أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أماني فؤاد - تكسر الدلالات اليقينية في ديوان - هو تقريبا متأكد - للشاعر أشرف عامر















المزيد.....


تكسر الدلالات اليقينية في ديوان - هو تقريبا متأكد - للشاعر أشرف عامر


أماني فؤاد

الحوار المتمدن-العدد: 4286 - 2013 / 11 / 25 - 19:25
المحور: الادب والفن
    


تكسر الدلالات اليقينية في ديوان
" هو تقريباً .. متأكد" (1)
دراسة مقدمة من : د. أماني فؤاد
***************
في القصيدة المعاصرة يتعامل المبدع مع اللغة كأنه يخلخلها ، تتراص مفرداته الواحدة تلوالأخرى متتابعة موجودة ومثبتة توهم بدلالة لكنها لا تلبث أن تنسحب منها، المفردات أو التراكيب تبدو إحداها ممسكة بخنجر لترشقه في جسد الأخرى، يكتظ النص بمعاني لكنها غير واثقة أو يقينية، اللغة في النص الشعري الحديث شأنها شأن الموج المتتابع الذي يندفع إلى الشاطئ ما أن تصل تتابعاته حتى ترتد لتقابل موجات قادمة من داخل البحر فيتصادما، تواجه إحداها الأخرى فتحدث ارتفاعة لحظية ثم تسقط أو تنمحي ولا يبقى شىء، دورات أو حركات تحكي أن هناك حياة برق ينشدها المبدع ، تلويح بقمة لحظية تحدث لوهلة ، أو معنى بيني محير دون وصول إلى يقين ، تتابعات تنفي الصمت لكنها لا تتيقن من دلالة ، ومابين بحث دائم عن معنى عصى على القبض مابين الارتفاعة وتلاشيها ، مابين الحلم وانكساره يقع الإبداع الجديد .
يعنون الشاعر أشرف عامر ديوانه بـ " هو تقريباً .. متأكد " ليدخلنا هذا الطقس المتكسر الذي تبقى الأمور فيه بينيه دون وصول ، الذات الإنسانية التي تبوح في الديوان كانت تظن أنها تمتلك حقائق لكنها مالبثت أن انسحبت إلى جهة التذبذب والتقريب والشك دون اليقين.
تتآكل كلمات أشرف عامر في صياغاته الفنية التي يصنعها، تطل بوجودها ثم ماتلبث أن تتصدع .
يقول الشاعر في قصيدته " مساحة غير بعيدة !؟ :" هو متأكد من أشياء : كثرة الأحلام أماتت الوقت / وأجلت فرحة القلب / كل الأصدقاء كانوا / همو الأجمل/ وكل النساء اللواتي عرفنه / لم يلتقطن من قلبه / حبةَ قمحٍ لا.. / ليس كلُ النساء / هو متأكد من أشياء : / لم يعد الأصدقاء / هم الأجمل وملحُ الوطنٍ.. / لم يعد فاتحاً لشهية أبنائِه ! هو تقريباً / متأكد!" (ص17،16).
تتضافر في النص الأساليب الصريحة التي تنفي ما أثبته الشاعر في أول بوحه مثل أسلوب النفي بأدواته لم ، ولا، وليس مع المعاني الضمنية من خلال تراكيب الجمل مثل قوله "كثرة الأحلام أماتت الوقت "، مع المفردة الواحدة في قوله " تقريباً" التي أطاحت بهذا التأكد ، يتركنا المبدع وقد أشاع هذا الضباب الرمادي الذي غلف به الوطن والأصدقاء والنساء والأحلام وفرحة القلب ، ويستعين الشاعر أيضاً بالإخراج الذي يلعب بالمؤثرات البصرية ، فبعد قوله هو تقريباً في سطر ، نجد" متأكد" مزيلة بعلامة تعجب في سطر أخير.
وفي قصيدته " كلهم رحلوا!" يقول " فأصبح في غمضة عشرين عاماً " (ص20) ، نلاحظ التضاد القائم بين غمضة وعشرين عاماً لكنها في المستوى الأعمق هناك تأثير "غمضة" الذي يبعثر أيام العشرين عاماً وتجعلها لاشيء في هذا الزمن الداخلي بهذه الذات الشاعرة ومن ثم تأتي التكوينات اللغوية متوافقة مع أزمة هذا الإنسان .
في قصيدة " القاهرة" تأتي الأوصاف التي يستخدمها الشاعر للأشياء لتصنع هذا التلاشي الذي ينبىء عن حال مدينة بأشيائها وأهلها يقول : " شارع ممزق / تلالٌ من " البني آدمين" / المتآكلين / شجر من البلاستيك " (ص24). العلاقات التي يلتقطها الشاعر تؤول كلها إلى حالة من التشظي والاندماج فهو يصف ذاته في هذه المدينة يقول :" وأنا بين الركام/ والضجيج / والصقيع / أقفز فوق الجميع / أتقاطر، / أتخايل،/ أتسرسبُ .. أترسبُ / أتحللُ .. وبين الأزقة.. /أضيع.. " (ص25) يوظف الشاعر هنا العطف بين الركام والضجيج والصقيع ليعبر عن حالة من الغربة والضياع ، ثم تتوالى سبعة أفعال مضارعة تصف حالته مثل أقفز ، أتقاطر ، أتحايل ، أتسرسب ، أترسب ، أتحلل ، أضيع ليؤكد على تلاشيه بهذه المدينة التي تغير حالها.
في إصرار لا يصيبه اليأس يحاول أشرف عامر أن يقبض على القمم اللحظية بحياة الإنسان، يحارب فيها تلاشيه ، وينتصر للحظات الصدق البشري ، لحظات توهج الإبداع لدى الفنان ، ويعلى من قيمة العقل ، كما يواجه مظاهر الزيف والفساد الذي استشرى في مجتمعه .
في نصه "بائعةُ الذرة" تبدو كل العلاقات هاربة ، يُنتظر منها شأن بينما يفضي واقعها إلى شأن آخر، كل العلاقات لا تتحقق ، أولا تنتظر الذات في القصيدة مردود أفعالها يقول الشاعر في المفتتح: " كانت هي العون / عندما يقرصُنا الجوعُ / وكان دعاؤها لنا بالستر/ لايجاب!" (ص43) ، نحن دائماً في مواجهة مع الفعل ونفيه في متن النص يقول الشاعر :" المشاعرُ التي حملتني إلى شاطىء النهر/... هي نفسها التي تدفعني الآن/ إلى الابتعادِ عنه.." (ص44) ، وفي نفس النص :" سألت الدركي . ولم أتمهل ليرد / تاركاً إياهُ وشاطىءَ النهرِ / وراءَ ظهري ." (ص45،44) .
تبدو الذات في النص هاربة من ذكرياتها من توقعاتها بعد عودة ، هاربة من التواصل مع الآخرين ، هاربة حتى من ذواتها من نفسها ولذا تأتي التراكيب والمعاني هاربة ، تنفي إحداها الأخرى في نفس دوائرها ، وهي في هذا تعبر عن مأزق الإنسان العصري في مجتمعات العالم الثالث ، الإنسان الذي لايقوى على التحقق.
ولذا يبدو صوت الشاعر خافتاً يبوح في سردية حياتية تشكلها همومنا اليومية نلمح بالديوان عودة بعد سفر عن الوطن ، وطن تبدلت أحواله وغلفه القبح.
أشرف عامر صوت منّا عميق النظرات الإنسانية ، يحكي مشاعرنا ، أزماتنا اليومية والفكرية والنفسية دون ذبذبات عالية ، يصور هموماً تتعلق بالشأن العام لمجتمعه وأهله: أمه وأبيه وحبيبته ، وأصدقائه ، وأماكن صباه وشبابه ، ويضع الإنسان الفرد بهمومه في منظومة مجتمع تتقوض أركانه وتتحول، وهنا قد نتساءل هل يمكن أن يشكل الصوت المتكرر بالحياة شعرية ذات توقد؟ فالشاعر في هذا الديوان لا يلامس قضايا محددة فهو يعالج أفكاراً كبرى شاملة تحكي حكاية وجود إنسان بوطن تتغير معالمه ويفقد دِفْأََه ُ وتواصله مع قاطنيه، ولذا تتسم شعرية هذا الديوان بالتسلل الحثيث إلى نفس المتلقي ، ونلمح بها نظرات هادئة تتسم بالنضج الفني والفكري الذي يتحول في بعض المناطق إلى المنظور الصوفي.
تحتوي القصيدة عند أشرف عامر على مناطق براقة تعلو بها الشعرية وتتألق ولكنها لا تلبث أن يخبو ضوؤها نتيجة بعض الانثيالات والاسترسالات التي لاتخدم تكثيف النص وسبكه مثل قصيدة " النخاس" (ص53،52،51) ، التي تتوالى فيها الظواهر السلبية التي يعددها الشاعر في الوطن.
** المشهد الشعري في ديوان " هو تقريباً ... متأكد"
ويتكىء ديوان " هو تقريباً.. متأكد " على تقنية المشهد الشعري المخلق، فالشاعر يصور في بعض مشاهده عالماً واقعياً ، لكنه ليس بمتعين ، أي لا تراه العين سوى بمزج ومزاوجة بين عين الحقيقة وعين الحدس أو البصيرة ، لذا تأتي مشاهده نسجاً متآلفاً بين اللغة التقريرية ولغة المجاز الذي يقترب من الحقيقة.
في قصيدة " الغرباء وحدهم لا يعرفون" ، يرصد الشاعر لحظة كمون وترقب إيذاناً بانطلاقة تغيير أو ثورة ما ينتظرها الجميع ، وتكمن صعوبة هذه المشاهد في كونها ليست مشاهد بصرية خالصة ، ودور الشاعر فيها ينحصر في التقاطه لزوايا معينة أو استنطاق نقاط توتر بها ، تقرأ على نحو جديد ، لكنها تأتي ضفراً بين المتخيل والحقيقي.
وللحظات الحافة التي يريد أن يلتقطها المبدع ويقبض عليها طبيعة رمادية ونارية في ذات اللحظة ، لذا تبدو مشاهده كأنها مصابة بالشلل ، عاجزة عن التحرك أو رافضة له إلى أن تثب هذه الانطلاقة فيقول :" للوهلة الأولى / بدت المدينة غائمة / خيم الغضب عليها / وجف ماء الكلام / العصافير الطليقة / رفضت أن تفارق الأسطح / أو أن ترفرف بأجنحتها في الهواء/ والعصافيرُ الحبيسةُ / فعلتْ في محبسها الشيءَ نفسه/ الانتظارُ سيدُ المشهد.." (ص60،59)، كأننا بإزاء مشهد توقفت فيه الحياة ، صورة قد تصاب بالثبات على هذا النحو، وليحقق الشاعر هذا الطقس الفني استخدم تقنيات متعددة ، فاستخدامه للوصف في قوله غائمة والمجاز التصويري غير المعقد في خيم الغضب عليها ، وجف ماء الكلام ، ومشاركة كائنات الطبيعة حقيقة أو كناية الطليقة والحبيسة حين ترفض أن ترفرف بأجنحتها ، ليبقى الانتظار سيد المشهد .
وتأتي المشاهد التي ينسجها الشاعر كنايات عن لحظات توتر حافة بين وضعين ونلمح بها عقلية فنان تتسم بالاعتدال والنضج غير الصاخب، يعتمد على بلاغة الكناية التي يمزج بها بين الحقيقة والخيال ، يقول الشاعر في قصيدته " العشوائيون" :" فليذهب كلٌ منا إلى مشروعهِ / أو..لايذهب ْ / لكن لا تجعلوا نساءَ الوطنِ المتهالك / يفقدن حماسَ استخراج الحبةِ / من سنبلةِ القمح!" (ص8،7) ويشير المبدع إلى حالة اليأس والقنوط التي يمكن أن يصاب بها الإنسان في وطن يتحكم به العشوائيون ويشكل هذا التركيب المبدع ، ليتساءل قارئه هل الحبة هي الخصب والتجدد والاستمرار ، هل هي الحب والدفء والقدرة على أبراز الجميل في هذا الوجود ، هل هي الأفكار والرؤى الجوهرية والتجارب الصادقة؟ تغتنى الكناية بنص أشرف عامر ولا تتسم بالغموض لكنها تعطي براحاً لتعدد المعاني وثراءً من خلال وقوعها في مناطق بينية يصعب القبض عليها.
** السرد الشعري:
وكما يعتمد أشرف عامر في شاعريته على الكناية يحتفي بالسردية الشعرية التي تعطي لنصه أبعاداً تأويلية وتعدد في مستويات القراءة وتهب القصيدة معاني وجودية وصوفية شديدة العمق في أداء بسيط يتسلل إلى نفس القارئ دون مجاهدة ففي نصــــــــه " فــان جــوخ" يقول :" عندما قدّم فان جوخ أذنه / هديةً ( لمن أحبتها!).." وتجرع الكونُ قنينةً من نبيذهِ الدموي... / احتشدت الألوان الداكنةُ / في فرشاته ورأى الربُ ذلك / ولم يعترض ./ وعندما خرج فان جوخ إلى الطبيعة ليهدهدها في لوحةٍ استبقته يدٌ سريةٌ / إلى صرخةٍ مقدسةٍ / لاتزال محفورة / في هيكل الغموض ./ ورأى الربُ في ذلك / إثارة / يستحقها الخالدون." (ص77،76).
ويستكمل الشاعر عناصر سرديته في القصيدة التالية المعنونة" بما قاله" تيو " بعد رحيل فان جوخ" وثالثتهم " ما قاله الرب للملائكة بشأن فان جوخ" . والقصائد الثلاث تعد من أبدع نصوص الديوان ينسج فيها الشاعر عناصر دراما شعرية ، صراعا وجوديا تستكمل عناصره في قوله :" إن الطبيعة ليست رقيقة / كما كنت تظن / والقبضُ عليها في لحظتها/ النارية حتماً / يدمر "باليتة " الألوان" (ص78).
ويصور الشاعر مأساة الفنان الحقيقية في هذا الوجود ، الفنان الذي يريد أن يقبض على لحظات البرق وأن يمسك بتلابيب الكشوفات الروحية النادرة في لحظات تجلي وحدة الوجود وانصهارة ، وفي المقابل هناك " اللوحاتُ الرديئةُ في حانوت " جيوبيل "... وتباع حتى الآن بأغلى الأثمان " (ص79).
يوفر المبدع لسرديته الشعرية بناء شخصية " نموذج " في تمثله لفان جوخ هذا الذي تجرع الكون قنينة من نبيذه الدموي .. فقبض على الوجود في لحظات نادرة ، و" تيو" الذي أدرك طبيعة الصراع بين جوخ والطبيعة ، وبين الفن الحقيقي والفن الردىء والاستمرار بهذه الحياة " تيو" القادر على انتظار الفنان الذي يغمس ريشته في لحظة غليان الألوان " (ص80) ويناوش الشاعر مفهوم الإله بطريقة فنية مبدعة فهو الذي يرى إثارة في تسجيل الفن للصرخات المقدسة ، وهو الذي تأخذه لحظة انشغال كوني فتتحرر الطبيعة وتصطرع على نحو يجعل " فان جوخ " يسجل لحظة نادرة يتحد فيها معها ، الرب الذي يطلب من الملائكة الذين تغافلوا أن يعيدو إليه عبده لأنه اقترب إلى حد الانصهار ، تتجلى قدرة الشاعر في تلك السردية التي يجسد فيها الرب وأقواله على نحو فني يبلور في سهولة قضية عصية على الاستيعاب والتصوير والإحاطة بها في تسلسل فني مبدع مكثف .
وفي تكوين الشاعر لسرديته الكلية بالديوان يلجأ لاستدعاءات الذاكرة التي يتوسل بها ويستحثها لتوقظ معه النائمين بروحه وكيانه ، لتحارب معه اغترابه الذي يعيشه في لحظته الراهنة يقول في قصيدته " مساحةٍ غير بعيدة!"،" واستمرار الحياة/ يستدعي أحياناً/ التفتيش في أروقة الذاكرة/ المفخخة " أصبح بحاجةٍ دائمةٍ لمن يوقظ معه النائمين" (ص14)، ولنا أن نلاحظ وصف الشاعر " أروقة الذاكرة المفخخة " حتى هذا الملجأ الذي تذهب إليه الذات يشبه التيه الممتد المفخخ ، فهو ليس آمناً على إطلاقه.
كما يلجأ الشاعر إلى تقنية الحلم لتشكيل عناصر سردية نصه الأكبر ، الديوان مكتملاً وكما نعلم يتيح الحلم للمبدع حرية الحركة السريالية التي تنداح فيها الأزمنة والأمكنة وتتداخل وتختلط الأشياء ويذهب بنا أشرف عامر إلى مناطق أكثر تداخلاً و التباساً في الهلامي ذاته في قوله في قصيدة: " حِكْمَتْ علي .. التقرير الختامي" " أمي التي أحبُها أيقظتني في نومي / وأنا أحلمُ بها داخل الحلم. أم أن مروري بين الحلم الأول / والحلم الثاني / جاء في توقيتٍ غير مناسب/ كعادتي معها / أيام كنا خارج الأحلام ؟ " (ص39،38). ومن خلال تقنية الحلم يشكل الشاعر سرديته يحكي عن مشاعره بالتقصير والفقد لأمه ، وفيها يوفر عناصر السردية من مكان وزمان ولحظة النهاية فهناك كابوس النهاية الذي كان بالمستشفى والأطباء وقطعة الجبن المطبوخ وهنا نلاحظ توسل الشاعر بالمفردات والأشياء البسيطة اليومية في دعم شاعرية الديوان ونسجه بأشياء الإنسان في هذا العالم المادي.
و لنا أن نشير في هذه القصيدة أيضاً إلى تلك المناطق الحائرة الحافة التي أتحدث عنها في هذا الديوان ، فالمبدع يركز على نظرة حائرة توجهها الأم إلى ابنها يبدأ بها القصيدة ويختمها يقول في نهاية النص :" رمقتني بنظرةٍ /لم أفهمها ولم أحدد بدقة / هل كانت تسمعني هل كانت تقصد فعلاً / أن ترحل عني ..!" (ص41).
تستكمل هذه الحيرة حين نلاحظ تلك التراكيب اللغوية التي يتخيرها المبدع لنصه ، فاللغة تقريرية ليست مجازية لكنها لغة تشيع الحيرة والتردد بين حروفها فتقلقلها مما يدفعها إلى أن تكسر بعضها الآخر لتبقى الذات في حالة من التكسر والحيرة الدائمة.
** الذات في ديوان " هو تقريباً.. متأكد "
ما طبيعة الذات الإنسانية التي يمكنها أن تلتقط هذه المناطق الحائرة في حياة الوجود ؟ يقول الشاعر في قصيدته " وجهتي !" " .. وأنا المتعدد والمتعددون فيّ " جميعهم "/ لا يعرفون وجهتي .." (ص29)، تتجلى في هذا النص ذات ما بعد حداثية متعددة التكوينات والطبائع ، تتجمع لتتعايش في هذا البئر العميق بالإنسان المعاصر فهو هذا المتغاير في واحد " السابلة ، وقاطعو الطرق والمهمشون ، النبلاء والوجهاء واصحاب الدماء الذكية ، الحالمون والمتعبون والعارفون ببواطن الأمور..جميعهم /لا يعرفون وجهتي" .. وجهته التي لم تحدد ، والتي تكررت بالنص لأربع مرات وجميعهم لايعرفون عنها شيئُاً .
ويزيد المبدع في مستوى أكثر تعقيداً هذا التشتت والتشظي حين يقدم قصيدته بهذا الطقس السحري الذي يحيط الخطاب بقوى مجهولة تتكاف جميعها مع ذواته في الشعور بهذا التلاشي والضياع يقول :" كائناتُ اللهِ المجهولةُ / تعلم أنني / لست وحيداً / وأراها تتبعني .." (27) فهو يوفر لنصه ولذاته طقسا غرائبيا يزيد من الدلالة على شعور الإنسان بالضياع والاندحار بهذا العالم وشعوره الدائم بأنه محاصر ومراقب ، إن لم يكن من داخله فهناك قوى لا يدركها تحيط به وتراقبه.
تعتري هذه الذات المتعددة في واحد لحظات برق يرى فيها الإنسان رؤية جلية لكل ما مر بحياته يقول :" وتمنيت أن أعيش مرة أخرى / وبلا حدود .." (ص35)، لحظات التجلي هذه استضاءت له في ليلة طيبة رأي فيها تاريخه مجرداً ، أحباءه الذين رحلوا ، المواعيد التي لم يذهب إليها " (ص33).
وتبدو الذات في نص " الليلة الطيبة " في لحظة توازن طبيعي تريد أن تحقق ذات الإنسان على شاكلته الفطرية فيقول الشاعر في لحظة حقيقية يدرك فيها أرضية الإنسان وطبيعته "...وبأثر رجعي.. / أحبُ مَن أحببت ولكن لا أتماهى / وأكره من كان يجب علىَ أن أكرههم / تمنيت لو أنني كنت ذكياً / ولم أحرم نفسي من فضيلة ارتكاب / بعض المعاصي." (ص34). في تلميحات موجزة شديدة الدلالة يفطن أشرف عامر ويصور حالات نفسية إنسانية دون تزيد أو صخب فتبدو شعرية سردية تشبه اللمحات المكثفة في القصص القصيرة .
هذه الذات الحداثية ما تلبث أن تستسلم في قصيدة " بعضُ غضب" لموقف هامشي من هذه الحياة ، لم تعد تكترث بمعاني الحياة الكبرى ، وفي نبرة ساخرة سوداء مريرة تعـــلن " لم أعد أهتم " (ص64) ، كما تعلن أيضاً أنها صارت خواء مشاعاً ، للأحداث أن تعبرها دون أن تترك بها سوى تراكم المرارات حين يقول :" واحتفظت كذلك / بضلفة شباك مفتوحة / في روحي / إلى الأبد " (ص65).
لكننا نلاحظ أن هذا الموقف الحيادي الساخر شديد المرارة موقف جبري ، فرض على الذات أو فرضته معطيات الحياة الراهنة ، فيبدو الشاعر وكأنه يقف بإحدى قدميه في هذا العالم الذى كان يحلم به وينشده ويتميز له دور مؤثر به ، وقدمه الأخرى في هذا العالم الذي فرض عليه وتبدو حياته فيه وأشياؤه ومعانيه غير ذات بال ويتحول فيه من كاهن إلى مهرج ، هذا الهم الذي لا يفارق الذات فهو لا يقوى إلا على الانكفاء على نفسه.
ويلخص الشاعر مأساة الشخصية المصرية التي تتغلب عليها الطيبة وحسن الظن والاتكال على القائم والرضى به رغم مرارته في نص هادئ مبسترعميق بعنوان "المحارب" والشاعر يتكىء على لعبة الشطرنج ليتحدث عن البيدق أو المحارب يقول :" ودائماً / يتصور أن الملك / إذا ماجاع بدون عساكره / سيذهب لملاقاة الناس / خلف طوابير الخبز / أو عند ينابيع النهر / حسن الظن / وحسن الظن / دائماً / دائماً / يلقى بالعسكر في النار / وبالقادة في المجهول / وبالبسطاء / في وجع الحاجة والذل ..تموت البيادق / بالحرب / أو بالصقيع/ ويبقى المليكُ مليكاً / ورغم الجميع ! " (ص86).
** اللغة في " هو تقريباً.. متأكد":
تتسلل اللغة في الديوان هادئة ، في مفردات فصحى لا صخب بها ولا وعورة ، بل تبدو أحياناً - وخاصة في المقدمات الاستهلالية التي تُفتح بها القصائد- لغة حكيمة رصينة تلخص نظرات ورؤى فكرية بالحياة وتتيح الدخول للعوالم النفسية التى تسكن بداخل النصوص. وتعد مفتتحات لسردياته التي سيطرق أبوابها ، تستدل على ذلك من خلال التراكيب المتنوعة التي يعد الشاعر معانيه من خلالها وتعد الافعال المضارعة ، والحكي في زمن الماضي اللذان يتكرران بتلك المفتتحات المنفذين لدخول هذه البراحات النصية يقول الشاعر في مفتتح " العشوائيون " " يستهلكون الموت في الحياة / فإذا مادنا الموتُ ، جائعاً / أشهروا / صرخة الحياة " (ص5) ، وفي مفتتح قصيدة الشوارع يقول :" تعفرُني بالأغاني الشاجنة/ وتملؤني بالأزقة والوحدة" (ص9)، وفي مقدمة نص " في مساحة غير بعيدة !" يقول :" عندما يشاهد مشهداً عاطفياً / على شاشة التلفاز / تغرورق عيناهُ / ويشعرُ بوجع السنين " (ص13)، وهكذا تتواتر تلك الأفعال، إنها توفر للنصوص الدخول لعوالم السرديات الشعرية ، وتفتح مسام النصوص لحكي يتوالى، وتتميز تلك الافتتاحيات بأنها لا تعد فقط أجزاء من القصائد بقدر ما تحاورها بأشكال شتى.
يتردد في القصائد جمل قصيرة توضع بين معقوفتين ، وتأتي في مواقف مختلفة الدلالة، فهو حين يقول:" ألتمس الحكمة من بسطاء الحي /(وأوبخ كل البسطاء لبساطتهم ) " (ص34)، يعترض على ما يقرره في الجملة الأولى ويصنع كسراً للمطلق من كل شيء ، كما انه يشير لرؤية عميقة ترى خطأ أكبر في اختيار أحد الوجهين أو الموقفين على حده. وهو في موضع آخر في قصيدته يقول : في" مساحة غير بعيدة!" " أصبح بحاجة دائمة لمن يوقظ معه النائمين " (ص14) ، يشير لاندياح الإنسان بهذا الوجود وضياعه وأنه في حاجة دائمة لمثيرات تساعده على إيقاظ النائمين في حياته .
تركيب الجمل على هذا النحو يتيح امتدادات متقاطعة ومتوازية مع النصوص فتهبها أبعاداً فكرية وفنية تثري النص ومن ثم تتعدد تأويلاته كما أنها تتيح وقفات للمتلقي في استرسال القراءة ليدرك هذه المعاني الدقيقة التي يريد الشاعر أن يلتقطها قارئه.
من الظواهر اللغوية البلاغية في الديوان أسلوب النهي والأمر والتساؤل ويوظفها الشاعر على مستويات متعددة يقول في : " تجليات الوجع" تحت عنوان " عش حياتك !" " لا تجلس منفرداً / لاتفكر في شيء مضى / لا تأخذ الأمور على محل الجد / أغمض عينيك على الحاضر / ولاتفكر في المستقبل .." (ص88)، يوجه الشاعر لإنسان هذا العصر المشوه نصائحه على غرار نصائح أغلفة المطبوعات المدرسية لكنها على نحو معاصر بما يجعل الإنسان منسحباً من هذه الحياة غير مكترث بها ، في منطقة اللاتفاعل.
ترد في الديوان بعض المفردات اليومية التي شاعت في المجتمعات الاستهلاكية مع شيوع ثقافة العولمة التي تلقي بظلها على كل المجتمعات ، ويستخدمها الشاعر في موقف السخرية من أوضاع سياسية يرزخ تحتها مجتمعه يقول:" عندي مشروع قومي / للعيش مع الإحباط وعندي حكومة عظيمة ! حكومة فاخرة كالتفاح الأمريكاني / متقنةٌ كالبيبسي / وبطعم الخل والليمون / كالشيبسي/ وبنكهة الكباب/أحياناً !" (ص49).
وأتصور أن طبيعة هذا الديوان لا تحتمل هذه الإشارات التي تفقد النص سبكه الفني ، وأرى أن الشاعر في هذه المواضع يجاري النزعة الاستهلاكية التي وسمت النص ما بعد الحداثي ، على اعتقاد منه أنه يساير تيار أو يضفر نصه باليومي والمعيشي. لكننى أتصورأن هذه تزايدات تأتي مجانياً وتنافي طبيعة هذا (النص/الديوان) الهادئ العميق كقوله:
"وبنكهة الكباب أحياناً!" .
ويتكىء الشاعر في هذا الديوان على المزج بين المجاز التصويري والمجاز البصري أوالمشهدي الذي يفضي إلى بلاغة الكناية ، وهو حين يتعامل مع المجازالتصويري يتخير صور قريبة غير معقدة أو تركيبية.. علاقات بسيطة تصور ما يريد أن يوحي به دون استغراق في علاقات مخلقة، لأن بلاغة هذا النص في معانيه العميقة البينية والملتبسة كما ذكرت سابقاً يقول أشرف عامر :" عندي أحلام متناثرة / في درج المكتب / عندي أصوات مبحوحة / في صدري / وصفيح في رئتي .." (ص48).
ويقترب المجاز لديه من لغة الحقيقة أو التقرير ويتناثر في القصائد دون اتخاذه مطية ملحة لخلق الشاعرية يقول في قصيدة :" يمجدون الموتَ يتربصون بالفرح!" :" الموتُ إلهُ المتعبين/ تعويذةُ النجاة/ وملاذُ الكاظمين الغيظ... / الباحثين عن الحياة / في عذابات القبور" (ص73،72)، أتصور أن الشاعر كان خياره الأساسي الوصول إلى معانيه التي يريد أن يوحي بها في لغتها الحقيقية لكنه لم يرد أن يحرم نصه من بعض المجازات التي تقترب في استخدامه لها من الحقيقة .
لكن هناك وسائل أخرى اعتمد عليها المبدع في خلق حالة الشعرية في ديوانه مثل أن يحيل قارئه في أحد النصوص إلى لعبة الشطرنج ومن خلال الدخول لعالم هذا الوسيط يدخل قارئه في حالات شعرية ممزوجة بين اللعب والحقيقة يقول في مفتتح" قصيدة المحارب :" إنه كذلك/ لا يجيد اللعب / على رقعة الشطرنج" (ص83)، ومثل أن يخلق شخصية " الكليم" في نص " الكليم الذي توارى في الظلام" ومنها يدخلنا عالم يتأرجح بين الحقيقة المتمثلة في هذه الذات التي بالقصيدة وبين عالم نستدعيه من موروثنا الديني فتأتي العوالم الشعرية نصف حقيقية ونصف مقتبسة أو لاعبة على المخزون الثقافي يقول :" وللحظة ،/ هي الدهر كله،/ واجه الكليم نفسه / بالمؤجل في حياته / وتوارى/ في الظلام " (ص69) ويستخدم الشاعر هذه العوالم مؤازرة مع لغة الحقيقة لخلق هذا الجو الشعري الذي تتكسر به الأشياء كما تكسرت الأفكار التي شغلت الإنسان كثيراً.
حين يريد الشاعر أن يعبر عن ظاهرة الهجرة من القرية إلى المدينة يتخذ الشوارع مدخلاً وكناية عن الإنسان الذي نشأ بالقرية وهاجسه الساحر أن تأخذه المدينة ، يقول :" وشوارعُ القرية / تهرولُ – طول العمرِ – كلاباً ضالةً / وتموت على الطرق السريعةِ، / ووحيدةً / على الأرصفة " (ص12،11) ، فلقد أطلق الشارع وأراد الإنسان في مقابلة مبدعة.
وكلها عوالم تنقلنا إلى زخم موروثاتنا وتراثنا أو حتى الألعاب التي نمارسها ومنها يدلف الشاعر إلى عوالم تعبيرية أخرى .
يقدم الديوان ملامح لحظية أو مقيمة بينية لإنسان ووطن في لحظة مشوهة غائمة ، وهو لايقدم إجابات قدر ما يشير إلى تجارب ذات إيقاع مشوش مهزوم ، عالمنا الذي نعيشه ونشعر بمصريته دون هروب إلى عوالم مفتعلة ، لحظات أثيرية يتمنى كل منا أن ينال قممها.
**************************




(1) أشرف عامر : هو تقريباً..متأكد ، ميريت ، القاهرة 2008م.



#أماني_فؤاد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الرؤية والتشكيل في رواية -سلام - للروائي هاني النقشبندي
- هل النقد الأدبي علم ؟
- - بلاد أضيق من الحب - عرض مسرحي مأخوذ عن نص - سعد الله ونوس ...
- دعوة من اللا تاريخ ..- قصة قصيرة -
- تقاطعات قصيدة النثر في ديوان -الكتابة فوق الجدران- للشاعر -ع ...
- الشعرية والألعاب السردية في ديوان -تفكيك السعادة- للشاعر -مؤ ...
- جدلية الانفصال والاتصال في المجموعة القصصية -سوق الجمعة - لل ...
- ومضات ثقافية ..2013 م
- كفى ..شهر زاد!؟
- أن تخط اسمه كاملا..- قصة قصيرة-
- - أدهم يحي - قصة قصيرة
- بعد وقت ..
- مصر وقانون التظاهر
- مكرونة فيوتشيني
- قطعة ..من الشيفون الكناري
- سرد المنفلت في مجموعة -عفاريت الراديو- لمحمد خير
- يوسف الشاروني ..الخصوصية المصرية
- محددات المشهد المصري قبل 30 يونيو 2013 م
- - مجهول- أحدث روايات -يوسف القعيد-
- هدنة مع ..الانتخابات البرلمانية


المزيد.....




- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...
- -الضربة المصرية لداعش في ليبيا-.. الإعلان عن موعد عرض فيلم - ...
- أردوغان يشكك بالروايات الإسرائيلية والإيرانية والأمريكية لهج ...
- الموت يغيب الفنان المصري صلاح السعدني
- وفاة الفنان صلاح السعدني عن عمر يناهز الـ 81 عام ….تعرف على ...
- البروفيسور منير السعيداني: واجبنا بناء علوم اجتماعية جديدة ل ...
- الإعلان عن وفاة الفنان المصري صلاح السعدني بعد غياب طويل بسب ...
- كأنها من قصة خيالية.. فنانة تغادر أمريكا للعيش في قرية فرنسي ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أماني فؤاد - تكسر الدلالات اليقينية في ديوان - هو تقريبا متأكد - للشاعر أشرف عامر