أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - عبد الكريم جندي - الفساد الإداري والتنمية في المغرب















المزيد.....


الفساد الإداري والتنمية في المغرب


عبد الكريم جندي

الحوار المتمدن-العدد: 4277 - 2013 / 11 / 16 - 20:15
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    



تقـــــــــــــــــــــــــــــــــديم عام:

إن ظاهرة الفساد الإداري كظاهرة اجتماعية ليست بحديثة العهد، وليست مرتبطة بسياق زماني معين، بل هي ظاهرة ممتدة في أعماق التاريخ الإنساني السحيق، مع أن هناك تباين في درجة حدتها بتباين الإطار السوسيوتاريخي، كما أنها مجاليا تتخذ صفة العالمية؛ حيث من النادر - إن لم نجزم ونقول من المستحيل- أن نجد مجتمعا يخلو منها على الأقل في عالمنا الواقعي، أما في عوالم قصص الأطفال وسينما الخيال ومدينة أفلاطون الفاضلة حيث تعم المساواة ويحقق التوازن والانسجام، فهذا ليس من شأن السوسيولوجيين بل هو شأن جهابذة العوالم اليوتوبية.
إذن نحن أمام وباء خطير يهدد باستمرار كافة المجتمعات، بما فيها الدول التي قطعت أشواطا من التقدم الاقتصادي والعلمي والتكنولوجي. ويبدو أن هذا هو الدافع الأساس وراء الاهتمام المتزايد خلال العقود الأخيرة بقضايا الفساد الإداري، تمثلت أساسا في جهود مكثفة من قبل الكثير من الحكومات ومنظمات المجتمع المدني، الوطنية منها والدولية؛ بغية تشخيص الظاهرة والتعرف على أسبابها، للوصول للهدف المنشود ألا وهو الحد - أو لنقل- التقليل من انتشارها.
في هذا الصدد قال الرئيس النيجيري السابق سنة 1982: " إن المشكلة التي تقلقني أكثر من غيرها من المشاكل، هي التردي الأخلاقي في بلادنا، فهناك مشكلة الرشوة و الفساد، وفقدان الإخلاص في أداء الواجب، وخيانة الأمانة، ومثيلات هذه الرذائل ."[1]، أما الجمعية العامة للأمم المتحدة فقد أصدرت قرارها ذي العدد 55/61 في04/12/2000 أكدت فيه على أهمية إيجاد أداة قانونية دولية لمكافحة الفساد الإداري على مستوى حكومات بعض الدول[2]. وبالتالي تحقيق الحكامة الجيدة خاصة في البلدان النامية، كآلية للحد من الفساد الذي يعرقل كل مساعي التنمية داخل هذه البلدان.
وما هذا الاهتمام المتزايد سواء الدولي أو الوطني بهذه الظاهرة، إلا تجسيد وترجمة للوعي بخطورتها، إذ صار من المسلم به حاليا، أن مظاهر الفساد الإداري تؤدي بصيغة مباشرة أو غير مباشرة إلى عرقلة النمو الاقتصادي و الاجتماعي وأيضا المعرفي، علاوة على ما قد يسفر عنها من انتهاكات لحقوق الإنسان، قد لا يشعر بها حتى الضحايا أنفسهم؛ بل والأغرب من ذلك أنهم قد يتواطؤون في ذلك بدون دراية منهم، لتفسد مثل هذه الجرائم معيشهم ومستقبل أبنائهم؛ وهذا طبيعي ما دمنا نتحدث عن سلوكات مسكوت عنها، تمارس في أغلب الأحيان بطرق سرية مضمرة قد لا يكتشفها المكلفون بمراقبتها فما بالك بعامة الناس !
إن القيام بقراءة سوسيولوجية للحراك الاجتماعي الذي يشهده مجتمعنا والمجتمعات المجاورة له جغرافيا وثقافيا وتاريخيا - رغم الطابع الباهت لحراكنا - تجعلنا أمام تحد جديد قادته إرادة هذه الشعوب المقهورة لإحداث تحول في البنيات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، رغبة منها في تحقيق مستوى أفضل من التنمية والتقدم عبر محاربة كل أشكال الفساد بما فيها الفساد الإداري كقطب الرحى داخل هذا المسعى الشعبي. لنجد صداه يؤثر أيضا في برامج بعض الأحزاب المغربية التي أظهرت اهتماما واضحا بهذه القضية عبر شعاراتها المعتمدة في الحملات الانتخابية للظفر بأكبر عدد من الأصوات في الاستحقاقات البرلمانية 2011، كاستجابة – نظريا على الأقل – للدعوة الصريحة التي جاء بها الدستور المغربي الجديد بشأن محاربة الفساد والرشوة، دعوة تتراكم هي الأخرى ضمن مجموعة من الشعارات التي ترفع في كل حين لامتصاص غضب الجماهير الساعية للإصلاح.
ليس في القنافذ أملس ! فالفساد بأي جلباب تجلى، وفي أي مكان وزمان حل، فهو منبوذ مرفوض، لكننا نؤكد هنا أن الفساد رغم خسته فله خصوصيات تستوجب الوقوف عندها، لعل من أبرزها خصوصية زواج الفساد بالإدارة، لتتمخض هذه الأخيرة فيكون المولود أقبح وأبشع أنواع الفساد، "فالإدارة تمثل المحرك الرئيسي في الدولة والسلطات القائمة، ويتمثل الفساد هنا في التصرفات غير القانونية والتعقيدات البيروقراطية وأخطاء القطاع العام المؤدية إلى عدم تحقيق أهدافه في تقديم أفضل للخدمات العامة إلى الشعب وبالأخص الخدمات الأساسية ".[3]
وارتباطا بالواقع المحلي لمجتمعنا المغربي، وبناء على نتائج البحث الميداني الذي أنجزناه لنيل شهادة الإجازة في علم الاجتماع 2012 – 2011 بعنوان "الفساد الإداري وتأثيره في التنمية الاجتماعية والاقتصادية " بمدينة مكناس، اتضح لنا أن هناك استفحال مهول للسلوكات غير المشروعة / المنحرفة بإدارتنا العمومية على اختلافها، إلى درجة تجعلنا نجزم ونقول، أن هذه السلوكات أصبحت جزءا من ثقافتنا ومن اليومي المتعارف عليه، لذا أصبح ينظر إليها ـ سواء من طرف مرتكبيها أو ممن يرفضونها ـ كظاهرة اجتماعية يومية، مغروسة في الضمير الجمعي بالتعبير الدوركايمي، بحيث لا تنفع معها كل أشكال المكافحة و الرفض.
إن هذا الاستفحال تعبر عنه لغة الإحصاءات المعلنة بشكل أفصح سواء تلك التي يعلن عنها المجلس الأعلى للحسابات، أو تلك التي تصدرها الهيئات المهتمة بهذا الشأن، ونقصد بالذات "الهيئة الوطنية لمحاربة الفساد" (Transparecy Maroc)، التي مكنتنا من الاطلاع على مجموعة من المؤشرات الدالة على هذا الاستفحال[4]، لعل أبرزها ما تتلقاه من شكاوى يومية لانتهاكات وانحرافات وتجاوزات تسم علاقة الموظف العمومي مع المرتفقين/ الزبناء في مختلف المؤسسات العمومية خاصة تلك التي تتميز بطغيان المنطق البيروقراطي في تسيير شؤونها الإدارية، علما أن ثقافة التبليغ عن مثل هذه الانحرافات من طرف المواطنين لا زالت تثير تحفظ مجموعة من المواطنين، لأنهم يرون في مثل هذا العمل الوطني الذي ينطلق من غيرة المواطن عن مصالح وممتلكات وطنه وشعبه، مجرد لعب بالنار ! لأنها تهدد سلامة المبلغ كما وضح الكثير من مبحوثينا، وهذا التحفظ راجع -حسب اعتقادنا- إلى ضعف مستوى تعامل صانعي القرار مع نشر الوعي بثقافة التبليغ، عبر وسائل الإعلام، وكذلك عبر تشجيع جهود المنظمات الحكومية وغير الحكومية لإنجاز هذا الغرض، رغم أن الدستور الجديد يكرس هذا المبدأ بوضوح.
وتجدر الإشارة هنا، أنه مهما اجتهد الباحث في تتبع وتفحص الحالات السلوكية المنحرفة في الإدارة العمومية التي تم الإفصاح عنها رسميا، أو من طرف هيئات متتبعة؛ سيبقى الغموض حول درجة الاستفحال سيد الموقف، إذا علما بأن مجموعة كبيرة من قضايا الفساد الإداري لا يتم التبليغ بها.
إذن أمام هذا الواقع المجتمعي المشلول في مختلف أنساقه بسبب وباء الفساد المزمن، يكون من الملح في الوقت الراهن، دراسة السلوكات المنحرفة داخل الإدارة العمومية من زاوية سوسيولوجية، لإماطة اللثام عن هذه الجرائم الغامضة التي قدر لها أن تتم في كواليس المجتمع، وذلك عن طريق عملية تشريح التفاعلات الناتجة عن العلاقات الاجتماعية داخل الإدارات العمومية، والتي في أوضح تجلياتها تجمع بين الموظفين العموميين من جهة وبين المرتفقين/ المواطنين من جهة ثانية، رغم أن للظاهرة منابع أخرى، كما أن لها انعكاسات خارج الإدارة، لتؤثر في أنساق أخرى من المجتمع. وبالتالي يستوجب على الباحث أن يكون حذرا أكثر في تناول هذه الظاهرة، مستعينا بمناهج وآليات علمية تعينه على الوقوف عند مختلف الأنشطة المنحرفة والإشكالات الاجتماعية والاقتصادية المرتبطة بها، وتأثيرها على المحيط الاجتماعي ككل.

الفساد الإداري كمفهوم:
من الملاحظ أن مفهوم الفساد الإداري أصبح يحظى باهتمام مختلف عما كان في السابق، فهو يندرج اليوم ضمن قائمة المفاهيم " الموضة " داخل مجتمعنا المغربي، خاصة من طرف الجهات الرسمية، كالأحزاب السياسية التي توظفه في معظم الأحيان لأغراض دعائية لكسب أصوات الجماهير، وكذلك يتم استخدامه ضمن فعاليات المجتمع المدني وخاصة الجمعيات الحقوقية، وكذلك تلك الهيئات المهتمة بمكافحة الفساد، وإن كان حضوره يتيما داخل السياق الأكاديمي والسجال الاجتماع.
هذا الاهتمام الراهن بالفساد الإداري كموضوع إشكالي كان موازيا للاهتمام بمسعى أكثر شمولية يتمثل في تحقيق الحكامة الجيدة لإنجاز المشروع التنموي المنشود في هذا البلد، كهاجس يدفع جهات مختلفة للنبش في بعض معوقات التنمية بشتى تجلياتها داخل مجتمعنا بشكل عام، وداخل التنظيمات الإدارية بشكل خاص؛ معيقات تمثلت في انحرافات وجرائم إدارية تهدم باستمرار البنى الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لهذا البلد، ليعاد إنتاجها وتشييدها لكن على رمال متحركة، وأعمدة واهية، قد يكون مآلها إلى السقوط في أي لحظة؛ مما يعني حدوث انفجار اجتماعي في أوساط القاعدة الشعبية المتضررة كنتيجة لهذا الضغط المتراكم، وما هذا الحراك الذي نعيشه إلا التعبير الأفصح لهذا الانفجار، وإن تميز بالخفوت تارة والضبابية تارة أخرى في المغرب.
وفي محاولة لتحديد هذا المفهوم الذي يعد من أكثر المفاهيم الملغومة، نشير بداية، أن هناك تعدد واختلاف في وجهات النظر حول تحديده، مع أن عددا غير قليل من الباحثين اتفقوا في مضمونه؛ ويعتبر هذا الاختلاف طبيعي كنتيجة لاختلاف المدارس والاتجاهات التي ينتمي إليها هؤلاء الباحثين.
نتحدث عن الفساد الإداري عموما عندما يستغل موظفو الدولة موقع عملهم و صلاحياتهم للحصول على كسب غير مشروع أو منافع شخصية يتعذر تحقيقها بطرق مشروعة.
لكن صندوق النقد الدولي يعرف الفساد الإداري في تقريره الصادر عام 1996 بأنه " سوء استخدام السلطة العامة من أجل الحصول على مكسب خاص يتحقق حينما يتقبل الموظف الرشوة أو يطلبها أو يبتزها ."[5]
أما تعريف منظمة الشفافية العالمية فهو " إساءة استخدام السلطة العامة لتحقيق كسب شخصي."[6]
و جاء في موسوعة العلوم الاجتماعية تعريف الفساد الإداري بأنه :" استخدام النفوذ العام لتحقيق أرباح أو منافع خاصة بما في ذلك، كافة أنواع رشاوى المسؤولين المحليين أو الوطنيين أو السياسيين أو القضاء، ولكنه يستبعد الرشاوى التي تحدث في ما بين مؤسسات القطاع الخاص.[7]
الفساد الإداري و سوسيولوجيا الانحراف :
قبل الشروع في مناقشة السلوكات المنحرفة داخل المؤسسات العمومية وفقا لنظريات سوسيولوجيا الانحراف، تجدر الإشارة بداية، إلى أن هناك نزعة لدى الكثير من الناس نحو ربط الأنشطة الإجرامية و المنحرفة بالأوساط الفقيرة والمهمشة، غافلة عن مثيلاتها في الأوساط الميسورة، والتي قد تكون أكثر إجراما وخطورة، كما أن هناك فهم محدود لمفهوم الجريمة في المخيال الشعبي، بحيث يتم ربطه فقط بأنواع القتل و السرقة والاغتصاب... في حين يتم إغفال أنواع من الجرائم أكثر ضخامة وخطورة إذا تم تصنيفها بمعيار الضرر الاجتماعي، لأنها تهدد استقرار وتوازن المجتمع، وتعيق تقدمه نحو الأفضل، ونقصد هنا بالتحديد الرشوة والاختلاس ونهب المال العام، واستغلال النفوذ، والزبونية و المحسوبية ...، وهذا ما نجد صداه في الكثير من المنابر الإعلامية (كبرنامجي "أخطر المجرمين" و "مسرح الجريمة " نموذجا )[8] وكذا الشأن بالنسبة للصحف والجرائد المتتبعة للأحداث الإجرامية.
اختلف العلماء والمهتمون في تسمية هذه الجرائم والانحرافات باختلاف المدارس والتخصصات التي ينتمون إليها، فهناك من يسميها بالجرائم الاقتصادية وآخرون يسمونها بالفساد الإداري والمالي أو اقتصاد الريع وهناك من يطلق عليها اسم " الياقات البيض"، هذا المفهوم الأخير الذي تم نحته منذ أكثر من نصف قرن (1949) من طرف (Sutherland) ليصف مختلف الأنشطة الإجرامية التي تقوم بها الشرائح و القطاعات الأكثر رخاء في المجتمع، مثل التهرب من الضرائب و تزوير الوثائق وممارسات البيع غير القانونية ، والتلاعب بخدمات الائتمان المالية، والابتزاز و الرشوة والاختلاس ...[9]
ورغم تزايد الاهتمام بهذه الأنواع من الجرائم في السنين الأخيرة في المجتمعات النامية - كما وضحنا سابقا-، نؤكد في هذا الصدد أن المجتمعات المتقدمة كانت سباقة في تشخيص ودراسة مثل هذه الجرائم من جهة، ومكافحتها بوسائل وآليات أكثر تطورا من جهة أخرى؛ مستعينة بالإنجازات المهمة التي تقوم بها هيئات مختصة في هذا الشأن، تقول إحدى هذه الهيئات في إحدى تقاريرها، أن الكلفة المالية لهذا النوع من الأنشطة الإجرامية في الولايات المتحدة الأمريكية تفوق الأنشطة الإجرامية المعتادة مثل السطو وسرقة الممتلكات والسيارات ب أربعين مرة.[10]
وبحديثنا عن الجرائم والانحرافات الإدارية في المجتمع المغربي يستوجب علينا ـ كما أوضح السوسيولوجي المغربي عياد أبلال ـ استحضار طبيعة النسق الاجتماعي و السياسي و الثقافي والاقتصادي المميز لهذا البلد، إذ أن كل خلل في الأداء الوظيفي لنسق من الأنساق يؤثر على باقي الأنساق ومن ثم على المجتمع برمته، لتتكون –وفقا للمقاربة الوظيفية- شخصية المواطن الذي يدين إلى نسق الشخصية كنسق ناتج عن تكامل وتفاعل إسنادي لباقي الأنساق الأخرى التي أتينا على ذكرها.
والمهم في هذا السياق هو أن الخلل الوظيفي في هذه الأنساق قد أنتج مؤسسات عمومية تأخذ مقوماتها من الزبونية والمحسوبية و الرشوة ومختلف الأنشطة المنحرفة، مع اختلاف حدة استفحال هذه الأنشطة تبعا لخصوصية كل مؤسسة. أنشطة منحرفة بألوان مختلفة انبثقت بعد أن انتصر الجشع، وأصبح المال الهاجس الذي يسير طموح السواد الأعظم من الناس، وفي المقابل تقهقرت الأخلاق والقيم كركائز يعتمد عليها كل مجتمع لترسيخ مبادئ المواطنة الصالحة سواء لدى الموظفين العموميين أو لدى المرتفقين من الناس؛ فالمجتمع الذي ينطلق دون الاعتماد على القيم والمعايير، حتما سيتعثر في مساعيه نحو التقدم، لأنه أعرج في الأصل.
هكذا نكون وكما بين السوسيولوجي الأمريكي ( fravis hirschi) أمام مجتمع يصنع أفرادا منحرفين، لأن الروابط التي تشده بالأفراد الآخرين في المجتمع العام أصبحت ضعيفة و متآكلة، تعبر بشكل أو بآخر عن فشل مؤسسات التنشئة الاجتماعية من أسرة، و مدرسة، وإعلام ... عن أداء وظيفتها الأساسية التي تتمثل في تهيئ الفرد ليصبح مواطنا صالحا يحترم ويلتزم بقيم المجتمع ومعاييره.
وبالرجوع إلى نظرية (غابرييل تارد ) حول " التقليد " والتي تقوم على فكرة أن جميع أشكال السلوك- ومن ضمنها السلوكات المنحرفة- تتكون بتأثير أشخاص يعتبرون مثالا وقدوة للناشئة الذين يعملون على محاكاتهم في مختلف تصرفاتهم؛ لنكون أمام مراهق ترسخ في ذهنه، أن من هم في وضعية مادية ميسورة ليس هم المجدون الشرفاء، بل هم السماسرة في السياسة والاقتصاد، والناهبون للمال العام، وبالتالي فهذا المراهق لن يستطيع أي إنسان أن يقنعه بأن الجد والإخلاص والتحلي بالأخلاق الحسنة وتحكيم الضمير هو سبيل النجاح في هذا المجتمع، لأن الواقع الملموس يقول عكس ذلك.
إن هذه الجرائم والانحرافات التي نلاحظ ونسمع بها بشكل يومي في إداراتنا العمومية، غير مقبولة أخلاقيا من طرف معظم الناس، بل أحيانا حتى من طرف مرتكبيها، كما أنها محرمة بنصوص قانونية، مما يعني أن مثل هذه السلوكات قد تؤدي بمرتكبيها إلى السجن، إذن وفق هذه الجدلية التي تجمع بين حاجيات الفرد من جهة، وبين قيم ومعايير المجتمع من جهة ثانية، وبين المساطر القانونية من جهة ثالثة، يكون من المشروع أن نعيد طرح السؤال الذي قدمه ( موريس كوهن ) بالصيغة التالية: لماذا بعض الأفراد يختارون الوسائل الجانحة أكثر من الوسائل القانونية للوصول إلى غاياتهم؟
إن تسليط هذا السؤال على الواقع المغربي، يضعنا أمام مساءلة نقدية للقانون الجنائي، فنتساءل أولا عن مدى مواجهة هذا القانون لمثل هذه الجرائم بالعقوبات ومدى صرامتها، ونتساءل أيضا عن مدى التطبيق الفعلي والعادل لمثل هذه العقوبات، أي هل بالفعل تطبق؟ أم أنها تظل حبيسة الأوراق والخطابات الرسمية؟ وإن طبقت ألا تعرف التمييز بين مرتكب وآخر وإن اختلفت مكانتهما الاجتماعية وانتماؤهما الطبقي؟
هي أسئلة لا تنتج إجابات محددة، بل تتمخض لتلد أسئلة وإشكاليات أخرى؛ فنتساءل من جديد عن طبيعة الإجراءات الإدارية و القانونية التي يواجهها المواطن في قضاء مصالحه، هل هي سهلة التنفيذ في المدة وفي التكلفة المادية؟ أم أن الأمر بخلاف ذلك؟ لنصل إلى الوضعية التي ناقشها أصحاب نظرية " الفرص والمناسبات " والتي مفادها، أنه كلما كانت الفرص القانونية متاحة للفرد كلما كان نزوعه نحو اختيار نشاط جانح أقل، والعكس كلما كانت الفرص المنحرفة متاحة للفرد بشكل كبير كلما كان نزوعه نحو اختيار نشاط جانح أكثر من اختياره النشاط القانوني، وبتعبير آخر هل القانون الإداري المغربي يكفل للمرتفق سهولة أداء كل مصالحه الإدارية بطرق مشروعة؟ أم أنه وبتعبير (ميشيل كروزيه ) على العكس من ذلك، يخلق مواطن اللايقين داخل المؤسسات العمومية التي تشجع أحيانا وتدفع أحيانا أخرى بالمواطن - سواء كان موظفا أو مرتفقا- إلى اختيار الإجراءات المنحرفة عوض القانونية؟

خلاصة:
لطالما تغافلت الدولة المغربية جسامة استفحال الفساد الإداري، مساهمة بذلك في جعله من الطابوهات والمسكوت عنه، إلا أنها في الآونة الأخيرة أخذت على عاتقها التوجه العلني نحو مقاومة الفساد والنهوض بالشفافية على مستوى تدبير الشؤون المحلية، توجه واضح نظريا، لكنه محتشم حينا ومرتبك في أحايين كثيرة تفعيلا وممارسة.
لقد تبين لنا من خلال نتائج البحث، أن هناك استفحال خطير لأشكال الفساد الإداري؛ هذا الاستفحال الذي يقف عائقا أمام كل عمليات الإصلاح السياسي والاجتماعي والاقتصادي في بلدنا المغرب. لتصبح مهمة محاربة هذا الورم الخطير مسؤولية يتحملها المجتمع بكل ألوانه الثقافية وتوجهاته السياسية وأطيافه الإيديولوجية، بل إنه يستوجب على كل شخص من موقعه أن يحمل على عاتقه هذه المسؤولية الوطنية. لأن الفساد الإداري -وكما تم التطرق في التحليل- يعبر في جوهره عن ضعف في مؤسسات الدولة كانعكاس منطقي لضعف المراقبة والمحاسبة، وغياب استقلال القضاء، وتطبيق القانون، وتحقيق العدالة والمساواة، ومن وجهة نظر أخرى، فهو تعبير عن افتقار المجتمع المغربي للمعايير الأخلاقية والقيم الاجتماعية وروح المواطنة. افتقار يتجسد واقعيا في التحايل على القوانين واستغلال الأموال والممتلكات العامة بشتى الطرق والوسائل.
إن الفساد الإداري كما بينا سابقا يندرج ضمن قائمة القضايا التي أجمعت تقارير الخبراء والهيئات الوطنية والدولية على ضرورة معالجتها إذا أريد لعجلة التنمية أن تتقدم، لتكون محاربة الفساد بشتى ألوانه خطوة لا مناص منها لينفرج المجتمع من الأزمات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والمعرفية التي اعتادت التجول في سمائه باستمرار.
ووفق تقديرنا، نؤكد أن الشعارات الفارغة، ومغالطة الحقيقة الواقعية في درجة استفحال الفساد الإداري، والرهان على جوانب محددة دون أخرى للمعالجة، لن يزيد الوضع إلا تأزما؛ ولنأخذ العبرة من فقهاء الاقتصاد ونظرائهم في علم النفس، الذين يؤكدون أن أول خطوة لتجاوز الأزمة هي الاعتراف بحقيقة وجودها وبخطورتها، وبالتالي نكون في حاجة إلى تحويل مشكلة الفساد الإداري إلى قضية وطنية تهم كل أطراف المجتمع من حكومة ومجتمع مدني وقطاع خاص وجامعات ومدارس...وفق مقاربة تشاركية تجعل من التشاور والتشارك والمشاركة أهم مبادئها الفعلية.
وفي الختام نقول، إذا كانت كل هذه البهرجة الإعلامية، والدعايات الانتخابية، والمساطر القانونية، جندت من أجل الوقوف أمام الفساد المنتشر في البلد، أفلا يجدر بنا في الوقت الراهن، مع المستجدات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي يعرفها المغرب أن نعيد من جديد طرح الأسئلة التي قدمها سابقا كل من" بياتريس هيبو " و " محمد الطوزي " لنقول:
- كيف يمكن تأويل هذه المشاهد المختلفة من صراع ضد فساد أصبح اليوم جليا للعيان بل روتينيا ؟
- أنكون فعلا أمام قطيعة مبرمجة مع ممارسات الماضي ؟
- هل يتعلق الأمر بمنعطف حقيقي لمعالجة هذه الآفة ؟
- ألسنا أمام مجرد تمثيل أو مناورة تسخرها سلطة قائمة على الاستشراء وتبادل الخدمات والرشوة ؟ [11]
إذن هي أسئلة يصعب الحسم في الإجابة عنها هكذا بأفكار جاهزة، لأن السوسيولوجيا تعلمنا دائما أن الواقع والميدان هما منبعا الأحكام العلمية الرصينة، من هنا يستوجب علينا التحلي بالصبر والتريث قليلا قبل إصدار أي حكم مسبق، لنعطي الوقت الكافي لهذا الواقع الجديد الذي انبثقت عنه حكومة ودستور مختلفين كما قيل في البداية؛ فهل سيعبر عن حنكته في الإجابة عن مختلف الإشكاليات والرهانات التي تطفوا اليوم على السطح؟ أم أن شأنه شأن من سبقه، سيرجع بخفي حنين؟
المراجع المعتمدة:
•1. روبيرت كليتجارد، " السيطرة على الفساد "، ترجمة علي حسين حجاج ، مراجعة فاروق جرار، ص: 19.
•2. أحمد هاشم الصقال،" ظاهرة الفساد الإداري هل أصبحت جزء من ثقافة المجتمع"، ص:.5
•3. عمار عبد العزيز، "الفساد الإداري وطرق معالجته "، ص :19).
•4. في إطار الإجراءات الميدانية التي قمنا بها لجمع كل ما يرتبط بموضوع الدراسة، قمنا بزيارة الهيئة الوطنية لمحاربة الفساد، فرع الرباط التي مكنتنا من الحصول على مجموعة مهمة من الإحصاءات والبيانات الحديثة، بالإضافة إلى مجموعة من المراجع حول الفساد الإداري في المغرب.
•5." الدليل الإرشادي حول أدوات تشخيص الفساد الإداري"، برنامج المجتمع المدني العراقي، ص : 3، يونيو 2006.
•6. "الدليل الإرشادي حول أدوات تشخيص الفساد الإداري"، المرجع السابق، ص:4.
•7. الدليل الإرشادي حول أدوات تشخيص الفساد الإداري"، المرجع السابق، ص:4.
•8. برنامج "أخطر المجرمين" برنامج تلفزيوني في القناة الوطنية الثانية 2M، أما برنامج "مسرح الجريمة" في قناة "ميدي1 ".
•9. أنطوني غيدنز، علم الاجتماع،ترجمة فايز الصياغ، مركز دراسات الوحدة العربية للتوزيع،الطبعة الرابعة 2005. ص:297.
•10. أنطوني غيدنز، المرجع السابق، ص:298.
•11.بياتريس هيبو و محمد الطوزي ، مقال بعنوان : "نشر آليات مكافحة الفساد بالمغرب نحو إنشاء تعددية لأنماط الحكومة " ، في مجلة القانون والمجتمع ، 27 أبريل 2008 ، ص:3.



#عبد_الكريم_جندي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- رئيس الوزراء الأسترالي يصف إيلون ماسك بـ -الملياردير المتغطر ...
- إسبانيا تستأنف التحقيق في التجسس على ساستها ببرنامج إسرائيلي ...
- مصر ترد على تقرير أمريكي عن مناقشتها مع إسرائيل خططا عن اجتي ...
- بعد 200 يوم من الحرب على غزة.. كيف كسرت حماس هيبة الجيش الإس ...
- مقتل 4 أشخاص في هجوم أوكراني على مقاطعة زابوروجيه الروسية
- السفارة الروسية لدى لندن: المساعدات العسكرية البريطانية الجد ...
- الرئيس التونسي يستضيف نظيره الجزائري ورئيس المجلس الرئاسي ال ...
- إطلاق صافرات الإنذار في 5 مقاطعات أوكرانية
- ليبرمان منتقدا المسؤولين الإسرائيليين: إنه ليس عيد الحرية إن ...
- أمير قطر يصل إلى نيبال


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - عبد الكريم جندي - الفساد الإداري والتنمية في المغرب