مصريون واجد في درنه ..وليش لا ..ها دول خبراء الجري كيف ما جروا قدام اليهود ، كيف ما يجي من القاهرة لحد هنا .." (ص79).
وتبدو الشخصيات المصرية برواية العُرس شخصيات مستلبة ، فهي إما فاقدة للشرف والكرامة أمثال " مرفت وفاطمة " اللتين وقعتا في نزيف شائن من بيع الجسد في شبكة العلاقات الفاسدة تحت وقع الضياع والغربة والحاجة المادية وأحلام الثراء، وإما فاقدة للفاعلية والتأثير والتصميم على النجاح وكشف الفساد مثل شخصية المهندس فؤاد صليب، الذي تم تجاهله ونبذه وكان المنوط به تصحيح الأوضاع الفاسدة التي قام بها المهندس زياد السوري وأعوانه ، فيقول الكاتب على لسانه " هو و آخر يعمل بالأشغال العسكرية ومهندس مصري
" – ح أقدم استقالتي . – هز موك…؟
- هم كتير .. أعمل إيه..؟ - عمر عرف بسرقات زياد ونوري
عرف .. وبخهم شويه ، زياد قال الكميات الزيادة على المستخلص مساعدة للمقاول ، وإنه ح ينفذها .. والله ح يخربوا الشركة .. تعرف رصيده في البنك تحت الخط الأحمر ..
- بلغته بخسارة مشروع الرجمة… - نعم .. ما طرف له رمش
- ممكن تكون وسيلة لتهريب أمواله - مش عايز أتورط في مسائل من النوع ده.. استطرد منفعلاً : كلهم بيسرقوا ، المهدى عمران يسرق عربات الخشب والأسمنت .. من أسبوع واحد أهداه عمر شاحنة نقل مرسيدس " (ص180).
ويرصد الكاتب في حنكة أدبية وفكرية لملمح أورده أكثر من مرة للجذور الباقية من كرامة وإصرار ونقاء تلك الشخصيات المصرية ، يستبين ذلك عندما يصنع توازياً مع هذا الوضع الشائن الذي آلت إليه نماذج المصريين بتبيانه لمواقف أخرى يتخذونها حين يصف عم أحمد بقوله " بعد ستة أشهر أصبحنا أصدقاء كان مخلصاً وأميناً " أو حين تستنفر فاطمة لما آلت إليه حالها ولا ترضى عنه"(ص8) ، أو في موقف أخيها منها حين يصفه الكاتب ويقول ".. وأخوها يتبعها بنظرات خالية من المعنى ، مزيج من الكره والثقة ، و التحضر المطبوع بالضآله " (ص85).
أو في موقف المهندس فؤاد صليب الذي أبى أن يستقيل دون أن يقدم إلى عمر بوزوى ما في يديه من معلومات وحقائق حتى في لحظة مغادرته لهذه المؤسسة (ص188)
وهناك موقف آخر مشابه لهذا الموقف الكشفى صنعه مهندس مصري آخر في أول صفحات الرواية حين واجه جميع مَنْ في الاجتماع برأيه حين قال في معرض مناقشة أحوال المؤسسة وتقسيم العمل " أنا أرفض، الموقع يحتاج برنامج عمل " (ص8) وتستمر هذه المواجهات (ص10.9).
هذه التوازيات يقدمها الروائي بمهارة مبدعة راصداً الوضع النفسي والاجتماعي للشخصية المصرية في تلك الفترة من التاريخ ، كما يتميز إبداع الروائي فتحي إمبابى في التقاطه للتناقضات المتعايشة في الشخص، أو الحدث، بحس بالغ الشفافية والإثارة حتى أنه يستطيع أن ينهي روايته، وعشرات الأسئلة تتنظر إجابات ليستكملها هو في جزء أخر من الرواية أو ليستكملها خيال القارئ ذاته.



#أماني_فؤاد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قراءة لكتاب - الرؤية والعبارة مدخل لفهم الشعر - للشاعر عبد ا ...
- المريد المتصوف ينشد قصصه .. دراسة لمجموعة -عبد الحكيم قاسم- ...
- منطق التاريخ وسردية - تلك الأيام - للروائي فتحي غانم
- سرد دائري وصرخة ضد القهر وغياب العدالة في رواية -وحيد الطويل ...
- -في العائدون إلي الأرض -الموت حياة قراءة نقدية لخواطر د. سام ...
- قراءة لكتاب - النقد الأدبي بين القديم والحديث -
- في أقل من دقيقة.. -قصة قصيرة -
- بنية الانفصالات في سردية -قسمة الغرماء -للروائي يوسف القعيد
- تداخل النصوص في القصيدة المعاصرة ..ديوان -الشاعر والشيخ - لل ...
- شعرية الأشياء في ديوان -الفجوة في شكلها الأخير- للشاعر عاطف ...
- ثورة مصر .. رؤية يسارية لثورة 25 يناير يقدمها - سمير أمين -
- -المنطقة العمياء- سرد نسوي متحرر -مجموعة قصصية- للقصاصة أسما ...
- التوازي والتداخل في سردية -ترابها زعفران- للروائي إدوار الخر ...
- أنا ..أنت ..وهو ..مناورة الضمائر في سردية -الأنثي في مناورة ...
- التقنيات السردية المتجاورة في رواية -حرمتان ومحرم- للروائي - ...
- تكسر الدلالات اليقينية في ديوان - هو تقريبا متأكد - للشاعر أ ...
- الرؤية والتشكيل في رواية -سلام - للروائي هاني النقشبندي
- هل النقد الأدبي علم ؟
- - بلاد أضيق من الحب - عرض مسرحي مأخوذ عن نص - سعد الله ونوس ...
- دعوة من اللا تاريخ ..- قصة قصيرة -


المزيد.....




- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!
- مهرجان بابل يستضيف العرب والعالم.. هل تعافى العراق ثقافيا وف ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أماني فؤاد - الغربة والنفط وتقنية المتوازيات في نص -العُرس- للروائي -فتحي إمبابي-