أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - إبراهيم الحسيني - يناير وتجديد مصر ( الفصل الأول )















المزيد.....



يناير وتجديد مصر ( الفصل الأول )


إبراهيم الحسيني

الحوار المتمدن-العدد: 4274 - 2013 / 11 / 13 - 09:11
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
    


يناير و تجديد مصر
" إن العالم كله يرهب الزمان
لكن الزمان نفسه يرهب الأهرام "
مثل مصري


بدلا من المقدمة :
إن الذي ينبغي أن يحكم بالعدل
قد أمسى سارقا .
والذي ينبغي أن يقضي الحاجات للناس
قد أنزل العوز بالناس .
والذي ينبغي أن يستأصل الشرور
أصبح يرتكب المظالم .
والذي ينبغي أن يبين سبيل القانون
صار يأمر بالسرقة .
إن كبار الموظفين لصوص وقطاع طرق ،
فمن ذا يبيد المظالم إذا استحل حامي العدالة
أن يميل كل الميل .
إنك كصاحب السفينة
الذي لا يحمل إلا من يعطيه أجر الركوب .
أنت تعيش بين الناس
بغريزة الصقر الذي يفترس ضعاف الطير .
إنك كالطباخ متعته أن يذبح الطير ،
دون أن يؤاخذ بما ذبح منها .
إنك كمدينة لا حاكم لها ،
وجماعة لا سيد لها ،
وسفينة لا ربان فيها ،
وعصبة لا قائد لها .
إنك كالحارس الذي يسرق ،
والحاكم الذي ينهب
من شكاوى الفلاح الفصيح



الفصل الأول

الديمقراطية
والبحر والنهر والصحراء


ـ 1 ـ
من الضروري ، في البداية ، حتى لا يلتبس الأمر ، أو يسود سوء الفهم ، التأكيد على أن هذه الدراسة لا تخاصم ولا تعادي ولا تسعى لنفي نمط الإنتاج النهري النيلي ، فالنيل روح مصر ، أداة ونمط إنتاجها السائد طوال حقب التاريخ ، الذي شكلها على ضفتيه ، لبى احتياجاتها المادية والروحية ، الغذاء والكساء والمسكن ، الاحتفالات والأعياد والسمر ، الأساطير والحواديت والشعر ، الأغنيات والمأثورات والأمثال الشعبية ، صنع حضارتها وعلومها ، صاغ ملامحها ، ووجدان فلاحيها في القرى ، وحكامها في الحواضر والمدن والعواصم ، ولولاه ما اجتمع المصريون ، ولا كانت مصر ، ولا كانت سلة غلال الإمبراطوريات المتعاقبة من الفارسية حتى العثمانية وما بينهما ، ولا كانت مزرعة القطن لمصانع لانكشير في الإمبراطورية البريطانية ، النيل يسري في عروق البشر ماءا ودماء ، وحين تدعو هذه الدراسة إلى الأخذ بنمط الإنتاج البحري والصحراوي ، هي تضع نصب أعينها ما أنجزته الثورة الصناعية والتكنولوجية من قدرة على استخراج كنوز البحر والصحراء ، وهي لا تستبدل هذا بذاك ، بل تدعو إلى التوسع ، وترى ضرورة الخروج من الأنبوب الضيق الذي اختنقنا وخنقنا الغزاة والطغاة فيه ، وأن تتعدد وتتكامل أنماط الإنتاج ، جنبا إلى جنب ، تتفاعل وتمتد إلى كل ربوع مصر ، فالثورة الصناعية ومن بعدها التكنولوجية والمعلوماتية ، استحدثت إمكانيات وفتحت آفاقا رحبة لتعدد أنماط الإنتاج وتنوعها ، النهر والبحر والصحراء زراعة وصناعة وتعدينا وصيدا وسياحة ، جيولوجيا وتكنولوجيا وأتمته ومعلوماتية وعلوم فضاء وهندسة وراثية واستشعار عن بعد ، فكرا وفنا وأدبا ، من أفريقيا النهر والصحراء الغربية والشرقية ، وسيناء والبحر الأحمر من آسيا ، ومن أوربا البحر المتوسط ، جغرافيا مصر متعددة ، وجيولوجيا متنوعة ، ونظامها السياسي ظل معظم التاريخ نهري مركزي مستبد ، حاكم " إله أو ابن إله !! " ينظم ماء النهر ويحوز سلطات مطلقة ، يسلب حرية البشر ، ويسخر قوة عملهم ، وإذا كان نمط الإنتاج النهري قد حال ـ تاريخيا ـ بين مصر والديمقراطية ، فسيادة الاستعمار معظم تاريخ مصر ، حال هو أيضا بين مصر والديمقراطية ، الاستعمار بكل صنوفه وأشكاله وألوانه ، الغزو الآسيوي الصحراوي الرعوي البدوي ، والغزو الأوربي من أعالي البحار الصيدي الصناعي ، وليست هذه الدراسة أول دراسة تتناول هذا الموضوع ، ولا يمكن أن تزعم لنفسها هذا ، هي ليست دراسة في التاريخ وإن عادت إليه تستلهمه وتسترشد به ، وليست في الجغرافيا وإن اقتربت منها ، ولا في الجيولوجيا وإن ذهبت إلى طبقاتها الأرضية ، ولا في علوم البحار وإن مضت على شواطئه وتلاطمت مع أمواجه ، هي ليست كل ما سبق ، وهي كل ما سبق ، ربما تكون في علم المستقبليات ، علم الاستنباط والاحتمالات ، علم ارتياد المجهول وفق قراءة موضوعية لما تكشف عنه الطبيعة وتتجلى ، دراسة ربما تلفت النظر ـ مجرد تلفت النظر ـ إلى تحدي جديد وطرائق معيشة جديدة ، متغيرة ومتعددة ، تحاول رسم خريطة عمرانية جديدة لمصر ، تخرج بها إلى الصحراء ، تخرج بها إلى البحر ، خريطة ذات ملامح جنينية لبناء مستقبل عصري وحديث ، فمصر عروس النيل ، متحف البشرية ، وطبقاته الحضارية التي تراكمت عبر القرون ، تستقى مادتها من الحضارة النيلية ، ريفية ومدنية ، شكلها عمل الإنسان ، الذي أقام مصر " إن هبات النيل كهبات الطبيعة سواء بسواء ، طائشة عمياء ، إذا ما تركت بلا ضبط ، تدمر كل شيء ، وتخلف مستنقعات الملاريا الوبيلة ، والإنسان وحده هو الذي يستطيع أن يجعل من هذه الهبة نعمة لا نقمة " ( 1 ) ويتميز الإنسان دون سائر الكائنات الحية ، أنه يكيف الطبيعة ويعيد تشكيلها وفق احتياجاته المتجددة ، المادية والروحية : آداب ـ ديانات ملاحم أساطير شعر مسرح سير روايات قصص ـ وفنون ـ رسم ونحت تصوير وموسيقى ـ الخ وقد كان هذا ما نهض به الإنسان في مصر " فمصر هبة المصريين " . ( 2 )
استجاب المصريون لتحدي الجفاف ، بتغيير مواطنهم ، بمغادرة المرتفعات الآخذة في الجفاف إلى مستنقعات الأحراش ، وتهذيبها أسفل الوادي ، وتغيير طرائق معيشتهم . ( 3 ) ولكن وفق نظام اجتماعي ثابت يقوم على ضبط النيل ، وحكومة مركزية ذات قبضة حديدية ، ومصر الآن في حاجة إلى بشر موهوبين ، يمتلكون القدرة علي التخيل والجرأة والمبادرة ، واستلهام التجارب البشرية بتنوعها وغناها ، يهضمون تجارب التاريخ والخبرات الإنسانية ، يقودون شعبها إلى مغامرة كبرى ، ويتطلعون للكشف عن آفاق للنمو والتوسع خارج شريط النيل ، في البحر والصحراء ، وتحدي الخلق والتكوين والنهضة والعمران .
منذ فجر التاريخ ظلت مصر وظل المصريون يصارعون النهر ، حين يجف وحين يفيض ، لترويضه والسيطرة عليه وتحديد مساراته ، آلاف السنين وهم على ضفتي النهر يقاومون الفيضان والجفاف ببناء السدود والجسور وشق الترع والقنوات والرياحين ، وأخضعوا طيش الطبيعة ، نزق ونزوات النيل ، حتى أتمت مصر التحكم في مائه فيضانا وجفافا ، بإنشاء القناطر وخزان أسوان ومعركة مصر الكبرى والحاسمة ببناء السد العالي ، ولم تعد عشش الطبقات الدنيا تقام على ضفتي النيل ، أصبحت المباني الشاهقة ـ العمارات والأبراج ـ والفيلات ، سكنى الطبقات العليا والمتوسطة تقام على ضفتيه ، دون خوف من غمر الفيضان أو تشققات الجفاف ، لكن الطبيعة أيضا تفعل فعلها فيه ، فالإنسان ـ جماعات وأفراد ـ كما يؤثر في الطبيعة يتأثر بها بيئة ومناخا وتربة ، بحارا وأنهارا وبحيرات ، صحراء وجبالا وسهولا وهضاب ، أودية وغابات وأحراش ، هو جزء منها ، يتلبس شكلها ، ويأخذ ملامحها ، والإنسان في مصر يمتلك تاريخا يسكنه ويتنفسه ، تاريخه مع النهر والحكومات المركزية المستبدة ـ وللأسف ـ ظل يجهله ، ويتجاهله الحكام ، لإعادة نمط الإنتاج النهري الزراعي الخراجي ، الذي مكن الحكام والكهنة رقاب الأرض والبشر والطير والحيوان والشجر ، إلى أن استخرجت الحملة الفرنسية ، ونجحت في كشف آثار مصر القديمة ، أحجاره المنقوشة ، وبردياته المخطوطة وتحفه الفنية والعلمية ، وفتحت باب العلم لبحثه ودراسته ، وليس على الأرض قاطبة علم تسمى ببلده إلا علم المصريات . ( 4 )
ولقد سبق تناول هذا الموضوع ، تصدى للدراسة العديد من المفكرين والمؤرخين والعلماء والباحثين ، ممن لهم مكانة مرموقة في العلوم الإنسانية والطبيعية : د جمال حمدان في ملحمته الموسوعية شخصية مصر ، ود حسين مؤنس في مصر ورسالتها ، وصبحي وحيدة في أصول المسألة المصرية ، وشفيق غربال في تكوين مصر ، د طه حسين ومستقبل الثقافة في مصر ، ورحلات السندباد حسين فوزي ، ود رشدي سعيد عالم الجيولوجيا في كتابه عن النيل ، وكتابه الحقيقة والوهم ، ود فاروق الباز عالم الفضاء .. الخ .
وهذه الدراسة تحاول أن تواصل عمل هؤلاء الكتاب والعلماء ، الكتابة على الصخر والرمل والتراب والهواء والماء ، تتأمل قسمات مشاريعهم ، تقيم حوارا مع أبحاثهم وأفكارهم ، وتنظم المشترك بين تلك الأفكار والقسمات والمشروعات ، تضرب بعمق في تاريخ مصر الحديث ، لتلتقط هذه الدراسة ، خيط النهضة والعمران ، خيط التوسع والبناء ، وتؤكد على إمكانية مد هذا الخيط على استقامته ، فمصر اغتنت بالمفكرين والعلماء والأدباء والفنانين والقادة الوطنيين النابهين ، والعلاقات الدولية ، والعمال المؤهلين ، والتكنولوجيا العصرية .
وكانت مصر وكان المصريون من أوائل الأمم إن لم تكن أول أمة تروض الأرض وتعرف الزراعة وأدوات الإنتاج الزراعي الفأس والمحراث والشادوف الخ ، قاد المصريون أول ثورة طبيعية في التاريخ ـ الثورة الزراعية ـ لقد انتقلت بالبشرية من عصر الالتقاط إلى عصر الإنتاج ، وتأسست أولى دول وحضارات التاريخ



ـ 2 ـ
لقد آن أوان تعمير مصر ، كل مصر ، دلتاها .. واديها .. صحاريها ، مياهها الإقليمية ، النهرية والبحرية ، صراع جديد مع الرمل والبحر ، مع الطبيعة ، مع الزمن والمسافة ، مع الاستبداد والشمولية والطغيان ، مع النهب والاستغلال والاستئثار والتفاوت ، صراع صار ضرورة ، وتحدي جديد ، مسألة حياة أو موت ، لقد اختنقت مصر على ضفتي النيل ، اختنقت بما فيها على من فيها ، ضاقت في الشريط النهري الطولي من الجنوب للشمال ، وتلوثت مدنها بالدخان والغبار والرصاص والعوادم الخ ، وحوصرت بأحزمة الفقر والعشوائيات وفجوة التفاوت والبطالة التي تتراكم وتبلغ ذرا مخيفة ، وتتعدد هيكلية واحتكاكية وموسمية . ( 5 )
" مصر هبة النيل " حكمة صاغها الحكيم هيكاتيوس ونقلها عنه المؤرخ اليوناني هيرودوت ثم سادت إلى الآن ، (6) فالنيل إذا فاض عاليا : يدمر القرى ، ويشرد الناس ، وإذا انخفض أو غاض الفيضان شحت المياه وضربت المجاعة البلاد ، وانتشرت الأوبئة والموت واضطر الناس إلى أكل الحمير والكلاب والقطط ( 7 ) ، وإذا اعتدل الفيضان تزرع الأرض ويجنى المحصول ويسود البلاد الاستقرار والهدوء والسعادة والسلام ، لقد علم النيل المصريين الكتابة على الحجر وأوراق البردي والجلود والألواح الخشبية والحساب والقانون والدين والحكمة ـ حابي إله النيل وماعت إله العدالة وحتحوت إله الحكمة ـ ( 8) والفلك معبدي دندرة وإسنا ، وتأسست أولى النظم السياسية والحكومات المركزية ، وشيدت في مصر أولى الحضارات الإنسانية ، وقامت الدولة بمهام تنظيم الري وإدارة شبكته وصيانتها ومراقبة فيضانه وقياس منسوبه ، وتجسدت دائما على قمة البناء الفوقي للجماعة المصرية ، للمشتركات الفلاحية وعلى رأس هذه الدولة ملك أو فرعون يحوز سلطة مطلقة ، ترتكن عليه الدولة حتى أدنى موظف ، وفي المقابل استبدت وملك حكامها الأرض ، وطغت ، استبدادا شرقيا فريدا ، ( 9 ) أكسب المصريين خصائص سلبية ـ تجاوزتها ثورة يناير 2011 ـ مازالت بقاياها معهم ، على الرغم من المحاولات البطيئة والمتعثرة لولوج الحداثة سياسيا واقتصاديا ـ فبقدر نفوذ الحكومة المركزية على إدارة الزراعة يكون نفوذها على الأهالي ( 10 ) وظلت العلاقة كما يقول جمال حمدان ، بين الحاكم والمحكوم تقليديا : قهر ومقت ، إكراه وكره ، استبداد وحقد ، فلم تعرف مصر طبقة حاكمة وراثية ، عرفت العصابة الحاكمة عصبة مغتصبة شرعيتها من القوة غير الشرعية ، وإن كانت مصر الطبيعية حديقة لا غابة ، فهي بشريا غابة لا حديقة ، وإن كانت زراعيا مزرعة لا مرعى ، فبشريا مرعى لا مزرعة ، الريبة والعداوة هي العلاقة بين الحكومة والشعب ، وفي العادة حاكمها أكبر أعدائها ، الطغيان والاستبداد الشرقي هو القاعدة ، ولم تعرف الثورات بل عرفت الانقلابات العسكرية ، وظلت مجتمع يحكمه العسكر ، الجيش يحكم لا يحارب إلا ما ندر ، ووظيفة الشعب التبعية لا الحكم واتسمت الشخصية المصرية : بالتدين والمحافظة والاعتدال والواقعية التي تصل إلى السلبية ، تندرج من الموجب إلى السالب ، غير ثوري ، غير مجدد ، تتميز بالصبر والجلد والدأب والتحمل ، مقيم على القديم والتراث والتقاليد والموروثات ، مطيع ، ساخر ، يكره السلطة ويخشاها ، يتجنب الصدام ويتحاشاه ، يؤثر السلامة على المواجهة ، والسلام على الحرب ، سلبي إزاء قهر الحكام وطغيان الحكومات ، شخصية لا تعرف كراهية الأجانب ولا أقامت حاجزا لونيا في تاريخها ، ( 11) النيل الذي صنع الحياة وألهم مصر الحضارة ، صنع وصاغ أيضا العقلية والنفسية والأخلاق المصرية ، وطبعهم بطابعه .. وهو ما تجاوزته ثورة يناير 2011 : أزالت الخوف وأسقطت الحاكم الإله
ـ 3 ـ
لقد انتقلت مصر ، عبر تاريخها ، من حكومة الحكام الآلهة إلى حكومة الآلهة السماوية ( 12) وهي تنتقل ـ من بدايات القرن التاسع عشر ـ إلى حكومة العقل البشري ، ببطء ولكن باستمرار ، العناصر الأساسية للمجتمع المصري لم يطرأ عليها أي تغير جذري قبل منتصف القرن التاسع عشر ( 13) وهو ما يميزها ، ويشكل ملمحا من ملامحها ، من حكومات الآلهة إلى حكومات الإنسان ، من نظم المطلق إلى نظم النسبي ، من رابطة الدين إلى رابطة الوطن ثم رابطة الطبقة ورابطة النوع ، على أثر زعزعة نابليون بونابرت الحكم المملوكي العثماني ، وإدخاله عناصر من إستراتيجية الثورة الفرنسية مصر ، بما فيها التقسيم الإداري ، وتقسيمها 16 مديرية " محافظة " ، ويعيد محمد علي عند اعتلاءه أريكة حكم مصر ، وخروج الحملة الفرنسية ، التقسيم الإداري 14 مديرية " محافظة " ( 14) وكل مديرية عدة مراكز ، صارت الآن 27 محافظة " القاهرة الجيزة الإسكندرية السويس الإسماعيلية بور سعيد دمياط الدقهلية الشرقية القليوبية البحيرة كفر الشيخ الغربية المنوفية قنا المنيا الفيوم بني سويف سوهاج مطروح الوادي الجديد البحر الأحمر الأقصر أسوان شمال سيناء وجنوب سيناء ، تتمتع بشخصية اعتبارية و217 مدينة و4617 قرية ، ( 15) أربعة عشر محافظة أضيفت إلى مصر خلال مائتي سنة تقريبا ، من بداية تحول التكوين المصري من نمط الإنتاج الخراجي النهري إلى نمط الإنتاج الرأسمالي الدولي ، في مقابل أربعة عشر محافظة منذ آلاف السنين ، منذ مينا موحد القطرين وإسكندرية الإسكندر وفسطاط عمرو والقاهرة الفاطمية ، ثورة عمرانية ، وثورة سكانية ، كما يقول جمال حمدان ( 16 ) ، منذ بدأت مصر الانتقال من نمط الإنتاج الفلاحي الخراجي إلى نمط الإنتاج الصناعي التكنولوجي الحديث ـ وهذه مقارنة يجب أن نتوقف عندها كثيرا ـ تضاعفت إقليميا مرة ، وسكانيا مرات ومرات ، لكن معظمها على الشريط النيلي الضيق ، توسعت توسعا رأسيا طوليا ، يتجاهل إلى حد كبير التوسع الأفقي العرضي ( 17 ) ، توسعت في المدن ، وتوسعت بالمدن ، لقد ناء الوادي بحمله من البشر ، حتى أن القاهرة إن لم تكن أكثف ـ فهي من أكثف ـ عواصم ومدن العالم ازدحاما بالسكان . ( 18 )
ومصر حكاما ومحكومين التي تقع في قلب العالم ، وتلتقي عندها القارات القديمة ، تمتد في أفريقيا وآسيا .. وتطل على أوربا ، لم تهتم بالبحر والمياه المالحة ، البحر الأبيض والأحمر ، وثرواته نباتية وتعدينية وسمكية .. وثقافة البحر : المغامرة والشجاعة واقتحام المجهول ومواجهة العواصف والأعاصير والرياح .. إلا نادرا ، ومن المعلوم أن البحار والمحيطات والأنهار والبحيرات ، المياه ، مساحتها أكبر وأغنى من اليابس على ظهر الكوكب ، لقد ولت مصر شطر النهر ، وتجاهلت ـ وما تزال ـ البحر الذي يطل ويربطها بأوربا وأسيا وأفريقيا ، ولم تهتم بالصحراء وثرواتها ورمالها وثقافتها ، وهي ما تربطها بآسيا ، وتشرف على خليجي السويس والعقبة ، موقع فريد يندر ، بلد غني بالبحار والبحيرات :
البحر المتوسط يطل على أوربا ، ويصلها بآسيا وأفريقيا ، والبحر الأحمر يربط مصر بسيناء وحدودها الشرقية بآسيا وبلاد الجزيرة العربية ، وأحد عشرة بحيرة : إدكو والبرلس ومريوط والبردويل والمنزلة وقارون وبور فؤاد والريان وناصر ومفيض توشكي والمرة والتمساح . ( 19 )
بلد غني بالصحراء شرقية وغربية ، والتقسيم الإداري الذي نحن بصدده ونستهدفه ، ينظر بعين الاعتبار لهذا التقسيم الأفقي دون الرأسي ، للخروج من نفق التاريخ ، من إعادة إنتاج التخلف ، من كارثة البطالة والزحام والتزاحم والتلوث ، القاهرة أكثر مدن العالم ازدحاما ، ومن أكثر المدن تلوثا ، وبالتحديد ، في جنوبها حلوان ، وشمالها شبرا الخيمة .

ـ 4 ـ
الصحراء

مصر بلد غني بالرمال :
يكمن في باطن الأرض المصرية الصحراوية كنوز وثروات من المعادن فائقة ، يمكن أن تنشأ عليها صناعات عصرية عديدة وتكنولوجيا حديثة ، تنقلها نقلة نوعية ، تصفها في مصاف الدول والأمم المتقدمة ، تتصدى لمشكلات مصر وأزماتها التنموية المزمنة ، فقط ، علينا التحلي بالشجاعة وقوة الإرادة ، واتخاذ القرار ، وجعل لكل محافظة ظهير صحراوي ، حي ومتفاعل يستقبل البشر ـ قوة العمل ورءوس الأموال ـ بالتخطيط لإنشاء المدن والصناعات وشبكة الطرق والمواصلات وخلق وتشجيع عقلية ونفسية المغامر والغازي التي تميز سكان الصحاري ، وقد كان لصناعة التعدين في الدول المتقدمة دور كبير في نموها وتطور صناعتها وتحسين مستوى المعيشة لمواطنيها والحد من بطالة قوة عملها ، وما تحويه وتخفيه الصحراء المصرية من ثروات تعدينية : البترول والذهب الحديد ورواسبه المنجنيز التيتانيوم القصدير التنجستين النحاس الكروم الفوسفات التلك الباريت الجبس الكوارتز الكاولين أملاح الصوديوم والبوتاسيوم رمل الزجاج الأحجار الكريمة الفلسبار أحجار الزينة الجرانيت الرخام الحجر الجيري البريشيا الأباستر ( 20 ) ، لو وظفت واستثمرت في إطار مشروع مخطط وعلمي ، لانتقلت مصر نقلة حضارية وكيفية جديدة ، مشروع يستنهض العقول والهمم ، تملك مصر مقوماته : الطبيعية ، صحراء مترامية متعددة متباينة السمات والقسمات ، فالتباين التضاريسي سمة في الصحراء المصرية ، وبشره : علماء وباحثين وقوة عمل ينهضون بهذه المجتمعات العمرانية الجديدة ، ويعيد توزيع خريطة السكان المنفجرة في القاهرة والمدن القديمة .
68% الصحراء الغربية و28% الصحراء الشرقية 96% مجموع الصحراء المصرية التي يندر فيها البشر والسكان ، ( 21 ) صحراء غير مأهولة ، رغم غناها بالثروات المعدنية والإمكانات الصناعية وآفاق النمو والتقدم وتعظيم الثروة ، فقط ، القرار والإرادة السياسية والشعبية ، 96% من البشر يعيشون على 4% فقط من الأراضي في الوادي والدلتا ، تحتاج مصر الآن إلى خريطة جديدة ، وتقسيم إداري جديد ، وليس ذلك من قبيل الترف بل صار ضرورة ، للانفجار السكاني والبطالة والتلوث ، والانتقال من نمط الإنتاج الريعي الكولونيالي إلى نمط الإنتاج الصناعي والتكنولوجي ، والانتقال من طغيان الاستبداد الشرقي إلى واحة الديمقراطية ، الديمقراطية كمنظومة اجتماعية ، ديمقراطية تقر حق الاختلاف والتعدد والتباين والتداول ، ديمقراطية تمتد إلى أبنية وأنساق وهياكل المجتمع وثرواته وشراينه ، وهذا ما سنتناوله لاحقا .



الصحراء الغربية :

تبلغ الصحراء الغربية680 ألف كيلو متر 68% من مساحة مصر ، تمتد من وادي النيل شرقا حتى الحدود الليبية غربا ، ومن البحر المتوسط شمالا حتى الحدود الجنوبية ، وتنقسم نصفين شمالي وجنوبي ، الشمالي يشمل السهل الساحلي والهضبة الشمالية والمنخفضات العظمى : واحة سيوه ومنخفض القطارة ووادي النطرون والواحات البحرية . والجنوبي يشمل واحات الفرافرة والخارجة والداخلة والعوينات أقصى الجنوب ، ( 22 ) ويقترح د ـ رشدي سعيد ، تخفيف العبء عن الوادي ، بتعمير الصحراء بالمصانع ونقل الكتلة السكانية إلى الساحل الشمالي " نحن نحتاج مشروعا قوميا ضخما لنقل المصانع للصحراء ، على تخوم البحر الأبيض في الشمال الغربي " والبحر الأحمر في الجنوب الشرقي " أو على الأقل إقامة كل المصانع الجديدة في الصحراء وفقا لتخطيط جديد يتفادى الأخطاء الموجودة في الوادي ، ونترك الوادي للزراعة التي تتآكل رقعتها " ويشرح مشروعه لتحويل وادي النيل ، الذي يمكن مصر من مواجهة مخاطر المجاعة الغذائية والفقر المائي الذي يهددنا مستقبلا ، تعمير الصحراء الشاسعة بربطها بوادي النيل القديم : شمال الصحراء الغربية ومنخفض القطارة وواحة سيوه جنوبا ، وذلك لاعتدال مناخها وانبساط أراضيها ووجود مصادر للطاقة بها مثل الغاز الطبيعي‏ ,‏ وأيضا مياه البحر المتوسط التي يمكن استخدامها في الكثير من الصناعات للتبريد‏ والتحلية للزراعة ,‏ علي أن يتم ربط هذه المنطقة بشبكة جيدة من المواصلات والاتصالات‏ ,‏ جزء كبير منها متوافر حاليا‏ ,‏ وهناك ضرورتان الآن ، ضرورة لإنشاء طريق جديد بموازاة النيل وبعيد عنه جدا في الغرب ، حيث توجد هضبة مستوية ومائلة من الجنوب للشمال ، تخلو من الوديان ، ولا تهطل عليها سهول ، وليس بها كثبان رملية ، طريق بري ـ سكك حديد قطارات وسيارات ـ لا تعوقه الرمال ولا السيول ، وطريق مائي بأنبوب لا يبخر ولا يسرب ، يتلوه بناء المشاريع والمدن ، طريق سيقودنا إلى بناء مدن وأقاليم وموانئ ، ويتم نقل كل المصانع القديمة المقامة بوادي النيل إليها‏ ,‏ بالإضافة إلي إنشاء أضعافها من المصانع الجديدة‏,‏ والتي سوف تستوعب عشرات الملايين من العاملين فيها وأسرهم‏,‏ فضلا عن قيام مئات الصناعات المغذية والوسيطة والخدمات الأخرى لهذه المصانع الكبرى ‏,‏ ( 23 ) وضرورة لتشجيع وتقديم الحوافز ، لإعادة توزيع السكان والعمل ، تشجيع الاستثمار والمبادرة الجماعية والفردية ، بطول السواحل وعمق الصحراء ، ويمكن تزويد سكان المنطقة بأنبوب مياه عذبة يمتد من النيل‏ ,‏ مع استخدام المياه الجوفية في الصحراء داخل هذه الواحات الصناعية‏,‏ وبهذا يتحول وادي النيل القديم إلي محمية طبيعية زراعية‏,‏ وتتحول الصحراء إلي واحة صناعية ضخمة ‏,‏ تكون نواة لمشروع قومي ضخم يمكن أن يجمع الإرادات وتلتف حوله الأمة .
إن وضع هذا المشروع في خطة تنفيذية ، وما يتبعه من آثار اجتماعية ونفسية واقتصادية يحتاج إلى دراسات ومناقشات مستفيضة ، نجند فيها مفكرينا وكتابنا كاسحة ثقافية تكسح ما بقى من ثقافة الريع والتواكل ، تنفض التراب عن جذورنا الحضارية التي روضت النيل ، بالدأب والجلد والمثابرة ، ومواجهة الغزاة والمحتلين والكهنة والطغاة ، ونجند علماءنا للبحث في تخطيط الطرق والمدن والأقاليم ، لتفادي المشاكل التي تعاني منها مدننا القديمة ، العشوائية والأحياء الهامشية والفوضى المعمارية ، ونجند مهندسينا لدراسة أفضل طرق البناء التي تستطيع أن تعطي للفقراء ومتوسطي الدخول مسكنا صالحا رخيصا وجميلا في أن واحد .
ومصر لديها موقع حاكم ـ موقع القلب ـ بين ثلاث قارات ، وتاريخ عريق في ثرائه وتراثه ، وامتداد مكاني هائل ، ومعظم مصادر الطاقة ، وبشر يتسمون بالسماحة ، يحترمون العمل والنظام والحياة المدنية وقد قام د ـ فاروق الباز مع زملاء له في جامعة عين شمس ومركزي أبحاث الفضاء والصحراء وهيئة المساحة الجيولوجية ، بعمل دراسات وأبحاث بالصور والأقمار الصناعية والمعاينة ، التقطت أنماطها ، وكشفت عنها اللثام ، ويقول " ينهض تاريخ مصر العظيم نتيجة لوجود طريق مميز ، النيل ، يربط الدولة من أولها لأخرها ، من الشمال للجنوب ، وبالعكس ، تسير فيه الناس ، تسير فيه الحكومة ، تسير فيه المواد الأولية والسلع ، الانتقال للشمال مع الماء ، والانتقال للجنوب مع الهواء ، وتقوم أدلة وشواهد كثيرة في الصحراء الغربية على وجود نظم تصريف مائية قديمة " ( 24) و إن لم يكن لديها كل مصادر الطاقة ، فبيئتها البحرية والصحراوية والنهرية غنية بمعظم مصادر الطاقة ، المائية والكهربائية والبترولية والغاز الطبيعي والطاقة الشمسية واحتمالات عالية للطاقة النووية السلمية



الصحراء الشرقية:

الصحراء الشرقية 225 ألف كيلو متر 28 % من مساحة مصر ، تشمل سيناء ، تمتد بين وادي النيل غربا ، والبحر الأحمر وخليج وقناة السويس شرقا ، وبحيرة المنزلة على البحر المتوسط شمالا حتى السودان جنوبا ، ويميز الصحراء الشرقية وجود مرتفعات جبلية تطل على البحر الأحمر ، يصل 3000 قدم فوق سطح البحر ، وهذه الصحراء متنوعة جيولوجيا وتضاريسيا ، كنز ومخزن للموارد الطبيعية من الخامات والمعادن ، هي منطقة الإنتاج التعديني الرئيسية في مصر: ذهب .. فحم .. بترول .. حديد .. رصاص .. نحاس الخ ، وللتركيب الجيولوجي دور كبير في تفعيل استخراج الثروات المعدنية وقيام المراكز العمرانية والأحجار والصخور بللورية ـ نارية أو متحولة ـ ورسوبية ، والشعاب المرجانية ، ونظم تصريف مائية ، أودية النطاق الهضبي ـ الجيرية والرملية ـ والأودية الغورية ، ( 25 ) وعموما موارد المياه في الصحراء الشرقية أقل من الصحراء الغربية سواء الناتجة عن الأمطار أو المياه الجوفية ، لكن ربط الوادي بالساحل عند الموقع البحري الشرقي للصحراء الشرقية مدعاة لقيام العديد من المراكز العمرانية ، وقد انتبه لذلك الفراعنة والبطالسة والرومانيون وميناء برينس على البحر الأحمر أنشأه بطليموس الثاني محطة تجارية ، ( 26 ) وإعادة حفر قناة جديدة ، تشق الرمال لتربط النيل بالبحر الأحمر ، يمكن أن تخلق وادي جديد أو دلتا جديدة، مدن وأقاليم وموانئ. ( 27 )



سـيـنـاء البوابة الشرقية :

أرض الأنبياء والفيروز ..
أرض المعارك :
سين إله القمر عند الفراعنة ، يضئ طريق حورس الممتد من قناة السويس غربا حتى رفح على الحدود الفلسطينية ، ( 28 ) طريق الغزاة الهكسوس الأشوريون الفرس الإغريق الرومان العرب التتار الصليبين وأخيرا الصهاينة ، والمحررين من أحمس وتحتمس .. إلى بواسل أكتوبر الخ
61 ألف كيلو متر 6% من مساحة مصر ، امتداد للصحراء الشرقية ، على شكل هضبة مثلثة ، في الشتاء دافئة ، وفي الصيف حارة ، قاعدتها شمالا على البحر المتوسط ، رأسها جنوبا في رأس محمد وشرقا خليج العقبة وخليج وقناة السويس غربا ، والتضاريس في سيناء ثلاثة أقسام : جنوبية وعرة صلبة ، جبال جرانيتية شاهقة تضم جبال سانت كاترين أعلى قمة جبلية في مصر ، والوسطى هضبة التيه تنحدر أوديتها صوب البحر المتوسط تدريجيا ، والقسم الشمالي محصور شمالا بين البحر المتوسط وهضبة التيه جنوبا ، أرض منبسطة وسهلية غنية بأمطار تنحدر من المرتفعات الجنوبية والهضبات الوسطى ، تستأثر بحوالي 30 % من سواحل مصر ، 700 كيلو من 2400 كيلو ، والتربة صحراوية فقيرة في المواد العضوية ومنخفضة في الخصوبة الطينية ، صالحة إلى حد كبير لاستقبال الصناعات والمصايد والموانئ والملاحة ، وكثافة السكان قليلة ومحدودة ، في السهل الساحلي الشمالي والسهل الساحلي على طول خليج السويس ، وبالتحديد سيناء الجنوبية ، ( 29 ) تأتي في ذيل قائمة توزيع السكان في مصر ، أما الشمالية تشهد نموا سكانيا مرتفع نسبيا ، غنية بالبترول والمعادن الفلزية واللافلزية والثروات البحرية السمكية والنباتية والتعدينية والشعاب المرجانية في البحرين والقناة .

ـ 5 ـ
الـبـحــر
البحر زمن الحرب والسلم صاحب الكلمة والسلطان ، في أرجائه وبين أمواجه : يتقرر مصير الأمم والدول ، هو حاجز طبيعي ضد العدوان ، وإنذار مبكر لمخاطر الغزو ، وطريق التعاون والتبادل والتجارة وسياحة المصايف ، ووسيلة الدول للسيطرة على البحار هي القوة البحرية .. الأساطيل . ( 30 )
ومصر تطل على بحرين ، البحر المتوسط ، يربطها بأوربا وآسيا وأفريقيا ، يمتد ساحله 46 ألف كيلو متر ، يبلغ عمقه 5000 متر ، يضم حوالي عشرة آلاف نوع متنوعين بيولوجيا ، بعضها لا يوجد إلا في المتوسط ، غـني بالأعشاب والأسماك والجبال والرمال البحرية والمناطق السياحية والبترول والمعادن ، نهضت على شواطئه حضارات عريقة ، وثقافيا تناقل البشر ملحمتي هوميروس الإلياذة والأوديسة والسير الشعبية ، ( 31 ) والبحر الأحمر أو بحر القلزم ( 32 ) كما كان يسمى قديما أو البحر الفرعوني عند بن جبير ، ( 33 ) يمتد شمالا حتى يصل سيناء ويربط مصر الأفريقية بمصر الأسيوية ، وربطه الفراعنة بالنيل عبر قناة شقت رمال الصحراء الشرقية ، غني كما المتوسط بالأسماك واللافقاريات والمرجان والأحجار الكريمة ، وأيضا تحوي مصر أحد عشر بحيرة ، بمثابة مصدر هام من مصادر تنمية الثروة السمكية ، البلطي والاستاكوزا ، باختصار ، ليس من المجازفة القول : ماء الأرض أغنى من يابسها ، والماء ثلثي الأرض ، ورغم هذا ، شعبها نباتي نيلي وليس من أكلة الأسماك ، فوجبة السمك ثقيلة على جيوب بعض شرائح الطبقة الوسطى ، ناهيك عن الطبقات الدنيا ومحدودي ومعدومي الدخل ، لم يعد البحر يتوقف على مهنة الصيد فقط ، بل دخلت الصناعات الحديثة ، من عصر الثورة البخارية إلي الثورة التكنولوجية ، البحار والمحيطات ، من صناعة السفن والبواخر والغواصات إلي صناعة كاسحات الجليد وصناعة الأسماك المملحة وغيرها من الصناعات البحرية الغذائية والتعدينية ، وقد شهدت مصر ـ فترات نادرة ـ اهتماما بالبحر ، دائما ما كانت مرتبطة بالنهضة والانجازات الكبيرة في مصر ، ولنتأمل هذه اللحظات أو السويعات التي تقدمت فيها مصر إلي البحر أسطولا وتجارة ، سلما وحربا ، لقد عثر علماء الحملة الفرنسية على مفتاح الحضارة المصرية القديمة ، وعرف محمد على سر النيل الأعظم بوصول حملاته إلى هضاب الحبشة ، ( 34 ) وصار بإمكاننا منذ بواكير القرن التاسع عشر معرفة تاريخنا ، ففي العصر الفرعوني كانت لمصر حضارة وسيادة عندما تتوحد وتتجه للبحر بجوار النهر ، ونلمس هذا مع الأسرة الثانية عشر التي أسسها الملك " أمنمحات الأول " وكانت تقيم علاقات تجارية مع فينيقيا ، يتبادلون الزيوت والنبيذ وأخشاب الأرز والذهب وورق البردي ومنتجات معدنية ، وكان البحر الأحمر وطرقه والسفن المصرية الأداة الأساسية إلى بلاد بونت الصومالية لتسويق منتجات وادي النيل والحصول على العطور الأفريقية ، وأبحر الأسطول العسكري المصري إلى ليبيا وشمال أفريقيا ، وبذلت جهود نجحت في مد النفوذ المصري إلى بلاد الشام سوريا وفلسطين ، وتغلغل نفوذ المصريين في بلاد أوجاريت وكريت وجزر بحر أيجة وبلاد اليونان ، ( 35 ) وفي ذات الوقت الذي يجري الاهتمام بالبحر نلحظ اهتمام الأسرة الثانية عشر بالصحراء ، تنشط صناعة التعدين في مناجم النحاس بسيناء ومحاجر وادي الحمامات فيما بين النيل والبحر الأحمر ، ثم إذ ننتقل إلى تحتمس الثالث ـ مؤسس العصر الذهبي أعظم حاكم مصري على مر التاريخ وصاحب أول إمبراطورية في التاريخ الأسرة الثامنة عشر ( 36 ) ـ البحر والأسطول هما القاسم المشترك طوال فترة حكمه وغزواته التي شملت وسادت كل آسيا الصغرى حتى الفرات شمالا ، وكسب لمصر إمبراطورية مترامية الأطراف أعالي النيل جنوبا وليبيا غربا .
يقول د حسين مؤنس في " مصر ورسالتها " : استمرت مصر تحمل مسئولياتها عن حضارة البحر المتوسط حتى الفتح العربي وفترة طويلة خلاله . ( 37 )
ويكتب عمرو بن العاص إلى خليفته : إني فتحت مدينة لا أقدر أن أصف ما فيها .
كانت الإسكندرية هذه المدينة . ( 38 )
ويقول مروان بن محمد " أخر خليفة أموي " : مصر هي أكثر بلاد الأرض مالا وخيرا ورجالا. ( 39 )
ومنذ الغزو الفارسي بقيادة قمبيز 525 ق م ، التي غرقت جيوشه في بحر رمال الصحراء الغربية ، حتى حكم محمد على 1805 ب م ، ومصر خاضعة للاحتلال الأجنبي ، لم تعرف الحكم الوطني من الفارسي لليوناني للروماني للعثماني والبريطاني ، أطول مستعمرة في التاريخ ، والغزاة يحرصون على نهب ثروات مصر الزراعية ، والاستبداد بشعبها من خلال خنقه في الزراعة بالدلتا والوادي، دون البحر الذي يشكل المغامر الجسور ، هل يفرط الصياد في صيده ، لقد جابه الموت لأجله ، فهل يخشى الحكام ؟! ، ودون الصحراء التي لا تعرف الاستقرار والحدود ، بل انتقال دائم ورحيل دائم وهو ما يسمونه بالفتح ، وزرع الاستعمار ثقافة الخضوع والخنوع والذل في وجدانه والميل إلى السلام الذي يصل حد التفريط والاستسلام ، متجاهلين بحور وبحيرات مصر وصحاريها .
لم تقم الدولة المصرية الحديثة إلا بادراك محمد على قيمة البحر والأسطول في النهضة الحديثة ، أنشأ الترسانة البحرية في الإسكندرية وترسانة بالسويس وترسانة أخرى نيلية على ساحل بولاق تجارية وعسكرية ، بقوة عمل من 5000 إلى 6000 عامل ، كان يدير هذه الترسانة المهندس الفرنسي " دي سويزي " وشيد مدرسة لفنون البحر وتنظيم الورش البحرية ، وبني ترسانة في الخرطوم ، وأولى محمد على اهتماما خاصا بالبحر الأحمر ، وحاول أن يجعل منه بحيرة مصرية ، لكونه أقصر الطرق للشرق ، بضمه السودان وأعالي النيل ، ( 40 ) وكان الأسطول المصري يجوب البحر المتوسط والأحمر ، وقد استعان الخليفة العثماني بالأسطول المصري في الحملة على انتفاضات المستعمرات العثمانية ـ البلاد الحجازية والمهداوية في السودان وجزيرة كريت والبلاد اليونانية ، كان الأسطول المصري يجوب مياه بحري الأحمر والأبيض ، حتى تحالفت عليه القوى الاستعمارية بمعاونة الخليفة العثماني ودمرت الأسطول في معركة نفارين .


ـ 6 ـ
سوء توزيع السكان
سبق لنا القول أن مصر تضاعفت ـ في القرنين الماضيين ـ إقليميا مرة ، ونضيف وزراعيا ، بالري الدائم ، تضاعفت مرة ، ( 41 ) وليس من المجازفة القول أن مصر تضاعفت سكانيا خمسة عشر مرة ، حتى تحولت من بلد مصدرة إلى بلد مستوردة للحبوب والمحاصيل ، بلد تمسك البطالة بخناقه ، بلد يتزاحم مواطنيه في 5% من رقعته ، 78مليونا و733 ألفا و641 نسمة ، عدد سكان مصر حتى أول مايو 2008 ، في إطار المقارنة بين المواليد والوفيات خلال الفترة اللاحقة للتعداد ، وكان نهاية ديسمبر 2006 قد بلغ 76 مليونا و699 ألفا و427 نسمة ، توزع السكان بين 91ر56 % للحضر و09ر43 % للريف . تتصدر القاهرة تعداد السكان 20% تليها محافظة الشرقية ثم في المركز الثالث الدقهلية ، وتأتي محافظتي الوادي الجديد وجنوب سيناء في ذيل الترتيب ، ( 42 ) بقراءة هذه الأرقام يتضح : أن تعبير انفجار سكاني المتداول غير دقيق ، كما أن تعبير تكدس سكاني أيضا غير دقيق فهو نتيجة ، الأدق تعبير سوء توزيع سكاني ، كثافة سكانية حول ضفتي النيل مدن وأرياف ، وندرة سكانية في الصحراء ، حتى الري الدائم استخدم فقط في التوسع الرأسي دون التوسع الأفقي . ( 43 )




المراجع :
1 ـ د ـ محمد شفيق غربال ، تكوين مصر الهيئة المصرية للكتاب .
2 ـ المرجع السابق
3 ـ المرجع السابق
4 ـ ج . ستيندورف . ك . سيل . ترجمة : محمد العزب موسى ، عندما حكمت مصر الشرق . مكتبة مدبولي .
5 ـ د ـ رمزي زكي ، الاقتصاد السياسي للبطالة . عالم المعرفة .
6 ـ عندما حكمت مصر الشرق . مرجع سابق .
7 ـ . المقريزي ، المجاعات في مصر. دار الكتب .
8 ـ حكماء وادي النيل . كتاب اليوم .
9 ـ. د ـ جمال حمدان ، شخصية مصر. دار الهلال .
10 ـ . رفاعة الطهطاوي مناهج الألباب.
11 ـ د ـ جمال حمدان ، شخصية مصر.
12 ـ . فوزي الأخناوي ، مصر الفرعونية. دار الثقافة الجديدة .
13 ـ المرجع السابق .
14 ـ المرجع السابق .
15 ـ الجهاز القومي للتعبئة والإحصاء .
16 مرجع سابق رقم (11) .
17 ـ مرجع سابق رقم (11) .
18 ـ مرجع سابق رقم (11) .
19 ـ هيئة الاستعلامات .
20 ـ هيئة الاستعلامات .
21 ـ الجهاز القومي للتعبئة والإحصاء .
22 ـ هيئة الاستعلامات .
23 ـ . د ـ رشدي سعيد .مقال: الحقيقة والوهم ،المصري اليوم.
24 ـ د ـ فاروق الباز . حوار قناة الجزيرة .
25 ـ . محمد صبري ، الصحراء الشرقية. دار النهضة العربية .
26 ـ. د ـ إبراهيم نمير وآخرين مصر في العصور القديمة. مكتبة مدبولي .
27 ـ الصحراء الشرقية . مرجع سابق .
28 ـ د ـ نعمات أحمد فؤاد شخصية مصر . . الهيئة المصرية للكتاب .
29 ـ محمد صبري شبه جزيرة سيناء .. دار النهضة العربية .
30 . د ـ عبد العاطي غنيم ، سياسة مصر في البحر الأحمر . الهيئة المصرية للكتاب .
31 ـ مرجع سابق رقم (28 ) .
32 ـ مرجع سابق رقم (30) .
33 ـ سيرة بن جبير .
34 ـ مرجع سابق رقم (30 ).
35 ـ مرجع سابق رقم (4) .
36 ـ المرجع السابق .
37 ـ . د ـ حسين مؤنس ، مصر ورسالتها .
38 ـ مرجع سابق رقم (28 ).
39 ـ المرجع السابق .
40 ـ مرجع سابق رقم (30 ) .
41 ـ مرجع سابق رقم (11) .
42 ـ الجهاز القومي للتعبئة والإحصاء .
43 ـ مرجع سابق رقم (11) .



#إبراهيم_الحسيني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الحكومة الثورية مهمة ملحة
- 25 يناير وتحرير الدولة
- أتيليه القاهرة على صفيح ساخن
- أطياف ماركس وأشباه هتلر
- قصة قصيرة
- الفران والكلب - قصة قصيرة -
- جدي
- لسان النار
- غروب - قصة قصيرة -
- فرح - قصة قصيرة -
- القوس -قصة قصيرة -
- سفر - قصة قصيرة -
- النخلة - قصة قصيرة -
- العائلة - قصة قصيرة -
- لهو
- أفخاخ - نصوص -
- فالس - قصة قصيرة -
- النهار الذي غاب
- جلسة ليست عائلية - قصة قصيرة -
- الحدود - قصة قصيرة -


المزيد.....




- فيديو لرجل محاصر داخل سيارة مشتعلة.. شاهد كيف أنقذته قطعة صغ ...
- تصريحات بايدن المثيرة للجدل حول -أكلة لحوم البشر- تواجه انتق ...
- السعودية.. مقطع فيديو لشخص -يسيء للذات الإلهية- يثير غضبا وا ...
- الصين تحث الولايات المتحدة على وقف -التواطؤ العسكري- مع تايو ...
- بارجة حربية تابعة للتحالف الأمريكي تسقط صاروخا أطلقه الحوثيو ...
- شاهد.. طلاب جامعة كولومبيا يستقبلون رئيس مجلس النواب الأمريك ...
- دونيتسك.. فريق RT يرافق مروحيات قتالية
- مواجهات بين قوات التحالف الأميركي والحوثيين في البحر الأحمر ...
- قصف جوي استهدف شاحنة للمحروقات قرب بعلبك في شرق لبنان
- مسؤول بارز في -حماس-: مستعدون لإلقاء السلاح بحال إنشاء دولة ...


المزيد.....

- كراسات التحالف الشعبي الاشتراكي (11) التعليم بين مطرقة التسل ... / حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
- ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان / سيد صديق
- تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذ ... / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- المثقف العضوي و الثورة / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- الناصرية فى الثورة المضادة / عادل العمري
- العوامل المباشرة لهزيمة مصر في 1967 / عادل العمري
- المراكز التجارية، الثقافة الاستهلاكية وإعادة صياغة الفضاء ال ... / منى أباظة
- لماذا لم تسقط بعد؟ مراجعة لدروس الثورة السودانية / مزن النّيل
- عن أصول الوضع الراهن وآفاق الحراك الثوري في مصر / مجموعة النداء بالتغيير
- قرار رفع أسعار الكهرباء في مصر ( 2 ) ابحث عن الديون وشروط ال ... / إلهامي الميرغني


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - إبراهيم الحسيني - يناير وتجديد مصر ( الفصل الأول )