أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - فالح عبد الجبار - عراق غامض المآلات مُقلق, لكن البعث... لن يعود















المزيد.....

عراق غامض المآلات مُقلق, لكن البعث... لن يعود


فالح عبد الجبار

الحوار المتمدن-العدد: 1050 - 2004 / 12 / 17 - 09:57
المحور: اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
    


في الماضي, كنا نرى الى العراق, كحال العلماء في مخبر نووي, من وراء حاجز. نلامس الأشياء (مثلهم) بأذرع صناعية, قوامها رسائل وصور, أفلام , جذاذات, كتب محرمة, واحصاءات سرية, خطب مملة, وقصص لا تنتهي.
ثمة الآن فرصة لعبور العالم الافتراضي, الى عالم الواقع.
أذكر ان صديقي الشاعر الستيني, مؤيد الراوي, أصدر ديوانه الأول بعنوان "احتمالات الوضوح", ولعله وجدها غامضة, فكف عن القريض. منذ عقدين ونحن, اعني جيلي من كتاب المنافي, نكتب عراقياتنا عن بُعد. والسؤال الواضح إن كنا سنجد احتمالات الغموض, كما رأى الراوي, أعتى.
بعد الخروج من أسر عواطف لمّ الشمل, ينبغي الخروج من هوى العائد الى برودة المراقب. لعل بعضنا سُعد بأن يلتقي بالبدوي الكوني, المترحل أبداً, الذي نما فيه بُعد سنوات من التغيير المتصل للاقليم بلا لقاءات. في واحات العالم هذه تبدو الغربة, للوهلة الأولى, لعنة, لكن النعم فيها أوفر. ذلك ان الاتصال بثقافات, ورؤى شتى, يعلمنا اول ما يعلم فن الاختلاف, رؤيته وقبوله. بل ينمي فينا, على غير دراية, القدرة على الانفصال العاطفي, والولوج الى صومعة البحث (هل أقول: العلمي؟ لا أدري).
الموضوعية الخالصة محض خيال, محال منطقي, فحين يعاني المرء وطنه, ناسه, أو غير وطنه وناسه, يترك في ما يكتب شيئاً من نفسه. ثمة دوماً هذه التفالة مما سماه المفكرون: الأنانة. بوسع المرء ان يعاين موضوعه وان يعمد, بعد فاصل راحة, الى أن يعاين ذاته وهي تعاني الموضوع.
بدا المشهد العراقي, بالأحرى البغدادي, سديماً من فوضى, ما سماه الاغريق: العماء (على عهدة الاسلاف الذين ترجموا كلمة Chaos), أي كتلة وخلائط الأشياء والعناصر المتنافرة, المتداخلة, التي تربأ بأي نظام للأشياء معقول. اخترع الاغريق اللوغوس (العقل) للفرز والترتيب ليس إلا. اما العلوم الحديثة فقد اخترعت مناهج للقياس والمقارنة.
بعد الاحتلال انفتح صندوق الدنيا العراقي عن آخره. وبوسع الكاتب ان يختبر كل الفرضيات التي دارت في رأسه. ماذا لو كانت مغلوطة؟ للباحث الشاب, القادم للمرة الأولى, هذه نعمة, اما للكهل فهي نقمة. ذلك انه يواجه حكماً قاسياً: لقد ضيّعت حياتك سدى.
الطريق الموصل من مطار بغداد الدولي الى المركز, بدا أقرب الى سطح القمر: حفر وصمت لا مأهول. بعد أميال برزت على جانبي الطريق أشجار نخيل, انتصبت جذوعها بلا تيجان, بلا عذوق, أشبه بحراس بُترت رؤوسهم.
بدت بغداد, مثل ممثلة يابانية, بقناع سميك من الغبار والصمت. الاسفلت الاسود كان بني اللون وسعف النخيل, الأخضر في العادة, بني اللون, وفيلات الموسرين, المكسوّة بالمرمر, بنية اللون. لكأن المدينة استحمت بالتراب. أتذكر غبار بغداد, مسحوقاً دقيقاً لا يكاد يُلحظ. مرة عبّر الفنانون البولنديون الذين زاروا العاصمة في أربعينات القرن الغائب, عن عجبهم إزاء قدرة الفنان العراقي على أن يلتقط تدرجات الضوء في مدينة بها هذا القدر من الغبار. اليوم هذا الغبار سميك, تراب داكن.
دلفنا شارع الرشيد, شريان بغداد وزهوها منذ مطلع القرن الفائت. ها هنا تربض المصارف الكبرى, ومكاتب الأعمال, ودور السينما, ومقاهي المثقفين, وبوتيكات الطبقة الوسطى, بل أقدم مساجد بغداد. ولهذا الشارع ارتباط مكين بالتاريخ السياسي. ففي نهايته الأولى (أو بدايته؟) ثمة وزارة الدفاع, هدف العسكر في كل الانقلابات ومرتع سلطانهم, وفي نهايته الثانية, ينفتح على شارع أبي نواس, حيث جل حانات المدينة. هنا نزل ابناء وبنات جيلي في تظاهرات شتى, يميناً وشمالاً. وفي هذه المقاهي قرأت دواوين شعر أولى وقصصاً وروايات. هنا سمع بعضنا للمرة الأولى, بجريمة وعقاب دوستويفسكي, وموبي ديك هيرمان ميلفل, وقلعة كافكا أو مسخه. هنا ايضاً تفتح الشباب على حكمة الجيل السابق وتصنعه, وهو يدردش أو يساجل في أعمال ماركس أو هيغل أو ارسطو. هذا الشارع زاهي الألوان الأنيق المزدحم, بدا صامتاً مثل كهل أثرم (فقد أسنانه).
اطر النوافذ الخشبية تهرأت, تقشر صباغها, وقد انتحرت. أعمدة المباني تآكلت. شرفات الحديد المشبّك صدئة. الأبواب في الطوابق الأولى مخلعة. المباني القديمة هي هي ذاتها. كل المشهد هو هو نفسه. الفرق انه يتفسخ, مثل صورة قديمة حلّت ألوانها.
تذكرت رسالة من صديق: حكامنا البدو يبغضون بغداد, يمقتون معمارها وروحها. واضافت: تركوا شارع الرشيد يحتضر. ها أنذا إزاء الجثة, ولا من مشيعين! تحولت الحواري والأزقة المنفتحة على شارع الرشيد الى مباءة للجريمة. اختفت مظاهر اللباس الحديث. حيثما تتجول ترى العمامة والعقال, والخوذة, بدل الرؤوس الحاسرة.
العمامة في كل مكان. في روح المدينة كما في جسدها, معلنة عن حضور سلطة اجتماعية تطالب بالمكوث. اما العقال, رمز عودة القبيلة, فلا يقل توقاً عن التنافس على سلطة اجتماعية بادت ثم سادت. بدت بغداد مثل قرية كبيرة تتظاهر بالورع.
في زمن الحصار, أفلست ايديولوجيا البعث, مثلما تهاوت الناصرية بعد هزيمة 1967. وتكاثرت الجوامع. ثمة غابة من المآذن تنقّط مشهد بغداد من علٍ. قيل للعراقيين الجياع ان ما حل بهم هو غضب الخالق. الواعظ التقليدي
يغتبط بحلول الكوارث, فهي وسيلته للانتقام من غربة الجمهور وعزوفه عن المنابر.
بعد الاحتلال, لم تعد الجوامع والمساجد والتكايا الصوفية تحت سيطرة وزارة الأوقاف. تسابق المتسابقون لاحتلال بيوت الله, واتخاذها مواقع نفوذ. القبائل العراقية تبدو, هي الأخرى, في حومة السباق. حضرتُ لا أقل من أربعة مؤتمرات عقدت في فنادق النجوم الخمسة. كان البدوي القادم الى بغداد, في السبعينات, يسرع الى ان يدس نفسه في سروال وسترة متلبساً على عجل رداء مدينة, ليدرأ عنه غمزات ولمزات البغداديين الحضر. واليوم صار الحضري يندس في دشداشة وعباءة وعقال ليكسب وقاراً ومكانة. خشيتي القديمة من ان العراق يفقد بالتدريج جوهره المدني, وروحه الدنيوية (ولا أقول العلمانية) بدت الآن موجعة. على السطح, هكذا هو الحال. بيد ان صخب العمامة والعقال ليس كل شيء.
فمثلاً, برز نحو اربع عشرة رابطة للعشائر خلال اسابيع, احداها تحمل الاسم التالي: "الرابطة الديموقراطية لعشائر العراق", ألا يستهويك هذا الاسم؟ ديموقراقي, عراق, رابطة... هذه مقولات حداثية.
الواقع ان احدى الروابط العشائرية نُظمت في ما يشبه البرلمان. العضوية مفتوحة, وزعامة الرابطة تأتي بالانتخاب, والبرنامج سياسي من ألفه الى يائه. بل ان الانتماء يتجاوز أفراد القبائل الى اصدقائهم, وزملاء دراستهم, بل جيرانهم. ومع ان القبيلة ما تزال وحدة اجتماعية قوية في الأرياف, والقرى, والبلدات الطرفية, فإنها ليست قوية في المدن الكبرى. لم يبق من العشائر سوى حمولاتها وبيوتات قائدة, وهي تقتصر الى الوحدة الباطنية والتجانس. بعضها ما يزال قوياً, وبعضها ليس سوى اسم مندرس. وهي تتحول في المدن الى حركات ومنظمات اجتماعية, تجمع ايديولوجيا القرابة (التقليد) بالعمل الحزبي الوطني (الحديث).
وفرة اللباس التقليدي ببغداد واقعة تنبئ بتحول سوسيولوجي: تحت ضغط الدولة الشمولية تراجعت الطبقات الوسطى (موقتاً؟). وتحت وقع الفاقة التي انتجها مزيج الحصار والنهب الرسمي, انهارت فئات الطبقة الوسطى المعتمدة على الراتب إلى مرتبة الهامشيين وجياع مدن الصفيح, تلك الكتلة السديمية, التي تشهر اسمالها احتجاجاً. إنها مرتع لحركات الاحتجاج, وموئل الجريمة المنظمة, وحقل البحث عن دفء الجوامع وحسائها الخيري. انضاف إلى هذا الوسط نحو ربع مليون سجين, أطلق سراحهم قبيل الحرب, بينهم نحو 30 ألف محكوم بالإعدام.
شارع أبي نواس بدا مهجوراً. مقاهي الأسماك النهرية اختفت تقريباً, لم يبقَ سوى أربعة أو خمسة دكاكين على ضفة دجلة. النهر فقد بريقه الفضي الذي عرفته. انه الآن ضارب إلى الخضرة. ضفة النهر مقفَلة على البغداديين بستار حديدي, محفوف بنباتات شوكية, طويلة الساق, لحماية القصور الرسمية. صياد سمك بغدادي عجوز أشار إلى ثغرة في السياج الحديدي باسماً: "استرجعنا شطنا!". لم أفهم. يوم سقوط التمثال, قطع السمّاك السياج الجديد المشبك, وسبح في دجلة, للمرة الأولى منذ عقدين.
في الأحياء الفارهة يطالعك الثراء الصارخ. فيلات قبيحة مثقلة بالمرمر, والشرفات الصخرية أو الأعمدية الرومانية والاغريقية في بيئة ابتدعت الآجر (الطابوق), والأقواس والقباب. أحياء الأثرياء الجدد بدت مشغولة بالإعلان عن ثرائها الفاقع, لا بجماليات المعمار المشرقي. الابواب موصدة والساكنون ينتظرون في هلع ما سيأتي بعد قيامة الغزو. في المقابل يجد المرء في أحياء مدينة العوز, مدينة الثورة (الصدر حالياً), وضعاً مقلوباً. ها هنا مليون ونيف من المهاجرين الريفيين, أو فقراء بغداد.
الجيل الشاب هنا أشبه باللوح النظيف, يُكتب فيه ما يشاء. لا غرابة أن يبدأ اليافع نهاره في الصباه ورعاً, وفي المساء لصاً, وفي الغداة مناضلاً, وبعدها لا مبالياً, وعقبها متشرداً. بوسع المرء أن يكون أي شيء, ولا شيء.
عقب الغزو, سقطت اسطورة الدولة الشمولية, وانفلت المجتمع المتنوع, المتشظي, من عقاله. كل الأحزاب والتيارات التي ظهرت متعاقبة في الزمان (من الملكيين والقوميين إلى القاسميين والعروبيين) باتت مصطفّة في المكان في جوار بعضها البعض, كما في متحف للتاريخ الطبيعي.
وبسقوط احتكار الإعلام تسابق الكل في جنون لا مثيل له إلى اصدار الصحف (نحو 270 صحيفة). كثرة في المطبوعات (الرثة في أغلبها) توازيها كثرة في الأحزاب والحركات, وقلة نفوذ الايديولوجيات. يبدو أن هناك انتقالاً من النشاط السياسي الايديولوجي إلى النشاط السياسي القائم على الهويات المحلية, اثنية, جهوية, قبلية, أم طائفية, مشفوعة بحضور قوي للنزعة الوطنية العراقية.
المآلات كلها محفوفة بالغموض: مآل الاحتلال, مآل اعادة هيكلة النظام السياسي, مآل العنف السياسي. غير ان ثمة عنصراً وحيداً واضح الجلاء: لا عودة لحزب البعث.
* أعلاه مقتطفات من مقدمة وُضعت صيف 2003 لكتاب سوف يصدر قريباً.

2004/10/24



#فالح_عبد_الجبار (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- التوتاليتارية، الكلمة الغائبة الحاضرة
- من يقف وراء الهجمات على الأمريكيين في العراق؟
- القتال، التمرد او التلاشي
- بين الحزب والقبائل والعشائر التوازن الهش للنظام العراقي
- مزيفو النقود
- إيضاح لا بد منه في بيان الملاكمة المأجورة


المزيد.....




- الحوثيون يعلنون استهداف سفينة ومدمرة أمريكيتين وسفينة إسرائي ...
- وزير الخارجية الأيرلندي يصل الأردن ويؤكد أن -الاعتراف بفلسطي ...
- سحب الغبار الحمراء التي غطت اليونان تنقشع تدريجيًا
- نواب كويتيون يعربون عن استيائهم من تأخر بلادهم عن فرص تنموية ...
- سانشيز يدرس تقديم استقالته على إثر اتهام زوجته باستغلال النف ...
- خبير بريطاني: الغرب قلق من تردي وضع الجيش الأوكراني تحت قياد ...
- إعلام عبري: مجلس الحرب الإسرائيلي سيبحث بشكل فوري موعد الدخو ...
- حماس: إسرائيل لم تحرر من عاد من أسراها بالقوة وإنما بالمفاوض ...
- بايدن يوعز بتخصيص 145 مليون دولار من المساعدات لأوكرانيا عبر ...
- فرنسا.. باريس تعلن منطقة حظر جوي لحماية حفل افتتاح دورة الأل ...


المزيد.....

- الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات / صباح كنجي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل ... / الحزب الشيوعي العراقي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو ... / الحزب الشيوعي العراقي
- المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت ... / ثامر عباس
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11 / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3 / كاظم حبيب


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - فالح عبد الجبار - عراق غامض المآلات مُقلق, لكن البعث... لن يعود