أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أماني فؤاد - الشعرية والألعاب السردية في ديوان -تفكيك السعادة- للشاعر -مؤمن سمير-















المزيد.....


الشعرية والألعاب السردية في ديوان -تفكيك السعادة- للشاعر -مؤمن سمير-


أماني فؤاد

الحوار المتمدن-العدد: 4277 - 2013 / 11 / 16 - 01:19
المحور: الادب والفن
    


يقدم الشاعر "مؤمن سمير " (1) قراءة شعرية تفكيكية للسعادة ، ينفذ إليها ويقوض بنيتها الوهمية والنسبية الخاصة في شعرية لا تركن للمتواتر ، كما يناقش وجودها إن كان حقيقة أوبعضاً من أوهام خلقناها من مرواغة كبرى مع أنفسنا والعالم من حولنا، " في أمر رسمنا له بريقاً ً/ منذ طرقنا قطار الإحساس/ الحنين ...الحنين المجنون الذي قد يرسم أشياءً / ويضحك علينا غالباً./ لايهم .. هو طريقٌ والسلام." (ص27).
يبارى " مؤمن سمير" جاك ديردا "، يقرأ السعادة واضعاً إياها في إيهاب شعري رفيع المستوى الفني والفكري ، معنى مراوغ وضبابي وغائم وهائم ، يأخذه ويعدد زوايا النظر إليه ويتنوع بها، ليقتنص الشعرية عبر النفاذ في أحد قيم الإنسان وقضاياه وطموحاته الأكثر إلحاحاً وأملاً في القبض عليها.
وكما توفر التفكيكة لذاتها كل الصلاحيات لاستخدام مناهج وأساليب قراءة ودراسة متعددة ومتباينة وهي تمارس دورها في استراتيجية حرة ، يصنع الشاعر "مؤمن سمير" ذات الصنيع مع قصيدته ، لايضن عليها بأي طريقة أو نمط أو تقنية فنية وشعرية في كل المذاهب والتيارات الشعرية والفنية المتنوعة ، فهو يقدم نصاً طائراً متجولاً بين القديم والحديث بداخل النوع الشعري ، بين الشعر والفنون الأخرى ، رافضاً حصره بداخل وعي جمالي محدد .
منذ أن يتصدر الديوان قول ماركيز " بلسمي السم يا أماه.." استشعرت أن هناك حالة شعرية مفارقة ومغايرة لما هو متداول، إنها الشعرية التي تقتنص توهجها ومغايرتها من لحظات الموت البرزخية ، التي نرى فيها الأشياء على نحو آخر ، لحظات المواجهة مــع


(1) مؤمن سمير : تفكيك السعادة ، دار هافن للترجمة والنشر ، القاهرة ،2009م.
الحقائق عارية، خارجة عن خداع ترتيبنا لها على نحو ما ، دون أن تحصنها أوهامنا بمجال مخادع .
أدعوكم معي إلى البحث في أدراج مؤمن سمير الشعرية عن معول نافذ ومثابر ، يحمله دائماً ، يحطم به كل ما استقر من تقنيات أو أقانيم ، يقوض عامداً التقنيات الشعرية وسمات المذاهب والتيارات الفنية ليستحدث علاقات جديدة بين الأشياء، مفهوم للشعرية يستنطق العلاقات المتباعدة والغريبة بين الأشياء التي لا علاقة بينها خارج العين الشاعرة أو المخيلة الشعرية ، أظنه يرى مع " أرشبالد ماكليش" أن الأشياء التي لا علاقة بينها هي بالضبط ما يكون ذا معنى في الشعر (1) بداخل القصيدة عند مؤمن سمير يمكنك أن ترى أشياء الوجود التي لا يمكنها أن تجتمع ، تنصهر وتتجادل لتخلق وجوداً وشعرية مفارقة لما هو سائد ، يقول مؤمن سمير " تخرج مبكراً / ليتاح لك / نعيم الحديث مع السيارات. / وإذا كنت مرضياً عنك / قد تصل المسائل/ لعلاقة ما / مع سيارة ما / لن تشتري مثلها / ولن تتعامل مع أنثى / تشبهها في لمعان المشاعر / أبداً " (ص52،51).
الحديث مع السيارات ، علاقة ما مع سيارة ما ، لا وجود لأنثى تشبه لمعان السيارة في مشاعرها، علاقات جديدة بين أشياء متباعدة ، علاقات تحمل صفة المغايرة لكنها في ذات الوقت تشي بهذه المشاعر المادية الحسية اليائسة التي تقطر مرارة الوحدة والعجز، لكنها تحمل في مستواها العميق حجم الفراغ النفسي الذي تحياه الذات الشاعرة ، وعمق الوجع والمرارة التي تطالها الذات من المجتمع ، وما يفرضه قهراً من ظلم وافتقاد العدل والأمل في الغد.
يحقق الشاعر هذا الخوض في غير المألوف على مستوى القصيدة والصورة والكناية ، كما يحققه على مستوى بنيه ومعمار الديوان ذاته كما سأوضح لاحقاً.
يسيطر على الشاعر في هذا الديوان ارتياد مناطق شعرية غير مأهوله من خلال وضع الأشياء أو مفردات الشعرية في علاقات عن طريق الخيال الشعري، غرائبية ، مناطق ربما ارتادها الأخرون ، لكن على نحو مغاير فهو حين يتحدث عن أبجدية جديدة للحروف

(1) عبد العزيز موافي : الرؤية والعبارة ، المجلس الأعلى للثقافة ، القاهرة ، 2008 ، ص32.

يذكرنا بتلك الأبجدية التي اقتراحها " رامبو" ، يلتقط الشاعر الحروف ويعيد شحنها بدلالات وعلاقات أخرى تخصه وحده وتعبر عن وحدانيته الشعرية ، ورؤيته المتفردة لهذه الكيانات الأبجدية.
يشخص ويجسد المبدع الحروف في ذواتها، كما هي، دون أن تفارق طبيعتها فهو لا يؤنسنها، بل يجسدها على ما هي عليه ، في علاقات تقترب من المجازية ، لكن على نحو فكري خاص بتناول الذات الشاعرة للغة وحروفها في حالة دمج وجدل هذه الحروف بالعالم من حولها ، واتصور أن الشاعر قد أبدع فنياً وفكرياً في هذا التناول إنطلاقاً من أن اللغة هي العالم ، هي الإنسان الذي لا يعي العالم ويفكر فيه ويتخيله دونها، فاللغة والفكر وجهان لعملة واحدة يستحيل الفصل بينهما كما يؤكد " سكينر" زعيم المدرسة النفسية لتفسير اللغة الإنسانية ، يقول الشاعر :" الألف واللام / حرفان جلبا لنا وجع القلب ./ بسببها رافقتنا الخيبات / والحب والعدل والموت/ والسجن والقطارات والـ...والـ أرأيتم / كل ما جال بخاطري عالٍ وطويل./الملعونان لم يقتربا أبداً / من الفئران والتراب حرفان فوقيان عنصريان/ سنـثور ضدهما / بولاءاتنا التحتانية المُشْرقة / وسنقرر أن ننساها في البداية بهدوء." (ص18،17).
أقام الشاعر عوالمً للحروف صورت ودللت على المراحل الفكرية التي مرت على الذات الشاعرة فبعد أن كان الألف واللام الحرفان الفوقيان علامتان على القيم والمعاني النبيلة تحولا إلى خيبات هذا العصر الذي نحياه ، هذه الحروف التي كانت قريناً شرطياً للمعاني المتعالية لم توفر بيتاً كريماً أو عيشاً متحرراً رغداً أو شعوراً بالأمان والحرية ، لذا تغير النظرة لهذه الحروف يوحي بتغير مراحل تفكيره وتحولاتها.
لا يستسهل الشاعر في هذه الشعرية المناطق المأهولة المريحة ، بل يرمي نفسه ونصه في صحراء ذات رمال ناعمة ويتحسس طريقه إلى شعرية خاصة به ، أنه اختراع فعل شعري مغاير ، قد يصمد ليستشعره القارئ ، أو تبتلعه الرمال المتحركة.
يقول الشاعر عن حرف العين :" ..العين عرق وعلامات وعلم ..وكل ما يجثم فوق الصدر ." (ص20)، تبدو الألف واللام والسين والألف ثانية و الدال والتاء المربوطة "السادة" هي حروف فوقية عنصرية ديكتاتورية سيثور ضدها المبدع ليقرر ولادات جديدة، كلها حروف شكلها الشاعر لتعبر عن خيبة الأمل والسراب في الحياة والمعاني التي تدخل فيها وما شكلته في النهاية من مفردة " السادة" الذين أوقعونا في هذا الضياع، وهي التي تأتي تحت عنوان "الأسود" اللون القاتم ، لون الموت.
إن هذه العلاقات الفنية والتي تتغيا شعرية جديدة تذهب بنا حثيثاً ، دون صخب أو صوت خطابي جهوري إلى عودة الشعرية مرة أخرى- بعد سمات قصيدة ما بعد الحداثة- إلى العالم خارج الذات الشاعرة ، خارج النص ، لكنها عودة مغايرة ، معالجة الهم الاجتماعي بطريقة فنية معمارية شعرية مغايرة ، عوالم متداخلة من اللغة والفلسفة والمجتمع والإنسان والحكم والمعاني ، كل هذا يبعث حياة ما بالحروف ، يشحنها المبدع بهذه العوالم الحيوية التي تعني بالشأن الإنساني في علاقته بالشأن العام ، دون أن يؤنسنها أو يشخصها أو يضفي عليها حيوات غير حيواتها بالفعل ، وهو فعل اختراع هذه العلاقات المتجددة.
فنحن نلهث في هذا الديوان وراء سراب ، يلوح من بعيد ، ويُهيئ لنا أننا نراه ، وكلما اقتربنا تباعد وانقشع ، السعادة هذا المعنى الضبابي الهلامي ، المنطقة التي يتغيا هذا الديوان اقتناص علاقة شبحية معها ، علاقة حين يريد الشاعر مواجهتها بأن يضع لها تعريفاً أو حداً نجد على الدوام نقاط متراصة ومتوالية لفراغ لا تحتله سوى الأشباح التي تحتل خيالاتنا لفترات متباعدة أو متقاربة ، لا أهمية ، فالوجود ذاته يعادل العدم أو المحو الكامل، أو تلك الكائنات أو القيم التي لاتعرف لها كيان ، كأنها تحمل أعضاءً مراوغة ليس لها هيكل عظمي يجسدها.
يسعى الشاعر كي يقبض على هذا الكائن أو المعنى الخرافي المتآكل والمتغاير على الدوام أن يفكك هذا الكيان راجياً - إن استطاع - تفكيكه أو تفتيته لأجزاء صغيرة ، أن يتحسس علامات أو دلائل قد تشي بوجوده ، أو تفصح عنه.
هذا العنوان الذي يُوَجَّهُ نحو هذا السعي ، هو ما أوجد هذا البناء التركيبي للديوان ، والذي يقترب ويتشابه مع طريقة بناء الرواية أو البحث، وتعد ظاهرة السردية أعمدة من بناء الشعرية في هذا الديوان ، في حين يقترب من البحث أو الدراسة في ظاهرة التحليل إلى الجزئيات والمكونات التي أوجدها الشاعر لتعبر عن السعادة ، ما أعنيه بحث بالمفهوم الشعري ، إنهما الكيانان متداخلان، الرواية والبحث.
قسم الشاعر الديوان فصلا اول بعنوان " تهويمات الفرشاة التي لا ينقصها الإخلاص...عادة" وتأتي العنوانات المتوالية في ظلال ثنائية الأسود والأبيض وكأنه الرسم بالفحم، بالظلال بين عالمي الأسود والأبيض ، والفصل الثاني معنون " بالألوان أو هكذا نكون سعداء" التي يتوالى فيه عنوانات جانبية الأحمر ، الأخضر، التركواز ، السماوي ، نلاحظ هنا انتقالنا من التظليل بالأسود والأبيض إلى المرحلة الثانية التي تتلون بها الأشياء ، وحياة الذات البشرية.
يأتي الفصل الثالث بعنوان " بعد مرور أطنان من اللوحات ونحن نمضغ الوقت تحت المظلة" وفيه نلمس نوعاً من الانتحار المنظم الذي تمارسه الذات على نفسها ، نوعاً من رفض الوجود على هذا النحو المهين ، الوجود الذي نفتقد فيه كل المعاني والمفردات الجميلة التي تهب للحياة معانيها والتي يعددها الشاعر في جمل شعرية مبدعة ومتجددة ، كل منها تعبر عن تصور للسعادة كما يظنها الشاعر .
أرصد لهذا التشكيل المعماري للديوان اعتماد الشعرية مرة أخرى على هذه الكيانات المعمارية الشعرية المركبة التي تحمل تصور الشاعر الخاص عن معنى أو قيمة أو مفهوم أو شيء يريد البوح حوله ، هي ليست عودة إلى المجاز التركيبي الغامض والعنقودي ، لكنها تراكيب إقامة الكيانات المغايرة ذات العلاقات المستحدثة والغرائبية في كثير من الأحيان ، كما أنها تتمايز بهذه التداخلات التي لا تعرف لها حدوداً منضبطة كأنها أسطح وهمية لها قدرة الذوبان إحداها في الأخرى .
ويجب أن أشير هنا إلى أن هناك مغايرة مع تقنيات القصيدة ما بعد الحداثية التي تخلت عن العنوانات والتقسيم والكيانات المركبة ، كما أن هناك مغايرة أخرى مع سمات قصيدة تيار الحداثة فهي وإن كانت تضمنت بعض هذه التراكيب المعمارية في بعض منتجها ، إلا أنها لم تكن على هذا النحو من التداخلات والعلاقات الغرائبية التي تهدم كل يقين ، وتنداح فيما بينها دون حدود .
كما أن معمار الديوان التشكيلي على هذا النحو الذي يحيط بمعنى مراوغ ويكثف الشعرية حوله يعيد إلى الأذهان الذات الشاعرة القادرة على الفعل وتحديد كيانات بطريقة مفتوحة، لأنها في ذاتها لاتقبل التحديد مثل مفهوم" السعادة" .
ما يعنيني أن أشير إليه إن تلك الذات قادرة أن تشكل رؤية اتسمت بالمرواغة أو بالبينية ، ولذا يأتي التشكيل مراوغاً وبينياً واحتمالياً، تشكيل مفتوح يحتمل بدائل متعددة للعنوانات وزوايا المعالجة والمداخل المختلفة لتراكيب لغوية مجازية أو تقريرية متنوعة، يقول الشاعر واضعاً السعادة في جمل شعرية احتمالية :"....يوم تنسى الأبواب / أن تخلق الغرباء يوم تكون قلوبنا قالباً طرياً/ للمفاتيح الضالة يوم نسبح داخل اللوحة/ ولا نلوثها.."(ص82).
سرد الراوي المسرحي:
تخرج شعرية هذا الديوان من طقس سردي ذي طبيعة خاصة ، أتصوره له طبيعة المزج بين أداء القص والأداء المسرحي الذي يتمثل في بعض الاستطرادات ، والجمل الاستعراضية التي تصاحبها بعض الحركات التجسدية ، كأن الذات الشاعرة تقف فوق خشبة مسرح وسط مجموعة من الأصدقاء أو المتفرجين والمستمعين وتحادثهم عبر المفردات والعبارات التي من شأنها أن تجسد الحدث الذي تفرض طبيعته المجردة والتي تسكن في السريرة البشرية أن يلجأ الشاعر إلى التشخيص والتجسيد باستعارة هذه التقنية من طريقة الأداء على المسرح:" تعالوا لنحكي عن السعادة نحكي قليلاً أجل، السعادة يا أصدقاء صدقوني / الأمر يستحق بجد/ أن نترك مشاعرنا إلى جانبنا على المقعد .." (ص15).
هذا الأداء المسرحي الذي يشبه وجود راوٍ معلقاً على أحداث المسرحية وأحداثها ، يظهر ويوحي أن هناك حركات باليدين ، أو إيماءات بالرأس ، وحركة " الميزانسية " فوق المسرح وهكذا يصبح الأداء المسرحي سمة في فقرات عديدة من الديوان يقول الشاعر : "لنركز جهودنا في الحدوتة الأخرى / التي رأيناها كثيراً في الأفلام ./ أن بنتاً - سخيف جداً هذا الكلام ، لكن لنواصل -.." (ص57،56)، كأن هناك حواراًً قائماً بين مجموعة من البشر ، أو "حكواتي " وجمهور من الأصدقاء ولذا تأتي الجمل الشعرية تميل إلى الحكي في مستواه الأقرب إلى اللغة الثالثة والأقرب إلى اللغة العامية دون التقيد الصارم بضوابط الفصحى مثل قوله :" ..احترت والله / واحتار دليلي /. الدليل / أقصد الأدلة ...نعم ...الأدلة / ولم لا . تاهت ولقيناها.." (ص33).
أعود وأذكر أن الشاعر يبحث عن معنى وقيمة مراوغة هلامية ، ذات طبيعة مجردة ،ويبدو الأسلوب التجسيدي والتبسيطي الذي يعتمد على نقل مفردات الحوارات العادية قد يسهم في الوصول إلى حالة من التماس معها.
هنا يجب أن أشير أن هناك قدراً مناسباً من تردد هذه التعبيرات السردية التي توحي بالحكي التجسيدي ، في ظني أنها لوزادت لفقدت الشعرية كثافتها وشأبها بعض التصنع.
كما أن هذا الأداء شبه المسرحي من شأنه أن يحقق عودة الشاعر إلى نصه ، عودة شهوده من مسافة بعيدة ، دون خوض حقيقي ومقارب وممتزج ، هذه العودة لا تشبه طغيان الذات الشاعرة ونبوءتها وتنبؤها أو قدراتها على التعبير في قصيدة تيار الحداثة ، فهي تعلن عدم قدرتها على تحديد أي شيء ، لكنها أيضاً موجودة، ولا تلبث أن تطل من آن إلى آخر في مشهد غير ذي قيمة عالية ، لكنها تعلن وجودها يقول الشاعر :" أنا وصديقي / نصنع كلاماً / لنسمعنا / ونرسل الضحكات / كلما سنحت الظروف / لضعفنا الأجمل / من الطيور / والصور.." (ص37).
مستوى التفاعل والتأثير الذي تحلم به هذه الذات الشاعرة لا يتعدى سواها وصديقها فهما يصنعان كلاماً لنسمعنا ،وجود متقزم محدود ، لكنه يبقى وجوداً وصوتاً يتحرك بالهواء، وهو أيضاً لا يتشابه مع النفي والهروب واليأس التام والتهميش المتعمد الذي مارسته الذات الشاعرة في قصيدة ما بعد الحداثة مع دورها في القصيدة والمجتمع والعالم من حولها ، لقد وقعت ذات ما بعد الحداثة في مأزق غريب ، ندت عن نفيها لذاتها للحظات، وأطلت من القصيدة من وراء الأشياء والمفردات الحياتية الصغيرة ، عادت ومارست محوها لذاتها في ردة نافية يائسة ، وساخرة من كل وجود.
وبرغم المرارة وروح اليأس بالهم الشعري إلا أن الأمل لا يفارق الشاعر بل تغلبه روح الفعل ويستحث متلقيه القدرة عليه يقول :" السعادة – صديقتنا الماكرة- قد تكون / في إزالة الجلد السميك الذي أعمانا / طويلاً. سنوات ونحن نصدق ./ فلنخلق نحنْ / نحنُ ...للمرة الأولى " (ص23). يشير الشاعر في أسطر شعرية مكثفة إلى التخريب المتراكم الذي طال الشخصية والذات المصرية ، يقول :" اللعبة زرعوها فينا / وماتوا فغرسنا فيها أسناننا.." (ص21).
يفتح المبدع البوابات الخيالية المسحورة ويرسمها لينفذ منها من خلال السرد تارة والخيال تارة أخرى، ليحكي لنا رؤيته الشعرية لبعض مظاهر الحياة من حولنا.
" كيف تكونت سحابة في هذا العالم ؟" يخلق الشاعر لسرديته الشعرية الشخوص والحيوانات والحدث والمفارقة ، كل هذه التقنيات تخدم فكرة جوهرية تعتمد على أن الإنسان بهذا العالم واقع تحت مخدرٍ كبير وقوي.
تلك العلاقات الشعرية المتداخلة مع الأنواع الأدبية الأخرى ، والتي تنشد أيضاً علاقات مغايرة ومتداخلة بين كل عناصر الشعرية ، من لغة وتجربة وخيال هي ما يقامر بها مؤمن سمير ؛ ليرسخ خصوصية قصيدته ، يقول معلقاً على العلاقات التي يقيمها بقصيدته ليفسر ظواهر الوجود :" هل دخل الكلام عقولكم / بما يليق / بصيرورة الواحد من صاحب فاس!!/ فاس نحطم بها ملابس الأشياء / ونذوق الجوهر المخفي. الأمر/ كلهُ / خدعةٌ /كبرى.." (ص27).
كأن حدسي قد صدق في أول الدراسة تحدثت عن معول بيد الشاعر ، وإذا بالمبدع يحدثنا عن فأسه الذي يحطم به الأشياء ؛ ليتذوق جوهرها الذي تخفيه أقنعة بالية تحجب الخيال أن ينطلق.
هذه السردية تطال المجاز وتضفي عليه بعض ظلالها ، يقول الشاعر :" التعب زاد كثيراً / والمرارة لم تعد تصدق / اننا مللنا طعمها الاستعاري / في الفم والحلق / ورائحتها /التي تحيط بالذكريات مثل شرنقة ." (ص15). السارد الشاعر هنا يبدأ بتعبير مجازي وهو أن للمرارة طعماً استعارياً ثم ينمي ويطور مجازه ، مثل قوله أن للمرارة أيضاً رائحة ، هذه الرائحة التي تصل بالحبكة والذروة معها إلى أوجها ، حين تحيط بالذكريات ، بالماضي كما سيطرت على الحاضر ، مثل شرنقة ، مستعيناً بتشبيه يعضد الاستعارات المتوالية .
كأننا بصدد ما يمكن أن أسميه تصنيع المجاز بروح السرد وتقنياته .
يقدر الشاعر للمجاز وزنه وفاعلياته في القصيدة ، وفي ابتكار اللغة وتخليقها وتوهجها ، لذا فهو لا يفتأ يوشي جمله الشعرية بمجازات بكر مبدعة ، لها صفة الطزاجة والغرائبية ، يقول مصوراً حالات السعادة :" يوم تدوم طعم القبلة في الهواء ولمسة المشاعر في طيور الشرفة / ورائحة الرقصة في الممر " (ص76).
يرسم الشاعر بالكلمات مجازات جزئية ، تلتقط المشاع بالأشياء وتجعلها ذات كيانات روحية مفارقة لماديتها.
ويتعامل المبدع مع المجاز المركب في قوله بعد سرديته عن علاقات عائلية :" أنت في القلب من كل هذا من روائح البخور / التي تغادر عيونهم كل صباح./ من هدوء دوله اليقين" (ص63)، يعلي الشاعر من شأن الشك والاحتمالية والتوتر والقلق ويسخر من اليقين ، ويلمح بحالة هروب ينتظرها ليصنع مفارقة شعرية وجودية .
ويتعامل الشاعر مع تقنية أنسنة الأشياء والمعاني في قوله مجسداً الموسيقى ومضيفاً عليها صفات البشر " أصابك الرضا / وكنت من المحاسيب / الذين ترعى الموسيقى شئونهم / بحنان أقوى .." (ص65) ، لكنها أنسنة خاصة تصنعها قريحة " مؤمن سمير " وحده فهو لا يلبث أن يتحدث عن الموسيقى بطريقة أخرى تجعلها تفارق إنسايتها ليصور لها كيان آخر يقول :" هي تعلمك كل فترة / أن هذا لن يحدث أبداً / كيلا ينطق أي مهووس / ويقول إنها ساحرة تخديرية .." (ص65)
برغم إشارة الشاعر في شهادته التي نشرتها " مجلة الهلال" (1) إلى المأزق الذي وقعت فيه قصيدة النثر ما بعد الحداثية ، وكونها قد راكمت مجموعة من القيم الثابتة المتكلسة، مثل التفاصيل اليومية الحياتية البسيطة ، والتركيز على الهامشي والمعيش ، إلا أنه لم يحرم نصه وخطابه الشعري الذي يقدمه ، من أي من التقنيات الفنية ، وتصبح القضية الأساسية لدينا كيف يتعامل مع هذه الأشياء التي يراها قد تكلست ليجعلها في حالة نبض وحيوية؟ ويقدم حينها شعرية مغايرة ، يقول في تصوره عن الحالات التي يمكن أن توفر السعادة : "يوم يرسل لنا / ولو على سبيل الخطأ/ أصحاب فيلا آخر الشارع / طبق (عاشوراء).." (ص77)، وقوله :" يوم يكون الكحول صديقاً / للكبد الطيب / والتبغ أخاً للرئة/ والعيون تنسى...الغرقيوم نسترد لعنتنا / من الجيران الأنذال / ونطبق على أنفاسها/ فلا يرموننا بها كل صباح يوم يصطفينا الإيقاع . يوم نَلُمُّ ملامحنا من على المقاهي
(1) مجلة الهلال : مؤمن سمير ، اللعب مع الكبار ، عدد مارس 2009م، ص174 :180.
. يوم نرمي من مسامنا / أطفالاً غير مشوهين/ بنا..."(ص74،73).
يتخير الشاعر بعناية التفاصيل اليومية والهامشية ويلتقط فيهما الزوايا غير المتداولة، هذا على المستوى الأول ، ثم يأتي لعبه على المستوى الثاني وهو الذي يميز عمله ، هذا الضفر والجدل الذي يصنعه بين التفاصيل اليومية والهامشي وإدخالهما في علاقات وتكوينات مجازية لغوية تزيدها أبعاداً شعرية وفكرية وتضفي عليهما وهجاً خاصاً.
تبقى ملاحظة أود الإشارة إليها وهي أن الخطاب الشعري الذي يقدمه مؤمن سمير بحاجة إلى متلق نخبوي ، قادر على إطلاق خياله وثقافته ليستوعب هذه التقنيات الشعرية في الفكر والتشكيل معاً.



#أماني_فؤاد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- جدلية الانفصال والاتصال في المجموعة القصصية -سوق الجمعة - لل ...
- ومضات ثقافية ..2013 م
- كفى ..شهر زاد!؟
- أن تخط اسمه كاملا..- قصة قصيرة-
- - أدهم يحي - قصة قصيرة
- بعد وقت ..
- مصر وقانون التظاهر
- مكرونة فيوتشيني
- قطعة ..من الشيفون الكناري
- سرد المنفلت في مجموعة -عفاريت الراديو- لمحمد خير
- يوسف الشاروني ..الخصوصية المصرية
- محددات المشهد المصري قبل 30 يونيو 2013 م
- - مجهول- أحدث روايات -يوسف القعيد-
- هدنة مع ..الانتخابات البرلمانية
- مؤامرة علي الثقافة المصرية
- الفصحي ..وطبيعة التجربة في ديوان -ما زلت اسألها الوصال- للشا ...
- نقاد -موسم الهجرة للشمال - للروائي -الطيب صالح-
- حيادية السرد وعرية في رواية -عصافير النيل -للروائي -إبراهيم ...
- الحداثة تساؤل مستمر عند الناقد والمفكر -شكري عياد-
- جدلية الواقع والفن في المجموعة القصصية - الكراسي الموسيقية- ...


المزيد.....




- “بتخلي العيال تنعنش وتفرفش” .. تردد قناة وناسة كيدز وكيفية ا ...
- خرائط وأطالس.. الرحالة أوليا جلبي والتأليف العثماني في الجغر ...
- الإعلان الثاني جديد.. مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 الموسم ا ...
- الرئيس الايراني يصل إلي العاصمة الثقافية الباكستانية -لاهور- ...
- الإسكندرية تستعيد مجدها التليد
- على الهواء.. فنانة مصرية شهيرة توجه نداء استغاثة لرئاسة مجلس ...
- الشاعر ومترجمه.. من يعبر عن ذات الآخر؟
- “جميع ترددات قنوات النايل سات 2024” أفلام ومسلسلات وبرامج ور ...
- فنانة لبنانية شهيرة تتبرع بفساتينها من أجل فقراء مصر
- بجودة عالية الدقة: تردد قناة روتانا سينما 2024 Rotana Cinema ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أماني فؤاد - الشعرية والألعاب السردية في ديوان -تفكيك السعادة- للشاعر -مؤمن سمير-