أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ملف - الماركسية وافق البديل الاشتراكي - عارف معروف - هل الماركسية علم ام عقيدة ؟















المزيد.....


هل الماركسية علم ام عقيدة ؟


عارف معروف

الحوار المتمدن-العدد: 1215 - 2005 / 6 / 1 - 07:16
المحور: ملف - الماركسية وافق البديل الاشتراكي
    


تكون العقيدة في الاساس معطى نهائي . وتتضمن "حقائق" جوهرية ومطلقة وازلية . وهي ترتكزالى الايمان والتسليم ، وتلتمس طريقها عبر العاطفة والحماس . وهي، كبنية او منظومة، في الغالب ثابته . ولذلك تعادي التغيير والتجديد وان لم تستطع رفضه ، تحاول جاهدة تكييفه وتطويعه قهرا وزيفا .
لكن ، العلم ، على العكس، معطى مفتوح ، غير نهائي، متغير ومتبدل ابدا . كما ان حقائقه نسبية ، ولذلك فهو غير منجز او خالد . وهو تراكمي ، تنظم اليه معطيات جديدة باستمرارفتعزز مقولات وتنسخ اخرى . ولا تنسحب هذه الاوصاف على العلم الزائف بالطبع الذي ينتمي الى الايديولوجيا او العقيدة.
و يتمتع العلم بالمرونة ازاء متغيرات الحياة . فيستطيع استيعابها عن طريق تغيير مقولاته وشطب بعضها والتأسيس لاخرى جديدة . في حين لاتتمتع العقائد بمثل هذه المرونة , ولذلك غالبا ما تقف عاجزة امام تحديات ومتغيرات الحياة . مما يلجؤها الى حلول التفاف واعاقة . منها القمع او الكذب او التأويل او تجاهل هذه المستجدات فيحرج موقفها في النهاية ويصيبها بالعجزجراء تراكم الاكاذيب والتأويلات الزائفة وعدم امكانية مواصلة التجاهل امام الحاح الواقع . وعند العجز التام تتبنى اليات حماية يكون القهربشتى اشكاله عنصرها الاساس.
و ترتبط بالعلم مصالح بشرية عامة في حين تخدم العقيدة ، غالبا ، مصالح فئات محددة طالما تعاكست مع مصالح اوسع فئات الناس ولذلك فان العقائد تفرز الكهنوت، طبقة من الحرس القديم ذات الامتيازات تكمن مصلحتها في دوام وثبات وتقديس" التعاليم" باعتبارها حقائق مطلقة ونهائية ، في حين تكمن مصالح الانسانية في تعميم واشاعة العلم . ويشجع العلم على كسر الهالات والتقديس بالقول ان كل شيء نسبي ومتغير . و تكمن مصلحته في التجديد والانفتاح . في حين تجد العقيدة مصلحتها في الدوام والثبات والانغلاق . ووسيلة العلم الاشاعة و لغته التبسيط ما وسعه الى ذلك سبيلا . ووسيلة العقيدة التعقيد والغموض . العلم عقلاني وعلماني بالضرورة . والعقائد ليست كذلك .
لكن اشاعة العقائد سهلة ويسيرة . اذ تعتمد الايمان والتسليم كما اسلفنا وتستفيد من العادة وقلق الانسان اتجاه الجديد واطمئنانه الى المألوف كما تتأسس على القلق الانساني العام المتجسم في الاسئلة الكبرى حيال الوجود والكون والمصير . وهي لاتقتضي جهدا . في حين تكون اشاعة العلم اصعب .لانه يتطلب جهدا في التلقي والاستيعاب ويقتضي البحث والتطوير ونتائجه محدودة في كل مرحلة ولاتفي بتكوين اجابة كلية شاملة عن تلك الاسئلة بحكم طبيعته.
وتعتمد العقيدة التقديس . الذي يستلزم ، بالضرورة , التحريم كوجه اخر للعمله . وحيث اقتضى الحال رفع تعليم او معرفة او شخص او هيئة الى مستوى القداسة والعصمة استلزم تحريم كل ما يثلم تلك القداسة ويشكك في تلك العصمة . اي كل نقد او رأي او اكتشاف او معرفة غير مسايرة او منسجمه مع منظومة " الحقائق " التي اعتمدتها العقيدة بالنتيجة . بل وقد يقتضي الامر ليّ عنق الحقائق الصارخة والبديهيات والمستجدات والمكتشفات وتزييفها لكي تسا يراو تطوّع !.
ولقد عرّف مؤسسو الماركسية ، نظريتهم , بكونها معرفة علمية . وثمة اشارات عديدة وتاكيدات مستمرة على هذا المبدأ . وردت على لسان ماركس وانجلس وكذلك لينين بصورة متواتره لا تقبل اللبس او التأويل بالقول انهم يقدمون او يدعون الى مرشد او اداة للعمل ، بمعنى معرفة علميه تفيد الفهم والتحليل ولا يقدمون تعاليم او دوغمات او مخططات جاهزة صالحة لكل زمان ومكان . هذا اذا اعرضنا عن حقيقة ان الديالكتيك بحد ذاته واعتماده والقول به يغنينا عن اي استدلال بهذا الخصوص . فمقولاته ومنطقه يتبنى ويؤكد كل سمات العلم من نسبية وتغير وتراكم ونفي للثبات والاطلاق والنهائية ، ان المثل الكلاسيكي الاكثر وضوحا ودلالة بالنسبة لرفض الماركسية للجمود العقائدي او تحويلها الى مجموعة تعاليم وايمانات نهائية او مخططات جاهزة او ادعاء الصحة المطلقة هو ماورد في مقدمات ماركس وانجلس للبيان الشيوعي ، الذي كتباه كبرنامج لجمعية العمال العالمية وبتكليف منها فبعد بضع سنوات من اصداره اشارا الى انه شاخ في بعض جوانبه ولم تزك الحياة بعضها الاخر ! فاذا كانت الماركسية علما ، او معرفة علمية تعّين ان ينسحب عليها ما ينسحب على العلم من سمات وخصائص وتوّجب ان تكون منظومة مفتوحة ونامية تتقبل الاضافة والاغناء ، تستوعب وتهضم الجديد ، كما توّجب ان تكون حقائقها ، مثل حقائق العلم ، نسبية وقابلة للتغيير والنسخ . وتحتم اعتبار ان المعطيات التي قدمها ماركس ليست نهائية ومؤبدة و يمكن لها ان تتعمق وتتسع كما يمكن لبعضها ان ينسخ ويخّطأ ويلغى تبعا لحالة العلوم والمعارف ومعطيات الممارسة او التجربة ، الامر الذي لم يكن ماركس او انجلس يريان فيه من بأس . بل كانا يعدانه من طبيعة المعرفة العلمية ، ولطالما اكد ماركس بانه ليس" ماركسي" بمعنى انه كان يخشى من ان تتحول المعرفة التي انتجها الى شيعة او عقيدة.
ولم تكن الماركسية نظرية في الاقتصاد او في الفلسفة او الاجتماع فقط بل كانت اضافة الى كل ذلك كشفا لحقائق اجتماعية وقوانين معادية وناقدة لاسس الهيئة الاجتماعية القائمة ففي الاقتصاد كان حجر الزاوية فيهاحقيقة كون العمل ، والعمل الزائد غير المدفوع الاجربالذات هو المصدر الوحيد لثروة المجتمع الراسمالي . وفي الفلسفة اعتمدت المادية التاريخية والديالكتيك اساسا في بناء نظرتها وفهمها للعالم نافية صفة الثبات والخلود عن اي شيء ومعلنة ان الخلود للحركة وحدها . وفي الاجتماع خلصت الى ان الصراع الطبقي هو حقيقة الحقائق والدينمو المحرك للتاريخ البشري . انها اذن نظرية نقدية وثورية في كل هذه الميادين , والتي تشمل كل واقع الحياة الاجتماعية. وهي لم تتصد فقط لتفسير العالم ، على حد تعبير مؤسسها ، كارل ماركس، وانما لتغييره ، وكاداة عملية للتغيير اعتمدت طبقة العمال الاجراء ، البروليتاريا،اداة تكمن مصلحتها النهائية في التغيير لانها خالقة الثروة والتي تشكل عملية التغيير رسالتها التاريخية ، وهي ان خسرت لن تخسر سوى عبوديتها وان ربحت ، ربحت العالم كله.
لكن هذه الطبقة لا تحقق مهمتها تلقائيا ولا تدركها عفويا انما يتحتم توعيتها بذلك ، جلب الوعي لها من الخارج ، لكي تعي ذاتها وتتحول من " طبقة بذاتها الى طبقة لذاتها " حسب التعبير الماركسي المعروف، فتصبح قوة مادية منظمة تستطيع التغيير ، الذي تنبيء به سيرورة المعطيات الحاضرة" انذاك" كضرورة او حتمية (1).
وبناء على المعطيات التي شهدها ماركس ، كانت انكلترا هي المكان الوحيد الذي يمكن دراسة الراسمالية في اكثر صورها وضوحا وبعدا عن التشوش وحيث " تبلغ المنازعات بين راس المال والعمل"(2) اوج مابلغته حينذاك ، وكانت المانيا وبقية القارة لم تتخلص من شرنقة الاستحالة باتجاه ان تترسم خطى انكلترا بعد، وكان من المتوقع ان " الشبح " الذي بدأ ظله يقض مضاجع الرأسماليين ويطرق ابواب غد الحرية والخلاص(3) ، البروليتاريا ، سينهض بمهمته تلك في اوروبا الغربية وفي انكلترا تحديدا اولا، لكن ذلك لم يحصل . ورغم ذلك فقد انتشرت شرارة الوعي الجديد في العالم . وتلقفها كل طامح الى التغيير وناشد للعدالة. وفي كل مكان من اوروبا تبنت جمعيات واحزاب العمال الدعوة الجديدة. لكن الغريب ان بروليتاريا انكلترانفسها كانت الاقل تاثرا وتبنيا لتلك الدعوة . في حين سرت مسرى النار في الهشيم في كل من المانيا وروسيا !!(4) ومذاك كان يمكن ملاحظة ان العمال كانوا يقدمون المادة ، القاعدة اما القيادة والعقل فكانت من نصيب المثقفين الذين كانوا غالبا من صفوف البرجوازيين او البرجوازيين الصغار اللذين انسلخوا عن طبقتهم وارتبطوا بمصالح الطبقة العاملة ، وسيكون هذا الامر بذرة تناقضات طريفة لاتنتهي (5)
لماذا حصلت الثورة العمالية في روسيا والمانيا وليس في انكلترا وفرنسا كما كان يتعين وفقا لمنطق الماركسية ؟ قدم لينين الاجابة : لقد انتقل مركز الحركة الثورية اليهما كما ان ثمة قانون للثورة : يتعين كسر السلسله الامبريالية في اضعف حلقاتها. اذن فقد حصلت الثورة في اقل الدول تطورا ونضجا من ناحية نمو الراسمالية ونتائجها . اي في اقل المجتمعات تأهيلا لذلك وسيؤدي هذا الامر الى اشكالية مزمنة على اكثر من صعيد .
فشلت الثورة في المانيا ونجحت في روسيا ، ولانها روسيا فقد تحولت قوة الثورة ، قوة بناء العالم الجديد الى حلف من العمال والفلاحين والجنود ، وعانقت المطرقة المنجل في شعار سيعمم كثيمة عالمية . ومن الان فصاعدا ، ستكون قوة بناء العالم الجديد هي حلف العمال والفلاحين. وفي مواجهة عالم معاد ولبناء عالم جديد وشق طريق غير معبدة، سيتوجب على الماركسية ان تقدم اجابة على كل سؤال ، ستتحول الى ايديولوجيا وربما عقيدة . ففي مواجهة الحرب والبناء وبغية حشد الجهد واستثارة العاطفة كان لابد لها من ان تتبنى لغة اكثر بساطة وان تحل في وعي الجماهير بديلا عن معتقدات وحماسات قديمة ، بل ان تقدم البديل عن بناء كامل وموغل في القدم من الافكار والصور والتفسيرات والعقائد ولم يكن كل ما مطلوب جاهزا بين يديها كما لم يكن بعض مالديها صالحا لما هو مطلوب لكن السلطة اصبحت في اليد وتعين ادارتها بنجاح ولم تكن ثمة تجربة او اجابات مسبقة على اسئلة الواقع الذي بدأ يملي اشتراطاته فقصت اجنحة الخيال والرغبة ، وانتهت الثورة الدائمة اولا ثم عكف على الواقع الجديد ، لقد سجنت الماركسية نفسها واثقلت مسيرها بالايديولوجيا! وزاد الامر سوءا ان الكهنوت قد انبثق ونمى وترعرع ، شانه في كل مرة بعد ان اصبح للمسيرة الجديدة امبراطوريتها ودينها الذي انطوى على قديسيها وشهداءها . وحيث كان الامر كذلك كان هناك التكفير والفرقة الناجية ايضا! ، كل الايديولوجيات عرفت التكفير والمجدفين والهراطقة ، فهم كل اعدائنا ومن يختلفون معنا ، فكل الاديان ، كما كان يقول ماركس" من صنع الانسان ، اما ديننافهو وحده من خلق الله "، ولذلك فنحن فقط الفرقة الناجية وهكذا يصبح اي راي او نقد او اجتهاد كفر وتجديف يقتضي التراجع والتوبة او الموت والفضيحة ... وهكذا فقد كان ثمة ماركسية نقية وماركسية منحرفة ، اشتراكية حقيقية واخرى خائنة . وتكفل الخوف من الاختلاف والاتهام جنبا الى جنب مع الحضوة والامتيازات بنشر صقيع الجمود والاتبّاع في كل مفاصل الحياة وتلافيف الفكر.
ثمة اشكالية يبرزها التاريخ الانساني ولابد من الوقوف عندها : ما ان تحولت المسيحية الى دولة او دين الدولة حتى انتهت مسيحية الحواريين والرسل والفقراء والحالمين وكفت عن ان تكون نظرة متفتحة تستوعب شؤون وشجون الحياة لتتحول الى عقيدة، كنيسة وكهنوت تثبّت مصالح النخب الحاكمة وتقف في وجه التغيير والتجديد والعلم، تكفّر التجديد وتحّرم الاسئلة وتؤطر العقل البشري ضمن رؤى " صحيحة " يجب ان لايشك بها او يجدف بحقها ، وما ان استوى الاسلام دولة وامبراطورية حتى اخلى اسلام عمار بن ياسر وسلمان وابو ذر ، اسلام الاسئلة والدهشة والفتوة والمعرفة والعدالة المكان لاسلام معاوية ثم الامويين والعباسيين وطبقة رجال الدين ومؤسسة الخلافة السياسية الدينية ، اسلام الحقائق النهائية والاجابات التامة والكاملة . وانتهت شيوعية لينين وتروتسكي والسوفيتات ، الفتية ، الوثابة ، الطالعة مع الجديد والنامي تلك التي حفزت ليس العمال فحسب بل وكل الحالمين من ذوي الحس الانساني المرهف من فنانين وعلماء ومبدعين الى شيوعية برجنيف ، المختلفة تماما، المثقلة، والمتحشرجة والتي لا يضحك الانسان فيها الاّ بعد ان يطلع على المراجع الرسمية ورأي اللجنه المركزية، ونرى المصائر ذاتها في كوريا وكوبا والصين !
لقد غرب ماركس الحي لصالح تماثيل وايقونات ماركسية في المتاحف والساحات تقتضي من زائريها التمتمة بايات العرفان بوجل وخشية ، فقد كانت ثورة اما بعد اليوم فليس ثمة ثورة ، وطويت صفحات " رأس المال" و" انتي دوهرنغ" و" ديالكتيك الطبيعة" و" الايديولوجية الالمانية "ليستعاض عنها باقتباسات وجمل وترانيم لاتنتهي تصلح لكل زمان وتؤطر كل حالة وتفسر كل شيء، لقد انتهينا الى عقيدة راسخة ، ثابته ، شاملة ونهائية ، الى دين جديد يعد بجنة خلد مستحيلة ولكن حتمية سنصلها على صراط غامض . الى كتب وجمل مقدسة عن تحقيب حتمي للتاريخ نعيش اخر مراحله حيث تصطرع البروليتاريا مع البرجوازية ونهاية سعيد ة لهذا الصراع مكتوبة منذ الازل لكنها مؤجلة الى ماشاء الله . لكن شجرة الحياة الخضراء والنامية ابدا والمكتسحة لكل معوق والمفتته بصبر الجذور والاغصان واصرارها لكل حجر يعترض السبيل بدأت تحطم القشور والجدران السميكة وتفكك الصيغ الجاهزة والنهائية وتلقي بعشرات الاسئلة والتحديات في وجه التماثيل و في كل اتجاه وصعدت شروخ الزلزال ببطء وتوئدة ، ولكن بصبر واصرار لتحيل صرحا تبدى منيعا وازليا الى اثر بعد عين ، ورغم قسوتها واثرها النفسي الذي لاينكر فقد اعادتنا تلك الوقائع الى كلمات ماركس الغضة وافكاره الوثابة ، اعادتنا الى دائرة الاسئلة وروح المعرفة العلمية المتغيرة ابدا لنعيد التاسيس على اساس المعرفة لا الايديولوجيا. والاداة لا التعاليم والعلم لا العقيده .
هل تعني اشارتنا الى هذا الخلل او ذاك اننا نشكك بالماركسية؟ هل فقدت الماركسية وهجها ؟ ، هل لفظت انفاسها بعد ان منيت بفشل هنا ونكوص هناك، وبعد ان لم تعد تنبض بكل مظاهر العافية والصحة؟
ليس من الصحيح ولا من الضروري ان تكون اية نظرية او مقولة علمية ، صحيحة بصورة مطلقة ونهائية . كما انها لا ولن تكون خالدة ودهرية ‘ ذلك انها علم ، والعلم كما قدمنا نسبي وتراكمي ومتغير على الدوام ، وافضل المقولات والنظريات تلك التي تسهم في خدمة وتطوير المعرفة والحياة البشرية والتي يمكن ان يدخل عدد من مقولاتها واستنتاجاتها في صرح العلم البشري وتصبح لبنة ضرورية في بناءه وقاعدة او ركيزة مهمة من ركائزه ، ليس من شأن الماركسية ان تقبل كلها وتزكي الحياة كل تفاصيلها ، فذلك لا ينسجم مع منطق العلم وحسبها ان مقولاتها الاساسية دخلت في صميم المنهج العلمي بالنسبة للاقتصاد والاجتماع والفلسفة واصبحت بعض نتائجها من المسلمات بالنسبة للنظرة العصرية للعالم والحياة ، ان مقولات القيمة الزائدة والصراع الطبقي وقوانين الديالكتيك والكثير من مقولات المادية التاريخية اصبحت جزءا من المعرفة البشرية الحية وتجدها حاضرة في ذهن الليبرالي ، غالبا دون وعي وكطريقة للفهم ، مثلما هي حاضرة في ذهن الماركسي . وحتى الا ن لم يقدم بديل يقربها قوة وقدرة في الفهم والتحليل والتفسير خصوصا في مجالاتها الرئيسية ، التاريخ ، المجتمع، الفكر ولكن ينبغي للماركسية ان تبقى منفتحة على الحياة وان تتعامل مع المعطيات الجديدة وينبغي لها ان لاتقف عند مقولات او " حقائق " نهائية وعليها مراجعة " حقائقها" باستمرا ر، وان لا تتورع في ان تصليها في كل يوم نارا حامية ، بحسب تعبير نيتشه ، لكي تفصل بين الذهب وبين الخبث بين ماهو علم ومعرفة حقا وما هو دوغما وايديولوجيا وزيف ، ينبغي لها، مثلا، ان تراجع دون وجل مقولة البروليتاريا، كينونة و سيادة وثورة، في ضوء حقائق العصر وتبحث في واقع " العمل " المعاصر وتركيبته ونسبة العلم فيه او اليه في تكوين القيمة (6)، بل يمكن ان يكون عليها اعادة تعريف مقولات، البرولتير، العامل والراسمالي والدولة ودورها والحزب ومفهومه ، الديمقراطية والمجتمع المدني ، الرأسمالية المعاصرة ، وبديلها الاشتراكي ... الخ فهي لا يمكن ان تتجمد عند معطيات تعامل معها مؤسسو الماركسية قبل اكثر من قرن ، وعلى الماركسيين ان لا يغضوا الطرف عن ان ماركس ، الذي كتب في احدى مقدمات راس المال ، متداركا امر حقيقة نامية في وقته ، " ان القوة البخارية لم تكن مستعملة بهذه السعة في المعامل "!، عليهم ان يدركوا ان هذا العقل الجبار لم ير الكهرباءوقوتها الهائلة ولم يعرف القوة الخرافية التي انتجها زواج العلم والتكنولوجياولم يشهد الاعاجيب التي ابدعتها الكيمياءولا الثروات الهائلة التي تم وضع اليد عليها بفعل كشوف الجيولوجيا وقراءة الارض سطحا واعماق ولا الطائرات وسفن الفضاء بل انه لم ير السيارة ولا التلفزيون او الراديو، كما ان كاتب " انتتي دوهرنغ" لم يعرف شيئا عن الانشطار او الاندماج النووي ولاالكومبيوتروقدرته المعلوماتية الهائلة ولاالاتصالات المعاصرة ا والانترنيت ولم يكن في تصورهم او تصور لينين انجازات البيولوجيا التي تجاوزت كل تصور، من زراعة الاعضاء حتى التدخل في تركيب وهندسة الخلية الى قراءة الجينوم البشري وانتهاءا بالاستنساخ وبحوث انتاج الخلايا الجذعية واطالة عمر الانسان الجارية على قدم وساق والاهم من كل ذلك انهم لم يشهدوا ما آلت اليه التجارب التي خيضت باسم الماركسية والاشتراكية!، اننا نعيش في عالم غدا مختلف ، مكتض بمعطيات مختلفة ، تفتح الباب واسعا باتجاه افاق رحبة للمعرفة والتطوير والاغناء ، نعيش في حقيقة الامر في بيئة او عالم اكثر من 95% منه من صنع القرن الاخير الذي لم يعشه ماركس (7)! ولطالما عاب ماركس وسخر من امكانية ان " يمسك الميت بالحي"!
عليه ولمن ينظر للماركسية كعقيدة نهائية وحقائق ازلية ، نقول ان العقائد كانت وتكون ابدا عرضة لسهام العلم القاتلة ورياح التغيير والتجديد التي لاتصمد امامها وانها ، بما هي معطيات نهائية وقوالب ابدية لا بد وان تضيق بحقائق الحياة الجديدة وروائعها التي لاتنتهي ، ومثلما قيل عن حق فان شجرة الحياة خضراء ابدا في حين ان النظرية رمادية اللون لقد افل منذ زمن بعيد عصر العقائد وهي تقاتل بازاء العلم والمعرفة عند خنادقها الاخيرة!(8)
اما من ينظرالى الامر من منظار عاطفي ولا يستطيع ان يتخلى عن ذكرى حبيبة او فهم قديم للعالم وتصور مبسط لمعطياته ، و يحب ان يكتفي بمألوفه الغارب خوفا من مواجهة الجديد ، فان نشيد الحياة الشامل ماض دون توقف عنده او مبالاة به ولسوف يخسر مواقعه ويتآكل حتى موضع قدميه وهو يرفض التصديق او المبادرة الى محاولة الاقتراب من الواقع وتحريه مفضلا الفرار الى ماض عزيزدون ان يدرك ان الساقط لن يعود. وحسب الماركسية انها ارست اسسا ووضعت ركائز وجائت بطرائق يمكن على اساسها تحقيق فتوح لا تنتهي والانطلاق الى افاق لا تحد!(9)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تنبثق هنا، مثلا، احدى الاشكاليات العصّية على القبول ، من يتعين عليه جلب الوعي للطبقة العاملة؟ولماذا يكون هو الاقدر على وعي ظروف لا يعيشها لطبقة لاينتمي اليها ؟ لماذا لاتنتج هذه الطبقة وعيها الذاتي باعتبار ان الوعي انعكاس للواقع الموضوعي ولماذا يتعين هنااغفال هذا " القانون " لصالح آخر يقول بان الوعي لا يتطابق بالضرورة مع الواقع ؟ وكيف نوفق بين ذلك وبين القول بان الكينونة تحدد الماهية؟ هل هي تخريجات مفتعلة او مرتبكة لاتملك حقا صيغة القوانين الموضوعية ؟ هل ان القول بان الوعي الطبقي يأتي للبروليتاريا من خارجها هو اطلاق وتعميم لتجربة ماركس وانجلز الشخصية وهل يجوز عد ذلك من العلم ام انه نوع من مركزية الذات ؟ ثم اذا كان الوعي ياتي للبروليتاريا من خارجها فهل سيتم ذلك لمرة واحدة وبعد ذلك يتجذر فيها وتنتج وعيها الخاص ام انه يتعين عليها استمداد الوعي بصفة مستمرة من الخارج ؟ واذا كان الامر كذلك فكيف ستبني وتقود العالم الجديد وكيف ستستوعب وتنتج المعارف النامية ابدا ؟، هل ستكون خاضعة ابدا لسلطة المثقفين الفعلية ، واللذين سيتسمون دائما قادة لها يتكلمون باسمها ويعبرون عن وعي"ها"؟.. الخ كلها اسئلة عالقة طالما تم تجاهلها لصالح القبول بالماركسية صفقة واحدة وتجنب التساؤل والشك والتروي والتعمق خصوصا ابان عصر الحماسة حيث يطغي ضوء النجاح الباهر على الابصارفيغشاها، ان التجربة التاريخية قبل ماركس وخلال حياته ومما لاحضه هو شخصيا وكذلك لينين اشارت الى ان وعي هذه الطبقة الذاتي يكاد لا يتجاوز الوعي النقابي و تكمن هنا ، كما ازعم، احد اهم الاشكالات بالنسبة للماركسية كعلم فمنذ ان قدمت نفسها على انها النظرية السياسية للطبقة العاملة كفت عن ان تكون علما خالصا وهي لم تنف ذلك او تستنكف منه بل اعلنت انها نظرية منحازة وزادت ان ذلك لا يتوقف عليها فكل نظرية ومعرفة اجتماعية تتناول ميادين الاجتماع الانساني من فلسفة واجتماع واقتصاد وسياسة وتاريخ ستكون بالضرورة منحازة انسجاما مع حقيقة الصراع الطبقي. لكن ذلك حشرها في اشكال عانت ومازالت تعاني من عقابيله .
( 2) رأس المال
(3) البيان الشيوعي
(4) كل ذلك غني باسئلة لابد من التصدي لبحثها بعناية وعمق بغية استخلاص الفائدة.
( 5) ثمة طرائف جديرة بالتامل: ففي اكثر البلدان الرأسمالية المتطورة ، يكون الحزب الماركسي اقل الاحزاب تأثيرا في صفوف الطبقة العاملة ، عدا فرنسا وايطاليا لاسباب لسنا بصددها الان ، وفي معظم بلدان العالم الثالث ينشيء المثقفون احزاب الطبقة العاملة ويقودنها نيابة عن طبقة ضئيلة النسبة او التأثير او غير موجودة واحيانا تبنى انقلابيون في افريقيااو الشرق الاوسط الماركسية فشكلوا احزاب" الطبقة العاملة" بعد ان وصلوا الى السلطة وحكموا باسمها ثم الغوا كل ذلك واتجهو الى زعيمة " الامبريالية بعد ان "زعلوا" على الاشتراكية.
(6) لنلاحظ مثلا ،ان فصولا من رأس المال ، تلك التي تعنى بحالة الطبقة العاملة في انكلترا وفي القارة الاوروبية والتي تصف معاناتها القاسية وظروفها غير الانسانية التي كانت تعيشها قبل قرن ونصف من الزمان لم تعد تملك الا قيمة تاريخية . ولا دلالة مفيدة او عملية لها في الوقت الحاضركما انها غريبة عن واقع الطبقة العاملة اليوم في البلدان الرأسمالية وكذلك كتاب " حالة الطبقة العاملة في انكلترا" او غيره . كما ان التركيب العضوي للعمل ونسبة الثابت الى المتغيراو الميت الى الحي ، العضلي الى الفكري ، تغيرت كثيرا في ضوء الانجازات الهائلة للعلم والتكنولوجيا.
7) اذا كانت الماركسية تؤكد نسبية المعرفة وتؤكد انها ، اي المعرفة ، محدده باطار المرحله التاريخية وحالة المعارف المتاحة خلالها ، و تؤكد محدودية معرفة الفرد ، اي فرد بالضرورة مهما كان عبقريا، وكون اية حلول او معارف لاتولد الا بعد مولد المشكلة التي تنبثق حلولها معها ، على حد تعبير ماركس، ، فلماذا نتجاهل كل ذلك ونطلب من ماركس ان يعرف كل شيء اوان يكون قد وضع الحلول لكل مشكله وان تكون في جعبته علوم الاولين والاخرين. الم يكن من البشر؟ الا ينسحب عليه ما ينسحب عليهم من تحدد المعارف في اطار المرحلة التاريخية والمعطيات الحاضرة. ؟هل يدفعنا الى ذلك تكوين سيكولوجي او ثقافي لايستطيع فكاكا عن المطلق ، فيستبدل ربا برب؟.
(8) لما انتهت " الماركسية الرسمية" الى ان تصبح عقيدة او دين او ارادت ذلك فشلت في الاقناع اذ عاد الناس الى العقائد الخالصة ذات المنظومات الكلية المطلقة والتفسيرات العامة المألوفة والوعود والامال التي تنطوي على عزاء مرض بدلا من القبول بصيغة مشوشة لا هي بالعلم ولا هي بالدين.
(9)اننا نلاحظ في كل ما تقدم جدلية الوعي والواقع ، الذات والموضوع ، النظرية والممارسة .



#عارف_معروف (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- صور صدام ... اية لعبة هذه المرة؟!
- في البديهيات..... تجربة امريكا الديمقراطية في العراق!
- التكفير والانتحار.. رأي في اسس المشكلة
- مذبحة الاعظمية...اشهد اني رأيتهم يعدونهم للذبح!
- هل -الزرقاوي- اردني ام عارقي؟
- بمناسبة الاعلان عن قرب بدء محاكمة اقطاب النظام: هل اعتقل صدا ...
- عواء بشري
- ازمنة الحب 3-زمن سعدي الحلي واحمد عدوية
- ازمنة الحب 2- زمن فيروز
- ازمنة الحب 1- زمن عبد الحليم حافظ
- كيف حل السيد ميثم الجنابي ازمة اليسار العراقي المعاصر؟
- الاخوة حكام العربية السعودية ..رسالة تضامن
- -قصة الشاعر -طومسون فيتزجيرالد
- النظام العربي والحالة العراقية...حقيقة الصراع 1و2و3
- وعي الذات والموضوع: ملامح من خارطة الكفاح العربي الثوري
- التيار الصدري وجيش المهدي...قراءة اخرى


المزيد.....




- نتنياهو لعائلات رهائن: وحده الضغط العسكري سيُعيدهم.. وسندخل ...
- مصر.. الحكومة تعتمد أضخم مشروع موازنة للسنة المالية المقبلة. ...
- تأكيد جزائري.. قرار مجلس الأمن بوقف إسرائيل للنار بغزة ملزم ...
- شاهد: ميقاتي يخلط بين نظيرته الإيطالية ومساعدة لها.. نزلت من ...
- روسيا تعثر على أدلة تورّط -قوميين أوكرانيين- في هجوم موسكو و ...
- روسيا: منفذو هجوم موسكو كانت لهم -صلات مع القوميين الأوكراني ...
- ترحيب روسي بعرض مستشار ألمانيا الأسبق لحل تفاوضي في أوكرانيا ...
- نيبينزيا ينتقد عسكرة شبه الجزيرة الكورية بمشاركة مباشرة من و ...
- لليوم السادس .. الناس يتوافدون إلى كروكوس للصلاة على أرواح ض ...
- الجيش الاسرائيلي يتخذ من شابين فلسطينيين -دروعا بشرية- قرب إ ...


المزيد.....

- الدين/الماركسية نحو منظور جديد للعلاقة من اجل مجتمع بلا إرها ... / محمد الحنفي
- اليسار بين الأنقاض والإنقاذ - قراءة نقدية من أجل تجديد اليسا ... / محمد علي مقلد
- الدين/الماركسية من اجل منظور جديد للعلاقة نحو أفق بلا إرهاب / محمد الحنفي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - ملف - الماركسية وافق البديل الاشتراكي - عارف معروف - هل الماركسية علم ام عقيدة ؟