أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - التربية والتعليم والبحث العلمي - بشير صقر - استنهاض الثقافة الجادة وبعث التنوير .. والأمية السياسية فى مصر















المزيد.....


استنهاض الثقافة الجادة وبعث التنوير .. والأمية السياسية فى مصر


بشير صقر

الحوار المتمدن-العدد: 4288 - 2013 / 11 / 27 - 01:07
المحور: التربية والتعليم والبحث العلمي
    


" إذا فكرت سنة للأمام فانثر بذرة "
" وإن فكرت عشر سنوات للأمام فازرع شجرة "
" أما لو فكرت مائة سنة للأمام .. فعلم الناس"
حكمة صينية قديمة من 300 سنة قبل الميلاد


تمهيد :
تشكل الأمية السياسية أحد العقبات الهائلة أمام الجماهير المصرية فى سبيل تحقيق الأهداف التى رفعتها ثورتا 25 يناير و 30 يونيو؛ نظرا لارتباطها بمستوى الوعى السياسى أحد العوامل الحاسمة فى قدرة الجماهير على التنظيم والتحول من أفراد مبعثرين إلى هيئات سياسية ونقابية واجتماعية ذات دور ووزن وتأثير.
لذا فإن القضاء على الأمية السياسية ليس مجرد ضرورة لتحقيق أهداف الثورتين بل هو شرط لنهوض شعبى يحسم الحالة الراهنة فى مصر لصالحه.
-من ناحية أخرى فإن أوضاع التخلف الاقتصادى والاجتماعى والفكرى التى تعانى منها مصر وتتركز فى الريف تساهم فى تعميق ومفاقمة تأثير الأمية السياسية وهو ما يفرض ليس القضاء على هذا النوع من الأمية بل يتطلب حملة شاملة متواصلة للتنوير تتجاوز فى حجمها وتأثيرها ما قام به المفكر المصرى سلامة موسى فى بدايات القرن الماضى. وكلاهما – القضاء على الأمية خصوصا السياسية وحملة التنوير – ستلعبان دورا أكيدا فى التخلص من آثار قوى الظلام التى تعيث فى الريف فسادا منذ منتصف السبعينات وحتى الآن، وستمكن مختلف قطاعات الشعب فى الريف والحضر من قراءة ما يحدث فى مجتمعها قراءة نقدية وتفرز الصالح من الطالح وتميز بين مختلف الأفكار والبرامج السياسية بيسر وسهولة.
-ولأن الأمية السياسية دفعت شعوبا تسبقنا - فى مجال التقدم العلمى والاقتصادى والتكنولوجى- إلى تبنى أفكار ضد مصالحها وخضعت لقادة دمروا بلادهم والعالم مثلما حدث من ألمانيا وإيطاليا فى الحرب العالمية .. صار لزاما على كل الحريصين على أمن وتقدم الشعوب الوقوف لهذا النوع من الأمية بالمرصاد لأنها أشد خطورة من الأمية الأبجدية والوظيفية، ولأن خطرها لا يقتصر على بلدان العالم النامية بل يتجاوزه إلى المجتمعات الصناعية الكبرى.
-لذا طالبنا -أثناء الفترة التى أعقبت ثورة 30 يونيو 2013 ( فى مقال بعنوان" لكى تعود مصر".. نُشر على موقع الحوار المتمدن ( العدد 4159 فى 15 يوليو ) - بمطالب ثلاث ( التطهير والتنوير والتوقف عن إمساك العصى من المنتصف ) ؛ وهو ما يعنى إصرارنا على أن اجتثاث الفكر المتخلف وهزيمة منطق العنف والإرهاب يشترط وضع مهمة التنوير فى أولويات المهام العاجلة لإزاحة كل العقبات من طريق إعادة البناء.
-ولأننا نعتبر أن الأمية ذات أوجه ثلاث ( الأبجدية والوظيفية والثقافية ) والأخيرة تتضمن الأمية السياسية وليس العكس رأينا أن نعرض تقديرنا فى محوها ضمن مهمة أوسع كنا قد بدأناها منذ أواخر السبعينات فى أحد مشاريع التنمية القاعدية فى مجموعة قرى بمركز أجا بمحافظة الدقهلية ، وفى تجربة أخرى بمديرية الثقافة الجماهيرية بالجيزة . وأصدرنا فى التجربتين مجموعة من الأوراق النظرية والمفاهيمية .. ومجموعة أخرى من الكتب ( للمعلم والدارس) ربما تكون مفيدة فى المرحلة الراهنة التى تمر بها مصر؛ وقد تسهم فى التعرف على أبعاد قضية الأمية السياسية ووسائل وأدوات علاجها .. نبدؤها بموجز تمت كتابته فى فبراير 1984 للأسس وللأفكار النظرية لقضية الأمية بجوانبها الثلاثة والمدارس المختلفة فى الكفاح ضدها ؛ يعقبه فى حلقات قادمة ملخص للتجربتين والوسائل والأدوات المستخدمة.
سؤال ملح يحتاج لإجابة واضحة:
عندما يتطرق الحديث لقضية محو الأمية فى مصر فى جانبها النظرى أو التطبيقى يطرح السؤال التالى نفسه بإلحاح : لماذا فشلت تجارب محو الأمية السابقة..؟
-ولا يمكن البدء فى تناول القضية من أى من جوانبها دون الإجابة على هذا السؤال .. حيث أن الرد العلمى عليه يشكل المدخل المباشر والصحيح والوحيد لتناول القضية.
-وفى مصر بل فى المنطقة العربية يمكن الرد على السؤال بإجابات متعددة لكنها جميعا تشترك فى شئ واحد : هو أن تشخيص الأمية الذى قامت على أساسه حملات محو الأمية كان مغلوطا ويختزل قضية الأمية فى الجهل بالقراءة والكتابة ؛ وبناء على هذا الاختزال وذلك التشخيص المغلوط فإن العلاج المتمثل فى حملات محو الأمية يكون خاطئا بالطبيعة .. ناهيك عن أن توارث الفشل واستمراره لسنوات طويلة يولّد إحباطا شديدا لدى المهتمين بالقضية ويتخطى حدوده ليتحول إلى لامبالاة عميقة وافتقار للجدية فى تنفيذ مثل تلك الحملات .. هذا من ناحية.
-ومن ناحية أخرى فإنه بالممارسة تم الوصول إلى أن " من محيت أميتهم " ارتدّوا إلى الأمية مرة أخرى نظرا لعدم استخدامهم ما تعلموه فى تطوير أنفسهم وتحسين أوضاعهم الاجتماعية..إلخ.
-ومن ناحية ثالثة فإن من أدركوا أن مفهوم الأمية يتجاوز حدوده الضيقة التى تُقصره على الجهل بالأبجدية قد عادوا لنفس الأرض التى تقف عليها التجارب التقليدية بتشخيصها المغلوط.
الأمية وجوانبها الثلاثة :
-ولما كان الفرد الأمى جزءا من المجتمع ؛ والمجتمع ليس شيئا واحدا أو كتلة واحدة ؛ ولما كان كل جزء من المجتمع وكل مجموعة ( فئة أو طبقة ) من الناس لها سماتها المميزة وتحكمها قوانينها الخاصة التى تخضع فى النهاية للقوانين الأساسية التى تحكم المجتمع ؛ فإن تعاملنا مع قضية الأمية يجب أن يضع فى اعتباره كل هذه الأمور فى ارتباطها ببعضها وإلّا وقع فى الانتقائية ( التى تعنى اختيارها لجانب واحد من جوانب القضية المطروحة لتتعامل معه دون بقية الجوانب.. ومن ثم تتجاهل معطيات كثيرة فى الواقع ما كان لها أن تتجاهلها ؛ إذا ما حرصت على أن تصل لأفضل الحلول وأكثرها موضوعية.
- إن الأمى فرد فى المجتمع .. منتج أو عاطل ..يسكن منزلا ويشترى طعاما ، ويركب قطارا ويبيع سلعا ويسمع أجهزة الإذاعة والتليفزيون ؛ ويتجمع فى قرية أو مدينة ويلتقى مع عشرات من أمثاله وغير أمثاله، له احتياجات يفى ببعضها ولا يفى ببعضها الآخر ؛ أيضا له معتقدات ومفاهيم تُسيّره بعضها ويعترض على بعضها الآخر وهكذا. فهل يمكن لأى متخصص فى محو الأمية عندما يبحث مثل هذه القضية أن يتعامل مع الأميين من هذه الناحية فقط ( جهلهم بالقراءة والكتابة ) ..؟ ؛ وإذا كان ذلك كذلك فكيف ستكون النتيجة..؟ ؛ إنها حقا ستكون الفشل . فإن الخطأ فى التشخيص يفضى حتما لخطأ فى العلاج .. ناهيك عن المضاعفات . ومن هنا اكتسب الكفاح ضد الأمية هذه السمعة السيئة واللامبالاة الشديدة بمجرد سماع أى عبارة عنها ، ومن هنا كان ولوج هذا المضمار محفوفا بالمخاطر .. فليس هو بالأرض البكر التى تنبت أية بذرة حية توضع فيها لأنها للأسف تعرضت لكثير من العبث الذى أفقد المحاولات الجديدة الكثير من مزايا التجربة الأولى وتدفقَها ، ولا هو استفاد من الجوانب الإيجابية لتجارب سابقة وبنى عليها وراكم الخبرة والإنجاز.
- باختصار فالأمية بمعناها العلمى تتضمن جوانب ثلاث تتداخل وتتشابك وتتحقق فى الأمى النموذجى ؛ حيث يجهل القراءة والكتابة ويقتصر اتصاله بالمحيطين به على الطريقة الشفهية؛ كذلك فهو من الناحية الوظيفية لا يجيد أية حرفة أو مهنة تقريبا بل يعتمد فى التعامل مع محيطه للحصول على احتياجاته المعييشية على قوة عضلاته بالأساس دون أن يكون ماهرا أو مبدعا فى إنتاج ما مادى أو ذهنى . أيضا فهو من ناحية ثالثة يجهل الحد الأدنى من معرفة الآلية التى تُسيّر مجتمعه والتى تحكمه كفرد ضمن هذا المجتمع وكذلك كيف يمكنه أن يلعب دوره إلى جوار أمثاله من أجل المساهمة فى تغيير واقعه حسب قوانين التطور التاريخى لا ضدها.
أسباب الأمية :
وبناء على ما سبق فإن تحديد حجم الأمية فى مصر يحتاج إلى معيار مختلف عما هو متبع فى حصرها بشكل تقليدى ، ولذلك يمكن أن نحدد بداءة أن الأمية الثقافية تجتاح أغلب أفراد المجتمع وتتجاوز بذلك الأمية الأبجدية والوظيفية فى حجمها وآثارها الضارة ، وعموما يمكن القول أن الأمية الأبجدية تبلغ 56 % من السكان فوق سن 10 سنوات فى ( يوليو 1979 ) ؛ وهى وإن كانت تتناقص من الناحية النسبية عاما بعد آخر لكن أعداد الأميين المطلقة تتزايد نظرا لمعدل تزايد السكان الكبير.. أما عن أسباب الأمية فتتمثل فى الآتى :
1-ضعف استيعاب الأطفال فى سن الإلزام : حيث كانت نسبة الاستيعاب فى عام 1952 حوالى 47% ، ارتفعت عام 1966 إلى 78% ، ثم توقفت حتى عام 1973 ، لتصل فى عام 1979 إلى 82,5 %.، هذا وكان معدل التقدم فى الاستيعاب نصف فى المائة بدءا من عام 1979. هذا وتتلخص أسباب ضعف الاستيعاب فى تدنى الوعى بين سكان الريف والمناطق النائية ، وفى بعض التقاليد والعادات التى تحجم عن تعليم البنات ؛ وسوء الأوضاع الاقتصادية وحاجة السكان لجهد أبنائها فى العمل من أجل كسب العيش ومساعدة الوالدين؛ فضلا عن بعض الأسباب التشريعية التى تعفى أهالى الأطفال- البعيدين عن المدارس مسافة 2 كيلومتر- من الغرامة المقررة إذا ما امتنعوا عن إلحاق أطفالهم بالمدرسة؛ وقصور الخدمات التعليمية كالمنشآت وسوء التوزيع الجغرافى للمدارس وغيرها.
2-التسرب من المدارس الابتدائية: أى بعد دخول الأطفال المدرسة يبدأ تسربهم منها وهو يشكل مع ضعف الاستيعاب وجهان لعملة واحدة.
3-الارتداد للأمية : وذلك لمن لم يستكملوا تعليمهم ، ولم يلتحقوا بالمرحلة ما بعد الابتدائية.
4-التخلف الاقتصادى والاجتماعى : حيث أن احتياج الأسر الفقيرة لعمل أبنائها فى سن مبكرة يدفعها لمنعهم من التعليم . كذلك فإن انخفاض المستوى الاجتماعى والثقافى يقلل من إحساس الآباء بخطورة عدم تعليم الأبناء ؛ ويربى فى النشء عددا من الخصال والصفات الملازمة للبطالة أو للتهوين من شأن التعليم والثقافة ويجعلهم فريسة لجملة من الأفكار المتخلفة والغيبية وللانحراف ولانخفاض كفاءتهم الإنتاجية لمن يلتحق منهم بعمل ، وبتزايد أعدادهم يشكلون عبئا شديد الوطأة يدفع المجتمع باستمرار باتجاه التخلف الفكرى والثقافى والمزيد من التردى الاقتصادى والاجتماعى ومن ثم الخضوع والتبعية السياسية للقوى المعادية للتقدم وحقوق البشر فى الداخل والخارج.
هذا وتشكل العوامل الثلاثة الأولى روافد تمد نهر الأمية بمياهه المستمرة ويمثل العامل الرابع ( التخلف الاقتصادى والاجتماعى ) أساسا وإطاراً لتلك الروافد الثلاثة.
ولما كان الحديث عن الأمية بمعناها الواسع ( العلمى ) يعنى الحديث عن أسباب ذلك التخلف الاقتصادى والاجتماعى التى تَسِمُ مجتمعات العالم الثالث والتى تدفعنا لنقاشها بشكل شامل بغرض تحديد جملة الأسباب التاريخية التى أفضت لوضعها الراهن ولا يتسع المجال لطرحها فإننا سوف نذكر بإيجاز :
إن الاستعمار الكولونيالى قد استنزف الكثير من مواردها الاقتصادية والبشرية لعقود طويلة وسيّدَ بين مواطنيها الثقافة الاستعمارية وربطها بالأحلاف العسكرية الغربية ومزقها إلى أقاليم وطوائف متناحرة وبث الفرقة بين أبنائها علاوة على انتشار الفكر الغيبى الرجعى الداعم لذلك المسار ، كذلك خلق – بعد جلائه عنها- فئة أرستقراطية من أبنائها تعمل لحسابه وتنهج نهجه وتفكر وتعيش بطريقته؛ وتتبنى أفكاره وثقافته وقيمه؛ وتلعب دور الأداة التى يحكم بها ، ناهيك عن إلحاق أسواقها المحلية ( القومية ) بالسوق الاستعمارى العالمى بناء على قواعد التقسيم الدولى للعمل بحيث لا تجد فكاكا من هيمنته السياسية و الاقتصادية ؛ وتتعقد بذلك كل محاولات التنمية .. فتضطر إلى الاستدانة والتعامل مع البنوك والمؤسسات الدولية من أجل " تسيير عجلة التنمية " فلا تفلت من إسار هذه الحلقة الجهنمية ( الديون المتزايدة ) وهكذا. وعليه فجذور التخلف الاقتصادى والاجتماعى لبلدان العالم الثالث عميقة وقديمة ، ودور الاستعمار الغربى فى تأبيد أوضاعها ثابت وجلى ، ومن هنا كان التخلف الثقافى والتدهور الاقتصادى والاجتماعى والتبعية السياسية هى السمات البارزة لها.
إن الإبقاء على أنماط الإنتاج المتخلفة فى مجتمعات العالم الثالث ( بما يعنيه ذلك من إبقاء على علاقات الإنتاج وقوى الإنتاج فى حالة من البدائية والتدنى وحصار تطورها إلا فى أضيق الحدود وبالدرجة التى لا تُحدِث تغييرات جوهرية فى البنية الاقتصادية والاجتماعية والنظام السياسى بل تُحدث بها تشوهات خطيرة وتربطها بمجموعة البلدان التى كانت تحتلها) هو الهدف الذى سعى له الغرب ونجح بامتياز فى مسعاه.
ولا تترك هذه التغييرات التى تطرأ على هذه المجتمعات النامية إلا آثارا سلبية على اقتصادها ( حيث الديون وفوائدها وأقساطها وجدولتها وإعادة الجدولة ، والتبعية الغذائية للخارج وتدخل صندوق النقد الدولي ببرامج التقشف وتدابير رفع الدعم عن مستلزمات الإنتاج والسلع الضرورية ). وعلى وسائل إنتاجها حيث التبعية التكنولوجية دون مراعاة لاحتياجات الاقتصاد القومى الفعلية. وعلى القوى المنتجة حيث البطالة والهجرة للخارج. كما تشمل تلك الآثار الأوضاع الاجتماعية للسكان حيث تسود أنماط جديدة من الاستهلاك الترفى وترتفع الأسعار ويتزايد الفقر فى جانب والثراء فى جانب آخر وتتفكك عرى الأسرة وتتدهور الأخلاق ..إلخ ولا تنجو الثقافة من نفس المصير حيث تتغير أنماط القيم فيقل الاهتمام بها وبالفنون الجادة والآداب والتعليم وتسود قيم الفردية والمظهرية والتعصب والأنانية وتقليد أنماط الاستهلاك الترفية فى الغرب ويضعف الاهتمام بالتراث والتاريخ القومى والأبطال الوطنيين وبدور الفرد فى تغيير مجتمعه والغيرة عليه ويضعف الانتماء للأرض والوطن وهكذا ، وفى هذا المناخ تلعب روافد الأمية الثلاث دورها فى مفاقمتها ، وتساهم الأمية بدورها فى المزيد من تعميق التخلف فهى أحد نواتجه ومظاهره وهى أيضا سبب من أسباب استمراره.
إن الشروط التى أفرزت الأمية بجوانبها الثلاثة ( الأبجدية ، والوظيفية والثقافية ) ماثلة فى أسس المجتمعات النامية ومن هنا فإن استئصال داء الأمية من جذوره يعنى استئصال الشروط التى أنتجتها .. شروط التخلف. وعليه فإن الجهود المبذولة لمكافحتها فى هذا المسار محكومة بتلك الشروط . وهو ما يعنى أن الكفاح ضد الأمية بجوانبها المتعددة لابد وأن يرتفق بكفاح أشمل فى مجالات أخرى ( اقتصادية واجتماعية وسياسية ) لكى يتم تحرير الأميين من أميتهم بشكل كامل وحقيقى .
وإذا ما طُرِح السؤال : وما جدوى الجهود المبذولة لمحو الأمية إذن .. طالما كان استئصالها بشكل جذرى يتحدد خارج الإطار الذى نعمل فيه..حتى ولو استندت جهودنا إلى التشخيص العلمى للأمية ..؟
وردنا هو: إن تلك الجهود سوف تلعب دورها فى تقليص نسبى للأمية وستحفز كثيرا من أمثالنا لمشاركتنا هذا الدور سواء فى مجال التعليم أو الصحة والعلاج أو الإسكان أو الإنتاج أو الثقافة .. إلخ؛ وستسهم بالتالى فى ضرب المثل و تعديل رؤى الكثيرين فى هذه المجالات وتخلق مناخا إيجابيا هو مناخ المقاومة وتكسر روح السلبية واللامبالاة.
العلوم الحديثة والحضارة الجديدة الراهنة والموقف الملتبس بتعليم الكبار:
قد يتصور البعض ونحن نتحدث عن تعليم الكبار أننا نستهدف الوصول إلى حالة أشبة بالحالة القائمة فى بلدان الغرب الأوربى والأمريكى وهذا ليس صحيحا ؛ فشعوب البلدان المتقدمة صناعيا لم تصل إلى وضعها الراهن- الخالى تقريبا من الأمية الأبجدية والوظيفية وتحظى بمستوى لا بأس به من الوعى السياسى لا تمكن مقارنته بما هو قائم فى بلادنا – إلا لأسباب وفى مسار مختلف تماما عما حدث عندنا . خصوصا وأن عمليات النهب الوحشى التى مارستها الدول الأوربية الاستعمارية- ولا زالت - للبلدان النامية قد لعبت دورا محوريا فى ذلك. أى أن الوفرة التى تحققت فى مجتمعات الغرب كانت على حساب الندرة التى حاقت ببلادنا؛ ومن هنا فإن طريقنا لا بد أن يختلف عما جرى لديهم.
-ولأن " العلوم الطبيعية وتطورها قد لعبا دورها فى خلق الحضارة الراهنة – التى تختلف عن كل الحضارات التى سبقتها – فهى تنحو لأن تكون حضارة عالمية واحدة " كما يرى عالم التربية د. محيى الدين صابر؛ وبالرغم من أنها لم تصل حتى اليوم إلى هذا الحد فإنها تسعى لأن تكون حضارة مطلقة لا تنتمى لجنس أو دين عكس الحضارات القديمة.
وفى الوقت الذى ترتكز فيه كما أشرنا على معطيات العلوم الطبيعية الحديثة التى تتمتع بصفة الحياد فإنها حضارة غير محايدة .. ذلك لأن بعض العلوم تتخذ عند التطبيق وجهة مبدعيها وتنطبع بسمات المجتمعات التى اكتشفتها وبرغبات المتحكمين فيها وهذا مربط الفرس.لذلك تتضمن قيما تغير الكثير من المفاهيم الاجتماعية القديمة وتؤثر على المجتمعات النامية المستهلكة لها لأنها ليست صانعتها ولا تملك سوى شكلها أى لا تملك روحها أو محتواها.. ومن هنا كانت الفجوة الحضارية بين منتجى تلك الحضارة ومستهلكيها واسعة.
وبالطبع فإن هذا لا يعنى السير فى عكس اتجاه الحضارة الراهنة أو العودة إلى أحضان الحضارات القديمة التى نشأت فى القرون الوسطى بل يعنى التعامل مع الحضارة الراهنة بشكل نقدى لنزع صفة الانحياز عنها بتجنب وجهة مبدعيها وانتقاء إيجابياتها واستبعاد سلبياتها ولن يتيسر ذلك إلا باستنهاض الثقافة الجادة ورفع مستوى الوعى الشعبى بحملات التنوير فضلا عن وضع الحدود مع حضارات القرون الوسطى الظلامية.
إن الدعاوى الرائجة فى المجتمعات النامية المستهلكة لحضارة الغرب وترى أن تقدمها الحضارى يُلزمها بالسير خلف منتجى تلك الحضارة.. لا تعنى سوى أن الفوارق بينهما هى مجرد فوارق كمية أى فوارق على نفس الطريق ولا يبقى لتضييقها سوى الإسراع بمعدّل العدْو خلفهم واقتفاء أثرهم دون النظر إلى خصوصية تاريخهم وتراثهم وشروطهم الاجتماعية والاقتصادية الراهنة. إنها باختصار دعوة للسير فى نفس الفلك والوصول إلى نفس النتيجة .. إلى نفس المأزق لكن مع الفارق.
إن هذه الحضارة وفى مقدمتها الثورة التكنولوجية فى وسائل الاتصال الجماهيرى قد لعبت دورا رئيسيا فى تجاوز أساليب التعليم القديمة التى ضاقت عن استيعاب مفرداتها ومتطلباتها كمّاً ونوعا، وبالرغم من أن التعليم النمطى ( التقليدى ) قبل ذلك قد أسهم بقوة فى التقدم العلمى والاجتماعى والحضارى فى مواجهة البنية التقليدية للمجتمع إلا أن الوضع قد تغير الآن بدرجة كبيرة لأسباب كثيرة منها :
أ‌- أن تقدم العلوم المتسارع قد ضيق المسافة الزمنية التى تفصل بين الاكتشاف العلمى وتطبيقه العملى.
ب‌- وأن المدرسة كنموذج للتعليم النمطى لا تعدو أن تكون مجرد أداة فنية فى وقت يتطلب فيه التغيير الحضارى وتنمية المجتمع المتخلف عملية سياسية شاملة؛ فالمدرسة ليست تحررية بطبعها ولن تكون كذلك إلا فى ظل مجتمع خال من الاستغلال والقهر.
ت‌- وأنها انعكاس للنظام القائم ، فهى كأية مؤسسة نظامية مستقرة لا تسعى للظروف المتغيرة بقدر ما تسعى لإخضاع الظروف الخارجية لمنطقها.
لكل ذلك كان على المدركين لهذه التغيرات الاستجابة السريعة لبناء تعليمى جديد يتجاوز التعليم النمطى ولايحل محله ؛ يقوّم قصوراته ولا يستبعد إيجابياته ويهضم هذه المعطيات الجديدة للحياة المعاصرة ويدمجها فى أدواته.
هذا البناء هو التعليم المستمر " تعليم المستقبل " الذى يمثل تعليمُ الكبار أحدَ وجهيه ؛ فهو مع التعليم النمطى ( تعليم الصغار ) يشكلان ضفتي نهر التعليم الذى يخلق (المجتمع المتعلم المعلم) . وهو بالقطع لا تحكمه نفس المعايير والقوانين التى تحكم التعليم النمطى ولذلك فهو أكثر مرونة وتطورا واستجابة للتغيير.
وإزاء طوفان الحضارة الحديثة الذى تغمرنا به وسائل الاتصال الجماهيرى المتطورة ( إذاعة ،تليفزيون ، فيديو ، سينما ، صحافة.. إلخ )لا بد من مصفاة نقدية تستثمر إيجابياته وتسلح الجمهور فى البلاد النامية ضد مخاطره وأضراره.
إن هذه الحضارة التى عبرت الحدود القديمة دون جواز للمرور قد اخترقت جدران المنازل وستائرها ووصلت إلى عقول الصغار ووجدان الكبار ونقلت المواطن فى لمح البصر من منزله إلى قارات وكواكب أخرى أو نقلتها إليه ، لا نملك إزاءها إلا سلاحا نقديا حازما يتمثل فى فهم علمى لمنطقها وللشروط التى أوجدتها وكذا آفاق تطورها .. فى نفس الوقت الذى يتوجب فيه الإلمام بأوضاع مجتمعنا وتاريخه وتراثه وتطوره واحتياجاته الراهنة والمقبلة ..إلخ ؛ حتى لا يلتهمنا ذلك الطوفان أو يدفعنا إلى غير نريد أو لعكس ما نبتغى .
لذلك كان الجانب الثقافى فى عملية محو الأمية بالغ الخطورة فهو يلعب دوره (من خلال أساليب الحوار والمناقشة بين المعلم والأميين ) فى فرز ما تقذفه لنا وسائل الاتصال الجماهيرى المتطورة بحيث تزوّد الأمى بزاد من المعرفة والخبرة لم يعهده من قبل وتستحدث له أسلحة النقد والدفاع الذاتى ، وتستبعد ما يشكل ضررا على تطوره وإنتاجه وفعاليته فى المجتمع.

فبراير 1984 بشير صقر



#بشير_صقر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حيث لا وقت نبدده فى المماحكات.. لنضع النقاط على الحروف .. عن ...
- مأساة بعض شباب منظمات المجتمع المدنى فى مصر: قراءة فى مسودة ...
- استيعاب - المضللين - من أعضاء جماعة الإخوان .. الوهم الأشد خ ...
- لو افترضنا جدلا ..
- عن الجيش المصرى .. والثنائية المفتعلة ( ثورة أم انقلاب..؟ )
- طريقان لا ثالث لهما .. التطهير وإعادة البناء.. أو المصالحة و ...
- حائط الصد الأخير.. وحديث عن النخب
- لكى تعود مصر .. ونعود فراعنة مرة أخرى : جففوا منابع التمويل ...
- مدخل لحل مشكلةالإسكان فى الريف المصرى والمناطق الزراعية المس ...
- شواهد مزعجة تعترض مستقبل الثورة المصرية : هل يتكرر سيناريو ث ...
- ( ثورة جديدة ونداءات مريبة بالمصالحة)
- مصالحة .. أم محاصصة جديدة برعاية الجيش المصرى
- ثورة جديدة - ونداءات مريبة بالمصالحة
- الجوع .. وأوهام الأمن الغذائى فى مصر
- تمهيدا لثورة معادية فى ريف مصر فى 30 يونيو القادم: بقايا الإ ...
- مرة ثالثة عن عزلة اليسار وانقسامه .. بعيدا عن المواعظ ولحاقا ...
- مساهمة أخرى فى الحوار حول أسباب عزلة اليسار المصرى وانقسامه
- رسالة للحوار المتمدن والأستاذ إبراهيم فتحى .. حول أسباب انعز ...
- منتدى الأرض بتونس - كلمة لجنة التضامن الفلاحى - مصر
- استئنافا لسياسات أمين أباظة :تصريحات لوزير الزراعة المصرى.. ...


المزيد.....




- في وضح النهار.. فتيات في نيويورك يشاركن قصصًا عن تعرضهن للضر ...
- برج مائل آخر في إيطاليا.. شاهد كيف سيتم إنقاذه
- شاهد ما حدث لمراهق مسلح قاد الشرطة في مطاردة خطيرة بحي سكني ...
- -نأكل مما رفضت الحيوانات أكله-.. شاهد المعاناة التي يعيشها ف ...
- -حزب الله- ينعي 6 من مقاتليه
- صفحات ومواقع إعلامية تنشر صورا وفيديوهات للغارات الإسرائيلية ...
- احتجاجات يومية دون توقف في الأردن منذ بدء الحرب في غزة
- سوريا تتهم إسرائيل بشن غارات على حلب أسفرت عن سقوط عشرات الق ...
- -حزب الله- ينعي 6 من مقاتليه
- الجيش السوري يعلن التصدي لهجوم متزامن من اسرائيل و-النصرة-


المزيد.....

- اللغة والطبقة والانتماء الاجتماعي: رؤية نقديَّة في طروحات با ... / علي أسعد وطفة
- خطوات البحث العلمى / د/ سامح سعيد عبد العزيز
- إصلاح وتطوير وزارة التربية خطوة للارتقاء بمستوى التعليم في ا ... / سوسن شاكر مجيد
- بصدد مسألة مراحل النمو الذهني للطفل / مالك ابوعليا
- التوثيق فى البحث العلمى / د/ سامح سعيد عبد العزيز
- الصعوبات النمطية التعليمية في استيعاب المواد التاريخية والمو ... / مالك ابوعليا
- وسائل دراسة وتشكيل العلاقات الشخصية بين الطلاب / مالك ابوعليا
- مفهوم النشاط التعليمي لأطفال المدارس / مالك ابوعليا
- خصائص المنهجية التقليدية في تشكيل مفهوم الطفل حول العدد / مالك ابوعليا
- مدخل إلى الديدكتيك / محمد الفهري


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - التربية والتعليم والبحث العلمي - بشير صقر - استنهاض الثقافة الجادة وبعث التنوير .. والأمية السياسية فى مصر